الأزمة السورية كانت منطلقاً لإشعال فتيل حربٍ باردة جديدة، انتقلت من المستوى الإقليمي للمستوى الدولي، كانت إرهاصاتها واضحةً ثم تحولت إلى حقيقة واقعية، يشهدها العالم بأسره.
بعيداً عن السياق العام الذي أوصل لهذه النهاية، فإن الواقع اليوم في تلك الأزمة مع كل تفاصيله الكبرى والصغرى، يكاد يتمحور حول المواقع على الأرض، ففي حين يعيد النظام السوري بدعم روسي كامل ودعم إيراني ميليشياوي وباستخدام كل القوات العسكرية براً وبحراً وجواً، وباستخدام الأسلحة المحظورة دولياً، كالسلاح الكيمياوي، الذي ردت عليه إدارة ترمب، قبل عام، ثم ردت ثانيةً، ومعها فرنسا وبريطانيا قبل شهرٍ، ومع كل التداخلات والتعقيدات والتشابكات في الملف السوري، فإن أمراً مهماً وكبيراً يبقى محل نقاشٍ وإثارةٍ، وهو هل يمكن السماح بالتمدد الإيراني ليكون مرتاحاً في التحرك من طهران إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط؟
قدمت السعودية مشروعاً واضحاً في عهد الإدارة الأميركية السابقة حول استعدادها التام للمشاركة في تحالف عسكري دولي يحمي وحدة سوريا من جهة ويقطع التمدد الإيراني في الدول العربية، العراق وسوريا ولبنان وحركة «حماس»، من جهةٍ أخرى، وهو عرض قائمٌ إلى اليوم، ومع كل الإشارات المتناقضة من واشنطن بحال وضع قواتها في شرق سوريا، ومع التناقضات المعلنة تجاه طموحات تركيا الاستعمارية الجديدة، وكل التردد التي تبديه إدارة ترامب، إلا أن قطع الحبل السري بين إيران وطموحاتها التوسعية أصبح واجباً عملياً على كل دول العالم.
معروف أن مصر لديها تحفظات خاصة تجاه سوريا، ومستقبل النظام السياسي هناك، ومع كل ما أثير من أزمة تجاه تدخل عسكري مصري هناك فإن الأفضل أن يتم التفكير حول دور تقدمه مصر هناك بعيداً عن أي حساباتٍ تاريخية.
لم يكن للمستقبل الزاهي والواعد في المنطقة أن يكون أبهى وأفضل لولا جهود الدول والقيادات الواعية بما يتوجب أن يكون، ومن حق الشعوب أن تزهى وتتباهى بفعل قياداتها، ورؤيتها وتوجهاتها، وقد أصبحت السعودية وحلفاؤها الأقوياء في المنطقة يديرون الأزمات بكل احترافية سياسية وذكاء دبلوماسي وعسكرية صارمة، وبالتالي فقد تعاظم الدور العربي في حماية المصالح العربية والشعوب العربية.
على الرغم من الانتصارات الصغيرة التي يحققها نظام الأسد على الأرض وبالقوات المسلحة التي تحارب الشعب وتقتله، إلا أن هذا النظام فقد شرعيته السياسية، وأحرق كل أوراقه، ولم يعد له أي سند لحكم سوريا مستقبلاً، حتى حلفاء النظام سيضطرون للتخلي عنه في أي مفاوضاتٍ جادةٍ في المستقبل عند اختمار حل سياسي مرض.
وجود هذا التحالف العسكري العربي شرق الفرات مبرر تماماً بحكم أن كل اللاعبين الإقليميين لهم قوات على الأراضي السورية، بأشكال غير مشروعة، فالقوات التركية الاستعمارية موجودة، وميليشيات إيران الطائفية الإرهابية من إيران وأفغانستان والعراق موجودة، والميليشيا الإرهابية لـ«حزب الله» اللبناني منتشرة، وشذاذ الآفاق من الإرهابيين في «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش» موجودان، وعلى الرغم من هزيمة «داعش» فإنه لم ينته بعد، وبإمكانه في أي لحظة تراخٍ أن يخرج من جديد، فمن مصلحة الدول العربية ومن مصلحة الشعب السوري أن يكون التحالف العسكري العربي موجوداً على الأرض، لأن هذا التحالف هو الذي سيمثل الصديق الحقيقي للشعب السوري.
أخيراً، فالتحالف العسكري العربي في شرق الفرات يمكنه العمل تحت التحالف الدولي لمحاربة «داعش»، ويعمل مع القوات الأميركية والفرنسية الموجودة على الأرض، ولا يحق لنظام فاقد للشرعية ومجرمٍ في حق شعبه وجالبٍ لكل المحتلين والمستعمرين أن يبدي أي رأي في هذا الشأن.
ثمة كثير من الأسئلة التي قد تبدو محيّرة وإشكالية في تفسير طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، من هذه الأسئلة، مثلاً، لماذا سلمت الولايات المتحدة العراق لإيران، عبر القوى والميليشيات الطائفية والمسلحة التي تتبع لها، بعد أن أسقطت نظام صدام حسين (2003)؟ ثم كيف تساهلت الولايات المتحدة (وإسرائيل طبعاً) مع البرنامج النووي الإيراني وهو يبنى أمام ناظريها، في حين أنها لم تتسامح البتة مع البرنامج النووي العراقي، بل إنها حرصت على أجراء مفاوضات مضنية مع إيران توصلت في نهايتها إلى اتفاق معها في هذا الشأن، في ظل إدارة أوباما (2015)؟ أيضاً، ما الذي جعل الإدارة الأميركية تسمح أو تسكت عن صعود نفوذ إيران في سورية، بل وهيمنتها على البلد (قبل التدخل الروسي في أيلول 2015)، بحيث بات نفوذ إيران يشمل مجمل المشرق العربي من العراق إلى لبنان مروراً بسورية؟
ان محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، أو محاولة التفكير بها، تحيلنا، أو تسهل لنا، فهم محركات السياسة الأميركية في الصراع السوري، ومسؤوليتها السياسية والأخلاقية عن مآلاته المأسوية.
والحال فإن تفحص السياسة الأميركية العملية في هذا الشأن، وبمعزل عن التصريحات والمواقف الإعلامية والسياسية المتباينة، بدءاً من اعتبارها أن الأسد فقد شرعيته وأن عليه أن يرحل وصولاً إلى اعتباره جزءاً من الحل، ومن تشجيعها العمل العسكري إلى تخليها عن أصحابه، تفيد بأن الولايات المتحدة حافظت طوال السنوات السبع الماضية على اتباع نهج مفاده، أولاً، عدم تمكين أي من الطرفين، أي النظام والمعارضة، من تحقيق الغلبة على الأخر، والحفاظ على ديمومة الصراع في سورية، لا حسمه. ثانياً، جعل سورية منطقة تصارع بين القوى الدولية والإقليمية الأخرى، بوضعها في مواجهة بعضها، لا سيما روسيا وإيران وتركيا، وبالتالي تركها تستنزف بعضها. ثالثاً، توظيف صعود إيران من العراق إلى سورية، في استنزاف وابتزاز حكومات المنطقة، وهو الدور الذي لعبته إيران، عن جدارة وتصميم، بما في ذلك جهدها في تصدّع البني الدولتية والاجتماعية في المشرق العربي، مقدمة في ذلك خدمة مجانية لإسرائيل، لم تقدمها لها أية دولة أخرى في تاريخها.
رابعا، إعطاء الأولوية لأمن إسرائيل، بتشكيل بيئة إقليمية آمنة لها لعقود، نتيجة التشققات السياسية والاجتماعية الحاصلة في دول المشرق العربي، وضمن ذلك نتيجة اختفاء ما يسمى الجبهة الشرقية.
بيد أن النهج الأميركي إزاء إيران بات يشهد بعض التغيرات، في الآونة الأخيرة، وإن كانت غير حاسمة بعد، وهذا لا يتعلق فقط بمحاولة فض الاتفاق النووي، الموقع مع إيران، أو فرض مزيد من العقوبات عليها، وإنما هو يشمل تقليم أظافرها في سورية، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بالطرق السياسية والعسكرية، من خلال الحديث عن إقفال «الكرادور» من إيران إلى لبنان، مروراً بالعراق وسورية، واعتبار شرق الفرات والجنوب السوري خطاً أحمر على إيران، والقوات الحليفة لها، بل وحتى تحجيم نفوذها في سورية، بواسطة الدور الروسي والتركي، كما بواسطة التواجد العسكري الأميركي المباشر شرق الفرات، ومن خلال الضربات الصاروخية والقصف الجوي، وهو الأمر الذي حصل مراراً.
الجديد في الأمر، أيضاً، يمكن تمثله بتفعيل الدور الإسرائيلي في الصراع السوري، فبعد أن كان هذا الدور يقتصر على ضربات متفرقة، ومحدودة الأثر، بات يشمل ذلك توجيه ضربات قوية، وتدمير قواعد بأكملها.
في هذا الإطار يمكن فهم الضربة القوية التي وجهتها إسرائيل ضد أهداف في الأراضي السورية، أواخر الشهر الماضي، قرب مدينة حماة، والتي أدت إلى تدمير كامل لقاعدة إيرانية كبيرة، تحتوي مخازن أسلحة، وعن ذلك كتب المحلل الإسرائيلي آفي يسسخاروف (تايمز أوف إسرائيل 4/5): معتبراً ما حصل بمثابة «هزّة أرضية غامضة– 2.6 درجة على سلم ريختر»، وبرأيه فقد «بدأت الظروف التي تقف وراء سلسلة من الانفجارات تتضح... صواريخ مخترقة للخنادق، والتي لا تنفجر عند ارتطامها بالأرض وإنما عميقاً داخل الأرض، أصابت قواعد في منطقتي حماة وحلب... القاعدة التي هوجمت في منطقة حماة تابعة للواء 47 في الجيش السوري... المرصد السوري لحقوق الإنسان (ومقره في لندن) ذكر أن 26 شخصاً لقوا مصرعهم في الهجوم، من بينهم إيرانيون.
تقرير آخر تحدث عن 38 قتيلاً. أيا كان الحال، من الواضح أن الهجوم غير اعتيادي في جوانب عدة... كل هذا بدأ يبدو كأنه عملية إسرائيلية أميركية منسقة للحد من أنشطة الجيش الإيراني في سورية– وفي نفس الوقت نقل رسالة إلى موسكو بأن الضوء الأخضر الذي أعطته روسيا لإيران للتموضع عسكرياً في سورية غير مقبول في القدس وواشنطن».
كما يأتي ضمن ذلك قيام إسرائيل بإرسال ثماني طائرات حربية للإغارة على عدة أهداف عسكرية في سورية، منها مطاران عسكريان (تيفور، قرب تدمر، والمزة، في دمشق)، وثلاث قواعد للدفاعات الجوية، ومواقع عسكرية مهمة في ريفي دمشق ودرعا، وذلك في فبراير الماضي. ومعلوم أن إسرائيل قامت في السنوات الخمس الماضية بتوجيه عديد الضربات لقوات إيرانية أو تابعة لها، استهدفت مخازن وقوافل أسلحة، وقادة في الحرس الثوري الإيراني وحزب الله.
ولعل كل ذلك يفسر الحديث عن احتمالات حرب إيرانية- إسرائيلية، لكن مشكلة هكذا استنتاج أن إيران، التي اعتادت على الصوت العالي، غير مستعدة للرد على إسرائيل، وتعمدها التصارع معها عن بعد، فقط، في لبنان أو سورية، لأن الرد على إسرائيل أي استهدافها، يعني نقل المعركة إلى إيران ذاتها. وهذا سبب كاف لابتلاع إيران الضربات الإسرائيلية المتوالية، التي اعتادت عليها منذ سنوات.
هكذا ثمة نهج أميركي (وإسرائيلي) جديد في مواجهة إيران، لكنه لم يصل إلى حد كسر يد نظامها، ولا إعادته إلى داخل حدوده، بمعنى أن الاستثمار الأميركي (والإسرائيلي) في دور إيران في المنطقة وتصديع بنيانها السياسي والاجتماعي ما زال قائماً، خصوصاً أن نظام إيران مستعد لتقديم هذه الخدمة.
لذا وفي عودة إلى أسئلتنا الأولى، ثمة سؤال أخير، ينبغي طرحه هنا، وهو هل إن عوائد سياسة أيران في العراق وسورية، خدمت إسرائيل أم أضرّت بها؟ الإجابة عن هذا السؤال تفسر الإجابة عن التساؤلات الأولى.
لماذا طُرح فجأة خيار إرسال قوات عربية إلى شمال شرقي سوريا، ثم اختفى من التداول؟ وهل هو مشروع قابل للتحقيق؟ وأي تأثير له في المنطقة المحدّدة، وفي مجمل الوضع السوري؟ وأي تداعيات يمكن توقّعها في ضوء التوتّرات الإقليمية والخلافات العربية - العربية؟
كانت الفكرة أساسا أمريكية منذ عهد باراك أوباما، وعُرضت بشكل مفصّل في آذار/مارس 2016 خلال اجتماع لدول حلف الأطلسي (الناتو)، ولم يتمّ الاتفاق عليها، إذ كانت الأولوية آنذاك لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وكانت هناك حاجة إلى قوات برّية، فيما كان الأمريكيون يواصلون تدريب وتجهيز ما عُرف بـ «قوات سوريا الديمقراطية». بموازاة ذلك وفي سياقه، عملت السعودية على تشكيل تحالف عسكري إسلامي، وحُدّد له هدف: محاربة الإرهاب. لكن واشنطن أرادت القوات العربية كوسيلة لتخفيف وجودها، واستباق إشكالات محلية لا ترغب في التورّط بها، كذلك تحضيرا لانسحابها.
أعادت إدارة دونالد ترمب إحياء المشروع بصيغة جديدة، تبرز الهدف نفسه، أي الانسحاب، ولعلمها بأن الجانب العربي كان اشترط بقاء الأمريكيين ليشارك بقواته، فقد دعته في المقابل إلى تحمّل التكاليف المالية للعملية. ويبدو أن النقاش توقف عند هذه النقطة من دون أن يتّضح تماما إذا كانت الفكرة جمّدت أو طويت، أو لا تزال على الطاولة.
ورغم أن الانسحاب الأمريكي بقي في النقاش العام بين مَن يؤكّده ومَن ينفيه ومَن يؤجّله، إلا أنه لم يؤخذ دوليا وإقليميا على أنه استحقاق وشيك. وأكثر المصادر علما يقول إن ثمة تطوّرات مطلوبة مسبقا لتسهيل حصوله، منها أولا التأكّد من أن تنظيم «الدولة» ضعف ولم يعد يشكّل خطرا، ومنها مثلا تفاهمات أمريكية- روسية في شأن الدور الإيراني، وشكل الحلّ للأزمة السورية أو على الأقل بالنسبة إلى الوضع المستقبلي لشمالي سوريا، ومنها أيضا التعويل على عملية أو عمليات إسرائيلية لتقليص الوجود الإيراني، خصوصا العسكري.
كلٌّ من هذه التطوّرات التي تتمنّاها واشنطن غير مضمونة النتائج. لكن الأهم بالنسبة إلى وجود قوات عربية أنه -خلافا لأي دول أخرى- لا تستطيع أي حكومات عربية إرسال قوات إلا بشروط محدّدة، ووفقا لرؤية سياسية واضحة. كان ذلك متاحا أواخر 2011 إبان المحاولة التي بُذلت لـ «تعريب» الحل، غير أن النظام افتقد آنذاك الإرادة لإنهاء الأزمة سياسيا، وفضّل التعاون مع إيران، ثم مع روسيا لإنهائها عسكريا. وفي غياب مشروع عربي لـ «التدخّل» سيكون اتفاق الولايات المتحدة مع الأطراف الراغبة مشروعا لتوريط العرب.
في أحسن الأحوال يمكن تخيّل وجود قوات عربية في المرحلة التي تلي أي اتفاق على حلّ سياسي حقيقي.
قد ينسحب الأمريكيون، لكنهم لا يريدون فكّ «التحالف الدولي»، الذي يعني استمرار وجود قوات دولية أخرى تحت غطاء «الناتو»، وليس مؤكّدا أن يتعايش الروس والإيرانيون والأتراك والنظام بوئام مع حال كهذه. وإذا دخلت قوات عربية بإرادة أمريكية أو بإرادة «التحالف» فحسب، فإنها قد تجد نفسها في وضعية صراعية مع هذه القوى الفاعلة التي تعتبر أنها حسمت الوضع ميدانيا، وحقّقت انتصارات تريد أن تستثمرها في المرحلة المقبلة. ومن حيث المبدأ، فإن المصلحة العربية الوحيدة هي في إرسال قوات لضمان الحل السياسي، أو التورّط في صراعات على الأرض، أو الاضطرار لعقد تسويات خاصة لا جدوى منهما.
عندما بدأت موجة كتابات في الصحافة الغربية والعربية عن احتمالات مواجهة عسكرية إسرائيلية - إيرانية في سوريا، في أعقاب سقوط طائرتين لهما في سوريا، في أبريل (نيسان) الماضي، أكدت بعض الكتابات أن فكرة حرب إسرائيل وإيران مجرد تكهُّن لا معنى له، وأن روسيا، حليف الطرفين وصديقتهما، ستسعى إلى تبريد الاحتدام الإسرائيلي - الإيراني، مما سيمنع اندلاع الحرب بينهما، رغم التهديدات المتبادلة التي يطلقها كبار المسؤولين الإيرانيين والإسرائيليين.
لكن التطورات التالية باتت تؤشر إلى حتمية حرب إسرائيلية - إيرانية، وتؤشر إلى تقديرات حرب تتجاوز مسرح الاحتدام المباشر في منطقة التماس السوري وصولاً إلى لبنان الذي هو مسرح آخر للتماس، وقد يصير مسرحها أراضي الطرفين، بمعنى تحولها إلى حرب إقليمية بعد أن كانت احتمالاتها محصورة في سوريا، وغالباً في منطقة الجنوب السوري قرب مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، التي صار الإيرانيون وحلفاؤهم من ميليشيات «حزب الله» قربها.
إن الأبرز في التطورات المحيطة باحتمالات الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، يمكن إجماله في ثلاث نقاط. أولى النقاط تصعيد إسرائيلي ضد إيران في سوريا، كان الأهم في فصوله الهجوم على قاعدة تيفور الجوية، وقتل وإصابة عشرات العسكريين الإيرانيين هناك، الأمر الذي يمثل تحدياً مباشراً للقوة الإيرانية لا يمكن تجاهله، مما جعل إيران تردّ بطريقة نظام الأسد، في اختيار زمان الرد ومكانه على العملية الإسرائيلية، وهو ردّ شجع الكنيست الإسرائيلي على اتخاذ قرار فوض بموجبه نتنياهو ووزير دفاعه بالدخول في حرب دون الرجوع إلى مجلس الوزراء المصغَّر، على نحو ما درجت العادة، وسط تصعيد إسرائيلي سياسي وأمني كبيرين ضد إيران، عندما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن عملية استخباراتية إسرائيلية، اخترقت خزائن الأسرار النووية في إيران، وحصلت على وثائق تكشف الكذب في ملف إيران النووي بما يناقض اتفاق «5 + 1» الخاص بالملف النووي الإيراني.
خلاصة التصعيد الإسرائيلي الحالي ضد إيران تجاوزت فكرة الاعتراض على وجود إيران وميليشياتها وأسلحتها واقترابها من خط وقف إطلاق النار السوري - الإسرائيلي إلى ضرب قواتها في العمق السوري، واستعداء أطراف الاتفاق النووي مع إيران على الأخيرة، وهو تطور غير مسبوق، يدفع إيران إلى رد مباشر تبدو غير راغبة فيه في سوريا، لكنها لا تستطيع تجاهله.
النقطة الثانية في التطورات المحيطة باحتمالات الحرب الإسرائيلية - الإيرانية، يمثلها الموقف الأميركي من الاتفاق النووي، وقد بات أمر إلغائه من جانب إدارة ترمب مسألة وقت ليس إلا، بل إن الإدارة الأميركية تؤشِّر إلى احتمال الذهاب إلى الأبعد في الموضوع الإيراني لحد السكوت المتضمن الموافقة على التصعيد الإسرائيلي العسكري ضد إيران وأدواتها في سوريا، وهو ما يمكن قراءته باعتباره مؤشراً لموافقة أميركية على سياسة حرب إسرائيلية، واستعداداً لمساعدة إسرائيل في حربها المحتملة ضد إيران، وسط أجواء التصعيد الأميركي ضد الأخيرة وأدواتها، خصوصاً «حزب الله» اللبناني.
النقطة الثالثة مما يحيط باحتمالات الحرب على إيران، تتصل بأجواء التصعيد الإقليمي العربي ضد إيران، والخطوات في هذا الجانب تتجاوز التصعيد الإعلامي والسياسي الجاري لدى عدد كبير من البلدان العربية، خصوصاً في الخليج، ضد سياسة إيران في المنطقة من اليمن إلى سوريا والعراق ولبنان وصولاً إلى المغرب. ففي لبنان، تتواصل مواجهة «حزب الله» وحلفائه، في ظل الانتخابات النيابية، على غرار ما يحصل في العراق، فيما تتواصل فصول أزمة عميقة بين المغرب وإيران على خلفية دعم «حزب الله» اللبناني بمشاركة إيرانية لجبهة «بوليساريو»، التي يصنفها المغرب حركة انفصالية مسلحة.
وتمثل النقاط الثلاث مؤشراً لبيئة مواجهة معادية لإيران في المستويين الإقليمي والدولي. بل إن هذه البيئة مرشحة للتصاعد في ظل استمرار سياسات طهران في مسارها الراهن، الذي من غير المتوقع إحداث أي تبدلات فيه يمكن أن تضر باستراتيجية التمدد والقوة الإيرانية القائمة على التدخل (بما فيه المسلح) في البلدان الأخرى، والمضي قدماً في مشروعها النووي، بل إن دولاً تقيم شراكة مع إيران على نحو ما هو عليه حال تركيا وروسيا في موقفهما بسوريا، قد تغادر تلك الشراكة في حال دخول إيران بوابة حرب بين أهدافها الوجود الإيراني في سوريا.
لقد وضع نظام الملالي نفسه في دائرة النار، وصار من الصعب أن يخرج منها سليماً، بل إنه لن يستطيع الخروج بأقل الخسائر.
المؤمنون بنظرية التحالف الأمريكي الإسرائيلي الإيراني يقولون لنا: لا تصدقوا كل هذا التهويل والعويل الإعلامي الأمريكي والإسرائيلي حول إيران، فما يجمع المشروع الأمريكي الإسرائيلي مع المشروع الإيراني في المنطقة أقوى بكثير مما يفرقهما. ويضيفون: دعكم أيضاً من العنتريات والشعارات الإيرانية ضد الصهيونية والامبريالية، فما قتلت يوماً ذبابة أمريكية أو إسرائيلية. وفي كل الأحيان نسمع شعارات إيرانية ضد الصهاينة، بينما يكون القتل والتشريد من نصيب العرب على أيدي الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا واليمن ولبنان. ولا تنسوا أن الطائرات الأمريكية بتوع «الشيطان الأكبر» كانت تحمي الميليشيات الإيرانية وهي تدخل الموصل والأنبار في العراق. هذا رأي خصوم إيران.
ويستشهد أصحاب نظرية المؤامرة بأن الخبير الأمريكي الاستراتيجي جورج فريدمان تحدث في بداية هذا القرن عن أن أهم تحالف في بداية القرن الحادي والعشرين هو التحالف الأمريكي الإيراني، وأن في السياسة لا تنظر إلى التصريحات والبهلوانيات الإعلامية، بل إلى الأفعال على الأرض. من سلم العراق لإيران على طبق من ذهب؟ أليس أمريكا؟ يتساءل خصوم إيران، من الذي غض الطرف عن اجتياح الميليشيات الإيرانية وهي بالعشرات للأراضي السورية لاحتلال الشام وحماية بشار الأسد؟ أليست أمريكا وإسرائيل؟
كيف تشتكي إسرائيل ليل نهار من حزب الله اللبناني ثم تسمح لمائة حزب الله إيراني جديد بدخول سوريا والوصول إلى حدود إسرائيل؟ ألا يتفاخر بتوع المماتعة والمقاولة بأن قاسم سليماني يكحل عينيه كل صباح بمنظر بحيرة طبريا على بعد ضربة حجر من مقراته في القنيطرة ودرعا السوريتين؟ في العادة، يضيف المشككون، تخشى إسرائيل على أمنها من النسيم العليل، وإذا شعرت بتهديد جدي على بعد ألوف الكيلومترات في أفريقيا تذهب إلى هناك وتقضي على مصادر الخطر. وكلنا يعرف كيف دمرت المفاعل النووي العراقي وهو قيد الإنشاء، بينما تركت إيران تبني مشروعها النووي على مدى سنوات، ثم بدأت تحتج عليه إعلامياً فقط؟ من يخشى من المشروع النووي الإيراني كان يجب أن يدمره كما دمر المفاعل العراقي في بداياته ولا يتركه حتى يصبح قاب قوسين أو أدنى من تصنيع القنابل النووية. هل يعقل أن إسرائيل التي تقوم بضربات استباقية لأي تهديد خارجي قبل سنوات وسنوات أن تسمح لألوف العناصر الشيعية بالوصول إلى حدودها في سوريا بهذه الخفة والبساطة، يتساءلون؟ هل كانت الكهرباء مقطوعة في تل أبيب يا ترى عندما تدفقت الميليشيات الإيرانية على سوريا ووصلت إلى مشارف إسرائيل، يتساءل المؤمنون بوجود تحالف أمريكي إسرائيلي إيراني؟ هل أساءت إسرائيل التقدير وكان هدفها فعلاً توريط إيران في سوريا، لكن التدخل الروسي جعل الأمور تذهب لصالح إيران؟ هل يعقل أن إسرائيل لم تضع احتمالاً واحداً بالمائة أن إيران إذا دخلت سوريا لن تخرج منها بسهولة؟
ويضيف المؤمنون بنظرية التحالف الإيراني الإسرائيلي الأمريكي: أين الأقمار الصناعية الأمريكية من الصواريخ الإيرانية التي وصلت إلى الحوثيين في اليمن الحديقة الخلفية للسعودية المفترض أنها حليفة للعم سام؟ هل كانت الكهرباء أيضاً مقطوعة في طائرات المراقبة الأمريكية التي تراقب دبيب النمل في السعودية واليمن ومحيطهما؟ ألا ترى الاستخبارات الأمريكية أن اللوبي الإيراني الذي يدافع عن مصالح إيران في أمريكا أصبح في موقع متقدم جداً بعد اللوبي الإسرائيلي؟ لاحظوا أن جماعة الضغط الإيرانية في واشنطن أقوى من جماعات الضغط الخليجية المفترض أنها حليفة لأمريكا. بعبارة أخرى، فإن أمريكا تمارس المتعة مع العرب، بينما بينها وبين إيران زواج كاثوليكي، حسب كاتب يروج لنظرية التحالف الأمريكي الإيراني.
ويعتقد أصحاب نظرية المؤامرة الأمريكية الإيرانية أيضاً أن ما يجري على الأرض أصدق بكثير من التهديدات الإيرانية والأمريكية الإسرائيلية المتبادلة. وقد أصبح واضحاً أن الإسرائيليين متفقون على تقاسم العداء مع العرب، فقد فكرت إسرائيل طويلاً كيف يمكن أن تخفف العداء العربي لها، فوجدت في إيران ضالتها المنشودة. بدأت أمريكا وإسرائيل بالسماح لإيران بالتغلغل في المنطقة بحرية كي يبدأ العرب بالشعور بالخطر الإيراني. و كما استعان النظام السوري وأمثاله بالدواعش والظلاميين الهمجيين لتبييض صفحته وإظهار نفسه على أنه أفضل من الدواعش، استعانت إسرائيل بإيران لتبييض صفحتها مع العرب ولتقول للشعوب العربية: «ما بتعرفوا خيرو لتجربوا غيرو». ويضيف المشككون: لاحظوا الآن أن الخطة الإسرائيلية باستخدام البعبع الإيراني ضد العرب قد نجحت تماماً، فقد بات العرب يترحمون على العدو الصهيوني بعد أن شاهدوا ما فعله بهم العدو الصفيوني في العراق واليمن وسوريا ولبنان.
ويرى خصوم إيران أن أكبر خدمة تقدمها إيران لمشروع الفوضى الخلاقة الأمريكي التدميري، برأيهم، أنها رأس الحربة في الصراع الشيعي السني، وهذا الصراع لا يمكن أن يندلع ويتسع من دون النظام الإيراني الذي بدأ يزعزع استقرار المنطقة منذ وصول الخميني إلى السلطة عام 1979، وكأن أمريكا طردت الشاه وأوصلت الخميني إلى الحكم خصيصاً لهذا الغرض. لاحظوا الآن كيف تغلي المنطقة من المحيط إلى الخليج بسبب الغزو الإيراني وحملات التشييع الإيرانية التي وصلت إلى المغرب والجزائر. من المحيط إلى الخليج بات العرب يواجهون الغزو الإيراني. ماذا تريد أمريكا وإسرائيل أفضل من هذا الدور الإيراني لتحقيق الفوضى الخلاقة؟ هل تعتقدون أن إسرائيل ستحارب إيران وهي ترى الإيرانيين يفعلون الأفاعيل بعاصمة بني أمية دمشق…لا أبداً، بل سترفع القبعة لهم لأنهم يقومون بالمهمة على أكمل وجه.
ويضيف أعداء إيران: كم باعت أمريكا من السلاح لدول الخليج بحجة البعبع الإيراني؟ كم ابتز الغرب العرب بالخطر الإيراني؟ إيران بالنسبة لأمريكا هي كالأوزة التي تبيض ذهباً، ومن الغباء الشديد أن تقضي على المنجم الذي يدر على شركات السلاح الغربية مليارات الدولارات سنوياً.
ونحن بعد كل الذي أوردناه على لسان خصوم إيران أعلاه نتساءل: لماذا لا نقول إن إيران ربما كانت ضرورة أمريكية إسرائيلية لتحقيق المشاريع الأمريكية في المنطقة لفترة من الزمن، لكنها الآن أصبحت كابوساً يقض مضاجع أمريكا وإسرائيل في المنطقة، وأنها كانت أذكى من الإسرائيليين والأمريكيين، وأن مشروعها بات يهدد الإسرائيليين عن قرب، وخاصة في سوريا. بعبارة أخرى، فإن كل النظريات حول التحالف الأمريكي الإسرائيلي الإيراني تبقى مجرد تكهنات، وكثير من الأمور ستتوضح في الفترة القادمة على ضوء ما سيحصل بين الإيرانيين والإسرائيليين. لننتظر ونر إذا كانت إيران ضرورة استراتيجية وحليفاً لأمريكا وإسرائيل في المنطقة، أم إنها باتت تشكل خطراً كبيراً على الأمريكيين والإسرائيليين، وأنهم بدأوا يحضرون لمواجهتها.
لجأت إيران لفرض سيطرتها في المنطقة وللحروب بـ"الوكالة"، بعيداً عن أرضها، لترتفع أصوات الرئيس الإيراني، "حسن روحاني"، والحرس الثوري الإيراني الذي يشكل الجيش العقائدي للمرشد الأعلى، "علي خامنئي"، لتتحدى إسرائيل خارج البقعة الجغرافية الإيرانية، من خلال نشر ميليشياتها التي تحمل جنسيات مختلفة والتي تمولها، تحت مسمى "محور المقاومة" على الأراضي السورية.
وبعد دخول أكثر من 45 ميليشيا إلى سوريا تحت مظلة "فيلق القدس"، الذي يشكل الفرع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، بقيادة " قاسم سليماني"، لم يعد لدى ايران أدنى خوف من التمدد في سوريا، فالحرب بالنسبة لها بميليشيات متعددة الجنسيات وبعيداً عن الجيش النظامي للبلاد، ليس فيها خسائر تذكر، حتى الأموال التي تضعها في تلك الحرب ستعود لها من خلال مشاريع الإعمار التي ستفرضها على نظام الأسد إن لم يعطيها لها بمحض إرادته.
وما يثير السخرية، تلك التصريحات الإسرائيلية التي رصدت مؤخراً تحضيرات إيرانية لشن هجوم صاروخي عليها عقب الانتخابات اللبنانية، وبالرغم من أن الحكومة الأمنية لإسرائيل عقدت جلسة يوم الأحد الموافق 6 أيار، وتهيأت على حد قولها لأي هجوم صاروخي من قبل ايران، إلا أنها لاتزال تقف تنتظر الصواريخ "الخزعبلية"، بأعصاب باردة وبروباغندا إعلامية فحسب.
وفي ظل هذه الحرب بالوكالة التي تتبعها ايران، لم تتمكن إسرائيل من توجيه حتى ضربة موجعة لقواعدها في سوريا، واقتصرت ضرباتها على توجيه طيارات مجهولة المصدر، دون الاعتراف بمسؤوليتها عن تلك الضربات، تلك الضربات اقتصرت على مواقع قد تتواجد فيها ميليشيات شيعية تابعة لإيران، مدفوعة الأجر بشكل مسبق، ولا قيمة لحياتهم فمعظمهم من المرتزقة الأفغان والباكستان، والتي كان آخرها ضرب مطار التيفور العسكري في ريف حمص، في 9 من نيسان، ما أدى إلى مقتل سبعة إيرانيين، لتجسد "تراجيديا" أمام الشعب السوري أن "عدو عدوي صديقي".
ومن جديد عادت الطائرات المجهولة المصدر وضربت في 30 من نيسان/أبريل الماضي، والتي يرجح أنها إسرائيلية، على اللواء 47" قرب حماة، الذي يعرف بأنه مركز تجنيد لمقاتلين مدعومين من إيران، إضافة إلى استهداف منطقة المالكية على مقربة من قاعدة النيرب الجوية ومطار حلب الدولي، والتي راح ضحيتها 18 مستشار إيراني، دون أي تصريحات من قبل الجانب الإيراني أو الإسرائيلي عن وجود خسائر مادية في تلك المناطق.
كشف تل أبيب عن معلومات تؤكد وجود تموضع عسكري إيراني بسوريا موجود في 5 مطارات سورية، تحولت إلى قواعد جوية إيرانية ومخازن صواريخ وذخيرة، جعلت من إسرائيل تتبع أسلوب تنبيهي متكرر كما في قصة "ليلى والذئب"، وكجدة "ليلى" حذرت تل أبيب مراراً من الطريق الطويل، وبالرغم في أنها تدرك تماماً أن الذئب الإيراني سيخرج في طريقها، لم تتخذ أي قرار بقصف تلك المطارات التي حددتها على الرغم من أن قرارها للضربات لا يستغرق أكثر من ساعات، ولازالت إسرائيل تقول مخاطبة ليلى الذي يمثل الشعب السوري "اتبعي الطريق القصير، ولا تتبعي الطريق الطويل"، حتى يتمكن الذئب من أكل ليلى (الشعب السوري والأرض السورية)، ولكن ستكون الجدة البطلة هي من يخرج ليلى من بطن الذئب.
وبالرغم من أن الطائفة الشيعية في سوريا لا تتجاوز 1% من الشعب السوري، اضطلعت الميليشيات الشيعة في الصراع السوري، ليبلغ عددهم بين مقاتلي حزب الله اللبناني ومقاتلين أفغانستان وباكستان والعراق، ليصل إلى 20-40 ألاف مقاتل يقاتلون إلى جانب الأسد، وتحت أمرة ايران، وسط احتضان إسرائيلي مبارك.
وما يؤكد التناغم "الإيراني -الإسرائيلي"، هو انتشار الميليشيات الإيرانية بالقرب من القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة على طول المنطقة الشمالية الشرقية لسوريا، وعلى مقربة من الحدود الإسرائيلية لحمايتها واستكمال الأفلام الهوليودية في السينما العربية، بينما يزج النظام السوري بمقاتليه (السوريين) في المعارك الطاحنة التي يخوضها ضد المعارضة السورية، فيما يقتصر دور الميليشيات الشيعية على الدور الاستشاري، وبدا ذلك واضحاً في المعركة الأخيرة في الغوطة الشرقية.
لا يمكن أن تخطئ عين المراقب للأحداث أن إيران لا تعيش أحسن أيامها في هذه المرحلة التاريخية المهمة من عمر المنطقة والعالم، وما لا يستطيع صانع القرار الإيراني فهمه أو استيعابه أن كل ما يجري اليوم داخلياً وإقليمياً ودولياً ضد إيران ليس مؤامرة أو تآمراً، ولكنه بكل بساطة نتائج طبيعية لسياسات واستراتيجية النظام الممتدة لأربعة عقود.
داخلياً، ومع كل وسائل القمع وأجهزة الديكتاتورية التي تضخمت وتعددت وتحديداً بعد الحركة الخضراء 2009، فإن حركة الاحتجاجات والانتفاضات من الشعب الإيراني تعلو وتخبو، ولكنها مستمرة وتنتشر جغرافياً ولا تتقلص وتترسخ يوما إثر آخر، بمعنى أن الشعب وصل إلى لحظة استوعب فيها ألا أمل يرجى من نظام الولي الفقيه الذي لم يترك للشعب أي بصيص أملٍ في إمكانية إصلاحه أو تعديله.
وإقليمياً، ومع كل التحفظ على تدخل رجال الدين في السياسية، إلا أننا نستطيع رصد ثلاث حالاتٍ جديرة بالاهتمام، في الدول العربية التي افتخر رموز النظام بالسيطرة على قرارها، في العراق، أصدر المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني فتوى يحذر فيها من الفاسدين والفاشلين من الطبقة السياسية التي أوصلت الدولة العراقية والشعب العراقي إلى الحضيض، وسمحت بانتشار الطائفية والإرهاب ونهبت كل ثروات العراق، ولها اتصالٌ مباشرٌ مع ما سماه الدول الأجنبية، والمقصود هنا حصراً هو النظام الإيراني الذي ينتهك السيادة العراقية ويختطف القرار السياسي بشكلٍ معلنٍ، ومعلومٌ حجم الخلاف الكبير بين ما يمثله السيد السيستاني من مرجعية تقليدية تحتفظ بروح المذهب الشيعي في مقابلة ما يمثله نظام الولي الفقيه من نسخة للإسلام السياسي ضمن المذهب الشيعي، ليست لها أي جذورٍ دينية حقيقية في فقه المذهب نفسه وأدبياته.
في لبنان، ثمة تذمرٌ كبيرٌ من قبل كثير من المواطنين اللبنانيين تجاه العملية السياسية برمّتها، ومن ذلك خروج مجموعة من المرشحين المستقلين الذين ينتسبون للمذهب الشيعي، ولكنهم يرفضون اختطاف «حزب الله» للطائفة والدولة، واحتكاره لتمثيل الشيعة بالقوة والعنف والتهديد بهما لحصر خيارات المواطن اللبناني الشيعي في الحزب، مع تغييرات في موقفه من حركة أمل، هذا مع كل ما جرّه الحزب على شيعة لبنان من دمارٍ وقتلٍ ومغامراتٍ غير محسوبة، وإرسال أبناء المواطنين ليقتلوا في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، في سوريا واليمن، وإدخالهم في جرائم دولية تتعلق بالإرهاب وتجارة المخدرات وغيرها، فمحاولة كسر احتكار الحزب لتمثيل الطائفة لها رمزية مهمة في هذه المرحلة.
في اليمن، أصبح مصير الحوثي شبه محسومٍ على المدى القصير، أما على المدى الطويل فهو محسومٌ دون شكٍ، وأصبح العالم يتحدث بكثيرٍ من التفصيل عن جرائم الميليشيا هناك ووحشيتها ودمويتها وعنادها الآيديولوجي الذي جعلها مستمرة في الفشل السياسي والعجز في الانخراط في أي عملية تسوية سياسية، فسقوط النموذج الحوثي في اليمن بات قاب قوسين أو أدنى، والمسألة مسألة وقتٍ فقط.
أمران آخران في الوضع الإقليمي، أولهما قطع المغرب لعلاقاته بإيران مع التأييد العريض الذي حصل عليه من السعودية وغيرها من الدول العربية، وهو نتيجة طبيعية لتصرفات النظام الإيراني ودعمه العسكري لجبهة البوليساريو الانفصالية، ومع الوعي السياسي في المغرب بعمليات التشييع السياسي والثقافي وليس المذهبي التي تديرها إيران في المغرب، إلا أنه وصل إلى نقطة حاسمة بوصوله للدعم العسكري المباشر، وهو نجاحٌ للدول العربية الرافضة للمشروع الإيراني في المنطقة يضاف لنجاحاتٍ سابقة كثيرة.
والثاني هو ما أعلن عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من حصول إسرائيل على وثائق تثبت استمرار إيران في تطوير مشروعها النووي، على الرغم من الاتفاق النووي الذي وقعت عليه مع دول «الخمسة زائد واحد»، وهو أمرٌ في حال ثبوته ينسف الاتفاق النووي من أساسه، ذلك الاتفاق السيئ الذي أبرمته إدارة أوباما مع النظام الإيراني، وسمحت له بالتوسع وبسط النفوذ واللعب بالصواريخ الباليستية، وتهديد استقرار الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وإذا صحّت هذه الوثائق فستكون أكبر داعمٍ لرؤية إدارة الرئيس ترمب تجاه الأدوار الشريرة لهذا النظام في المنطقة والعالم وتهديده لمستقبل العالم.
ودولياً، يتجه العالم لإدانة النظام الإيراني ومواجهته بكل القوة اللازمة على انتهاكاته الصارخة للقوانين الدولية وسياساته الداعمة لاستقرار الفوضى والتطرف والإرهاب، ففي مرحلة تاريخية مهمة على مستوى الصراعات الدولية تتجه كوريا الشمالية نحو انفتاحٍ على جارتها الجنوبية ومحاولاتٍ للتواصل مع العالم وإنهاء عقودٍ من الزمن كانت تمثل فيها عنصراً لعدم الاستقرار في شرق آسيا والعالم، وبعد كرٍ وفرٍ وتهديداتٍ خطيرة بالتصعيد العسكري بين أميركا وكوريا الشمالية تبدو كوريا في مرحلة استجابة للضغوط وفتح صفحة جديدة، ويتم الترتيب للقاء بين الرئيس الأميركي والرئيس الكوري الشمالي في الأسابيع القادمة.
بعد التخفيف من أزمة كوريا الشمالية ودورها الدولي، وبعد توحيد ترمب لعناصر إدارته باتجاه مزيدٍ من التجانس والاتفاق تجاه النظام الإيراني، من وزير الخارجية مايك بومبيو إلى مستشار الأمن القومي جون بولتون تبدو إيران في أسوأ أيامها، ومع تنازل الممانعة الأوروبية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى درجة أقل واعترافاتها بالخلل الذي يعتور الاتفاق النووي الإيراني أو قصوره أو ضرورة تطويره، بضغط وصرامة من إدارة ترمب، وبضغط من السعودية ودول الخليج، فإن تلك الأيام تتجه لمزيدٍ من السوء على نظامٍ أدمن احتقار القوانين الدولية وتهديد جيرانه والتدخل في الشؤون الداخلية لكثير من الدول في المنطقة والعالم.
في 12 مايو (أيار) الحالي سيعلن الرئيس ترمب موقفه النهائي من الاتفاق النووي مع إيران، ذلك الاتفاق الذي وصفه ولم يزل يصفه بالاتفاق الأسوأ في التاريخ، وسيجد النظام الإيراني نفسه وحيداً أمام عالم يتحد ضده وضد سياساته، وأن الأسوأ لم يأت بعد.
عملت السعودية الجديدة بجهدٍ وتصميمٍ على فضح خطورة النظام الإيراني، وسعت لمحاصرة أنشطته التدميرية بكل الاحترافية السياسية والدبلوماسية والعسكرية التي جمعت بين القوة الناعمة والخشنة، وقد حصدت مكاسب كبرى تتعزز وتزداد مع مرور الوقت مع كل ما يتطلبه هذا الجهد من الحزم المقرون بالحكمة والصبر المطلوب للإنجاز.
هل ستنسحب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية بين الدول الست العظمى وبين إيران؟.. هذا هو السؤال الذي يشعل الدنيا، وتتداوله وسائل الإعلام. الذي يظهر لي أنه بات في حكم الأمر المؤكد أن تجديد الاتفاقية كما هي عليه شبه مستحيل إذا لم يكن مستحيلاً بالفعل؛ فالرئيس ترامب يصر ليس على إلغاء الاتفاقبة برمتها، وإنما على إضافة شروط جديدة تقتضي ثلاثة أمور جوهرية، الأمر الأول: أن تكون دائمة ولا تنتهي في (2025) كما جاء في الاتفاقية الأساسية. الأمر الثاني: أن تشمل وقف تصنيع الصواريخ البالستية. الأمر الثالث: إن توقف إيران توسعاتها وتدخلاتها في المنطقة. الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وكذلك المستشارة الألمانية السيدة ميركل حاولا ثني الرئيس الأمريكي عن الانسحاب غير أنهما باءا بالفشل، وعادا من واشنطن بخفي حنين. رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو كشف في مؤتمر صحفي أقامه في إسرائيل عن دلائل ووثائق على أن إيران تكذب، وخدعت الموقعين معها وأنها استمرت، وبشكل سري، على إجراء الأبحاث التي تهدف إلى تصنيع خمس قنابل نووية، قوتها التدميرية خمس أضعاف قنبلة هيروشيما، وأن لديه أكثر من 100 ألف وثيقة على أقراص مدمجة تثبت ما يقول، الأمر الذي أضعف موقف الأوروبيين، وقوّى موقف الرئيس ترامب؛ كما أكَّد وزير خارجية أمريكا مايك بومبيو فيما بعد صدقية تلك الوثائق، وأشار إلى أنها تثبت أن موقف الرئيس الأمريكي ترامب من الاتفاقيةكان موقفًا صحيحًا. وكانت إسرائيل قد شنت غارتين على كتائب إيرانية في سوريا، وفي تقديري أن الغارتين كانتا هدفهما قياس ردة فعل إيران، وكذلك إرسال رسالة قوية للملالي أن كلفة الاستمرار في تحدي العالم والتحايل عليه وعدم الرضوخ للشروط الأمريكية الجديدة ستكون عالية، وخصوصًا أن الضربتين، وتحديدًا الضربة الثانية كانت موجعة، ولا سيما أن الطائرات كانت تحمل صواريخ، أو لعلها قنابل مجنحة دقيقة التصويب وذات قدرات تدميرية هائلة، واكتفي الإيرانيون بالتهديد، وأنهم سيردون على هذه الغارات في الزمن والمكان المناسبين.
والسؤال في حال انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاقية: هل سيجرؤ الإيرانيون إلى العودة لتخصيب اليورانيوم؟.. في رأيي لن يتجرؤوا، وخصوصًا أن إيران تعرف يقينًا أن تَفجُر نزاع مسلح بين أمريكا أو إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى، سيستدعي ضربات عسكرية بأسلحة متطورة ليس في وسع إيران أن تتحملها، وهذا من شأنه أن يقضي على دولة الملالي ويحيلها من الجغرافيا إلى التاريخ. صحيح أن الرئيس ترامب يتحاشى الدخول في حروب جديدة، غير أن ظروف ردة الفعل الإيرانية على الانسحاب من الاتفاقية، هي التي تحدد ردة الفعل، فقد يجد الرئيس ترامب نفسه مضطرًا للذهاب إلى حرب مع إيران مهما كانت الخسائر. إضافة إلى أن إيران، منذ هزيمتها في حربها مع العراق، لا تواجه أعداءها بنفسها، وإنما من خلال وكلاء، مستعينة بحليف كروسيا، إلا أن الروس لن يدخلوا في مواجهة مع الأمريكيين والإسرائيليين، لأن الإيرانيين حلفاء مؤقتون في الحرب السورية، وليس أبعد من ذلك، إضافة إلى أن لهم تحفظات كثيرة على نهج الإيرانيين وأجنداتهم الكهنوتية، ما يجعل إيران تجد نفسها في هذه الحالة وحيدة أمام الأمريكيين وقوتهم التدميرية الهائلة.
إلى اللقاء
يثير إصرار روسيا والنظام على التهجير القسري إلى إدلب كثيراً من التساؤلات، أهو تنفيذ خطة سرية لجمع المعارضين العُتاة الذين تمسكوا بمطالبهم سبع سنين وصمدوا أمام الحصار والقتل والقذائف والبراميل المتفجرة التي انهمرت فوقهم طوال سنوات الجمر، ثم اضطروا للإذعان أمام عجز دولي عن حل سياسي عادي انتظروه طويلاً، وأمام إشفاقهم على أهلهم المدنيين الذين أمعن النظام وروسيا في قتلهم ليجبر أبناءهم المسلحين على القبول بما يعرض الروس عليهم في مفاوضات قهرية جاءت بعد خدعة سميت اتفاقيات خفض التصعيد، وتبين أنها تصعيد التصعيد، وانتهت إلى طرح روسيا خيارين أمام المقاتلين المصرين على تحقيق هدفهم في الحرية والكرامة، هما استمرار تدمير مدنهم وقتل سكانهما حتى الإبادة أو القبول بالتهجير، وللإنصاف، ثمة خيار ثالث هو الاستسلام الكامل لمن يريد البقاء، على أن ينضم إلى جيش النظام، ويحارب أهله.
كان مشهد تهجير أهل «مضايا» و«المعضمية» و«داريا» قد استفز الضمير العالمي، وكان موضوع استخدام الكيماوي ضد أهل «دوما» لإجبارهم على الرحيل، أو الاستسلام قد حفز بعض الدول لتوجيه ضربات رمزية محدودة للنظام، ولكن المجتمع الدولي تغافل عن مشهد تهجير أكثر من مئة ألف مواطن أجبروا على أن يتركوا منازلهم، وأن يبدؤوا رحلة التشرد، وقد توجهت جل الحافلات الخضر إلى إدلب، وربما يبدأ غداً السبت مشهد تراجيدي آخر بتهجير قسري لنحو مئة وخمسين ألفاً من سكان أرياف حمص وحماه إلى إدلب أيضاً، فثمة 350 ألف مواطن محاصر في هذه المناطق.
والمفجع في الأمر أن مئات الآلاف من الذين هجروا قسراً تركوا في الخواء، فلا توجد أية ترتيبات لاستقبالهم، وقد بات كثير من المهجرين في المساجد وفي الأبنية المهدمة، واتنشر كير منهم في الحقول والبساتين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، مع تراجع مريب لمنظمات الإغاثة الدولية، ولايملك سكان إدلب التي توقفت فيها الحياة الاقتصادية منذ أن قامت الثورة سبل العيش، وباتت الحياة في إدلب مغامرة مع الموت المتوقع إثر أي انفجار أو اغتيال.
وهاهو تنظيم «داعش» يظهر من جديد في ريف دمشق لتبرير قتل الناس وتشرديهم والاستيلاء على ممتلكاتهم وتفريغ محيط دمشق من أهل السُنة تحديداً ليمنحه النظام لإيران، ولتنشأ ضاحية جنوبية يسيطر عليها الفرس، كما هو الأمر في الضاحية الجنوبية في لبنان. وعلى الرغم من كل النصائح التي قدمت لتنظيم «النصرة» لحل نفسها والخروج الآمن من إدلب ومن أماكن أخرى، نراها تصر على البقاء في إدلب وراء وهمها الهلامي في إنشاء دولة دينية، وهو كما قلت مجرد ذريعة، فنحن لاننسى أن «النصرة توأم داعش، وهذه التنظيمات المصطنعة هي التي غطت إعلامياً على نقاء مطالب الثورة.
وأهل إدلب وسكانها يتساءلون اليوم، هل يتم جمع كل هؤلاء الثوار في إدلب ليكونوا هدفاً لمكافحة الإرهاب فتتم إبادة جماعية (لاسمح الله) لاينجو منها غير الجولاني، وثلته كما نجا البغدادي وفريقه؟ أم هل ما يحدث من تهجير إلى إدلب هو تنفيذ مخطط دولي بالتقسيم؟
ولماذاسيتم تهجير أهل الفوعة وكفريا إلى خارج إدلب، وكثير منهم يريدون البقاء في بيوتهم، صحيح أن «حزب الله» جعل منهم معسكراً ضد إخوانهم في إدلب، لكنهم أبناؤها وقد عاشوا قروناً مع أهل «السُنة» دون أية مشكلة؟
أسئلة كثيرة واحتمالات مثيرة تنتظر إدلب التي يبلغ عدد المهددين فيها أربعة ملايين نسمة، والسؤال الأهم: إذا دخل الروس والنظام منتصرين إلى إدلب إلى أين سيهجّر أهل إدلب؟ وإلى أي اتجاه ستمضي الباصات الخضر، ولاسبيل أمامهم سوى تركيا التي تريد تخفيف العبء عنها، وتسعى إلى إعادة السوريين اللاجئين فيها إلى منطقة آمنة في الشمال. وما أثق به أن أهل إدلب سيقاومون وسيطردون المتطرفين جميعاً، وسيحملون مشعل الثورة حتى تنتصر بإذن الله.
لم يكن أمرهم فوضى بينهم، حين انطلقت شرارة الثورة السورية2011م، لكن أمر الخليجيين لم يكن شورى بينهم أيضاً، ومع ذلك شكّلت المبادرات الخليجية المحرك الرئيسي لتحرك الجامعة العربية الأول لطرد الأسد من الجامعة،وأمام المجتمع الدولي، لقد كان الدعم الخليجي للمعارضة السورية إقليمياً ودولياً سخياً حكومياً وشعبياً، سياسياً ولوجيستياً ومعنوياً.
ثم توقف كل شيء، أو وصل مداه، لعجز الأطراف المناوئة للأسد عن استثمار الفوز كما في مبادئ الحرب، لكن ذلك لا يعفي دول الخليج من التقصير في إنجاز إزاحة الطاغية الأسد، كما فعلت مع القذافي حين كانت تدير مطبخ الجامعة العربية، فقد انكسر العزم الخليجي وهو يقترب من الإنزال في دمشق، على صخور عدة، بعضها حاد وقاهر، وبعضها كان بالإمكان تجاوزه، فقد كان هناك تخبط أميركي وخطوط حمراء وضعها أوباما، وبدل أن تشجع الثوار والخليجيين على المضي قدماً، تحول المسار إلى تنازع بين الحلفاء وخلفهم الداعمون لهم، كما عرقل التحرك الخليجي، وحشية وعنفوان التدخل الروسي، وما فرضه من معادلات ميدانية وبيئة تفاوض سياسية جديدة، ولم تكن طهران بعيدة عن المشهد، لتختتم التراجيديا السورية بمأساة الأزمة الخليجية، التي خلقت خلافاً داخل الاتفاق على ما يجب أن يتم في سوريا.
ليس كما بدأ، لكن الصراع ما زال مستمراً، بعد أن تحول إلى حرب أهلية كلاسيكية ومتعددة الأطراف، وتخاض بالدرجة الأولى بين حكومة الأسد وحلفائه، ومختلف القوى المعارضة للحكومة السورية، ووفقاً للخارطة التي يصدرها مركز جسور للدراسات بشكل شهري، ولإشراك القارئ في شيء من الخلفيات، فإنّ الوضع على الأرض السورية حتى 1 مايو 2018 كالتالي: سيطر الأسد على «55.13 %» من سوريا، بعد أن كانت سيطرته «54.63 %» في الشهر الماضي، وتقلصت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية لتصبح «24.86 %»، مقارنة مع «24.93 %» في شهر مارس، أما فصائل المعارضة المسلحة -التي كانت دول الخليج تدعم أغلبها- فقد بلغت سيطرتها «12.21 %» من سوريا، مقارنة مع «12.64 %» في الشهر الماضي، لكن ما يستحق الملاحظة أنه رغم المعارك الضروسة مع كل الأطراف، ورغم الهزائم في العراق، ورغم شيطنته إقليمياً ودولياً، فقد حافظ تنظيم «داعش الإرهابي» تقريباً على نسبة سيطرته مقارنة مع الشهر الماضي، وهي «7.80 %».
وتذهب المتوالية التبريرية الخليجية إلى أن سيطرة الأسد على نصف سوريا ترجع إلى ما في محزمه من رجال حزب الله والحشد الشعبي وفاطميين وزينبيين وسرايا طليعة الخراساني، أما الأميركان فرجالهم من وحدات حماية الشعب الكردية وغيرهم من ميليشيات، خططت واشنطن لإنشاء قوة حدودية منهم، كما أن لتركيا حلفاءها من ميليشيات المعارضة السورية المسلحة.
بالعجمي الفصيح
بسؤال أعلى من السخرية وأقل من الجدية: من بقي لنا من ميليشيات في المشهد السوري -والتي هي بمثابة صناديق استثمارية واعدة بين الدول- غير داعش؟!;
ذكّرنا التقرير الذي نشرته صحيفة «التايمز» اللندنية (الخميس) الماضي، وأكدته مصادر عديدة أخرى، بقصة «أملاك الغائبين» في سياسات الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
هنا والآن، يعامل بشار الأسد مواطنيه الذين فروا من جحيم الحرب كقوة الاحتلال، ولا يتعلق الأمر بالقتل والتدمير الوحشي الذي تابعه العالم أجمع فقط، بل يتعلق بممتلكات الهاربين من جحيم الحرب وويلاتها، والذين يُفترض أن يعود أكثرهم إلى ديارهم، بخاصة أولئك الذين لم يجدوا مكاناً أفضل للعيش. وهو هنا يفترض بطبيعة الحال أن مساره الأمني الطائفي سيتواصل، بل ربما صار أكثر وحشية بهدف الانتقام ممن تمرّدوا عليه، ونتذكر هنا ما نقل عن بشار بداية الثورة بقوله: «لقد قمنا بتلقينهم (الغالبية السنيّة) درساً في حماة أسكتهم 40 عاماً، وسألقنهم درساً يسكتهم لمئة عام».
في تقريرها المثير؛ ذكرت صحيفة «التايمز» أن نظام الأسد «يصادر عقارات ملايين المواطنين الهاربين من الحرب»، وأن «ملايين اللاجئين السوريين مهددون بخسارة منازلهم التي تركوها وراءهم بصورة نهائية، طبقاً لمرسوم جديد أقره النظام السوري، يصادر بموجبه المنازل الخالية من سكانها».
ويفيد التقرير أن المرسوم رقم 10 يمنح مالكي المنازل حتى العاشر من شهر مايو للتقدم إلى البلدية بشهادات ملكية العقارات، وإلا فإنهم سيخسرون ملكيتها، وتصادر من الدولة.
وتقول الصحيفة إن القانون بات ساري المفعول هذا الشهر، وأعطى ملاك العقارات السوريين مدة 30 يوماً لإثبات ملكيتهم، وإلا تمت مصادرتها، وأصبحت ملكاً للدولة.
ولا ينسى التقرير التذكير بأن نصف سكان سوريا فروا من منازلهم خلال الحرب الدائرة منذ 7 أعوام، لافتاً إلى أن حوالي سبعة ملايين سوري يعيشون نازحين في وطنهم، فيما فرّ حوالي ستة ملايين للدول المجاورة أو أوروبا.
وتكشف الصحيفة أن المشكلة التي تواجه السوريين هي أن إثبات الملكية يقتضي من أصحاب العقارات الحصول على موافقة من المخابرات، التي يخاف منها الناس، وتعمل فقط في مناطق الحكومة، لافتة إلى أن آلافاً من المعارضين السوريين والمؤيدين لهم داخل سوريا وخارجها معرضون لخطر الاعتقال. وينقل التقرير عن كريسيتن بيندكيت من منظمة «العفو الدولية»، قولها إن هذه الخطوة بمثابة «محاولة من حكومة الأسد للاستفادة بكل صفاقة من تهجير ملايين المواطنين من منازلهم»، وطالبت بضرورة حماية ممتلكات السوريين خارج البلاد. وتقول الصحيفة إن الأسد كشف عن علامات تفيد بأنه يريد خلق سوريا «صديقة» في المناطق الخاضعة لسيطرته، من دون أن تشير بطبيعة الحال إلى البعد الطائفي للعملية الحقيرة التي يديرها النظام، لأن الأمر لا يتعلق بالمعارضين فقط، بل بنوايا تفريغ مناطق معينة، وتغيير بنيتها الطائفية. وتكشف هذه اللعبة حقيقة طائفية هذا النظام التي كان البعض يتجاهلها، مشيراً إلى أن رئيس الحكومة أو الوزراء أو ما شابه ذلك، هم من السنّة، متجاهلاً أن هؤلاء يشكلون ثلاثة أرباع السكان، ومتجاهلاً أن من يملك قرار المؤسسة الأمنية والعسكرية هو الذي يملك القرار، وليس رئيس وزراء بالكاد يتذكر الناس اسمه.
هذا المنطق «التشبيحي» يتجاهل أن الطائفة الحاكمة لا تمثل غير عُشر السكان، وأن المؤسسة الأمنية والعسكرية التي تسيطر عليها هي التي ورّثت السلطة من الأسد (الأب) إلى الابن، كأن البلد مزرعة، وليس جمهورية.
إنها لعبة تكشف طبيعة هذا النظام وبنيته الأمنية والطائفية، والتي ستتجذر بعد الثورة فيما لو نجح في البقاء بصيغته القائمة، لكن ذلك لن يكون، وعودة عقارب الساعة إلى الوراء مستحيلة، والحرب ستتواصل ولو سيطر على كل التراب السوري. وفي زمن العنف الرخيص، وذلك الحشد من الثارات التي خلفتها الحرب، سيكون من المستحيل إعادة الوضع إلى ما كان عليه. يبقى أن هذه اللعبة إنما تصفع أكثر ما تصفع من ينتمون إلى الغالبية، وأصروا على البقاء في معسكر النظام، مع أنها حقيقة يعرفونها جيداً، لولا الجبن والخور.. والمصالح الشخصية أيضاً.;
ليس هناك من وصفة تحدد لحاكمٍ كيف ينتصر على شعبه؛ وخصوصا عندما تكون الدكتاتورية طريقه الوحيد للسلطة؛ فالمسألة ليست كُتَيّباً بعنوان "كيف تتعلم الإنكليزية في أسبوع؟"؛ ولا "كيف تتعامل مع مريض السرطان؟"؛ هذه قضية أمضى حافظ الأسد جلّ عمره يدْرسها ويمارسها؛ ولكن فِي النهاية لم يهزمه إلا الله. هزم اللهُ حافظَ الاسد ثانيةً، عندما ابتلى الوريث بتنفيذ وصايا الأب، ولكن الابن فعلها بشكل مشوه، فأخرج أباه من قبره ليُلعَن، ثم حشره به مرة أخرى لتكون اللعنة الأبدية.
أبقى حافظ الأسد المخابرات تحت حذائه، عبر جعل كل واحد منهم يراقب الآخر، ويتصيّده؛ ولكنه جعل مجرد ذكر المخابرات يشكّل حالة رعبٍ عند الشعب. ابنه غيّبهم بداية؛ فكان السوري في بداية عهد هذا الابن يشعر وكأن دورهم ينحسر؛ وإذ بهم في حالة كمون، تهدف إلى استرخاء المجتمع وإرخائه كي يسهل كشفه وتحديد معالم البطش به بـ (إتيكيت) ورعب بارد تجلى أخيرا بتصفية أي عسكري من "حماة الديار" إذا تمنّع عن إطلاق النار على السوريين المنتفضين. تألق عمل هؤلاء من خلال "زيارة" كل معتقل إلى فروعهم المتنوعة وإشرافهم على عمليات الاختطاف والاعتقال والتعذيب في المعتقلات. فكانوا بذار الذراع المرعبة التي تجاوزت "سيد الوطن". وفي النهاية المأساوية لسورية وأهلها، يحملون وزرَ جلِّ ما حدث؛ لقد كانوا اليد الطولى في خنق سورية و"رئيسها" الابن أيضاً.
السياسة في "سورية الأسد" أسدية فقط. عند خروج السوري على قراءة الصفحة السياسية الأسدية يتحوّل إلى نشاز، إن لم يخرج كلّياً من الحياة؛ فخروج السوري على صفحة شريعة الأسد هي نتيجة "مؤامرة" و"إرهاب". في سورية الخروج على شريعة الله أخفّ من الخروج على "الشريعة الأسدية". من هنا، جاءت أوامر أحد عناصر الشبيحة لسوريٍّ يعذبه: (قل "لا إله إلا بشار"). ذلك الرفض السوري استلزم البراميل والصواريخ واعتقال مئات الآلاف وتشريد الملايين؛ وحتى دعوة الاحتلال ليؤدب ذلك السوري "الإرهابي" الخارج على طاعة "الإله".
في الاقتصاد، احتكر الأب كلَّ شيء، لكن بحكمة "الكهين" الجاحد الذي أقنع أهل سورية بأن البلد محاصَر؛ والمؤامرة الدولية تسعى إلى تجويعه. ثلاثون عاما لم يعرف السوريون أن لديهم ثروة نفطية؛ وما دخلت ميزانية البلد إلا شكلياً. كان صمت السوريين سيد الموقف و"بقناعة" يكللها الخوف، بعد أن عرفوا ما حدث لعضوٍ في مجلس الشعب ذكر "عائدات النفط". طبعاً "التحرير والصمود والتصدي والتوازن الاستراتيجي" كانت الحجج الدامغة لابتلاع الخمير والفطير. في "العهد الجديد" استمر الأمر، ولكن زاد في الطنبور نغماً جابي الأموال ابن الخال مالك أو شريك كل ليرة يمكن أن تجنيها سورية. إذا كان حافظ قد خطط لتحقيق نصره على الشعب السوري بالسيطرة على الوطن والمواطن، وما يملك عقلياً وروحياً؛ فوريثه ومنظومته أرادا السيطرة على ذلك كله، إضافة إلى ما يملك السوري مادياً وعيشياً. من هنا، قالوا إن حافظ كان "زاهداً"؛ لكن جشع منظومة الوريث ضيّع السيطرة الكاملة؛ فكانت خسارة كل شيء.
في الجانب الاجتماعي والديني ضمناً، أحدث الأب تهتكاً في منظومة المجتمع الأخلاقية من خلال اختياراته للأحطّ تربية وأخلاقاً؛ وحمّل كلاً منهم سجلاً حافلاً بالمعاصي والخطايا والارتكابات، ليسهل عليه دعسهم. والأمر ذاته جرى تطبيقه في قطاع الدين، ليتحول هؤلاء إلى "مشايخ السلطان"، لتحليل المحرَّم وتحريم المحلل. كما كانت الطائفية الأداة البغيضة المهلكة التي تسري كالنعاس في ثنايا مجتمع مهلهل. أتى الابن، وكان ذلك القطاع مخرّباً؛ فما كان بحاجة إلى جهدٍ لأي "تحسين" أو تخريب فيه؛ ليكون ذلك أحد أسرار الغليان المجتمعي الذي ساهم بصرخة الانعتاق السورية، والانتفاضة على المنظومة الاستبدادية بكليتها.
الاٍرهاب سلاح استفادت منه منظومة الأسد أكثر ما استفادت منه إسرائيل. ضيعت الأخيرة حق الفلسطينيين باستخدام إرهاب الدولة واتهامهم بالإرهاب، ولكن المنظومة الأسدية طورت إرهاب الدولة إلى منظومة رعب حاكمة، تقرر مصير السوري بالخوف الذي أدخلته بجيناته. أصبح رعب السوري ملازما لعيشه كما التنفس. أضحى الوطن زنزانة جماعية، والمعتقل في رأس كل فرد وروحه.
حصر العامل الخارجي بثلاث قوى؛ رتّب حافظ الأسد أموره معها بشكل متوازن. كان الروس مغرمين بالأسد الأب، على الرغم من رقصه على حبلي الغرب والشرق معاً؛ إلا أنهم أتوا لنجدة الأسد الابن لهمهم الخاص بالمطلق. فالابن بالنسبة لهم لا لون ولا رائحة ولا مصداقية له؛ وهم الآن يبحثون عن صفقة مناسبة لبيعه.
هللت إيران لقدوم بشار الأسد بعد أن كان حافظ قد ضبط إيقاع العلاقة معها. استبشرت بوضع اليد على عاصمةٍ عربيةٍ رابعة. خبرت إيران انتفاضة الشعب على حاكم جائر، وسبل قمع ذلك والانتصار عليه؛ فوعدت بشار بذلك متطلعةً إلى وضع يد نهائي على عاصمة الأمويين. ما كان أمام منظومة الأسد من خيار لينتصر على شعبه؛ فكانت طلائع حزب الله جاهزة؛ والحرس الثوري تدبر قدوم مليشيات القتل، ليقودوا معركة انتصار المقاومة والممانعة على الشعب السوري. وهنا انتصرت إيران على الشعب السوري؛ وخسر بشار سورية. وعندما استلزم الأمر محاولة استعادة سورية، تم استدعاء الروس؛ فخسرها ثانية للروس، وتلخبط مخطط إيران. كان الأب المؤسس للاستبداد قد أوصى بوضع اليد في الجيب الروسية، والقلب بجيب الغرب. وهكذا كان انتصار حافظ على الشعب السوري. وها هو، وإيران، وحتى روسيا؛ يخسرون سورية لأميركا وحلفائها. وما أمامهم إلا الرضى ببعض فتاتها أو الخروج الكلي. ويبقى شعب سورية صاحبها الأصل. وما كان حافظ ليفعل أياً من هذا. وهنا يقتل الابن أباه مرة أخرى.
على الرغم من أن حافظ الأسد كان الأقرب إلى إسرائيل، إلا أنه رسم صورة الأبعد والأكثر عداءً لها بين العرب؛ فهو صاحب جبهة "الصمود والتصدي" و"المقاومة والممانعة". حمل وريثه "الأمانة" وبدقة، على الرغم من أن تصريح رامي مخلوف قد فضح القضية عند بدء الانتفاضة السورية، عندما قال ما معناه (أمن سورية يعني إسرائيل)؛ ولكن الإخلال الكبير بالوصايا الأبوية كان بالعلاقة مع العرب؛ فالتوازن الذي أوجده الأب في العلاقة مع إيران والعرب تفلتت من أيدي الابن، واتضح الخلل؛ وجيّش بعض العربان عليه. ومع ذلك، لم يتمكن هؤلاء من تعكير نصره على شعبه؛ إلا أنه لم يجعل نصره حاسماً؛ والنصر غير الحاسم في هذه الحالة هزيمة.
نجح حافظ الأسد باستخدام السياسة والاقتصاد والاجتماع والطائفية والإرهاب والمخابرات وإيران وإسرائيل، إضافة إلى وسائل لا حصر لها في هزيمة شعب سورية ولثلاثة عقود متوالية، وظن أنه بهذه الأدوات الجبارة يمكن لكل ذريته أن تحكم سورية أبدياً. هزمه سلاح الموت؛ ولكن الأدوات ذاتها هي التي هزمت وريثه. غبي أي حاكم يتصوّر أنه ينتصر على شعب.