ترمب وإيران... حديث الزلزال
يمكن للرئيس الإيراني حسن روحاني أن يحاجج بأن بلاده لن تتأثر جراء الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي أكثر من شهر أو شهرين، غير أن الزلزال الذي ضرب إيران أول من أمس حكماً سيهز عرش الملالي، في وقت يعاني فيه النسيج الاجتماعي الإيراني من تفكك يصل إلى حد التفسخ والانفجار.
الزلزال الأميركي الذي أصاب طهران أثبت أننا أمام رئيس أميركي مثير للتأمل؛ سواء كانت أفكاره من عندياته أم من طرف الدولة الأميركية العميقة التي تمسك بدفة القيادة في غرفة واشنطن العليا التي توجه العالم حتى الساعة.
ترمب رئيس يفي بما يعد به، ويبدو أن عدم وجود رصيد سياسي قديم يخشى عليه يدفعه في طريق التجربة والحكم، كما أنه ليس مديناً لأحد بأي استحقاقات، إلا للشعب الأميركي الذي اختاره، ولهذا نراه يُقدم بغير وجل على تحقيق كل ما وعد به خلال حملته الانتخابية.
إننا أمام رئيس غير متوقع، يتبع «حدسه وحساباته» والتعبير لمدير الاستخبارات المركزية الأميركية السابق الجنرال مايكل هايدن، وإن لم يكن من اليسير الاعتقاد بأن ترمب رجل العقارات منبتّ الصلة بالسياسة وألاعيبها والاستراتيجيات وخطوطها وحظوظها؛ هو من يرسم للإمبراطورية الأميركية المنفلتة في حاضرات أيامنا ملامح ومعالم سياساتها لتعود، ومن جديد، «أميركا أولاً»، أو «أميركا فوق الجميع» إن قدر له القول.
قد يكون من المبكر استشراف ما ستؤول إليه مجريات الأحداث بين واشنطن وطهران، غير أن عدة علامات على الطريق لا يمكن للمرء أن يغفلها، وفي المقدمة منها أن التوجه الأميركي الواضح جداً بقيادة ترمب لا يتوقف كثيراً أمام مسألة الانسحاب من الاتفاق أو إعادة العقوبات على النظام الحاكم في طهران، بقدر ما يتطلع إلى زوال هذا النظام الاستبدادي، ولهذا كان ترمب يعزف على أوتار الشعب الإيراني الذي وصفه بالعراقة والثقافة عطفاً على الحضارة.
الإيرانيون عند الأميركيين، وبحسب ترمب، شعب يحترم وله الحق في العيش في ظل حياة كريمة، حياة تتحقق فيها أحلامهم، ويتواصل تاريخهم عبر «كتاب الأحياء» لا في «متن الموتى» عبر الصواريخ الباليستية المهددة لأمن العالم وسلامه، وبعيداً عن القنبلة النووية؛ الحلم الذي يسعى إليه آيات الله لفرض سيطرتهم على الإرادة الدولية قاطبة، من مشارق الشمس إلى مغاربها.
الزلزال ضرب إيران، ولا شك ضربة قاصمة، سيما أن الأوضاع الاقتصادية الإيرانية سوف تتردى إلى درجة غير مسبوقة، مما يعجل بالانفجار الداخلي مرة وإلى الأبد، وبدا واضحاً من الإجراءات التي سرت بعد دقائق معدودات من قرار ترمب، أنها كفيلة بأن تعيد الإيرانيين إلى الوراء لمسافات مرهقة للعقل والنفس الحاكمة.
ترمب اتفقنا معه أم افترقنا رئيس يمضي وفقاً لرؤية دوغمائية منطلقها: «المحبة المترتبة تبدأ بالذات»، والتفسير هنا هو أنه يضحي بالأهداف قصيرة المدى كالمصالح الاقتصادية، من أجل أن يجنب بلاده والعالم أهوال حيازة نظام عقائدي أصولي سلاحاً فتاكاً، مما يمكنه من أن يعيد سيرة النازية بأبشع قدر ممكن.
لا يهم ترمب أن تلغى صفقات الطائرات لمصانع «بوينغ» و«إيرباص» مع طهران، حتى وإن خسرتا ملايين الدولارات، إنما الذي يهم أكثر طمأنينة شعبه، فلا يخشى من صاروخ طائش في النهار، أو قنبلة نووية مشحونة بالغدر على سفينة ضالة بالليل، وذلك على خلاف المشهد الأوروبي الذي يتعامى عن رؤية رؤوس إيران النووية الممكنة والمحتملة؛ طائرة تدك لندن وباريس وبرلين، خوفاً على «حفنة دولارات».
الزلزال تبدى أثره في الكلمة التي ألقاها روحاني بعد خطاب ترمب بدقائق معدودات، فقد شهدنا ما يشبه التراجع الفوري عن الوعود العنترية السابقة التي أطلقها الإيرانيون بشأن الانسحاب الفوري الإيراني من الاتفاقية إن مضى الأميركيون في هذا الطريق، وقد مضوا، فيما تلكأ الملالي إلى أسبوعين مقبلين، سوف تتبعهما أشهر طويلة.
أفقد الزلزال الأميركي النظام الإيراني في غالب الأمر القدرة على تصويب الأفكار والأهداف، وما هو متاح في أياديهم قليل جداً، سيما أن الرهان على موسكو وبكين وبروكسل يتناسى أن البراغماتية السياسية والاقتصادية هي الحاكمة للمشهد الأممي الآني وليست الأخلاقيات.
الروس، في أسوأ الأحوال، سيقايضون الأميركيين على الملف الإيراني من فوق الطاولة أو من تحتها، ملف في مقابل آخر؛ أوكرانيا في مقابل التخلي عن إيران... رفع العقوبات عن موسكو، مقابل تضييق موسكو نافذتها للتعاون النووي مع طهران.
بكين بدورها ليست إناء مختاراً للطهرانية، وحكامها لا ينتمون إلى عالم اليوتوبيا، وفي مقابل معركة تجارية مع واشنطن يمكن أن تكبدهم 60 مليار دولار، هناك الكثير مما يمكن التخلي عنه... مقابل الضغط على طهران.
أما بروكسل فستجد نفسها في نهاية المطاف، ومع الاحترام الكامل للسيدة موغيريني وتصريحاتها، خالية الوفاض، وأفضل ما تحلم به هو أن يكف الأميركيون يد المقاطعة عنها، سيما أن ترمب توعد الجميع بدون استثناء من الذين يدعمون طهران، بعقوبات تكاد تكون مماثلة.
ما الذي يتبقى لطهران إذن؟
قد يفكر بعضهم وفي لحظة عبثية في اللجوء إلى «خيار شمشون»، وربما لن يبدأ المشهد بهدم المعبد دفعة واحدة، بل تدريجياً وعبر الأذرع الأخطبوطية في الشرق الأوسط والعالم، لإثارة القلاقل وتعميق الأزمة، أي الهروب إلى الأمام.
لكن العالم كله ساعتها سيكون ضد إيران إن خُيّل إليها أنها كفء للمجتمع الدولي وفي طريق معاكس.
الزلزال يستدعي استدارة إيرانية لجهة العقلانية، وإعادة ترتيب أوراقها، وتقديم تنازلات مؤلمة تقضي على أحلامها النووية، وطموحاتها الصاروخية، ونزعاتها التوسعية... أي القضاء على مشروع الثورة الإيرانية الخمينية عام 1979، وهو ما لا يعتقد المرء أن أحداً سيقدم عليه في طهران.
الخلاصة: طهران أمام استحقاقات لما يعرف بـ«الردع السلبي»، وفيه يتحتم عليها أن ترى قوة الآخر وحجمه، وعليها أن تحسب حساباتها وتقرر موقفها، قبل أن تغلق نافذة الفرصة؛ وساعتها ستكون قطعاً أمام وقائع «الردع الإيجابي» المتمثل في العمليات على الأرض (Deterrence).