ظللت أتابع المصادر الإعلامية العالمية خلال الأيام الماضية، بحثاً عن صدى الهجمة الوحشية غير المسبوقة التي يتعرّض لها قرابة مليون شخص في جنوب سورية المنكوبة. ولكن، يبدو أن هناك أشياء أهم تشغل بال الخلق هذه الأيام: عملية إنقاذ لاعبي الكرة الشباب في تايلاند، تسمّم رجل وزوجته في جنوب إنكلترا، نتائح مباريات كأس العام، هروب سجين فرنسي، تعيين قاض جديد في المحكمة العليا في أميركا وطرد آخرين من محاكم بولندا، هوس الهجرة في أميركا وأوروبا، وحروب ترامب التجارية الدونكيشوتية.. إلخ. أما حالة مئات الآلاف من المدنيين ممن يفترشون العراء، ويلتحفون السماء، ويُطعمون أحدث القنابل الروسية، فهي أقل من أن يلتفت إليه من يسمون أنفسهم بشراً، إلا التفاتة عابرة عجلى. ويشمل هذا العرب، ممن كان ينبغي أن تذكّرهم نكبة سورية المستمرة بنكبة فلسطين. ولكن لعل النسيان أفضل، حتى لا تتحول هذه مثل تلك التي أصبحت خيانتها اليوم أربح تجارة عند بعضهم.
لدي تحفظ على استخدام مصطلح "النكبة" لوصف ما حل بفلسطين والعرب في عام 1948: من تشريد لأكثر من نصف سكان فلسطين (800 ألف من من 1.4 مليون)، وفشل الدول العربية مجتمعةً في تلافي الكارثة، أو التصدّي لذيولها. ذلك أن المصطلح يوحي بأن ما وقع هو أشبه بكارثة طبيعية، مثل الزلازل والبراكين، ما يغيّب مسؤولية من سمح وساهم وتواطأ. وأهم من ذلك، يساهم في التستّر على جريمة الجرائم، وهي التطهير العرقي لفلسطين العربية (لا يزال مستمراً)، وما صاحبه ويصاحبه من فصل عنصري وجرائم مركبة ضد الإنسانية، فاستخدام هذا المصطلح، وما يصحبه من ممارسات خطابية تضخم المقاومة غير الفعالة للاغتصاب، يرقى إلى نزع ذاتي لسلاح اللغة في المواجهة مع المنظومة الصهيونية التي لا يصح كذلك وصفها بأنها استعمارية، فهي تفتقد حرص الأنظمة الاستعمارية، بما في ذلك نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، على بقاء السكان الأصليين بغية استغلالهم، فهي لا ترغب في وجود أهل البلاد حتى للسّخرة، بل إنها تجتهد في استئصالهم. ولهذا، فإن الخطاب السياسي الملتبس هو من أكبر مظاهر فشل مقاومة هذا النوع الجديد من الإجرام، الأقرب إلى النازية في سعيها المهووس إلى استئصال الفئات المحتقرة، حتى على حساب المجهود الحربي والمنافع الاقتصادية المحتملة من استخدامهم في السّخرة.
هذه الملاحظة الاعتراضية على قدر كبير من الأهمية، خصوصا عند استخدام مصطلح النكبة لوصف ما يواجهه أهالي درعا وجنوب سورية في هذه الأيام. ذلك أن ما يحدث اليوم يمثل منحدراً جديداً في مسار الانحطاط الأخلاقي الذي رافق النكبة السورية الكبرى، ففي هذه الحالة، ترك العالم قرابة المليون شخص بدون أي سند إغاثي أو مهرب من بطش نظام كانت وحشيته ضد المدنيين العزل، والأطفال خصوصاً، هي التي فجرت الثورة في الأساس. الفرق، وهو أن العالم لم يكن يتابع مأساة مهاجري فلسطين عام 1948 على الشاشات الحيّة، أو يسمع صراخهم واستغاثاتهم. ويبدو أن عرب اليوم أسوأ بكثير من عرب ذلك الزمان، حيث إنه لم يكن مطلوباً منهم تسيير الجيوش أو الهبّة لنجدة المعذّبين، فقط فتح الحدود لاستقبالهم في صحارى تترامى مد البصر، لكنهم اليوم أغلقوا أبوابهم وأعينهم وقلوبهم، ووقفوا يتفرّجون على جريمة هم شركاء في صنعها. فهذا العمى والتعامي هو تواطؤ أعطى عملياً الضوء الأخضر للنظام السوري، وأعوانه من البرابرة، من روس وأعاريب وفرس لممارسة وحشيتهم، بدون أي رقيب أو حسيب.
وهذه نقطة سوداء، ليس فقط في تاريخ العرب والمنطقة، بل في تاريخ الإنسانية، فمنذ فجر التاريخ الإنساني، كان هناك رد فعل فطري أمام أي حالة لإنسان آخر (بل حتى حيوان) يتعرّض لخطر على حياته، وهو التحرّك للمساعدة، فكما نشهد من حالة الشباب التايلاندي المحصور في الكهف، فإن الغريزة البشرية هي التحرّك للإنقاذ، فقد سارع حتى البعداء، بمن فيهم الأميركان والإسرائيليون (لم نسمع بعرب ساهموا) لتقديم العون لعمليات الإنقاذ. وقبل أسابيع قليلة، قرأت عن شاب سوداني كان يتجول على شاطئ البحر في الإسكندرية مع عروسه، وهما في شهر العسل، حين شاهد شخصين يغرقان، فقفز في البحر لإنقاذهما، ونجح في ذلك، لكنه فقد حياته.
تلك هي الإنسانية في أروع تجلياتها. ولكن هذا ليس ولم يكن المطلوب في حالتنا هذه، فلم يكن المطلوب التضحية من أجل إنقاذ السوريين، فقط التصرّف بأدنى درجات الحس الإنساني. فيكف إذن نفسر رد الفعل العالمي شبه الإجماعي، المعبر عن غياب كامل لهذا الحس في أبسط أشكاله تجاه أعدادٍ أكبر، وحاجةٍ أكثر إلحاحاً، ومشاهد ماثلة للعيان، لا تحتاج إلى خيال أو تمثل حتى تصل إلى عقول وضمائر القادرين على فعل شيء؟
إنها نكبةٌ من نوع جديد، تتعدّى فقدان الأوطان أو المساكن أو الأمن إلى فقدان الإنسانية، وفقدان الحس الأخلاقي. ولا أتحدث هنا عن القادة الفاسدين والمتواطئين، ممن باعوا ضمائرهم بثمنٍ بخس، دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين. لا نعني من شاركوا بهمة وحماسة في القتل والتعذيب، أو هللوا لهلاك الأبرياء، وانحازوا لفراعنة العصر. ولا من دخل في حلف نتنياهو - بوتين لتصفية القضيتين، ومباركة النكبتين، متوهمين أن ذلك سينقذ عروشاً أينعت، وحان قطافها، فجعلوا لله على أنفسهم حجة وسبيلاً. ما نعنيه هو البقية الباقية من أصحاب الضمائر والعقول والقلوب، من لم ينقرض كإنسان مع المنقرضين. أين هم، وأين أصواتهم، سوى قلة من أصحاب الضمائر في أردن الصمود وتركيا النجدة؟
في القرآن، هناك قصة للاعتبار عن أصحاب تلك القرية اليهودية التي فقد فيها الحسّ الأخلاقي، حتى لم يبق فيها إلا قلة تستنكر الإجرام، فمسخ غالبية أهلها إلى قردة. ما نخشاه هو أن نستيقظ غداً فنجد شوارع بلداننا مكتظة بالقرود، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
روى لي الصديق هادي الدمشقي حكاية طريفة عن فريق الجيش السوري لكرة القدم. قبل أن أنقل لكم الحكاية، سأحدّثكم عن مادة صحافية عنوانها "فريق الجيش ليش؟" كُتِبَتْ، على ما أذكر، بإشراف الصديق لقمان ديركي في العدد الأول من صحيفة الدومري (26 فبراير/ شباط 2001)، واعتبرناها آنذاك جريئةً، لأن فريق الجيش كان مصنفاً بين الخطوط الحمراء للسُّلْطة، إذ لم يكن ممكناً آنذاك تناول الوريث بشار الأسد، وأبيه، وعائلته، ووزارة الدفاع، وضباط الأمن، والفرقة الرابعة، والحركة التصحيحية، والحرس الجمهوري، والقيادة القُطرية، ووزارة الدفاع، ووزارة الإعلام، وقوى الأمن الداخلي، وفريق الجيش، وفريق الشرطة.. ولكن الرقباء، على ما يبدو، تساهلوا مع بعض مواد "الدومري" إكراماً للفنان الكبير علي فرزات، باعتبار أنه سيُصدر أول جريدة غير حكومية منذ ما قبل عصر الوحدة التي جعلت "الواقفَ فوق الأهرام يرى أمامَه بساتين الشام"، فهل يُعقل أن يُجبروه، منذ البداية، على جعل صحيفته شبيهة بـ "البعث" و"الثورة" و"تشرين" من حيث تقييدها بالخطوط الحمراء كلها؟
كانت الفرق الرياضية السورية تعاني من الفقر، والعوز، وينطبق عليها القول الشعبي "تشحد المنخول"، يعني أنها لا تطلب من المحسنين إعطاءها كميةً من الطحين الأصلي نمرة زيرو الذي يَصلح لصناعة الكعك، والمعمول، والغريبة، والبيتزا، وإنما تقبل بـ "المنخول" الذي ينزل تحت المنخل وعمادُه الشوائب، والغبرة، والهرارة.. وأعضاء إدارة النادي في كل مدينة كبيرة، أو صغيرة، أو متوسطة، يذهبون إلى المحافظ، ويرجونه أن يجمع التجار والصناعيين والملاكين الزراعيين، ويفرض عليهم التبرّع لناديهم، أو أن يعطيهم تعميماً يقضي بإجبار كل مَنْ يشتري كمية من الخشب، أو الشمينتو، أو الدواليب، أو السمنة النباتية، على التبرع بمبلغ ما لهذا النادي المسكين، أو أن يشتري بطاقة دخولٍ إلى الملعب، لحضور مباراةٍ لا يعرف متى موعدها. وفي الوقت نفسه، غير مستعد أن يذهب لحضورها مهما كلف الأمر.. وأما فريق الجيش، فقد وُضِعَتْ تحت تصرفه ميزانية الجيش العربي السوري التي كان نبّيحةُ النظام يقنعوننا بأنها تَلتهم 75% من ميزانية هذا القطر العربي الصامد، ثم يصلون، أعني النبّيحة، إلى نتيجةٍ مرعبة، هي أن سورية، لولا وجودُ الكيان الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في قلب الوطن العربي، ولو لم يكن قَدَرُ سورية قد جعلها من دول المواجهة، لكانت ميزانيتنا كافيةً لجعل المواطن السويسري يحسد المواطن السوري على عيشته، حيث الخضرةُ، والماءُ، والوجهُ الحَسَن، والقادةُ التاريخيون.
لم يكتفِ هذا الجيشُ العقائدي الباسل، خلال مسيرته التاريخية، بأنه تَخَلَّى لإسرائيل عن مرتفعات الجولان، وانسحب كيفياً من القنيطرة، ودخل لبنان ليضرب قواها الوطنية، ويعفّش خيراتها، وابتكر سرايا الدفاع وأفلتَ كلابها على المدنيين، بل إنه أوجد فريق الجيش، وأعطاه صفةً رسمية شبه قانونية؛ إذ أصبح الفتى الذي يلمع نجمُه في كرة القدم في أية مدينةٍ سورية، يُساق إلى خدمة العَلَم، ويفرز، أتوماتيكياً، للخدمة في فريق الجيش. والفتيان، بدورهم، يسرّهم هذا الفرز، لأنهم يعيشون، خلال الخدمة، حياةً تستحق الحسد، ففي حين تحترقُ قلوب أقرانهم في الخدمة الميدانية، حيثُ الركض والغبرة وقلة القيمة، يمضون خدمتهم معزّزين، مكرمين، يأكلون أطايب الطعام، ويزورون مختلف الدول، ويقبضون الرواتب والمكافآت العالية.. هذا الوضع المخملي جعل المسؤولين، سواء أكان أبناؤهم مساقين إلى خدمة العلم أو لا، يسعون إلى إدخالهم في صفوف فريق الجيش..
ما سبق يقودنا إلى الحكاية الطريفة التي رواها هادي الدمشقي، وهي أن قيادة الجيش استقدمت، ذات يوم، فريقاً طبياً بلغارياً، للاطمئنان على لياقة لاعبي فريق الجيش، وجاهزيّتهم من الناحية البدنية، وبعد فحص العناصر البالغ عددهم ثلاثين لاعباً، ذهل الفريق الطبي، إذ وجدوا أن لاعباً واحداً يستطيع الجري خلال الشوطين من دون توقف، بينما الـ 29 الآخرون يستطيع واحدهم الجري من 10 إلى 15 دقيقة فقط!
اعتقد أصحاب القرار في عالمنا العربي لفترة طويلة، أن نـــشر برامج الترفيه والتسلية من خلال القنوات الفضائيـــة ودعـــم مــسلــسلات الدراما المبتذلة، يساعد في تخدير الشعوب وإلهائها، وذلك على منوال برامج الشو والتوك شو التي اعتمد عليها أصحاب القرار في الغرب، لكن المـــفاجأة كانت حين شعر أصحاب القرار، في الشرق والغرب معاً، بالصدمة والدهشة من انفجار الربيع العربي، فمن كان يتابع تلك البرامج إذاً
ومع ذلك، يشير واقع الحال الى نجاحهم، وذلك بعد جهد جهيد، في إفشال الربيع العربي وحصاره بالخراب والإرهاب. هذا من جهة، أمَّا من جهة أخرى، فيشير الى أن عقولهم وأساليبهم في التعامل مع الأزمات لم تتجدد، لذلك عملوا على إيصال وجوه شابة الى سدة الحكم، كما في فرنسا وكندا وبلجيكا، في محاولة منهم لذر الرماد في العيون والالتفاف على الأزمة الكامنة بين الأجيال التي تتعاظم رويداً رويداً، وهي، أي الأزمة، مع أنها ليست جديدة بنيوياً، إلا أنها بفضل الإنترنت أخذت أبعاداً واسعة وعميقة، عابرة للحدود والقارات كذلك، فهل هنالك متسع من الوقت ليشعر أصحاب القرار، في المرة المقبلة، بالصدمة والدهشة؟!.
لطالما كان التوحد والاعتصام مطلباً شعبياً كبيراً لجميع القوى العسكرية والمدنية والسياسية، وشرطاً أساسياً وسبباً من أسباب الانتصار ومواجهة أي عدوان على المناطق المحررة، وهذا ما عمل النظام ودول غربية وعربية جاهدين على تمكين التشرذم بين أقطاب المعارضة على كافة المستويات لمنع توحدهم من خلال إغراقهم بالدعم المتعدد الاتجاهات لتحقيق التفرقة الحالية.
ومع تمكن النظام من السيطرة على مساحات واسعة في سوريا كانت بالأصل محررة، بغض النظر عن حجم الدعم الذي يتلقاه من حلفائه على كل المستويات، وخذلان حلفاء المعارضة لنا في المرحلة الأخيرة وتخليهم عن دعم المعارضة وتكشف مشاريعهم التي كانت جلها لتحقيق الفرقة ومنع وجود كيان عسكري وسياسي ومدني موحد يمثل المعارضة والذي لو تحقق لكانت رقماً صعباً في الحسابات الدولية، إضافة للطعنات الكثيرة التي تلقتها الثورة من جهات عدة.
واليوم باتت محافظة إدلب في الشمال السوري المرهونة باتفاق "خفض التصعيد" في مواجهة قد تكون شبيهة لما حصل من خرق لهذا الاتفاق في حمص والغوطة ودرعا مؤخراً، وقد لا تكون، ولكن تغير المصالح الدولية ومراوغة الروس تفرض علينا لزاماً اتخاذ التدابير والاحترازات اللازمة لأي طارئ، لمنع أي انهيار مفاجئ شعبياً وإعلامياً وعسكرياً ومدنياً وأمنياً، وعدم التعويل على أي ضمانات أو تطمينات نقضت سابقاً واتخذت كإبر مسكن في مناطق عدة أخرها الجنوب السوري.
وربما ينتاب الحاضنة الشعبية التي وصلت لأكثر من 3 مليون إنسان في إدلب من شتى بقاع سوريا تساؤلات كبير وحالة تخوف لا يمكن إنكارها عن مصير إدلب وما ستؤول إليه في ظل تهديدات النظام والحملات الإعلامية المستمرة ضد المحافظة، لاسيما أن تثبيت نقاط المراقبة لم يفض لوقف إطلاق نار شامل وكذلك لم يوقف القصف، وهذا ما يزيد من مخاوفهم.
ومن خلال ما لمسناه سابقاً من غدر روسي وإيراني للمناطق التي صنفت على أنها ضمن اتفاقيات خفض التصعيد مع أن الأمر في إدلب مختلف قليلاً بوجود تركيا الدولة الجارة التي تتقاطع مصالحها مع مصالح أبناء المحافظة وقاطنيها في استمرار الهدوء والأمن، وكذلك كونها اول منطقة تثبت فيها نقاط مراقبة وتتمركز فيها قوات عسكرية إلا أن الاحتياط ووضع كل الاحتمالات أمراً لابد منه في ظل هذه الظروف المريرة التي تواجه سوريا والثورة السورية.
مصير إدلب اليوم مرهون في الدرجة الأولى بـ "وحدة قرارها" على كافة المستويات أبرزها عسكرياً والتي تتطلب من جميع الفصائل إعادة الثقة بينها وبين الحاضنة الشعبية سريعاً من خلال إعلان غرفة علميات شاملة والإسراع في تثبيت خطوط دفاعاتها والتحرك سريعاً لتنظيم صفوفها ووضع الخطط اللازمة لأي مواجهة قد تحصل في حالة استنفار تامة، من شانها أن تطمئن الحاضنة الشعبية التي ستقف لامحال مع الفصائل وتدعمها في حال لمست منها الجدية والصدق في التحرك.
كذلك يلقى على عاتق الفصائل تشكيل قوة أمنية سريعة لحفظ الأمن في المناطق المحررة وتأمين حماية المدنيين من الخلايا التي قد تتحرك في حال أي عدوان او هجوم لاسيما خلايا المصالحات التي تعمل على تفكيك كل منطقة على حدة واستمالتها لصالح النظام وقبول التسوية، وكذلك تنظيم القطاعات المدنية ووقف التضييق على المدنيين وترك الجهات الإنسانية والطبية وفرق الاستجابة تنظم نفسها وتتخذ تدابير الطوارئ بعيداً عن تدخلها واستغلالها.
كما أن توحيد القرار الإعلامي والعمل على مواجهة الحرب الإعلامية وطمأنة الحاضنة الشعبية أمر بالغ في الأهمية، لمواكبة أي طارئ ومواجهة الحملات المشوهة التي تعمل على خلق الفوضى والوهن في نفوس المدنيين، في وقت ينقل الإعلام الواقع ويكون صادقاً مع نفسه ومع الحاضنة الشعبية دون مراوغة أو التفاف بما يخدم قضيتنا، كون النظام يعول على الحملات الإعلامية بشكل كبير وهذا ما لمسناه في حملات الغوطة الشرقية وحمص ودرعا مؤخراً.
إن "وحدة القرار" في إدلب لكافة فعالياتها الشعبية والمدنية والعسكرية والإعلامية والإنسانية بأنواعها هو وحده الكفيل بحفظ إدلب وحمايتها من السقوط، دون التعويل على أي دعم خارجي أي كان، فإدلب تملك مقومات كبيرة للصمود، وطاقات بشرية وعسكرية وإمكانيات لوجستية كبيرة ولكن لن تنفع إلا أن كانت جميعاً تحكم بقرار موحد وتنظيم ودراية بخطورة الوضع الراهن في تاريخ الثورة وإلا فإن مصيرها لن يكون بأقل من سابقاتها وهذا ما يحتم علينا العمل جاهدين للضغط بشتى الوسائل حتى تحقيق "وحدة القرار" لأن المصير سيكون واحد في السلم والحرب.
في ردّه على المساعي التي تقوم بها الولايات المتحدة لقطع صادرات النفط الإيرانية، وتشديد الضغط على طهران، لتحدّ من تدخلاتها في دول الجوار العربية، قال الرئيس الإيراني، حسن روحاني، مستغلا زيارته جنيف، ولقاءه الاثنين الماضي رئيس الاتحاد السويسري، آلان برسيه، إن "افتراض أن إيران ستصبح المنتج الوحيد غير القادر على تصدير نفطه خاطئ، ومحض خيال وجائر. الولايات المتحدة لن تستطيع قطع إيرادات إيران من النفط". واعتبر أن "سيناريو من هذا النوع يعني أن تفرض الولايات المتحدة سياسة إمبريالية، في انتهاكٍ فاضحٍ للقوانين والأعراف الدولية. العقوبات غير العادلة المفروضة على أمّةٍ عظيمة، هي أضخم انتهاك لحقوق الإنسان يمكن تصوّره". ولمزيد من التفصيل بشأن الرد الذي يمكن لطهران أن توجهه لواشنطن وحلفائها، أضاف في هذه الحالة قول وزير داخليته، عبد الرضا رحماني فضلي، محذرا الأوروبيين: "إذا أغمضنا عيوننا 24 ساعة سيذهب مليون لاجئ إلى أوروبا عبر حدودنا الغربية" من خلال تركيا، بالإضافة إلى إمكان تهريب نحو خمسة آلاف طنّ من المخدرات إلى الغرب. وهذا تهديدٌ مباشر لأوروبا التي تمسّكت بالاتفاق النووي، ودافعت عنه في وجه واشنطن.
ما أثار انتباهي ليس تهديد وزير الداخلية، وإنما أن الرئيس روحاني لا يجهل مفاهيم الامبريالية ومعنى القوانين والأعراف الدولية، بل إنه يحسّ بأن هناك شيئا اسمه حقوق إنسان. لكنه لا يرى انطباق أي من هذه المفاهيم والمعاني والحقوق على ما تقوم به الدولة التي هو رئيسها من انتهاكٍ صارخ لها في بلدان الجوار، والتي تكاد تنطبق حرفيا على ما يتهم به الولايات المتحدة. فكما هو واضح، يشكل تحجيم دور إيران الإقليمي، واحتواء عدوانيتها الطافحة، وإجبارها على إعادة مليشياتها الطائفية إلى داخل حدودها، على الأقل كما تصرح به حكومة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وما تخشى منه علنا طهران، يشكل الهدف الرئيسي لسياسات فرض العقوبات الدولية على إيران، ومنها قطع شريان المال المستخدم في تمويل الأعمال التخريبية للمليشيات الإيرانية في بعض الدول، من خلال تقليص صادراتها النفطية. بمعنى آخر، ما تطمح إليه عقوبات الرئيس الأميركي يتمثل بالضبط في احتواء ما ينبغي تسميته، اقتداءً بروحاني نفسه، سياسة طهران الإمبريالية، وخرقها القوانين والأعراف الدولية التي تنص على احترام سيادة الدول واستقلالها وحقوق شعوبها في تقرير مصيرها، وانتهاكاتها غير المسبوقة لحقوق الإنسان واعتدائها الظالم والمدمر على شعوبٍ ودولٍ لا تقل أحقية في السلام والأمن والبقاء من الأمة الإيرانية "العظيمة". وهذا يعني باختصار إجبارها علي وقف سياساتها التخريبية، وتقويضها أسس الحياة السياسية والاجتماعية والدينية في محيطها المشرقي المباشر، من أجل تحقيق مصالح لا يمكن وصفها، ولا يصفها الإيرانيون أنفسهم إلا بالسعي إلى الهيمنة، بل والاحتلال وتوسيع دائرة النفوذ في المنطقة، أي بمصالح إمبريالية. لماذا يحق في هذه الحالة لإيران أن تحمي سياساتها الإمبريالية في الشرق، وتفتخر بسيطرتها على أربع عواصم لدول أخرى مستقلة، وإرسالها المليشيات والأسلحة والأموال والخبراء والمستشارين العسكريين وغير العسكريين إلى خارج حدودها، من أجل تمكين نظام استبدادي دموي، فاسد وفاقد أي مقومات للحكم السياسي، من ذبح شعبه وإخراجه من وطنه، ولا يحقّ لترامب الذي يرأس بلدا هو مركز الإمبريالية، وموطنها الأكبر، وقاعدتها الرئيسية، الضغط عليها للحد من أطماعها التوسعية، ووضع حد لسعيها إلى انتزاع السيطرة على الشرق الأوسط منه، ومن شركائه، والحكم بالإعدام السياسي على شعوب المنطقة وتحويل دولها، كما حصل في لبنان وسورية، إلى أدواتٍ وبيادق تستخدمها إيران لفرض إرادتها على محيطها والمجتمع الدولي؟
لا يبرر ما تقوم به إيران الخامنئية سياسات الولايات المتحدة الأميركية، ولا يعفيها من أي مسؤولية. وهي بالتأكيد المسؤولة الرئيسية عن الخراب الذي يعم منطقة الشرق الأوسط اليوم، بما في ذلك في إيران، سواء بسبب سياساتها التدخلية، وفي مقدمتها تدخلها الكارثي في العراق، في حربين متتاليتين دمرتا أسس التوازنات الإقليمية عامي 1991 و2003، أو بسبب تشجيعها إيران التي كانت المستفيدة الرئيسية من انهيار العراق، على مد نفوذها إلى سورية، وتغذية الوهم بإمكانية ابتلاعها لها، وضمها إلى ما أطلقت عليه اسم الهلال الشيعي، والذي فتح الباب أمام حربٍ مذهبيةٍ دينيةٍ عصفت بالمنطقة، وسوف تدمر آخر ما تبقى من مكتسباتها المدنية والعمرانية والسياسية الحديثة.
مشكلة طهران هي بالضبط أنها تريد أن تكون ندّا للولايات المتحدة الإمبريالية، وتعمل مثلها، وهي تطلب من الجميع، بمن فيهم ضحاياها، أن يعترفوا لها ويسلموا بهذا الحق. وإن لم يقبلوا ذلك، فسيكون الرد تماما كما ذكّر به وزير الداخلية الإيراني، تصدير اللاجئين وأطنان المخدرات إلى الغرب، وتمويل المليشيات المذهبية والحشود الطائفية المدرّبة على القتل في دول الشرق. واضحٌ أن خيارات بلدان المنطقة لا يمكن أن تكون في نظر طهران سوى القبول بإحدى الإمبرياليتين، الإيرانية أو الأميركية. ولأن إيران بنت المنطقة، ومن صلبها فهي صاحبة الشرعية الوحيدة في التحكّم بمصير شعوبها، وتجاوز الأعراف والتقاليد والقوانين الدولية وانتهاك حقوق الإنسان فيها.
هذا هو أيضا مضمون السياسة التي يسير عليها بشار الأسد الذي عمل، في السنوات الماضية، عميلا علينا لإيران، والذي لا يكفّ، في موضوع أزمة بلده، والحرب التي تطحنها بسببه منذ سبع سنوات، عن الحديث عن الحل السياسي. وعندما تأتي فرصة الحل وتعلن الفصائل والمعارضة استعدادها لكل الخيارات، يأبى أن يعترف بالمعارضة إلا كإرهابيين، ولا يجد ما يعرضه على ملايين السوريين من المدنيين، وليس المقاتلين المسلحين فحسب، سوى الاختيار بين الموت بكرامة تحت قنابل البراميل المتفجرة والغازات السامة أو الموت مجانا بسلاح الانتقام والإعدام أو جوعا وعطشا ومرضا في معسكرات الاعتقال التي أصبحت تسمّى مخيمات.
في النهاية، لم تنتصر إيران، ولن تربح شيئا، لأنها على الرغم من جنون عظمة قادتها الحاليين، أخفقت بالضبط في بناء عظمتها القومية، أي في تنمية إيران، والعناية بشروط حياة شعبها، وتحولت إلى دولةٍ لا هم لها سوى خدمة مليشيات محلية وخارجية، اسمها الحرس الثوري وأزلامه ومريدوه من الطبقة الفاسدة الدينية وغير الدينية، وترك الشعب الذي يصرخ، ويطالب حكومته، أكثر مما يفعل السوريون أنفسهم، بخروج هذه المليشيات من سورية، والكفّ عن استخدامها ذريعةً لتبرير استمرار حكم القتل والإبادة الجماعية واللصوصية والفساد. وطالما بقيت طهران على هذه الحال، ستخسر إيران، مهما أرسلت إلى أوروبا من لاجئين، وصدرت للغرب من مخدرات ومهربين وقتلة وإرهابيين. وسوف تنقل الأزمة إلى داخلها، وتشتعل فيها النيران، كما أشعلتها هي نفسها بمساعدة أتباعها في سورية ولبنان والعراق واليمن، وغيرها من البلدان.
وإذا كان الأسد، كما تبين بوضوح اليوم، قد عمل معولا لتدمير سورية، وفرط عقد شعبها، وتشتيته، وإرساله، بمساعدة طهران، ملايين النازحين واللاجئين إلى أوروبا والعالم، فقد كانت طهران، وحكومتها الحريصة على حقوق الإنسان من الانتهاكات الأميركية الخطيرة لها، هي من دون شك اليد البديل التي استخدمتها تل أبيب، للقيام بالمهمة عوضا عنها. واستغلت من أجل ذلك العزف على عظمة الأمة الإيرانية الغالية على قلب روحاني ومليشياته، وشجعتهم بنأيها عن النفس، وتركها الحبل ممدودا لهم، كما كانت واشنطن قد شجّعت صدام حسين في 1991 على غزو الكويت، على أساس أنها لا تتدخل في النزاعات العربية. في النهاية، ليس أمام طهران اليوم لإنقاذ مشروعها الامبريالي الرثّ إلا التفاهم مع تل أبيب، والتعاون والتنسيق معها، وهو ما يلوح في الأفق، ولو عن طريق الوسيط الروسي، أو الاستمرار في لعب ورقة الخراب الشامل، كما عرّفنا عليها وزير الداخلية، عبد الرضا رحماني فضلي، ناسيا عمدا التهديد بسيف الإرهاب الذي كانت إيران أول من عمم استخدامه في العلاقات الدولية، بالإضافة إلى ملايين اللاجئين وأطنان المخدرات.
ألم يعد يوجد في هذا البلد العريق رجل حكيم أو رشيد؟
ينقل الصحافي الأميركي، ديفيد أغناطيوس، في مقال له نشر في صحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي، عن معارض سوري اتهامه الولايات المتحدة بـ"الخيانة"، وذلك لسماحها لقوات النظام السوري، مدعومة بغطاء جوي روسي كثيف، بشن هجوم واسع على الجنوب، والجنوب الغربي من البلاد، الخاضعيْن لسيطرة المعارضة إلى حد كبير، على الأقل إلى الآن. وحسب مصادر المعارضة السورية، أبلغتهم واشنطن، منتصف الشهر الماضي، أنها لن تتدخل لحمايتهم في الجنوب، في حال تقدمت قوات النظام إلى مناطقهم، على الرغم من تحذير قوي كانت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد وجهته، شهر مايو/ أيار الماضي، لنظام بشار الأسد، بأنها ستتخذ "إجراءات حازمة ومتناسبة" للحفاظ على "اتفاق خفض التصعيد" في الجنوب السوري، وتحديدا في منطقة درعا على الحدود الأردنية. وكانت الولايات المتحدة وروسيا والأردن قد توصلوا، العام الماضي، إلى اتفاق لشمل مدينة درعا ضمن منطقة "خفض التصعيد" في الجنوب، وذلك في استكمال اتفاق إنشاء أربع مناطق لـ"خفض التصعيد" على مستوى سورية، اتفقت عليها روسيا وتركيا وإيران العام الماضي: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. ومعلوم كيف ألغى النظام السوري، بدعم وغطاء روسيين، مناطق خفض التصعيد واحدة واحدة، كان آخرها الغوطة الشرقية، شهر أبريل/ نيسان الماضي، بحيث لم يبق الآن إلا المنطقة الجنوبية، وامتداداتها في الجنوب الغربي، على الحدود مع فلسطين المحتلة.
أكتب هذه السطور في ساعات الفجر الأولى ليوم الخميس (5/7) من شمال الأردن، الذي أزور الآن، وتحديدا مدينة إربد، من على بعد حوالي 35 كيلومترا عن مدينة درعا السورية، و45 كيلومترا عن بلدة طفس في ريفها. لا أسمع فحسب صوت القصف الذي تتعدّد أنواعه ومصادر أسلحته، بل يهتز البيت الذي أقيم فيه مرات ومرات في الساعة الواحدة من شدة القصف، ويرتج زجاجه، على الرغم من المسافة البعيدة نسبيا عن مواقع العمليات العسكرية. ولك الآن أن تتخيل نوعية (وحجم) العدوان الوحشي الذي يشنه النظام بغطاء جوي روسي، وبدعم من قوات إيرانية ومليشيات لبنانية وعراقية وغيرهما، على مئات آلاف من المدنيين السوريين العزّل، وهو ما دفع عشرات الآلاف منهم إلى النزوح نحو الأردن الذي أغلق حدوده أمامهم بذريعة عجزه عن استيعاب مزيد من اللاجئين. لا يمكن لمن يملك ذرة من ضمير وموضوعية أن يلوم المدنيين السوريين العزّل، في نزوحهم عن أرضهم طلبا لأمن بعيد المنال، وكرامة أصبحت مستباحة، فمجازر نظام الأسد وحلفائه في الغوطة الشرقية وحلب، وغيرهما، ما زالت حية وحاضرة بقوة.
وعودة إلى مسألة "الخيانة" الأميركية التي يتحدث عنها بعض زعماء المعارضة السورية، وهي تحمل كثيرا من الصِّدْقِيَّةِ. منذ انطلقت الثورة السورية عام 2011، ذهبت كل الوعود والتطمينات الأميركية لقيادات المعارضة أدراج الرياح. لم يكن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، أشرف من ترامب. توعد النظام إن تجرأ واستخدم السلاح الكيميائي ضد شعبه، فكان أن استخدمه الأسد عام 2012، فمسح أوباما "خطه الأحمر"، وقايض دماء السوريين ببعض السلاح الكيميائي حماية لإسرائيل. ثمَّ إنه وعد بعض فصائلهم المقاتلة بالتسليح والدعم اللوجستي، لكنه حرمهم من الأسلحة الفتاكة، وتركهم حمى مستباحا لطيران النظام، ذلك أنه رفض تزويدهم بصواريخ مضادّة للطيران الحربي. ثمّ كانت الطعنة الأخرى التي وجهها لهم بدعم الانفصاليين الأكراد على حسابهم بذريعة محاربة "داعش"، وصولا إلى التدخل العسكري الروسي في سورية، عام 2015، الذي اكتفى أوباما حياله بالتنديد.
أما ترامب، وعلى الرغم من أنه أقدم مرتين على قصفٍ محدود لقوات النظام السوري، بعد ثبوت استخدامه غازات سامة، في ريف حمص الشرقي العام الماضي، وفي الغوطة الشرقية هذا العام، إلا أنه أوقف برنامج تدريب بعض الفصائل السورية المقاتلة وتسليحها، وعزّز من دعم الانفصاليين الأكراد. الأخطر من ذلك ما تسرب، في الأسبوعين الأخيرين، عن أنباء اتفاق أميركي – روسي – إسرائيلي، يسمح للأسد بالبقاء رئيسا، وهو ما تريده روسيا، مقابل أن تلجم الأخيرة النفوذ الإيراني في سورية، وهو ما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل. لا تأخذ هذه المقايضة المدنسة في اعتبارها تضحيات السوريين، والجرائم التي ارتكبها نظام الأسد بحقهم، والتي لا تتوقف عند قتل مئات الآلاف من شعبه، ولجوء ونزوح أكثر من اثني عشر مليونا منهم، وتدمير معظم البلد، وتشظيته إلى مناطق نفوذٍ، تتصارع عليها قوى دولية وإقليمية، ومليشيات طائفية، وعصابات محلية. لا يهم هذا كله الولايات المتحدة، المهم الحفاظ على أمن إسرائيل، وهو ما تكشفه البنود المسرّبة للاتفاق المفترض، والتي تتضمن إبعاد إيران ومليشياتها مسافة ثمانين كيلومترا عن الحدود مع فلسطين المحتلة، والسماح لإسرائيل بحرية استهداف أي تهديد إيراني مفترض داخل الأراضي السورية. وفي المقابل، يبقى الأسد على رأس النظام، ويسمح له باستعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية على الحدود مع الأردن، وعلى المنطقة الجنوبية الغربية على الحدود مع فلسطين المحتلة.
ما سبق كله أمور تؤهل الولايات المتحدة لتكون شريكا لنظام الأسد والروس والإيرانيين، والمليشيات التابعة لهم، في الجريمة بحق سورية وشعبها. ولكن لا ينبغي لهذا أن ينسينا جرائم أخرى ارتكبها قادة كثيرون في المعارضة السورية، وفصائلها المقاتلة، بحق ثورتهم. تشرذمهم منذ اليوم الأول وتنافسهم على القيادة. تصارعهم على مناطق النفوذ والوجهة الإيديولوجية للثورة. ورهن كثيرين منهم قراراتهم لعواصم عربية وإقليمية ودولية لا تريد الخير لسورية، ولا لثورتها. الثورة السورية موءودة، ومتآمر عليها في آن. الوائِدُ ليس أجنبيا، بل هو من أهل القضية والدار، أما المتآمر فقد يكون أجنبيا، وقد يكون من أبناء الدار. ظنَّ كثير من المعارضة أن تزلّفهم إلى الولايات المتحدة هو مفتاح نجاح الثورة، وظن بعض منهم أن كسب قلب تل أبيب أقصر الطرق لضمان الدعم الأميركي. لم يكن هذا ولا ذاك هو الطريق، وهذا ما أثبتته الأيام. ما زلت أذكر ذلك القيادي السوري المعارض الذي زارنا عام 2011 في الولايات المتحدة، ليحدّثنا بتباه عن اجتماع عقده في وزارة الخارجية الأميركية بشأن الوضع في سورية. لم يتردد ذلك المعارض في البوح لنا "إدراكهم" (أي بعض المعارضة) أن ما تريده الولايات المتحدة هو ضمان أمن إسرائيل، وَصَدَمَنا بالقول: تريد إسرائيل الثمن في الجولان، ونحن مستعدون لهذا الثمن من أجل نجاح الثورة السورية. ذلك لقاء عليه شهود، وأذكر يومها أني قلت للمعارض العتيد: الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية، ولا هي تدار بهذه الطريقة، ونظام ضعيف يحكمه الأسد خير لإسرائيل من معارضةٍ لا يُعْرَفُ كنهها ولم تختبر.
على أي حال، ذلك زمن انقضى. لم يكن جُلُّ المعارضة السورية ممن راموا المتاجرة بوطنهم وقضيتهم، ورهنهما لتجاذبات إقليمية للتخلص من الأسد، لكن أولئك القلة أوهنوا الثورة، وخذلوا، بل وخانوا الشعب السوري العظيم الذي سطر واحدةً من أعظم ملاحم التمرّد على طاغية دموي، وحلفائه المتوحشين، في العصر الحديث. وحتى انتصار الثورة، نقول: لك الله، يا سورية، وذلك بعد أن تخلى عنك القريب قبل البعيد.
ما يعيد الحقوق لجميع اللبنانيين يبدأ بنبذ كل سلاح غير شرعي، وصولا إلى الاعتراف بأن هناك حقوقا للبنانيين جميعا ضمنها اتفاق الطائف، رغم وجود بعض الثغرات فيه.
ليس معروفا هل إصرار “حزب الله” على تشكيل حكومة لبنانية على مقاسه مرتبط بقراءة خاطئة للموازين الإقليمية أم أنّه عائد إلى حاجة إيرانية إلى إثبات أن لبنان ورقة في جيب طهران ليس إلا؟
أن تسعى إيران إلى إثبات أن لبنان ورقة من أوراقها الإقليمية دليل ضعف وليس دليل قوّة. تستطيع إيران استخدام ورقة جنوب لبنان. ولكن ما الذي ستكون عليه نتيجة ذلك، خصوصا أن الجميع بات يعرف أن أي فتح لجبهة جنوب لبنان سيكون مختلفا إلى حدّ كبير عن حرب صيف العام 2006 التي سمحت فيها إسرائيل لـ“حزب الله” بالانتصار على لبنان واللبنانيين لحسابات خاصة بها. ليس سرّا لدى كل من لديه علاقة بالسياسة الدولية والإقليمية، من بعيد أو قريب، أن أي حرب جديدة يمكن أن يتسبب بها “حزب الله” ستعود بكارثة على البلد. كارثة بكلّ معنى الكلمة، خصوصا في ظلّ وجود إدارة أميركية ليست مستعدة لممارسة أي نوع من الضغوط على إسرائيل. على العكس من ذلك، تبدو هذه الإدارة في توافق تام معها. لا حاجة إلى دليل على ذلك أكثر من دليل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إلى المدينة المقدّسة.
يثير ما نشهده حاليا في لبنان من مناورات يقف خلفها “حزب الله”، من بعيد طبعا، تساؤلات في شأن السبب الحقيقي للإصرار على أن يقبل الرئيس سعد الحريري بما لا يستطيع القبول به بأيّ شكل… أي بحكومة تعاني في تركيبتها من خلل كبير تعبّر عنه الرغبة في تهميش “تيار المستقبل” و“القوات اللبنانية” و“الحزب التقدمي الاشتراكي” الذي يتزعمه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط.
من يضغط في اتجاه تشكيل مثل هذه الحكومة لا يعرف أنّ مثل هذه المناورات مرفوضة، وأن اللبنانيين الذين انتفضوا على الوصاية السورية في 2005 لن يرضخوا للوصاية الإيرانية في السنة 2018.
قبل كل شيء، لا تسمح تركيبة مجلس النواب الجديد باعتبار أن هناك أكثرية وأقلّية، اللهم إلا إذا اعتبر “التيّار الوطني الحر” نفسه من ضمن النواب الـ74 الذين يرى الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني أنهم يمثلون الكتلة الإيرانية في البرلمان. إلى إشعار آخر، لم يصدر عن “التيار الوطني الحر” وعن رئيسه جبران باسيل ما يؤكّد ذلك. لكن الملفت أن كلّ تصرفات باسيل توحي بأنه ليس بعيدا عن هذا الجوّ الذي يعكس، إلى حد كبير رغبة، في تصفية حسابات قديمة مع سمير جعجع من جهة، ورغبة أخرى في الخروج عن اتفاق الطائف من جهة أخرى، وذلك من باب الحساسية الزائدة تجاه أهل السنّة وما يمثلونه على الصعيد الوطني والإقليمي.
بكلام أوضح، ليس من مصلحة لبنان الدخول في مغامرة من هذا النوع في وقت بات معروفا أن سعد الحريري، الذي بات كتاب التكليف في جيبه، لا يستطيع بأي شكل أن يرأس حكومة يشكلها له “حزب الله”.
إنّ الطفل اللبناني يعرف أن ثمّة حاجة قبل كلّ شيء إلى احترام اتفاق الطائف، وليس العمل على تقويضه من منطلق مقولة “العهد القوّي”. يمكن لأيّ عهد في لبنان أن يكون قويّا في حال التفاف اللبنانيين بكلّ طوائفهم حوله. يكون العهد قويّا عندما تتشكل حكومة قوية متوازنة وفاقية تأتي بمساعدات عربية ودولية قبل أيّ شيء آخر. وهذا يعني في طبيعة الحال مراعاة الأصول والقواعد والدستور، بدل الكلام الذي لا معنى له عن استعادة حقوق المسيحيين أو إعادة النازحين السوريين إلى أرضهم من دون مراعاة للوضع في الداخل السوري ولمواقف المنظمات الدولية المختصة التابعة للأمم المتحدة، في مقدّمها المفوضية العليا لشؤون اللاجئين. الأهم من ذلك كله أن القوي فعلا لا يستقوي على اللبنانيين الآخرين بسلاح “حزب الله” غير الشرعي. لا يمكن للبناني عموما وللمسيحي خصوصا تحقيق انتصارات من أيّ نوع بالاعتماد على سلاح غير شرعي تشهره ميليشيا مذهبية ليست، في نهاية المطاف، سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني.
وحدها لغة المنطق تجعل العهد قويا. والمنطق يقول إن من الضروري تشكيل حكومة يتمثل فيها الجميع وتضمّ كفاءات، وليس حكومة يتمتع فيها “حزب الله” بأكثرية الثلثين لتمرير أمور خاصة به وبإيران.
يخطئ من يعتقد أن “حزب الله” يمتلك أيّ مشروع ذي طابع حضاري للبنان. كلّ ما يهمّ الحزب هو استرضاء إيران وتعويض الخسائر التي لحقت بها على كلّ صعيد، بدءا بإيران نفسها. لو كان لدى النظام الإيراني نموذج يقدّمه للإيرانيين أوّلا، لما كان ما يزيد على نصف من المواطنين في هذا البلد الغنّي يعيشون تحت خط الفقر. لا يمتلك النظام الإيراني سوى آلة قمعية متطورة يستخدمها في مجال نشر البؤس والتخلف والفساد على كل صعيد. أما في الخارج، فلا يمتلك النظام الإيراني سوى الهرب المستمرّ إلى الأمام مستخدما أدواته المتمثلة في الميليشيات المذهبية التي يستثمر فيها منذ سنوات طويلة.
يندرج السعي إلى فرض حكومة لبنانية تكون بإمرة “حزب الله” في سياق الهرب الإيراني إلى الأمام. يريد النظام الإيراني أن يقول للإيرانيين إنّه يسيطر فعلا على بيروت التي أدرجها في قائمة العواصم العربية التي يتحكّم بها، أو على الأصح التي يعتقد أنّه يتحكّم بها. أضاف بيروت إلى بغداد ودمشق وصنعاء وذلك مباشرة بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014.
ليس طبيعيا أن تتشكل في لبنان حكومة غير طبيعية وذلك بغض النظر عمّا إذا كان المشروع التوسعي الإيراني يتقدّم أو يتراجع. الواقع الأقرب إلى الحقيقة أن هذا المشروع يتراجع. لم تتحمل إيران انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في شأن برنامجها النووي، كيف ستتحمل العقوبات الجديدة التي ستخنق صادراتها النفطية. لم تتحمّل مقتدى الصدر في العراق. ألغت نتائج الانتخابات لمجرّد ظهور توجه شعبي، لدى الشيعة خصوصا، يرفض الهيمنة التي تمارسها طهران على السياسيين العراقيين.
بعض التواضع أكثر من ضروري لبنانيا. لا حاجة إلى الدخول في تفاصيل الوضع السوري والمأزق الإيراني هناك والذي في أساسه أن لا وجود لأيّ قوة إقليمية أو دولية على استعداد للقبول باستمرار الوجود العسكري الإيراني في أرض سوريا.
كيف يمكن إيجاد ترجمة للتواضع اللبناني على الأرض؟ يبدأ ذلك بالاعتراف بأنّ سلاح “حزب الله” لا يعيد للمسيحيين حقوقهم، هذا إذا كانت للمسيحيين حقوق مغبونة بالفعل. ما يعيد الحقوق لجميع اللبنانيين يبدأ بنبذ كلّ سلاح غير شرعي، وصولا إلى الاعتراف بأنّ هناك حقوقا للبنانيين جميعا ضمنها اتفاق الطائف، على الرغم من وجود بعض الثغرات فيه. الخروج من الطائف عبر تشكيل حكومة بطريقة مضحكة تستهدف إظهار أن الكلام عن “العهد القوي” يمثل خروجا إلى المجهول، أي إلى “المؤتمر التأسيسي” الذي دعا إليه منذ سنوات عدة الأمين العام لـ“حزب الله” حسن نصرالله. إنّه الطريق الأقصر إلى المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين، بدل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
هل هذا المطلوب حاليا من وراء كلّ الضغوط غير المباشرة التي يمارسها “حزب الله” لتشكيل حكومة ترضي إيران في لبنان؟
على الرغم من أن كلاما كهذا لم يعد يقال، أشعر بأن الإرهاب الذي يحاربه العالم هو الإرهاب الصغير، إرهاب الفقراء والمأزومين وناقصي العقل والدين واليائسين، الذين يفجرون أنفسهم ضد عالم قذف بهم إلى حالٍ من العدم والخواء، لم تترك لحياتهم معنى، ولهم حاضر يستحق أن يعاش، ومستقبل يرجون أن يتحقق.
والغريب أن من يقتلهم كإرهابيين ليس خيرا منهم، بل هو أشد سوءا بكثير، بما يمتلكه من قوة وثروات، وتقدم تقني وخبرات سياسية، وما له من انتشار في البر والبحر والفضاء، ومن حضور ونفوذ في مؤسسات دولية، تضفي شرعية قانونية على إرهابه، أو تسكت عنه، مثلما تغطي منذ سبعة أعوام ونيف إرهاب روسيا وإيران والأسد في سورية، وتسكت عنه، وتعطي غزاة موسكو حق تعطيل النظام الدولي الذي يستمتع بإرهابها، ويغطي جرائمها بكل امتنان.
قتل الأسد وملالي طهران ومافيات الكرملين خمسمائة ضعف من قتلهما "داعش" و"القاعدة" من السوريين. واستخدموا، قبل ظهور هذيْن بأعوام، جميع أساليب القتل والإبادة والتعذيب وقطع الرؤوس وحرق الأحياء ودفنهم، وهي أساليب أعتقد جازما أن "داعش" و"القاعدة" اقتبساها منهم. كما فاق إرهاب الدولة الأسدي/ الإيراني/ الروسي الفائق التنظيم أي إرهاب آخر عرفه التاريخ القدية والحديث، بما في ذلك إرهاب المغول والتتار والنازية، واستخدم أساليب الكشف والدمار التي لا تبقي حياة فوق الأرض أو تحتها، ما لم يكن يخطر ببال أحد من إرهابيي العصور، وأقدم على ارتكاب جرائم لم تطوّر البشرية بعد لغة قادرة على وصفها، ربما لأن خيالها لم يتصور، خلال عشرات آلاف السنين من وجودها الأرضي، أنها قابلة للحدوث، أو أن منتميا إلى الجنس البشري يمكن أن يقدم على ارتكابها ضد أبرياء لا يعرفهم ولا يعرفونه، لا يكنون العداء له، ولا يقاتلونه. ومع ذلك، فعل بهم الأفاعيل ثم أبادهم، لمجرد أنه قوي وهم ضعفاء، وهو روسي وإيراني وأسدي وهم ليسوا كذلك، وأنه يريد أن يردع غيرهم، ويظهر لهم كم يستطيع الفتك بهم، وكيف عليهم الاستسلام له، متى قرّر إخضاعهم.
عندما ينظر سوري إلى ما يجري من نقض دولي لالتزامات واتفاقيات، ويعلم أنه تم في نيف ونصف عام، أعقب اتفاقيات خفض التوتر تهجير عدد من السوريين يفوق أعداد من رحلهم الإرهاب الكبير في أي عام آخر من أعوام الحرب، فإنه لا يبقى له غير التحسر على الإرهاب الصغير الداعشي/ القاعدي الذي تناسبت جرائمه مع إمكاناته المحدودة، بينما تعبر جرائم الدولة الأسدية/ الإيرانية/ الروسية عن قدرة غير محدودة على الإرهاب، في ظل قوةٍ لا حدود لها، يمتلكها قتلة محترفون، يمسكون بالحكم في دمشق وطهران وموسكو.
ليس هناك ما هو أخطر من الإرهاب الصغير غير استخدامه لتغطية إرهاب أكبر وأشد فتكا منه بكثير، يسمى سياسة، تحظى بغطاء قانوني وشرعي، وتطلق الأناشيد في الثناء عليه، وتمتدح خدماته للبشرية وتضحياته من أجل أمن العالم وسلامه، ودوره في ردع الإرهاب وقمعه، والقضاء عليه.
تنتظر عالمنا حقبة شديدة السواد، إن واصل انتقاله من الإرهاب الصغير إلى الكبير، كما تمارسه الأسدية وطهران وموسكو ضد شعب سوري اتهموه بالإرهاب، ليس لأنه قام بأعمال إرهابية، بل لأنه ثار من أجل حريته، التي لو سمح لها بالانتصار، لاجتثت الإرهاب الصغير، ولما كان هناك إرهاب دول كبير في سورية، تُرتكب جرائمه باسم الحرب ضد الإرهاب.
مشاركة 63
هل أن معركة درعا والجنوب السوري هي فعلاً إنهاء لفصل مهم من الحرب في سورية يقودها الدب الروسي، أم هي مقدمة لمرحلة جديدة من الصراع والحروب الممتدة في بلاد الشام؟
الافتراض الأول بأن إنهاء وجود المعارضة في الجنوب الغربي يتم بتوافق روسي - أميركي ضمني بعدما أبلغت واشنطن قادة فصائل «الجيش السوري الحر» أن تضامنها «الإعلامي» معهم لا يعني توقع تدخلها عسكرياً إلى جانبهم، سيقود إلى أن تظفر الإدارة الأميركية بمقابل لذلك يقضي بإخراج الميليشيات الإيرانية من الجنوب السوري وهو مطلب له أولوية إسرائيلية أميركية. لكن موسكو أعطت إشارات معاكسة، ونفذت في الساعات الماضية تهديدها الذي أطلقه الضابط الروسي الذي يقود المفاوضات مع الفصائل السورية المعارضة بأن 40 طائرة جاهزة لتدمير درعا إذا لم يقبلوا بالاستسلام وبتسليم السلاح الثقيل والمتوسط والانخراط في الفيلق الخامس أو الشرطة المحلية في المنطقة. بين الأمس وقبله كثف سلاح الجو الروسي غاراته إلى حد طاولت أطراف مخيمات للنازحين في محيطها. جاء ذلك بعد أن طلبت القيادة الروسية من القوات الإيرانية الانخراط في المعركة، ولهذا ظهر لواء «ذو الفقار» الذي صنعته طهران من مقاتلين عراقيين وأفغان وإيرانيين ولبنانيين... ليعلن قادته من الشاشات أنهم يشاركون في المعركة.
تستعجل موسكو إنهاء السيطرة على درعا، قبل لقاء القمة بين فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب. وهي تأمل بخفض البحث في الملف السوري إلى حدود ضمان أمن إسرائيل. وما كشفه الإعلام الإسرائيلي أمس عن نقل آلاف النازحين من درعا ومحيطها إلى منطقة منزوعة السلاح على الحدود مع الجولان السوري المحتل إلا دليل إلى نية استخدام هؤلاء لخلق شريط بشري يكون حجة لمنطقة آمنة لإسرائيل، يمكنها التدخل فيها لمنع أي وجود معاد، إيراني، بحجة حماية النازحين، الذين بلغ عددهم حتى أمس زهاء 275 ألفاً، 5 آلاف منهم فقط غادروا المدينة وضواحيها أمس فقط. يتوازى مع التطورات الميدانية إعلان الإسرائيليين «أننا سلمنا باستمرار الأسد في السلطة» وتوالي كتابات المعلقين في تل أبيب عن أن الأسد هو الحليف الأفضل للدولة العبرية. لم يكن في الأمر جديد سوى إعلانه بوضوح. فالجانب الإسرائيلي كان وراء إحجام حليفه الأميركي عن تقديم الدعم للمعارضة منذ عام 2011 بحجة الخشية من استخدام أي سلاح يتلقونه ضدها لاحقاً. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لم يأت على ذكر الرئيس السوري في مفردات تصريحاته التي تدين قتل السوريين ولا مرة، وكان يركز على وجود إيران وأذرعها و «حزب الله» فقط وهاجم النظام لسماحه له بالتوسع.
كثيرة هي الشواهد على أن هناك صفقة أميركية روسية نتيجة تفاهمات ستتم مناقشة جوانبها أثناء لقاء الرئيسين في هلسينكي في 16 الجاري. ولعل من يبحث عن الحجج لترجيح هذا الاحتمال يستطيع أن يستشهد بما ذكر عن أن «حزب الله» أخذ يسحب قوات له في سورية تمهيداً لتسهيل الحل السياسي فيها بعد درعا.
إلا أن الافتراض الثاني عن أن معركة درعا ستؤسس لمعارك جديدة خلافاً للتوقعات عن ولوج الحل السياسي عند انتهاء كل معركة من المناطق لإخراج المعارضة من حلب ثم غيرها من المناطق وصولاً إلى الغوطة الشرقية أخيراً،لا يقل أهمية. لم تغب تلك عن أذهان الذين يشاهدون عنف ما يجري في درعا أن اتباع موسكو مبدأ «نحن ندمر ولا نعمر» ما هو إلا مزيد من التوريط الأميركي لبوتين كي يغرق في الوحول والدماء السورية. ومثلما أن معركة درعا لن تكون سهلة خصوصاً لدى سكان حوران الذين يشكل الثأر والانتقام واحداً من قيمهم القبلية القديمة، فإن الوعد المفترض بإخراج ميليشيات إيران من سورية ليس نزهة هو بدوره. والحديث عن أن إخراج التشكيلات الإيرانية هو ثمن ستدفعه موسكو مقابل تسليمها سورية من جانب واشنطن، يقابله سؤال كبير عن الثمن الذي ستحصل عليه طهران لقاء مغادرتها سورية بعد التوظيف البشري والمالي والعسكري الذي قامت به في سورية طيلة عقود، ولا سيما بعد اندلاع الحرب فيها.
إذا تمكنت الآلة العسكرية الروسية من إنهاء معركة درعا ماذا يحول دون أن تنفذ الفصائل التي فضلت القتال على الاستسلام أو بعضها (في بياناتها الصادرة) بتحويل مقاومتها إلى حرب تحرير وعصابات من «الاحتلال الروسي» مع ما يعنيه ذلك من فوضى جديدة يصعب ضبطها؟ وماذا يمنع إذا دعمت طهران المقاومة ضد الاحتلال الروسي، (كما فعلت في العراق ضد الأميركيين) إذا أصرت موسكو على إخراجها من سورية؟
الفوضى المقبلة قد تشهد أيضاً سباقاً إيرانياً مع موسكو على التوافق مع واشنطن.
لم يسبق أن نظّمت دولة مثل روسيا «مونديال» كرة القدم فيما ترتكب جرائم حرب في بلد آخر، هو سورية، حيث تغير طائراتها على المدنيين في درعا، فتقتل العشرات وتتسبّب بتشريد ألوف العائلات. أليس في ذلك تناقض فاضح بين أهداف روسيا وأهداف «الفيفا»، بين أن تكون كأس العالم رسالة سلام ووئام، وأن تكون وسيلة دعائية لتبييض صفحة نظام استمر في سفك الدماء وأحدث الدمار على خلفية المباريات ودوي الهتاف لـ «الأغوال»، إذ تهزّ أشباك المرامي. ثمة لا أخلاقية دولية في التمسّك بـ «لا سياسة في الفوتبول» والتعامي عن مآسي الشعوب، فعندما اختيرت روسيا لتنظيم الدورة الـ21 للمونديال، لم يكن العالم قد نسي الوحشية التي أخضعت بها غروزني (الشيشان)، ولا استغلال الانشغال بأولمبياد بكين لاحتلال أوسيتيا الجنوبية وانتهاك أراضي جورجيا، وعندما حان موعد المونديال الحالي كانت روسيا أصبحت تحت عقوبات دولية بعد ابتلاعها شبه جزيرة القرم وشروعها في تقسيم أوكرانيا، ومن ثمَّ استدعاها النظام السوري المنبوذ دولياً لإنقاذه، ففعلت وتعاونت مع نظام إيراني، منبوذ دولياً هو الآخر، لتدشين نمط جديد من الاحتلال الاستعماري.
ليست هاشتاغات مثل «#كأس_حرب_ روسيا_2018# أو #مونديال_روسيا_السوري# ما يمكن أن يردع موسكو، إذ يقتصر تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على التعبير عما في الوجدان وتسليط الضوء على الفظاعات التي تمارسها بكل دمٍ بارد ومن دون أي حساسية. كان بعض المواقع الروسية زعم أن فلاديمير بوتين طلب من بنيامين نتانياهو أن تُوقف إسرائيل عمليات القصف في سورية طوال شهر المونديال لئلا «تُحرج» روسيا. لكن هذا الزعم كان تسريبة افتراضية كُذبت من الجانبين. فمن جهة، كان القصف الإسرائيلي موجعاً للنظام والإيرانيين في دير الزور ولـ «حزب الله» في القلمون، تحديداً في القصير، وليس مؤكّداً أن «الحزب» فرض تعتيماً على أنباء القصف لأنه أراد مثلاً عدم التشويش على المونديال. ومن جهة أخرى، استبقت الطائرات الروسية المونديال وخرقته بسلسلة غارات قاتلة لفتح الطرق أمام تقدّم الميليشيات الإيرانية، المتنكّرة بلباس قوات النظام والموصوفة كالعادة بأنها «قواته». وسيستلزم الوضع الميداني مزيداً من تدخّل الطيران الروسي لحسم في درعا، لأن عديد قوات «النمر» لا يكفي، وخطط ميليشيات إيران لا تفلح دائماً، وأيضاً لأنه لم يُترك سبيل آخر لمقاتلي الفصائل غير التصميم على الدفاع عن أرضهم وبيوتهم وذويهم، وبالتالي فإن بوتين سيسترشد مجدّداً بـ «نموذج غروزني» التدميري، وهو ما تخشاه قوافل النازحين في اتجاه حدود مقفلة أردنياً، وإسرائيلياً طبعاً.
كان لا بدّ لروسيا أن تتهيّأ للجنوب بصيغ أخرى غير الغزو والإخضاع، وأن لا تركن فقط إلى اتفاق مع إسرائيل على إبعاد الإيرانيين عن جبهة الجولان في الجنوب الغربي لتعتبر أن «مصالحات» نظام بشار الأسد ستعبّد الطريق إلى درعا من دون صعوبة. مصالحة، لكن كيف؟ بنقل أهالي حوران إلى إدلب؟ ولا أي «مصالحة» سابقة كانت حقيقية، ولا أي ضمانات روسية أو «تسوية أوضاع» للمقاتلين استطاعت الحؤول دون استئناف النظام انتهاكاته واعتقالاته، ولا وجود شرطة روسية استطاع طمأنة السكان وضمان سلامتهم ومنع الاعتداء على ممتلكاتهم. فالمعضلة الصعبة في استعادة النظام السيطرة، أنها عَنَت دائماً إخلاء المناطق وإذلال القليل من السكان الذي يبقى فيها وإفلات زُمَر «التعفيش» لنهب ممتلكات الذين غادروها، وكذلك إدخال قطعان المستوطنين الإيرانيين ليباشروا خطط التغيير الديموغرافي.
فأي «مصالحة» يتفاوض ضباط حميميم عليها مع ممثلي فصائل درعا؟ نعم، كان هناك بند عنوانه «عدم تهجير السكان»، لكن يُفترض أن هؤلاء الضباط باتوا يعرفون شيئاً عن صعوبات التعايش بين الناس وبين نظام عاملهم ولا يزال بكل وحشيته التي تضاعفت مع الدعم الروسي - الإيراني. فـ «المصالحات» لم تجدّد التعايش بل أعادت إنتاج سياسات القهر التي أدّت إلى ما تعيشه سورية منذ سبعة أعوام. حتى لو كانت خطة «مناطق خفض التصعيد» خدعة في الأساس، فقد تم تقديمها على أنها مرحلة على طريق إنهاء الحرب، ولا بدّ أن يواكبها تقدّم ملموس على مسارات الحل السياسي. وهو ما لم يحصل وما يمثل ذروة الفشل الروسي، إذ حوّلها النظام وحليفه الإيراني خطة لمواصلة الحرب وإنهاء سيطرة المعارضة في كل المناطق، مع رفضٍ مطلق لأي بحث في حلّ سياسي ما لم تُستَعَد السيطرة كاملة.
لكن النظام لم يعد يملك الإمكانات لفرض هذه السيطرة إلا بالاعتماد على حليفه الإيراني. وهذا ما ظهر في درعا حيث تخوض ميليشيات طهران المعارك وحدها تقريباً، إذ استُبعد العلويون إلا بأعداد رمزية وأحجم دروز السويداء عن المشاركة. وعدا ذلك أصبح معروفاً أن النظام يعوّل على أجهزته لتسريع إعادة تجنيد مقاتلين كانوا في الغوطة ومناطق أخرى ولالتقاط أي شخص يمكن تجنيده، في موازاة الاعتماد على «حزب الله» والأجهزة اللبنانية لتجنيد نازحين سوريين بعد إرغامهم على العودة. لا شك أن النظام يعتمد في تعنّته على ما أصبح معروفاً وشبه معلن، وهو أن الروس والأميركيين والإسرائيليين متوافقون منذ إدارة باراك اوباما، وأيضاً مع إدارة دونالد ترامب، على جملة أهداف في سورية. أولها مكافحة الإرهاب، وثانيها إخماد الجانب العسكري من انتفاضة الشعب، وثالثها - لكن «أهونها» على ما يبدو!- النظام وسلوكه باجتذاب الإرهاب واستثمار عسكرة الانتفاضة. استفاد النظام إلى أقصى حدّ من ورقة الإرهاب التي صنّعها مع الإيرانيين، ومن العسكرة التي غدت أسلمة تثير مخاوف الغرب، ويراهن على تمسّك الروس والإيرانيين بالأسد للتغلّب على ممانعة الدول الغربية إعادة تأهيله.
هذه الدول، بما فيها الولايات المتحدة، مستعدة للتغاضي عن بقاء الأسد لقاء تسليم سورية كلياً إلى روسيا والتعامل معها بناء على الضمانات التي تستطيع تقديمها. وأولها على الإطلاق إخراج الإيرانيين أو على الأقل سحب الجانب العسكري من وجودهم، فالأميركيون والإسرائيليون يضمنون بقاء الأسد ويتوقّعون منه تعاوناً ملموساً في عملية التخلّص من الإيرانيين. لكن طهران لا تطمئن إلى مصالحها إلا إذا كانت لديها بنية عسكرية تحميها. ومنذ أعلن بوتين ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من سورية استطاع الإيرانيون تخويف الأسد بأنه إذا أجبره الروس على الاستغناء عنهم فهذا سيعني تلقائياً نهايته ونهاية نظامه. وبعد سلسلة الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية، بدأ الهمس في الحلقات القريبة من النظام بأن طهران بدأت عملياً وضع سيناريوات للمرحلة الأسوأ، فهي لن تخوض مواجهة مع الروس، لكنها قد تلعب ورقة «المقاومة» ضدّهم معتمدة على المجموعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» وبقايا «داعش»، ولن تمتنع عن التواصل مع فلول فصائل مقاتلة لم تعد تتلقى أي دعم خارجي، تحت عناوين «إجلاء الروس» أو «تحرير الجولان». وبمقدار ما يتخوّف النظام من صدام روسي - إيراني، مباشر أو غير مباشر، بمقدار ما يحاول إيجاد الصيغة المناسبة لاستغلال هذا الاحتمال لمصلحته.
أما الضمانات الأخرى المطلوبة من روسيا فيركّز عليها الأوروبيون، إذ إن سكوتهم على بقاء الأسد من دون التعامل الرسمي معه مشروط بأمرين مترابطين: حل سياسي ولو بطيء من طريق اللجنة الدستورية، وخطة إعادة إعمار مبنية على استعادة النازحين واللاجئين. إذا لم يُحرَز تقدم في هذين الاستحقاقَين، فإن الأوروبيين (والعرب) لن يرصدوا أي أموال للمساهمة في تطبيع الوضع السوري. للمرّة الأولى منذ تغيّرت موازين القوى لمصلحته، بدأ النظام يستشعر صعوبة استعادة السيطرة، فالدولة مفلسة ولا موارد لها. لذلك، يصرّ النظام على فتح معبر نصيب الحدودي مع الأردن لإنعاش الخط التجاري، ويحاول التصالح مع الأكراد في الشمال لاستعادة حقول النفط، ويأمل بأن يتمكّن الروس من تعديل الموقف التركي. لكن ذلك كله لن يكفي مرحلة «السيطرة المستعادة» لتلبية المتطلّبات الهائلة في البيئة الموالية قبل تلك المعارضة.
لم تتوقف إيران عن إصرارها على مواصلة تمددها الاحتلالي في العديد من الدول العربية منذ أنْ بدأت «مبكراً»، قبل نحو خمسة عشر عاماً، بالإعلان عما وصفته بـ«الهلال الشيعي» الذي يبدأ أحد طرفيه باليمن وينتهي في لبنان، على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، مروراً ببعض دول الخليج العربي، الذي تسميه الخليج الفارسي، وبالطبع بالعراق وسوريا، ولعل آخر ما سمعناه بهذا الصدد ذلك التصريح الذي كان قد أطلقه علي خامنئي وأكد فيه أنَّ طهران لن تتخلى عن تمددها في الدول العربية التي توجد فيها والتي وصفها أكثر من مسؤول إيراني كبير بأنها تشكل مجالاً حيوياً لبلاده.
والواضح، لا بل المؤكد، أن إيران لا يمكن أن تنسحب لا من العراق ولا من سوريا وأيضاً ولا من لبنان إلّا بالمواجهة وبالقوة العسكرية وعلى غرار ما يجري الآن في اليمن حيث يشكّل الحوثيون مجرد غطاءٍ زائف لاحتلالٍ عسكري إيراني يشارك فيه «حزب الله» اللبناني الذي وصفه «صاحبه» حسن نصر الله بأنه لواء مقاتل في فيلق الولي الفقيه، ومثله مثل كل هذه الزمر والمجموعات الطائفية والمذهبية التي تقاتل على الأرض السورية والتي تم استيرادها من العراق ومن أفغانستان وباكستان والهند... ومن كل حدبٍ وصوبٍ كما يقال.
لقد اتخذ التدخل الإيراني كل الأشكال الاحتلالية البغيضة واستخدم «الرايات الشيعية» كمجرد غطاءٍ لأهداف ودوافع سياسية متعددة وكثيرة أهمها الحفاظ على هذا النظام البائس فعلاً الذي بدأ ومنذ سنواته الأولى بعد عام 1979 يواجه تحديات داخلية أكثر كثيراً وأخطر من كل تحدياته الخارجية.
إن المعروف أنّ هذا النظام كان قد ارتكب مذابح حقيقية بشعة بعد انتصار ثورته بأيام قليلة ضد أكراد كرمنشاه، لا لقمع ثورة قاموا بها ضده ولكن لاعتراض مطالبهم المحقة بأن تتم مساواتهم، كأتباع لـ«المذهب السني»، بمواطنيهم من الفرس والآذاريين وغيرهم من أتباع المذهب الشيعي الذي إذا أردنا قول الحقيقة فإنه استُخدم ولا يزال يستخدم غطاءً لكل عمليات القمع هذه السابقة واللاحقة التي قام بها حراس الثورة. وقامت الاستخبارات «اطّلاعات» الإيرانية التي تجاوزت بأفعالها الشنيعة أقصى ما كان يفعله جهاز الـ«سافاك» في عهد الشاه السابق محمد رضا بهلوي.
وهكذا، فإن المعروف أيضاً أن كل تجارب التاريخ، إنْ في منطقتنا وإنْ في العالم بأسره، تؤكد أنه عندما تبدأ دولة من الدول في المعاناة من أزمة أو أزمات داخلية فإنها تبادر من قبيل تصدير معاناتها وأزماتها إلى الخارج فِعْل كل هذا الذي فعلته إيران إنْ سابقاً بتفجير حرب الأعوام الثمانية مع العراق وإنْ لاحقاً من خلال كل هذا التمدد العسكري «الاحتلالي» في العراق وفي سوريا وفي لبنان... وأيضاً في اليمن ولاحقاً في ليبيا التي عندما كانت «جماهيرية» بقيادة العقيد معمر القذافي كانت من أقرب الحلفاء للدولة الخمينية.
إنَّ في إيران، وهذه مسألة تاريخية أسبابها متعددة ومختلفة، تركيبة سكانية «فسيفسائية»؛ فهناك قومياً العرب والأكراد والبلوش والآذاريون والأرمن والعديد من القوميات الصغيرة الأخرى. وهناك مذهبياً وطائفياً «السنة» والمسيحيون واليهود والإزيديون وغيرهم، ولذلك ولمواجهة مطالبة هؤلاء ليس بالانفصال وإنما بالمساواة مع الفرس فقد بادر هذا النظام الاستبدادي إلى مواجهتهم بالقمع وبالمذابح العديدة المتلاحقة.
وعليه وبغضّ النظر عن هذا كله فإن المعروف أن تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج مثله مثل تصدير الثورات، يُستخدم لاحتواء التفجيرات الداخلية، وهذا في حقيقة الأمر ما كانت إيران قد بادرت إليه باكراً بعد انتصار ثورتها الخمينية في عام 1979 مباشرة، إذْ كان هناك التحرش المستمر بالعراق الذي استُدرج إلى حرب الأعوام الثمانية المدمرة، وكان هناك استفزاز تبني احتلال الشاه محمد رضا بهلوي للجزر الإماراتية الثلاث، واستفزاز احتضان الحوثيين وإعدادهم عسكرياً وسياسياً لهذه الحرب التي افتعلوها في اليمن، ثم وقد كان هناك استفزاز تحويل «حزب الله»، حزب ضاحية بيروت الجنوبية، إلى قوة عسكرية باتت تتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية، وكان هناك أيضاً احتضان ما كان قد قام به جميل الأسد شقيق حافظ الأسد الذي أسس تنظيماً باسم «المرتضى» قام بعمليات تغيير طائفي وبخاصة في مناطق سوريا الشمالية - الشرقية.
ما كان من الممكن أن يستمر هذا النظام، البدائي حقاً، كل هذه الفترة الطويلة منذ فبراير (شباط) عام 1979، حتى الآن، لو لم يبادر إلى تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج ومنذ البدايات، ولو لم يشغل الشعب الإيراني العظيم فعلاً بكل هذه الحروب المدمرة التي افتعلها مع العديد من دول المنطقة. وحقيقةً إن أخطرها ليست حرب الأعوام الثمانية التي افتعلها مع العراق فقط، وإنما أيضاً هذا الاحتلال العسكري لسوريا وهذه السيطرة العسكرية على بلاد الرافدين والسيطرة السياسية من خلال «حزب الله» على لبنان. ولعل الأخطر من هذا كله هو استخدام الغطاء المذهبي لكل هذا الذي قامت به طهران في هذه المنطقة كلها وصولاً إلى ليبيا، جماهيرية القذافي السابقة، وإلى الجزائر.
ثم إنّ ما يعزز كل هذا الذي مرَّ ذكره أن قائد الحرس الثوري الإيراني، الذي هو كل شيء في طهران والذي لا قرار إلا قراره في هذا البلد الكبير المهم، قد وجّه قبل أيام قليلة انتقادات شديدة إلى ما وصفه ببطء تمدد «الثورة» في الخارج، وتراجع «التفكير الثوري». والواضح أن هذا قد جاء رداً على مطالبة المتظاهرين الإيرانيين بالانسحاب من سوريا ومن العراق، والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والإسلامية القريبة والبعيدة.
لقد قال الجنرال محمد علي جعفري في خطاب بمؤتمر لأساتذة الجامعات، المؤيدين للثورة، وبكل صراحة بل بكل وقاحة: «إن انتصارات شعوب العراق ولبنان وسوريا قد حدثت (تحققت) نتيجة التبعية للثورة الإيرانية»! وأضاف: «إن كل هذه العزة والقوة وتمدد الثورة في المنطقة والعالم قد تمت في مرحلة تثبيت النظام الإيراني، وإن ما جرى في هذه الدول (أي الدولة العراقية والدولة السورية والدولة اللبنانية) هو إنجاز كبير لإيران.
فماذا يعني كل هذا الذي قاله قائد الحرس الثوري الذي هو كل شيء في إيران ولا قرار إلا قراره...؟!
إنه يعني أن بقاء هذا النظام كل هذه السنوات الطويلة منذ (فبراير) عام 1979 حتى الآن، كان مستنداً إلى تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج من خلال تمدده العسكري في العراق وسوريا ولبنان وأيضاً في اليمن وليبيا، مما يؤكد أنه لن يكون هناك أي انسحاب إيراني من أيٍّ من هذه الدول وبخاصة الدولة السورية إلّا بالضغط الجدي وبالقوة العسكرية، وهذا وللأسف لم يجرِ منه أي شيء حتى الآن... لا من قِبل الأميركيين ولا من قِبل غيرهم.
لقد أقحم هذا النظام الاستبدادي المتخلّف، إيران أولاً والعديد من دول هذه المنطقة ثانياً، في حروب مدمِّرة بالفعل، والهدف ليس تعزيز المذهب الشيعي ولا العمل على انتشاره وإنما تصدير أزماته الداخلية والهروب من مشكلاته المتلاحقة التي بدأت مع بدايات انتصار «ثورته» في فبراير عام 1979. والغريب أنه حتى الولايات المتحدة في عهد جورج بوش (الابن) قد ساعدته كثيراً في هذا المجال عندما فتحت له أبواب العراق على مصاريعها بعد إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003.
وعليه، فإن التصدي لهذا النظام يجب أن يكون من خلال مواجهة تمدده (الاحتلالي) في بعض الدول العربية، وعلى غرار ما يجري الآن في اليمن، فإعادته إلى داخل إيران تعني عودة أزماته ومشكلاته الداخلية إليه، وتعني وضع حدٍّ لكل محاولات استخدام الشيعة العرب الذين باستثناء قلة قليلة مغرَّر بها ثبت أنهم متمسكون بعروبتهم وأنهم يعرفون أنَّ دوافع محمد علي جعفري وقاسم سليماني ليست «شيعية» وإنما للحفاظ على نظام استبدادي بات يغرق في أزماته الداخلية الكثيرة رغم كل محاولات تصديرها إلى الخارج بالعنف والقوة العسكرية.
أصبح الأمر واضحًا، ولا يمكن ترك الحبل هكذا على غاربه..
من غير الممكن أن يستمر الأمر هكذا بالاعتماد فقط على الحس السليم للناس!
لأن هناك عدد لا حصر له من المحرضين "المتطوعين" أو "المكلفين" في مسألة تأليب الشارع ضد السوريين..
الكذب في هذا الخصوص لا حد له..
والظلم في الذروة..
إن أخطأ ثلاثة سوريون فالمحرضون مستعدون لتحميل المسؤولية إلى ثلاثة ملايين سوري.
أكتب وأكرر، وعلى وجه الخصوص أؤكد أن علينا ألا نندهش إذا واجهنا تحريضات ضد السوريين "مرسومة ومخطط لها" مسبقًا.
فقد نجحوا في تأجيج العداء للاجئين في أوروبا.
وفي المقابل كوفئوا بكسب دعم شرائح المجتمع، والفوز في الانتخابات..
وعلى أي حال فإن مرشدي المحرضين في بلدنا يعتقدون أن تركيا كالمجر وبولونيا وألمانيا وإيطاليا.
والنتيجة؟
لا يمكنهم الفوز في الانتخابات، إلا أنهم يعكرون صفو المجتمع.
***
لا أدري إن تناهى الخبر إلى علمكم..
هاجم المحرضون بعد الانتخابات بثلاثة أيام السوريين في منطقة "تشام ديبي" في إزمير، وهم يرددون هتاف "يحيا مصطفى كمال باشا (أتاتورك)".
هذا مؤشر خطير ووخيم العواقب.
بل إن هناك من يقولون إن الهجمات لم تنفذ مرة واحدة، واستمرت أيامًا.
ولم يتورع المهاجمون وأنصارهم عن تسمية ما ارتكبوه بـ "تطهير تشام ديبي" من السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي.
أعقب ذلك هجوم على صيدلية في ديار بكر.
ومن أجل تأجيج غضب الحشود نشر البعض على وسائل التواصل الاجتماعي شائعات تقول إن "السوريين هاجموا الصيدلية"..
ولم يقف بعض الساسة من المحرضبن مكتوفي الأيدي، فعملوا على تضخيم الموضوع قدر إمكانهم.
في حين أن من هاجموا الصيدلية ليسوا سوريين، بل إن هناك سوريًّا سقط جريحًا أثناء الهجوم على الصيدلية، لكن الكذبة انتشرت بسرعة أكبر من الحقيقة.
الأمر الملفت للانتباه هو أن بعض المصادر الإخبارية من أمثال سبوتنيك ذكرت أن الحادثة وقعت في مدينة مرسين.
وعند الوضع بعين الاعتبار الطبيعة الحساسة للبنية الديموغرافية/ الاجتماعية في مرسين، ندرك ماهية المكيدة التي تُحاك في مواجهتنا.
***
فماذا يجب علينا أن نفعل؟
هناك الكثير من الأمور..
ربما يكون من الصواب معاودة دراسة فكرة تأسيس وزارة خاصة للاجئين والضيوف السوريين..
لكن أول مهمة مطلوبة..
أن يكون المسؤولون المحليون يقظين تمامًا تجاه التحريضات والاستفزازت، وأن يتصرفوا بسرعة قدر الإمكان عند اندلاع أي شرارة.
فهذه قضية لا تحتمل الإهمال والتقاعس..