أين ذهبت مشاريع روسيا بإخراج إيران من جنوب سوريا؟
لو عدنا للأشهر القليلة الماضية، واسترجعنا العدد الكبير من الأخبار والتوقعات التي كانت تؤكد على أن انسحاب الإيرانيين من جنوب سوريا وبجهد روسي أحيانا، واستجابة لـ»اشتراطات إسرائيلية» أحيانا أخرى، ثم شاهدنا صور قادة ميليشيا النجباء وأبو الفضل العباس في درعا، لعلمنا مدى تناقض التوقعات مع الواقع، وهي ثنائية تتكرر منذ سنوات في كل محاولة لاستشراف المشهد في النزاع السوري، مردها فقر التقديرات الموضوعية.
وعلينا أن نتذكر أنباء مشابهة ترددت منذ عامين، عن أن الأمريكيين، لن يسمحوا بسيطرة الإيرانيين على الحدود السورية العراقية، في عملية وصل الطريق البري بين طهران لبيروت، التي شاع عنها الحديث سابقا، ولكن ما حصل أن الأمريكيين وبعد دعمهم لفصائل البنتاغون، تعثرت خططهم في إيجاد حليف بري كفوء من المعارضة السورية، يقوم بهذه المهمة في وسط الصحراء السورية، كما الأكراد شمالا، فكان أن أكمل النظام والإيرانيون سيطرتهم على معظم الخط الحدودي بين سوريا والعراق، وتخللت هذه العملية اشتباكات متبادلة لكن محدودة، واستهداف جوي امريكي لميليشيات النظام.
واليوم تكرر المشهد لكن مع إسرائيل، فكيف يمكن للإسرائيليين السماح بتقدم ميليشيات إيران لجنوب سوريا بعد التصريحات الاسرائيلية الرافضة لهذا الامر، والمطالبة بجيش نظامي فقط على الحدود؟
لعل القضية تتعلق أولا، بمدى القدرة على إرغام الإيرانيين والنظام في سوريا، وتتعلق ثانيا بالتوافق مع الروس على التوقيت، فكما الامريكان تعثروا وسط الصحراء السورية بلا أطراف يمكن الاعتماد عليها، فإن الإسرائيليين لا يملكون أوراقا يمكنهم المناورة فيها داخل سوريا، بل إنهم في حالة مواجهة تصل للاعمال الحربية مع من يملك النفوذ الاكبر في دمشق اليوم، وهو الاسد وحلفاؤه الشيعة، وهذه المواجهات نتجت أصلا بسبب محدودية قدرتهم على التحكم في المجريات داخل سوريا، من خلال حلفاء لهم، فتم اللجوء للقوة، وهنا يظهر أن علاقة تل ابيب بموسكو لم تمنحهم القدرة على تحقيق أهدافهم، بتحجيم وإبعاد الايرانيين في سوريا، بدليل انهم لجأوا للقوة العسكرية لقصف مواقعهم داخل سوريا.
وهذا يقودنا لاستنتاج آخر، بدا واضحا منذ البداية رغم محاولة معاندته باستمرار، وهو أن لنفوذ موسكو في سوريا حدودا لا تتجاوز فيها طهران، الاكثر رسوخا وارتباطا بالنظام السوري وعلى عدة اصعدة، وان تحالفهم العسكري والسياسي في سوريا بني على ثوابت مشتركة، أهمها التنافس مع واشنطن، ولكن الروابط المشتركة للايرانيين مع النظام وحزب الله تشكل بحد ذاتها بنية مستقلة، لها مشروعها وسماتها الاقليمية، قد لا تكون روسيا معنية بكافة تفاصيلها، ولا هي قادرة على زج نفسها خارج المساحة المخصصة لها في هذا التحالف، الذي يستفيد منها لايجاد شريك دولي قوي، يمنح اوراق قوة لمنظومة اقليمية كهذه، مقابل تحقيق روسيا لأهدافها في تحجيم اي قوة مناهضة ايديولوجيا لها قد تصل رياحها بسرعة لحدودها الجنوبية في القوقاز الذي قمعته موسكو لسنوات، والأهم هو استعادة مواقعها قرب المياة الدافئة التي خسرتها فترة انهيار الشيوعية امام الولايات المتحدة.
الروس لم يقدموا «تعهدات» لاسرائيل بذلك، كما أشيع، وهي صيغ واطلاقات تجدها فقط في منابر اعلامية، لانه حتى كتصريحات اعلامية معلنة، لا تحمل قيمة عادة، فإن روسيا تحدثت عن خروج القوات «الأجنبية» وحددتهم اولا بالامريكيين، واخيرا بالإيرانيين، كذر للرماد في العيون، ولأنه لا داعي اصلا لبقاء الضباط الايرانيين، إن سيطر النظام على سوريا، وخرج الامريكييون، وهي إحدى الغايات التي تحاول روسيا المساومة عليها، من أجل شراء انجاز مهم بخروج الامريكيين من قاعدة التنف، ومن مناطق الشمال السوري، وهو هدف مهم ايضا للايرانيين، مقابل بيع خروج لا قيمة له لبضعة ضباط بعد إنجاز مهمتهم، التي أفضت إلى تثبيت وجود راسخ لإيران في سوريا من خلال الاسد، وهو يذكرنا ربما بما قاله فاروق الشرع بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عقب اغتيال الحريري، بأن نفوذ سوريا في لبنان بات اقوى مما كان عليه في اي وقت مضى من خلال حلفائها، وهو ما ثبتت صحته اليوم بوجود حزب الله في لبنان.
ولأن الامريكيين يدركون جيدا، أن لا قيمة لقضية سحب بضعة ضباط ايرانيين مع بقاء سوريا كلها ضمن الحلف الايراني، فإنهم يستخدمون هذه القضية اعلاميا فقط، كما بقية تصريحاتهم الشهيرة الفارغة بضرورة رحيل الاسد، ولذلك أعلن الامريكيون نيتهم الرحيل من سوريا، بدون مواصلة التفاوض الجدي مع الروس حول الايرانيين، وبحلول العام المقبل، وبعد انتهاء فترة التمديد للقوات الامريكية التي اقرتها الادارة الامريكية لتأمين انسحاب سلس من سوريا، قد تكون معظم القوات الامريكية قد انسحبت من مناطق شمال سوريا وبقت في جيوب حدودية صغيرة مع العراق والاردن، حسب مصادر مطلعة.
ونعود هنا، لقضية المطالب الاسرائيلية من روسيا بما يتعلق بابعاد الايرانيين، ومن الملاحظ اولا، وكما اسلفنا، أن الروس لم يتمكنوا من تلبيتها لحد الان، بدليل تدخل اسرائيل بنفسها بقصف الايرانيين، ولكن الروس، وكما هو معلن في التصريحات، ويعضده سياق الاحداث، قدموا تطمينات لتل ابيب، بأن الوجود الايراني في جنوب سوريا لن يكون مهددا، حاليا، لاسرائيل، وانما هو مخصص لمواجهة المعارضة، وان النظام السوري هو الذي سيبقى في هذه المنطقة الحدودية بعد السيطرة عليها، وستنسحب الميليشيات الايرانية.
هذا التوافق، نجح فيها الروس، لانه ببساطة ينسجم مع المصلحة «المرحلية» للايرانيين بعدم الدخول في صدام واسع مع قوة متفوقة كاسرائيل، قبل انجاز مهمتهم المرحلية بقمع التمرد ضد الاسد بشكل كامل، ولكنه وضع مرحلي قد يستمر لعام أو اثنين حتى تثبيت النظام، وبعد ذلك، علينا أن لا نتفاجأ، كما حدث في مناسبتين بعد مشاركة الميليشيات الايرانية في درعا، وسيطرتها على حدود سوريا والعراق، من أن الايرانيين بدأوا بتحويل حدود الجولان لمنطقة مواجهات مع اسرائيل، وإن بعمليات محدودة، كما فعلوا في جنوب لبنان، لتحقيق رغبة جامحة واستراتيجية لديهم تتعلق بتصدر المواجهة مع عدو يجمع عليها سكان المنطقة، وإن دون فعل عسكري كبير، إذ يمثل طرق هذه القضية، بابا للدخول لقلوبهم بلا استئذان، خصوصا مع السخط العربي والاسلامي المتنامي من مواقف الدول العربية «السنية» التي قد ينتهي بها المطاف، إنها ستخسر الشرعية في قيادة الصراع مع اسرائيل، كما خسرت عواصم عربية كبرى لصالح الايرانيين.