مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٥ يوليو ٢٠١٨
ماذا تخبئ قمة بوتين ترامب للمنطقة؟

تتجه الأنظار نحو الجنوب السوري، وتسارع العمليات العسكرية في درعا، على ضوء ما جرى تداوله بشأن رغبةٍ أميركيةٍ في تعديل الاتفاق الثلاثي، الأميركي الروسي الأردني، حول جنوب سورية، وكذلك في إطار موافقةٍ إسرائيلية على وجود قوات النظام على الحدود، مقابل إبعاد إيران ومليشياتها، مع استمرار النظام بعمليته العسكرية هناك. وفي هذه الظروف، جاء الإعلان عن اللقاء المرتقب في هلسنكي في 16 يوليو/ تموز الحالي، بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأميركي دونالد ترامب، وستكون سورية إحدى أبرز ملفاته، بدون أدنى شك، إلا أنها لن تكون الوحيدة أو المحورية.

يعتزم الرئيسان، بوتين وترامب، مناقشة آفاق تطوير العلاقات الثنائية، والقضايا الدولية، وسيكون هذا أول اجتماع كامل لهما، من دون الربط بمؤتمرات وقمم دولية، فقبل عام التقيا أول مرة في هامبورغ، في أروقة قمة مجموعة العشرين، وبعد ذلك بأشهر تم التواصل بينهما فترة وجيزة في فيتنام خلال قمة أبيك.

وهنا يمكن الإحالة إلى الدور التاريخي لفنلندا، والأسباب التي أدت إلى اختيارها مكاناً لاجتماع بوتين – ترامب، فقد كان أول اجتماع "فنلندي" في عام 1975 هو مفاوضات الرئيس الأميركي، جيرالد فورد، مع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، ليونيد بريجنيف، وكانت النتيجة اتفاقية هلسنكي، وهي وثيقة وقعها رؤساء 35 دولة، معلنة تحسن العلاقات بين الدول الشيوعية والدول الرأسمالية آنذاك. وفي وقت لاحق، عند الحديث عن هذه الاتفاقية، فإنها تعني "انفراجا" خلال الحرب الباردة.

وفي عام 1990، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي بأشهر، ناقش الرئيس الأميركي، جورج بوش (الأب)، والرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، في هلسنكي كذلك، أزمة الخليج العربي. وفي عام 1997، في المقر الرسمي للرئيس الفنلندي، أجرى الرئيسان، الأميركي بيل كلينتون والروسي بوريس يلتسين، محادثات مفصلة. واليوم، يأمل البيت الأبيض والكرملين أن يؤدي الاجتماع المرتقب إلى تحسّن في العلاقات الروسية الأميركية.

وقد يكون هناك سبب آخر، هو أن فنلندا "أرض محايدة"، لأنها ليست جزءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولكن عضويتها في الاتحاد الأوروبي تربطها بالغرب، كما أنها تتمتع بعلاقات جيدة مع كل من واشنطن وموسكو. وستكون قمة فنلندا التاريخية فرصة "لفتة رمزية"، يمكن أن تكون مهمةً في مستقبل العلاقات الدولية، فالرئيس الأميركي سيغادر قمة "الناتو" المقررة قبل منتصف شهر يوليو/ تموز الجاري، للاجتماع مع بوتين. وهذا تذكير لانتقاده أخيرا قادة حلف شمال الأطلسي. ولم ينس العالم رسالة ترامب الشهيرة إلى قادة "الناتو" بوجوب زيادة إنفاقهم العسكري. ويمكن أن يعتبر الاجتماع في دولة محايدة رسالة ضغط على زعماء دول الحلف، لكي يزيدوا من إنفاقهم الدفاعي، الأمر الذي سيخفف بدوره العبء المالي على الولايات المتحدة، وهو ما يبحث عنه ترامب.

استفادت روسيا استفادةً كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخُّل في صراعاتٍ مختلفة في الشرق الأوسط، وغياب دور واضح لها في أزماتٍ كثيرة، وخصوصاً سورية، لتُعيد بناء علاقاتها مع عواصم مختلفة في المنطقة، لا سيما الخليجية منها. وقد عملت روسيا، بتدخلها العسكري في سورية، على تحقيق أهداف جيو - استراتيجية، ونجحت، إلى حد كبير فيها، على الرغم من فشلها في تحقيق بعض تلك الأهداف. وعلى الرغم من التدخل العسكري الروسي القوي في سورية لأكثر من عامين، إلا أن موسكو ما زالت تفتقر إلى تفعيل دور سياسي قوي يناسب حجم تدخلها العسكري. ومن هذه الزاوية، تعاونت موسكو سياسياً وعسكرياً مع دول إقليمية في المنطقة، بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف، باعتبار أن شقاً ليس قليلا من الشعب السوري يعتبرها دولةً محتلة، ولذلك رأينا كيف تعاونت مع الرياض، وأثنت على جهودها في تشكيل وفدٍ موحدٍ للمعارضة، يضم جميع المنصات، وشارك في الجولة الثامنة لمحادثات جنيف، وكذلك عبر محادثات أستانة التي نظمتها موسكو بالتعاون مع تركيا بداية، ثم تم ضم إيران طرفا ضامنا بعد جولتها الثالثة (لما تملكه طهران من قوات على الأرض السورية، وحتى لا تضع العصي في عجلات أي اتفاق روسي – تركي). واستطاعت الدول الثلاث تهدئة الوضع في سورية، إلى حد ما، إضافة إلى إنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد.

أوجد التدخل العسكري الروسي في سورية نوعاً من التوازن العسكري في ميزان القوى بين جميع الأطراف، بحيث لا يسمح لأيٍّ منها بتحقيق أي انتصارٍ يمكن أن يقلب المعادلة على الأرض السورية، واستطاعت روسيا إعادة مناطق كثيرة في سورية إلى يد النظام، باستثناء بعض المناطق في شمال شرقي البلاد.

يبقى القول إن الأنظار ستتجه إلى قمة هلسنكي التي ستجمع بوتين مع ترامب، وما سيكون بعدها من تغيراتٍ، ستظهر ملامحها على الأرض السورية، ربما قبل منتصف شهر يوليو/ تموز الحالي، مع الأخذ بالاعتبار تسارع الأحداث، وقد تكون بدايةً لحقبة جديدة في خريطة المنطقة والعالم، على الأقل من الناحية السياسية، بالنظر إلى قمم فنلندا وما تلاها تاريخياً.

اقرأ المزيد
٥ يوليو ٢٠١٨
"خفض التصعيد".. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا

بعد تسريباتٍ إعلامية عن تفاهمات روسية - إسرائيلية بشأن منطقة خفض التصعيد في جنوب غرب سورية، أطلق النظام السوري حملةً عسكريةً، تستهدف السيطرة عليها بالقوة أو عبر فرض اتفاقات استسلام على فصائل المعارضة الموجودة فيها، في استعادةٍ لسيناريو الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي؛ ما أعاد طرح التساؤل ما إذا كانت مناطق خفض التصعيد التي ابتدعتها روسيا مجرّد خدعةٍ للقضاء على المعارضة المسلحة، وإعادة فرض سيطرة النظام على هذه المناطق بالتدريج.


إنشاء مناطق خفض التصعيد قبل الإجهاز عليها
بعد سقوط مدينة حلب بيد قوات النظام السوري في كانون الأول/ ديسمبر 2016، واتفاق روسي - تركي تضمّن سحب قوات المعارضة من جزء المدينة الشرقي، بعد معارك كبيرة، أطلقت موسكو مسار أستانة الذي أصبح ثلاثيًا بانضمام إيران إليه. وبعد جولاتٍ تفاوضية عديدة، توصلت "الدول الضامنة"، في 4 أيار/ مايو 2017، إلى اتفاقٍ لإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. ولاحتواء الدور الإيراني على ما يبدو، نسّق الروس مع أطرافٍ خارجيةٍ مختلفة تفاصيل تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد في كل منطقةٍ من هذه المناطق، فتم على هامش قمة دول مجموعة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية في 7 تموز/ يوليو 2017، التوصل إلى اتفاقٍ مع واشنطن حول إقامة منطقة خفض تصعيد في جنوب غرب سورية، ووضعت تفاصيله بمشاركة الأردن، في اتفاقٍ لاحق في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. وفي تموز/ يوليو 2017، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن الاتفاق مع فصائل المعارضة السورية، عبر وساطة مصرية، على آليات خفض التصعيد في الغوطة الشرقية، وريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي. وخلال الجولة السادسة من مفاوضات أستانة، توصل الروس والإيرانيون والأتراك، في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017، إلى اتفاقٍ على تفاصيل منطقة خفض تصعيد التوتر في إدلب، والتي شملت أجزاء من أرياف حماة، وحلب، واللاذقية. وجرى الاتفاق برعايةٍ مصريةٍ بين الروس وفصائل من المعارضة المسلحة، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 على ضم مناطق ريف دمشق الجنوبي إلى منطقة خفض التصعيد في الغوطة الشرقية.

وفي حين كانت روسيا تضع تفاصيل مناطق خفض التصعيد، دخلت في سباقٍ مع الأميركيين للسيطرة على الأراضي التي كان يحتلها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفيما سيطرت واشنطن، عبر حلفائها الأكراد، على مناطق شرق الفرات، تمكّنت موسكو من انتزاع أكثر مناطق "داعش" في مناطق البادية السورية وغرب الفرات، وصولًا إلى دير الزور. سمح هذا التطور للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن يعلن من موسكو عن إيقاع "الهزيمة الكاملة" بمسلحي "داعش" على ضفتي نهر الفرات، وذلك قبل أن يصل إلى قاعدة حميميم الجوية، ليؤكد منها أن "المهمة الروسية ضد تنظيم داعش الإرهابي قد أنجزت تقريبًا"، وأمر بـ "بدء سحب القوات الروسية" من سورية (وهو تكتيك يستخدمه بوتين منذ بداية التدخل الروسي، إذ يعلن بعد كل مرة يحقق فيها أحد أهدافه في سورية عن بدء سحب قواته من دون تنفيذ الانسحاب فعلًا).

لكن روسيا كانت، في حقيقة الأمر، تحضر لبدء سلسلةٍ من العمليات العسكرية، للقضاء على المعارضة المسلحة في مناطق خفض التصعيد تباعًا. وما أن أنهى الرئيس بوتين زيارته الخاطفة إلى حميميم، حتى أطلق النظام السوري، بدعم جوي روسي كثيف، عمليةً عسكرية واسعة في منطقة خفض التصعيد المتفق عليها في إدلب. وبعد ثلاثة أيام على إطلاق العملية، أعلن رئيس هيئة الأركان الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف أن مهمة قوات بلاده في عام 2018 ستكون "القضاء التام" على جبهة النصرة في مختلف مناطق خفض التصعيد.

تزامنت العملية العسكرية الروسية في إدلب مع دخول المفاوضات مع تركيا بشأن عفرين، وتحضيرات مؤتمر "الحوار الوطني السوري" في سوتشي مرحلةً حاسمة، انتهت بإعطاء موسكو الضوء الأخضر للأتراك لإطلاق عملية عسكرية ضد وحدات حماية الشعب في منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي. في هذه الأثناء، تمكّنت قوات النظام من السيطرة نهائيًا على مطار أبو الضهور في ريف إدلب الشرقي بعد معارك طاحنة، تدخلت فيها تركيا عسكريًا لأول مرة في رد على انتهاك النظام ما سمي حينها اتفاق "سكة الحجاز" الذي تم التوصل إليه في أستانة في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017 بين رعاة مناطق خفض التصعيد الثلاث، ونص على إنشاء منطقتين: الأولى بين سكة الحديد وطريق حلب - حمص، وهي منطقة عمليات عسكرية لروسيا ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بحيث تضم هذه المنطقة إلى مناطق النظام. والثانية بين الطريق وريف اللاذقية غربًا، وهي منطقة خفض التصعيد التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المدعومة من تركيا.

أثمرت التوافقات التركية - الروسية التي سمحت لتركيا بدخول عفرين، في مقابل الضغط على فصائل في المعارضة للمشاركة في مؤتمر سوتشي الذي كان مهدّدًا بالفشل، عن توقف عملية إدلب، وتوجه قوات النظام إلى غوطة دمشق الشرقية.

أطلق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الهجوم على الغوطة بتصريحٍ قال فيه إن "تجربة تحرير حلب يمكن تطبيقها في الغوطة". وبعد أيام، شن النظام، مدعومًا بالروس، هجومًا متعدّد المحاور على مواقع فصائل المعارضة في الغوطة، انتهى إلى فرض اتفاقيات "مصالحة" هجّرت مسلحي المعارضة من مناطقهم وقراهم مع أسرهم إلى الشمال السوري الواقع تحت سيطرة فصائل معارضة قريبة من تركيا.

خلال أيام، لاقت المصير نفسه الفصائل المعارضة في قرى القلمون الشرقي وبلداته، وأحياء القدم والعسالي في جنوب العاصمة، إضافة إلى بلدات بيت سحم، وببيلا، ويلدا في الريف الجنوبي لدمشق، ومدن ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي وبلداتهما. ولم يتبق سوى مجموعة صغيرة من تنظيم داعش في حي الحجر الأسود، جرى التفاوض معها على الخروج بعد معارك شرسة. واكتسى اتفاق إجلاء هيئة تحرير الشام من مخيم اليرموك في جنوب دمشق أهمية خاصة؛ لأنه جاء ضمن صفقة شملت أيضًا إخلاء سكان بلدتي كفريا والفوعة، اللتين تقطنهما أغلبية شيعية وترعاهما إيران، في ريف إدلب الغربي.


توزع مناطق السيطرة ومستقبلها
ومع اقتراب النظام من تطهير مناطق سيطرته، في ما تسمى "سورية المفيدة"، من أي وجود مسلح سمحت به اتفاقات خفض التصعيد التي جرى التوصل إليها عبر القاهرة، لم يتبق سوى منطقتي خفض التصعيد في جنوب غرب سورية (درعا والقنيطرة) التي تخضع لتفاهمات روسية – أميركية - أردنية، ومنطقة إدلب التي تخضع لتفاهمات تركية – إيرانية - روسية. وقبل أن يبدأ النظام الهجوم أخيرا على منطقة خفض التصعيد في الجنوب، برزت في سورية أربع مناطق نفوذ رئيسة، تحكمها تفاهماتٌ مختلفة، كما يلي:
• ما تسمى سورية المفيدة؛ وهي أكبر تلك المناطق، يسيطر عليها النظام وتخضع لاتفاقات تنظم علاقة النظام بكل من الإيرانيين والروس، فضلًا عن تفاهمات بين موسكو وطهران، يتخللها تنافس خفي. وقد أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، قوانين تستكمل تهجير أعدائه، بسلب حقوقهم المالية والعينية، كان أهمها المرسوم رقم 10 الذي يفوّض البلديات صلاحيات إقامة مناطق تنظيمية في الوحدات الإدارية.

• منطقة شرق نهر الفرات، إضافة إلى جيبي التنف والركبان، والتي يحكمها جميعًا اتفاقا هامبورغ ودا نانغ، بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وكرّسا اتفاق عدم التصادم الروسي - الأميركي لعام 2015. وقد استخدمت واشنطن في مناسباتٍ عديدة القوة الساحقة ضد محاولات النظام والروس والإيرانيين اختبار التزامها تجاه استقرار هذه المناطق. وتشترك فرنسا والسعودية في تفاهماتٍ مع الجانب الأميركي بشأن الترتيبات الخاصة بشرق الفرات، في حين تعبر تصريحات مسؤولين أتراك عن اهتمامهم بمصير هذه المناطق، خصوصًا الرقة والقامشلي في محافظة الحسكة.

• الشريط الحدودي بين مدينة جرابلس على الضفة الغربية لنهر الفرات في شمال شرق محافظة حلب، وحتى أقصى شمال غرب محافظة اللاذقية، تشرف عليه تركيا. وقد ضم الجيش التركي إلى الشريط منطقة عفرين، وسمح اتفاق سكة الحجاز لتركيا بنشر نقاط مراقبةٍ في مواقع عديدة في أرياف إدلب، وحماة، واللاذقية وحلب، إحداها في عمق الأراضي السورية على مسافة 200 كم من خط الحدود التركية - السورية. وتُحكم هذه المنطقة بتفاهمات روسية – تركية، تسعى إيران إلى تعطيلها أو اللحاق بركبها. وتكثر في هذا الشريط المجموعات العسكرية الفاعلة؛ إذ باتت مدنه وقراه المحطة النهائية لمجموعات المعارضة المسلحة المهجّرة من مناطقها السابقة.

• منطقة جنوب غرب سورية؛ وهي منطقة أسسها اتفاق روسي – أميركي – أردني، جرى التوصل إليه على مرحلتين في صيف وخريف 2017، لكنها تتعرّض حاليًا لهجوم كبير من النظام، في محاولة استعادة السيطرة عليها، وضمها إلى مناطق سيطرته. وقد حاول الأردن التوصل إلى تفاهم مع روسيا لالتزام اتفاق خفض التصعيد بالمنطقة، لكن موسكو رفضت ذلك. وأبلغ لافروف وزيرَ الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الذي سعى إلى انتزاع ضمانة روسية لتجنيب درعا مخاطر مواجهة عسكرية، أن "مناطق خفض التصعيد لا تشمل الجماعات الإرهابية، التي يجب القضاء عليها"، في إشارة إلى المنطقة الجنوبية.

في المقابل، كانت روسيا قد توصلت إلى اتفاق مع إسرائيل، يسمح للنظام باستعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية، شريطة إبعاد إيران ومليشياتها عن الحدود بين سورية والجولان المحتل. ويبدو أن هذا الاتفاق جزء من اتفاق روسي - أميركي أشمل (بالتفاهم مع إسرائيل)، يتضمن إخراج إيران كليًّا من سورية، في مقابل إعادة تأهيل النظام، والسماح له ببسط سلطته على أكثر أجزاء البلاد؛ ما يعني قبول إسرائيل النظام السوري مع روسيا ومن دون إيران، ويفتح احتمالات متعدّدة مستقبلًا.


خاتمة
تبيّن، بمرور الوقت، أن مناطق خفض التصعيد لم تكن سوى خدعة روسية، هدفها الأساسي حسم الصراع في سورية عسكريًّا لمصلحة النظام، والقضاء بالقوة على فصائل المعارضة، بعيدًا عن أي حل يتضمن انتقالًا سياسيًا للسلطة. وبعد الإنجازات العسكرية أخيرا، أصبح النظام أشدّ تصلبًا تجاه استئناف مفاوضات جنيف؛ إذ فشلت الجولة الثامنة منها التي عُقدت في كانون الأول/ ديسمبر 2017، في تحقيق أي تقدم؛ بسبب رفض وفد النظام بحث أي موضوع، قبل "إعادة سلطة الدولة على جميع الأراضي السورية وتحريرها من الإرهاب"، على حد قول رئيسه.

بالمثل، بات الروس أكثر تشددًا في رفضهم مسار جنيف، بعد فوز بوتين بولاية رئاسية جديدة. كما غدت أكثر وضوحًا نياتهم المبيتة في تصفية منطقتي خفض التصعيد في جنوب غرب سورية (درعا والقنيطرة) وشمالها الغربي (إدلب)، بالتوازي مع مساعٍ لاستبدال مسار أستانة ونتائج مؤتمر سوتشي بمسار جنيف. ويسعى الروس إلى التحكم في نتائج أي عملية سياسية محتملة، عبر إعادة فرض وقائع على الأرض بالقوة، أو من خلال مصالحات محلية في المناطق التي يصلها جيش النظام، وتقليصها إلى مجرد مفاوضاتٍ على حدود صلاحيات المركز والأطراف في الدستور، وتعديل عدد من القوانين، كمرسوم الإدارة المحلية رقم 107، ومرسوم إحداث مناطق تنظيمية رقم 10.

تتطلب هذه الاحتمالات من المعارضة العمل على وضع إستراتيجية سياسية جديدة، تتعلق بمجمل سورية، وليس بهذه المنطقة أو تلك، تستهدف إفشال المخطط الروسي الساعي إلى إعادة تأهيل النظام، بالتواطؤ مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول العربية والأوروبية. كما أن المعارضة مدعوةٌ إلى التمسّك برفض إصباغ الشرعية على الأمر الواقع، مع التركيز على مقاضاة النظام، وكل من يسانده أمام المحاكم الدولية والوطنية التي تقبل دعاوى متعلقة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، راح ضحيتها مئات الآلاف من السوريين.

اقرأ المزيد
٥ يوليو ٢٠١٨
سقوط إيران بعد سقوط داعش؟

زجت التنظيمات الظلامية بالشعوب الإسلامية في معركة كبرى مع الحضارة والتمدن والقيم الإنسانية الأساسية. ولكنها كانت ضرورية لتحدث يقظة عند العامة الذين تم تضليلهم. سقوط داعش بهذا الشكل المهين وتغافل دول العالم عما يفعله النظام السوري ببقية التنظيمات الدينية في سورية تأتي تأكيدا على نهاية الفكر الديني. الشعوب الإسلامية صارت تؤيد فكرة القضاء على هذه التنظيمات بأي ثمن. استخدم داعش في معركة الموصل المدنيين دروعا. كان مقاتلوه يتمترسون في الأماكن المكتظة بالسكان على أمل أن تعمل المنظمات الإنسانية العالمية على إحراج جيوش أعدائهم ومن ثمة تضطر هذه الجيوش إلى الدخول في مباحثات تؤصلهم كقوة في أذهان الشعوب الإسلامية المتعطشة لأي انتصار حتى وإن كان انتصاراً إعلاميا فحسب. بيد أن استراتيجية محاربة التنظيمات الدينية عملت بطريقة مختلفة لم يفهمها داعش أبداً. أميركا لم تأت لمحاربة داعش ثم التفاوض معهم وقبول استسلاما مشروطا أو غير مشروط. أميركا جاءت لقتلهم فرداً فرداً وبأي ثمن.

سقوط داعش كان حتميا. ليس لأنه لا يملك القوة الكافية للدفاع عن نفسه ولكن لأنه لم يكن يملك خيالا سياسيا ولأنه أيضا خارج القيم الإنسانية والحضارة. هذا الأمر سهل على الدول القضاء عليه وتبرير قتل مجاهديه دون رحمة. الشأن مع إيران مختلف تماما. إيران هي داعش ولكنها تمتلك الخبرة والقدرة على المناورة وتعرف كيف تبقى بمحاذاة العصر الحديث. دولة ثيوقراطية بملابس عصرية. يستعين رجال الدين في إيران بكل أدوات العصر لنصرة منهجهم الديني بخلاف داعش الذي أنكر هذه المؤسسات وقوضها.

إذا قرأنا التغيرات السياسية التي حدثت في العالم الإسلامي سواء عن طريق الانقلابات أو عن طريق تحرك الشارع والمظاهرات سنرى أنها موجهة ضد المؤسسة الحاكمة وليس ضد الفكر الذي أوصل هذه المؤسسة وحافظ على بقائها. سيختلف الأمر عند اسقاط الملالي. دفعت الثورة الإيرانية بالفكر الديني إلى السلطة. ستصبح المعركة على السلطة في إيران بين الشعب وبين الفكر. اعتاد رجال الدين في العالم الإسلامي على مساندة السلطة أو لعب دور المعارضة عندما يقل نصيبهم من الكعكة. إيران تخطت هذه المعادلة. أصبح رجل الدين هو السلطة. مطالب الناس في المسجد تختلف عن مطالبهم في البرلمان أو في مجلس الوزراء وغيرهما من مؤسسات الدولة. لم يعد لبرامج الدين الخيالية المعتادة مكانا في السياسة. شكلت الثورة الإيرانية نموذجا لكل رجل دين إسلامي طامع في الحكم. سقوط الملالي في إيران سيكون سقوط الثيوقراطية في البلاد الإسلامية وتطهيرا للجسد السياسي من الفكر الديني.

اقرأ المزيد
٥ يوليو ٢٠١٨
متى توقف "الأمم المتحدة" قلقها إزاء قتلنا كسوريين ....!؟

سبع سنوات مرت وتزيد على بدء الحراك الشعبي الداعي لتحقيق تطلعات الشعب السوري كغيره من شعوب العالم في الحرية والتقدم، بعيداً عن سلطة النظام المستبد القمعي الذي أمعن في قتل الشعب السوري ومواجهة طلب الحرية بالرصاص والمدافع والطائرات والعالم يتفرج.

قدم الشعب السوري خلال السنوات الماضية مئات الألاف من الشهداء والمعتقلين والمشردين والمصابين، ونقلت وسائل الإعلام كافة وبشكل يومي مايتعرض له الشعب السوري من قتل وإبادة جماعية وعرقية واضحية، ورغم ذلك لم يقدم العالم المتحضر بمؤسساته "مجلس الأمن والأمم المتحدة وحقوق الإنسان بكافة مكاتبها" أي شيء للشعب السوري إلا القلق والمزيد من القلق.

وبات "القلق" كان آخر حالاته بشأن سلامة المدنيين في محافظة درعا التي تواجه ما واجهته باقي المناطق السورية قبلها من قتل وإجرام، ليغدو سمة بارزة تعبر عن حال مجلس الأمن والأمم المتحدة الغائب والعاجز، إلا أنه لايقر بذلك بل يخرج في كل جريمة ليقول "أنا قلق" كإثبات وجود لا أكثر.

وحق على الشعب السوري المنهك والذي يتعرض لحرب إبادة شاملة وعملية تهجير قسرية وتغيير ديمغرافية وجرائم كبيرة أن يمتنع عن التسبب بـ "القلق" لمنظمات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وأن يعتذر علانية وأمام العالم أجمع عن حجم المعاناة التي تسببها بما ارتكب بحقه من جرائم وما خلفه من "قلق" مستمر لدى مدعي الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، "نعم وجب أن نعتذر لكم ياسادة ونهدئ من قلقكم علينا".

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٨
كأس الدم السوري.. أهمية كرة القدم تفوق أهمية الشعوب؟

في ظل القصف السوري الروسي المستمر على المدنيين السوريين تشغل بطولة كأس العالم بال الشعوب العربية وهو الموضوع الذي يملأ أحاديثهم اليومية يتأسفون على حال المنتخبات العربية ومبارياتها وحالهم هو المؤسف هنا! هذه الشعوب التي لم تقف ساعة صمت واحدة على هذه الأرواح البريئة وعلى هذه الطفولة التي شردت وهجرت من وطنها أمام الجميع، وفضلوا أن يقفوا هاتفين لهذه البطولة التي تقام على أرض روسية. أقل ما يمكن أن تفعله هذه الشعوب هو مقاطعة هذه البطولة بما أن الدولة المستضيفة لها تستبيح دماء الأبرياء والأطفال من أجل المحافظة على وجود سياسي وعسكري لها في المنطقة. لست أدري إن كان هذا المقدار من اللاشعور واللامبالاة يعد صادما أم هو متوقع من شعوب لديها تاريخ حافل من خذلان الحق على هذه الأرض. نعم هذا العدوان ليس أجنيا بالكامل كما اعتدنا، تشترك فيه أيداي عربية، لكن استهجانه والوقوف ضده لا يتحمل وجهات النظر.

لا يوجد أي مبرر لعدم المقاطعة المسألة هنا هي مسألة أولويات فقط، هل فعلا تتفوق أهمية كرة القدم على وطنية هذه الشعوب! هذه الوطنية التي لم يتبقى منها سوى قصائد وأغاني يرددونها. هذه الشعوب التي وجدت في قتل المدنيين السوريين الأبرياء وجهة نظر فانقسمت ما بين مؤيد ومعارض لهذا النظام الوحشي الذي استعان بميليشيات روسية للقضاء على أبناء شعبه! هذا النظام الذي ادعى وفاءه للقضية الفلسطينية فدمر مخيم اليرموك عاصمة فلسطين في المنفى وهجر أهليه ليذوقهم طعم اللجوء مرة أخرى، ولا زال البعض يرددون عبارات المقاومة باسمه! فلسطين وشهدائها وكل رموز المقاومة الحقيقية فيها بريئة من هكذا نظام.

يا أيتها الشعوب الجريحة دعكم من هؤلاء الذين صافحوا القاتل وجالسوه وأعيدوا بناء أولوياتكم، أليست كل بلاد العرب أوطاني؟ أم أنكم استثنيتم الجنوب السوري من هذه الأوطان وبات وحيدا غريبا. ها هو الجنوب السوري ينزف ويستغيث ولا زلتم تهتفون! صمتكم المرير عن المأساة السورية لم يكن كافيا فكان لا بد لكم من التباهي والتصريح بعدم المبالاة في هتافاتكم.

ليس في مقاطعة كأس العالم أي مبالغة هي مجرد تعبير عن رفض الانتهاكات الروسية للشعب السوري لكن في الوقت ذاته لهذه المقاطعة أثر كبير على الجانب الأخر خصيصا أن هذه المقاطعة يجب أن تشمل جميع الدول في جميع أنحاء العالم فالمأساة السورية تنادي الإنسانية التي ليست حكرا على الدول التي تتحدث نفس اللغة، الإنسانية التي تتحدث جميع اللغات.

مأساة أتمت عامها السابع! ألم يكفر السوريون بعد عن خذلان المجتمع الدولي وضعف الأمة العربية وتشتتها! سيأتي يوم ويستيقظ فيه هذا العالم من غفوته عن المأساة السورية ليجد دموع أطفالها قد نفذت وقلوب أمهاتها قد انطفأت وسوف ينتظر هذا العالم عودة شهدائها الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الحرية بلا أمل.

منذ أيام قليلة بدأ القصف الروسي على درعا وها هي درعا تنزف مجددا أبطالها وأطفالها، ولم يكن لهذا القصف أي أثر على حماس المتابعين لهذه البطولة! لقد ترددت كثيرا عند كتابتي لهذه التدوينة فهي لن تملك أثرا كما يبدو، لكنني أردت أن أذكر هؤلاء المتابعين بالوطنية المدفونة داخلهم لربما حاولوا إعادة ترتيب انتماءاتهم، أردت أن أذكرهم بنداءات أطفال سوريا لربما حاولوا الإنصات قليلا!

نحن دائما نستنكر الأمور في بداياتها ثم نكمل حياتنا الاعتيادية بدون أي فعل حقيقي موحد يقف ضد استباحة أي دولة عربية! مرض الاحتلال هذا كان قد انتشر منذ صمتنا عن القضية الفلسطينية وأنا أتحدث هنا عنا كشعوب تقف خلف حكوماتها وتبرر خذلانها بأنها لا تملك القدرة أو الخيار؛ لكنها في الحقيقة تملك خيار المقاطعة، مقاطعة حقيقة لدول الاحتلال جميعها، مقاطعة بضائعها ومنتجاتها وبالطبع مقاطعة أي بطولات تحصل على أراضيها! ملطخة بالدم هذه الكأس.. تماما مثل أيديهم.

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٨
اتفاقات الجنوب السوري

تقول أخبار درعا، إن نحو 200 ألف من سكان الجنوب، فرّوا من مدنهم وقراهم منذ بدء هجوم قوات نظام الأسد وحلفائه على الجنوب، بمشاركة الطيران السوري والروسي. وباتخاذ الأردن قراره بمنع دخول الفارين السوريين إلى أراضيه، ثم إعلان إسرائيل رفض مرور الفارين إلى أراضي الجولان الذي تسيطر عليه إسرائيل، فإن مصير هؤلاء ومَن ينضم إليهم لاحقاً من سكان الجنوب البالغ عددهم نحو 750 ألف نسمة صار في المجهول. جزء منهم سوف تقتله القوات المهاجمة، والقسم الآخر سيعيش في ظروف مستحيلة، قد يكون الموت أفضل منها.

الوضع الكارثي لسكان الجنوب، هو ثمرة أولى للاتفاقات الدولية - الإقليمية، التي أعطت ضوءاً أخضر لنظام الأسد لشن حربه المدمرة على الجنوب واستعادة السيطرة عليه، وإنهاء وجود المعارضة المسلحة فيه، والتي لن يكون مصيرها أحسن حالاً من مصير مواطنيها. فقد تُركت هي الأخرى في ضوء الاتفاقات أمام مصير القتل والاعتقال، وربما يتم ترحيل القلة المتبقية منهم نحو الشمال السوري انسجاماً مع خطط ترحيل مقاتلي المعارضة، التي تم التوصل إليها برعاية روسية.

لقد بدا لمتابعي وضع الجنوب السوري، أن الجنوب وبفعل عوامل متعددة أبرزها ارتباطه بتناقض مصالح الأطراف الحاضرة والمتدخلة فيه، سيكون مختلفاً عما يجري حالياً هناك، خصوصاً بعد صعود الخلافات الأميركية – الإيرانية، وبعد المعارضة الإسرائيلية بحجة الأمن القومي لوجود القوات الإيرانية وميليشياتها بالقرب من خط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في مرتفعات الجولان، التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967. لكن الجهود الروسية، ورغم التعارضات الروسية – الإيرانية في سوريا، جهدت في إقناع الإسرائيليين، بينما مرّرت واشنطن خلافها مع إيران في سوريا، وجعلته خارج خطوط المواجهة، وتجاوزت تهديداتها للنظام بالتصدي له إذا خرق اتفاق خفض التصعيد في الجنوب الذي أُقر العام الماضي في اجتماع قمة أميركية – روسية. بل إن توافقات، قبلت بعودة نظام الأسد وحلفائه إلى الجنوب.

إن النتائج المباشرة للتوافقات الدولية – الإقليمية في الموقف من عودة نظام الأسد وحلفائه إلى الجنوب، تتجاوز موضوع استعادة النظام للسيطرة هناك، وهي إلى جانب ما سبق تفتح الباب نحو النظام السوري لإعادة فتح معبره مع الأردن.

لكن الأهم في النتائج يكمن في المجزرة التي يرتكبها نظام الأسد وحلفاؤه ضد قرابة مليون سوري حُرموا من حقهم في التوصل إلى حل سياسي في الجنوب، يكون نموذجاً لحلٍّ يمكن أن يتم في مناطق أخرى في طريق الحل السوري، وصادرت حقهم في الدفاع عن أنفسهم رغم الاختلالات القائمة في ميزان القوى العسكرية والسياسية.

ولا يحتاج إلى تأكيد قول إن التوافقات جاءت على حساب السوريين ومستقبل بلدهم، فيما حققت للأطراف الأخرى مصالح وأهداف، بل كانت نقطة توافق بين مصالح وأهداف متناقضة للمشاركين فيها، وقد حاز تحالف النظام مع الروس والإيرانيين الحصة الكبرى من نتائج التوافقات.

إذ كرّست التوافقات الروس متحكماً رئيسياً في القضية السورية، وعززت مكانتهم ومصالحهم، ودعمت وجودهم السياسي والعسكري، وأعادت الاتفاقات الاعتبار للدور الإيراني في سوريا، ليس فقط لجهة غض النظر الأميركي - الإسرائيلي، ووقف الحملة على إيران وميليشياتها، بل القبول بمشاركتهما في الحرب على الجنوب، حيث اندسّت القوات الإيرانية والميليشيات التابعة في صفوف قوات النظام المحاربة في الجنوب، بعد أن انتظم ضباطها وجنودها في قوات النظام، وستفتح هذه الخطوة أبواباً لتمدد النفوذ الإيراني في منطقة استعصت عليه طوال السنوات السبع الماضية.

وإذا كان المعلن في الاتفاقات الدولية - الإقليمية المتعلقة بالجنوب السوري قليلاً، فإن الأكثر فيه سيظل سرّياً في المدى المنظور، لأن فيه وفي أهدافه ما هو عصيٌّ على التفسير، وخارج المنطق المعروف والسائد، ولعل موضوع إيران أحد أبرز الأمثلة، حيث إن وجودها وسياستها في سوريا لا يحظيان بتأييد أو موافقة أحد بصورة علنية بما فيه نظام الأسد المعروف بسياسته النفعية الانتهازية. فكيف تَوافق الجميع، خصوصاً الأميركيين والإسرائيليين، على غض النظر عن مشاركتها في حرب الجنوب، واقترابها من خط وقف إطلاق النار الذي كرر الإسرائيليون أنه يمثل تهديداً لأمنهم القومي؟ وهل لدى الأميركيين والإسرائيليين رغبة في دور إيراني في سوريا يماثل ما قامت وتقوم به إيران في العراق، وبالتالي فإنهم يتساهلون معها ويغضون الطرف؟

ثمة أسئلة كثيرة حول ما جرى من توافقات، ليست لها أجوبة اليوم، لكن ستكون لها أجوبة في المستقبل، وربما بعض تلك الأجوبة سيظهر بعد أن تضع حرب الجنوب السوري أوزارها، وتظهر خسارات السوريين فيها، التي ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة خسارات إصابتهم في صراعهم مع نظام الأسد وحلفائه في السنوات الماضية.

اقرأ المزيد
٤ يوليو ٢٠١٨
روسيا التي قدمت لإسرائيل ما لم تستطع واشنطن تقديمه لها

تشكل القمة الروسية-الأميركية المرتقبة في 12 يوليو الجاري في هلسنكي، محطة هامة على طريق رسم معالم العلاقة الأميركية الروسية سواء في ما يتصل بالأزمة الروسية-الأوكرانية، أو على مستوى العلاقة الثنائية بعد الاتهامات الأميركية بتدخل روسيا في الانتخابات الأميركية، إلى جانب البحث في مستقبل الأزمة السورية التي تشهد هذه الأيام تطورات مهمة على صعيد استكمال النظام السوري وحلفائه الروس والميليشيات الإيرانية عملية السيطرة على مناطق نفوذ المعارضة السورية في الجنوب السوري، وهو تطور يمكن إدراجه في سياق التفاهمات الإسرائيلية-الروسية التي لا تزال تؤسس لقواعد الأمن الإسرائيلي على طول الحدود مع الجولان، بما يضمن التزام إيران وميليشياتها بعدم الاقتراب مسافة أربعين كلم من هذه الحدود، فيما قبلت إسرائيل بانتشار الجيش السوري ضمن شروط فض الاشتباك إثر حرب 1973، التي تلزم الجيش السوري بالانتشار ضمن شروط تحدد عدد القوات السورية ونوعية السلاح الذي سيستخدمه.

ويمكن القول إن روسيا تشكل هذه المرة الضمانة التي دفعت إسرائيل إلى السماح بإطلاق الحملة العسكرية ضد المعارضة الروسية، فيما رفعت واشنطن الغطاء عن قوى المعارضة المسلحة في هذه المناطق، عندما أعلنت في رسالة للمعارضة أنها لن تتدخل دفاعا عنها في حال تعرضت لأي هجوم من النظام السوري وحلفائه.

المسار السوري هذا يمهد إلى حد بعيد لفهم طبيعة الموقف الأميركي المرتقب خلال القمة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، فالمظلّة الأميركية-الروسية في سوريا لم تزل قائمة، بل تبدو الثابت في المعادلة السورية اليوم، ذلك أنّ السقف الإستراتيجي في مجريات معركة الجنوب السوري، يؤكد أن الأمن الإسرائيلي هو المعيار في رسم المعادلة الميدانية في هذه المنطقة، حيث نجحت روسيا حتى اليوم في إقناع إيران وميليشياتها باحترام متطلبات الأمن الإسرائيلي، وهذا ما جعل تل أبيب تقنع واشنطن بأهمية إعادة رسم المعادلة العسكرية في الجنوب السوري، رغم الدور الإيراني الذي ضمنت إسرائيل وروسيا التزامه بقواعد اللعبة المرسومة بالحبر الإسرائيلي.

لا يمكن فهم الموقف الأميركي في الجنوب السوري، ورفعها الغطاء عن قوى المعارضة المسلحة التي طالما دعمتها، إلا من خلال العرض المغري الذي قدمته روسيا نيابة عن طهران بالتزام الأخيرة شروطا إسرائيلية لم تستطع قوى المعارضة، أو لم ترد، الالتزام بها، وفي اعتقاد الكثيرين أنّ حدود العرض المغري لا تتوقف عند حدود الالتزام بشروط ميدانية عسكرية وأمنية فرضتها إسرائيل على الجيش السوري، بل تتجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير أي عدم الإخلال بمتطلبات ضم الجولان نهائيا إلى الدولة العبرية بضمانة روسية، وما يؤكد هذه الالتزامات تجاه إسرائيل من قبل النظام السوري وحلفائه، حجم الغطاء الأميركي للعملية العسكرية الجارية ضد المعارضة، والرضا الإسرائيلي على مجريات هذه العملية رغم أنّها تشكل انقلابا على ما عرف بمنطقة خفض الاشتباك في الجنوب السوري والتي أقرها الرئيسان الأميركي والروسي، وكانت إسرائيل والأردن طرفين ضامنين ومشاركين في تثبيتها.

التحول في الجنوب هو تحوّل إسرائيلي في الدرجة الأولى، يستجيب لمصالح إسرائيلية ويدفع السوريون ثمنه من خلال القضاء على الثورة السورية التي انطلقت من درعا، ومن خلال عمليات النزوح التي سببها القصف الجوي الروسي للمدن والحواضر في الجنوب، بحيث تجاوز عدد النازحين مئتي ألف رفض الأردن استقبالهم لعدم قدرة هذه الدولة على استقبال أعداد إضافية، ولكن الأهم أن إسرائيل التي أعطت الضوء الأخضر لإطلاق هذه العملية العسكرية، بدأت بإصدار بيانات متتالية عن تقديم المساعدات للنازحين السوريين الذين لجؤوا إلى مناطق قريبة من حدود الجولان، بل أكدت أيضا أنّ مستشفياتها تستقبل مصابين جراء عمليات القصف التي طالت المدنيين في أكثر من منطقة في الجنوب، وبدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث، بثقة، عن تبدل في نظرة اللاجئين تجاه إسرائيل بسبب المساعدات التي قدمتها لهم.

في المحصلة الإستراتيجية وإزاء الإصرار على كسر إرادة التغيير السياسي في سوريا، من خلال توفير كل الشروط العسكرية للقضاء على فصائل المعارضة لا سيما على الحدود الأردنية والإسرائيلية، وتأمين شروط سيطرة جيش النظام على هذه المناطق، فإن ما يمكن ترقبه في المرحلة المقبلة إلى جانب الرعاية الروسية لهذه السيطرة، هو التخفيف من حدة العداء تجاه إسرائيل، فالنظام لديه من الخبرة تجاه منع أي عمل عسكري ضد إسرائيل من الأراضي السورية، والمجتمع السوري في هذه المناطق بات بطبيعة الظروف العسكرية والأمنية يجد في العدو الإسرائيلي طرفا أقل عداوة إذا ما قيست عدوانيته بعدوانية النظام وحلفائه الروس والإيرانيين.

هذه الهدية الثمينة التي تقدم لإسرائيل من قبل ما يسمى محور الممانعة، لم تكن إسرائيل لتنجح في تحقيقها مطلقا، غير أن دموية النظام وسلوكه الإبادي تجاه الشعب السوري، وتهجيره للمئات من الآلاف، كما انخراط إيران وميليشياتها في هذا المنهج والسلوك وبذهنية مذهبية، سمح إلى حد بعيد بجعل العدو الأول للسوريين ليست إسرائيل التي تحتل الجولان، بل الذي يحصد من أرواحهم وممتلكاتهم كما لم تفعل إسرائيل ضدهم.

في هلسنكي سيحضر الرئيسان الأميركي والروسي، وستكون إسرائيل ثالثتهما، باعتبار أن إسرائيل لعبت دورا فاعلا في الترويج للخطوات الروسية في سوريا، والرئيس الروسي الذي يدرك أنه قدم لإسرائيل في سنوات قليلة ما لم تقدمه واشنطن لها في عقود، من حماية إستراتيجية ومن قنوات آمنة تجاه المجتمع السوري، ومن قدرة على تطويع السياسة الإيرانية في المجالين اللبناني والسوري بما يضمن الأمن الإسرائيلي لعقود قادمة، ينتظر في المقابل المكافأة الإسرائيلية من جعبة واشنطن، إذ لم يحصل أن شهدت العلاقة الروسية-الإسرائيلية تطورا في علاقات التعاون كما حصل في السنوات الأخيرة، بحيث لم يصدر أي موقف من أيّ مسؤول إسرائيلي يوحي بقلق ما من الدور الروسي، بل إن كل المواقف كانت تؤكد على أنّ روسيا باتت دولة تحظى باحترام كبير لدى الحكومة الإسرائيلية.

احترام وعلاقة باتا ينافسان العلاقة التحالفية بين واشنطن وتل أبيب. ما ينتظره بوتين من صديقه رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو هو دور فاعل في تليين موقف دونالد ترامب حيال ملفات تتصل بإنهاء العقوبات أو خفضها ضد روسيا، فضلا عن تلطيف التدخل الأميركي في المجال الحيوي الروسي.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٨
تعميق أزمة نظام الملالي

توصف السياسة الخارجية الأميركية بأنها سياسة الخطط البديلة والسيناريوهات المتزامنة، بينما يُعرف عن النظام الإيراني تفضيله دبلوماسية اللحظة أو الفرصة الأخيرة، وبراعته في عمليات المراوغة والتشتيت والتظليل لإضعاف تركيز الخصوم على طبيعة ومستوى التنازلات، وحصر طموحاتهم في الحصول عليها أولاً. فأي المدرستين ستنجح في تحقيق غاياتها.

من منظور شامل للمسألة الإيرانية، وبحسب تقدير يتَّفق عليه عددٌ كبيرٌ من خبراء الشأن الإيراني، يمكن القول إن سيناريو تغيير النظام الإيراني يبقى وارداً في حدود عمليات الإصلاح أو إعادة التأهيل، لكن إطاحة النظام خيار قد يكون مستبعداً، أو غير وارد في المدى القريب على الأقل؛ إذ لا مصلحة للأطراف الدولية فيه، بل إنه يضيف إلى الأعباء الدولية، ويُعمِّق خسائر المنطقة وأزماتها. ولكن إذا اضطر العالم، نتيجة استهتار النظام الإيراني فسيفعل ذلك.

من جانب آخر، تعيش قوى المعارضة الإيرانية في الخارج حالة نشطة من التحضير والاستعداد لخلافة النظام، وهناك مساعٍ من جانب أطياف المعارضة للوصول إلى جبهة مشتركة وفق تراتبية متفق عليها للأدوار. ويبدو أن هناك من أقنع المعارضة الإيرانية في أميركا بأن الولايات المتحدة لم تعد ترى في النظام الإيراني طرفاً يمكن التفاوض معه، أو الوثوق بالتزاماته أو تنازلاته التي قد تنشأ عن العملية التفاوضية. ويبدو كذلك أن المعارضة الإيرانية واثقة من أن هذه الموجة من التصعيد بين إيران وأميركا، ليست كسابقاتها.

داخلياً، بات من الواضح أن مُحرِّكات الغضب في الشارع الإيراني لا تزال فاعلة. وأن أزمات النظام البنيوية ستبقى تتناسل وتتفاعل في المدى القريب؛ وبالطبع تسهم العقوبات، والضغوط الدولية، إلى جانب الحلول الاقتصادية النيوليبرالية التي تتبناها الحكومة في تعميق الأزمة. وتُمثّل الاحتجاجات التي حدثت مؤخراً استكمالاً لاعتراض «طبقات اجتماعية بعينها» على «السياسات النيوليبرالية» التي يطبقها الفريق الاقتصادي للرئيس روحاني في مساعيهم لإصلاح الاقتصاد، والتي أفرزت موجات من التضخّم، وتسريح أعداد كبيرة من العمال، وتقلبات في سعر العملة الوطنية.

وتؤكد الدروس المستفادة من تجارب الاحتجاجات الشعبية الكثيرة التي شهدتها إيران خلال العقود الماضية، أن النظام ينجح لسبب ما في إخماد الاحتجاجات، ومَنْع انتشارها، أو توسعها بشكل يهدد بقاء النظام. كما ينجح في تفتيت المعارضات وتصفيتها، وتفكيك حواضنها الاجتماعية. ولعله بات من الضروري تحليل أسباب هذا النجاح، وبخاصة في ضوء حقيقة أن النظام الإيراني صدّر هذه الخبرات التخريبية أو استعملها خارج حدوده في كل من العراق وسوريا. وجانب الخبرة هنا مهم جداً، وكذلك مسألة استغلال النظام الإيراني للانقسامات الطبقية أفقياً وعمودياً، وحالة القطيعة السوسيولوجية بين إيران المركز، وإيران الأعراق والأقليات والأطراف.

وعلى سبيل المثال، في احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2017، ظلت طهران هادئة إلى حدّ كبير، نتيجة إحجام الطبقات المتوسطة والبرجوازية عن المشاركة في الاحتجاجات، في حين تركزت احتجاجات خلال اليومين الماضيين في أسواق العاصمة طهران، حيث تصدّر المشهد تُجّار البازار من الطبقة البرجوازية.

في المقابل، يفيد استقراء المشهد السياسي الإيراني الداخلي حالياً، بأن النظام الإيراني لم يعد قادراً على حشد وتوحيد الجبهة الداخلية كما في السابق، وأن الحديث عن مصالحة وطنية أو تلاحم وطني في مواجهة الضغوط الخارجية صار متأخراً؛ إذ تعاني الأطراف المتصارعة في الداخل من أزمة ثقة، ويعاني النظام ككل من تراجع ثقة الشارع بشكل كبير.

ويبدو خيار الإطاحة بالرئيس حسن روحاني وحكومته أصبح محتملاً في حال أخفق في حماية الاتفاق النووي، أو في حال عدم قدرته على تجاوز الخلافات مع خامنئي والحرس الثوري حول سبل مواجهة الضغوط الأميركية. وفي ضوء الدعوات من جانب قيادات ووسائل إعلام أصولية في طهران إلى ضرورة إطلاق يد الحرس الثوري أكثر، وتفويضه بصلاحيات حكومية واسعة لإنقاذ الوضع الراهن في إيران، يبدو أن النظام بدأ التمهيد لمثل هذه الخطوة، وقد يجد النظام أنه لا مناص من إقالة الحكومة الحالية، وفرض حكومة شبه عسكرية تقود البلاد حتى إشعار آخر.

خلاصة القول، إن دينامية «الأزمات المتناسلة» ستبقى نشطة في إيران، اقتصادياً وسياسياً، لكن ذلك لا يعني أن النظام الإيراني بات على مشارف السقوط، أو أنه قابل للانهيار قريباً. وبناءً على هذه القراءة، لا يبدو من المجدي التركيز على الإجراءات والممارسات الهادفة إلى إطاحة النظام، أو المراهنة على ثورة داخلية ضده. بل إن الأجدى والأهم في الوقت الراهن، هو تعميق أزمة النظام، ومفاقمة خسائره السياسية والاقتصادية، ومنعه من التحايل على العقوبات الاقتصادية الأميركية أو الالتفاف عليها.
وبهذا فإن النظام الإيراني سينهك في النهاية، وسيستسلم لا محالة في نهاية المطاف، ويكف عن عبثه وتدخلاته السافرة.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٨
ماذا تبّقى لنظام خامنئي سوى الرحيل؟

في إحصاءات أخيرة، تبيّن أنّ 40 مليون إيراني «يحتاجون إلى مساعدة»، و«20 مليونا تحت خط الفقر»، أي نسبة 70 بالمئة من الشعب الإيراني في حال العوَز، والقلق، والخوف من المستقبل.

حجم كبير بالنسبة إلى بلد نفطي، ويتمتع بمقومات اجتماعية، واقتصادية، تمَّ إضعافها، أو استلابها، أو مصادرتها أو نهبها. وهذا يقودنا بالمقابل إلى احتكار طبقة من الحكام، وزبائن النظام، وخامنئي بالذات، وبالأخص الحرس الثوري، وكل المقدرات المنتوجة، وجعلها «ملكيات» خاصة لهذه «الأقلية المُتسلطة»: تُقدّر ثروة خامنئي بـ200 مليار دولار، وتقدّر مشاريع الحرس الثوري، ومردودها، بمئات المليارات. إنها الثروة الوطنية والإنتاجية المُحتكرة أقصت وإلى حدّ كبير الممثلين التاريخيين عن المشاركة في استثمارات الاقتصاد على مختلف صُعده. هذا الاحتكار طمس قوى الإنتاج، والاستهلاك، الفردية والجماعية والشركات من أهل السلطة وزبانية النظام.

يضاف إلى ذلك الآثار العميقة التي خلّفتها حروب تصدير الثورة إلى العالم، وخصوصاً العالم الإسلامي والعربي، لتحقيق «حلم» إيديولوجي فاشل يُرمز إليه بـ«الهلال الشيعي»، والذي تمثّل حروباً مذهبية مدمّرة في عدّة بلدان إسلامية عربية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن، مما سجّل إهداراً لا مثيل له للمال العام، الموارد والميزانيات، والخسائر والتي تُقدر أيضاً بمئات المليارات.

وكان الشعب الإيراني هو الذي يدفع ثمن فساد النظام، وتدهور الاقتصاد، وتهاوي العملة الوطنية بنسبة 120 بالمئة في أقل من عام.

كان الدولار يساوي في بداية العام الحالي 42 ألف ريال وتجاوز في حزيران 90 ألفاً..


ثورة 2009
والكل يعرف أن ثورة 2009 كانت سياسية رداً على تزوير الانتخابات الرئاسية لصالح أحمدي نجاد، ولهذا لم يكن الوضع الاقتصادي مؤشراً لتحركات، وإذا كانت ثورة 2009 قد قُمعت بالنار والحديد، وسجن بعض مؤسسي الثورة الإيرانية ككروبي وموسوي، واضطهاد منتظري، فإن وضع البلاد اتخذ بعد ذلك منحىً جديداً: تصدير الإيديولوجيا المذهبية بالحروب والدمار والخراب، حتى بدأت معالم نتائج هذا الإهدار لموارد البلاد وأسسها الاقتصادية قبل عدة سنوات. وهنا بالذات اتخذت الحركات الاحتجاجية وجهة مزدوجة: اقتصادية وسياسية.

اقتصادية بسبب ازدياد الفقر والعوَز (مع ازدياد الفساد)، وسياسية متصلة بها وممثلة بالأحلام السياسية الامبراطورية التي تحوّلت كوابيس ضاغطة على مختلف الطبقات الاجتماعية، وهذا ما أدى إلى امتزاج السياسي والاقتصادي والمالي والأخلاقي في منظور أغلبية الشعب الإيراني. فإلى القمع الداخلي، وجنون سياسي في الخارج، عبر إيديولوجيا فارغة، مذهبية، بلا مضامين، سوى ما تقدمه إلى أهل السلطة من مشاعر التفوق، والعظَمَة الباطلة، والتي «تبلورت» في مشاريع حروب منهجية مدمرة. دفع ضحايا جنون النظام من العرب والإسلام أثماناً، ودفع، في التوازي أثمانها الباهظة الشعب الإيراني كلّه. غير أنّ الضحية مزدوجة والانتحار مزدوج. وقد زاد الطين بلّة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما والنظام، واعتبر لاغياً، وما أعقبه من عقوبات اقتصادية أعلنها ترامب على النظام.


الذروة
هنا بلغت الأزمة ذروتها.. ووجد النظام نفسه وشعبه معزولين وحدهما عن العالم: ويعاني الأول من فقدان أهليّته في قيادة البلاد، والثاني يعاني نتائج هذا التهوّر: فالشعب الإيراني وجد نفسه قريباً قرباً حميمياً من الشعب السوري الذي دمّر بلاده النظام وهجّره. أَوَلم يسبق أن هجر نظام الخميني (وقتل) حلفاءه في الثورة ضد الشاه كحزب تودة ومجاهدي خلق، والليبراليين والقوميين. أَلم يهجّر الخميني نفسه مئات الألوف من الشعب الذين اعتبرهم من إرث نظام الشاه، وها هم مشرّدون في بقاع الأرض؟


البازار
في ثورة 2009 (المتأثرة عميقاً بثورة الأرز) وما تلاها من تحركات شعبية. بقيت سوق العمل البازار وهو أحد المحركات الأساسية للاقتصاد الإيراني على حدة». لكن، وللمرة الأولى منذ ثورة الخميني، نزل إلى ساحة الاحتجاج.

وإذا كانت تحركات 2009 انحصرت في طهران فإن التحركات اللاحقة عمّت العديد من المدن الإيرانية لا سيما الريفية التي كانت تُعتبر الخزان الكبير للنظام. فمنذ تهاوي العملة المحلية، التي وصل فيها الدولار إلى أكثر من 90 ألف ريال، والإجراءات الفاشلة لكبحه، وبات النظام أعزل: تضاعفت الاحتجاجات بدخول البازار في صفوفها، وكذلك بعض قوى النظام، وبات الشعب أمام أبواب جديدة تتجاوز المطالب المطروحة إلى تغيير النظام نفسه. وإذا كانت شعارات مثل «فليسقط الدكتاتور» (أي المرشد الأعلى)، أو «فليسقط نظام الملالي»، قد رُفعت في احتجاجات عدّة سابقة، فإنها تتصاعد اليوم بقوة: ماذا يبقى من شرعية نظام خسر كلّ حروبه الخارجية (التي دفع الشعب أثمانها) في العراق وسوريا واليمن والبحرين، (وخسر الاتفاق النووي الذي كان يعوّل عليه بتعزية هذا الكيان الفاشل).


ماذا تبقى للنظام؟
ماذا تبقى للنظام من شعبه «وارث الثورة الخمينية» الذي هزّته النتائج الكارثية لرعونته. وقلّة تبصراته، واستشعاراته وأميّته، وفساده. الشعب اليوم في ضفة والملالي في ضفّة أخرى، يتصارعان على حلبات كثيرة، حتى وصل الأمر بالقيادات إلى تهديد المحتجّين بالإعدام والسجن والسحق، ليعبّر بعض أركان هذه القيادات بأن هناك مؤامرة أميركية لإطاحته، قافزاً فوق كل المعطيات المادية التي يعانيها الناس.

«هلاله» انكسر. وطموحاته الامبراطورية تهاوَت كعملته الوطنية، كأنما ذابت ثلوج الإيديولوجيا كذريعة للاستبداد وبانت حقيقته البائسة. فهل يعتمد «الملالي» ما اعتمده الأسد في سوريا لقمع ثورة شعبه بقتله وتهجيره وتدمير بلده؟ لقد عاد الخنجر الذي شهره على العالم العربي والإسلامي إلى نحره. فقد بدا واضحاً للناس وللعالم أن كل مشاريع هذا النظام التوسعية مدفوعة بغرور وعماء وصمم كاملة نوعاً من الانتحار المتعدد: للشعب العربي الإسلامي الذي دفع أثماناً باهظاً لغزوه، ولشعبه الذي وجد نفسه معزولاً عن العالم، ومفلساً، ووحيداً، أمام مصائره المجهولة، والنظام نفسه الذي بدأ يحصد ما زرعه.


تأثر الشعب بما حوله
وهل من المستغرب ألا يؤثر في الشعب ما يجري حول النظام من تغيرات في العالم، ومن تحولات، تعزز فيها إرادة الناس، أو تزدهر اقتصاديّاتهم، كالسعودية مثلاً: ففي الوقت الذي يستعد النظام السعودي بطموح ولي العهد محمد بن سلمان إلى مغادرة الكثير من التقاليد التاريخية، وفي مطلعها منع المرأة من قيادة السيارات، بالسماح لها، ليس فقط السيارات الخصوصية، بل العمومية أيضاً والشاحنات والطائرات (أي المرأة العاملة المنتجة) والدراجات النارية وسائر وسائط النقل.

إنه انتصار رمزي للمرأة السعودية وللنظام. أولم يتأثر الشعب الإيراني بخطة السعودية الاقتصادية لما بعد مرحلة النفط والاستعداد لها؟

ألم يتأثر الشعب الإيراني بلبنان الذي يحقّق شعبه (برغم ظروفه القاهرة)، انتصارات «ديموقراطية» وتنامي الحريات الفردية؟ ألم يتأثر الشعب الإيراني بما تحقّقه الإمارات الخليجية من تطور اقتصادي ومن رفاهية لشعبها؟ ألا يتأثر الشعب الإيراني بنجاح الثورة التونسية، لتطوير نظامها نحو مزيد من الحريات وأشكال التنافس السياسي الحر؟ ألم يتأثر الشعب الإيراني بتعافي الاقتصاد المصري بعد أزماته الكبيرة؟ ألا يتأثر الشعب الإيراني بالنمو الاقتصادي والسياحي في المغرب العربي، وبالدستور السياسي القائم على حريات التعبير، وإنشاء الأحزاب الموالية والمعارضة؟

ومن ناحية أخرى، ألم يتأثر الشعب الإيراني أولاً بالانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة ضد الاحتلال الصهيوني؟ بل ألم يتأثر بالشعب الأوروبي (وحتى الأميركي) الذي يمتلك ناسه الحرية بالحركة، والاستثمار، والاختيارات السياسية وبوجود أنظمة ودول ترعى حرّياتهم ومصالحهم؟

ينظر الشعب الإيراني حوله إلى العالم القريب (العرب الذين يشيطنهم النظام ويهّجرهم ويقتلهم نظامه) وإلى العالم الأرحب؟ أَوَليس من الطبيعي أن يقارن بين أوضاعه المزرية التي تفتقد كل ما يصنعه الآخرون من حوله؟ وماذا يرى: هناك ثقافة الحياة، والحرية، والتقدم، والسلم الاجتماعي، وعنده ثقافة الموت، وحروب الماضي، وتخيلات توسعية لم ينتج عنها سوى الموت والقتل والعذاب والخراب؟

وماذا يرى: مرشداً بلبوس التقوى، والسلطة المطلقة والجنون المتفلت، وضعف المقدرات العلمية والسياسية.

وماذا يرى: حرسا ثوريا فاسدا، سارقا، قامعا. يعامل شعبه بمثل ما يعامل الشعوب الأخرى التي «استنسبها مع مرشده» عدوا وشيطانا، يجب محوها؟

يفتح الشعب الإيراني يديه فإذا بهما فارغتان. وعيونه فإذا بها مظلمة، وحاضره فإذا به مسدود؟ ومستقبله فإذا به مجهول، وتاريخه فإذا به مزوّر، وحضارته السابقة فإذا بها مدمرة..

ماذا يفعل هذا الشعب عندما يُطالب النظام بحقوق القرن الحادي والعشرين، فيجيبه بعقلية القرن العشرين، ثم يقترح عليه حلولا من القرن التاسع عشر؟

فالتفاوت الزماني والمكاني يتعمّق بين شعب يريد أن ينضم إلى مسار العالم الحديث وبين نظام ما زال متجمّدا في مراحل ألفية عفا عليها الزمن!

وهل يبقى أمامه سوى الثورة الشاملة التي تتجاوز الأوضاع الاقتصادية والإيديولوجية والمطلبية الراهنة.. إلى ما هو شامل. أي إلى مسؤولية النظام الكاملة في وصول الأمور إلى هذه النقطة الفاصلة؟

لم يعد عند النظام ما يقدّمه. وإذا كان لا بدّ أن يقدّم شيئا نافعا للناس... فلن يكون سوى رحيله.

اقرأ المزيد
٣ يوليو ٢٠١٨
درعا.. البداية والنهاية؟

قبل سبع سنوات ونيّف، انطلقت من مدينة درعا السورية شرارة الثورة التي غيرت وجه سورية والمنطقة، حين كتب مجموعة من الأطفال عبارات مستوحاة من الحراك الشعبي الكبير في تونس ومصر. عبارات صبيةٍ كان نصيب كاتبيها القمع والاعتقال، وهو ما أثار حراكاً شعبياً ما لبث أن تمدّد في مختلف الأرجاء السورية، لتنقلب الأوضاع في البلاد رأساً على عقب، وتنحو قصة الثورة المنحى الذي وصلت إليه لاحقاً من تسليحٍ إلى دخول جيوش ومرتزقة من العالم إلى أراضي سورية لاقتسام النفوذ في البلاد.

من درعا قبل سبع سنوات كانت البداية، واليوم تعود درعا إلى الواجهة مع الحرب المدمرة التي يخوضها النظام السوري وروسيا على المدينة وريفها، في إطار محاولة إنهاء ما تبقى من "ثورة" وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً. تسير الأمور، كما يبدو، وفق ما هو مخطط لها، وخصوصاً في ظل حديثٍ عن "صفقاتٍ" يجري الإعداد لها في الأروقة الأميركية والروسية، بالمشاركة مع الأردن وإسرائيل. تشير الصفقة التي سرّبت أجزاء منها محطة سي إن إن الأميركية، بوضوح، إلى أن ملامح النهاية التي تريدها الأطراف الدولية هي عملياً عودة إلى نقطة البداية، وربما إلى ما قبلها، فالحديث يجري عن إعادة تأهيل رئيس النظام السوري بشار الأسد، ونيله المشروعية الدولية التي حاول الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، إعطاءه إياها، في مقابل الالتزام بالشروط الغربية الخاصة بالحفاظ على أمن إسرائيل وإخراج إيران وحلفائها من الأراضي السورية. وهذه المرة الضامنون لهذه التسوية/ الصفقة كفيلون بتطبيق بنودها، باعتبارهم الأطراف الأساسية على الساحة الدولية اليوم، والحديث هنا عن الولايات المتحدة وروسيا، بالإضافة إلى إسرائيل ودولٍ أوروبيةٍ تنشط في الساحة السورية.

عبارة "إعادة تأهيل الأسد"، كما هو وارد في التسريبات، تحمل معانٍ كثيرة، ربما أكبر من مجرد ضمان الأخير أمن إسرائيل، إلى الانخراط بشكل كامل في المعسكر الغربي، أو على الأقل مماثلة السياسة الروسية وتجاذباتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، والتي لا تصل إلى حد القطيعة. قد يكون مبكرا الحكم على المسار الذي ستأخذه "إعادة التأهيل"، غير أن المؤكد هو أن العمل قائم على إنهاء وجود المعارضة السورية بشقّها المسلح، وضمان سيطرة النظام، بالحد الأدنى، على كامل الأراضي السورية، من دون أن يتداخل ذلك مع القواعد العسكرية الموجودة للقوى الأجنبية، وخصوصاً الروسية، والتي يبدو أن بقاءها سيستمر طويلاً.

في ظل هذه التفاصيل، إن صح بعضها على الأقل، ستأتي الصفقة بشكل أساسي على حساب السوريين الذين انتفضوا ضد النظام، وطالبوا بالإصلاح، فالأمور تتجه إلى العودة إلى المربع الأول مع إغلاق الباب نهائياً أمام أي احتمالاتٍ للتغيير، ولو طفيفة. إذ من الواضح أن الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، قد ضاق ذرعاً بالأزمة السورية وتداعياتها، وانعكاساتها، ولا سيما في ملف اللاجئين الذي يثير أزمة في أوروبا، وهو يسعى بأي شكل إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً، علّه يتخلص من أعباء اللجوء، خصوصاً أن بعض الدول غيرت قوانين اللجوء لديها، بحيث لم يعد هناك لاجئ دائم، فالبقاء مرتبط بتطور الأوضاع في البلاد الأصلية، وعودة الهدوء تعني عملياً عودة اللاجئ، وهو ما تصبو إليه دول أوروبية عديدة.

لكل من الأطراف حساباته الخاصة، والتي لا تصب في صالح الشعب السوري، وتحديداً الجزء المعارض منه، والذي يترقب تطورات الأوضاع في درعا، وما إذا كانت المدينة ستكون بوابة النهاية، كما كانت شرارة البداية.

اقرأ المزيد
٢ يوليو ٢٠١٨
أطفال النعمة السوريون

الزمن في سورية لا يداوي الجراح، بل يصنعها ويبتكرها يوما بعد يوم، وأكبر عنوان للألم السوري المُتجدد هم أطفال سورية، من يتأمل وجوههم في مخيمات اللجوء البائسة، أو وجوههم وعدسة الكاميرا تلاحقهم، لإعداد برامج عنهم، وهم مادةٌ خصبةٌ للربح، يُصاب بالذهول، إذ على الرغم من هول معاناة هؤلاء الأطفال، فإنهم لا يزالون قادرين على الابتسام وعلى اللعب، وعلى التحدّث عن طفولتهم التي سُرقت منهم، وحل مكانها إحساسٌ دائمٌ بالخوف والذعر. من يتأمل وجوههم بعمق يدرك أنهم أطفال نعمة، كانوا يعيشون تحت سقف، ويلعبون مع رفاقهم في حديقةٍ لم تُحرق أشجارها، ولم تتحول إلى سور من الحواجز، أو كانوا يلعبون في باحة مدرسةٍ، وهم باللباس المدرسي الأنيق النظيف، وفي حقيبتهم المدرسية كتب ودفاتر وقصائد فرح وسندويشات شهية.

من يتأمل وجوه أطفال سورية النازحين المُروعين من هول الإجرام يرى ما لا يُرى، يرى أبعد من الواقع المُخزي الوحشي، يرى طفولةً منطويةً على ذاتها، مختبئة في دهاليز الروح العميقة، تقتات على ذكرياتٍ رائعةٍ، قُصفت بومضة عين. تشعر أن هؤلاء الأطفال يتذكّرون طفولتهم الآمنة كل لحظة، ينطوون على ذاتهم، ويهربون من الواقع الذليل المهين، باستعادة ملامح من طفولةٍ آمنةٍ عاشوها ذات يوم، وصارت بعيدةً عنهم، وكأن دهرا فصلهم عنها، لكنهم لا يزالون يحتفظون بأناقة أرواحهم الطاهرة، وفرح الطفولة الخام النقي.. لا يزالون، على الرغم من الألم الشديد الذي يفوق قدرتهم على الاستيعاب (من حسن حظهم) قادرين على أن يعبروا من عتبة الألم إلى عتبة الحلم، إلى عالمٍ سعيدٍ آمنٍ، عرفوه يوما، حين كانوا لا يزالون يعيشون تحت سقفٍ، ويستحمون بماء ساخن، ويأكلون طعاما لذيذا، ويحلمون بمستقبل ومهنة وموهبة.

تلك الذكريات الأشبه بالوشم لا تزال محفورةً في ذاكرة أطفال سورية، تُقوّيهم، وتمدّهم بقوةٍ سحريةٍ على تحمل ما لا يُحتمل ولا يُطاق. لا يحتاجون دعما من الكبار. إنهم يستخفون بكل من يُعدّ عنهم دراساتٍ وبرامج، ومن يتفاصح لتقديم خطط لدعمهم نفسيا، وتخفيف الآثار الرهيبة للمجازر التي شهدوها!

يحتمي أطفال سورية بمخزون ذاكرتهم من موسيقى، وقراءةٍ ولعبٍ وحلم، ليهربوا من وحشية الواقع والبشر، يستنهضون قوةً مُذهلةً من أرواحهم النقية نقاء نور فجرٍ يبدّد ظلمات كثيفة، يرفعون نظرهم إلى السماء، ويتجاهلون سرب الطائرات التي تقصف، وترمي براميل مُتفجرة، ولا يرون إلا سرب عصافير تزقزق فرحا بالحياة. يتظاهرون بأنهم يحتمون بخيمةٍ، لكن مسكنهم الحقيقي طفولة بكامل بهائها وقوتها، لا تزال في قلوبهم الممتلئة بحب الحياة. القوة الحقيقية هي السعادة.

من يحدّق بدقةٍ في وجوه أطفال سورية يستكشف روحهم الحقيقية، صامدة قوية وأنيقة، تشع من وجوههم نعمة وأملا بالحياة. لستُ واهمة ولا أكتب إنشاءً. ولكن أعترف بكل نزاهة أنه لطالما أذهلتني وجوه أطفال سورية في مُخيمات النزوح، أو وجوههم والعدسة تصورهم كيف يحملون أكياسا وبقايا ألعاب، ويسيرون في طرقاتٍ وعرة تحت القصف، ووسط الجثث وأشلاء بشر. .. كيف لا يزالون يملكون القدرة على الوقوف والمشي، وعلى التحديق في الكاميرا والابتسام، ابتسامة من يتجاوز الكارثة، من يترفع عنها ويحتقرها، ولا يعترف بوجودها. لا يُنسى مشهد طفلة في الثالثة من عمرها تسير خلف والدتها وإخوتها، يذرعون الآفاق سُدى، آملين الوصول إلى مكانٍ لا رصاص فيه، ولا دبابات، ولا براميل مُتفجرة. توقفت تلك الطفلة لحظاتٍ، لتُحكم وضع ربطة شعرها، بعد أن سرحته بأصابعها البضّة. لعلها كانت تتخيل مرآتها الصغيرة في بيتها الآمن، قبل أن ينهار سقفه على من فيه. طفلة في الثالثة من عمرها تملك القوة، لتمشي في طريق الحياة الوعرة، بعد أن شهدت المجازر. لا أنسى هبة الطفلة ذات السنوات العشر، والتي حكت لي كيف شاهدت الصاروخ يهدم بيت جيرانهم في حلب. دمعت عيناها، وهي تصف القطة الجميلة التي كانت تعيش معها في بيت آمن، هبة التي نزحت إلى اللاذقية، وعاشت مع أسرتها في خيمةٍ بائسةٍ، لكنها تقرأ طوال الوقت، وتحلم أن تصير طبيبة.

ترى في وجوه أطفال سورية، خصوصا من في مخيمات النزوح ما لا يُرى، ترى النعمة وأناقة روحٍ طفوليةٍ لم تتشظّ بالرصاص والأحقاد. تدرك أي قوةٍ هي الابتسامة، الابتسامة التي تعني رغبتهم في البقاء على قيد الحياة، وعيش حياة كريمة تليق بهم، واستعادة طفولةٍ ينتهكها العالم أجمع.
أطفال سورية، أطفال النعمة، يفضحون، بوجوههم السمحة الجميلة، انحطاط العالم الأخلاقي، ويؤكدون أن السياسة وعمل رجال العصابات شيء واحد، أو وجهان لعملة واحدة.)

اقرأ المزيد
٢ يوليو ٢٠١٨
المنتصرون على شعب سوريا

لغتنا العربية من أجمل لغات الأرض وأغناها معاني وبلاغة وتورية.

بمقدور هذه اللغة أن تقدّم الهزائم على أنها انتصارات، والاستسلام على أنه كياسة، والخيانة على أنها بُعد نظر، والالتفاف على الحقائق وخداع الذات والآخرين على أنها من أصول السياسة التي هي «فن الممكن».

بالأمس، في بعض أقطارنا العربية المشرقية الجريح، حصرنا التعصّب والإرهاب بفريق دون آخر لا يقل عنه تعصّباً وميلاً للإرهاب. وفي أقطار مجاورة لها تأقلمنا مع احتلال أجنبي بواجهات محلية تزايد على الوطنيين الحقيقيين... بالوطنية والتحرير!

ومن ثم، في جو إقليمي مكفهر، غامض، رهاناته باهظة الثمن، وخطوط الرجعة فيه مقطوعة أو ممنوعة، اختلط التواطؤ الدولي مع سوء القراءة، وروّجت الأكاذيب على أنها مفاوضات، والمؤامرات على أنها مبادرات سلام، وفي الحصيلة النهائية ها نحن أمام واقع ديمغرافي مختلف.
التوصل إلى هذا الواقع الديمغرافي المختلف لم يفاجئ سوى شارعنا العربي الساذج الذي ما زال مأخوذاً بالشعارات البراقة. بل، أن قطاعاً منه ما زال يحاول الدفاع العبثي حتى بعد انكشاف المواقف، وعقد الصفقات الكبرى فوق أنهار الدماء وأشلاء الأوطان.

في سوريا تشير الأحداث المتسارعة في الجنوب إلى تصفية المجتمع الدولي مقاومة شعب انتفض من أجل كرامته. لقد احتاج المجتمع الدولي إلى سبع سنوات للقضاء على ثورة كرامة ضد نظام درجت دوائر القرار السياسي في الولايات المتحدة – تحديداً – على إدراجه سنوياً كداعم للإرهاب.

هذا النظام «الداعم للإرهاب»، وفق قوائم وزارة الخارجية الأميركية، بات الآن علنياً «الحل». الشريك الأمني «الضامن للاستقرار والاعتدال» في وجه الإرهاب، غدا علنياً ليس فقط «صندوق بريد» بين اللاعبين الإقليميين، بل صلة الوصل بينهم. ومن ثم، ما عاد أمام الشعب، الذي ثار أطفالاً وشباناً وشيباً قبل 7 سنوات، إلا الاستسلام لجلّاديه باسم «المصالحة» في قاموس سياسي جديد قديم.

في عددها بتاريخ الخميس 28 يونيو (حزيران) نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية الوقورة تقريراً متميزاً بعنوان «كيف يغير المنتصر بشار الأسد سوريا». وفيه تذكر باختصار أن الحرب «طردت المسلمين السنّة... وأن سوريا الجديدة أصغر حجماً، مدمَّرة، وأشد طائفية».

التقرير تضمّن أرقاماً ومعلومات عن عمليات التدمير والتهجير الطائفي والتبادل السكاني. وانطلاقاً من مدينة حمص، حيث حقق النظام بفضل التواطؤ الدولي أول «انتصاراته» الديمغرافية على شعبه، كتب التقرير: «حمص، مثلها مثل كل المدن التي أعادت الحكومة السيطرة عليها، هي الآن بحوزة أقليات سوريا المنتصرة: المسيحيون والشيعة والعلويون... هذه الجماعات تجمّعت وتكتّلت ضد الثوار، الذين هم بغالبيتهم العظمى من السنّة، وطردتهم من المدن. وبعد هؤلاء ألحقت بهم المدنيين السنّة الذين كانوا غالبية السكان. أكثر من نصف عدد سكان البلاد البالغ 22 مليوناً هُجّر – 6.5 مليون داخل سوريا و6 ملايين خارجها. جلّ هؤلاء من السنة».

هذه مجرّد فقرة من التقرير، وهي وإن كانت تعطي فكرة واضحة عن السياق العام، فإنها تلمح ولا تصرّح بأن المجتمع الدولي مرتاحٌ لما حصل ويحصل في سوريا. على الأقل، قادة أوروبا الغربية، يفضلون التطبيع مع ديكتاتور على أن يواجهوا طوفان لجوء جديد.

غير أنني أعتقد أن الصورة أكبر وأشمل من ذلك. أزعم أن مهمّة نظام حافظ ثم بشار الأسد لم تتغيّر. وأزعم أن الموقف الدولي من الإسلام السياسي السنّي، تحديداً، لم يطرأ عليه تغيير يذكر بين حقبة رئيس الوزراء البريطاني ويليام غلادستون في القرن الـ19... وعهد الرئيس الأميركي باراك أوباما في القرن الـ21.

المشكلة في الإسلام السنّي و«ثقليه» الديمغرافي والسياسي وانتشاره الجغرافي. الإسلام السنّي يشكل نحو 75 في المائة من مجموع مسلمي العالم، وهو الذي يتاخم أتباع الديانات الأخرى. إنه «الفزاعة» في الضمير الديني، وهو الإسلام المقاتل التي شُنّت «حروب الفرنجة» (الحروب الصليبية) لاسترجاع القدس منه. هو الذي غزا أوروبا مرّتين، الأولى في القرن الثامن الميلادي عبر إسبانيا وصولاً إلى فرنسا، والأخرى في القرن الـ15 مع فتح القسطنطينية (إسطنبول)... والتقدم بعد ذلك لـ«حصار فيينا» عام 1529م، وبعدها «معركة فيينا» عام 1683 التي استهلت حرباً عثمانية نمساوية طالت 15 سنة. وهو، أيضاً الإسلام «الانتحاري» – كما يؤمن أوباما – الذي شن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في قلب أميركا.

ومن ثَم، فإن «تحالف الأقليات» ليس شعاراً فارغاً. وهذا ما اتفقت على دعمه كل قوى العالم. من الصين التي تحارب توق الويغور السنة للاستقلال بإقليم سنكيانغ (تركستان الشرقية)، والهند التي بنى زعيمها الهندوسي ناريندرا مودي «شرعية» حكمه على مقاومته والتغلب عليه في بلد تسامح غاندي وديمقراطية نهرو... إلى الغرب الأوروبي والأميركي بتاريخه الطويل في مواجهة هذا الإسلام داخل آسيا وأفريقيا. وإن ننسى، فلا يجوز أن ننسى «قياصرة» روسيا القدامى والجدد في حروبهم مع الإسلام السنّي في حوض الفولغا والقوقاز وآسيا الوسطى، وأحدثها حرب الشيشان.

أوباما ليس وحده الذي برّر التحالف مع إيران، مع أن أحداً قبله لم يستخدم حجة أن نظام الملالي «ليس انتحارياً» مثل «القاعديين» و«الدواعش». ذلك أن هذه النظرة موجودة عند كثيرين، وإن كان هؤلاء – باستثناء فلاديمير بوتين – لم يصلوا إلى موقع القرار الدولي الحاسم.

وزيرة بريطانية سابقة زارت مكاتب «الشرق الأوسط» قبل سنوات قليلة، وتناقشنا معها حول الأزمة السورية. الوزيرة السابقة كانت في طليعة المتعاطفين مع الأكراد إبّان حملات الجيش العراقي ضدهم، كما كانت من مؤيدي إطاحة حكم الرئيس العراقي السابق وجامعي التبرّعات للعراق أثناء الحصار الذي سبق الغزو. إلا أنها بمجرد الكلام عن سوريا، دافعت عن الأسد، ورفضت أي مقارنة بين الحالتين العراقية والسورية، مكرّرة أن ليس هناك أمام السوريين إلا العودة إلى سوريا والعيش في ظل النظام.

هذا المنطق المقلوب نفسه، ردّده ويردّده كثيرون من القادة السياسيين والدينيين الغربيين.
هؤلاء هم الذين انتصروا في سوريا على شعبها اليوم.
وهؤلاء هم الذين يؤسّسون لراديكاليات خطيرة وهدّامة وحاقدة، العالم كله – وليس العالم الإسلامي فقط – بغنى عنها.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل
● مقالات رأي
١٢ يونيو ٢٠٢٥
النقد البنّاء لا يعني انهياراً.. بل نضجاً لم يدركه أيتام الأسد
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان