أصبحت في حالة "موت سريري" اتفاقية وقف التصعيد التي عمل عليها الأردن، منذ العام الماضي، ودفع باتجاه اتفاقية روسية أميركية، وقبل ذلك الهدنة العسكرية، في الجنوب السوري، بتفاهمات أردنية روسية منذ ثلاثة أعوام تقريباً.
الرهانات الأردنية اليوم على المحكّ في درعا، بعدما تبيّن أنّ استدامة الوضع الحالي غير ممكنة، وبالتالي طوّرت الدبلوماسية الأردنية مفهوم "سيناريو المصالحات" بديلا عن الوضع الراهن، وهو يقوم على عودة "الدولة السورية" إلى الجنوب، وفتح معبر نصيب، وعودة متدرّجة للجنوب الغربي إلى الدولة، بإشرافٍ دولي روسي، وهو مخططٌ أطلق عليه تقريرٌ لمجموعة الأزمات الدولية أخيرا مصطلح "العودة الرقيقة".
في الأثناء، تمّ تسريب رسالة من الخارجية الأميركية إلى المعارضة السورية المسلّحة في درعا، تخبرهم بلغة صريحة، بأنّهم خارج "التغطية الأميركية"، وأنّ أي رهاناتٍ على تدخل عسكري أميركي خاطئة، وعليهم أن يعلموا بأنّهم وحدهم، عليهم أن يقرّروا مصيرهم ومصير عائلاتهم.
أردنيّاً وأميركياً وإسرائيلياً (مصالح الأطراف الإقليمية والدولية)، هنالك شروط مرتبطة بإيران بدرجة رئيسة، تتمثّل بعدم اقترابها من الحدود الدولية، وإخراج المليشيات الطائفية التابعة لها، والاقتصار على الجيش السوري، وهو الأمر الذي يعمل الروس على مراعاته، لأنّهم حريصون على عدم الوصول إلى نقطة تحوّل Tipping Point، تؤدي إلى انفجار صراع إقليمي في الجنوب، بين إيران وإسرائيل، يفتح الباب على سيناريوهاتٍ تتجاوز المعادلة السورية، وتقضي على "الإنجازات" التي يرى الروس أنّها تحققت من خلال سيطرة النظام على مناطق عديدة في سورية.
هذه "الشروط الإقليمية" التي تراعي فقط مصالح الأطراف الدولية والإقليمية، والرسالة الأميركية إلى أهل درعا، تأكيدٌ على مسألةٍ باتت واقعياً في حكم المسلّمات، لكنّها لم تتشكّل بصورتها الحقيقية بعد، وتتمثّل في أنّه لا أحد يكترث بأهل درعا، والسوريين عموماً، وأنّ ما يهتم الجميع من أجله فقط اليوم (أميركا، الغرب، الأردن، إسرائيل) هي فقط المصالح الدولية والإقليمية.
ليس تحقيق الشروط الأميركية الأردنية الإقليمية مسألةً صعبة شكلياً على الروس، فيمكن أن يفرضوا على "المليشيات الطائفية" (المقصود غالباً حزب الله وفصائل محدّدة) عدم الاقتراب من مناطق الحدود، لكن في الوقت نفسه من السذاجة المفرطة أن يُظن أنّ ذلك سيحجّم النفوذ الإيراني عملياً ومنطقياً، لأنّه (النفوذ الإيراني) تجاوز مرحلة المليشيات التابعة مباشرةً لطهران، أولاً، وثانياً إذا وافقت طهران على الابتعاد، المباشر، عن الجنوب، فهي موجودةٌ في قلب المعادلة السورية العسكرية والسياسية والأمنية.
الإصرار الأردني، مثلاً، على وجود الجيش السوري في الجنوب أقرب إلى البعد الشكلي والرسمي منه، كي لا يضطرّ الأردن لأن يتعامل رسمياً مع حزب الله، أو مليشياتٍ تضع علماً إيرانياً على الحدود الأردنية، لكنّ المسؤولين الأردنيين يدركون تماماً أنّ المسألة أعمق من مسألة وجود عناصر حزب الله أو الحرس الثوري على نقاط التفتيش الحدودية.
يبقى الهاجس الأردني الأكبر الذي يتمثّل في حال انفجر الصراع المسلّح، ولم تنجح الأطراف الدولية والإقليمية المعنية باستباق الآلات العسكرية، كيف يمكن التعامل مع عشرات وربما مئات الآلاف من اللاجئين السوريين، الذين حتماً سيلجأون إلى الحدود الأردنية هرباً من الجحيم، وهو سيناريو بدأ بآلافٍ أخذوا يتدفقون حالياً على الحدود؟
رسمياً، أبلغ الأردن الأميركيين والأوروبيين والمجتمع الدولي بأنه لن يسمح بأي حال بأي موجة لجوء إلى أراضيه، وأنه سيغلق الحدود ويدافع عن مصالحه، إذ تحمّل ما يكفي من الأعباء الاقتصادية والإنسانية؟
لكن هل ذلك ممكن فعلاً؟ لا أظن، بالقانون الدولي وبمنطق الإنسانية والأخلاق، يملك الأردن الذي رسم مشهداً حضارياً هائلاً، خلال الأعوام الماضية، أن يغلق الحدود في وجه نساء وأطفال عرايا هاربين من القصف. يمكن أن يضمن تأسيس مخيماتٍ في الأراضي الحدودية السورية مع الروس، خارج نطاق العمل المسلّح. ولكن إذا استمرت الأزمة العسكرية، فإنّ الضغط سيزيد، وسيتم تصدير الأزمة إلى الأردن، وهذا سيناريو كان "مطبخ القرار" يتجنبّه، أو يستبعده، في الأعوام الماضية، بالرهان على "الضمانات الروسية" التي تبخّرت اليوم، مع مشاركة موسكو في الحملة العسكرية الحالية في درعا.
تتنازع أطراف المعارضة السورية على جيفةٍ، اسمها الانتقال السياسي. بعضنا مستعجلٌ على التفاوض بأي ثمن، إفراطا بالتفاؤل، وبعضنا الآخر يسير كما لو كان على جمر، خائفا من التفريط في الحقوق التي أنيط به الدفاع عنها. والواقع أن المعركة الجارية الآن ليست سورية، أو بين السوريين، وإنما هي معركة التسوية الدولية التي تدور، من وراء تحديد مناطق النفوذ ومواقعه، حول تقرير مصير سورية ومستقبلها ودورها في المنطقة والمنظومة الدولية. ولن تكون التسوية السورية، وبالتالي النظام الذي سيولد بموازاتها، سوى ثمرة لها وجزء مكمل لها. وجوهر التحدي الذي يواجهه المتنازعون على اقتسام إرث دولة الأسد البائدة هو العثور على نظام جديد، يضمن المصالح الإسرائيلية والأميركية الأمنية، والتطلعات الروسية التي تستخدم سورية منصةً لإعادة موضعة نفسها في المنظومة العالمية، والتي لا يمكن تحقيقها ضد واشنطن، وإنما بالتفاهم معها من جهة أخرى. وعلى هامش هذا التقاسم الصعب، تقديم جائزة ترضية للشعب السوري، تخفف من شعوره بالخسارة المرّة، وتضمن تعاون بعض قطاعاته المنهكة. وهذا يعني أن أي حل في سورية لن يتقدّم، ما لم يحسم مسبقا الصراع الدولي على سورية. ولن يكون في الظروف الراهنة سوى ملحق بالتسوية الدولية أو زائدتها الدودية.
المشكلة أن هذه التسوية لم تنضج بعد، وليس هناك تأكيد بأنها يمكن أن تنضج، فالمشكلة في الصراع الجاري على أرض سورية اليوم أن ما يطلبه المهاجمون الروس، وما يسعون إليه لا يتحقق حتى بسيطرتهم على سورية كاملة، إنه قائمٌ خارجها، أي في واشنطن ذاتها. والسؤال كيف يمكن للحرب السورية التي تفجرت بسبب هذا الصراع أن تتحول إلى سببٍ في تجاوزه، وتفتح باب التفاهم الروسي الأميركي؟ وما الذي سيدفع واشنطن إلى مكافأة موسكو، وتسهيل خروجها سالمة ورابحة من المحرقة السورية التي كانت أكثر من ساهم في إشعالها؟
لا أحد يعرف اليوم بالضبط الأهداف التي يسعى الأميركيون لتحقيقها في الشرق الأوسط وسورية، وفي ما إذا كانت قد تغيرت، أم لا تزال كما كانت، بعد أن لم يعد هناك خوف على أمن إسرائيل، ولا على سطوتها الإقليمية، ولا سبب للقلق على صادرات النفط، ولا على مصب عائداته وحركة أسواقه. وأعتقد أن الأميركيين أنفسهم لم يصلوا بعد إلى بلورة رؤية نهائية لطبيعة المصالح التي يسعون إلى تثبيتها في المنطقة. ويبدو لي أنها تتبلور أكثر فأكثر حول محاور أمنية استراتيجية، تتجسد في الحفاظ على الموقع الهيمني في المنظومة الدولية والإقليمية، وتتخذ من الحرب ضد الإرهاب شعارا تخفي وراءه مخططاتٍ للسيطرة على مواقع أو تعزيز مواقع دفاعية قائمة، بغرض الإبقاء على نفوذ واشنطن المتعدّد الأبعاد، أطول فترة ممكنة في مواجهة التهديد المتنامي للقوة الصينية، والآسيوية عموما. وربما كان تحجيم إيران وثنيها عن الاستمرار في فرض نفسها القوة الاستراتيجية المهيمنة في المشرق، على حسابها وحساب حلفائها، أحد عناصر تعريف هذه المصالح الجديدة، وتمييزها عن تعريفات الإدارة السابقة للرئيس الأميركي، باراك أوباما، ونظرية الاحتواء التي سبقتها.
يعني هذا أن التسوية السورية لم تنضج بعد. والمقصود بالتسوية ليس التوفيق بين مصالح نظام الأسد وأطراف المعارضة، ولا بين فريقين سوريين خاضا حربا دموية وراء علم النظام أو شعارات الثورة والمعارضة، فلا يمكن، مهما شحذ الدبلوماسيون هممهم، إيجاد الأرضية السياسية والقانونية والفكرية والنفسية الملائمة، كي يخرج من اجتماع الجلاد والضحية توافقٌ في المصالح، أو تسوية قابلة للحياة، ولا أن ينجح الذئب والحمل في إرساء قاعدةٍ التعايش حتى تحت الوصاية الخارجية. ومن المستحيل الاعتقاد أن من الممكن، في إطار هذه المعادلة المستحيلة، مناقشة أي انتقالٍ سياسي جدّي، سواء كان ذلك عن طريق المفاوضات، أي مفاوضات، أو عن طريق الحرب، وقد فشلت الوسيلتان حتى الآن.
التسوية الوحيدة الممكنة والمحتملة، وبالتالي الانتقال بسورية نحو بداية مرحلةٍ من السلام والاستقرار واستعادة الهوية والحياة، لا يمكنان تأتي إلا من الأطراف الدولية التي بسطت وصايتها على الطرفين، وتستطيع وحدها أن تفرض ما تستدعيه من تنازلاتٍ على النظام، بعد أن قضت أو كادت على فصائل عديدة للمقاتلين باسم الثورة، أو لحسابهم الخاص. وهذه الدول الوصية وحدها التي تضمن أن يتخلى الأسد عن أحلامه وأوهامه، أو يحدّ منها، بعد أن ساعدته، سواء أكانت في صف حلفائه أو صف أصدقاء الثورة، في القضاء على معظم القوة المسلحة الشعبية.
هذا يتطلب تفاهم روسيا والولايات المتحدة وحلفائهما المباشرين على طبيعة النظام الجديد واتجاهاته وسياسته والتزاماته تجاه الدول المختلفة، وتمهيد الساحة لقيامه، وتحرير الدولة التي يمارس سلطته عليها من سيطرة القوى الأجنبية، ومن الالتزامات والتفاهمات السابقة التي ارتبطت بالحرب، وكانت جزءا منها. ويتطلب، في السياق نفسه، أيضا، تعريف دور الأسد وحدود صلاحياته السياسية ومدتها الزمنية، بوصفه التجسيد الرمزي والسياسي الوحيد لمصالح الدول التي وظفته في الحرب ضد السوريين، والتعبير عن حضورها واحترام مصالحها، وبالخصوص إيران وروسيا.
ومن المفروض أن يتقدّم هذا التفاهم الدولي بشأن طبيعة النظام المسخ الذي يتم طبخه في مطابخ الدبلوماسية والمخابر الأمنية الدولية، بموازاة النقاش حول الدستور الجديد الذي عرضت أولى مسرحياته الهزلية في مؤتمر سوتشي الذي جمع خليطا من السوريين المخبرين وأنصاف المخبرين والمعارضين وأشباههم وشلة كبيرة ممن ليس له علاقة بالأمر، ولا رأي فيه. وأكثر ما يعبر عن المكانة التي تعطيها الدول الوصية لهذا الدستور هي الطريقة التي تشكّلت بها اللجنة الدستورية، والمحاصصات غير المسبوقة التي قامت عليها. وهي على حق في ذلك، فالدستور هو التعبير الأسمى عن وحدة الشعب وسيادته التي تعكس حريته واستقلاله وإرادته في العيش المشترك. وما يحصل يعكس بالضبط تجريد الشعب السوري من حقه الدستوري، ونزع سيادته عنه، في انتظار تنصيب رجال سلطة عليه، من دون حكمةٍ ولا خبرة ولا أخلاق.
لا ينبغي أن نضحك على أنفسنا. ليس هناك مفاوضات سورية جدية بشأن الدستور، كما لم تكن هناك مفاوضات جدية، لا في أستانة، ولا في سوتشي، حول الانتقال السياسي. هناك مسرحية هزلية، يحاول فيها المصادرون حرية السوريين ودولتهم أن يتوصلوا، عبر السوريين، ومن خلال لي ذراعهم، وكسر إرادتهم، وتنصيب من لا يمثلونهم سادة عليهم، إلى تسويةٍ دوليةٍ، تحقق مصالحهم المتناقضة او المتباينة على حساب السوريين وحقوقهم.
ليس هناك في الأفق، ولا يمكن أن يخرج من هذه المزحة السقيمة أي انتقالٍ سياسي، ولا أي تغيير جوهري في قواعد عمل السلطة والنظام. ما يحصل، وما هو مطلوب مما هو مطروح اليوم، هو محاولة احتواء آثار الحرب التي دمرت الشعب والبلاد، الإنسان والعمران. وتعميم وتطوير ما أصبح يعرف باسم اتفاقات خفض التصعيد التي تم في ظلها القضاء على جميع قوى الثورة المقاتلة، بانتظار أن تسفر الأحداث وديناميات النزاع عن التفاهم الدولي المنتظر الذي يرضي جميع الأطراف. وما يحصل في جنوب سورية من توافقٍ على تصفية جبهة الجنوب، بعد وعودٍ كاذبةٍ بالدعم لم يجفّ حبرها، هو أكبر دليل على ذلك.
الانتقال السياسي أنشودة للتخدير انتهى دورها، والمطروح اليوم إعادة بناء الدولة والمجتمع. والمدخل إلى ذلك جمع الأطراف، أو النخبة الجديدة التي تعد لقيادة المرحلة المقبلة، والتوافق على الدستور الذي تشير طريقة تصنيعه إلى طبيعة الدولة المسخ التي ستتمخض عنه، والتي لا يحسُن أن تكون ديكتاتوريةً ولا ديمقراطية، لا عربية ولا كردية، لا عشائرية ولا طائفية، لا دينية ولا علمانية، أي أن تكون من دون هوية من أي نوع، حيوانا اسطوريا جديدا من دون ذنب ولا رأس، وخروفا يمشي على قوائم خمس.
هل يعني هذا أن كل شيء انتهى، ولم يعد هناك أملٌ بتحقيق شيء؟ بالعكس. إنه يعني أن الحل الذي تسعى إليه دول الوصاية والانتداب لن يحل شيئا، وأن الديمقراطية أصبحت اليوم هدفا ثوريا في سورية، أي أصبحت قضية أكبر من معركة مسلحة أو سياسية، وأنها تفرض على السوريين أن يخوضوا معاركها في كل الميادين والجبهات والمؤسسات، الفكرية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية، المحلية والإقليمية والدولية. وكما تقتضي السياسة ألا يتركوا ساحة خاليةً لأحد، تقتضي روح الثورية ألا يحيدوا عن أهدافهم أبدا.
لا يبدو حتى الآن أن الجهود نجحت في نزع فتيل صدام إسرائيلي - إيراني، فيما لو شن نظام الأسد وحلفاؤه حرباً لاستعادة السيطرة على جنوب سوريا، ذلك أن الالتباسات ما زالت تحيط بموضوع وجود إيران وميليشيات «حزب الله» في المنطقة المحاذية لخط وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل، وهو ما تصر إسرائيل والولايات المتحدة على رفضه، فيما تسعى إيران و«حزب الله» ونظام الأسد لتحقيقه أو للتحايل عليه في الحد الأدنى.
وسط المشكل في الوصول إلى حل للتعارض القائم بين إسرائيل وإيران، ما زالت موسكو تطمح للتوفيق بين رغبات حليفيها الإيراني والإسرائيلي، وتبذل جهودها لتذليل عقبة وصول حليفها الثالث، نظام الأسد، لاستعادة سيطرته على الجنوب، التي تراها موسكو خطوة مهمة في سياق تحقيق الحل الروسي في سوريا.
غير أنه وبالتوازي مع المسعى الروسي، فإن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين وميليشياتهم، يواصلون جهودهم لتنفيذ خطة استعادة السيطرة في المناطق الخارجة في درعا والقنيطرة، والتي تبدو ملحّة وضرورية قبل التوجه شمالاً باتجاه إدلب وريف حلب، وغيرها من مناطق ما زالت خارج السيطرة، الأمر الذي كرّس جهوداً مكثفة ومتصاعدة من جانب نظام الأسد، لعل الأبرز فيها أربعة مسارات تواصلت في الأشهر الثلاثة الماضية.
أول المسارات، كان نقل ميليشيات «داعش» من مناطق جنوب دمشق باتجاه الجنوب السوري، حيث احتلت مواقع على تخوم السويداء عبر اتفاقات معلنة مع الأخير، كان فصلها البارز اتفاقاً مع «داعش» لإخراج مقاتليه من مخيم اليرموك قبل اقتحامه من قوات النظام الشهر الماضي.
والمسار الثاني، تمثَّل في تحشيد قوات النظام والميليشيات الموالية لها على المحاور الرئيسية في الجنوب، متجاوزاً الخط الدولي الرابط بين دمشق ودرعا وشاملاً في ذلك منطقة السويداء، حيث نقل إليها قوات وأسلحة، تمهد لفتح جبهة فيها، ليضع قوات المعارضة في درعا بين فكي كماشة لضمان هزيمتها في المعركة المقبلة بدفعها إلى القتال في جبهة واسعة، تشتت قواتها في ظل إمكاناتها المحدودة.
وتضمّن المسار الثالث اللعب على الوضع الأمني في السويداء بالضغط الأمني والإثارة الدعاوية ضد «المسلحين والإرهابيين» بالتوازي مع قصف مدفعي للمدينة من جانب قوات النظام، واتهام قوات المعارضة بالقيام به، فيما شرع بإطلاق عمليات مواجهة محسوبة النتائج لقوات النظام مع «داعش» بالقرب من السويداء، مما يجعل الأخيرة واقعة - وفق طروحات النظام - بين تهديدين «إرهابيين» أحدهما يمثله «داعش» في محيط السويداء وآخر تجسده قوات المعارضة في درعا، الأمر الذي يمكن أن يبدل موقف أهالي السويداء في رفض انخراطهم في معارك، أصروا طوال السنوات الماضية على تجنب الدخول فيها.
ويتمثل المسار الرابع في شن النظام عمليات مزدوجة عسكرية وأخرى دعاوية في الجنوب، هدفها تدمير قوات المعارضة وحاضنتها من جهة وتحريض السكان ضد القوات المدافعة عن الجنوب، خارقاً اتفاق خفض التصعيد الذي كان قد شمل المنطقة في وقت سابق من العام الماضي، وحاز موافقة أردنية وأميركية، وأدى إلى وقف عام للعمليات العسكرية هناك.
وإذا كان الهدف الرئيس للمسارات الأربعة، هو التهيئة لعملية استعادة السيطرة على الجنوب، فإن من المهم التوقف عند أهم ما تمخض عنها من نتائج أولية، وفي مقدمتها إعادة موضوع الجنوب إلى واجهة الأحداث الميدانية والسياسية في سوريا ولدى الأطراف الخارجية سواء المتدخلة أو المهتمة، إضافة إلى تسخين الوضع في الجنوب من الناحيتين العسكرية والسياسية، وتعزيز المخاوف من احتمالات حرب في الجنوب، تؤدي إلى موجة واسعة من عمليات القتل والنزوح والتهجير والتدمير على نحو ما حصل مؤخراً في غوطة دمشق ومناطق سورية أخرى استعاد النظام السيطرة عليها مؤخراً، وقد بدأت بالفعل عمليات النزوح في مناطق درعا والسويداء، التي طالتها عمليات التصعيد أو المواجهات العسكرية.
وكما يظهر في المحصلة، فإن نظام الأسد وحلفاءه بما قاموا به ويواصلونه من خطوات، يخلقون بيئة عامة، تقارب أو تماثل ما كانت عليه البيئة المحيطة بغوطة دمشق عشية الحرب عليها، ويمهدون لحرب شاملة على الجنوب بانتظار اللحظة المناسبة، سواء جاءت في ظل نجاح محتمل للمساعي الروسية بمنع صدام إيراني – الإسرائيلي، أو بفعل متغيرات في مواقف القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في موضوع الجنوب السوري، وهي مواقف مصلحية ومؤقتة، يمكن أن تتغير في أي وقت.
نقلت شبكات التواصل الاجتماعي صور التظاهرات الإيرانية حول مجلس الشورى وأخبارها. والهتافات لم تكن ضد أميركا وإسرائيل بل كانت تقول «موت لفلسطين ولحماس وحزب الله والجهاد». إنها هتافات نابعة عن استياء شعبي كبير من صرف أموال الدولة على تمويل الحروب الخارجية، في حين أن اقتصاد البلد يعاني من بطالة ضخمة وتضخم وغلاء معيشة كارثي وفساد واوضاع معيشية متدهورة.
لقد طفح كيل الشعب من نظام يحارب في سورية لحماية بشار الأسد ويمول ميليشيات «حزب الله» في سورية واليمن حيث قتل ثمانية عناصر من «حزب الله» وفي غزة يمول حماس. إن قرار الرئيس الأميركي بإعادة العقوبات على إيران سيزيد الضغوط على الشعب الإيراني. لكن من المستبعد أن يجعل ذلك النظام الإيراني ينسحب من سورية ويسحب تمويله لنشاطات حزب الله العسكرية فيها وفي اليمن واينما كان في المنطقة لحساب ايران. فمنذ سنوات والوضع الاقتصادي الإيراني يتدهور ولم يؤد ذلك إلى تغيير نهج النظام وتدخلاته في المنطقة لأن النظام والحرس الثوري مهتمان بنشر الثورة والهيمنة على حساب حياة الشعب. ولكن تدهور أوضاع الشعب الايراني قد يؤدي إلى المزيد من التظاهرات التي اغلب الظن ستقمع كما فعل بشار الاسد بشعبه عندما بدا يتظاهر مطالبت بالمزيد من الحرية ولازالة الفساد ولتحسين حياته. لكن رئيسه رد بالبراميل وانهالت القنابل على أهل البلد فقتلهم وهجر الملايين منهم. وقد يستخدم النظام الإيراني الطريقة نفسها إذا صعّد الشعب تظاهراته.
فوحده القمع والتخويف والتعذيب يسكت شعب هدرت امواله وكنزه الطبيعي، النفط، لتمويل حروب وميليشيات لا دخل للشعب الإيراني فيها. لكن لسوء الحظ أن النظام الإيراني يعتمد القمع لحماية نفسه من استياء شعبه. وهو يمارس ذلك بكل احوال في مهمته في حماية الاسد ضد شعبه. إن الإدارة الاميركية وفق كل المعلومات الآتية من أوساط الرئيس ترامب عازمة على الضغط بكل الوسائل لاخراج ايران من سورية. فهي لا تبالي بمستقبل سورية إذا كان مع الأسد، بل هي تريد خروج إيران من سورية. وهذا سيكون في صلب المفاوضات التي يجريها جون بولتون المستشار الأمن القومي الأميركي في موسكو. فالإدارة الأميركية قد اعطت الضوء الاخضر لاسرائيل ان تضرب ايران في سورية اينما رات مناسباً. وهذه الإدارة مثل إسرائيل لا تبالي إذا بقي الأسد وتسلم الجنوب السوري ولكنها تريد أولاً إخراج إيران من سورية.
لكن ضعف الأسد العسكري لن يجعله يقبل بذلك لانه باع بلده لقوات روسيا وإيران لبقائه رئيساً. والادارة الأميركية ليست وحدها التي تريد خروج إيران من سورية فربما يناسب ذلك الروس في فترة لاحقة. روسيا لا تريد منافسة إيرانية على هيمنتها في منطقة الشرق الأوسط ولكنها لن تبيع ذلك للولايات المتحدة الا بكلفة عالية. إن الأيام المقبلة والقمة الروسية- الأميركية المرتقبة في منتصف الشهر المقبل ستكون مهمة بالنسبة إلى مستقبل إيران في المنطقة ووضع الشعب الإيراني والتطورات في الأوضاع الإيرانية الداخلية.
مما لا شك فيه أن النظام الإيراني سيزيد قمع شعبه لحماية نفسه كما أنه لن يتنازل عن تدخلاته في المنطقة من سورية إلى اليمن إلى العراق، إلا بالقوة. وهو مدرك أن القوة العظمى الأميركية لا تريد مواجهة عسكرية. أولوية ترامب هي انسحاب قواته من أينما كان في الشرق الأوسط وغيره وقد كرر ذلك أكثر من مرة. والرهان أن الشعب الإيراني يمكنه قلب النظام مثلما حدث مع الشاه خاسر لأن القمع زاد والشعب خاب أمله من الثوريين الذين لم يأتوا إلا بالكوارث. فالمستقبل للتشاؤم لأن التدخلات الإيرانية في المنطقة متروكة لإسرائيل التي أهم ما تتمناه هو المزيد من التخريب في المنطقة كما فعلت عندما اجتاحت لبنان في ٢٠٠٦ وهي منذ عقود تحمي وتصر على بقاء آل الاسد في سدة الحكم في سورية. فالاتكال على هذا البلد لإخراج إيران من سورية رهان خطير لأن حسابات الدولة العبرية مناقضة لكل ما تتطلع إليه شعوب المنطقة.
تدخل محافظة درعا مهد الثورة السورية ومنطلقها الأول اليوم، مرحة مفصلية من مسيرتها الثورية مع بدء الحملة العسكرية للنظام وروسيا وإيران مجتمعة مع تخاذل العالم عن قضيتها وقضية الشعب السوري، لتواجه اليوم كل جيوش الأرض وطائرات روسيا وميليشيات إيران وحيدة.
أكثر من أسبوع مرت على بدء الحملة العسكرية على مهد الثورة في ظل خذلان دولي كبير من أبرز الحلفاء، التي طعنتها في الظهر وتخلت عنها في المرحلة الأخيرة، وهي من ساهمت في تهدئة المنطقة باسم "خفض التصعيد" وألزمت فصائلها بوقف المعارك وتجميد الجبهات لمنع أي حجة لروسيا لنقض الاتفاق، ثم سلمت الأخيرة المنطقة على طبق من ذهب وأعلنت مع بدء الحملة أنها غير معنية.
ولم تقبل فصائل ومدنيين مهد الثورة بالركوع والاستسلام وقبول المصالحات وعمليات التهجير التي تعد لها روسيا وحلفائها، رغم ماتدركه من عواقب المواجهة، إلا أنها وحدت صفوفها وأعلنت غرفة عملياتها المقاومة والدفاع عن المنطقة ما أمكنهم في وجه كل القوات التي حشدت لها.
تواجه "مهد الثورة" اليوم كل ميليشيات الأرض من مختلف الجنسيات، وأعتى سلاح تدميري روسي ودبابات وراجمات تستخدم لأول مرة في قصف المنطقة، تعيش منذ أيام عدة جحيم الموت المتواصل، ورغم ذلك ترى الصمود والثبات هو حديث أهلها ومدنييها الرافضين للانكسار والخروج بتهجير قسري.
تدافع "مهد الثورة" اليوم عن نفسها بصدور أبنائها وأشلاء أطفالها، بعد سنوات من المقاومة والمعارك التي أذاقت فيها ميليشيات إيران وقوات الأسد بأس وشدة أبناء الجنوب السوري، كما واجهة تنظيم الدولة وكل محاولات كسر إرادة منبع الثورة ومنطلقها لما لوجودها بين أبناء الثورة من رمزية كبيرة.
درعا اليوم بحق كـ "عين تقاوم المخرز" وأي مخرز تصمد في وجهه، وتتحدى العالم الذي تركها تواجه مصيرها وحدها، لم تطلب دعماً ونصرة من أحد، وقررت المواجهة حتى الرمق الأخير فإما نصر تكسر فيه شوكة المعتدين، وإما شهادة وصمود تسطره الأجيال ويخطه التاريخ بدماء أبنائها الشرفاء الصامدين.
تعرضت العلاقات التركية الإيرانية والروسية لاضطرابات كبيرة في السنوات القليلة الماضية، بسبب سوريا وما صاحبها من تدخلات سياسية وعسكرية إيرانية وروسية خلاف الرؤية التركية، وكادت في بعض حالاتها ترتفع وتيرتها إلى مستوى الاشتباكات المسلحة، وبالأخص بين روسيا وتركيا بعد إسقاط الطائرة الروسية «سوخوي 24» بتاريخ 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وذلك بعد التدخل الروسي العسكري على الشعب السوري بتاريخ 30 سبتمبر (أيلول) 2015، وكان هذا التدخل بعد أسبوع واحد من الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس التركي إردوغان إلى موسكو للمشاركة في افتتاح مسجد موسكو الكبير بتاريخ 23 سبتمبر 2015. في تلك الزيارة كان الرئيس إردوغان يعوّل كثيراً في نجاحه على تصويب مسار التأييد السياسي الروسي للنظام السوري وبشار الأسد، وكذلك في تغيير الموقف الروسي من التدخل الإيراني أيضاً، فحاول إردوغان الاتفاق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تشكيل لجنة ثلاثية لمتابعة الصراع في سوريا وإيجاد حل سياسي لها، وكانت وجهة النظر التركية في ذلك الوقت أن تكون اللجنة الثلاثية مكونة من تركيا وروسيا والولايات المتحدة، وقد غادر الرئيس التركي موسكو وهو يثق بوعد بوتين لتشكيل هذه اللجنة الدولية الثلاثية.
ولو نجح إردوغان في ذلك لتمكنت تركيا من الجمع بين جميع أطراف الأزمة السورية من الناحية الدولية المؤثرة أولاً، ولتمكنت من إحداث شرخ أو إبعاد بين روسيا وإيران ثانياً، وكان هذا سوف يحرر الموقف الروسي من الضغوط الإيرانية ثالثاً، ولما وُجدت حاجة إلى مؤتمر آستانة بعد ذلك، فما يواجهه مؤتمر آستانة وما تمخض عنه من اتفاقيات خفض التصعيد لا يمكن أن يؤدي إلى حل نهائي للأزمة السورية ولا الانفراد بوضع دستور مستقبلي لسوريا دون موافقة مؤتمر جنيف ومن يمثله من دول كبرى في مقدمتها أميركا وفرنسا، فأميركا شجعت فرنسا في الأشهر الأخيرة لإرسال قوات لها إلى سوريا، وكذلك تعمل مع بعض الدول العربية، حتى تصبح هذه الدول التي لها قوات عسكرية في سوريا شريكة في الحل السياسي، مشاركة على طاولة المفاوضات الدولية لكتابة الدستور السوري، أو فرض مرحلة انتقال سياسي، وتوزيع كنتونات سياسية على تلك القوات الدولية، بما تمثله من أجزاء من الشعب السوري.
وما أنقذ العلاقات التركية الروسية من الاصطدام العسكري والسياسي أيضاً حاجة كلتا الدولتين إلى التعاون الوثيق في المجالات الاقتصادية، فاجتماعات القمة التركية الروسية كانت تتطلع إلى تبادل تجاري في حدود مائة مليار دولار، وبين إيران وتركيا في حدود أربعين مليار دولار، والدول الثلاث تركيا وإيران وروسيا تعاني من مشكلات اقتصادية كبيرة، وبالأخص أن إيران كانت لا تزال تعيش مرحلة الآمال للخروج من العقوبات الاقتصادية قبل توقيع الاتفاق النووي مع الدول الست (5 + 1) في يونيو (حزيران) 2015، ومع عودة احتمالية فرض العقوبات الأميركية بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي مع إيران، ومع تزايد درجة العقوبات الاقتصادية الأميركية على روسيا في ظل التوتر الأميركي الروسي في عهد الرئيس الأميركي ترمب، فإن هذه الدول الثلاث، تركيا وروسيا وإيران، تجد نفسها بحاجة إلى مزيد من التعاون الاقتصادي، وتحسين علاقاتها بعضها ببعض في علاقاتها الثنائية والثلاثية أيضاً.
في هذا الخضم من النزاعات الدولية بين روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى لا تملك تركيا أن تنحاز إلى أحد المحورين بالكلية، فالرئاسة والحكومة التركية حتى تاريخه كانت محكومة، للعلاقات التاريخية الوثيقة بين تركيا والغرب منذ تأسيس الجمهورية أولاً، وبين الجيش التركي والجيش الأميركي ثانياً، فقد كان للأخير الدور الأكبر في بناء الجيش التركي منذ عام 1947، وحتى دخوله حلف شمال الأطلسي (الناتو) 1952، فقد أصبح الجيش التركي يلعب دوراً بارزاً في مواجهة أعداء الغرب وأعداء أميركا ودول منظومة الناتو عسكرياً، أيام الحرب الباردة وما بعدها، وهو ما يتمسك به «الناتو» نحو تركيا حتى الآن، وكذلك وزارة الدفاع الأميركية أيضاً، وما توصُّل أميركا إلى اتفاق مع تركيا حول منبج إلا أحد مؤشرات ذلك، وما موافقة أميركا على تسليم تركيا المقاتلة الأميركية «إف 35» قبل أيام إلا مؤشر آخر على أن الجيش الأميركي لا يمكن أن يتخلى عن تحالفه مع الجيش التركي، ومع الرئاسة التركية أيضاً بعد انتخابات 24 يونيو 2018، لأن أميركا ستصبح علاقاتها مع الجيش التركي من خلال الرئاسة التركية بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، والخطوة الأخيرة التي وضعت الجيش التركي تحت سلطة الرئاسة التركية وحكومتها هو الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو (تموز) 2016، الذي يتحمل بعض الجنرالات الأميركيين بعض أخطائه الفاحشة، إما بغض النظر عنه أولاً، وإما بعدم التنديد بنتائجه ثانياً، فأميركا من وجهة نظرٍ تركية هي المتسببة في سوء العلاقات التركية الأميركية، وهو ما نجح الرئيس الروسي بوتين في استثماره منذ ليلة الانقلاب الفاشل بإرسال برقيات التهنئة بنجاح الشعب والرئاسة التركية في إفشال الانقلاب، وهو ما قابلته رغبة تركية كبيرة في إصلاح العلاقات التركية الروسية، بل والمساهمة في تطوير العلاقات التركية الروسية عسكرياً وبالأخص في مجال شراء معدات عسكرية روسية متطورة مثل صواريخ «إس 400»، وهو الأمر الذي تسبب بتوتر العلاقات مع الغرب وأميركا أيضاً.
إن منطلق السياسة التركية في السنوات الأخيرة هو زيادة عدد الدول الصديقة، والتقليل من الدول الأخرى، كما أن السياسة التركية تعلن صراحة أن تحسن علاقاتها مع روسيا تحديداً لن يكون على حساب علاقاتها مع الغرب سواء مع الأوروبيين أو الأميركيين، وأن مواقفها المتشددة في رفض التدخل في الشؤون التركية هو قرار سيادي، وحيث إن بعض العواصم الأوروبية أظهرت سياسة رافضة لإتمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وأظهرت تباطؤاً في تطبيق الاتفاقيات مع تركيا بخصوص اللاجئين السوريين على أراضيها، وتقديم تلك العواصم مساعدات لوجيستية للتنظيمات التي تعلن عداءها لتركيا، فضلاً عن محاولة التأثير السلبي على الانتخابات التركية البلدية والبرلمانية والرئاسية في السنوات الأخيرة، وأخيراً وليس آخراً التأثير السلبي على سعر صرف الليرة التركية في السنوات والأشهر الأخيرة، فهذه المواقف السلبية الأوروبية نحو تركيا تجعل السياسة التركية تتجه نحو الشرق مضطرةً، وبالأخص نحو روسيا وإيران، أضف إلى ذلك المواقف الأميركية السلبية نحو السياسة التركية.
تُضاف إلى ذلك أيضاً صناعة أميركا كبرى محطات الخلاف التركي الأميركي المعاصر حول الأزمة السورية، حيث إن السياسة التركية وثقت كثيراً بالوعود الأميركية لتغيير النظام السوري منذ بدايتها، وبالأخص عند الحديث عن ضرورة تشكيل الائتلاف الوطني لفصائل المقاومة السورية بزعامة أحمد الخطيب أواخر عام 2012، بحجة إيجاد جهة سورية ممثلة للمعارضة السورية تشمل الفصائل السورية كافة، والعمل على التفاوض لتطبيق اتفاق «جنيف 1»، ولكن أميركا لم تكن حازمة في مساعدة الثورة السورية ولا فصائلها السياسية والمسلحة لتغيير النظام السوري، وهو ما جعل السياسة التركية تكفّ في لحظة ما عن التعامل بثقة من الوعود الأميركية نحو سوريا، بل وتصطدم معها في شمال سوريا، وبالأخص أن أميركا منذ بداية عام 2013 تساهلت مع، إن لم تكن شجعت، إيران على التدخل المدمر للثورة السورية في عهد الرئيس الأميركي أوباما.
إن أميركا بإخفائها حقيقة مشاريعها الخاصة في سوريا اضطرت السياسة التركية إلى التوجه نحو الشرق، وهو ما أحدث مزيداً من عدم الثقة المتبادلة بين تركيا وأميركا، ولكنه ما كان ليُحدث خروجاً كلياً لتركيا من الفلك الغربي وحلف الناتو، وإن أعطى فرصة للسياسة التركية لتوسيع وتنويع علاقاتها الدولية خارج التحالف الغربي، وبالأخص مع روسيا وإيران.
كلّما زادت مساحة سيطرة نظام الأسد على الأراضي تقلصت مساحة التغيير والأمل بانتقال سورية إلى أوضاع جديدة، وعادت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة، وربما إلى مجهولٍ لا أفق له. وتشكّل منطقة الجنوب، التي تقع اليوم في قلب الخطر، ذروة مرحلة سقوط سورية في هذا المجهول، ليس لرمزيتها فقط في إطلاق شعلة الأمل بغد سوري متحرّر، يملكه أبناء البلد، وإنما لأن الجنوب كان آخر المناطق التي يمكن استثمار وزنها ومزاياها، للمساومة على حل سياسي مقبول، وإن لم يكن مثالياً، على اعتبار أنها المنطقة الوحيدة التي ما زالت تمتلك مواصفات ثورة سياسية اجتماعية.
استطاعت روسيا، وعبر عملية ممنهجة ومدروسة، إخراج المناطق التي تملك وزناً تساومياً يحقق مطالب الشعب السوري من دائرة الصراع، وليس سراً أن البداية كانت من حلب، لما تمثله من أهمية سياسية تضع الطرف الآخر في موقع الند السياسي الذي يستطيع فرض شروطه على طاولة المفاوضات، لتكرّ السبحة بعد ذلك، وتسقط جميع المناطق ذات التأثير السياسي، الغوطة ووادي بردى والقلمون وريف حمص الشمالي.
وليس سراً أن المناطق المتبقية، خارج جنوب سورية، لا تصلح للاستثمار والمساومة السياسية، مثل مناطق شرق سورية وإدلب، فالأولى أصبحت خارج تصنيف التفاوض على شكل النظام القادم، لتدخل في إطار الصياغة السياسية للدولة السورية المقبلة، من حيث الشكل وليس الجوهر، فيدرالية أم مركزية، وإن حل إشكاليتها ليس له علاقة بثورة السوريين ومطالباتهم، بقدر ما هو مرتبط بتوافقات دولية صرفة. أما إدلب، فأصبحت قضيتها ترتبط بقضايا الإرهاب العالمي، نظراً لوجود جبهة النصرة، أو "فرع القاعدة السوري" كما بات يسمى في التقارير الإخبارية.
لأسباب عديدة، لم تكن تجربة المناطق المحرّرة في الجنوب مشجعة ولا مرغوبة. في النهاية، ثمّة حاجة لدولة تدير شؤونها وتوفر المستلزمات الإنمائية والأمنية والخدماتية لمئات آلاف من السكان، لكنها بالتأكيد ليست دولة نظام الأسد التي كانت، مضافاً إليها عقلية المخبر الروسي الذي لا يرى في سوريي المناطق التي تم إخضاعها سوى إرهابيين مهزومين، ورجل الحوزة الإيراني الذي يريد تعليم أبنائهم الدين الصحيح مقابل عشرة آلاف ليرة للعائلة، كما في ريف حلب.
بالتأكيد، ليست إمكانات المقاومة في جنوب سورية معدومة، كما إمكانية تحقيق تغيير سياسي، لكن الشروط العسكرية والسياسية التي أخضعت المنطقة نفسها لها، لا توحي بذلك، وخصوصا بعد أن دخلت المنطقة وبقوّة في إطار المصالح الإقليمية والدولية وتعقيداتها، وجرى تحييد مصالح سكانها لصالح اعتبارات خارجية، يتم احتسابها بناء على دفتر شروط تلك الأطراف وحسابات التوازنات التي يجب الحفاظ عليها في نهاية مواسم المذبحة السورية.
لا يضرّ الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في جوقة التسويات الدائرة الآن على رأس الجنوب، مذبحة إضافية، ولا عملية تهجير جديدة لعشرات الآلاف، وترحيل بضعة آلاف جديدة إلى مكب إدلب. المهم أن عملية إخراج التسويات التي سيتم إنضاجها على نار الجنوب الحامية، يجب ألا تحرج بريستيج الأطراف المتفاوضة والراعية للعملية، والأهم يتوجب ظهور المعارضة بمظهر القابل والمستكين للوضع في اجتماعات أستانة وسوتشي، أو حتى جنيف، المقبلة.
في مقابل سحق الجنوب، ستكافأ إسرائيل بإبعاد المليشيات الإيرانية إلى مسافة أمان مقبولة لديها، وسيتم منح إيران فرصة كاملة لنشر التشيع في الجنوب، شريطة ألا تظهر أعلام مليشياتها في المنطقة، وستشرعن أميركا وجودها في شرق سورية إلى حين إقرار النظام الفيدرالي الذي سيكرّس حصتها في سورية، حتى لو بدون قواعد عسكرية مباشرة. أما روسيا فإن مكافأتها الكبرى ستتمثل في تكريس بقاء نظام الأسد إلى الأبد.
ليس هذا ثمنا عادلا لفاتورة الدم السوري، وما زال هناك إمكانية للمقاومة وتحقيق الأهداف، أو على الأقل رفض استنساخ تجارب إخضاع المناطق السابقة، لو أن هناك، فعلا، أطرافا يمكن تسميتها داعمي الجنوب، لكان من غير الصعب الوصول إلى نماذج لتسويات مختلفة، مثل نموذج مناطق الأكراد أو نموذج المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات التركية في الشمال، يمكن تطبيق التجربة التي كانت مصمّمة للتطبيق في حلب، قبل أن تتراجع روسيا عنها، نظام إدارة يعطي للمجالس المحلية دورا في إدارة شؤون المنطقة.
إذا سيطر نظام الأسد على الجنوب سقط الحل السياسي في سورية نهائياً، وسابقاً كان السوريون يراهنون على عقلانية العالم، أو الأطراف التي ترعى الحرب والحل في سورية، على اعتبار أن من شأن هذا الوضع تعقيد الأوضاع وإدامة الصراع، وبالتالي من غير المنطق أن تقبله هذه الأطراف، انطلاقاً من نظرية أن السلام مصلحة عالمية، وأن الاضطراب في أي بقعة في العالم يؤثر على السلم. غير أن هذا المنطق ثبت عدم واقعيته، فهو ليس أكثر من طقم كلام إنشائي. أما في الواقع، فإن اللاعبين الإقليميين والدوليين لا يهمهم، في نهاية المطاف، سوى مصالحهم، وفي حال تحققها، فإن التعايش مع القتلة ومجرمي الحروب يصبح وارداً، بل تصبح إعادة تأهيلهم أكثر من ممكنة على قاعدة أن ليس في الإمكان أكثر مما كان.
يبقى أنه ليست هناك خيارات للسوريين سوى الصمود في جنوب سورية، لأن القبول بما تفرضه التسويات والتوافقات الإقليمية والدولية ستكون له آثار كارثية تطاول سورية عقودا، حيث سيشن عليهم نظام الوكيل في سورية، وأسياده الروس والإيرانيون، حرب وجود تقتلع جذوة الكرامة فيهم، وتحوّلهم مجرد أشباح بشر.
الانتقال إلى لبنان لم يعد خيارا لمقاتلي حزب الله على امتداد الأراضي السورية، الثابت في مجريات الملف السوري اليوم، هو انسحاب الميليشيات الأجنبية من الأراضي السورية، وبوادر هذه العودة لم تعد خافية، ويمكن ملاحظة سلسلة مؤشرات تدفع نحو ترسيخ هذا المسار الذي بدأ تنفيذه من قبل حزب الله استجابة لما أعلنته روسيا وعلى لسان أكثر من مسؤول، فيما كانت الضربة العسكرية الجوية الإسرائيلية، بحسب ما نقلت محطة “سي أن أن” الأميركية عن مسؤول أميركي التي طالت تجمعا لعناصر ميليشيات عراقية قرب التنف قبل أسبوع على الحدود مع العراق، رسالة ذات دلالة خاصة أنها جرت في ظل غياب أي رد فعل أو تهديد برد على هذه الضربة التي ذهب ضحيتها عشرات العناصر.
الضربة الإسرائيلية التي لم تؤكد إسرائيل أو تنفي مسؤوليتها عنها جاءت في ظلّ صمت روسي يصب في اتجاه أن الاتفاق الروسي – الإسرائيلي في سوريا بات الثابت الأقوى في المعادلة الإقليمية والدولية، ويؤكد أن الذراع الإسرائيلية في سوريا لا تقتصر ضرباتها على مناطق سورية محددة، بل يمكن أن تطال أيضا منافذ عبور الميليشيات العراقية على سوريا.
يدرك حزب الله، كما إيران بطبيعة الحال، أنّ أسس الاتفاق الروسي – الإسرائيلي تقوم على ضمان أمن إسرائيل على قاعدة إطلاق يدها في استهداف ما تراه خطرا على أمنها على امتداد الأراضي السورية.
وإضافة إلى ذلك أمكن إلزام جنود إيران وميليشياتها بعدم الاقتراب من الحدود مع الجولان المحتل إلى مسافة تتجاوز الثلاثين كلم، وهذا ما التزمت به إيران في مقابل انتشار الجيش السوري على هذه الحدود، ورحبت به إسرائيل باعتباره خيارا مثاليا لها فهي اختبرته طيلة أربعة عقود أي منذ ما بعد حرب 1973 وحتى بدايات الثورة السورية.
ضمان الأمن الإسرائيلي، روسيّا وسوريّا، أفقد حزب الله وإيران ورقة استثمار أمني وسياسي طالما طمحت إيران إلى إمساكها أسوة بالحدود الجنوبية اللبنانية مع إسرائيل، لكنّ انتزاع هذه الورقة بتسليم إيراني يكشف إلى حد بعيد قوّة هذا الاتفاق في الجنوب السوري، حيث بدا واضحا أنّ معركة درعا التي يخوضها اليوم النظام السوري بدعم روسي وبغطاء إسرائيلي وبمباركة أميركية وتعاون أردني، أنّ إيران ليست طرفا فيها، بل هي طرف يستجيب بسلاسة لمتطلبات إبعادها عن هذه المنطقة بالكامل.
بدأ الخروج من سوريا لكن ليس بعد تحرير القدس ولا بعد إسقاط المشاريع الصهيونية في فلسطين أو في سوريا، بل بعد إتمام عملية تدمير سوريا وهي وظيفة لم يشأ الإسرائيليون ولا أي طرف دولي تنفيذها، فيما بدت إيران لاعبا أساسيا في عملية التدمير وحظيت إزاء هذه المهمة بغطاء دولي غير مسبوق، بحيث أمكن نقل عشرات الآلاف من المقاتلين العراقيين واللبنانيين والباكستانيين والأفغان إلى سوريا من دون أن تطلق طلقة إسرائيلية واحدة على هؤلاء طيلة السنوات الماضية، ولكن عندما ظنت إسرائيل أن أمنها مهدد أو عرضة لتهديد ما، حينها تغيرت المعادلة وصارت الحسابات مختلة ليس إسرائيليا فحسب، بل حتى دوليا.
الخيارات الإيرانية تضيق في سوريا فهي أمام خيارين؛ إما الالتزام بالشروط الأمنية الإسرائيلية، وإما ستجد نفسها أمام خطر الخروج الكامل من سوريا، وفي كلتا الحالين فإنّ مرحلة عودة مقاتلي حزب الله بدأت رغم إعلان الحزب بما يشبه المكابرة أنّه لا يريد الخروج من هذا البلد.
الوظيفة الأمنية والعسكرية التي شاءها أو لم يعارضها المجتمع الدولي لإيران وميليشياتها كما أشرنا آنفا انتهت أو هي على شفير النهاية، وهذا سيطرح مجددا سؤالا حول وظيفة البقاء في الأراضي السورية، وهي وظيفة من الصعب إيجادها بعدما انتهى مشروع تنظيم داعش وتمّ القضاء قبل ذلك على المعارضة المسلحة، وبالتالي فإن طريق العودة إلى لبنان والعراق وغيرهما هي الطريق المفتوحة أمام الميليشيات المدعومة من إيران، ولا طريق آخر يمكن أن يحظى بغطاء دولي وإقليمي، فيما لم تعد شماعة القضية الفلسطينية قابلة للاستثمار في الأراضي السورية في ظلّ الاتفاق الروسي – الإسرائيلي.
العودة إلى لبنان بدأت من قبل حزب الله، بدأت بعدما ضاقت الخيارات واتضحت نهاية الوظيفة الأمنية والعسكرية، وبعدما تكشّفت للجميع قوّة الغطاء الروسي – الأميركي – الإسرائيلي في الجنوب السوري وعجز إيران عن مواجهته، بل حتى الاعتراض على مضمونه الذي يرسّخ المصالح الأمنية الإسرائيلية في سوريا كما لم تعهده إسرائيل منذ نشأتها.
ما ينتظر حزب الله لبنانيا هو أخطر ما واجهه في تاريخه، فهو أمام خيارين؛ إما البحث عن وظيفة عسكرية جديدة تحظى بعدم اعتراض دولي وهي غير متوفرة، وإما الانخراط في الحياة السياسية اللبنانية ضمن شروط الدولة، والشرط الأخير لن يكون شرطا هينا بل هو بتقدير العديد من المراقبين الخطر الوجودي على حزب الله، ذلك أنّ حزب الله منذ نشأته في العام 1982 لم يعتد أن يكون دوره المحوري خارج الوظيفة العسكرية والأمنية، بل يمكن القول إن الحرب كانت دائما مصدر بقائه واستمراره وعنصر الحياة له. أما مشروع الدولة بمعناه السيادي فلم يكن يوما قائما في أدبياته، فهو لطالما رسخ في وعي محازبيه ومناصريه فكرة الولاء لولي الفقيه وأسس بوعي عميق ومؤسساتي لفكرة أنه وبيئته الحاضنة يمكن أن يستمرا حضورا ونفوذا بمعزل عن الدولة.
العودة إلى لبنان لم تعد خيارا بل هي حقيقة بدأت تفرض أسئلة جديدة على قيادة حزب الله، في لحظة إطباق إسرائيلي على المدى الاستراتيجي اللبناني والسوري، ولم تعد واشنطن وحدها الضامن للمصالح الإسرائيلية بل موسكو باتت الضامن الأهم والأقوى في هذه الجغرافيا، وهذا أبرز ما حققه انتصار إيران في سوريا وما يعنيه التوافق الدولي والإقليمي على إنهاء المعارضة السورية المسلحة خلال السنوات الأخيرة.
في المقابل فإنّ أقصى ما هو مطروح اليوم على حزب الله هو وظيفة قد تجد لها من يدافع عنها دوليا، وهي في قدرة إيران وحزب الله على تمديد مهمة حزب الله في حماية الاستقرار على الحدود مع إسرائيل، لكن ذلك لا يشمل بطبيعة الحال الحدود مع سوريا، إذ ترفض روسيا وواشنطن أن يخضع طرفا الحدود لسلطات ميليشياوية من خارج سلطة الجيشين النظاميين اللذين سيقومان بمهامهما بإشراف روسي من الجانب السوري، وأميركي من الجانب اللبناني.
في المحصلة النهائية ثمة واقع لبناني يكشف عن استنزاف اقتصادي يطال الدولة، ومخاطر مالية غير مسبوقة في المالية العامة، وفي ارتفاع سقف البطالة وفي غياب أيّ خطط تنموية تبشر بالخروج من هذا الحال.
وما هو مطروح على لبنان دوليا هو إما العودة إلى شروط الدولة والالتزام بموجبات القرارات الدولية المتصلة بنزع السلاح غير الشرعي ومعالجته ضمن خطة جدية وإن استلزمت بعض الوقت، وإما تحمّل اللبنانيين مسؤولية الخيارات التي تتخذها السلطة التي يشكل حزب الله عمادها اليوم، ما يعني توقع المزيد من التدهور المالي والاقتصادي والمزيد من الفوضى التي يدفع اللبنانيون وحدهم ثمن التساهل حيال عدم مواجهتها.
المرحلة المقبلة عنوانها العودة من سوريا، وهي عودة تنذر بمخاطر كبيرة طالما أنّ حزب الله ومن خلفه إيران لم يحسما بعد خيار الدخول في منظومة الدولة، إيران بإقرارها بأنّ لبنان دولة عربية أولا، وحزب الله من خلال إقراره بأنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه والولاء للدولة فيه هو فوق أيّ ولاء آخر.
أثبتت التطورات الميدانية على الأرض في سوريا مؤخراً، ما حذر منه سابقاً من أن اتفاقيات "خفض التصعيد" التي رعتها الدول الضامنة والتي كانت بدفع روسي ماهي إلا فرصة لكسب الوقت سياسياً وعسكرياً وإعطاء النظام أريحية في تقويض وإنهاء قوة كل منطقة على حدة.
وجاءت اتفاقيات خفض التصعيد التي شملت أربع مناطق في سوريا تشمل "إدلب وريفها، وحمص وريفها، الغوطة الشرقية، والجنوب السوري" كل منطقة برعاية دولة مؤثرة فيها وبوجود روسيا كلاعب أساسي في كل هذه المناطق التي تم الاتفاق عليها ضمن اجتماعات "أستانة".
وبداية استثمار هذه الاتفاقيات التي جمدت فيها روسيا الجبهات كانت في دير الزور التي مكنت النظام من التوسع لمساحات كبيرة فيها على حساب تنظيم الدولة، ثم مالبث أن حرك قواته إلى ريفي إدلب وحماة وحلب وسيطر على جميع مناطق شرق سكة الحديد، ثم وجه ذات القوات من جيش الأسد والميليشيات الإيرانية إلى الغوطة الشرقية وبعدها حمص، ضارباً عرض الحائط بكل الاتفاقيات التي أبرمت في هذه المناطق ومستغلاً صمت الضامنيين وفق تفاهمات سياسية جديدة.
واليوم مع بدء الحملة العسكرية منذ قرابة أسبوع على الجنوب السوري، والذي من المفترض أنه ينضوي ضمن اتفاقية لخفض التصعيد بين واشنطن والأردن وروسيا، وأن رفضاَ إسرائيلياً معلن لأي تقدم في المنطقة لميليشيات إيران، إلا أن التطورات الأخيرة تكشف عن تآمر كبير وخذلان أمنيت فيه فصائل درعا وتركت وحيدة من قبل أبرز الحلفاء في مواجهة هذه الحملة التي تشتد يوماً بعد يوم، في وقت لم تعد خفض التصعيد إلا مجرد أوهام استخدمت لتمكين النظام من الغوطة وجنوب دمشق للتفرغ لدرعا.
ومع انهيار اتفاقيات خفض التصعيد في الجنوب وحمص والغوطة الشرقية باتت المنطقة الوحيدة التي تحكمها هذه الاتفاقيات "خفض التصعيد" هي منطقة إدلب وريفها مع أرياف حلب وحماة واللاذقية، والتي انتهت تقريباً فيها الدول الضامنة لها "روسيا وإيران وتركيا" من تثبيت كامل نقاط المراقبة فيها والتي لم يحصل ذلك في المناطق الثلاث الأخرى مايعطيها إمكانية الاستمرار لاسيما أن تركيا نشرت 12 نقطة لها ضمن المناطق المحررة سالفة الذكر.
ورغم أن جل التصريحات التركية التي تيقن مخاطر التصعيد في إدلب وتسعى جاهدة للمحافظة على هذه المنطقة وضمان عدم دخولها في صراع جديد، إلا أن التصريحات الروسية الأخيرة وتنامي صورة وجود خلايا "الدولة" وحجة الولايات المتحدة بوجود هيئة تحرير الشام وأيضاً الغارات الروسية والنظام الأخيرة على إدلب، لاتبشر بالخير وقد تتغير في أي وقت التفاهمات الدولية وتضع تركيا أمام ضغط شديد للتنازل، وبالتالي لابد من اتخاذ التدابير اللازمة وعدم الركون للتطمينات الراهنة.
تملك إدلب كما درعا كما الغوطة الشرقية العديد من المكونات العسكرية الكبيرة والتي تعد ألاف الفصائل، لإدلب ميزة كبيرة في طبيعتها الجغرافية والقوة العسكرية الموجودة فيها والتي يمكنها قلب الطاولة في أي وقت إن أرادت فصائلها وتكتبت وأعدت لأي مواجهة ومعركتها بالتأكيد لن تكون نزهة بشرط التوحد والصدق في المواجهة وعدم الركون لتعليمات الدول الخارجية التي نقضت كل اتفاقياتها وغدرت بفصائل الجنوب والغوطة وحمص.
لايمكن التنبؤ بمصير إدلب والغالب أنها لن تكون كباقي المناطق باعتبار التدابير التي تم اتخاذها فيها غير كل مناطق خفض التصعيد الأخرى، ولكن هذا لايعني الانتظار للمصير المجهول بعد أن ينتهي النظام وحلفائه من المنطقة الجنوبية إن لم تتدخل القوى المعنية وتوقف العملية وفق اتفاق ما، وبالتالي على الفصائل في الشمال اليوم أن تعي خطورة المرحلة وتترك خلافاتها جانباً لمرة واحدة في تاريخها قبل أن نصل لمرحلة بعدها لاينفع الندم ونخسر كل شيء.
كل ما يجري في المنطقة اليوم وما يحصل من تطورات مرده الدور المتعاظم لإيران على كل المستويات، فهي حاضرة في عمق الأزمات، وفي مختلف المواجهات، فمن أقاصي الخليج باتت إيران اليوم فاعلة ومؤثرة في قلب المشرق العربي، وراحت أخيرا تمد أذرعها في شمال أفريقيا. فقد بدأ تطبيق شعار "تصدير الثورة" فعليا بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 على أيدي القوات الأميركية التي مهدت الطريق، بعد نحو عامين، لوقوع العراق في فلك نفوذ ملالي طهران. وشكّل العراق القاعدة الأساسية والحيوية التي مكنت إيران من وضع رجلها في العمق العربي، والانطلاق منه إلى المشرق. وخلال أقل من عشر سنوات، أصبحت الطريق سالكةً من طهران إلى بيروت. وقد حرص أكثر من مسؤول إيراني على المجاهرة والافتخار بذلك بإعلان أن "إيران أصبحت تسيطر على أربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء"، مضيفا أن "الثورة الإيرانية لا تعرف حدودا، وهي لكل الشيعة"، وأن "الحوثيين في اليمن هم نتاج الثورة الإيرانية" (وزير الاستخبارات السابق، حيدر مصلحي). وهي عمليا تمارس اليوم في بغداد هذا النفوذ في تركيب السلطة وأجهزتها، وتوزع الحصص، وتقاتل على الأرض في سورية، بخبرائها وسلاحها وقواعدها ومليشياتها، لإنقاذ سلطة بشار الأسد، وتقف، منذ سنوات، في خلفية المشهد السياسي اللبناني، عبر النفوذ العسكري والمليشياوي لحزب الله، إلى أن خرج قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، إلى العلن بوقاحته المعهودة بعد الانتخابات أخيرا، ليعلن أن طهران باتت تسيطر على أكثرية 74 نائبا في البرلمان اللبناني من أصل 128. وفي اليمن، تجسد تغلغلها في دعم الحوثيين، وتزويدهم بمختلف أنواع الأسلحة والصواريخ في مواجهة "التحالف العربي" الذي تقوده السعودية. ناهيك عن دور إيران وتأثيرها في الساحة الفلسطينية، وتدخلها في شؤون البحرين وغيرها من الدول العربية والخليجية.
وأهم إنجاز بالنسبة لسلطة "الولي الفقيه" شرعنة حضورها المباشر والعلني، العسكري والسياسي، كما الاستخباراتي والمذهبي في قلب عاصمة الأمويين في سورية، بعد أن تحولت إلى حام وضامن لسلطة "البعث" الأسدي. والمفارقة هنا أن أهم دولتين عربيتين، العراق وسورية، حملتا طوال خمسة عقود لواء القومية العربية انتهتا تحت نفوذ سلطة دينية قومية فارسية. وبات لحكام طهران موطئ قدم على ضفاف المتوسط، وهم يمسكون اليوم بمفاصل السلطة في دمشق، بقواعدهم العسكرية ومليشياتهم متعدّدة الجنسيات، وبنشاطهم الدؤوب يعملون على تجذير وجودهم وترسيخه، أيضا عبر التغيير الديمغرافي لدولةٍ أكثريتها من المسلمين السنة. ولأجل هذا الهدف، صرفوا مليارات الدولارات، على الرغم من العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها عليهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ما انعكس سلبيا على الوضع الاقتصادي والمعيشي لدى الإيرانيين، وأدى إلى سلسلة من الانتفاضات ضد السلطة، وإلى مواجهات في الشارع في طهران، وفي أكثر من مدينة إيرانية ضد حروب إيران في الخارج، ورفضا لدعمها نظام الأسد وحزب الله. تسللت طهران بذكاء وبصبر وأناة إلى داخل العمق العربي، وسعت إلى الإمساك من دمشق بناصية القرار في بيروت وبغداد، والتحكم بالمواجهة (أو المهادنة) مع إسرائيل عبر جنوب لبنان. كان هذا خيارا استراتيجيا لها من أجل بسط نفوذها قوة إقليمية، فيما الانتفاضات وثورات الربيع العربي تجتاح دولا عربية، وتحديدا التي لا نفوذ مباشرا لطهران فيها، كمصر وتونس وليبيا، إلى أن اندلعت الثورة في سورية، فهبت إيران لنجدة ربيبها السوري، ونافذتها على المشرق منذ حافظ الأسد.
إلا أن تعاظم الدور الإيراني في سورية راح يقلق دول الإقليم ويخيفها، وأيضا الدول الكبرى، على الرغم من أنه لم يتمكّن من حماية النظام الأقلوي المستبد من خطر الانهيار أمام انتقاضة الشعب السوري. وهنا سارع القيصر الروسي، فلاديمير بوتين، إلى التدخل العسكري في خريف 2015، إنقاذا للأسد، وقام بأسوأ وأعنف الأدوار التي لم يتمكن ولي الفقيه الإيراني من القيام بها. علما أن التدخل الروسي شكل مصلحة للطرفين، كل من منطلقات وأهداف مختلفة. تريد طهران أن ترسخ نفوذها المستحدث، وموسكو تريد أن تستعيد حضورها القديم ونفوذها في المنطقة، بعد خروجها من آخر معقل لها في ليبيا في خلال الانتفاضة على معمر القذافي عام 2011. استغلت موسكو الفراغ الذي خلفه إرباك الإدارة الأميركية السابقة، وفرضت حلها العسكري على الجميع، بدءا من المعارضة السورية المسلحة، انتهاء بإدارة أوباما نفسها، مرورا بكل الأطراف الإقليمية الداعمة للنظام والمعارضة على السواء. ولكن للحل السياسي اعتبارات أخرى، ولا يمكن لبوتين أن يفرضه كما يشاء، وتحديدا على الإدارة الأميركية الحالية التي تريد من موسكو أن تفرض الحل الذي تريده واشنطن، وهو حل لا يتضمن، بطبيعة الحال، أي دور لطهران. لا يمكن أن يقبل الرئيس دونالد ترامب الذي أعلن الحرب مجدّدا على إيران، وانسحب من الاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات عليها، بأي دور لطهران وببقائها في سورية. على بوتين بالتالي إخراجها، وهذا ما يريده العرب، وهذا ما تريده أيضا إسرائيل التي لا مشكلة لها مع بقاء بشار في السلطة، لكنها لا تقبل بوجود عسكري إيراني في سورية، وخصوصا على الحدود الجنوبية. وهي لهذه الأسباب تقصف مواقع إيرانية في أرجاء سورية، وتقصف أيضا مواقع وقوافل لحزب الله. ويجري هذا كله بموافقة روسيا، وعلى مرأى منها. واللافت أكثر وأكثر أن إيران نفسها تلتزم الصمت إلى حد كبير، فهي من جهة غير قادرة على الرد العسكري، ومن جهة أخرى، هي بحاجة إلى روسيا، لكي تعول على دورٍ لها، يبقي على نوع من التوازن في الدور والنفوذ مع الولايات المتحدة، غير أن انكفاء أوباما وغضّ نظره قد تحول، مع ترامب، إلى قرار بالحصار. ولذلك، يبدو أن إيران بدأت فعليا بسحب قواتها من درعا والقنيطرة، على الرغم من أنها كانت تنفي باستمرار وجود قواتٍ لها هناك، وإنما فقط خبراء عسكريين. وهناك مؤشراتٌ تفيد بأنها تمهد للانسحاب من عموم سورية، كما أن ما يحرج طهران أكثر هو أن خروجها من سورية هو أيضا هدف روسي، يتقاطع في العمق مع الهدف الأميركي. والمراهنة على التناقضات بين أميركا ودول أوروبا لم تعد ذات فائدة، إذ لدى الشركات الأوروبية نحو ثلاثة أشهر فقط لإنهاء استثماراتها في إيران والمغادرة.
تلتقي واشنطن وتل أبيب وموسكو، على ما يبدو، على بقاء الأسد، ولو مرحليا، وتتفق، في الوقت نفسه، على وضع حد لنفوذ طهران في سورية، وضرورة خروجها منها.
حذّرت الولايات المتحدة مجدّداً نظامَ الأسد وروسيا من انتهاك مناطق خفض التصعيد المتفق عليها في الجنوب. ليس هذا التحذير الأول من نوعه، لكنه عاد وتردّد على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية، هيذر نويرت. جاء التحذير الذي سبقه حين ظهرت تحركات لقوات النظام على مشارف المنطقة الجنوبية، سبقها إلقاء منشوراتٍ تتوعد الفصائل الجنوبية قبل حوالي شهر. تلك المقدمات الهجومية توقفت حينها، لكن القطعات المحتشدة في المنطقة لم تترك مواقعها في الجنوب، بل جرى تعزيزها، واسْتُقْدِمَ قادةٌ من "نجوم" جيش النظام، ليقودوا الهجوم المنتظر.
يأتي التحذير الجديد بعد قصف مدفعي كثيف من قوات النظام، وبدء تحرّك موجة جديدة من النازحين نحو الحدود الأردنية، وكان بشار الأسد قد أكّد، في مقابلتين تلفزيونيتين، أنه عازم على بسط سيطرة جيشه على كل سورية مرة أخرى، جاءت تصريحاته بعد أن استعاد مناطق محيط دمشق وريف حمص وحماة، ويبدو أنه قرّر استكمال الاستعادة بالاتجاه نحو معركة الجنوب التي بدأها بالفعل قبل شهر، لكنها توقفت.
لم يتوقف الهجوم الحقيقي بعد، وما تقوم به قوات النظام من قصفٍ مدفعي، مع أنه في منتهى العنف، مجرّد اختبار جديد لمعرفة ردّات فعل الجهات المنخرطة في الجنوب، أي إسرائيل والأردن. لم يكن التحذير الذي جاء من الولايات المتحدة مطابقاً للتحذير الأميركي السابق، فقد حُذفت منه عبارة "سنتخذ إجراءات صارمة"، وبقيت منه جملة عائمة ومموهة، لا يُفهم منها الكثير، تقول: "إن الهجوم سيجر تداعيات خطيرة".
يبدو الغرق في هذا التحليل اللفظي ضرورياً لاستقراء الخطوة التالية التي يمكن أن تقوم بها الأطراف، خصوصا النظام، فهو تلقى التحذير وقرأه محللوه بإمعان. ومع ذلك، لا يزال القصف المدفعي التمهيدي مستمراً، ولو أنه لم يتطوّر إلى تحرّكات محسوسة على الأرض، وقد يستمر القصف، ريثما تصدر الإشارة التالية، أو ليتسنّى للطرف الروسي أن يردّ على ذاك التحذير، أو أن يتكشف شيءٌ عن الموقف الإسرائيلي.
يمكن القراءة من السيناريو الذي تتحرّك فيه الأحداث بأن هناك اتفاقاً على دخول قوات نظامية إلى الجنوب، وليس لدى إسرائيل مانع من مشاهدة جيش الأسد مرة أخرى على مقربةٍ من مرتفعات الجولان. ولكن لا يبدو أن الترتيبات النهائية لهذا الدخول قد حسمت، فالتصريح الروسي، قبيل الهجوم السابق، بوجوب خروج جميع القوات الأجنبية من سورية لم يلقَ عناية كافية من أيٍّ من القوات التي يعنيها، وخصوصا الإيرانية، والحديث يدور عن ابتعاد القوات التي تدعمها إيران مسافةً كبيرة عن الحدود "الإسرائيلية"، ويبدو الهجوم الذي وقع على مليشيات عراقية في أقصى الشرق السوري تحذيراً مقروءاً بسهولة، فإسرائيل، ومن خلفها أميركا، لا تريد أن تشاهد قواتٍ تابعةً لإيران في المنطقة، ولو ذهبت إلى أقصى مدى. وقد أدت خطوط إسرائيل الحمراء قبل أيام إلى قصف ذي عمق بعيد ومؤثر، فقد نقلت التقارير أن عدد قتلى المليشيات العراقية تجاوز الخمسين. أما الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المؤمن بوجهة النظر الإسرائيلية، فقد كان قد انسحب من الاتفاق مع إيران بشأن ملفها النووي، وفي الوقت نفسه، ذهب شخصياً إلى عقد اتفاق مشابه مع كوريا الشمالية، وهي رسالةٌ ذات تأثير قوي، تحمل معاني جدّية وخطورة عالية، وحذف عبارة "اتخاذ إجراءات صارمة" من التحذير الأميركي يعني أن هناك بعض الوقت لتتراجع إيران، ومَنْ تدعمهم عن الحدود "الإسرائيلية".
لا عزاء للجنوبيين الذي حملوا على عواتقهم همَّ إشعال ثورةٍ عمّت كل التراب السوري، فالهجوم قادم، وبكل حقد المدافع والصواريخ الروسية، وهم محكومون بالنزوح. ومن هنا، قد تبدأ الخطورة، فالوجهة هي الأردن الذي يعاني من أزماته الاقتصادية، وربما ومن قبيل المفارقة أن رغبة الأردن بفتح حدوده وإنعاش تجارته كانت من أسباب السماح الأردني لجيش النظام بالهجوم.
يستخدم الإعلامُ الثَوْري مصطلحات عديدة تتعلق ببدايات ثورة 2011 في سورية، فيقول أحدُ القادة: يوم قمنا بالثورة.. ويقول أحدُ المحللين الثوريين الاستراتيجيين: عشيةَ قامت الثورة.. ويفضل إعلامي ثالثٌ استخدامَ عبارة انطلاق الثورة.. وهذا، في الحقيقة، فألٌ حسن، إذ لم يحدث أيُّ تَشَابُه في المصطلحات بين الإعلام الثوري وإعلام النظام الذي يتحدث عن الانقلابات العسكرية بوصفها ثورات جماهيرية كبرى، فكنا نسمع أحدَ المذيعين يقول: ثورة الثامن من آذار التي فَجَّرَها حزبُ البعث العربي الاشتراكي.. وبعد سنة 1970، أصبحوا يتحدّثون عن الحركة التصحيحية، ويصفونها بـ المباركة، ويضيفون قائلين إن الذي فَجَّرَها هو الرفيق المناضل حافظ الأسد.. ولعل أكثر كلمة تثير الاشمئزاز في هذه الصياغة هي (فَجَّرَها) التي توحي للمستمع بأن الثورة "دمَّلة".
ومع أن الشعب السوري فقيرٌ، مسالمٌ، غلبان، يريد سلته من دون عنب، وإذا اضطرّته الظروف يتنازل عن السلة؛ إلا أن الجميع، بلا استثناء، حينما يذكرونه يضيفون إليه صفة "العظيم"! وقد ابْتُلِيَ، هذا الشعب السوري (العظيم)، منذ البرهة التاريخية التي تلت جلاء آخر جنديٍّ فرنسي عن تراب سورية الذي يصفونه بأنه طاهر، بالقادة التاريخيين. والقادة التاريخيون، بدورهم، لم يقصّروا بهذا الشعب، إذ لم يبق ضابطٌ من رتبة ملازم وحتى رتبة فريق إلا وجرّب نفسه بانقلاب عسكري وبيان رقم واحد، معلناً نفسه قائداً لهذا الشعب، (مُفَجِّراً) لثورته العظيمة..
أبناء الشعب السوري العظيم لم يردّوا أحداً من أولئك الضباط المغامرين على أعقابه خائباً، وكل مَنْ فَجَّرَ لهم ثورةً كانوا يقابلونه بالسكوت، وأحياناً بالرضا، وأحياناً باللامبالاة، مؤملين أن تنتهي أيام "منع التجول" ليعودوا إلى أشغالهم ويثابروا على تحصيل قوت عيالهم.. وكان بعضُ المنافقين، من أبناء الشعب العظيم نفسه، يؤيدون الضابط المغامر قولاً وفعلاً، ويرسلون إليه برقيات تهنئة، ويخرج بعضهم إلى الشوارع، مثل المهابيل، وهم يهتفون بحياته، وحياة أبيه، وأخيه، وأمه، وأخته، وعمّته، وخالته، ونانته.. وما هي إلا أيام قليلة ويتخلصون منه، أو، على قولة أهل دمشق (يطوطون له)، ويعلن ضابطٌ مغامرٌ آخر بيانَه ذا الرقم واحد، فيؤيده المنافقون، ويرسلون إليه البرقيات، ويرقصون له، وهذا ما دفع المؤرخ بشير فنصة إلى أن يسخر من هذا الحال، فيقول: القادم نعطيه رقصة والذاهب نعطيه (..)!
مع انقلاب "الحركة التصحيحية"، لم تدخل سورية، كما يقول المؤرخون، في مرحلة تاريخية جديدة، بل إنها، على الأصح، دخلت في نفقٍ تاريخيٍّ مظلم طويل.. ولم يعد في مقدور الشعب العظيم الذي أُجْبِرَ على الدخول في النفق أن يَسْخر من الانقلابيين بـ رقصة و(..)، إذ سرعان ما أمر المجرمُ التاريخي، حافظ الأسد، ببناء مؤسساتٍ أمنية فاشستية أخطبوطية، مهمتُها الأساسية معالجة الأعراض التي تظهر على أي إنسانٍ سوريٍّ وتوحي بالتذمر، أو التململ، أو السخط، أو المعارضة، وأمسى المواطنون السوريون يُسْحبون من بيوتهم عند الفجر، على الهسّي، والسكيت، ومن دون اعتراض من أحد.. وقد صور الأديب السوري الكبير، إبراهيم صموئيل، في شهادته في فيلم "ذاكرة بلون الخاكي" للمخرج الفوز طنجور، هذه العمليةَ، بقوله إن الباب يقرع عند الفجر، ويَفتح المواطن الباب ليرى مجموعةً من الرجال المدنيين المسلحين يقولون له: تعال معنا.. وهو لا يستطيع أن يسألهم (من أنتم؟)، فهذا ليس من حقه، وهم، أصلاً، غير معنيين بالإجابة، وهنا تأتي سيدة المنزل، أم المواطن أو وزوجته، وتسألهم: لوين آخدينُه؟ وهنا يوضح إبراهيم: لا تسأليهم ليش آخدينه؟ لأن هذا السؤال ليس من حقها، وإنما، من خوفها، وصدمتها، تريد أن تعرف (لوين آخدينه).. فيقولون لها بلامبالاة: ما في شي، فنجان قهوة وبيرجع.
ومعلوم أن الذين دعوا إلى تناول فنجان قهوة في معتقلات حافظ الأسد، ووريثه بشار، قد أمضوا عشرات السنين في المعتقلات، وذاقوا فيها كل شي.. عدا القهوة.