مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٣ يوليو ٢٠١٨
إيران المتهاوية... هل يكون مؤتمر «المجاهدين» المقبل في طهران؟!

لأن إيران باتت سبب كل أوجاع هذه المنطقة بأفعالها البشعة وبنواياها السيئة، واستهدافها المستمر والمتواصل للعرب وللقضايا العربية قبل الثورة الخمينية في عام 1979 وبعد ذلك، فقد بقيت تهيمن، إخبارياً وأيضاً سياسياً، على مستجدات هذه المنطقة الملتهبة، التي ازدادت التهاباً باحتلالها الفعلي لدولتين عربيتين هما العراق وسوريا، ومحاولات هيمنتها على اليمن وعلى لبنان، وتسللها إلى ليبيا وبعض دول شمال أفريقيا، هذا بالإضافة إلى الخليج العربي كله.

ولعلّ ما يجب التذكير به في هذا المجال، مع أنه قد قيل أكثر من مرة، ومع أن بعض كبار المسؤولين العرب قد حذروا منه، ليس مرة واحدة وإنما مرات كثيرة، هو أن إيران كانت قد أعلنت وقبل أكثر من 15 عاماً أنها بصدد تحقيق هدف إنشاء «هلالها المذهبي» الذي يبدأ أحد طرفيه في اليمن عند باب المندب وينتهي طرفه الآخر في لبنان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وحقيقة إن هذا كاد يتحقق كاملاً لولا تصدي المملكة العربية السعودية ومعها «التحالف العربي» لانقلاب الحوثيين، وكان معهم علي عبد الله صالح رحمه الله على أي حال، على الشرعية اليمنية.

والمعروف أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة ولا يستطيع إنكاره إلا المنحاز لما يسمى دول «المقاومة والممانعة»، التي تضم إيران، ويصر كبار المسؤولين الإيرانيين، وبخاصة قادة حراس الثورة، على أنها تضم أيضاً العراق وسوريا ولبنان والحوثيين، أن جمهورية الشر هذه متورطة في دعم التنظيمات الإرهابية حتى «ذقنها»، وأن تنظيم «القاعدة» قد تربى وترعرع في كنفها، وهذا ينطبق على «طالبان» الأفغانية، وعلى «داعش» الذي بات معروفاً أن حراس الثورة الإيرانية يعتبرونه أحد فيالقهم الفاعلة الرئيسية. إنّ هذا لا بد من قوله والتأكيد عليه قبل التطرق للإثبات وبالأدلة القاطعة أن «دولة الملالي» هذه قد أصبحت «نمراً من ورقٍ»، وأنَّ انهيارها الذي بات واضحاً سيكون على يد الشعب الإيراني العظيم بكل قومياته وأحزابه وتنظيماته الحية، وفي المقدمة من هؤلاء جميعاً المقاومة الإيرانية بقيادة «مجاهدين خلق» الذين استمروا في مواجهة هذا النظام بعد مواجهة نظام الشاه السابق على مدى أربعين عاماً وأكثر.

وهنا فإن ما يشير لا بل ما يؤكد على أن «الملالي» باتوا يتحسسون أعناقهم بعد هذه الانتفاضة الشعبية الأخيرة التي لا تزال مستمرة ومتواصلة، والتي بالإضافة إلى أن العاصمة طهران، التي بأسواقها (بازاراتها) تستحق أن تعتبر منطلق هذه الثورة المتصاعدة، قد عمت المدن الإيرانية كلها من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق عند الحدود مع باكستان وأفغانستان إلى عربستان (الأحواز) في الغرب عند الحدود العراقية.

إنه ليس عيباً ولا عاراً أن تكون هذه الانتفاضة الجديدة، التي سبقتها على مدى الأربعين سنة الماضية انتفاضات متعددة وكثيرة، عفوية وتلقائية، لكن في الحقيقة إنها ليست كذلك وإنها منظمة ومعدٌّ لها إعداداً جيداً إن من قبل «المقاومة الإيرانية»، وإن من قبل التنظيمات القومية الأخرى التي هي على صلة مستمرة بـ«مجاهدين خلق»، وتنسق معهم، إن في الداخل وإن في الخارج، الأمور كلها وكل صغيرة وكبيرة كما يقال.

كان «ملالي» النظام الإيراني الذين أصيبوا بالذعر وبدنوِّ أجلهم وأجل نظامهم، قد قالوا وما زالوا يقولون إن جهات خارجية تقف وراء هذه الانتفاضة الأخيرة، وذلك في حين أنهم، وكل المعنيين يعرفون هذا، أن هذه ثورة حقيقية، وأنه تقف خلفها ومعها بل وأمامها قوى منظمة وجودها الأساسي والفاعل داخل إيران، وهذا يعني أنها لن تتوقف وأنها ستتواصل حتى النصر «وإنَّ غداً لناظره قريب»، وأنه وداعاً لسنوات الظلم والاضطهاد هذه، ووداعاً للتدخل في الشؤون العربية الداخلية، وأن الأخوة العربية - الإيرانية ستعود إلى تلك الفترة التاريخية العظيمة التي أنجزت وأنجبت حضارة إنسانية رائعة، كانت ذات يوم غير بعيد في الحسابات التاريخية في طليعة الحضارات الكونية.

لقد ثبت وبالأدلة القاطعة أنه لا يوجد صراع سني - شيعي، وأن نظام الملالي بتدخله في الشؤون العربية الداخلية وبتمدده الاحتلالي في هذه الدول العربية التي تمدد فيها، وبغطاء مذهبي موهوم ومفتعل، أراد تصدير أزماته، التي غدت متفاقمة و«تُبشّر» بدنو أجله واقتراب ساعة رحيله إلى الخارج، لكن ها قد جاءت هذه الانتفاضة الباسلة حقاً لتؤكد أنه لن يفلح في هذا، وأن حَبْل الكذب سيكون قصيراً، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن لحظة الحساب والعقاب قادمة وبالفعل لا محالة.

كان مؤتمر المقاومة الإيرانية، الذي انعقد في باريس قبل أكثر من 10 أيام، وشارك فيه نحو ربع مليون إيراني جاءوا من «أربع رياح الأرض»، وحضره عدد كبير من المؤيدين والمناصرين، من بينهم شخصيات مرموقة بالفعل لعبت أدواراً قيادية في بلدانها، بمثابة التأكيد على أن انتصار الشعب الإيراني بات قريباً وإلى حدِّ القول وبلا أي مبالغة بأن المؤتمر المقبل بالفعل قد يكون في طهران، وأن زوال هذا النظام الاستبدادي «الرجعي» بات قريباً، وأنه على من يشك في هذا أن يراجع مسيرة التاريخ، حيث كانت قد تهاوت أنظمة وإمبراطوريات جبارة كثيرة كان البعض يرى أنها باقية إلى الأبد.

لقد كانت الدلالة الأولى على أن هذا المؤتمر أو هذا التجمع هو غير المؤتمرات السابقة هي الإعلان رسمياًّ عن أن قائد المقاومة الإيرانية ومؤسسها في العهد «البهلوي» مسعود رجوي لم يُقتل ولم يغب الغياب النهائي، كما كان ادعى نظام الملالي ومعه «المذهبيون» المصفقون له، وأنه لا يزال على رأس عمله وفي موقعه القيادي الفاعل، وأنه هو ومعه عدد من زملائه هو من يقود هذه الانتفاضة الجديدة التي من الواضح أنها زعزعت هذا الكيان الاستبدادي الرجعي الذي باتت نهايته قريبة.

إن هذه هي الدلالة الأولى، أما الدلالة الثانية فهي الإعلان وللمرة الأولى عن أن المقاومة الإيرانية عازمة، وقد قطعت شوطاً طويلاً على هذه الطريق، لإقامة جبهة عريضة تضم كل القوى والاتجاهات الإيرانية الفاعلة لإسقاط هذا النظام، إن بالتحركات الجماهيرية المتلاحقة، وإن بالقوة العسكرية والكفاح المسلح، وحقيقة أن هذا تطور نوعي على كل الذين في مصلحتهم إزالة هذه الغيمة السوداء أن يؤيدوه ويدعموه بكل وسائل الدعم والمساندة.

أما الدلالة الثالثة فهي أنّ الأميركيين قد أعادوا النظر في مواقفهم وقراراتهم السابقة، وأنهم لم يعودوا يعتبرون «مجاهدين خلق» منظمة إرهابية، وأن هناك نية جدية لتوجيه دعوة لقائدة المقاومة الإيرانية السيدة مريم رجوي لزيارة واشنطن للقاء كبار المعنيين والمسؤولين في الولايات المتحدة.

وهكذا واستناداً إلى هذا كله فإن «ملالي طهران» قد فقدوا أعصابهم، وأنهم بالإضافة إلى عنفهم الداخلي ضد هذه الانتفاضة الجديدة قد شكلوا شبكة الاغتيالات والتفجيرات الأخيرة التي تم ضبطها في عدد من الدول الأوروبية، والتي كانت تستهدف مؤتمر باريس الأخير الذي أصاب هذا النظام الإيراني بالهلع والخوف، وبأن نهايته باتت قريبة.

لقد وصلت إيران الخامنئية إلى طريق مسدودة بالفعل، وهي إذْ تحاول تأجيل الاستحقاق الكبير الذي لا بد منه بافتعال كل هذه «الزوبعة» العاتية حول «الاتفاق النووي» الذي كانت وقعته مع باراك أوباما في لحظة اهتزاز معادلات هذه المنطقة، فإنها تعرف أن لحظة الحقيقة قادمة لا محالة، وإن «بازار» طهران الذي أعطى لـ«الثورة الإيرانية» هذا الاسم، وأعاد الخميني من المنافي القريبة والبعيدة سيعطي للشعب الإيراني العظيم حقه... وحق هذا الشعب هو أن يقرر مصيره بنفسه وأن يعيد بناء بلده، وأن يضع حداً لكل هذا التلاعب العبثي بمستقبله ومستقبل أطفاله وأجياله.
إنه لم تعد هناك أي إمكانية لمواصلة «ترقيع» أمور غدت متهاوية، فأربعون عاماً من الظلم والظلام وافتعال العديد من الحروب الداخلية والخارجية قد أشعل فتيل هذا الانفجار الهائل، فثورة التغيير قد بدأت والشعوب الإيرانية كلها أدركت هذه الحقيقة، ونهاية هذا النظام المتخلف الذي حاول تأجيل نهايته بافتعال كل هذه التدخلات الخارجية غدت تحصيل حاصل... وإن غداَ لناظره قريب!

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٨
سوريا على توقيت ساعة كوهين

في الجنوب السوري ثبتت تل أبيب خياراتها، وترجمتها ميدانياً، بعد أن أزالت كافة الالتباسات السابقة في موقفها من نظام الأسد، وانتقلت إلى المشاركة العلنية في محاولة إعادة تأهيله، ورفضت بشكل واضح وصريح بقاء المناطق المحررة من الجولان خارج سلطة دمشق، فقد أكد كبار قادتها عدة مرات أنهم يفضلون انتشار القوات التابعة للأسد على طول خط الهدنة في الجولان المحتل، فمن درعا تجاوزت إسرائيل كل المحاذير التي رافقت موقفها الغامض من الثورة السورية، وانضمت إلى واشنطن وموسكو وطهران في محاولة إعادة عقارب الساعة السورية إلى الوراء، بهدف إعادة الأمور على حدودها الشمالية إلى ما قبل 18 مارس (آذار) 2011. تزامن هذا التحرك الإسرائيلي المباشر على الجبهة الجنوبية مع إعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عما وصفه بالإنجاز الجديد لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد» الذي تمكن من خلال عملية خاصة، لم تكشف تفاصيلها بعد، من استعادة ساعة الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين الذي أعدم شنقاً في دمشق سنة 1965، ولكن «إذاعة الجيش الإسرائيلي» نقلت عن أرملته نادية كوهين قولها إن «عملية الموساد الخاصة، ليست إلا عملية شراء عادية في مزاد على أحد مواقع التسوق على الإنترنت».

بين رواية الموساد ورواية نادية كوهين، هناك حقيقة مؤلمة مفادها أن ساعة الجاسوس المتنكر باسم «كامل أمين ثابت» باتت بحوزة تل أبيب، التي حققت إنجازاً معنوياً ثانياً بعد سنتين على إنجازها الأول، عندما قرر حليفها الاستراتيجي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إهداءها دبابة كانت تابعة للجيش الإسرائيلي غنمها الجيش السوري ورجال المقاومة اللبنانية والفلسطينية في معركة السلطان يعقوب في منطقة البقاع اللبناني أثناء اجتياح لبنان 1982، في خطوة اعتبرت عربون ثقة بين بوتين ونتنياهو من أجل تعزيز القواسم المشتركة بينهما في سوريا، حيث تحظى إسرائيل بحماية روسية لمسيرة أرباحها جرّاء الحرب التي تقودها موسكو وطهران على ثورة الشعب السوري.

ميدانياً تمكنت تل أبيب من فرض شروطها الأمنية والعسكرية على موسكو في المعركة التي يخوضها النظام لإعادة السيطرة على محافظة درعا، وقد استجابت موسكو للرغبة الإسرائيلية في إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدودها الشمالية، وذلك عبر تقسيم معركة الجنوب إلى محورين؛ الأول بات يعرف بمحور غرب درعا الذي يصل إلى الحدود الأردنية، حيث قامت إسرائيل بغض الطرف عن مشاركة ميليشيات إيرانية في هذه المعركة شرط عدم وجودها على محور الجولان، وقد التزمت كافة الأطراف بالشروط الإسرائيلية التي حصرت الوجود العسكري في المناطق القريبة من الجولان بقوات الأسد فقط، وذلك ضمن صفقة بين موسكو وواشنطن تسمح للنظام بتوسيع نطاق سيطرته الميدانية، حيث تمارس واشنطن دور المراقب المصرّ على سياسة الانخراط المحدود وغير المكلف، بينما تستدرج موسكو إلى وجود طويل الأمد مجهول النتائج، فيما تغرق طهران نهائياً في وحلها، وتزداد الصعوبات في إيجاد مخرج لها يخفف من حدة استنزافها، في المقابل وحدها تل أبيب تحقق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، فقد دمرت أغلب المدن السورية الكبرى، وهجر أكثر من 10 ملايين مواطن، وقتل أكثر من نصف مليون، وتم القضاء على طموحات الأغلبية السورية في الوصول إلى السلطة، فبالنسبة لتل أبيب تشكل الأغلبية السورية العمق التاريخي للشعب الفلسطيني واحتياطه الاستراتيجي في الأزمات الكبرى. فقد أزاحت حرب النظام على الشعب عن كاهل تل أبيب أحد أبرز همومها الوجودية، عندما سوت طائرات الأسد بمساعدة الطيران الروسي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بالأرض، وتعرض أهله للتهجير، فيما قضى المئات من شبابه تحت التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، حيث خسرت القضية الفلسطينية واحدة من أوراق ضغطها القليلة التي كانت تلوح بها عند أي جولة مفاوضات مع تل أبيب القلقة دوماً وأبداً من تمسك الفلسطينيين بحق العودة، الذي لا يمكن التخلي عنه أو المساس بوجوده، فيما ترى تل أبيب أن الجولان المحتل لم يتعرض لأي محاولات سورية رسمية جدية من أجل استعادته، ولا حتى تطبيق نموذج المقاومة الذي جرى في جنوب لبنان، لذلك هناك فرصة جدية في إقناع إدارة ترمب بالاعتراف رسمياً بسيادتها عليه.

تريد تل أبيب ضبط الزمن السوري على عقارب ساعة كوهين، لكنها تعلم جيداً أن زمن الثورات يسير باتجاه واحد، وأن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وأن الزمن السوري لم يعد بحاجة إلى ساعة من أجل ضبط مواعيد حريته، رغم أن آلة الحرب الروسية الإيرانية «البعثية» لم تترك حائطاً واحداً في درعا لكي يعود أطفالها ويكتبون عليه من جديد... ارحلوا.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٨
هل انتهت ثورة الجيل العربي الحالي؟

كيف حصل ذلك؟ سؤال من السهل الإجابة عنه لمعرفة سبب هزيمة الثورة في العالم العربي، فالأحداث لم تخف نفسها، وتكالبت الدولة العميقة، بما تعنيه من مراكز فساد، والقوى المافياوية الإجرامية، الممثلة بأجهزة المخابرات وبعض الفرق والألوية في ما يسمى بـ"الجيوش العربية"، مع القوى الدولية والإقليمية ذات المصلحة في عدم حصول تحولات في العالم العربي وحرفها باتجاهات أخرى.

لماذا حصل ذلك؟ هذا هو الملعب الذي يجب أن تجري فيه خيول أفكارنا، ليس فقط للإجابة عن سؤال لماذا انهزمت الثورات العربية، وإنما لإيجاد صيغة نحفظ من خلالها بعض التوازن للمجتمعات العربية؛ الخارجة من أتون حرب وجودية طاحنة شنتها عليها القوى سالفة الذكر، وترغب في دفع المجتمعات العربية إلى أسفل نقطة للضعف البشري، حتى لا تقوم لها قائمة إلى عقود مديدة؛ كي لا تعكر مزاج الأنظمة الحاكمة وسلالتها في السلطة.

قد يقول أحدهم، إنه من الظلم أن نطلب من الناس المنهكين والمسحوقين إعادة إنتاج الثورة من جديد، وهم ما زالوا يمسحون الدماء على وجوههم، وما زالت عائلات كثيرة لم تعرف مصائر أولادها، وما زالوا لم يتعافوا بعد من الجوع الذي حطم أحشاءهم وكرامتهم. ثم إن شريط تخلي العالم عنهم وتركهم للموت يفترسهم؛ ما زال لم يعبر على شاشة الحدث بعد، فكيف نطلب منهم ما لا يستيطعون فعله في ظروفهم الحالية وواقعهم المأساوي؟!

رغم صحة هذا المنطق الظاهرية، إلا أنه يطوي عن قصد حقائق مهمة مقابلة، ولعل أولى تلك الحقائق أن الثورة كما كانت عشية انطلاقها، كذلك هي اليوم، وربما أكثر إلحاحا.. خيار إجباري ومفروض، فكل لحظة تهدئة أو سكون أو تراجع هي بالمقابل عند الطرف الآخر تكريس للهزيمة، وحق مكتسب يستطيع من خلاله غل سكينه في قلب المهزوم بالقدر الذي يشاء هو.

الحقيقة الثانية، أن الأنظمة التي شنت ثورات مضادة على شعوبها ليست في حال أفضل، وهي منهكة وغارقة في الضعف، وقد جرى استنزافها بالفعل، وانتصاراتها على شعوبها لم تكن في الغالب بفضل قوّة تتميز بها، بقدر ما هو نتاج ظروف من خارج موازين القوى الطبيعية بين الطرفين، إما بسبب استخدامها موارد الدولة، أو توفر آلة إعلامية هائلة لها، أو نتاج سلبية وتخاذل فئات ونخب، ودائما نتيجة تدخل الخارج لصالحها، بالمال والسلاح.

الحقيقة الثالثة، رغم تعب المجتمعات العربية، إلا أن محفزات الثورة ودوافعها ما زالت موجودة وبقوّة، فإذا كانت الثورات قد انطلقت طلبا للحرية والكرامة والعدالة، فقد أضيف لتلك الحمولات مئات آلاف القتلى ومثلهم في السجون، فضلا عن مستويات الإفقار العالية ونسب البطالة المهولة، وهذا الأمر ينطبق على مجتمعات سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن، وحتى الدول العربية الأخرى التي شهدت حراكات سلمية، وإن كانت قد نجت من القتل والتدمير، إلا أنها مصابة بالفقر والبطالة وتنمر الفاسدين.

إذن، حتى لو أراد الجيل العربي الحالي التراخي عن الثورة، فإن الظروف الموضوعية تدفعه دفعا إليها بحكم الواقع الذي يصعب التعايش معه بل يستحيل، فكيف يتعايش السوري مع قاتل ابنه ومدمّر بيته وسارق عفشه؟ كيف يتعايش المصري مع سارق حلمه في الحرية والحياة الكريمة ويزاود عليه في الوطنية؛ ويرى كل من في بر مصر خائنا مشكوكا بأمره، وغير السخرة لا تليق به؟

علينا أن نعترف بأن الجزء المسلح من الثورة هو الذي انتهى، وانهزم أيضا؛ لأنه في الأصل طارئ، ولأنه ملعب الأنظمة وقد أدخلونا إليه عنوة ليصلوا إلى هذه النتائج. ومع صعوبة العمل السياسي مع هذا النمط من الأنظمة ومقاومة إغراء إسقاطها بقوة السلاح، إلا أن هذه التجربة يجب إسقاطها بالفعل من أي تفكير سياسي في كيفية مواجهة أنظمة القمع العربية والنيل منها في ساحة الصراع المفتوحة.

ثمة مؤشرات عديدة على أن ثورة الجيل العربي الحالي ما زالت ممكنة ومستمرة، رغم ألم الجراح ونزفها المستمر. فالنقد الذاتي للهزيمة ومسبباتها أمر مبشر، كما أن استمرار حالة الرفض للخنوع للأنظمة التسلطية ورفض قبول تأهيلها وشرعنتها؛ هو تحفظ في مواجهة الهزيمة إلى حين إعادة بناء عدة المواجهة الجديدة، ولن يطول الأمر كثيرا ما دامت ماكينة تهرؤ الأنظمة تعمل باستمرار، وما دام جيل يبحث عن صياغة ثورية تستدرك كل أخطاء الماضي وتتجاوزها.

اقرأ المزيد
١٣ يوليو ٢٠١٨
درعا من الثورة إلى الاحتلال

تعقّدت أزمات سورية، مع سياسة اللبرلة التي اعتمدها النظام، ولا سيما عام 2000، وذلك للتخلص من سياسات القطاع العام القديمة، وليحتكر كبار رجال السلطة، وقد اغتنوا من قبل، نتائج اللبرلة هذه. أي أنّه، وبعد إكمال نهب القطاع العام، كان لا بد من قوانين جديدة، تُسهٍل لأبناء سلطة السبعينيات السيطرة الكاملة على السوق، بعد التسعينيات، وهذا يوازي السيطرة على النظام والسلطة بكل مستوياتها.

السياسة الاقتصادية هذه، وهي سياسة عالمية بدأت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ومن نتائجها رفع أسعار كل المواد في السوق، بعد أن تخلت الدولة السورية عن دعم المواد الأساسية، ولا سيما أسعار المازوت والأعلاف بصفة خاصة؛ وكذلك حينما انفتحت على تركيا، بعد خسارتها لبنان 2005. هذان العاملان بالتحديد أدّيا إلى انهيار الصناعات الأولية والزراعة، فارتفعت أعداد العاطلين من العمل بشكل كبير، وانخفض مستوى دخول الناس، وازدادت طبقة المفقرين، وانخفضت كذلك قيمة العملة؛ هذه من نتائج اللّبرلة، وهي سياساتٌ تماثل ما تمّ في كل العالم العربي قبل 2011، وتسببت بثوراتٍ شعبية عارمة. يختلف الأمر في سورية، بسبب طبيعة النظام الأمني والعسكري؛ حيث لا يقارَن نظاما تونس ومصر به، قمع ومنع كل شكل للعمل السياسي والنقابي والفلاحي والشبابي، بينما الأمر في ذلكما البلدين لم يكن بهذه الصورة أبداً. إذاً لم تأت الثورات من عدم، وإنما هناك أسبابٌ عديدة أدّت إليها.


مشكلات درعا
درعا التي تُحسب تاريخياً على النظام، ومنها قيادات كبرى في الدولة، ولم تتحرّك في أزمة الثمانينيات ضد النظام. درعا هذه تخلو من أية مصانع، تستوعب العاطلين من العمل، وهي مدينة زراعية بامتياز كذلك، والأهم أن فيها نسبة عالية من المهاجرين إلى دول الخليج ومنذ الثمانينيات بشكل أساسي، وهو ما ساهم بنهضةٍ زراعية فيها. الهجرة هذه دلالة أكيدة على غياب التنمية في سورية، وكذلك وجود ملايين السوريين من بقية المدن السورية في كل من لبنان والخليج. على كل حال، هذه أسباب أولية، يضاف إليها العامل العربي 2011؛ فالثورات العربية تُطيح الأنظمة، وبالتالي تشكلت عوامل داخلية وخارجية للبدء بالثورة.

دخلت درعا الثورة كما كل المدن السورية، وهي تكابد أزمات الإفقار والقمع السياسي وافتقاد السوريين أية حقوق وحريات؛ وهناك عامل آخر، حيث مَنعت الدولة حفر الآبار في بعض مناطق درعا، لأنها مناطق حدودية، وهذا جعل وضع الفلاحين كارثياً، حيث يُجبرون على دفع الملايين بين الرشاوى وكُلف الحفر. وقد أدار النظام الأمني الأزمة الثورية 2011، كما كان يفعل طوال مراحل سيطرته على سورية، أي منذ السبعينيات خصوصا، وبشكل متشدّد بعد أزمة الثمانينيات.

وللثورة أسباب عديدة، وقد أشير إليها أعلاه، وبالتالي كانت ستحدث لا محالة. أما شرارتها فقد بدأت في درعا، بعد حكاية الأطفال الذين أرادوا محاكاة ما يحدث في الدول العربية، فكتبوا "خربشاتٍ" على جدران مدرستهم، وفيها تنديد بالنظام الذي مرّر سردية إعلامية سمجة: إن سورية ليست كمصر وتونس. لم ينتبه إلى خطورة الوضع الثوري في سورية، وكان لإجابة أجهزة الأمن بأن ينسوا أطفالهم في المعتقلات، وأن ينجبوا أولاداً غيرهم، أو أن يأتيهم أهل درعا بنسائهم "فيحبّلوهن هم" مفعول السحر! هذا الرد، وعلى خلفية التأزم الشديد، فجّرَ المدينة، ولحقت بها بالتدريج كل بلدات درعا، وكلما كان يزداد القتل والقمع والاعتقال كانت الثورة تشتعل، وتنضم بلدات جديدة، وألوف جدد وعائلات وعشائر بأكملها، ومدن سورية أخرى. التآزر المحلي ومظاهرات بقية مدن سورية، سيما في المناطق الأكثر تهميشاً، والمدن المهمّشة، دفعت بالثورة لتنتقل من المطالبة بالإصلاح، (العرائض إلى رئيس الجمهورية وزيارته من وفود من أغلبية المدن السورية)، والمطالبة بإعفاء المحافظين وكبار رجال الأمن، إلى المطالبة بإسقاط النظام بكل رموزه، ولاحقاً من السلمية إلى العسكرة.

وعمّت المظاهرات السلمية كل بلدات درعا ومدينتها، وتفاوتت من منطقة إلى أخرى، وهذا حال كل بلدات سورية ومدنها. وكانت هناك رغبة في أن لا تتحول هذه السلمية، في الأشهر الأولى، إلى التسليح؛ لكن النظام، وبعد فشله أمنياً في التعامل معها، كان لا بد له من الانتقال إلى استخدام الجيش، ما أدى به إلى تسهيل تمرير السلاح للمتظاهرين. وعلى الرغم من رفض السلاح، في بادئ الأمر، فإن خيار العسكرة كان طبيعياً في سياق القتل اليومي في الشوارع أو المعتقلات. النظام إذاً أراد ذلك، وكذلك الميل الإسلامي الصاعد حينها أيضاً؛ فهما كانا يرغبان بتحويل الصراع إلى مُسلحٍ، وهو ما حصل لاحقاً، وأدى ذلك للقضاء على الثورة السلمية كلية.

تطوّر الثورة متلازمٌ مع شدّة القمع، وهذا أدّى إلى ظهور مجموعاتٍ صغيرةٍ مسلحة، وقد تكونت من عناصر منشقة عن الجيش، أو مدنيين ممن كان يتظاهر. ساد حينها شعورٌ بأن النظام لن يسقط من دون الصراع المسلح. حدث الأمر عينُه في أغلبية مدن سورية وبلداتها. هو سياقٌ طبيعيٌّ إذاً لتطور الأحداث، حيث رفض النظام التصالح مع الشعب، وتلبية حاجاته، والاعتراف بحقوقه وحرياته، وتشدّد في قمعه وقتله.

سمحت الحماية الخفيفة للمظاهرات بتوسعها وبقائها سلمية ووطنية، وترفض كل ميل طائفي. لم يكن هذا الأمر سارّاً، لا للإسلامين ولا للنظام. هنا أفرج النظام عن نحو ألفٍ من الجهاديين من سجونه في الشهر السادس من 2011، وكذلك فُتحت الحدود لدخول أمراء من "القاعدة" من الأردن وتركيا والعراق. ودفعت شدّة القمع الناس إلى أن يتقبلوا الوافدين الجدد للدفاع عنهم، ولم يكن الأمر تعبيراً عن رغبة في أسلمة الثورة، أو تبني مشروعٍ جهادي بأي حال.


التنظيمات الجهادية .. وتطورات نوعية
بدأت جبهة النصرة، مع العام 2012، تشكل خلاياها، وكذا أحرار الشام، وأخيراً منظمات متشددة وجهادية أكثر فأكثر، وقد انضوت ضمن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لاحقاً. وكانت فُتحت لجبهة النصرة والتشكيلات المماثلة الحدود والسجون والسلاح والمال. وقبالة ذلك كان الاعتقال والقتل يلاحق شباب التنسيقيات ومجموعات الجيش الحر. وهنا يمكن ملاحظة كيفية تصفية النظام وإيران وروسيا كل فصائل الجيش الحر أو الفصائل الإسلامية، وأخيراً يتم الانتهاء من التنظيمات الجهادية، مثل داعش وجبهة النصرة. فلنلاحظ في درعا أنه لم يتم الاقتراب من جيش خالد بن الوليد (تشكل في 2016، من لواء شهداء اليرموك، وجيش الجهاد، وحركة المثنى الإسلامية) حتى بعد توقيع الاتفاق الأولي لتسليم المدينة في 7-7-2018. وما زالت جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) تتحكم بمدينة إدلب.

وتشكلت في العام 2014 الجبهة الجنوبية، وهي تضم عدداً كبيراً من الفصائل (54-58)، ودُعمت من غرفة الموك التي تشكلت عام 2014 في الأردن، وهي غرفة تمويل وتسليح وتدريب للجبهة، وكذلك غرفة للاستخبارات العالمية، وتشرف عليها بشكل أساسي أميركا والأردن، وهناك ممثلون لدول كثيرة فيها. هي غرفة محسوبة أساسا لصالح الأميركان، وطبعاً هناك تنسيق إسرائيلي أميركي يتعلق بكيفية السيطرة على تلك الفصائل؛ فهي استطاعت السيطرة على الحدود، مع كل من حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي والأردن. ولهذا كان لا بد من معرفة كل ما يخص هذه الفصائل وضبط عملياتها وإخضاعها باستمرار، وقد أصبحت في 2015 تتلقى الأوامر من "الموك"، ومن يرفض منها تمنع عنه المساعدات. وكذلك أصبحت "الموك" تتدخل في السماح بشن المعارك أو إيقافها أو تغيير اتجاهها، وهكذا. ما رفضت "الموك" تسليمه، كما حال كل دول "الدعم" للفصائل، هي الصواريخ التي في مقدورها إسقاط الطائرات، وهذا ما سهّل انتقال النظام إلى استخدام الطيران لقصف المدن وتدميرها، وكذلك فعلت روسيا، حيث تدخلت عام 2015 جويا، وحققت الانتصارات بسبب غياب الصواريخ تحديدا.


مشكلات في الفصائل
تكمن مشكلة الفصائل المسلحة في سورية في افتقادها قيادة سياسية تعبر عنها، وتوجهها وتحدّد لها استراتيجيتها؛ فلم يستطع المجلس الوطني السوري، ولا الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولا سواهما، أن يكون قيادتها، كما لم يستطع ذلك في مرحلة الثورة السلمية. وهناك غياب مرجعية قانونية ضابطة لكل ممارسات تلك الفصائل (ما سمح للجهاديين بتشكيل محاكمهم الشرعية)، وقد تشكلت على أساس الولاءات العائلية، والدينية من ناحية. ومن ناحية أخرى، على الدعمين، الإقليمي والدولي؛ أي أنها لم تتشكل وفق رؤية وطنية، تضبط علاقتها مع العالم ولخدمة الثورة، فكانت تلك العلاقات لصالح قيادة الفصائل، أو قيادات المعارضة. وهذه سمة عامة للفصائل المعارضة للنظام. وعلى الرغم من محاصرة النظام بلدة داريا سنوات، ولاحقاً الريف الغربي لدمشق، ومن ثم الغوطة الشرقية، فإن فصائل حوران لم تتخذ قراراً بخوض معركة مشتركة معها. وقد عانت من هذه المشكلة كل المدن الثائرة، وكانت نتيجة ذلك إخضاع النظام والروس والإيرانيين لها بالتدريج. طبعاً كانت كل عملية توحيد للفصائل تساهم في خسارة المعارك من النظام والإيرانيين، سيما معركة إخراج النظام من إدلب 2015، ومن درعا ومن أغلب مدن سورية، لكن ذلك تغيّر كليا مع دخول الروس، ولاحقاً مع إنهاء الخلافات بين روسيا وتركيا وتحوّلهما شريكين، وإنشاء مسار أستانة ومناطق التصعيد. وأدت هذه التغيرات والسياسات إلى سقوط حلب، وبعدها سقطت بقية المناطق، وحُوصرت إدلب والغوطة ودرعا بشكل كامل. وبالتالي، إن غياب رؤية وطنية للعمل العسكري، وتنسيق على مستوى سورية، والتدخل الدولي لصالح النظام في حالتي روسيا وأميركا ضد "داعش"، ساعد بشكلٍ حثيث على إسقاط المدن "المتحرّرة" بالتدريج كما ذكر أعلاه.
"تكمن مشكلة الفصائل المسلحة في سورية في افتقادها قيادة سياسية تعبر عنها، وتوجهها وتحدّد لها استراتيجيتها"


أكذوبة المصالحات ومناطق خفض التصعيد
استخدمت فكرة المصالحات، ومن ثم فكرة مناطق خفض التصعيد (انظر "خفض التصعيد.. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا"، تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "العربي الجديد"، 4-7-2018)، لإيهام الفصائل بأن هناك تدخلاً إقليمياً ودولياً وسيكون الضامن لانتقال سياسي مقبل، سيما أن كل الأوراق السورية أصبحت بيد الخارج. وقد استخدمت روسيا بالتحديد، وبالشراكة مع إيران وتركيا، ويبدو مع كل داعمي غرفة الموك في الأردن، استخدموا كلهم سياسة الخفض تلك، وتقييد الفصائل بها، بغرضٍ وحيد، هو تقييد العمل المسلح المعارض في كل سورية، ومن ثم إنهاؤه، وهو ما تمّ في الغوطة وريف حمص الشمالي وحماة ودرعا، وسهّل ذلك الشعور بالهزيمة التي منيت بها الفصائل بعد خسارة حلب، وسيطرة مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) على مناطق واسعة من شرق سورية وشمالها، وكذلك تقدّم النظام في أرياف حماة وحلب وإدلب، وكذلك ما حققته روسيا وحلفهم من هزائم لـ "داعش" في أغلبية مناطق وجوده.

وقد تشكلت منطقة خفض التصعيد في درعا عام 2017، إثر لقاء جمع الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، في فيتنام، وحُيّدت بموجبه المدينة عن مؤازرة هجوم روسيا والنظام على بقية مناطق سورية، وأخيراً على الغوطة، حيث ضمنت "المنطقة"، أكذوبة الحماية من خطط النظام. وحقيقة الاتفاقيات التي تمت عبر أستانة ولقاء الرئيسين أنها تمّت لغاية واحدة، وهي إخضاع قادة الفصائل للسياسة الروسية، وفصلها بعضها عن بعض، ودحرها لاحقاً، والتخلي عن مناطق خفض التصعيد لاحقاً، وهو ما تحقق بالسيطرة أخيرا على درعا، والبدء بالتحضير لإنهاء إدلب، وإيجاد تسوية كاملة لها بالشراكة مع تركيا، أو تحت السيطرة التركية، وبعد إدلب سيتقرّر مصير الشمال السوري.

وتبيّن أن التخلي الأميركي عن اتفاق خفض التصعيد ترافق مع اتفاق إسرائيلي روسي، يسمح بعودة النظام إلى الحدود، وتصفية الفصائل المعارضة، وإبعاد إيران عن حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي. وقد خيضت معركة درعا أخيرا بكثافة نيرانية من الطيران الروسي، وكادت أن تدمر درعا وبلداتها، وبالتالي فضَّلت الفصائل فيها الموافقة على تسويةٍ لا تُهجرها، وتعيد أهلها المهجّرين إليها. إذاً هنا عوامل عديدة، ساهمت بإنهاء فصائل حوران والقنيطرة، وقد وصل النظام فعلاً إلى الحدود الأردنية، وسيصل إلى حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، وسيعاود حمايتها كما كان قبل 2011، ووفق اتفاقية إيقاف الاشتباك لعام 1974.


خاتمة
انتهت الثورة في مدينة درعا، لكن أسبابها لم تنتهِ، وأضيفت إليها أسباب جديدة. وأيضاً لم يعد لدى الناس أية ثقة بالعمل العسكري في درعا وفي كل سورية. وبالتالي، هناك ضرورة للعودة إلى العمل السلمي مجدّداً؛ فقد مارست فصائلها تحكّماً وقهراً بالناس وأذلتهم، كما النظام تماماً، ولم تستطع أن تكون بديلاً للنظام وللدولة، وهذا ما دفع بأقسام منها للانحياز لأية تسوية تخرج الفصائل، وتنهي المآسي.
ولكن هل يمكن القول إن الدولة السورية ستستوعب المدن المهزومة وتنهض بها؟ هنا علينا التدقيق؛ فسورية أصبحت دولة محتلة، و"تحرير" واحتلال مدنها تمّ بالطيران الروسي وبالمليشيات الإيرانية وببقايا جيش النظام. وبالتالي أصبحت درعا وسورية أمام جدلية التحرّر والحرية، وهما تختصران آلاف الأزمات التي تكدّست على الأرض السورية.

اقرأ المزيد
١٢ يوليو ٢٠١٨
ما وراء فكرة انتصار النظام السوري

يحلو لنظام الأسد وحلفائه ومؤيديه، القول إن نظام الأسد انتصر على السوريين، وإن جيشه في طريق استعادة السيطرة على الأراضي السورية، التي خرجت عن سلطته في السنوات الماضية، بعد أن أعلن السوريون ثورتهم على نظام الاستبداد والقتل، وسعياً من أجل الحرية والعدالة والمساواة.

وإذا كان النظام أول أطراف مروجي فكرة «الانتصار»، فلا بد من استعادة شعاره الأول الذي أطلقه عند بدء حركة الاحتجاج الشعبي في مارس (آذار) 2011، والقائل: «الأسد أو نحرق البلد»، كاشفاً عن طبيعته التي تربط بقاء سوريا والشعب السوري ببقاء شخص على رأس نظام، أثبت عدم قدرته على إدارة البلد، وخلق فيها شروطاً وظروفاً وضعتها في مصاف الدول الفاشلة، ودفعت السوريين للخروج في مواجهة القتل والاعتقال والتهجير، الذي تكفلت به أدوات النظام الأمنية والعسكرية وشبيحته، وقد أطلق النظام - بعد أن أعطاهم سلطة خارج القانون - أيديهم في كل ما يصلون إليه، فيقتلون ويعتقلون ويهجرون، دون أي ضابط قانوني أو أخلاقي أو اجتماعي، ودون أي محاسبة في أي مستوى كان. كما أطلق العنان لأطماعهم في أعراض السوريين، ليتم انتهاكها بصورة واسعة، بالتوازي مع أطماعهم في ممتلكات غيرهم، عبر الاستيلاء والمصادرة والسرقة والتدمير، وفتح النظام الباب أمامهم للتلاعب بما تبقى من «المجتمع والدولة» عبر الفساد المالي والإداري والرِّشى وتجارة المخدرات والدعارة، فحولهم إلى طبقة من أصحاب السلطة والمال الذين لا قدرات لهم سوى تمجيد النظام، وارتكاب ما أمكن من جرائم تصب في هدف بقائه.

ويشكل الروس والإيرانيون وميليشياتهم الطرف الثاني في قائمة مروجي فكرة «انتصار الأسد». وطوال سنوات، كانوا قوة دعمه ومساندته في المستويين الخارجي والداخلي، وأعلنوا مرات كثيرة، أن تدخلهم إلى جانب نظام الأسد، شكل قوة حمايته من السقوط في وجه السوريين، ولعب الروس دوراً بارزاً في حماية النظام في مجلس الأمن الدولي، بإعلان «الفيتو» ضد أي قرارات كانت تستهدف سياسات النظام وجرائمه، مما شل الإرادة الدولية عن اتخاذ قرارات حاسمة، ثم جاء تدخلهم العسكري أواخر عام 2015، فشكل انقلاباً في موازين القوى العسكرية والسياسية في الصراع السوري، ووضع النظام (مع عوامل أخرى) على قاعدة استعادة مناطق كانت خارج سيطرته. فيما قامت إيران وميليشياتها بدور الداعم بالقوات، فعززت قوة النظام الميدانية، إضافة إلى أشكال واسعة المجالات من الدعم السياسي والاقتصادي لنظام فقد معظم قدراته.

وبطبيعة الحال، فإن الروس والإيرانيين، لم يقدموا دعمهم الهائل، وسعيهم لـ«انتصار الأسد» خارج حدود مصالحهم، ولم يصبحوا بفعل ذلك أصحاب القرار السوري فقط؛ بل حصلوا على مكاسب مباشرة، بينها قواعد عسكرية، وتأسيس أدوات وبنى اجتماعية حليفة، والحصول على امتيازات اقتصادية وعقود استثمارية. بل الميليشيات التابعة لهم شاركت في عمليات نهب الموارد السورية الفردية والجماعية، عبر إطلاق يدها في الواقع السوري، وجميعه مرهون باستمرار النظام ورئيسه في السلطة. والقول بـ«انتصاره» يعني الحفاظ على ما تحقق لهم من مكاسب، وإمكانية تطويرها في المستقبل، وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار المقبلة.

غير أن القول بـ«انتصار الأسد» أو التبشير به، لا يقتصر على أطراف التحالف معه. فثمة مجموعتان تسيران على الخط ذاته: أولهما أنظمة ودول، يوفر لها بقاء النظام مصالحها، كما في المثال الإسرائيلي الذي اختبر على مدار العقود الماضية مصداقية النظام في الحفاظ على أمن إسرائيل، عبر التزامه باتفاقية فصل القوات على الجولان 1974، وجدد النظام أسس تلك العلاقة في عدم رده على هجمات على أهداف سورية وأهداف حليفة من جانب إسرائيل، وانصياعه لشروطها في ذهابه إلى معركة استعادة جنوب سوريا من يد المعارضة المسلحة.

والمجموعة الثانية من السائرين على درب القول بـ«انتصار الأسد»، تنظيمات وجماعات سياسية وشخصيات عربية وأجنبية، ما زالت أسيرة رؤاها الآيديولوجية والسياسية من مختلف الاتجاهات، منعها العمى الآيديولوجي والسياسي المتأصل من رؤية حقائق الصراع السوري وجرائم النظام وحلفائه، والمواقف الإقليمية والدولية العاجزة والمتساهلة، وما زالت ترى النظام تقدمياً ممانعاً وضد إسرائيل والإمبريالية، وغيرها من المعزوفات التي انكشفت أكاذيبها بصورة فاضحة.

ولعله من المفيد الختام بما نص عليه الدستور السوري، الذي عدله نظام الأسد في عام 2012، لرؤية التناقض بين محتواه وما صارت إليه الوقائع السورية الراهنة التي تكذب كل واحدة من فقراته، حيث يقول إن سوريا «دولة ديمقراطية ذات سيادة تامة، غير قابلة للتجزئة، ولا يجوز التنازل عن أي جزء من أراضيها»، والنظام «في الدولة نظام جمهوري. السيادة للشعب، لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها، وتقوم على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب»، وأن النظام السياسي، يقوم «على مبدأ التعددية السياسية»، و«تتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع»، وأن «الحرية حق مقدس، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية، وتحافظ على كرامتهم وأمنهم»... وصولاً إلى: «للمواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلمياً، والإضراب عن العمل، في إطار مبادئ الدستور»!

اقرأ المزيد
١٢ يوليو ٢٠١٨
يستمر مسلسل التحريض على السوريين

كتبت في مقالتي السابقة أن من يعتقد أن المؤامرات على تركيا ستتوقف بعد الانتخابات مخطئ جدا.

إن مشهد احتفالات الأتراك لم يكن سعيدا أبدا لأعداء تركيا، ولم تكن احتفال العرب والسوريين تحديدا في الوطن العربي والعالم بنتائج الانتخابات مرضيا أبدا.

لقد فرح السوريون لأن الرجل الوحيد الذي فتح لهم بلاده وعاملهم بإنسانية وكرامة وساوى بينهم وبين شعبه قد فاز، وأن فوزه يعني لهم الأمان، والعدل، والكرامة، والاستقرار، والحرية، والتعليم، والإنجاز لسنوات قادمة أخرى، ومن يرى متاعب السوريين في البلاد العربية وحتى الأوروبية يعرف تماما أسباب فرحهم وسعادتهم بنتائج الانتخابات.

وعندما ترى أطفال السوريين تقتلهم العقارب في الصحراء على الحدود الأردنية المغلقة في وجوههم بعد هربهم من القصف، ومعاناتهم في لبنان، ستفهم حجم المحبة والولاء والتقدير الذي يشعر به من يقيم في تركيا لحكومتها ورئيسها.

من الطبيعي جدا أن تستهدف المعارضة التركية السوريين في حملات التشويه وتستخدمهم كأداة في صراعها مع الحكومة وقد فعلت هذا من قبل في الانتخابات عندما استخدمتهم كأداة للحصول على الأصوات وأعلنت أن ترحيلهم سيكون الهدية التي يقدمونها للشعب التركي، وفعلت هذا في الانتخابات السابقة أيضا، ولا أتوقع أن الأمر سيتوقف قريبا.

ومن الطبيعي جدا أن يستهدف السوريين من قبل الدول العربية التي دعمت الانقلاب الفاشل في تركيا، وما زالت تدفع الأموال لإفشال حكومتها ورئيسها وإركاعها لاسترضاء حليفهم الأول الولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة مفاتيح التحكم والسيطرة إليها بعد أن فقدتها على يد الحكومة التركية ورئيس البلاد.

ولن يترك النظام السوري الذي أعلنت المعارضة أنها ستعيد العلاقات معه حال فوزها فرصة للتنغيص على السوريين في تركيا، والإساءة إليهم ،وتخويفهم، بالتزامن مع دعواته لهم ليعودوا إلى سوريا ليكمل معهم حكاية الذل والقهر والتعذيب والقتل.

لن تهنأ إسرائيل التي سارعت لدعم السوريين على حدودها لتلميع صورتها بأن تبقى صورة تركيا الإنسانية ناصعة في عين العرب والسوريين وضعفاء هذا العالم وهي التي تسعى مع حلفائها بخطى حثيثة للتطبيع وإذابة الحواجز والكراهية بينها وبين الشعوب العربية وتحسين صورتها في العالم.

ولن يسعد الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تسيطر على تركيا أن تقف من جديد وتعود كدولة قوية حرة مستقلة بعد أن كانت تسيطر عليها عبر حكومات هشة سابقة.

ندرك كسوريين جيدا أن قسما من الأتراك لا يرحب بوجودنا، وانهم يحملون صورة سيئة عنا وعن العرب جميعا.

 وندرك جيدا أننا لسنا ملائكة، وأن بيننا من جاء إلى تركيا لحفظ ممتلكاته وليس هربا من ويلات الحرب.

 ونعلم تماما أن هناك من رجال النظام هنا بيننا، وأن مهمتهم مراقبتنا وإثارة الفتنة والتخريب.

ونحن من يتمنى أن يتم ترحيل المخربين ومن لا يحترم قوانين وعادات الأتراك، بل ندعو الحكومة التركية لهذا لعلمنا أن هذا لصالح الأغلبية التي تريد العيش بسلام وأمان وحسب.

لا ينتمي السوريون لطبقة اجتماعية واحدة بالتأكيد، وهناك تفاوت كبير بيننا في أسلوب الحياة والثقافة والفكر، وبالتأكيد سيكون هذا موجودا بيننا وبين الأتراك.

 نحن ننتمي إلى طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة جدا، وهناك فوارق كبيرة بيننا كذلك في مستوى التدين، والوعي الاجتماعي، والسياسي، والديني، وحتى الحالة المادية.

وهذا طبيعي في كل بلد، وليس من الحكمة التعميم مطلقا، كما أنه من غير المعقول أن نصف الشعب التركي بصفة واحدة والاختلافات بينهم موجودة بقوة، وهو الطبيعي والعادي بالتأكيد.

لكننا ندرك جيدا أننا كأمة لم نضعف ولم ينل منا أعداءنا ويسيطروا على بلادنا وثرواتنا ليعمروا بها بلادهم إلا عندما تفرقنا وباتت تركيا وحيدة، وأندنوسيا وحيدة ، والباكستان وحيدة، وقسمت البلاد العربية إلى قطع غاية في الصغر يقود كل تلك البلاد عملاء للغرب وحسب، وأن الولايات المتحدة الأمريكية وصنيعتها إسرائيل بعد انتصارها على إنكلترا وقيادتها للعالم منفردة لن يهدأ لها بال عندما نتجمع من جديد ونعرف و نحب بعضنا وتنهض دولة من دولنا بقوة كما فعلت تركيا.

سيستمر استهداف السوريين لضرب السياحة في تركيا، وإظهار البلاد مضطربة عبر الفيديوهات التي تظهر تكسير محالهم وممتلكاتهم وضربهم.

وسيستمر تحريض الأتراك عليهم من جهة أخرى عبر وسائل إعلام يهمها أن تفعل هذ وإن كان يضر بمصالح بلدها لأن ما يهمها هو الكيد للحكومة وحسب.

وسيستمر تشويه سمعة تركيا عند العرب بكل وسيلة، كما حدث عندما قامت بلدية اسنيورت بإزالة اللافتات العربية التي لا تتبع القانون القائل بأن 70% من اللوحات يجب أن تكتب بلغة البلد فتلقفت الصحف ووسائل الإعلام العربية والغربية الخبر بقولها إن تركيا تحارب اللغة العربية، وبدأت التحليلات والتأويلات.

وسيستمر النظام السوري في إرسال رجاله والأموال لمنع السوريين من الشعور بالأمان والاستقرار وللانتقام من تركيا.

لكننا كسوريين لن ننسى يوما لتركيا وللشعب التركي ما قدموه لنا من أمان وحماية وكرامة وإنسانية.

 ونحن نعلم وندرك جيدا كم من الأيدي والأموال الخارجية ستدفع لتفرق بيننا من جديد لكنها لن تفعل لأننا أصبحنا نعرف جيدا من هم الأتراك، وحقيقة أننا حقا أمة واحدة، وقلب واحد، وتاريخ واحد، ومستقبل واحد أيضا.

 وأننا نحب وجودنا بينكم.

اقرأ المزيد
١٢ يوليو ٢٠١٨
"أن تصل متأخرًا".. عن وثيقة سورية

أعدّت، قبل أيام، شخصياتٌ سياسية وفكرية سورية، وثيقةً سياسية، تهدف إلى إطلاق حوار سوري جاد، لإنضاج ما وصفوه "المشروع الوطني السوري". وشدّدت الوثيقة على "ضرورة إعطاء أولوية مركزية للإطار الفكري/ السياسي الضروري لبناء قيادة وطنية، تستطيع استعادة ثورة الحرية كرهان مجتمعي، من دون التخلي عن واجبنا في التصدّي السياسي اليومي لما يواجه وطننا من أخطار خارجية معادية، وداخلية تنتمي إلى الثورة المضادة، وذلك عبر تمكين قوى التيار الديمقراطي لاحتلال مكانة حقيقية في سورية المقبلة، بحيث تكون له القدرة على تمثيل مصالح قطاعاتٍ وازنةٍ من الشعب، في ساحة السياسة العامة والحزبية".

يقول المثل: أن تصل متأخرًا خيرٌ من ألاّ تصل. فهل يصح هذا القول على الحالة السورية الراهنة، إذا ما اتخذنا من هذه الوثيقة والأفكار التي طرحتها مثالاً على الوصول المتأخر؟

بدأت إرهاصات الثورة المضادة باكرًا جدًا في عمر الحراك الشعبي السوري، وإذا كان الشعب السوري قد انقسم إلى فريقين، أحدهما تمسّك بخطاب المؤامرة منذ البداية، والآخر استنكر مقولة المؤامرة واستخفّ بها، فإن الوقائع أخذت تتكشّف مع تصعيد العنف الذي قوبل به الحراك السلمي، والتحول السريع نحو العسكرة، وصارت الصورة تُظهر أن هناك أطرافًا عديدة ضالعةً في الأزمة السورية التي لم تعد التصنيفات مجديةً بالنسبة إليها، هل هي حربٌ أم ثورةٌ أم مؤامرةٌ أم غيرها.

ومن المنصف للحقيقة أن يعترف من تنطّعوا للمسؤولية السياسية بأنهم لم يقدّموا أداء أو تجارب تشعر الشعب بالثقة، وبأن مصيره في درب الحرية مرتهنٌ لأيدٍ لا تجيد اللعب، وإرادات غير مستقلة. كانت الطعنة الأولى في صدر أحلام الشعب هي استدعاء التدخل الخارجي باكرًا، معتبرين أن أميركا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) مضمونان في اليد، وهما رهن الإشارة منهم، ولا ضير في استدعاء القوى الخارجية للتدخل بقوةٍ عسكريةٍ من أجل إسقاط النظام الذي كان واضحًا أنه لن يتوانَى عن استعمال القوة في حدّها الأقصى للدفاع عن كيانه، في مقابل الأداء السياسي والعسكري الذي أخذ يبشّر بأن الطرف الآخر الذي يدّعي تمثيله الشعب، والدفاع عنه وعن أهدافه، يسعى بزخم أيضًا في سبيل الاستئثار بالسلطة. راهنت المعارضة السياسية منذ أول هيئة، وهي المجلس الوطني، على سقوط النظام بسرعة، ولم تول اهتمامًا للكيفية التي سيسقط بها النظام، ومن هي الجهات المعوّل عليها، ولا البرنامج الذي تطرحه، فكان أن بدأت العسكرة تفرز فصائل متباينة ذات ولاءات مختلفة، وتمويلٍ متعدّد المصادر. وكان بالنسبة للمجلس الوطني، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بعده، أمرًا مقبولاً أن تشارك الفصائل الإسلامية، من المعتدلة حتى الجهادية المتطرّفة، في الحرب، بل وأن تبتلع الفصائل الأخرى، وأن تكون صانعة الألعاب الحربية في الميادين، كذلك أن يسيطر الإخوان المسلمون على القرار السياسي، وأن يتخذوا من التكتلات العلمانية أو الديمقراطية واجهةً لهم. وفي الواقع، لم يكن لتلك التكتلات ثقل وازن، إن كان لناحية القرارات، أو لناحية الميدان، فكلام الميدان وكلام البندقية كان هو القول الفصل، ومن يسيطر على الساحة في القتال يسيطر على القرار.

ما حدث في سورية في سنوات أزمتها التي طالت، ويبدو أنها ستطول، أن الخراب هو الذي عم، والشروخ في البنيان المجتمعي هي التي تحوّلت إلى صدوعٍ عميقة، يلزمها زمنٌ طويل لردمها. ما حصل أن الفتنة التي هي أشد فتكًا من القتل قد تجذّرت، وأن الثقة بين مكونات الشعب السوري انهارت، وأن إمكانية العيش المشترك صارت بحاجةٍ إلى أساساتٍ أخرى، وأن الحالة المدنية التي هي في الأساس كانت تحبو بعدما بدأت إرهاصاتها في العقد الأول من القرن الحالي، على الرغم من محاصرة النظام القمعي لها، قد تراجعت، وأن وضع المرأة قد تردّى كثيرًا، وأن العلمانية المرتجاة التي ربما هي أفضل الحلول لبناء دولةٍ حديثةٍ في بلد فائق التعدّدية مثل سورية قد صارت حلمًا مستحيلاً لبعضهم، وكابوسًا لآخرين.

أغفلت قوى المعارضة هذه أمرًا أساسيًا، أن تكون الشريحة المستهدفة في خطابهم من أجل تحفيز الوعي العام والوجدان الجمعي، وطرح القضايا والمشكلات التي يعاني منها الشعب، والأهداف التي يرمي إليها أي شعبٍ، يرنو نحو الحرية وصناعة المستقبل، ليست مقتصرةً على الجزء الذي كان في ضفة المناطق المحسوبة على الحراك، أو خارج سيطرة النظام. كان عليهم أن يخاطبوا كل الشعب، طالما أنهم كانوا يبدأون خطابهم بجملة: باسم الشعب السوري، فهل الشعب الموجود في مناطق النظام ليس سوريًا؟ وهل هذا الشعب ليس لديه مشكلات وهموم واهتمامات وطموح؟ وهل هو كتلة صماء صاحبة رؤية واحدة وموقف موحد؟ لم تلتفت تلك المعارضة إلى المشتركات وتبني عليها، ولم تعرف أن تكسب مزيدًا من المؤيدين لصالحها، ليس فقط في الداخل، بل في الخارج، وها هو المشهد يُظهر كم هي الأنظمة العربية والإقليمية والدولية تقف في وجه الشعب السوري، بل لا يخدم موقفها من المعارضات الأخرى التي اختلفت معها في بعض القضايا، أو كان لها رأي مغاير، لا يخدم أي ثورة، فقد اعتبرتها جميعها بأنها من توليفة النظام، أو تحت عباءته، أو في صفه.

لسنا في معرض الحسابات، علمًا بأنه يحق لكل فرد من الشعب السوري أن يحاسب كل الأطراف التي قامرت بمصيره من نظامٍ إلى معارضة، لكن استذكار الماضي واستحضار التجارب لفهمها ونقدها ضرورةٌ لا بد منها، على أمل أن يكون في الأفق إمكانية لعمل إنقاذي.

كل ما يُطرح إن كان مبنيًا على دراسةٍ نقديةٍ أمر إيجابي وضروري، ويجب أن يحصل من أجل تصميم برامج وخطط طويلة الأمد للمستقبل الذي يَعد بكم هائل من القضايا المهمة، وفائقة الحساسية، لكن الملحّ حاليًا هو النضوج السياسي، والمباشرة بوضع تصوراتٍ لحلول ممكنة، واعتماد الواقعية السياسية التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية على المشكلة السورية.

لقد أظهرت السنوات الدامية أن الاستثمار الحربي لم يحقق غير الدمار، وانتهاك حياة السوريين، ودفع المدنيون ثمنه الباهظ، وهذا هو الدعم الذي وعدت به الدول التي تدير حروبها وصراعاتها فوق أرضنا، وتدّعي صداقة الشعب وحمايته، ولم تقدّم الهيئات والمنظمات الدولية أي دعم للشعب السوري، ولم تستطع قراراتها الملزمة وغير الملزمة أن تخمد نيران الحرب، أو توقف شلالات الدم، أو تمنع المصير المهين والمذل والغاشم الذي يتلقف السوريين، ويهجّرهم من بيوتهم وأمنهم، ليصبحوا هائمين في العراء، تغلق الحدود في وجوههم، فأي مأساةٍ يمكن أن تكون أفظع؟

ما طرحته الوثيقة الموقعة من تلك الشخصيات السورية أفكار مهمة وضرورية، ولكن الأهم وقف نزيف الدماء ونزيف الشعب، والمهم أيضًا تحديد ثقل هذه الوثيقة ومدى قدرتها على أن يكون لها موطئ قدم راسخة في صنع القرار السوري. خرج أمر السوريين من بين أيديهم منذ فترة طويلة، وكل النيات والطروحات والبرامج لا يمكنها أن تغيّر شيئًا من الواقع، إذا لم تحظَ بدعم خارجي، من دون الإرتهان إلى جهة دون غيرها. الخطوة الواعدة يجب أن تكون منطلقةً من ثوابت، أهمها الحنكة السياسية من جهة، والمصلحة الوطنية قبل كل شيء من جهة أخرى.

اقرأ المزيد
١١ يوليو ٢٠١٨
صفقة العصر السورية

لماذا بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل «مهتم جداً بقمة ترمب – بوتين»؟ لأنه «يأمل أن يتوصلا إلى صفقة القرن الحقيقية»، صفقة لا علاقة لها بحل القضية الفلسطينية أو صفقة القرن المزعومة، وهي لا تهم إسرائيل.

وما هي صفقة القرن التي يحلم بها نتنياهو؟ أن يقايض ترمب الروس، فيقبل باحتلالهم شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، ويرفع العقوبات المفروضة عليهم، ويسمح لبوتين بالسيطرة على سوريا، وفي المقابل يتولى بوتين طرد الإيرانيين وأتباعهم من سوريا ويمنح نتنياهو انتصاراً تاريخياً.

هذا ما يقوله محرر الشؤون السياسية ناحوم برنياع في صحيفة «يديعوت أحرونوت». لكن، ورغم هذه التحولات الكبرى إقليمياً ودولياً، يقول متشككاً: «في إسرائيل يعتمدون على بوتين. وأنا لست واثقاً من أنهم يعتمدون على الرجل الصحيح. بطاقة إسرائيل الحقيقية في سوريا ربما هي الأسد. الآن هو بحاجة إلى المقاتلات الروسية والميليشيات التي تأتمر من إيران، لكن بعد أن يسيطر الأسد على سوريا كلها، ويصبح المنتصر الأكبر في الحرب الأهلية، سيرغب في أن يعود الحاكم الوحيد. فقد قام الإيراني بدوره، وعليه الرحيل، هكذا كان والده سيتصرف. الراحل حافظ الأسد هو العدو الوحيد الذي تشتاق إسرائيل إليه».

هذا رأي برنياع، لكن نزاع القرم وشرق أوكرانيا مسألة استراتيجية للولايات المتحدة، ومن المستبعد أن يتنازل عنهما ترمب فقط من أجل سوريا ما لم تكن هناك تفاهمات أخرى أهم، وإلا فلماذا يتنازل الأميركيون لموسكو عن القرم وشرق أوكرانيا وفوق هذا يكافئونها بسوريا؟ هذه التنازلات الأميركية مقابل استمالة موسكو ضد إيران تبدو «صفقة قرن» كريمة جداً لروسيا، ما لم نرَ ثمناً أفضل!

وطبيعة التزامات روسيا في سوريا أيضاً غير واضحة. رأينا تطوراً مهماً في الأيام الماضية عندما مُنع الإيرانيون، وميليشياتهم، من المشاركة في حرب محافظة درعا والجولان استجابة لاشتراطات إسرائيل. وحلّت الشرطة العسكرية الروسية محل الحرس الثوري الإيراني. هذا التعاون نادر من نوعه (الأميركي الإسرائيلي الروسي السوري بإقصاء إيران من الجنوب)، وماذا بعد؟ هل سيوافق الروس على المرحلة الثانية، بمقاتلة الإيرانيين و«حزب الله» اللبناني والميليشيات العراقية إن رفضوا مغادرة سوريا طوعاً؟ طبعاً، قبل ذلك علينا أن نسمعها من فم الأسد، أن يأمر الإيرانيين بالخروج.

الإسرائيليون يقولون إنه لا يريد، أو لا يستطيع. وسبق لواشنطن واختبرته، عرضت حلاً بإخراج كافة القوات الأجنبية من الأراضي السورية، بما فيها الأميركية والتركية والإيرانية، دمشق أيدت فكرة إخراج الأتراك والأميركيين فقط.

إذن، ما الذي يراه نتنياهو ولا نراه؟ ربما يرى أمامه فرصة نادرة، إنهاء نزاع الجولان مقابل دعم نظام الأسد ليعود حاكماً على كل سوريا.

صحيح أننا أمام وضع جديد تماماً، فسوريا اليوم غير سوريا ما قبل 2011. يمكن إعادة بناء البلاد مع بناء محاور سياسية تقوم على إخراج إيران من الشام وإضعافها في المنطقة، بما في ذلك في لبنان. لهذا يشكك الكاتب الإسرائيلي في إمكانية الحل، ويقول إنهم يشتاقون إلى الأسد الأب لأنه قادر على اللعب على كل الحبال. فهو من مهّد لنقل وتوطين المقاتلين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان، ثم أدخل قواته السورية لبنان بدعوى وقف الاقتتال اللبناني اللبناني الفلسطيني، ولاحقاً ساهم في التخلص من المقاتلين الفلسطينيين بعد خلافه معهم، وبعد إصرار إسرائيل على طرد منظمة التحرير ورئيسها عرفات. الأسد الأب أبعد الفلسطينيين وأدخل الإيرانيين إلى لبنان، الذي كان تحت حمايته، ثم سيطر على تنظيمهم الوليد، «حزب الله»، واستخدمهم لحفظ التوازن مع إسرائيل.

نتنياهو يعتقد أنه صار بالإمكان الآن صيد العديد من العصافير، الوجود الإيراني، ولبنان، والجولان، وإنهاء حالة الحرب بصفقة عصر حقيقية.

اقرأ المزيد
١١ يوليو ٢٠١٨
ساعة بشار الأسد

من بين أطرف وأظرف وأعمق التعليقات التي راجت على مواقع الإعلام الاجتماعي، بعد إعلان إسرائيل استرداد ساعة جاسوسها الشهير إيلي كوهين الذي أُعدم في دمشق عام 1965 قول ناشطة سورية على موقع "تويتر": "طيب بدل الانتظار 53 سنة كمان، لماذا لا تستعيد (إسرائيل) بشار الأسد شخصياً؟".

وبصرف النظر هنا عن مقدار المبالغة في تشبيه الأسد بكوهين، فإن آخر ما يمكن تصديقه، في قصة الساعة هذه، أن تكون إسرائيل قد اشترتها من بائع مجهول على الإنترنت، كما روج كثيرون، ويظل الاحتمال الأرجح، في تحليل كاتب هذه السطور، أن عرضها للبيع على موقع تسوّق إلكتروني، كان مجرد جزء من خطة تمويه نفذها جهاز "الموساد" الإسرائيلي، للتغطية على باعة حقيقيين آخرين، قبل أن يعلن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، نجاح ما وصفها بالعملية الخاصة الشجاعة التي أدت إلى استرداد أثر تاريخي لواحد ممن تعتبرهم الدولة اليهودية أبطالها الأسطوريين.

وقد كان من شأن هذا السيناريو أن أدى فعلاً إلى انهماك واسع النطاق في تكذيب رواية البطولة الإسرائيلية، اعتماداَ على إعلان البيع الافتراضي المنشور سابقاً، بينما غابت تقريباً التساؤلات عن دور الجهة التي تحتجز رفات صاحب الساعة، ومعها كل مقتنياته، منذ إعدامه قبل ثلاثة وخمسين عاماً، أي نظام بشار الأسد، الذي التزم من جهته الصمت، ولم يحاول تقديم رواية مضادة، تبرّئه من شبهة مساعدة "الموساد" في إنجاز مهمته.

لكن، لماذا الانشغال بقصةٍ أمنيةٍ قد تبدو تافهة، إذا ما قورنت بأعاصير سياسية تعصف ببلاد العرب، من القدس إلى صنعاء، مروراً بدمشق وبغداد، وصولاً إلى طرابلس، وسواها من العواصم والمدن التي صارت كلها زَبَدَاً، وفق تعبير محمود درويش، عن ماضٍ ما عاد يستدعي سوى الحسرة على أنه لم يَدُم أكثر، كلما نظرنا إليه بمعايير هاوية سحيقة، نهوي الآن نحو قاعها؟

في محاولة تقصّي الجواب، قد يكون مفيداً الاستهلال بخرافةٍ توراتيةٍ تقول إن اليهودي الذي يقتله أعداؤه بعيداً عن أرض الميعاد، يبدأ الحفر بمجرد دفنه، كي يزحف من قبره إليها، وهذا يعني أن إسرائيل، حين تسعى إلى استعادة جثمان كوهين، أو أيٍّ من جنودها المقتولين في بلدان الجوار العربي، فلتريحه من شقاء الزحف تحت الأرض.

ليست ساعة اليد الصدئة، والحال هذه، إلا مجرد رمز أو إشارة إلى أن متغيراً كبيراً قد حدث على الظرف السياسي الذي حال دون استعادة رفات صاحبها، طوال نصف قرن مضى، وهو متغير يمكن الاستدلال على أهم ملامحه، إن دقّقنا في التوقيت، لنرى كيف جاء الكشف عن "عملية الموساد الخاصة والشجاعة"، متزامناً مع حملة عسكرية، غير خاصة، وغير شجاعة، نفذها جيش بشار الأسد، بمشاركة مليشيات مذهبية موالية لإيران، وغطاء جوي روسي، لاستعادة محافظة درعا من سيطرة المعارضة المسلحة، وسط ما اتضح أنه ضوء أخضر إسرائيلي، مشفوع بتراجع رسمي عربي وغربي، لا سيما من رعاة ما تسمّى "صفقة القرن"، عن الدعوات إلى إسقاط النظام الطائفي الدموي الذي دمر سورية، وقتل وشرد نصف شعبها.

إنها ساعة تعويم بشار الأسد، إذن، هذه التي كان بعض عربونها المدفوع مقدّماً إعادة ساعة إيلي كوهين، وقد يظن مؤيدوه، إزاء معطياتها، أنه انتصر ونجا، كما قد يظن معارضوه أنهم هُزموا وانتهوا، لكن القوى الكبرى التي تتوافق الآن على الحاجة إليه بيدقاً في اللعبة الداخلية والإقليمية، لن تستطيع أن تتحمل بقاءه حياً وعلى سدة الحكم، بكل ما يحمل على عاتقه من أطنان الدم. أما حلفاؤه الروس والإيرانيون، فلن يجدوا مفرّاً، عندما تحين ساعته، وفق التوقيت الأميركي الإسرائيلي، من أن يتواطأوا مع فكرة التخلص منه، ليتجنبوا احتمال اقتيادهم معه يوماً إلى المحاكم الدولية؟
ومن يعش ير.

اقرأ المزيد
١١ يوليو ٢٠١٨
إخراج إيران من سوريا... بلا تبسيط

أثارت وتثير الكثير من النقاش، القمة المرتقبة في 16 يوليو (تموز) في هلسنكي الفنلندية بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين.

فلا العلاقات الروسية - الأميركية في أحسن أحوالها منذ طرح مسألة تدخل الكرملين في الانتخابات الأميركية عبر حرب تدخلية إلكترونية لصالح ترمب، ولا تطويرها وتزخيمها مسألة بسيطة في ظل التردي الطارئ على علاقات واشنطن بحلفائها الأوروبيين... فمن غير المفهوم لدى «الاستابلشمنت» الأميركي اندفاع الرئيس نحو علاقات دافئة من روسيا بالتوازي مع حربه التجارية مع أوروبا وتصريحاته الراديكالية المستخفة بمرتكزات الأمن الأوروبي الأميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما حلف الناتو، والتمسك بوحدة أوروبا!

ثمة انطباع في واشنطن الكلاسيكية، عابر للانقسام الحزبي الديمقراطي الجمهوري، أن ترمب لا يدرك في الواقع الرهانات الحقيقية لفلاديمير بوتين.

ما أسلفت الإشارة إليه يغشي بالتالي، جل ما يصدر عن القمة وحولها، لا سيما ما يعني منطقتنا.

فحين يؤكد مستشار ترمب للأمن القومي جون بولتون في لقاء تلفزيوني إلى أن الرئيس ترمب سيبحث مع بوتين التعاون لإخراج إيران من سوريا، مؤكداً ما كشفته صحيفة «وول ستريت جورنال» في هذا الشأن، تصير تصريحات بولتون دليلاً إضافياً على خطأ سياسات إدارة ترمب.

دانييل شابيرو مثلاً، السفير الأميركي الأسبق لدى إسرائيل والموظف الرفيع السابق في مجلس الأمن القومي في إدارة باراك أوباما، كتب في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية مطالعة مطولة مضادة لفكرة أن يطلب ترمب من بوتين التعاون لإخراج إيران من سوريا. يرى شابيرو، وهو بالمناسبة من أعلى الأصوات دفاعاً عن الاتفاق النووي مع إيران، أن رهانات ترمب على القمة لن تخدم في المحصلة إلا المصالح الروسية. ويحدد شابيرو هذه المصالح بأربع؛ هي: أولاً، تخفيف العقوبات على روسيا المفروضة ما بعد العدوان الروسي على أوكرانيا. ثانياً، استدراج ترمب إلى تناغم حول فكرة إضعاف أوروبا الموحدة، ويستشهد بتصريحات لترمب مؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومشجعة لأوروبيين آخرين على الخروج أيضاً. ثالثاً، يراهن بوتين على استخدام قمته مع ترمب لتبييض صفحة موسكو فيما خص الاتهامات لها بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية. رابعاً، القبول ببقاء بشار الأسد رئيساً لسوريا. ثم يتوسع شابيرو في النقطة الأخيرة لتأكيد أن الرهان عليها لإخراج إيران من سوريا مجرد وهم، أولاً بسبب تكلفتها وثانياً لاعتمادها على «كلمة شرف من بوتين» وهو مما لا تبنى عليه استراتيجيات.

افتراض محق لو كان صحيحاً. فشابيرو لا يقدم لنا دليلاً على أن ثمن التعاون لإخراج إيران من سوريا هو كل ما حذر منه. كما أن تقليصه لضوابط الاتفاق إلى ضابط واحد هو «كلمة شرف من بوتين» لا يأخذ بعين الاعتبار العامل الإسرائيلي المقرر في سوريا حول مصير وحدود الدور الإيراني. فروسيا تعمل بالفعل على احتواء النفوذ الإيراني في جنوب سوريا قبل قمة بوتين - ترمب وذلك بفعل التفاهمات الإسرائيلية - الروسية وليس الروسية - الأميركية، ما يعني أن ترمب لن يدفع أثماناً لما تقوم به روسيا أصلاً مجاناً حتى الآن، أو تقوم به بفعل مقاصة حسابات استراتيجية روسية إسرائيلية أو حتى حسابات روسية خالصة تريد تخفيض حصة شركائها في الكعكة السورية وعلى رأسهم النظام الإيراني.

في المقابل، تعاونت روسيا مع سياسة ترمب المضادة لإيران حين تفاهمت مع منظمة «أوبك» الأسبوع الفائت، بقيادة السعودية، على حماية المعروض في السوق النفطية وزيادته في الأشهر المقبلة لضبط أسعار النفط حين تبدأ في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل العقوبات النفطية على إيران، وإخراج النفط الإيراني من الأسواق.

سيحرم هذا الإجراء إيران من الدولارات التي باتت تبحث عنها في كل زاوية من زوايا أنشطتها كدولة، إلى حد دفع برئيسها حسن روحاني لدعوة المسؤولين الإيرانيين للسفر على الدرجة السياحية وتقليص عدد الوفود الإيرانية إلى الخارج!!

من الواضح أن التعاون الروسي مع واشنطن أغضب الإيرانيين، إلى حد وصف أحد المسؤولين في طهران له بالطعنة لإيران. كل ذلك حدث قبل القمة المنتظرة.

بولتون قال كلاماً يتسم بأعلى درجات الوضوح الاستراتيجي منذ عقود، وهو أن إيران هي المشكلة وليس مصير بشار الأسد، بمعنى أن المواجهة تكون مع إيران وسياساتها وليس مع أعراض هذه السياسات. فبشار الأسد انتهى وإن بقي في قصر المهاجرين، وهو مجرد موظف صغير في الماكينة الروسية، كما أظهرت يوماً صور استدعائه إلى قاعدة حميميم للقاء بوتين! إيران في مواجهة ضغط سياسي وعسكري ودبلوماسي إسرائيلي في سوريا لا تقوى روسيا على تجاهله، وفي مواجهة حرب اقتصادية تشنها واشنطن وروسيا لا تستطيع إلا أن تكون جزءاً منها. إنه زواج عوامل عدة في لحظة قاتلة، لا سيما إذا ما أضيف إليها غليان الداخل الإيراني الذي يذكر بخريف الشاه.

أما تبسيط المواجهة مع إيران وجعلها طلباً أميركياً من بوتين فهو تجاهل للحقائق ونكد سياسي ليس إلا.

اقرأ المزيد
١١ يوليو ٢٠١٨
حراك "الجولاني" لإنقاذ "الهيئة" شعبياً .. فهل ينجح ..!؟

وصلت "هيئة تحرير الشام" التي يقودها "أبو محمد الجولاني" إلى مرحلة مفصلية في تاريخ وجودها بعد سلسلة الانشقاقات التي عصفت بها، وتراجع حاضنتها الشعبية بشكل كبير جراء تكشف الغطاء عن سياستها وما مارسته من سياسات عسكرية ومدنية وشعبوية في المحرر، ليبدأ "الجولاني" من جديد العمل على كسب دماء جديدة قد تكون ضرورة للاستمرار في مشروعه ولو بوجه وشكل آخر.

طيلة مسيرة "الجولاني" عرف عنه المراوغة والتفلت من العهود والمواثيق والتقلب بحسب المصالح، وصل به الحد أن واجه كل من وجد فيه خطراً على نفوذه وكيانه الذي تقلب فيه من "جبهة النصرة" وصولاً لـ "هيئة تحرير الشام"، مع الاستمرار في ذات السياسيات وتصدير وجوه شرعية وعسكرية أوغلت في دماء عناصر باقي الفصائل بحسب مراقبين.

اجتماعات عديدة قام بها "الجولاني" في مناطق عدة في ريف إدلب، آخرها الاجتماع مع فعاليات مدينة إدلب التي لم تكن تعلم أثناء دعوتها أن الجولاني من سيقابلها وإلا لرفضت الحضور بحسب ما قالت مصادر عدة، كونهم يرون في مجالسته والإصغاء لوعوده التي قطعها سابقاً ولم ينفذها إعطاءه مزيد من الشرعية للاستمرار.

هذه الاجتماعات تأني في مرحلة مفصلية تضع "الجولاني" والهيئة أمام تحد كبير إما في المواجهة دولياً وهو الفاقد لقوة كبيرة عسكرياً بعد الانشقاقات والخاسر لحاضنة شعبية كبيرة ستنقلب ضده في أي مواجهة وبالتالي لابد من اتباع أسلوب جديد يضمن له الاستمرار والتمكين في المنطقة وفق تفاهمات عقدها مؤخراً وسعي لتغيير سياسيات أدرك أنها غير نافعة، أو أنها حققت أهداف مرحلية معينية.

ولعل ممارسات الهيئة منذ أول تشكيل لها "جبهة النصرة" من تقويض الفصائل العسكرية وإنهاء قوة أكثر من 30 فصيلاً كانت تشكل رقماً صعباً للنظام في مرحلة ما من عمر الثورة، ثم التسلط المدني وسوء الإدارة التي جعلت بيد العسكر، وسلسلة الممارسات التعسفية بحق الحاضنة الشعبية من عمليات اعتقال وتصفية ومحاربة الخصوم وتسليط يد شخصيات عسكرية وشرعية على رقاب المدنيين، وتسليط الحسبة "سواعد الخير"، ثم الانسحابات الأخيرة التي قامت بها وسلسلة الاتفاقيات التي عقدتها مع من تعتبرهم أعداءً سابقين، والتقلب بأوجه ورايات عدة، أوصلها لما هي عليه اليوم من التراجع على كل الأصعدة.

وبالعودة للاجتماعات التي قام بها "الجولاني" ومحاولة استقطاب شخصيات جديدة مؤثرة وفاعلية لكسب "دماء جديد" إلى صفه في هذه المرحلة، في وقت تتصاعد حدة الرفض الشعبية للممارسات الحاصلة ولتقبل الهيئة بأي شكل جديد، بات الحديث عن اقتراب حل الهيئة هو الخيار المطروح والمقبول شعبياً وسوى ذلك بنظر الجميع غير مجدي ولن يكون إلا باب جديد للتسلط والاستمرار في مشروع الهيئة الغير واضح .... فهل ينجح الجولاني في مهامه الجديدة ...!؟

اقرأ المزيد
١٠ يوليو ٢٠١٨
لبنان وإعادة إعمار «سورية الأسد»

ثمة صلافة لبنانية سافرة في العلاقة مع سورية والسوريين. ضيق يصل إلى حد الاختناق باللاجئين السوريين، في مقابل شهية بدأت تكشف عن وجهها حيال ما توفره مقولة «إعادة إعمار سورية» من احتمالات استثمارية. مطالبة بإلقاء اللاجئين السوريين خلف الحدود، ومطالبة موازية بإنشاء «منطقة تجارة حرة» على الحدود لمساعدة رجال الأعمال اللبنانيين الطامحين في التوجه إلى دمشق للمفاوضة على عقود «إعادة الإعمار»!

والحال أن المطالبين بإلقاء اللاجئين خلف الحدود هم أنفسهم تقريباً من تفتحت شهيتهم على الاستثمار في «سورية الأسد». الشرائح الصاعدة من «رجال أعمال» نظام الفساد اللبناني، ممن قضموا الشواطئ اللبنانية، وهدموا المباني التراثية في بيروت، وأنشأوا شركات استفادت من علاقات زبائنية مع رجال السلطة، هم أنفسهم الطامحون إلى حصة في «إعادة إعمار سورية»، وهؤلاء أيضاً من يملكون أو يمولون وسائل إعلام الخطاب العنصري حيال اللاجئين.

مصارف لبنانية كثيرة بدأت تبحث عن «شركاء سوريين» لاستئناف نشاطها في تمويل مشاريع «إعادة إعمار سورية». شركات إنشاءات وفنادق وحتى مدارس، بدأ مدراؤها بزيارات إلى دمشق. «إعادة إعمار سورية ستكون مخرجاً لحال الركود الكبير في بيئة رجال الأعمال اللبنانيين». هذه عبارة يرددها معظم من نلتقيهم من هؤلاء في بيروت! ومن يعرف من هم «رجال أعمال الجمهورية القوية» ستحضره من دون شك مفارقة الفصام الأخلاقي الذي تمثله الشهية الاستثمارية لفاسدي الاقتصاد اللبناني، في مقابل فائض المشاعر العنصرية حيال أهل سورية، والمتمثلة في الدعوة إلى إلقاء اللاجئين خلف الحدود.

قد تكون المطالبة بأن ينسجم اللبنانيون مع خطابهم حيال سورية والسوريين غير منطقية وغير واقعية، ولكن اعتماد خطاب الفصام على نحو سافر مستفز أيضاً. فاليوم كل الأنظار شاخصة إلى «إعادة إعمار سورية». الانتشار اللبناني كف عن أن يكون رافداً للاقتصاد، والسياحة، في ظل وضع حزب الله يده على البلد، صارت مقتصرة على المصطافين اللبنانيين. حقول النفط والغاز العتيدة مشاريع مؤجلة، وهي أصلاً خارج طموحات من هم من غير أهل السلطة بالمعنى المباشر والعائلي للكلمة. إذاً «إعادة إعمار سورية» هو الوجهة الوحيدة، ولهذه الوجهة شروطها التي تتطلب صياغة علاقة مزدوجة مع أهل السلطة في لبنان وأهل السلطة في سورية، وما بينهما من خطوطٍ لعلاقات بين «العائلات التجارية» كمخلوف وباسيل وجمعة وعرب، وبين ما يربط هذه العائلات من علاقات مصاهرة وخؤولة وعمومة، وهي علاقات تصحبنا دائماً إلى رأس السلطة في كلا البلدين.

السلطة في بلادنا هي الفساد قبل أن تكون أي شيء آخر. الحروب تتوج بفسادٍ، والانتخابات أيضاً هي صورة عن شهية الفاسدين. التسويات تُعقد مدفوعة بحماسة الفاسدين إلى حصة في غلة الحروب. ومن بين ما أفسدناه نحن أهل هذه والبلاد وحكامها، هو حقيقة أن العنصرية البغيضة التي لطالما انبثقت من وجدان قومي أو وطني تطهري وجرائمي، أضيف إليها في حالتنا مزاج فاسد ومراوغ. فالصفقة تعقب الجريمة، وفي أحيانٍ كثيرة الصفقة تُحرك الجريمة.

نمارس عنصرية بحق اللاجئين ونعقد صفقات للاتجار بحقوقهم. نسرق الهبات المُرسلة إليهم ونطالب بإرسالهم إلى جحيم الحرب في بلادهم. والجديد أننا اليوم قد سبقناهم إلى بلادهم بعد أن أقمنا منطقة تجارة حرة على الحدود التي سيعبرونها مرغمين. وها نحن ننتظر قدومهم لنعيد «إعمار بلادهم» على نحو ما أعدنا إعمار بلدنا. ننتظرهم بالشهية ذاتها التي انتظرنا فيها «عودة المهجرين» في بلادنا! هل تذكرون «عودة المهجرين» في لبنان؟ هل تذكرون «وادي الذهب»؟ لقد كانت عائدات الفساد في ذلك المشروع نواة لرأسمال تراكمت فوقه عائدات التربع على السلطة لثلاثة عقود من الزمن. وها هم أصحابه ذاهبون إلى سورية لـ «إعادة الإعمار» هناك، وينتظرهم فيها ضباط الاستخبارات السورية البدلاء، ذاك أن الطاقم القديم من هؤلاء الضباط ممن رعوا «إعادة إعمار لبنان» قد تمت تصفيته كله تقريباً.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان