اعترافاً بالهزيمة في سورية .. وانكسار النظام
هذه المرة، لا أكتب مقال رأي سياسي، بل أبوح بحجم الهزيمة المرّة التي تعتصر صدورنا، ونحن نكشف الغطاء عن آخر مراحل الخيانة لثورة حرية وكرامة، شعارها الأول: "سلمية، سلمية". ثورة تنازع على طعنها الأصدقاء والأعداء، ووفّر لهم ذلك من ادّعوا حمايتها، من دول، وأدوات هذه الدول من قادة فصائل مسلحة مشبوهة، نبتت على دم الناس، واقتاتت من أجسادهم، ومن نخبة معارضين سياسيين أخذوا الثورة على محمل الانتقام من النظام، لاستلام السلطة منه، بكل ما فيها وعليها، ليكونوا بديلا مشوها عنه، كما حدث في مناطق نفوذهم، وقدّموا سورية كلها قرباناً لهذا الانتقام، وليس التغيير الذي تقوم من أجله الثورات، عندما يتحول النظام الحاكم إلى ذهنيةٍ عاجزةٍ عن أداء دورها المفترض في الإصلاح، فأبعدوا النضال السياسي، ليتقدم الصراع المسلح، ودافعوا عنه، بل وتبنوا كل انحرافاته المتطرّفة، من الفصائل المؤدلجة إلى جبهة النصرة وحتى "داعش"، (راجعوا تصريحات مسؤولين تولوا مناصب في المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات السورية) المشكوك بها بدايةً، وها هي النهاية تؤكد ضلوعهم الكامل بجريمة خطف الثورة، بل نحرها على أبواب دول التمويل لقتل الثورة في مهدها، وفداء لفكرة الانتقام من النظام.
لا تنفع البكائيات اليوم، على الرغم من دموعي التي تحجب عني رؤية شاشة "اللابتوب". هزمتنا الخيانات. والهزيمة هنا ليست عودة المدن والمناطق إلى حكم نظام الأسد، فالثورة لم تبدأ في مساحاتٍ محرّرة من حكمه، بل انطلقت في أكثر مناطق نفوذه، واستقراره، ووجوده العسكري والأمني، وحيث أكثر بنيته التنظيمية من مسؤولين هم من أبناء محافظة درعا، لعلي كنت واحدة منهم، رئيسة تحرير لإحدى صحيفتين فقط تملكهما الدولة، أي بنسبة خمسين بالمئة من إعلام النظام المكتوب، تقوده امرأة قيد نفوسها درعا، على الرغم من قناعاتي بأن سورية، بكل تفاصيلها ومدنها وقراها، هي مرجعيتي، وأقف على المسافة نفسها منها عند أداء واجبي، وأن العمل الإعلامي لم يكن يوما يحدّه منصب، أو ينتزعه منك قرارٌ أمني كما حدث معي، مرتين أولهما إثر تحميلي عبر لقاء مع قناة الجزيرة قوات الأمن مسؤولية قتل المتظاهرين في درعا (8 أبريل/ نيسان 2011)، وثانيهما عندما حاول "الائتلاف" انتزاع حقي بالتعبير عن رأيي في أدائه السيئ، طالباً محاكمتي على طريقة الأجهزة الأمنية السورية. نعم، فالهزيمة الفعلية التي منينا بها اليوم أننا، نحن المدنيين، بين حدّي منشار، يتنازع تمثيلنا نظام مستبد ظالم من جهة، ومقابله تاجر أو متسلق مرتهن لدولةٍ ما من جهة ثانية، وكلاهما لا يحمل الهدف النبيل لمفهوم الثورة والتغيير.
"هل انهزمت الثورة؟" ربما يكون هذا عنوان سؤال عريض لبسطاء كثيرين اكتووا بنارها، مؤيدين لها كانوا أو معارضين، لكن في الحقيقة يجب أن يكون السؤال: هل كان أمام الثورة طريق للانتصار، واختارت هي الذهاب في طريق الهزيمة؟ أو هل الثورة المهزومة تلك هي الثورة نفسها التي انطلقت من درعا تهلل للحرية، وآمنا بها انتصاراً للحق؟
هذه أسئلة مؤلمة، لكنها جوهر البحث الذي نستخلص منه لماذا نحن هنا، على أبواب درعا نقفل ملف الفصائل المسلحة؟ ونفتح من جديد أبواب مؤسساتنا للنظام العائد إليها، وهو أكثر انكساراً منَا (نحن مجتمع الثورة السلمية). ولا أتحدث عن قادة وتنظيمات وكيانات وروابط (من رابطة)، وما هو مصير شعاراتنا في الحرية والكرامة وحقوق الإنسان؟
نعم، كان أمام الثورة فرصة لاختيار طريق آخر غير طريق الارتهان الذي مارسته الكيانات المحسوبة عليها، من مجلس وطني إلى فصائل مسلحة إلى ائتلاف إلى هيئات تفاوض، وما تفرّع "عنهم" من منظماتٍ تحت مسمى حكومة مؤقتة أو مجالس محلية، أو رابطات، فهذه جميعاً حتى اليوم لم تملك مشروعا وطنياً تدور في فلكه وتدافع عنه، حيث كل كيان أو فصيل أو منظمة تدافع عن مصالح مموليها، أو خلافتها أو دولتها، تحت مسمّى العمل الوطني، وتعطل على بعضها بعضاً فرصة الولوج إلى أي حلٍّ سياسي، ما لم يفصّل على مقاس الدولة التي ترعاها، وهذا ما حدث تباعاً في التشكيلات السياسية والعسكرية، وحتى المجتمعية. سيقول المدافعون: ما كنا نستطيع غير ذلك، ليبرّروا ارتهانهم، وأجندتهم الخارجية التي لا يمكن أن تخدم أجندة وطنية. وهذا ما ينطبق على ما قاله أحمد طعمة، عندما برّر قبوله رئاسة وفد "أستانة"، وهو غير العسكري، والذي "طرد" من هذه الفصائل من على معابرها في سورية، ومنع من دخولها، حين كان يرأس حكومة الائتلاف المؤقتة، في إعلانٍ من هذه الفصائل علناً انقلابها المسلح على أي كيان سياسي، وبرّر قبوله "إذا لم يقبل بالمنصب الجديد فسيكون مصيره الإهمال والجلوس في بيته". ما يعني أننا أمام حالة بيع قضيةٍ مقابل منصب، وهذا ما ينطبق على المعطلين لاتفاق الجنوب، على الرغم مما يشوبه، أنهم لم يجدوا في إتمامه "غنيمتهم المنشودة"، فقرّروا أن يموت المدنيون تحت القصف، حتى يستدرك الروسي المحتل خطأه، ويعيد توزيع الغنائم.
بصراحة، نعم انهزمت ثورة القادة المسلحين المأجورين والأتباع، وانكشفت ارتهانات الكيانات، وضحالتهم الوطنية، لكن تلك الثورة التي تحدت النظام في عقر داره، وبين أجهزته الأمنية، لا تزال ترعب النظام، كما ترعب المعارضة المأجورة، ولا تزال شراراتها قابلةً للاشتعال، فحيث يستطيع مدنيٌّ أن يرفع صوته بوجه الاحتلال الروسي، ويطلب منه ما عجزت بنادق الفصائل وأسلحته عن طلبه، يكمن انتصار ثورة الحرية التي تمضي قدماً، ويظن (وبعض الظن إثم) النظام والمعارضة أنهما أخمداها، بفعل الحرب والقتل والتدمير والتشريد، بينما هي تتمدّد أكثر واكثر، وتطبع سورية الجديدة بملامحها، رغماً عنهم جميعاً، فهذه الثورة التي بدأت سلميةً لا تنتهي بالخيانات العسكرية، بل تستكمل طريقها عبر الصراع السياسي الذي يمكن أن نستعيده حراً مع لحظة إنهاء الصراع المسلح الذي لم تسع إليه الثورة بدايةً، ولا يمكنه أن يكتب بتخاذله النهاية، وانتصار سلاح روسيا لا يمكنه أن يمحي هزيمتها الأخلاقية والسياسية عبر الأجيال القادمة التي لم تلتفت الكيانات المعارضة إلى أهميتها، كحاضنة للثورة، ولم تستشعر أي مسؤولية تجاهها، لتكتب لها وثيقةً تعترف فيها بما صنعته لهزيمة وتعطيل الحريات في كل مناطق نفوذها (حتى في دوائرها السياسية وهيئاتها التفاوضية) في مقابل السلطة والمال.
سيعود النظام ليس فقط إلى درعا، لكنه سيعود حاملاً انكساره أكثر مما تحمله المعارضة من هزيمة، حيث يعود متخلياً عن سيادته الوطنية لروسيا، وحامياً حدود دولةٍ تحتل أرضه، وتتبجح بحمايته، ما يجعل هذا أكثر أنواع السقوط إيلاماً في نظر حاضنته الشعبية الوطنية التي رفضت تصريحات رامي مخلوف بداية الثورة، واستهجنتها، "أن أمن إسرائيل من أمن النظام". وقبل أن يكون سقوطه مدوياً في نفوسنا، نحن الذين ما زلنا نؤمن بقضيتنا فلسطين العربية، وبالجولان أرضاً سوريةً لا تنازل ولا تفريط فيها وبأهلها، شاء النظام أم أبى، هو ومن يتوافق معه.