في الوقت الذي تحاول فيه موسكو كسب سباق الوقت لتحقيق اتفاق سلام «مناسب» في سوريا، نفذت قوات الأسد 93 غارة على ريف إدلب، بينها طائرات هليكوبتر ترمي القنابل المتفجرة على الأحياء المدنية. وقام حزب الله اللبناني بقصف الغوطة، وهي من ضواحي دمشق، حيث يحاصر أربعمائة ألف شخص.
كيف يحدث هذا كله والمتفاوضون يناقشون مسودة سلام؟ ولماذا يظن الروس والإيرانيون، والدول الداعمة لهذا الخط، أن المتفاوضين عن المعارضة السورية يتجرأون على القبول بأي صيغة حل والرسالة التي ترسل إلى الشعب السوري هي القتال والتدمير والتشريد؟
قد يرى مفاوضو سوتشي أن التصعيد العسكري جزء من وسائل الضغط على المعارضة لإجبارها على القبول بالاتفاق، وهذا ما يحدث عادة في الحروب! لكن ليس صحيحاً في الحالة السورية؛ أولاً، القتال لن يحسم الآن مناطق النفوذ. وثانياً، لا يستطيع المفاوضون التوقيع دون موافقات محلية، ودون دعم من الدول الإقليمية والأخرى الكبرى الموالية. وكل ما يحدث من قصف للمدن والبلدات السورية هو إفساد لمفاوضات سوتشي، وليس العكس.
والأسوأ من تكثيف العمليات العسكرية هو ما تسرب من معلومات عن مسودة المفاوضات. جاءت مخيبة للآمال، حيث لم تتضمن أي تبديل يمكن أن يقنع السوريين والعالم بجدية السلام في سوتشي. المعروض على المعارضة لا يزيد عن كونه فرض الوضع الحالي كما هو. يملي واقعاً يبقي على النظام السياسي، وكيان الحكومة، ما يجعله مجرد اتفاق استسلام. وسيقال إنها بالفعل وثيقة فرض الواقع الحالي، وهنا يمكن أن نقول إن إكراه السوريين على القبول بها سيؤدي إلى استمرار القتال سنين أخرى، وسيفقد النظام السوري كل ما حارب من أجله الروس والإيرانيون وحققوه له من انتصارات في السنوات الثلاث الماضية.
لكن حتى مع اختلافنا مع الروس في التفاصيل السورية لا يمكننا تجاهل أهمية مفاوضات سوتشي، وأهمية فرصة السلام التي يمكن تحققها لو طرحت بصيغة معقولة. فالمصلحة السورية، لكل السوريين، نهاية الحرب، وتلبية المطالب المعقولة والعادلة، التي تلبي توقعات المعارضة في المشاركة في المؤسسات السيادية العليا، وتحقيق سلامة المنطقة بإخراج كل الميليشيات الإيرانية وغيرها، وتأمين سيادة واستقلال سوريا.
فشل سوتشي يعني فشل الروس، وبسببه ستتسع دائرة النزاع أكبر مما نرى الآن. وهي قد ازدادت تعقيداً مع دخول الأتراك في الحرب وانقسام المواقف حول دخولهم الأراضي السورية، وما رافقه من خلاف مع الولايات المتحدة التي أصبحت تنشط عسكرياً في حرب سوريا، مثل روسيا وإيران.
نحن نعرف أن الروس يملكون أوراقاً مهمة، وهي قدرتهم في الضغط على النظام في دمشق وعلى إيران، التي تمكنهم من فرض حل معقول على الطاولة أفضل مما هو معروض الآن.
ونخشى أن كل الدلائل تقول بالفشل، بسبب إصرار حلفاء دمشق على فرض اتفاق استسلام وليس سلام. بعدها ستحمل الوفود حقائبها وتسافر إلى فيينا، لتبدأ من جديد رحلة سلام مختلف، قد لا يكون حظه أفضل من حظوظ مؤتمرات سوتشي وجنيف السابقة.
تميزت العلاقات التركية الأمريكية بالتقلب والتبدل المستمر صعودا وهبوطا، لكن جميع الصعوبات والعقبات والمشاكل لم تخرج تلك العلاقات عن دائرة التحالف الاستراتيجي، حيث لم تصل الخلافات بين البلدين إلى درجة القطيعة منذ تأسيس الجمهورية التركية إلى يومنا هذا.
المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية "هيذر نويرت" شبهت العلاقات التركية الأمريكية بحياة زوجين بينهما عقد قران. "تحدث بينهما مشادات، لكن في كل مرة يأسف كل منهما على ما بدر منه"، فهل جاء الدور على أمريكا هذه المرة في الأسف والاعتذار؟.
أمريكا اليوم أمام اختبار حقيقي قد يؤدي إلى خسارة تركيا كحليف استراتيجي، إن هي استمرت في تقديم الدعم اللامحدود للميليشيات الانفصالية في شمال سورية، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب المتمثل في تنظيم داعش، وإن هي أصرت على الاستمرار في التعاطي السلبي مع القضية السورية.
تعلم واشنطن جيدا استحالة قبول أنقرة بكيان مسلح في شمال سورية مهما كان شكل ومسمى هذا الكيان، وتدرك واشنطن أيضا أن تركيا سوف تقاوم أي محاولة لتأسيس هذا الكيان مهما كان الثمن، لأنها تعتبره تهديدا مباشرا لأمنها الاستراتيجي.
وتعلم واشنطن يقينا أن ب ي د PYD ب ي ج YBG وقوات سورية الديمقراطية ما هي إلا مسميات مختلفة لكيان واحد اسمه بي كا كا PKK، الحزب الشيوعي الستاليني، المصنف على قوائم الإرهاب عالميا وأمريكيا أيضا.
وجاء اعتراف الأمريكان أكثر من مرة بعلمهم المسبق بالعلاقة العضوية بين هذه الميليشيات. جاء ذلك علنا في شهادة وزير الدفاع السابق أشتون كارتر أمام الكونجرس، حيث قال بالعبارة الصريحة بأنه يعلم أن PYD هو "فرع" للتنظيم الإرهابي PKK وأن PKK مصنف كتنظيم إرهابي في أمريكا كما غالبية دول العالم.
كذلك المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية "هيذر نويرت"، وفي معرض انتقادها لتركيا قالت : إن "تركيا أهملت الحرب على تنظيم داعش، وأعلنت الحرب على تنظيم بي كا كا".. هكذا بكل وضوح، دون أن تأتي على ذكر PYD أو YBG!.
طبعا هذا اعتراف واضح من مسؤول عالي المستوى في الإدارة الأمريكية . لكن اللافت أكثر أنه لا "نويرت" ولا أحدا سواها من الإدارة الأمريكية، لم يصحح هذا الخطأ، الذي يبدو أنه كان مقصودا.
في عهد الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، بحثت واشنطن عن بندقية جاهزة للإيجار، تصل من خلالها لأهدافها في السيطرة على منابع الطاقة الواقعة شرقي وشمالي سورية، وهذه مناطق نشاط ميليشيات ب ي د/ بي كا كا . إضافة إلى أن فصائل الجيش السوري الحر، فضلا عن رفضها قتال عدواً سوى نظام الأسد، الذي ثارت ضده أساسا، لم تكن بالجاهزية العسكرية بالقدر الكافي الذي يبحث عنه الأمريكان، الذين وجدوا ضالتهم عند ميليشيات صالح مسلم المنظمة والمدربة عسكريا، والمستعدة لتنفيذ الأجندات المطلوبة خارجيا.
التوتر في العلاقات التركية الأمريكية ليس محصورا في دعم واشنطن للمنظمات الانفصالية فقط، إنما هناك عقبات أخرى تتمثل في الدعم الواضح والمكشوف الذي قدمته بعض المؤسسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية للمحاولة الانقلابية الفاشلة. حيث لعبت قيادة قاعدة إنجيرليك دورا مهما في دعم الانقلابيين، مما اضطر السلطات التركية حينها لقطع التيار الكهربائي عنها.
كما يشكل رفض واشنطن طلب تركيا تسليم زعيم الكيان الموازي الإرهابي فتح الله كولن، الذي تتهمه أنقرة بقيادة المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016، أحد أهم أسباب التوتر في العلاقات بين البلدين.
وبينما تتذرع واشنطن باستقلال القضاء الأمريكي، ترد عليها أنقرة بقضية محاكمة رجل الأعمال التركي من أصل إيراني (رضا صراف)، حيث تم استدراجه ثم الاتفاق معه على الاعتراف بضلوع مسؤولين أتراك بخرق الحظر الأمريكي على إيران، حيث تؤكد تركيا بأنها عملية سياسية أكثر منها محاكمة قضائية.
وعقب إسقاط الطائرة الروسية من قبل عناصر في الجيش التركي ينتمون للكيان الموازي، الذي يقوده غولن من بنسلفانيا بأمريكا، وصلت تركيا إلى حافة الحرب مع روسيا، وخضعت لحالة من العزلة الخانقة، ولم تجد حكومة حزب العدالة والتنمية مخرجا منها سوى التوجه نحو موسكو التي كانت هي بدورها بحاجة ماسة لتركيا.
يعلم الأمريكان أنّ موسكو لا يمكنها اختراق الدائرة الاستراتيجية الأميركية، وأنَ بوتين رغم استغلاله توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن لن يتمكن من ضم أنقرة لطرفه كشريك استراتيجي، كما هو الحال مع طهران.
كما أن جمع تركيا مع إيران في حلف استراتيجي واحد عمل شبه مستحيل، لأسباب كثيرة منها ما هو تاريخي، ومنها اختلاف التوجهات وتعارض الأجندات على أكثر من صعيد، في سورية ولبنان وأذربيجان وغيرها.
بالنسبة لموسكو، يهمها التحالف مع إيران بالدرجة الأولى، وخصوصا في سورية، حيث يضمن لها وجود قوات برية تحت مختلف التسميات، تساهم في استمرار وجودها العسكري هناك، لأنّ سلاح الجوّ وحده لا يحسم معركة ولا يبني نصراً على الأرض. كذلك فإن الحلف الروسي - الإيراني يضمن لموسكو نجاحات وتقاطعات استراتيجية مهمة في المنطقة.
ذهاب الأمريكان بعيدا بإعلانهم عن تشكيل جيش قوامه 30 ألف عنصر يتم اختيارهم من "قوات سورية الديمقراطية" التي يشكل ب ي د / ي ب ج عمودها الفقري، بزعم حماية الحدود التركية السورية، جعل الكيل يطفح بتركيا، فاتخذت قرارها التاريخي بالبدء بعملية "غصن الزيتون" ضد تنظيم ب ي د/ بي كا كا / ي ب ج، المتمركز في عفرين، والذي لم يتوقف عن تهديد المدن الحدودية التركية.
صحيح أن العملية العسكرية التركية في عفرين شكلت صفعة قوية للأمريكان، حيت اتفقت أنقرة مع موسكو وليس واشنطن في الترتيب والإعداد لها. لكنها شكلت في الوقت ذاته منعطفا هامة في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، حيث أجازتها واشنطن وإن على مضض، وأبدت تفهمها للهواجس التركية وحاجتها لتأمين حدودها.
وهذا يدل بوضوح على أن الأمريكان مستعدون للتخلي عن ب ي د/ بي كا كا / ي ب ج عندما يجد الجد، بل إن تصريح قادة البنتاغون بعدم وجود أي قوات لهم في منطقة عفرين فسر على أنه ضوء أخضر لأنقرة بأن تقوم بما تريد في عفرين.
أما الاعتراضات على استحياء والمطالبة بإنهاء العملية العسكرية بأسرع وقت ممكن، فما هي إلا ردود أفعال طبيعية لا تفسد للود قضية.
عدة أيام مضت على انطلاق عملية "غصن الزيتون " في عفرين. مرت بسهولة لم تكن متوقعة، لكنها ربما تزداد صعوبة مع مرور الوقت، خصوصا مع توقعات بأن يتوسع العمل العسكري ليشمل منبج. لكن أنقرة ستتجاوز هذه المصاعب بفضل التحضيرات الجدية الكبيرة التي سبقت العملية، والتأييد الشعبي العارم الذي حظيت به، حيث أيد 83% من الشعب التركي عملية "غصن الزيتون" في عفرين.
القضية الأساسية هي أن أنقرة نجحت في إضفاء الشرعية الدولية على عمليتها العسكرية في عفرين، حيث رفض مجلس الأمن الدولي شجبها، أو اعتبارها اعتداء تركياً على الأراضي السورية.
كل ذلك تم بفضل الاستدارة الأمريكية نحو أنقرة، إذ كان بإمكان واشنطن التضييق على تركيا كما فعلت أيام العملية العسكرية التركية في جزيرة قبرص، بالنظر لوجود كثير من أوجه التشابه بين العمليتين.
ينعقد اليوم وغدا (29 – 30/1/2018) مؤتمر منتجع سوتشي على البحر الأسود، تقول موسكو إن الهدف منه المساهمة في حل القضية السورية، من خلال حوار بين "الشعوب السورية" كما يسميها الروس، لوضع دستور جديد للبلاد، ووقف العمليات العسكرية، والبدء بالعملية السياسية التي تتوقع موسكو منها إنهاء المأساة السورية، ولكن على طريقتها الخاصة، بالإبقاء على النظام الاستبدادي في دمشق، وعدم التطرّق أو مناقشة مصير رأس هذا النظام، لإبقاء بشار الأسد في السلطة حتى عام 2035، بحسب مسودة الدستور التي سبق أن قدمتها موسكو في أستانة، وذلك بعد أن جعل الروس وجوده فيها مسألةً محسومة، ليس باستطاعة أحد تحدّيها.
وترى موسكو أن استمرار المفاوضات والحل السياسي على أساس مرجعية مؤتمر جنيف لن يؤمن أهداف إيران وروسيا بإبقاء بشار الأسد في السلطة. وعليه، يجب العمل على إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سورية. لذلك يأتي الإصرار الروسي على انعقاد مؤتمر سوتشي، وتقف وراء هذا الإصرار عدة أهداف، منها توهم بوتين بقدرته على الانفراد في فرض حل للقضية السورية، ومحاولة إيجاد مرجعية جديدة للحل السياسي في سورية من خلال نسف مسار مفاوضات جنيف، أو التشويش عليها على الأقل، لتمييع قرارات مجلس الأمن، والقرارات الأممية الأخرى التي تشكل المرجعية الأممية للحل في سورية، وبالتالي الالتفاف على القرارات التي تنص على تشكيل هيئة حكم انتقالية، لا يكون النظام مشاركاً فيها، وفي مقدمتها بيان جنيف لعام 2012 والقرار 2118 لعام 2113 والقرار 2254 لعام 2015.
ومن الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من وراء المؤتمر إظهار نفسها حريصة على التوصل إلى السلام في سورية، وتوسيع نفوذها في الملف السياسي، مستغلة التراجع الواضح لدور الولايات المتحدة والأطراف الدولية والإقليمية الأخرى في هذا الملف. كما تسعى موسكو عبر لعبها دور "صانع السلام" إلى تخفيف حدة الصورة الدموية التي تظهر بها أمام العالم جرّاء عمليات القتل الواسعة التي ترتكبها طائراتها في سورية، بدعوى محاربة الإرهاب.
تصب جميع الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من هذا المؤتمر في صالح موسكو وحليفها نظام الأسد، بدءاً من أجندة المؤتمر، وقائمة المدعوين لحضوره التي وصلت إلى نحو 1500 شخصية، والرسائل السياسية التي تريد روسيا إيصالها برعايتها هذا المؤتمر. فمعظم الجهات والشخصيات المدعوة للمؤتمر مرتبطة بروسيا وأجهزة المخابرات التابعة للنظام، بغرض تمييع المعارضة الحقيقية، وإضعاف دورها في التوصل إلى حل يتناسب مع تضحيات الشعب السوري.
وعلى الرغم من التهديدات التي وجهتها موسكو إلى المعارضة السورية فيما إذا رفضت الحضور، أو وضعت شروطاً مسبقة للمشاركة في المؤتمر بأنها ستكون خارج العملية السياسية، فقد قرّرت الهيئة العليا للمفاوضات، بأغلبية أعضائها، عدم الذهاب إلى المؤتمر لعدة أسباب، أهمها الغموض الذي يحيط بالمؤتمر، وعدم امتلاكه أجندةً واضحة للحل، والإصرار على بقاء مصير بشار الأسد خارج المحادثات التي ستجري داخل أروقة المؤتمر، إلى جانب اعتراض الهيئة على مكان انعقاد المؤتمر، ورعاية روسيا له، وقائمة المدعوين الذين وجهت إليهم روسيا دعوات للحضور.
وحتى تتواءم مخرجات مؤتمر سوتشي مع ما تشتهيه، فقد صاغت موسكو وثيقةً له تنص على ضرورة تشكيل جيش وطني يعمل بموجب الدستور، وأن تلتزم أجهزة الأمن بالقانون وحقوق الإنسان، وتوفير تمثيل عادل لسلطات الإدارات الذاتية. ومن المقرّر، بحسب التصور الروسي، أن يؤدي مؤتمر سوتشي إلى تشكيل ثلاث لجان: لجنة رئاسية للمؤتمر، ولجنة خاصة بالإصلاحات الدستورية، ولجنة للانتخابات وتسجيل المقترعين. كما أن من المحتمل أن تجري في مؤتمر سوتشي مناقشة إقامة "حكومة وحدة وطنية"، تجمع النظام والمعارضة، وهو مطلب روسي، دأبت موسكو على جعله أمراً واقعاً، بحيث يبقى الأسد على رأس السلطة، أي التطبيع مع النظام، وطي صفحاته السوداء الممتلئة بالضحايا طوال السنوات الماضية، وإعادة إنتاج الاستبداد في سورية، بعد تطعيم بعض مؤسساته بمظاهر احترام حقوق الإنسان، والمحافظة على الجذر الاستبدادي في صورته الأصلية، والإبقاء على الذهنية الاستبدادية لإدارة هذه المؤسسات، وفي مقدمتها الجيش والأمن.
في المقابل، تسعى أطراف أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة، إلى منع موسكو من استثمار مخرجات مؤتمر سوتشي، لتظهر أمام الرأي العام الدولي بمظهر المنتصر واللاعب الأساسي في الملف السوري، وإشعارها بأن كل ما حققته في سورية يبقى هشاً في ظل التعقيدات التي تتسم بها القضية السورية، فقد طرح وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، خلال جولة المحادثات الأممية في مقر الأمم المتحدة في فيينا، أخيرا، وثيقة خماسيةً، أعدها وزراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن في مباحثاتٍ تمت في باريس في 23 من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، على هامش مؤتمر يتعلق بمنع انتشار السلاح الكيميائي واستعماله، خصوصاً في سورية. وتضمنت الوثيقة الخماسية مبادئ الحل السياسي السوري، حيث أكدت على ضرورة إجراء إصلاحات دستورية، وتحديد صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والإدارات المحلية، تمهيداً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، بإشراف الأمم المتحدة، إضافة إلى وجود ربط واضح بين مساهمة الدول الغربية بإعادة إعمار سورية وتحقيق الانتقال السياسي.
وبحسب وكالة الأناضول، تناقش الوثيقة المنهجية التي ستكون عليها المفاوضات في جنيف، استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254، مع التركيز، بشكل مباشر وفوري، على مناقشة إصلاح الدستور، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، كما طالبت بخروج المليشيات الأجنبية من سورية، والشروع في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، ووقف القصف، وإيصال المساعدات.
وأوصت الوثيقة المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أن يعمل على تركيز جهود الأطراف على مضمون الدستور المعدل، والوسائل العملية للانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وإيجاد بيئة آمنة ومحايدة في سورية، يمكن أن تجري فيها هذه الانتخابات. وجاء في الوثيقة أن الرئيس، المعدلة صلاحياته، يجب أن يكون محققاً لتوازن كل القوى، وضامناً استقلال المؤسسات الحكومية والمركزية، أما الحكومة فيرأسها رئيس وزراء، مع منحه صلاحيات موسعة، وصلاحيات للحكومات المحلية، كما أن البرلمان سيتكون من مجلسين، يكون ممثلاً في مجلسه الثاني من كل الأقاليم، للتأثير على عملية صنع القرار في الحكومة المركزية، من دون وجود سلطة رئاسية لحل البرلمان. كما تناولت الوثيقة أيضاً "إصلاح أجهزة الأمن"، بحيث تخضع للسلطة المدنية وإنهاء الحصانة عنها، إضافة إلى عملها في شكل حيادي مع خضوعها للمساءلة والمحاسبة.
وتبدو هذه الوثيقة متمايزة عما تطرحه موسكو في مؤتمر سوتشي، إلا أنها لم تشر إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية، ولا تتحدث عن تنحي بشار الأسد عن السلطة، والاكتفاء بتقليص صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء، وتوسيع صلاحيات الحكومات المحلية على أساس اللامركزية، وتشكيل برلمان ذي مجلسين، على غرار الموجود في الأنظمة البرلمانية ومنح دور أكبر للأمم المتحدة، للإشراف على تطبيق الحل السياسي، خصوصا فيما يتعلق بالانتخابات، وتشكيل هيئة انتخابية محايدة ومتوازنة، والسماح للاجئين والنازحين بالمشاركة في الانتخابات، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254.
يبدو أن الولايات المتحدة تريد أن تظهر للأطراف الفاعلة في القضية السورية أن استراتيجيتها في سورية ستشهد في الفترة المقبلة انعطافة مفصلية مهمة تجاه فرض حل سياسي للملف السوري، وأن هناك تبدلاً حصل في أولوياتها في المنطقة، بعد الانتهاء من محاربة "داعش" التي كانت تتقدم أولوياتها، وتمكّنها من فرض وجود عسكري لها على المدى المتوسط في منطقةٍ تتمتع بأهمية استراتيجية بالغة، لاحتوائها على مصادر الطاقة والثروات الأخرى، يجعلها لاعباً أساسياً في أية رؤية للحل السياسي مستقبلاً، ولتحجيم الدور الروسي، وكذا الإيراني المتزايد على وجه التحديد، والذي يثير حفيظة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل.
عللت الولايات المتحدة على لسان وزير خارجيتها ريكس تيلرسون سبب بقائها في سوريا بالقول: "علينا ألا نكرر خطأ الانسحاب من العراق في 2011".
وجدت الولايات المتحدة شريكًا مناسبًا لمصالحها في سوريا وأمضت 7 سنوات بحملات تكتيكية عن طريقه. بيد أن الذريعة التي قدمتها بتصريح تيلرسون الساذج، يصعب تسويقها حاليًّا.
فما وراء الذريعة، أي "مكافحة داعش"، أصبح خاليًّا من المعنى بعد النجاحات المحققة ضد التنظيم على الأرض. هل من الممكن أن تظهر تنظيمات أخرى؟ لم لا..
الإجابة الأكثر واقعية عن سؤال "ما هدف الولايات المتحدة في سوريا؟"، هي استخدام حزب الاتحاد الديمقراطي حتى النهاية من أجل تثبيت أقدامها بشكل أفضل في هذا البلد. والأمر ينطبق على الطرفين.
فحزب الاتحاد الديمقراطي استغل الفرصة التي قدمتها له الحرب السورية على طبق من ذهب، وهو يسعى للوصول إلى مرحلة إقامة كيان شبيه بالدولة، بدعم أمريكي.
طبقت واشنطن خطة على مراحل من أجل حزب الاتحاد الديمقراطي.
نظمت صفوف الحزب أولًا. بعد ذلك أعدت الأرضية من أجل ممارساته الديموغرافية، وأخيرًا سلحته بأحدث الأسلحة. وأجرت فعاليات التدريب والتسليح، التي أوجدتها لمحاربة الأسد في البداية، من أجل حزب الاتحاد الديمقراطي فقط.
والآن، نجد في مواجهتنا وحدات حماية الشعب القادرة على استخدام كل الوسائط الحربية في عفرين. أما في منبج ومنطقة شرق الفرات فتمتلك جيشًا قوامه 30 ألف عنصر، مزودًا بأحدث الأسلحة، ويمتلك تقنيات كافة الهجوم والدفاع، ومهارات الحرب الإلكترونية.
وفيما يتعلق بتركيا قالت الولايات المتحدة في مختلف مراحل الحرب السورية إنها ستبعد وحدات حماية الشعب عن الحدود، وإنها تعارض توحيد الكانتونات، وإنها ستحول دون انتقال الأسلحة الممنوحة للوحدات إلى حزب العمال الكردستاني.
لم ترغب الولايات المتحدة باتخاذ موقف جديد سوى اعتبار "حزب العمال الكردستاني تنظيمًا إرهابيًّا"، ولم تفِ بأي وعد قطعته. لم تخلِ منبج من وحدات حماية الشعب، ولم تستعد الأسلحة التي وزعتها عليها.
والآن تحاول اختبار عزم أنقرة بخصوص عملية منبج، عبر مقترحات من قبيل إنشاء منطقة آمنة. يتوجب قراءة التصريحات التركية حول تواصل عملية عفرين بالانتقال إلى منبج، من خلال هذه النقطة في العلاقات مع الولايات المتحدة.
وينبغي الأخذ بعين الاعتبار منطقة شرق الفرات، التي تعادل ثلث مساحة سوريا، ويسيل اللعاب لاحتياطي الطاقة فيها، حيث يفرض حزب الاتحاد الديمقراطي سيطرته.
تحاول الولايات المتحدة السيطرة على هذه المنطقة بشكل دائم عبر الحزب، الذي تسعى إلى إدارجه في الحل السياسي. وتريد الاحتفاظ بإمكانية إثارة الاضطرابات الداخلية في تركيا على نحو دائم من خلاله.
أطلقت تركيا عملية عفرين، التي يتطلب إنجازها بنجاح، صبرًا كبيرًا.
نتحدث عن عملية سيستغرق الوصول إلى مراحلها النهائية أشهرًا.
وعندما طرحت سؤال "متى تبدأ عملية منبج؟" في أنقرة، جاءتني الإجابة على النحو التالي:
"إن لم تُنفذ عملية منبج ستكون نظيرتها في عفرين قد انتهت".
كأن العلاقة التركية- الأميركية المتأزمة أصلاً بين محاكمات في نيويورك تطاول مقربين في مجال الأعمال من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتهديدات القنصلية، وسياسة المحاور بين إيران وروسيا والأكراد، كان ينقصها التوغل التركي في شمال سورية لتزداد سوءاً.
التصريحات العلنية «المتفهمة لقلق تركيا الأمني» التي شدد عليها وزيرا الدفاع والخارجية الأميركية جايمس ماتيس وريكس تيلرسون لم تعد كافية لإخفاء امتعاض واشنطن مما تقوم به أنقرة في سورية ولأسباب عدة أبرزها اثنان:
أولاً، اختيار تركيا توقيت العملية بعد أيام من إعلان تيلرسون استراتيجية أميركية جديدة في سورية أعمدتها وجود عسكري أميركي طويل الأمد، إنهاء «داعش»، وإضعاف إيران مع التأكيد أن تحالف القوات الكردية والعربية الذي تدعمه واشنطن سيحتفظ بالأراضي التي حررها من «داعش». وفي حين يمكن تفهم انزعاج تركيا من هدفين في هذه الاستراتيجية على الأقل، فإن قيامها بالعملية ومن دون تنسيق مسبق مع واشنطن، أزّم الوضع مع إدارة دونالد ترامب.
مصادر غربية قالت لـ «الحياة» إن واشنطن علمت للمرة الأولى بالعملية من طرف ثالث وليس من تركيا وتفاجأ المسؤولون الأميركيون بالخبر. هذا الطرف كانت أبلغته أنقرة كما يتم التعاطي مع الحلفاء، ولَم تبلغ الإدارة الأميركية إلا قبل وقت قليل من إعلان العمل العسكري. وجاءت محاولة ماتيس بالتأكيد أن أنقرة أبلغت واشنطن، لاحتواء الخلاف وفتح قنوات الاتصال بدل مفاقمة الأزمة. ونقل هذه الرسالة وفد أميركي زار تركيا في ٢٣ كانون الثاني (يناير) الجاري وشمل نائبي مساعدي الخارجية والدفاع لشؤون أوروبا وحلف شمال الأطلسي جوناثان كوهن وتوماس غافوس. والتقى الوفد بمسؤولين في الخارجية التركية وقيادات عسكرية للبحث في ما يجري في عفرين على رغم أن الزيارة كانت معدة قبلاً.
وجاء اتصال ترامب بأردوغان ليُخرِج إلى العلن نقاط الخلاف الأميركي- التركي ومع تأكيد البيت الأبيض ضرورة خفض التصعيد في عفرين والدعوة إلى تنسيق أفضل مع الجانب الأميركي.
السبب الثاني في استياء واشنطن من التحرك التركي هو في عدم تحديد مداه ومخاوف من أن يهدر نجاحات الاستراتيجية الأميركية ضد «داعش». ففي حال تقدم تركيا إلى وسط عفرين والدخول في معركة في قلب المدينة، فهذا سيعني عدد ضحايا أكبر، وثانياً إمكانية انتقال القوات الكردية التي تحارب «داعش» من تلك المناطق في شرق سورية إلى الشمال للتصدي لتركيا، بالتالي إمكانية عودة «داعش» وخلاياه المنسحبة للسيطرة على هذه المناطق.
هذا السيناريو هو خط أحمر لواشنطن، وهناك ضغوط أميركية جارية على تركيا لعدم التوغل عميقاً في الشمال السوري أو حتى التفكير في دخول منبج، حيث هناك قوات أميركية قد تدخل المعركة إلى جانب الأكراد في حال الشعور بتهديد عسكري. وهنا يسعى الجانب الأميركي إلى حل وسط يتعاطى مع مخاوف تركيا الأمنية وحيال حزب العمال الكردستاني الذي وصفه ترامب «بالإرهابي» وفِي الوقت ذاته يراعي أولويات واشنطن في سورية على رأسها هزيمة «داعش». ومن المقترحات منطقة آمنة مصغرة أو شريط حدودي لتركيا في الشمال، يضمن أمنها ويتفادى توغلاً عميقاً في عفرين أو غيرها. شكل هذه المنطقة وجغرافيتها ما زال قيد الدرس إنما تحقيقها بات ضرورة أمنية لتركيا واستراتيجية لواشنطن لحماية مصالحها.
أسبوع على العملية التركية ولا حل عسكرياً في الأفق، مع وقوع أكثر من ٢٤ ضحية مدنية. الوقت ليس لمصلحة أي من أنقرة أو واشنطن، وكون حرب استنزاف تركية- كردية في سورية ستفيد خصوم الأميركيين والأتراك أولاً. بالنسبة لسورية نفسها، فالحرب دخلت مرحلة المحاصصة الإقليمية والدولية وتوزيع نفوذ بغض النظر عن شكل العملية السياسية أو اسم رئيس البلاد أو حكومته في دمشق.
إيران لا تكلّ ولا تملّ من دعواتها إلى الحوار مع جيرانها على رأسهم السعودية. ما بين كل دعوة ودعوة، هناك دعوة، مع تزايدها منذ رحيل إدارة باراك أوباما وانتهاء شهر العسل الأميركي - الإيراني، وآخر دعوات مسلسل الحوار جاءت في مقال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في صحيفة «فايننشيال تايمز» اللندنية، حيث يستمر المنطق الإيراني القديم الجديد نفسه، حروب وإرسال ميليشيات وقتل وترويع وتدخلات في شؤون الدول من جهة، ودعوات غير واقعية للحوار من جهة أخرى، ظريف يقول إن بلاده تقترح «إنشاء منبر إقليمي للحوار في الخليج، ودعوتنا الطويلة للحوار مفتوحة، ونتطلع لليوم الذي يقبل فيه جيراننا دعوتنا، وبتشجيع من حلفائهم، الأوروبيين وغيرهم في الغرب»، بالطبع هذه العملية التجميلية المتكررة التي يسعى لها أقطاب النظام الإيراني لسياستهم الخارجية التوسعية، مكشوفة جيداً لمن تسعى إيران للحوار معهم، كونها ذراً للرماد في العيون، فأول شرط للحوار هو توفر حد أدنى من الثقة، وهذا غير وارد مع دولة تحارب بميليشياتها وصواريخها هذه الدول، غير أن النظام الإيراني وهو يعلم استحالة الاستجابة لهذه الدعوة الزائفة، يهدف للاستفادة من المزاج العام الأوروبي تحديداً، في إرسال رسائل لهم أنهم طالبو سلام وليسوا دولة إرهابية، كما تتهمها الولايات المتحدة الأميركية ودول المنطقة أيضاً.
يمكن القول إنه منذ وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض قبل عام تقريباً، وإقراره استراتيجية جديدة أظهرت موقفاً أميركياً متشدداً ضد سلوك إيران العدواني المزعزع لاستقرار المنطقة، والنظام في طهران يراهن على المواقف الدبلوماسية الأوروبية المائعة، والساعية لحماية استثماراتها الدبلوماسية والمالية في الاتفاق النووي الإيراني، فبعد رفع العقوبات الدولية عقب تنفيذ «خطة العمل الشاملة المشتركة» عام 2015، أصبحت العواصم الأوروبية أكثر حرصاً على المشاركة مع إيران دبلوماسياً واقتصادياً، فأعادت بريطانيا فتح سفارتها في طهران، ووقعت «توتال» الفرنسية على صفقة نفطية بقيمة 5 مليارات دولار في إيران، في حين وافقت شركة «إيرباص» الأوروبية على بيع مائة طائرة لشركة «إيران للطيران» عام 2016. وكل هذه التحركات الأوروبية المتعاطفة نحو إبقاء الاتفاق النووي وعدم تغييره ولا حتى تعديله، وصل صداها بشكل جلي إلى طهران الراغبة في الدوران داخل الفلك الأوروبي، ومن ذلك تسويق رغبتها في الحوار مع جيرانها، وهي النغمة التي يطرب لها الأوروبيون حتى وهم يعلمون جيداً عدم جدواها عملياً، لكن طهران في الوقت نفسه تمنحهم الفرصة للمضي في موقفهم المتراخي ضد عدوانها وتغليف سياساتهم بدبلوماسية مسك العصا من المنتصف.
في مقالة في صحيفة «واشنطن بوست»، كتب نائب الرئيس الأميركي مايك بنس: «لسوء الحظ، لقد فشل عدد كبير من شركائنا الأوروبيين بشكل كبير في الحديث بوضوح عن الأزمة المتفاقمة في إيران. لقد حان الوقت لكي ينهضوا». إلا أن الأوروبيين لم ينهضوا، ولا أظنهم سيفعلون ذلك قريباً، وبدا ذلك واضحاً في ردود فعلهم الباهتة إبان المظاهرات الاحتجاجية التي عمت المدن الإيرانية، بينما يقيمون الدنيا ولا يقعدونها لأفعال أقل من ذلك بكثير في دول أخرى وتحت بند «حقوق الإنسان». الأوروبيون يغضون النظر أيضاً عن إيران وهي كثيراً ما تفاخرت بسيطرتها على أربع عواصم عربية، والجديد أنها ضمّت إليهم قطر أخيراً، بعد تأكيد علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي، أنه لولا بلاده لسقطت قطر.
ليس سراً أنه كلما حكم البيت الأبيض الجمهوريون، كثفت إيران من دعوات الحوار والتعاون مع السعودية، الفرق الوحيد هذه المرة أن طهران تريد استغلال المصالح الأوروبية وتقديم مثل هذه الدعوات، والمؤسف أن الأوروبيين يسمحون للنظام في إيران باستغلالهم بشكل سيئ وتصديق كذبة الحوار الكبرى.
يمضي المعتصمون في مطار سوتشي، في صناعة التاريخ ولعب دور بطولي جديد، في إطار الدفاع عن السوريين في وجه القتلة، متمسكين اليوم بعلم الثورة ورافضين الدخول تحت رايته، ولكن لا مانع من دعم مؤتمر ترعاه روسيا التي طائراتها بذات الوقت تدك كل ما هو حي في سراقب، على سبيل المثال لا الحصر.
تصرفات التي يمكن وضعها تحت بند "الصبيانية"، باتت تراجيديا مقيتة وغير مقنعة لأصغر طفل فقد أحد والديه أو اخوته أو جزء من جسده، بأن زمن التغابي قد انتهى، وأن "ايران قاتل وليس ضامن"، و"روسيا مجرمة والإرهاب الروسي" وسمفونيات التخوين لفلان من الناس وعين من المنصات، فاليوم لعبت بعض شخصيات المعارضة دور للأسف هو الأسوء والأكثر تخفيضاً لمستوى قضية لا يمكن إحصاء ما ورثت السوريين من أحقاد وآلام، أو تم توثيق ما أفقدت الشعب بشراً وحجراً.
اعتادت بعض وجوه المعارضة على ممارسة واتقان دور اللعبة بيد هذا وذلك، فساق الذاهبون لسوتشي مبررات بالجملة منها دعم لتركيا ودعم غصن الزيتون، حماية لإدلب، وتأمين الغوطة و .... و ..... ، لكنها عبارة عن فقاعات دفع ثمنها المدنيون في كل مكان استشهد فيه، فلا تركيا بحاجة لظهور هذه الوجوه، ولا إدلب تم حمايتها وهي تذبح من الوريد للوريد، أما الغوطة فلا يوجد داع للحديث.
تسع محطات في جنيف ومثلها في أستانة وأقل في فيينا وباريس وواشنطن وقطر والرياض.. كلها بائت بفشل تلاه فشل، واليوم يبحث الذاهبون عن حل في روسيا، مع القاتل ذاته، ومع أنداد لا صفة رسمية لهم ولا حتى وجود، لكنهم في حقيقة الأمر يشابهون من ذهب مدعياً تمثيل المعارضة .. ويكفي أن يكون وضع الذاهبين هكذا... يكفي صور الذل التي نشرت لهم في اعتصامهم الأسطوري
تناقض المواقف الأمريكية من عملية عفرين التي يقودها الجيش السوري الحر بمساعدة تركية، ليست هي التناقضات الأولى في السياسة الأمريكية مع تركيا، بل هي صورة مصغرة عن أخطاء السياسة الأمريكية نحو تركيا، وعلى وجه الخصوص في سوريا، منذ انطلاق الثورة فيها عام 2011.
فآخر التصريحات الأمريكية في 25/1/2018 حول عملية عفرين بعد ستة أيام من انطلاقتها، هو تصريح (البنتاغون) الذي يقول فيه:» إن عمليات عفرين تعوق مهمة القضاء على تنظيم الدولة»، علما بأن حلفاء أمريكا من الأحزاب الكردية هم من أعلنوا القضاء على تنظيم «الدولة» في المناطق التي يسيطرون عليها، بما فيها عفرين ومنبج والرقة وغيرها، بل كانت امريكا نفسها ضامنة لانسحاب عناصر «داعش» من الرقة وغيرها إلى أماكن أخرى، فالبنتاغون نفسه متورط بمساعدة «داعش»، على لسان المخابرات الروسية وباتهامات مباشرة، فلماذا توقع أمريكا نفسها بهذا التناقض المفضوح أمام العالم.
وقد نقل عن رويترز تصريح آخر بعد الأول عن البنتاغون يقول:» إنه سيواصل الحوار مع تركيا بشأن إقامة منطقة آمنة على الحدود»، وهذا تأكيد لتصريح أمريكي سابق رداً على مكالمة الرئيس ترامب مع الرئيس التركي أردوغان في ديسمبر الماضي، وقد علق عليه وزير الخارجية التركي جاويش اغلو قائلاً: «إنّ بناء الثقة بين الولايات المتحدة وتركيا شرط أساسي للتباحث بشأن منطقة آمنة في الشمال السوري»، هذا التصريح لوزير الخارجية التركي، جاء في مؤتمر صحافي مشترك عقده في إسطنبول مع نظيرته النمساوية كارين كنايسل، والنمسا كانت من أكثر الدول الأوروبية، التي اختلفت واخطأت في حق تركيا، على خلفية الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، فبعد العداء البالغ من النمسا نحو تركيا، إذ بها تأتي إلى انقرة للمصالحة والاعتذار.
هذا اللقاء التركي النمساوي قد يكون درساً مفيداً للسياسة الأمريكية، التي اكثرت من أخطائها نحو تركيا في السنوات القليلة الماضية، بداية من عدم اخذ الرؤية التركية بعين الاعتبار لحل ازمة الصراع في سوريا، وسعيها بإدارة من البنتاغون لإشعال سوريا أكثر واستمرار القتال فيها لأكثر من ست سنوات، ومن أجل ذلك سمحت لإيران بإدخال جنودها وميليشياتها لمساعدة الأسد ومنع انتصار الثورة بداية عام 2013، بعد ان أعاقت امريكا سقوط الأسد بحجة إسقاطه عبر مخرج دولي باسم مؤتمر جنيف يونيو 2012، بينما كانت الهدف الأمريكي استمرار القتال والصراع لحين تمكنها من ترتيب تقسيم سوريا حسب مخططاتها للشرق الأوسط الجديد، حتى لو اضطرت إلى توريط روسيا فيها، بعد فشل إيران وميليشياتها منذ منتصف عام 2015، وسعي أمريكا أيضا توريط تركيا في صراع مرير ومدمر مع روسيا، بعد اسقاط الطائرة الروسية سخوي في نوفمبر 2015، وهو الأمر الذي كشفته روسيا وأدركته استخباراتياً، فعكسته إلى تعاون اقتصادي وامني وعسكري مع تركيا في سوريا وخارجها، في ضربة مضادة لأمريكا.
أما فكرة المنطقة الآمنة، فهي فكرة أمريكية ساذجة جاءت بها بعد عملية عفرين كمخرج من أخطائها، لعلمها أن الدولة التركية من أوائل الدول التي طرحت فكرة المنطقة الآمنة، منذ أربع سنوات تقريبا، فعدد اللاجئين السوريين في تركيا بلغ أكثر من ثلاثة ملايين، وكلّف الخزينة التركية أكثر من خمسين مليار دولار، بين مساعدات رسمية وأهلية، ومن جمعيات خيرية متعددة، فالحديث الأمريكي عن المنطقة الآمنة الآن ليس صادقاً، وإنما بهدف حصر عملية «غصن الزيتون» على منطقة عفرين فقط، بينما تركيا أسمعت امريكا أن هدفها ليس عفرين فقط، وإنما منبج وغرب الفرات، وليس ما يمنع وصولها إلى الرقة، حيث ان معظم سكانها من السوريين العرب السنة، وليس فيها إلا قلة كردية حتى يطالبوا ببقائها تحت سيطرة حزب العمال الكردستاني، أو تحت المسمى الأمريكي لعناصره باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو غيرها، فتركيا تريد حلولاً لتواجد الإرهابيين على حدودها أولاً، وتريد حلولاً لمعاناة ثلاثة ملايين لاجئ سوري على أراضيها ثانياً، وتريد حلا لحالة عدم الاستقرار والاستنزاف وسفك الدماء في سوريا والمنطقة ثالثاً.
لقد قدّمت أمريكا وعودها بسحب الميليشيات الإرهابية من عناصر قوات حماية الشعب الكردية من منبج، بعد إخراج «داعش» منها، عندما كانت تركيا ترفض دخولها غرب الفرات، ولكن أمريكا لم تلتزم بوعودها بالانسحاب وواصلت تقديم الدعم العسكري للمنظمات التي تصفها تركيا بالمنظمات (الإرهابية)، فكما حالفت تركيا امريكا بمحاربة «داعش» كان على أمريكا أن تحالف تركيا بمحاربة المنظمات الارهابية من وجهة نظر تركية، وليس دعمها عسكريا ضد تركيا، فكل الوعود الأمريكية لتركيا بوقف الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي وقواته حماية الشعب الكردية، لم تلتزم بها امريكا أيضاً، بل إن الوعد الأخير الذي قطعه الرئيس الأمريكي ترامب للرئيس التركي أردوغان عبر المكالمة الهاتفية بوقف الدعم عنها قبل ثلاثة أيام، ليس هناك من دليل على الوفاء به، لا الآن ولا في المستقبل، لأن للبنتاغون استراتيجية عسكرية أخرى غير سياسة البيت الأبيض السياسية، وهذا مرد بعض التناقضات في السياسة الأمريكية نحو تركيا والمنطقة.
إن أكبر الأخطاء الأمريكية نحو تركيا هي مراهنتها على التحالف مع الأحزاب الكردية، وهي تعلم ان هذه الأحزاب هي امتداد حقيقي لحزب العمال الكردستاني الارهابي بحسب القوائم الدولية، وهذه قناعة توصل لها سياسي امريكي، بانه لا يمكن إقناع تركي واحد بوجود فرق بين حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) في تركيا وحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا (ب ي د) أو ميليشيات قوات حماية الشعب (ب ي ج)، أو قسد أو غيرها، ولكن أمريكا وتحديداً البنتاغون يراهن على الأحزاب الكردية وليس على الشعب الكردي، كأداة لتقسيم سوريا، وهذا التقسيم ليس محبة بالأكراد، وإنما اتخاذهم جنوداً مرتزقة لتقسيم سوريا، وإقامة كيان كردي يستخدم كمستعمرة امريكية في سوريا، وتحديداً لإقامة قواعد عسكرية مرخص لها دوليا وقانونيا من هذا الكيان الكردي المنشود، وهذا خطأ كبير يرتكبه البنتاغون أيضاً، فلا يمكن ان ينجح بصناعة كيان سياسي جديد شمال سوريا بلا أرض ولا شعب، عن طريق التطهير العرقي للسوريين العرب شمال سوريا، فالترابط الجغرافي للتواجد الشعبي الكردي شمال سوريا غير موجود، وهذا لا يمكّن امريكا من تشكيل كيان سياسي لهم، فضلا عن انه لا يوجد دليل واحد على ان الأكراد السوريين يسعون إلى إقامة كيان سياسي لهم في سوريا، والأحزاب الكردية في سوريا لا تمثل الشعب الكردي أولاً، وهم مواطنون سوريون لا مصلحة لهم بالقتال والموت من أجل مشاريع امريكية لمستقبل سوريا، عن طريق تقسيمها وإقامة قواعد عسكرية موازاة بالقواعد العسكرية الروسية هناك.
منبج تمثل نموذجا للاحتلال الكردي لها، إذ يشكل العرب 90% من سكانها، فكيف يمكن إبقاؤها تحت هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (ب ي د) وميليشياته المسلحة، وطرد اهلها إلى تركيا لتحميل الاقتصاد التركي مسؤوليتهم. تركيا تخبر أمريكا بأخطائها وتطالبها بسحب قواتها الأمريكية من منبج أولاً، وسحب القوات التابعة للأحزاب الكردية من منبج وغيرها ثانياً، والعمل والتعاون مع تركيا لإعادة سكان عفرين ومنبج والرقة وغيرها إليها، فتركيا أعادت سكان جرابلس والباب إليهما، بينما لم تسمح قوات حزب (ب ي د) إعادة سكان عين العرب إليها، رغم تحريرها من «داعش» قبل جرابلس بسنوات، فالسياسة التركية تقدم مشروعا يعالج معاناة الشعب السوري أولاً، ويخفف عن شعبها التركي الأعباء الداخلية ثانياً، ويحمي الشعب الكردي من الموت بلا فائدة ثالثاً، وهذا ينبغي أن يشمل شرق الفرات وغربها وليس في عفرين فقط، فإنهاء معاناة الشعب السوري المشرد في الأرض أولوية ينبغي ان تتسابق إليها الدول الإنسانية، وهي تراه يموت قتلاً من إيران وروسيا ومن الغرق ومن البرد والثلج، وهو يهرب من ظلم الأسد وأسلحته الكيميائية وبراميله المتفجرة.
على السياسة الأمريكية أن تصحح أخطاءها مع تركيا أولاً، وفي سوريا ثانياً، فتركيا تنظر إلى تحسين علاقاتها مع امريكا كدولة حليفة استراتيجياً، وتريد حماية الشعب الكردي في سوريا من الأخطاء او الأوهام او الأحلام أو المغامرات لبعض جنرالات البنتاغون الأمريكي، فلا يمكن لأمريكا ان تتجاهل وجود شعوب ودول في المنطقة، وأن لهم خيارات أمنية وسياسية قد لا توافق الخيارات الأمنية والسياسية الأمريكية، فالأخوة الكرد لن ينجحوا في تحقيق الأحلام الأمريكية لتقسيم سوريا، لأن تركيا لن تسمح باقامة دولة كردية شمال سوريا إطلاقاً، وامريكا أمام خيار الاصطدام مع تركيا أو التعاون معها، ومواصلتها لأخطائها السابقة لا يعني إلا الاصطدام مع تركيا، وهو ما تتمناه روسيا والصين وإيران وغيرها من الدول، بينما مصالح تركيا وأمريكا ان تبحثا عن التعاون المشترك بما يضمن مصالحهما ومصالح الشعب السوري بكل قومياته العربية والكردية والتركمانية وغيرها، وإذا كانت امريكا جادة في منافسة روسيا فليس بالضرورة ان يكون ذلك في سوريا، ولا على حساب الأخوة الأكراد، لأن مصالح الشعب الكردي هي في التعاون مع أخوته العرب والأتراك والإيرانيين وشعوب المنطقة جميعها، وليس القتال ضدهم ولمصالح دولية استعمارية، فالأمريكيون ليسوا شركاء للأكراد وإنما يستغلونهم لتحقيق أهدافهم الأمريكية في سوريا والمنطقة فقط.
كان هناك أمل بأن يزيل الاتصال الهاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي دونالد ترامب، الخلاف في سياسات البلدين تجاه سوريا عقب عملية "غضن الزيتون" على وجه الخصوص، وأن يساهم في تقريب المواقف بينهما..
لكن لم يحدث ذلك، بل العكس، زادت حدة الخلاف في وجهات النظر، وتباعدت المسافة أكثر بين الطرفين، إلى درجة أن الانسجام غاب حتى عن البيانات الصادرة من أنقرة وواشنطن بشأن الاتصال.. بل إن المجمع الرئاسي التركي نفى بعض العبارات الواردة في بيان البيت الأبيض!
وهذا ما أظهر بوضوح أن المستجدات الأخيرة في سوريا زادت من عمق الهوة بين أنقرة وواشنطن.
مواقف متعارضة
بحسب التصريحات والبيانات الصادرة حول الاتصال الهاتفي يمكن تلخيص مواقف الطرفين بشأن القضايا الرئيسية على النحو التالي:
- تحدث أردوغان عن سريان ومشروعية عملية "غصن الزيتون"، وأوضح لترامب أن العملية ستستمر حتى القضاء التام على معاقل وحدات حماية الشعب، مطالبًا بوقف الولايات المتحدة تسليحها هذا التنظيم فورًا.
- أما ترامب فأعرب عن قلقه من النتائج السلبية المحتملة لعملية عفرين، وطلب جعل العملية محدودة والحيلولة دون وقوع ما يؤدي إلى مواجهة بين قوات البلدين. ودعا إلى وقف الحملة المناهضة للولايات المتحدة في تركيا..
نواقيس الخطر
المواقف المتناقضة في القضايا الرئيسية تعني عمليًّا ما يلي:
تركيا عازمة على تنفيذ عملية عفرين حتى النهاية، ثم توجيه العملية نحو منبج، والتوسع فيها حتى منطقة شرق الفرات حيث تتمركز وحدات حماية الشعب.
لكن في حال تنفيذ الجيش التركي عملية ضد منبج ماذا ستفعل الولايات المتحدة، حامية تلك المنطقة؟ هل تحدث مواجهة بين الجيشين التركي والأمريكي؟
دعا ترامب تركيا إلى اتخاذ الحيطة الشديدة في هذا الخصوص.. والشيء نفسه ينطبق على الولايات المتحدة..
باختصار، هناك خطر مواجهة جدية بين عضوين في حلف الناتو. وللأسف لم يقضِ الاتصال الهاتفي بين أردوغان وترامب على هذا الخطر.
أزمة ثقة
موقف أنقرة من بيان البيت الأبيض يظهر عدم ثقتها المتزايد بواشنطن. وعدم وفاء ترامب بالعهود المقدمة سابقًا له دور في أزمة الثقة هذه.
ولا شك أن من أسباب نكث ترامب بوعوده الفوضى الناجمة عن وجود أكثر من مرجع في الإدارة الأمريكية. فالخلاف بين ما يجري الحديث عنه في الهاتف وما يصدر من تصريحات وبيانات ناتج عن هذه الفوضى.
وفي جو عدم الثقة هذا، يدور النقاش حول غاية ونجاعة فكرة "المنطقة الآمنة" بعمق 30 كم، التي طرحها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون.
من سيسيطر على هذه "المنطقة"؟ أي المناطق ستشمل؟ ماذا سيكون مصير قوات حزب الاتحاد الديمقراطي داخل وخارج المنطقة؟ كل تلك قضايا يجب بحثها بالتفصيل..
في الواقع، يمكن أن يكون مقترح تيلرسون مجالًا لتعاون جديد بين تركيا والولايات المتحدة. طبعًا في حال تأسيس الثقة المتبادلة بينهما..
في مؤتمر بوتسدام، الذي عُقِد للبحث في مصير ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (17 تموز- يوليو 1945)، سأل الرئيس الأميركي هاري ترومان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين عن أفضل الوسائل العملية لمنع تكرار تلك الحرب المدمرة.
وأجابه ستالين وهو ينفث دخان غليونه في القاعة الفارهة، بالقول: إذا كان المنتصر هو الذي يفرض شروطه وإرادته، فإن قواتنا ستثبت احتلالها للجزء الشرقي من ألمانيا، بينما تستمر قواتكم في هيمنتها على الجزء الجنوبي.
وهكذا بقيت تلك القاعدة التي رسمها ستالين سارية المفعول حتى بعد مشاركة بريطانيا وفرنسا في أخذ نصيبهما من الأراضي الألمانية المحتلة.
وخلال زيارتي للألمانيتَيْن بعد التقسيم، التقيت السفير خليل مكاوي في برلين الشرقية أواخر عام 1977. ومن هناك انطلقت إلى بوتسدام حيث سمحت لي السلطات بالإطلاع على وقائع محاضر جلسات الزعماء الأربعة، أي ستالين وتشرشل وديغول وترومان (لأن روزفلت كان قد مات). والانطباع الذي كوّنته عن مواقف الأربعة من خلال جلسات استمرت نصف شهر تقريباً، هو أن تقسيم ألمانيا كان الحل العملي الذي اتفق عليه المنتصرون، كونه يؤدي إلى تطويق اندفاع هذا الشعب المقاتل، ويصدّه عن تكرار محاولات التوسع في أوروبا.
وفي الوقائع، ترددت داخل الاجتماعات، أكثر من مرة، عبارة «كعكة الملوك». وهو المصطلح الذي أطلقه الأوروبيون على بولندا، البلاد التي تعرضت للقضم والنهش من قبل روسيا وألمانيا والنمسا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصولاً إلى الحربين العالميتين، الأولى والثانية.
الأسبوع الماضي استخدم خبير العلاقات الدولية في روسيا أنطوان مارداسوف مصطلح «الكعكة السورية»، متوقعاً أن يتمحور الاتفاق بين أنقرة وموسكو حولها. وقد سبق للرئيس فلاديمير بوتين أن أشار في إحدى خطبه إلى «الشعوب السورية» المتحدة، على شاكلة شعوب روسيا الاتحادية. ثم تراجع عن هذا الوصف عندما انتقده مسؤولون في نظام بشار الأسد لأنه أوحى للمعارضة باقتطاع حصتها من «سورية المفيدة»، أي من سورية التي تضم المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحمص وحماة وإدلب، إضافة إلى الساحل الممتد حول اللاذقية وطرطوس.
بعد طرد «داعش» من العراق وسورية، قررت إدارة الرئيس دونالد ترامب مراجعة موقفها من الدور السوري في الشرق الأوسط، والذي تعتبره شبيهاً بدور ألمانيا داخل أوروبا، أي دور دولة مشغولة دائماً بتحدي جاراتها وإقلاق أمنها في: تركيا والعراق ولبنان والأردن وإسرائيل. واستناداً إلى الأحداث السابقة، فإن الولايات المتحدة تعتبر دمشق عاصمة للتنافس الإقليمي الذي استدعى التدخل الخارجي بهدف ضبط التوتر الذي تنشره في المنطقة. وعليه قررت تأييد مقترحات الجارات المطالبة بسلامة حدودها.
عقب نجاح إيران في تثبيت مواقعها داخل العراق وسورية ولبنان، باشرت طهران في إرسال قوات حرس الثورة إلى الحدود مع إسرائيل. وفي كانون الأول (ديسمبر) الماضي، شوهد قيس الخزعلي، قائد «عصبة أهل الحق» في العراق، يزور الحدود برفقة أحد رجال «حزب الله».
وعلى الصعيد الاستراتيجي، فإن تهديد إسرائيل المتواصل من جانب إيران دفع بنيامين نتانياهو إلى الاتفاق مع الرئيس بوتين على مدّ حدوده الآمنة مسافة أربعين كيلومتراً داخل سورية.
ولم تكن الغارات التي يشنها الطيران الإسرائيلي ضد مستودعات أسلحة تخص «حزب الله» سوى دليل على رفض كل مراعاة لروسيا في منطقة تعتبرها إسرائيل حيوية بالنسبة لأمنها. وأشار المراقبون في حينه إلى أن القصف الإسرائيلي يكشف عمق العلاقة والتنسيق القائم بين روسيا وإسرائيل في شأن الوضع في سورية. وهذا يعني وجود تفاهم بينهما يسمح بحرية التحرك في الأجواء السورية عندما يتعلق الأمر بأسلحة وصواريخ يمتلكها «حزب الله.» أما بالنسبة إلى أمن تركيا، فإن قرار الرئيس رجب طيب أردوغان شنّ حملة عسكرية ضد المقاتلين الأكراد في عفرين لم يكن أكثر من مدخل لتثبيت وجود قواته وتأمين منطقة آمنة طولها أربعون كيلومتراً.
تشير المعلومات إلى أن أردوغان اتخذ قراره عقب إعلان واشنطن إنشاء قوة أمن حليفة على طول الحدود مع تركيا قوامها 30 ألف مقاتل، تحت قيادة «قوات سورية الديموقراطية» (قسد). وتعليقاً على إعلان التحالف، أكدت أنقرة أن قرار واشنطن تدريب عناصر قوة حدودية في سورية خطوة مقلقة وغير مقبولة. لذلك صرح أردوغان بأن بلاده ستواصل التدخل في عفرين عبر عملية «غصن الزيتون»، والتي هي في حقيقتها حركة استكمال لعملية «درع الفرات».
وكانت أوساط ديبلوماسية قد نقلت عن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف قوله إن موسكو نجحت في ضبط تركيا لعدة شهور قبل الاستفزاز الأميركي الأخير. ولمح في حديثه إلى مخاوف بوتين من احتمال نسف «مؤتمر الحوار الوطني» في سوتشي. ويرى المحلل العسكري الروسي ألكسندر غولتس أن ما يحدث في شمال سورية يتوافق مع وجهات نظر موسكو وأنقرة حول كيفية تنظيم السياسة الدولية. لذلك زار موسكو رئيس الأركان العامة في تركيا ورئيس جهاز الاستخبارات بهدف الحصول على موافقة بوتين قبل الغزو. وهذا ما حمل الأكراد على اتهام روسيا بالخيانة. ولكن لموسكو حسابات مختلفة مفادها أن هزيمة الأكراد تجعلهم مستعدين للارتماء في أحضان نظام بشار الأسد. وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها روسيا البعبع التركي لجني مكاسب من الأراضي المستباحة. وتدّعي واشنطن أن روسيا وعدت الأكراد بالحصول على حكم ذاتي شرط التعاون مع الأسد في التحكم بملفي الحدود والأمن.
بقي السؤال المتعلق بالدوافع الحقيقية التي تقف وراء قرار عملية «غصن الزيتون» في عفرين: هل هو قرار مرتجل فرضته سياسة الأمن الداخلي في تركيا؟... أم هو تعبير عن استراتيجية قديمة كانت تظهر وتخبو بحسب العلاقات الاقتصادية؟ يقول المطلعون على مركز القرار في أنقرة إن الاحتمالين مطروحان منذ جنّد الرئيس الراحل حافظ الأسد عبدالله أوجلان، ووضعه في خدمة علاقاته مع تركيا. وقد ارتضى رئيس «حزب العمال الكردستاني» (ب ك ك) بهذا الدور لإيمانه بأن الأسد سيتساهل معه نتيجة نزاعه مع جماعة الإخوان المسلمين.
باشر أوجلان حملاته ضد تركيا عام 1984، متخذاً من منطقة البقاع اللبنانية مركزاً لتدريب وحدات الجهاد، وملاذاً آمناً له ولأنصاره. ولما طلبت أنقرة من واشنطن مساعدتها في البحث عن أوجلان، فوجئت بتزويدها بصور تمثله وهو يخرج من مكتبه في دمشق. وأرسلت تركيا عدداً من الصور إلى حافظ الأسد مع تهديد سافر بغزو العاصمة السورية في حال تمنّع عن تسليم زعيم «حزب العمال الكردستاني». جهاز الاستخبارات السوري وضع خطة لتهريب أوجلان إلى نيروبي في كينيا أي إلى حيث سهّل للاستخبارات التركية خطفه ومحاكمته.
وربما تكون تلك العملية أحد أهم الأسباب التي تقف حائلاً دون عودة المياه إلى مجاريها بين دمشق وأنقرة. ثم جاءت الحرب الأهلية في سورية لتلقي في أحضان تركيا نحواً من ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ. وهي في صدد إعادتهم بصورة تدريجية، خصوصاً بعدما اكتشفت أن بعض عناصرهم ينتمي إلى الاستخبارات، وإلى زارعي المتفجرات في إسطنبول.
مرة أخرى، يكشف راعيا النظام السوري- أي روسيا وإيران- أن دون التوصل إلى سلام دائم فوق أراضي سورية المفيدة مسافة زمنية طويلة... أطول من السنوات السبع التي قضاها هذا الشعب المعذب وهو يهرب من دمار إلى خراب... ومن ملجأ إلى معسكر!
لم يعد الصراع السوري، منذ سنوات طويلة، صراعا داخليا، يجري من حول رهانات سياسية تتجسد في تغيير النظام الاستبدادي، والانتقال إلى نظام سياسي تعددي وديمقراطي، يخرج البلاد والشعب من المحنة التي عاشها خلال العقود السابقة، وأدت إلى الانفجار. فقد تحول بسرعة إلى صراع متعدّد الأبعاد، داخلي وإقليمي ودولي، واتخذ ويتخذ، بشكل متزايد، طابعا شموليا، تلتقي فيه عدة رهانات ثقافية واجتماعية وجيوستراتيجية. ولذلك، بدل أن ينحو إلى الهمود والتراجع، يزداد، مع مرور الوقت، تهيكلا وتعقيدا. ويصبح التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، وأولها الطرف السوري، المعني الأول بهذا الحل، صعب المنال في المدى المنظور، على الرغم من الاستعراضات الكثيرة، وعقد المؤتمرات، وتكرار جلسات الحوار والتصريحات الحماسية لهؤلاء وأولئك.
في خفايا الأزمة المديدة
وفي اعتقادي أن الحرب، المستمرة في سورية منذ سبع سنوات، تعكس تفجر أزمات ثلاث كبرى، ما زالت تعمل منذ عقود طويلة في المنطقة والعالم، وجاءت ثورات الربيع العربي لتفجرها، نظرا لما تمثله المنطقة من موقع في توازنات علاقة القوة والنفوذ الإقليمية والدولية. وهي مستمرة من خلال الحرب السورية التي تحولت إلى حاضنة لها جميعا، ومسرح نشر واستعراض القوى المتنازعة فيها، نظرا لما تمثله سورية أيضاً من موقع متميز على تقاطع هذه الأزمات الثلاث، وباتصال مباشر بقواها الرئيسية الإقليمية والدولية.
الأولى هي أزمة نظام الاستبداد الذي عم المنطقة، وحكم شعوبها بأساليب القرون الوسطى ووسائلها، من وراء شعارات التقدم والاشتراكية والقومية والحداثة لدى بعضهم، والحفاظ على الهوية الدينية والإرث الثقافي لدى البعض الآخر، والصحوة الإسلامية والعداء لإسرائيل والصهيونية والغرب لدى البعض الثالث. وقاد، في جميع البلاد، بدرجات متفاوتة ولكنها متماثلة، إلى حكم القلة واحتكار السلطة. وأدّى، مع مرور الوقت، إلى قطيعة كاملة بين الطبقة الحاكمة والمجتمع بأغلبيته، لا يضمن تجاوزها سوى الاستخدام الموسع والشامل والمتعدّد الأشكال للعنف المادي والمعنوي، وقهر المختلفين في الرأي وسحق المعارضين والمحتجين وقتلهم إذا احتاج الأمر، أحياناً بالسر وبأعداد محدودة، أما الآن فعلنا وفي عمليات إبادة جماعية.
وفي سياق هذه القطيعة والطلاق بين الطبقات الحاكمة والشعب، تعطلت شروط التنمية والاستجابة حتى المحدودة لمطالب المجتمعات وتطلعاتها، وغزا البؤس والفاقة والجهل قطاعاتٍ متزايدة من السكان، وزاد التوتر واللجوء إلى العنف. وأصبح الفساد المستشري في دوائر السلطة والإدراة والمؤسسات المرتبطة بها الركن الثاني للنظم القائمة بعد استخدام العنف. وتحول من فساد شخصي وعرضي، يعكس أنانية الأفراد وغياب شعورهم بالواجب والمسؤولية وانعدام النزاهة، إلى منهج في القيادة، بمقدار ما أصبح شراء الضمائر وإرضاء فئات معينة من السكان الوسيلة الوحيدة لبناء قاعدةٍ اجتماعيةٍ، لنظام يعتمد أكثر فأكثر على الطبقة الزبائنية، بعد أن فقد مقدرته على التواصل مع المجتمع، والرد على مطالب طبقاته وفئاته المختلفة، وقطع الأمل بإمكانية توفير وسائل كسب تأييدها وثقتها.
والأزمة الثانية هي أزمة النظام الإقليمي الذي بقي كسيحاً، بسبب فشل الدول العربية في تفعيل جامعة الدول العربية، وإيجاد حل للصراعات القومية والدينية، والذي انهار أيضا على إثر الصراعات التي أطلقها انفجار الثورات، ضد النظم الاستبدادية والفاسدة والعاجزة معا، والتي فتحت معركة الصراع على الهيمنة الإقليمية والسيطرة على المشرق بين القوى الكبرى المتنافسة في الإقليم، فقد دفع القلق الذي استبد ببعض النظم جرّاء انتشار هذه الثورات إلى الخروج من حدودها، من أجل خوض معاركها على أراضي البلاد الأخرى، بدل أن تضطر إلى خوضها على أراضيها، وقطع الطريق على تفجر ثوراتها الشعبية، كما أطلق انهيار بعض الدول أمام ثوراتها العنان، لدى بعض النظم التي لا تزال تتمتع بحد من التماسك، لأحلامها الإمبراطورية واستغلال الأوضاع القلقة لتحقيق أهدافها التوسعية، أو بسط سيطرتها على مواقع مختارة، أو اقتطاع مناطق نفوذ لها في محيطها والمنطقة. وفتحت هذه الصراعات المتقاطعة الحرب من أجل إعادة ترتيب المواقع والمراكز الاستراتيجية. وكانت أيضا امتحانا لقوة التحالفات القائمة بين دول الإقليم، في ما بينها، وبينها وبين القوى الدولية. وهي حرب طاحنة للسيطرة على الشرق الأوسط، تكسرت فيها جميع المواثيق والالتزامات الدولية، وتجاوز عنفها كل حدود الانتهاكات التي عرفتها الدول المتحضرة في العصر الحديث.
والأزمة الثالثة هي أزمة نظام العلاقات الدولية التي لا تزال تتفاقم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وفشل الولايات المتحدة الأميركية في فرض قيادتها العالمية، بعد خسارتها الحروب العديدة، وإخفاقها الذريع في إدارة النزاعات الدولية في أفغانستان والعراق وليبيا وكوريا الشمالية وإيران وغيرها، وإضاعة حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يمثل القوة العسكرية الدولية الأكثر تأثيرا في العالم هويته، وعجز أعضائه عن التفاهم على أهداف وأجندة واحدة، بالإضافة إلى تعطيل مؤسسات الأمم المتحدة وشللها. ولا شك أن حدة النزاعات الدولية التي جرت ولا تزال في المشرق، والتي استدعت وضع موسكو 11 فيتو ضد قرارات دولية إجماعية، في ما يتعلق بالمسألة السورية وحدها، أجهزت على آخر ما تبقى من دور للامم المتحدة ومجلس الأمن. وهذا ما أكده فشله في تطبيق قراراته والنجاح في أي مبادرة أو جهد لتقديم حماية للمدنيين المعرّضين لحرب إبادة جماعية، وتنفيذ قرار كسر الحظر والحصار المفروض على المدن والقرى والأحياء المحرومة من الغذاء والدواء سنوات عديدة متواصلة. وكان ذلك كله من الأسباب العديدة التي أفقدت المنظمة الدولية الراعية للسلام والأمن الدوليين صدقيتها، وحرمتها من المكانة والرمزية التي كانت تحظى بها، حتى أصبح نشطاء حقوق الإنسان يتردّدون في الكتابة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، لحثه على القيام بأي جهد أو مساعدة.
والواقع أن انهيار القيادة الأميركية للسياسة الدولية بدل أن تفتح الطريق أمام ظهور قيادة جديدة دولية أكثر اتزانا وحيادية وتعددية، وقبولا من المجتمع الدولي، أي أكثر صدقية وفعالية، أثارت شهية دول عديدة، صغيرة وكبيرة، لملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الأميركي النسبي، والسعي إلى فرض أجندتها الخاصة، وإبراز تحرّرها من الالتزامات القانونية وتحديها ما كان يسمى الشرعية الدولية. وأدى فشل محاولات إصلاح نظام الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتوسيع دائرة عضويته، وإدخال دول جديدة إليه، إلى ما يشبه العودة بحقل العلاقات الدولية إلى ما قبل اتفاقية ويستفاليا في القرن السابع عشر التي كرست، مبدئيا، قاعدة احترام سيادة الدول، وحقها في الحفاظ على حدودها الجغرافية، وأعادت إلى الحياة في القرن الواحد والعشرين الحق القديم في الفتح والغزو، وضم أراضي الغير، ومكافأة القوة، والاعتراف بما تحققه من مكاسب، بصرف النظر عن الخاسرين والخسائر الجانبية.
سورية مسرح لكل الحروب
تلتقي هذه الصراعات والحروب الطويلة الثلاث الجارية اليوم، وتتقاطع على الأرض السورية، ومن حول القضية السورية. تدافع نظم الاستبداد المنقطعة عن شعوبها والخائفة من انتفاضاتها، والمستعصية، في الوقت نفسه، على أي إصلاح، عن نفسها بشراسةٍ لا حدود لها، وتجعل من الصراع الداخلي السوري ملتقى حروبٍ أهلية وإقليمية، متقاطعة، تشارك فيها قوى كبرى، وتصرف عليها موارد غير معهودة في أي صراعات سياسية، أو ثورات شعبية ضد نظم استبدادية. في سورية، لا يقتصر الأمر على دفاع نظام الأسد الهزيل عن نفسه بقواه الكبيرة التي راكمها خلال نصف قرن، وأعدها لهذا الحدث الجلل، وإنما يشارك في هذه الحرب، لكسر ظهر الثورة السورية، وتلقين السوريين، ومن خلالهم شعوب المنطقة بأكملها، درسا لا يمكن نسيانه، في ثمن الحرية وتكاليفها المادية والبشرية، النظام التيوقراطي الإيراني والنظام الروسي الذي يختزل بنفسه تاريخ القيصرية والإرث السوفييتي الشمولي في الوقت نفسه، ومعهما نظم المنطقة المختلفة الأخرى، بعضها لسحق إرادة الثورة الشعبية، وبعض آخر لاحتوائها واحتواء مضاعفاتها الإقليمية، كدول الخليج أو أغلبها.
ومن وراء هذه الحرب الهادفة إلى تقويض إرادة الثورة الشعبية التي أصبحت هاجس نظم المنطقة، تدور رحى حرب السيطرة الإقليمية التي تهدف هي نفسها أيضا إلى تعزيز مواقع الدول الكبيرة، واحدتها تجاه الأخرى، وضمان سيطرتها على مصادر الخطر، أو تعزيز قوتها بتحالفات موسعة، أو بالسيطرة على دول وعواصم أخرى، ومقايضتها مقابل تنازلات أو مواقع نفوذ أو أدوار أفضل على رقعة السياسة الدولية. ومن هنا، تبدو الحرب الإقليمية كأنها امتداد للحرب السورية الداخلية، بمقدار ما يرتبط الصراع على السيطرة الإقليمية بالسيطرة على سورية، ويتفق سحق الثورة الشعبية فيها، مع تعزيز قوة النظم الاستبدادية المهدّدة من التطورات المقبلة، وتعزيز نفوذها واستقرارها.
لكن الحرب الأعمق والأقل ظهورا (أو شفافية بالأحرى) هي الحرب الدولية لإعادة توزيع دوائر القوة والنفوذ بين الدول الكبرى المتنافسة على السيطرة العالمية. وتتحول الحرب السورية إلى امتحانٍ لمقدرات الدول الكبرى على القيادة والمبادرة والسيطرة. لا يعني هذا أن من يسيطر على سورية يضمن الوصول إلى القيادة العالمية، أو تثبيت ادعائه لها، لكنه يعني تأكيد دوره وحقه في المشاركة في صناعة السياسة الدولية، والشرق الأوسط هو إحدى الساحات النادرة المتبقية لإثبات الجدارة في الصراعات الخارجية، نظرا لما يمثله من ساحة مفتوحة لا تضبط العلاقات والنزاعات فيها أي اتفاقيات، ولا تتمتع بأي شكل من التنظيم الإقليمي، وكذلك لما تتميز به من موقع جيوسياسي وجيوستراتيجي وموارد استراتيجية حساسة، وما ينطوي التحكم بمساره ومصيره من رهاناتٍ تتجاوز الشؤون الاقتصادية والطاقة، وتمتد إلى مشكلات الأمن العالمي والخيارات (أو التوجهات) الفكرية والثقافية الدولية.
باختصار، أصبحت المعركة الدائرة في سورية منذ سنوات سبع معركة جامعة لثلاثة أنواع من الصراع:
الصراع على مستقبل النظام السياسي السائد في المنطقة، وهو نظام متهافت، ومنخور، ومهدد بالسقوط. ومن وراء ذلك، ولهذا السبب أيضا، معركة السيطرة الإقليمية، أي تحديد من هي القوى الإقليمية التي سوف ترث نظام ما بعد الاستبداد في المنطقة، وفي أي اتجاه، ولمصلحة أي قوة إقليمية سوف تصب، إيران أو تركيا أو إسرائيل أو التكتل العربي الذي يكاد يعلن عن نهايته من دون أن ينبس ببنت شفة. لكن مصير الشرق الأوسط، ونوعية القوى التي ستسيطر عليه، والأيديولوجيات التي ستهيمن على شعوبه ليست مسألة شرق أوسطية فحسب، لكنها تدخل أيضا في حسابات تحولات القوى الدولية. فمن خلال حسمهم المعركة السورية والإقليمية، يسعى الروس إلى موضعة أنفسهم في موقع أقوى مما كانوا يملكونه حتى الآن في سلم تراتب القوى العالمية، ويطمحون من خلال انتصارهم فيها إلى أن يفرضوا أنفسهم شريكا في السياسة الدولية، ويعترف لهم بدور أصيل في توجيه التوجهات والخيارات الكبرى، والمساهمة في رسم أجندة السياسة العالمية.
المِحنة السورية المستمرة منذ نصف قرن، لكن التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من العنف، ليست من إنتاج الأسد ونظامه الدموي فحسب، لكنها الثمن الضروري لبقاء نظام الولي الفقيه في إيران وجميع النظم الاستبدادية الفاسدة والعاجزة عن الإصلاح. وجميعها تدافع في الحرب السورية عن نفسها، وتتفاهم على قطع الطريق على أي تغيير. الشعب السوري لا يدفع ثمن حريته فحسب، ولكن حرية جميع شعوب الشرق، وهذا هو أحد أكبر أسباب اشتداد معاناته، وتمديد أجل الحرب.
وبالمثل، ليس صعود القوة الإيرانية على حساب الكتلة العربية، وفي مركزها اليوم دول الخليج الغنية، هو السبب الرئيسي في الانهيار الإقليمي الراهن، وإنما تراجع قوة دول جامعة الدول العربية، أو بالأحرى فشلها، وإخفاق العرب في بناء نظام للأمن والتعاون بين الدول الإقليمية، يساهم في تكوين منظومة للتعاون الإقليمي، ويمنع حصول فراغ القوة الذي أثار شهية إيران، والدول الأخرى الإقليمية وغير الإقليمية. والشعب السوري يدفع أيضا من دم أبنائه ثمن هذا الفشل العربي والفراغ الاستراتيجي الذي تركه في المنطقة، وما أدى إليه من خلل في توازنات القوة الإقليمية، ودعوة إلى الطامحين والطامعين لاستغلاله لصالحهم.
ويسري المنطق نفسه على ما نشهده من تغوّل روسي في الفضاء المشرقي على صعيد العلاقات الدولية، فلا يرتبط هذا التغول بسياسة النأي بالنفس التي راعت بها واشنطن المصالح الإيرانية، وشجعت طهران على انتهاك الأعراف والمواثيق الدولية، والتوسع في الإقليم بوسائل لاشرعية، وإنما هو ثمرة انفجار أزمة العلاقات الدولية، وانقسام العالم من جديد بين محورين يتنازعان السيطرة والتوجهات العالمية السياسية والأيديولوجية، محور روسيا إيران الصين ودول البركس ومحور الدول الغربية واليابان وبعض الدول الشرق أوسطية. ويعود جزء من المحنة السورية أيضا إلى هذا الاختلال المتزايد في النظام الدولي، والفوضى المتنامية في فضائه على حساب القوانين والمواثيق والأعراف المتهاوية.
ليس ما يجري في سورية حربا عالمية تشارك فيها مجموعة كبيرة من الدول لاقتسام النفوذ والسيطرة والموارد، لكنها حرب عولمية، تتداخل فيها معارك السيطرة السياسية والإقليمية والعالمية. وهي أول مثال نموذجي لهذه الحرب التي تتفاعل فيها الصراعات على جميع المستويات، ويشعر فيها الجميع بالانخراط حتى من دون المشاركة في جهدها العسكري.
لم تكن سورية السبب في تفجر هذه الأزمات، لكنها ضحية التقائها على أرضها، بمقدار ما وجدت، من حيث الجغرافية السياسية والتوقيت الزمني، على مفترق طرق تقاطعت فيه جميع مستوياتها، في نقطة حساسة من التوازنات التي تقوم عليها النظم الثلاث المأزومة والمتفجرة: السياسية والإقليمية والدولية، أعني نظام الاستبداد المشرقي المهدد بالثورات الشعبية، والنظام الإقليمي المجتاح من قوى طهران الظلامية، والنظام الدولي الذي فقد توازنه القديم مع تنامي عجز الولايات المتحدة عن القيادة بل فشلها، وانحسار قوة الغرب وهيمنته العالمية، وبروز شهية القوى الجديدة، الصاعدة أو الناقمة، وإرادتها للتقدم ومحاولة السيطرة عليه، أو تعديل توازنات القوى لصالحها فيه.
نحو انتداب دولي متعدّد ولا حلول
ليس هناك حل سريع ولا منفرد لهذه الأزمات الثلاث الكبرى. ومما يزيد من تعقيد المشكلة، وتضييق فرص الحل الرهانات الإقليمية والدولية المتنامية التي تدخل الآن في الصراع، والتناقض الكبير في تصور كل منها لمصالحها الاستراتيجية والأمنية، وادّعاء بعضها الحق في المشاركة في تقرير مصير سورية ومستقبل أبنائها، إما لما قامت به من استثمارات قبل الحرب وبعدها، أو لما يرتبط به مشروعها من حاجةٍ إلى الفضاء السوري، أو لقربها منها، أو ولاء نظامها المتهاوي السابق لها. هكذا لا يوجد حل سوري يمكن أن يرضي طهران التي تعتبر سورية منطقة نفوذ شرعي ودائم وكامل لها، بسبب ما استثمرت فيها منذ عقود، وما تعتقد أنه حقها في الدفاع عن نظامٍ موال لها وحليفها، وصيدها الأثمن في السنوات العشر الماضية، وأن تقبل به، في الوقت نفسه، دول الخليج العربي والسعودية التي تعتبر سورية، عن حق، خط الدفاع الأول عن أمنها الوطني، وكذلك تركيا التي كانت سورية المدخل الرئيسي لها إلى المشرق العربي، بعد قطيعة تاريخية طويلة، وسوقا مفتوحا لبضائعها، وشريكا اقتصاديا واعدا منذ توقيع اتفاقية التجارة الحرّة في منتصف العقد الأول من هذا القرن، وما بالك بقبول إسرائيل التي ترى في طهران النازعة إلى امتلاك السلاح النووي الخطر الأكبر عليها في المنطقة، وتعتبر أي وجود لإيران وحرسها الثوري ومليشياتها في سورية خطا أحمر، ولا تتردّد في التدخل في أي وقت لضرب مواقع لمليشياتها ولحزب الله في الأراضي السورية.
ولا يختلف الامر بالنسبة للمحورين الدوليين اللذين يضمّان، من جهة، تحالفا روسيا إيرانيا، وتقف وراءه الصين وكبريات دول أميركا اللاتينية، والمحورالغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد تحولت سورية، في نظر موسكو، إلى المدخل الرئيسي لاعادة التوازن في العلاقات الروسية الغربية، وربما، في ذهنها، لقلب الطاولة على الغرب، في منطقةٍ حساسة من الناحية الجيوستراتيجية، واستعادة مكانتها الدولية، وتحسين موقفها التفاوضي على صعيد السياسات الدولية، بعد تهميشها الطويل منذ سقوط جدار برلين، في الوقت الذي لا ترى الدول الغربية، والأوروبية بشكل خاص، في سورية شريكا تقليديا تاريخيا، كانت في أساس انشائه كدولة في العصر الحديث، وإنما، أكثر من ذلك، مفتاحا أساسيا للحفاظ على سيطرتها التاريخية على أهم عقدة مواصلات جيوسياسية ومسرح لاستعراض القوة والنفوذ في الوقت الراهن، من دون الحديث عن موارد المشرق الاقتصادية وأسواقه وموقعه في الميراث الثقافي العالمي وإرثه الديني.
لهذه الأسباب، لن يكون من السهل التوصل إلى حل نهائي قريب للحرب السورية التي لم تعد سورية فحسب، لا بالوسائل السياسية عبر المفاوضات، سواء أكانت في سوتشي أو أستانة أو جنيف، ولا بالوسائل العسكرية. ما نحن مهدّدون بالحصول عليه في الوضع الراهن هو تكريس الوضع القائم مع صراعاتٍ أخيرةٍ على رسم حدود مناطق النفوذ، وتحويل سورية إلى جزر معزولة، أو مناطق شبه آمنة، تضمن الحد الأدنى من عودة الحياة الاقتصادية للبلاد، تحت سلطات انتداب متعدّدة، تحتكر وظائف السيادة واستخدام القوة، تنسق فيما بينها وتتنازع، في الوقت نفسه، على إدارة الأزمة المستديمة، بانتظار أن تتبلور معالم النظام الدولي والنظام الإقليمي الجديدين في امتحان القوة المتصاعد الذي أطلقه انهيار التوازنات القديمة.
السؤال الأهم هو: ماذا ينبغي علينا، نحن السوريين، أن نفعل في هذه الحالة، والعرب ليسوا بعيدين عنا، لمواجهة هذا المصير، والانتقال من وضعنا الراهن كضحية للصراعات الإقليمية والدولية إلى فاعل فيها؟
أول ما يلفت النظر في "لا ورقة" وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، المعلنة أخيرا، إعلانها طيّ صفحة ما سمي "الانكفاء الأميركي"، والإبقاء على وجود عسكري أميركي مؤثر في أفغانستان والعراق وسورية. هذه الخطوة هي "مبدأ ترامب" الذي أقره جنرالاتٌ تزايد نفوذهم في السياسة الخارجية الأميركية بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة، وتم التوصل إليه عبر مراجعاتٍ أنجزتها العسكرية الأميركية، أنهت الميل إلى "الانكفاء" من سياسات أميركا الخارجية، واستعادت الميل إلى التدخل المفتوح في الخارج، الذي طُبق جزئيا قبل مغادرة باراك أوباما البيت الأبيض، وتُرجم إلى تموضع عسكري وازن في سورية، ما كان عسكر واشنطن ليفوّتوا فرصة احتلاله بديلا استراتيجيا للعراق، بما له من أهمية استثنائية بالنسبة لسيطرة واشنطن على المجال الأوراسي بمجمله.
تشير "لا ورقة" تيلرسون إلى أنه ستكون هناك انعطافة مفصلية في السياسة الأميركية، وأن تحولا بعيد المدى يمكن أن يترتب عليها بالنسبة للمنطقة العربية/ الإسلامية عموما، ولسورية خصوصا، التي تعاني الأمرّين من عدوان عسكري روسي على شعبها، يحتل مناطق عديدة منها، مهمته فرض حل عسكري/ سياسي مخالف للقرارات الدولية، تعمل موسكو للانفراد بتحقيقه وجني مغانمه، بسحق سورية عسكريا وسياسيا، وفرض بشار الأسد رئيسا على شعبها الرافض له ولنظامه، مكافأة له على بيعها وطنه نصف قرن، فترة قابلة للتجديد كل خمس وعشرين سنة.
تضمر سياسة واشنطن الجديدة منطوياتٍ متعدّدة، يجب أخذها بالحسبان في أي جهد وطني يسعى إلى تحقيق أهداف السوريين في الحرية والكرامة، أهمها:
أولا، حجم الوجود العسكري الأميركي الحالي غير الشرعي في شمال سورية وجنوب شرقها وجنوب غربها، والموزع على عدد كبير نسبيا من القواعد العسكرية، ليس نهائيا، بل هو حجمٌ أولى يرجّح أن يبني عليه حضور مستقبلي موسع ومديد، تقول "لا ورقة" تيلرسون إن دوره سيتخطّى التصدي للمشكلات المحلية إلى مواجهة المشكلات الإقليمية الكبرى، مثل مشكلة انتشار إيران خارج حدودها، الذي قرر ترامب إخراجه من العراق ولبنان واليمن، ناهيك عن سورية ومنطقة شرق المتوسط والخليج العربي. يحمل الوجود العسكري الأميركي في سورية طابعا دائما، وليس صحيحا أن غرضه هو النفط والغاز، كما تقول تحليلات سورية عديدة. وهو مسألة وطنية بامتياز، ومن واجب السوريين المبادرة إلى تقويضه من خلال عقد اجتماعي/ سياسي وطني/ ديمقراطي، ينتجه حوار وطني شامل، تشارك فيه مكونات جماعتهم الوطنية جميعها، خصوصا منها عرب سورية وكردها، يخرجهم معا من احتجاز استبدادي، سلبهم حقوقهم بوصفهم مواطنين أفرادا، ويعترف بحقوق الكرد القومية، باعتبارهم مكونا وطنيا رئيسا، لتنتفي بتفهمهم قدرة أميركا على التلاعب بهم من جهة، وبوحدة سورية وسيادتها من جهة أخرى، وكي يظهر وجودها العسكري في بلادنا على حقيقته احتلالا يرفضه السوريون.
ثانيا، لن تنفرد موسكو من "لا ورقة" تيلرسون بحل المسألة السورية. ولن تنجح في بلوغ أهدافها الخاصة في سورية وجوارها، لأن واشنطن لن تدير ظهرها لسورية وتعقيداتها بعد الآن، ولن تسمح بتحقيق موسكو مراميها من دون تفاهم معها يعطل جهودها الانفرادية، ويقنعها بقبول حصة من يحتل الموقع الثاني في سورية، وضمن التراتب الدولي. مع هذه الـ "لا ورقة" ستبدأ متاعب موسكو السورية. ومن المرجح جدا أن يكون الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد قرأ بقلق رسالة الطائرات بلا طيار التي "غزت" قاعدتيه في حميميم وطرطوس، وأفهمته كم هو هش وضعه السوري، وكم يمكن أن يكون الخطر عليه كبيرا، إن هو تمسك بوهم انفراده بالحل، وقدرته على إبقاء بشار الأسد في السلطة، بعد أن جعل الروس وجوده فيها مسألة محسومة، ليس باستطاعة أحد تحدّيها. ولعله لافتا أن رسالة الطائرات سبقت بأيام قليلة الإعلان عن "لا ورقة" تيلرسون التي حملت المضمون نفسه، وجوهره تحدّي روسيا في سورية، ورفض التعامل معها باعتبارها صاحبة قرارات تلزم الجميع، بما في ذلك أميركا التي ينتشر وجودها العسكري في مساحة تبلغ قرابة 30% من المساحة الإجمالية لسورية، فصلتها واشنطن عن وطنها بخط أحمر هو وادي الفرات، وحذّرت موسكو والنظام وإيران من الاقتراب من الوادي، ناهيك عن تخطيه، لتخرج بذلك المنطقة من الحل الروسي الذي أعلنت طائراتها بلا طيار أنه لن يكون انفراديا، بما أنه قد يتحول، في أي وقت، إلى عبء ثقيل على موسكو وطهران، لأسباب منها أن البيت الأبيض لن يسمح بإعادة إعمار سورية أو بسحب قواته منها، في حال كان الحل لا يخدم المصالح الأميركية، أو يضمن الاتفاق على انتقال سياسي بعيدا عن الأسد. بهذه الرسالة المتعدّدة المضامين، وبانتشارها العسكري الواسع، تبلغ أميركا الطرف الروسي أن الاعتراف بحقوقه، ومساعدته على بلوغها، يشترط اعتماده حلا دوليا يخدم مصالحها، وإلا دار في حلقةٍ مفرغة، وفشل في نيل ما يرضيه.
ثالثا، على الرغم من أن العرض الذي تقدمت به الـ "لا ورقة" يبدو قريبا من مسار الحل الروسي ومفرداته، في ما يتصل بالدستور والانتخابات ودورهما في إلغاء "الهيئة الحاكمة الانتقالية" التي تعطيها وثيقة جنيف، والقرارات الدولية، حق تكليف لجان مختصة بصياغة الدستور والإشراف على انتخابات حرة، فإن هناك تباينا مهما في فهم الطرفين الدوليين للدستور والانتخابات، يرجع إلى حقيقة جوهرية، هي أن أميركا أخرجت، في استراتيجيتها الجديدة، بشار الأسد من السياق السوري الداخلي، وربطته بحربها على الإرهاب بصفته طرفا في نسيج إرهابي متكامل، يضمه إلى إيران وداعش، سيكون مستبعدا وضع دستور يحميه، بما أن القضاء عليه سيكون مضمون (وهدف) المرحلة المقبلة من الحرب ضد الإرهاب، والتي سينتقل مركز ثقلها من "داعش" إليه شخصيا، وإلى وجود طهران العسكري في سورية، بعد ما حققته الحرب ضد "داعش" من إنجازات أدت إلى تقليص وجودها، وتحرير مدن العراق وسورية الكبيرة، التي احتلتها، وصار ضروريا استكمالها بالتخلص من الأسد، وبإخراج طهران ومرتزقتها من سورية، وفي مقدمتهم حزب الله. هذه النقلة، إن تمت، أوضحت معنى الانتقال السياسي المطلوب للحل، وحوّلت وظيفة الدستور الجديد من إبقاء الأسد، كما ترغب روسيا، إلى إطاحته كما تقول "لا ورقة" واشنطن، باعتباره ركيزة للإرهاب وهدفا أميركيا في الطور المقبل من حرب أميركا لصيانة أمنها القومي.
هل يستهدف الفهم الأميركي للدستور إنقاذ الأسد، كما يريد الروس، أم التخلص منه، لاستحالة وجوده رئيس دولةٍ هو في الوقت نفسه إرهابي يهدّد العالم؟ هذه المسألة يجب على الهيئة العليا للمفاوضات، وأطراف العمل الوطني، مناقشتها مع الأطراف الدولية والأمم المتحدة، من منظور صلتها بالانتقال السياسي: مرجعية للقرارات الدولية التي تعترف بحقوق الشعب السوري، بما أن من غير المعقول أن تخرج واشنطن الأسد من سياقه السوري، وتسقط شرعيته باعتباره إرهابيا محليا وإقليميا ودوليا، ثم توافق على بقائه رئيسا لسورية. بهذا الربط بين الأسد والإرهاب المحلي والعابر لسورية، يمكن فتح باب إخراجه من السلطة، وإيجاد حل يرضي السوريين، ويلبي مطالبهم.
رابعا، ستطرح هذه السياسة "الجديدة" علينا مخاطر وتحديات عديدة، إذا لم نواجهها بنجاح، بقينا ضحايا الآخرين ومصالحهم، وجذبنا إلى مواقع تمكّن واشنطن من التلاعب بنا وبثورتنا ووطننا، كما فعلت إلى اليوم. كي نتفادى هذا المصير، من المحتم تخلينا عن نهج المعارضة إبّان السنوات السبع الماضية الذي فشل أيما فشل، في كل صغيرة وكبيرة عالجها، وكلف شعبنا أنهارا من الدماء، لو كانت سياساته وأساليب عمله صحيحة، لأسقطنا النظام.
تغيّر واشنطن سياساتها، مع ما يحتمه ذلك من تغيير في سياسات أطراف الصراع جميعها، ويفرضه من تطوير في سياسات المعارضة، تحتوي بواسطته مستجدات الموقف الأميركي، وانعكاساته العربية والإقليمية والدولية، فإن فشلت في ذلك، فوتت على شعبنا فرصةً قد تكون الأخيرة للخروج من مأزقٍ حشرته فيه عوامل عديدة، منها أخطاؤها، فإن لم نتخلص منها لن يبلغ شعبنا حريته، وسيبقي خاضعا لطغاته ومستبديه، في السلطة كما في المعارضة.