ابتكر المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا تعبير «اللا ـ ورقة» لوصف ورقة تقدم بها، في إحدى جولات مفاوضات جنيف، كانت عبارة عن مقترحات للنقاش الداخلي بين الطرفين السوريين المفترضين في المفاوضات، ولطالما كانت هذه، في حقيقتها، «لا ـ مفاوضات» على منهج الترمينولوجي الخاص بديمستورا. فالوفدان لا يلتقيان وجهاً لوجه، ويقوم الوسيط الأممي العجوز بدور المكوك النشط بين غرفتي الوفدين، ناقلاً الأفكار والمقترحات والردود المتقابلة بينهما. وتظهر «اللا ـ نتائج» التي انتهت إليها الجولات المتتابعة لمسار جنيف كم كان كل ذلك عبثياً وبلا طائل. ذلك لأن الوفد الممثل للنظام لم يكن يحضر عن قناعة بالبحث عن حل سياسي، بقدر ما كان يكرر «ثوابته» التي يمكن اختصارها في الشعار الشهير «الأسد أو لا أحد»، في الوقت الذي تواصل قواته المعززة بالميليشيات الإيرانية والطيران الروسي «حرق البلد» على ما ذهب إليه الشعار الثاني الملازم للأول.
برغم عبثية مسار جنيف، كان ما يميزه عن المسارات البديلة التي أخذ الروس يطرحونها منذ سقوط حلب، هو الدور المحوري للأمم المتحدة، والمظلة السياسية التي توفرها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وقرارات هذا المجلس التي تبقى، برغم كل ما يمكن أن يقال بحقها، مرجعية متعددة الضامنين، وتعكس موازين القوى الدولية القائمة. في حين أن مسارات آستانة وسوتشي تعبر، في أحسن الافتراضات، عن تحالف ثلاثي روسي ـ إيراني ـ تركي، وقائمة أساساً على الإرادة الروسية المنخرطة في الحرب لمصلحة النظام الكيماوي.
أطلق بوتين فكرة مؤتمر سوتشي، بدايةً، بعد إعلان انتصار قواته من قاعدة حميميم على شاطئ المتوسط، بحضور تابعه السوري بشار الأسد. «مؤتمر الشعوب السورية»، كما أطلق عليه في البداية، كان فكرة طموحة أراد منها بوتين تظهير انتصاره العسكري سياسياً، في وقت كانت فيه الإدارة الأمريكية غارقة في مشكلاتها الداخلية المتعلقة بشرعية سيد البيت الأبيض المتهم بالاستفادة من خدمات روسية في حملته الانتخابية ضد المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. ثم غير الروس اسم المؤتمر بسبب اعتراضات كل من النظام والمعارضة اللذين لا يستسيغان تعبير الشعوب السورية المتعارض مع العقيدة الراسخة بصدد «الوحدة الوطنية». فأصبح «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في استعادة لاسم اجتماع مماثل جرى، في صيف 2011 في دمشق، برئاسة فاروق الشرع.
في غضون ذلك أطلقت الإدارة الأمريكية رؤيتها الخاصة بشأن الصراع في سوريا، وعادت بزخم إلى الحضور في الميدان وفي أروقة الدبلوماسية. فأعلنت أن قواتها وقواعدها العسكرية القائمة شرقي نهر الفرات وشماله، باقية إلى أجل غير مسمى. وحددت أهدافها بمواصلة مكافحة الإرهاب حتى ضمان عدم عودة «الدولة الإسلامية»، ومواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، وضمان الوصول إلى حل سياسي مستدام، وفقاً للقرارات الأممية ذات الشأن، يتضمن، في نهاية المطاف، طي صفحة حكم عائلة الأسد. وخطت واشنطن بعض خطوات في اتجاه تطبيق رؤيتها هذه، منها الإعلان عن تشكيل جيش من 30 ألف مقاتل في منطقة نفوذها، وعقد اجتماع خماسي في واشنطن لمجموعة اتصال دولية جديدة بشأن سوريا، بموازاة الثالوث الروسي ـ الإيراني ـ التركي وفي مواجهته، وإعادة فتح ملف جرائم السلاح الكيماوي التي ارتكبها النظام منذ 2013 إلى اليوم.
هذه التطورات شجعت المعارضة السورية على اتخاذ قرارها، في اللحظات الأخيرة، بمقاطعة اجتماع سوتشي، مع مساندة فرنسية ـ أمريكية، إذ اقتصر حضور هاتين الدولتين على إيفاد مراقبين. وهكذا بدا أن اجتماع سوتشي تم إفشاله قبل انطلاقه، وبخاصة بعدما سبقه، بأيام، مؤتمر فيينا في إطار مسار جنيف، برعاية أممية ودولية. كان بوسع روسيا التغطية على هذا الفشل المبكر بتأجيل «سوتشي» مرة أخرى، بدعوى وجوب «الإعداد جيداً». لكنها لم تفعل، ربما بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي يريد بوتين دخولها بزخم تحقيق إنجاز سياسي يتوج «نصره» العسكري على سوريا، فلم يبق ما يكفي من الوقت لإنقاذ المؤتمر من الفشل، خاصةً بعد اتضاح نوايا واشنطن الجديدة. حتى اللحظات الأخيرة راهن الروس على كسر إرادة الهيئة العليا للمفاوضات، بالتهديد والوعيد، أو بإغراء وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية. وإذ أعلنت «الهيئة» المعارضة رفضها حضور اجتماع سوتشي، عادت حمم نيران النظام تصب على الغوطة المحاصرة. ومن جهة أخرى تمكن الروسي من إحضار بعض أعضاء الهيئة (منصة موسكو) المحسوبين عليها أصلاً.
لكن العقبات أمام لا ـ مؤتمر سوتشي لم تقتصر على الهيئة العليا والأميركيين والفرنسيين، فقد برزت مشكلات كبيرة من داخل جماعة سوتشي نفسها: تركيا التي اعترضت على وجود الإرهابي معراج أورال المتهم بتفجيرات مدينة الريحانية، في ربيع 2013، التي راح ضحيتها 52 قتيلاً من المدنيين، فضلاً عن مجازر بانياس الطائفية. ووفد الفصائل السورية التابعة لأنقرة الذي رفض مغادرة المطار وقاطع اللا ـ مؤتمر في آخر لحظة، في حين فوّض أحمد طعمة الوفد التركي أن يتكلم باسمه، على ما نقل عنه. (كان الرد الروسي على تلكؤ أنقرة فورياً وقاسياً: اعترضت نيران الطيران الروسي ومدفعية ميليشيات النظام الكيماوي، قافلة عسكرية تركية كبيرة متجهة من شمال محافظة إدلب إلى جنوب مدينة حلب. الحصيلة: قتيل وجريحان من القافلة التركية. وصلت الرسالة، فشارك الوفد التركي في اللا ـ مؤتمر).
كل هذه التفاصيل كانت كافية وتزيد ليعلن عن فشل موسكو المدوي فيما أرادته من هذا الاجتماع المصمم، أصلاً، للحصول على موافقة المجتمعين الـ1600 على مخرجات أعدت مسبقاً لتعويم «الحل» الروسي القائم على توثيق «النصر» العسكري. ولعل في تصريحات الناطق الروسي بشأن «تسليم السلطة لديمستورا» لإيجاد حل سياسي للصراع السوري في جنيف، ما يطابق إعلان الفشل بصورة مواربة. «لجنة تعديل الدستور» المنبثقة عن اللا – مؤتمر تتألف من 150 شخصاً «ستضم أيضاً معارضين قاطعوا سوتشي» على ما قال لافروف، سيرأسها ديمستورا في جنيف!
إن لم يكن هذا محاولة لإنقاذ ماء وجه موسكو، فماذا يكون؟
التقارير الإعلامية التي تصدر عن مسؤولين في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية والتي تتناول سلاح حزب الله، وظيفتها الأساسية تضخيم ما يشكله حزب الله من تهديد لإسرائيل، وتساهم التصريحات التي تصدر بين الحين والآخر عن مسؤولين في الحكومة أو في الكنيست، عن التسليح النوعي والدقيق الذي توفره إيران لذراعها العسكرية في لبنان، في إظهار صورة غير واقعية، مفادها أن إسرائيل تبدو تحت رحمة صواريخ إيران من خلال الأراضي اللبنانية.
هذه الصورة التي يجري ترسيخها في الأذهان منذ ما بعد حرب تموز 2006، تخدم وظيفتين، واحدة في اتجاه المجتمع الدولي تريد من خلالها إظهار أن إسرائيل هي الكيان الذي يعاني من التهديد والخطر على حدوده، والثانية في اتجاه إيران وحزب الله ومفادها أن الاستمرار في المحافظة على الاستقرار القائم على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، هو معيار عدم قيام إسرائيل بأي عمل عسكري نوعي ضد حزب الله وإيران سواء في لبنان أو في سوريا.
قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية الأحد الماضي، إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تتحدث عن تقديرات تشير إلى أن إيران تتجه لإقامة مصنع لإنتاج السلاح الدقيق في لبنان.
واستندت الصحيفة لمقال نشره المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد رونين منيلس في موقع (لم يذكر اسمه وعنوانه)، أن لبنان تحول عمليا “بسبب فشل السلطات اللبنانية وتجاهل الكثير من أعضاء المجتمع الدولي، إلى مصنع صواريخ كبير لإيران”. وبحسب هآرتس فإن مقالة منيلس موجهة إلى سكان لبنان، لكن جزءا مهما من المقالة موجه أيضا إلى حكومة لبنان ودول أخرى.
هذه المواقف الإسرائيلية ليست جديدة، وهي تتكرر بين الحين والآخر خلال السنوات الماضية، لكن ذلك لا يعني أن إسرائيل لا توجه رسائل تحاول من خلالها التذكير بما تعتبره تجاوزا للخطوط الحمراء في ما يتصل بحساباتها الإستراتيجية والأمنية. فإسرائيل نفذت خلال السنوات الماضية أكثر من مئة غارة جوية على قوافل سلاح منتقلة من سوريا إلى لبنان لحساب حزب الله، وفي الوقت نفسه لم توجه أيّ ضربة للآلاف من المقاتلين المنتمين لهذا الحزب الذين قاتلوا في سوريا دعما لنظام بشار الأسد، سواء في مواجهة فصائل الثورة السورية المعارضة أو غيرهم من التنظيمات التي تصنف إرهابية. المعلومات التي أوردتها هآرتس لفتت إلى أن إيران تقوم بنقل مصانع صواريخ دقيقة إلى لبنان بسبب استهداف إسرائيل لقوافل السلاح الذي ترسله عبر الأراضي السورية إلى لبنان.
مما لا شك فيه أن حزب الله نجح من خلال الدعم الإيراني في إحكام السيطرة على العديد من مفاصل الدولة اللبنانية سياسيا وعسكريا وأمنيا، وهذا الإحكام وفرته له الصفقة السياسية التي أوصلت الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة واستكمالها بالاتفاق مع الرئيس سعد الحريري. إذ لم يعد وجود حزب الله العسكري والأمني خارج سلطة الدولة يشكل عنوانا من عناوين السجال السياسي داخل مؤسسات السلطة، وربما هذا ما جعل حزب الله مطمئنا في استكمال عملية السيطرة على ما تبقى من مراكز قرار داخل الدولة المنفلتة من سلطته ولو كانت غير معادية أو مناكفة له.
لذا كان موقف عضو مجلس الخبراء الإيراني محمد علي رئيسي قبل أيام من على باب مقر الرئاسة الثانية أي بعد زيارته الرئيس نبيه بري ذا دلالة، بقوله إنّ لبنان هو ضمن محور المقاومة مع دول عربية أخرى بالإضافة إلى إيران، هو لم يسمِّ دولة عربية أخرى خوفا من أي رد رسمي من هذه الدول على كلامه، لكنه كان حاسما في تسمية لبنان، ربما لاعتقاده أن لبنان أصبح بيد إيران بخلاف سوريا أو العراق واليمن، ولأنه مطمئن إلى أن السلطة اللبنانية الرسمية لن تجرؤ على الرد على هذا الإعلان.
من هذا المنطلق وفي ظل الإرباك الذي يعاني منه النفوذ الإيراني في سوريا وحتى في العراق، يتحول لبنان إلى هدف لتعزيز قاعدة نفوذ حزب الله لا سيما على مستوى إنهاء أي حالة اعتراض جدية على سلاحه وعلى دوره الأمني والعسكري سواء في الداخل اللبناني أو خارجه.
وفي هذا السياق يؤكد متابعون لمجريات الفصول المتقدمة من السيطرة الإيرانية على لبنان، أنّ الأجهزة الرسمية اللبنانية ولا سيما الأمنية باتت في موقع لا يحسد عليه، فحزب الله نجح إلى حد بعيد ليس في ترهيبها بل نجح في السيطرة من الداخل على بعض دوائرها وبات معظمها بحسب المصادر الموثوقة يعمل من ضمن نشاطه الأمني الرسمي في خدمة حزب الله سواء تحت عنوان التنسيق بين الأجهزة الأمنية والمقاومة، أو نتيجة شعور مسؤولي هذه الأجهزة والعاملين فيها بأن المسؤولين الرسميين في الحكومة غير جادين برفض الاختراق الذي ينفذه حزب الله في مؤسسات الدولة. علما أن المعلومات لدى الأجهزة الرسمية تصل بشكل شبه رسمي لحزب الله، فيما الأخير يقدم ما يراه مناسبا من معلومات للأجهزة الأمنية وغالبا ما تكون غايتها تشغيل هذه الأجهزة في مهام يريدها هو.
على أن جانبا مهما برز في الأشهر الأخيرة يتمثل في أن إيران دخلت مباشرة على خط إدارة الجانب الأمني والعسكري لحزب الله في لبنان، وإن كان العنوان لهذا الدخول، حسب مصادر من داخل بنية حزب الله، هو ضبط الفساد الذي استشرى في بعض قطاعات حزب الله لا سيما مع انخراطه في الحرب السورية، إلا أن مصادر متابعة تشير إلى مسألة جوهرية تتمثل في أن حزب الله خسر القيادات العسكرية التي كانت تمتلك السيطرة على العناصر من خلال كونها شاركت في تأسيس الحزب كالقياديين عماد مغنية ومصطفى بدرالدين، وغياب الشخصية الأمنية والعسكرية ذات الشرعية الكاملة والقادرة على التحكم والقيادة في الميدان، ترافق مع سقوط معظم الكوادر العسكرية ذوي التاريخ النضالي مع إسرائيل.
فالحرب السورية أنهت إلى حد بعيد هذا الكادر القيادي حيث سقط لحزب الله العشرات من هؤلاء ولم يعوض الجيل الجديد الفجوة التي أحدثها سقوطهم، لا سيما أن الحرب في سوريا التي خاضها حزب الله لم تستطع أن ترقى في وعي مقاتليه إلى مصاف الحرب مع إسرائيل، لذا فالحرب السورية أحدثت صدعا في بنيان حزب الله الداخلي، فرض الدخول الإيراني مباشرة على إدارة الملف العسكري والأمني بشكل مباشر لضبط تداعيات الحرب السورية، ومنع أي تداعيات عليها كانت برزت في ما يعرفه الجميع على صعيد تكوين المقاتل النفسي والعقدي الذي كان للحرب السورية تأثيرها الكبير على هويته القتالية وبنيته العقدية والسياسية.
وفي هذا السياق فإن غياب أو تغييب القيادي أو الكادر العسكري الذي يمتلك الكاريزما والشرعية النضالية، كان فرصة للمزيد من الدخول الإيراني المباشر إلى كل مفاصل القرار داخل البنية الأمنية والعسكرية لحزب الله، حيث حرصت القيادة الإيرانية لا سيما عبر الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس، على زيادة عدد الكوادر من الحرس الثوري على رأس مفاصل القرار في حزب الله في لبنان، إلى درجة أن مراكز الإشراف على القواعد العسكرية باتت إيرانية بشكل شبه كامل سواء في الجنوب اللبناني أو حتى في البقاع، ومما تسرب من معلومات من داخل بنية حزب الله أن إيران تحاول من خلال هذا الأسلوب الحد من الاختراقات الأمنية الإسرائيلية التي يُعتقد بأنها تحصل وسببت أضرارا أمنية وعسكرية ولا تزال، فيما التهمة كانت جاهزة بأن قابلية الكادر اللبناني للاختراق الأمني الإسرائيلي هي أكبر بكثير من إمكانية اختراق الحرس الثوري الإيراني. علما أن أعدادا من العراقيين التابعين للحرس الثوري يساعدون الكادر الإيراني خاصة في بعض المواقع الأمنية والعسكرية وبعيدا عن الأعين وفي أماكن لا تتطلب تواصلا مباشرا مع لبنانيين إلا في حدود ضرورية وضيقة. وتأتي ذريعة قدوم العراقيين في سياق التعويض عن النقص في العديد من المقاتلين اللبنانيين الذين تفرض عليهم أولوية القتال في سوريا.
يبقى أن التهديدات الإسرائيلية والتهويل بتدمير لبنان يستمران في ظل المزيد من انخراط حزب الله في القتال في سوريا، وكلما ارتفع صوت التهديد الإسرائيلي ضد حزب الله أو لبنان، كلما كان ذلك فرصة إضافية للحزب ومن ورائه إيران، لإحكام القبضة على ما تبقى من بعض دوائر القرار المنفلتة من قبضته في وطن الأرز.
إذا صح اعتبار ما ورد في خطاب وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، استراتيجية جديدة لمساعدة السوريين على إنهاء مأساتهم، فما على هؤلاء سوى تجهيز أنفسهم لنكبة مديدة تطوي، في ثناياها، ما بقي سالما منهم، قبل أن تنضج ثمار تلك الإستراتيجية.
صحيح أن خطاب تيلرسون جاء على ذكر رحيل الأسد، وهو الهدف العتيد للثورة السورية، كما صرح بوضوح عن محاربة النفوذ الإيراني، وكذلك دفع روسيا إلى التفاوض بشروط جديدة، لكن ما تم فهمه بين السطور أن أميركا ستفعل ذلك كله، وهي تلف ساقاً على ساق شرق سورية، ولن تغير شيئاَ من قواعد اللعبة وشروطها، كما لن تطوّر أدواتها في هذا السياق، وجل ما يمكن أن تجود به هو إعادة تفعيل بعض أساليبها السابقة، والقائمة على تزويد بعض الفصائل، وليس كلها، بما يمكّنها من مناوشة الروس والإيرانيين، بقدرٍ لا يسمح لهم بإنجاز تحرير بلدهم بشكل حاسم، ولا يسمح للخصوم بالقضاء على الفصائل دفعة واحدة.
هي عملية استنزاف لجميع اللاعبين بإدارة أميركية، وهو هدف جرى تطويره خلال إدارتي الرئيسين، باراك أوباما ودونالد ترامب، ويتناسب مع ظروف أميركا نفسها وإمكانياتها، مع الأخذ بالاعتبار التطورات الحاصلة في البيئة الدولية، وصعود قوى دولية وإقليمية، لها تأثيرات واضحة في بعض الأقاليم، لكنه لا يهتم، من بعيد أو قريب، بمشكلة الشعب السوري، بقدر ما يعتبرها فرصةً لتحقيق مقتضيات الاستنزاف.
تمثل سورية، في التقدير الأميركي، جغرافيا مثالية لاستنزاف روسيا، بنسختها الجديدة، بعد أن طوّرت أدواتها في إزعاج الغرب، وتقترب من التحوّل إلى ورشة تخريب متنقّلة، تضع يدها على نقاط ضعفه، وتلسعها بطريقةٍ لا تترك دليلاً مباشراً على فعلتها، لكن المؤكد أنها تثير هيجانا واسعا في المجتمعات الغربية، إلى درجة تهديد أعمدة استقرارها، كما فعلت بأميركا بعد تدخلها في انتخاباتها الرئاسية، وتصويت "البريكست" الذي أخرج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي.
وإذا كان من غير المنطقي، ولا من الممكن، رد الصفعات الروسية بالطريقة نفسها لاختلاف المعطيات، وطبيعة النظام السياسي، واختلاف أدوات تواصله مع جمهوره، وإختلاف الثقافة الروسية عن مثيلتها الغربية، وبما أن العقوبات الاقتصادية لم تُجد نفعا، ولا هي أضعفت التأثيرات الروسية في محيطها، وما هو أبعد، فإن الاستنزاف هو الوصفة الأكثر تلاؤما وأكثر فعالية.
أما إيران، وبعد أن أكلت الحصاد الأميركي في العراق، ونشرت نفوذها إلى تخوم إسرائيل، فمن المفهوم أن تسعى واشنطن، بكل قوتها، إلى تدفيعها ثمناً يجعلها غير قادرة على السيطرة على زمام الأمور، ليس في المناطق المذكورة، بل في الداخل الإيراني نفسه، وليس أفضل من إستنزاف قدراتها ومواردها في صراعات طويلة الأمد، ولا أفق لها، خصوصا وأن أحداث إيران أخيرا، وحالة التذمر التي شهدتها مدن إيرانية نتيجة سوء الأوضاع الإقتصادية، ستدفع الإستراتيجيين الأميركيين إلى التركيز على هذه الجوانب، في صراعهم مع النظام الإيراني.
وتنطوي الإستراتيجية الأميركية على بعد صيني غير معلن، حيث تتقدّم بكين بخطىً حثيثة صوب إنجاز مشاريع طريق الحرير والحزام، وتقترب من قضم الشرق الأوسط من الرصيد الأميركي، وطيّه تحت نفوذها، بل وبدأت الوصول إلى موانئ أوروبا وأسواقها. وفي الوقت نفسه، تطرح نفسها بديلاً للقوّة الأميركية، وترفض التعاون معها في آسيا، وأمام عجز واشنطن عن إخضاعها لشروطها، فأضعف الإيمان هو إبقاء الشرق الأوسط، بوصفه نقطة الوصل بينها وبين أوروبا، ملتهباً إلى حين، وبيئة غير صالحة، لا لمد طريق الحرير، ولا لربط موانئه بشبكة الموانئ الآسيوية الأوروبية.
لكن كيف تستطيع أميركا تأديب الروس، وضمان انكفاء إيران، وعرقلة التمدد الصيني، بالرهان فقط على لحم السوريين، وفي مواجهة خريطة صراعاتٍ عالميةٍ، وقوى مصمّمة على التحدي، وجعل سورية بداية لانطلاقتها قوّة وازنة ومؤثرة؟
صحيح أن السوريين في مواجهة حرب مصيرية تتعدى حتى مجرد إخضاعهم إلى إلغاء وجودهم، لكن إذا كانت أميركا جادة، وقد تتقاطع مصالح السوريين معها، يجب أن تكون أكثر جرأة ومبادرة، لا أن تمنح تلك الأطراف المحفزات للاستمرار بسياساتها وتمنحها الغطاء للقيام بذلك، من دون أن تقدم ما يتناسب مع هذا الهدف؟
قد يحقق تراكم الاستنزاف النتائج المرغوبة أميركياً، لكن المؤكد أن لدى روسيا وإيران القدرة على التكيف، على المدى الطويل، مع الأضرار الحاصلة ومعالجة آثارها مع الزمن، طالما أنه لا وجود لرأي عام من الممكن أن يثور عليهما، وطالما لديهما القدرة على الالتفاف على خسائرهما عبر استغلال فقراء الجمهوريات الإسلامية والأفغانيين والباكستانيين.
بالإضافة إلى ذلك، ثبت أن لدى روسيا وإيران القدرة على تغيير الوقائع بطريقة عنيفة وسريعة، إذا لم يتم ردعهما بشكل مباشر. وبالتالي، فإن إعادة الأساليب نفسها، وبالاعتماد على الأدوات القديمة، أمر غير مجدٍ، إذا لم يقترن باستراتيجية تصدٍّ واضحة، لها موارد وخطط وأصناف جديدة من الأسلحة.
هل يملك السوريون رفض اليد الأميركية؟ وهل من المصلحة تضييع فرصة تحقيق الحد الأدنى من التوازن مع الطرف الآخر الذي يستشرس عليهم؟ ما هو متاح وممكن الآن إعادة هيكلة قوى الثورة، وإيجاد الإطار المناسب، وتحديد الأساليب والأدوات اللازمة لتحقيق أهدافهم، فلا روسيا وإيران سيتركانهم، بعد أن تأكدوا من أن الصراع مع أميركا واقع، ولا أميركا ستقدّم لهم ما يضمن الخلاص.
أثارت عملية غصن الزيتون التي أطلقها الجيش التركي، بمشاركة الجيش السوري الحر، لتطهير منطقة عفرين من الإرهابيين، استياء أطراف عديدة. وكل واحد من تلك الأطراف الداخلية والخارجية لديه أسباب خاصة لرفض العملية إلا أن ما يجمعها حاليا هدف واحد، وهو تشويه عملية غصن الزيتون.
حزب الشعوب الديمقراطي، يرفض العملية العسكرية التي تهدف إلى طرد الإرهابيين من عفرين أولا، ومنبج ومناطق أخرى ثانيا. وهذا الرفض، جملة وتفصيلا، أمر متوقع ومفهوم، لأن الحزب المذكور يعد الجناح السياسي لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، وأن العملية أطلقت من أجل إنهاء سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لذات المنظمة في شمال سوريا.
حزب الشعب الجمهوري، برئاسة كمال كيليتشدار أوغلو، أعلن في البداية دعمه لعملية غصن الزيتون، إلا أنه قيَّد هذا الدعم بكلمة "الآن"، وكانت هذه الكلمة تشير إلى أن حزب الشعب الجمهوري قد يسحب دعمه للعملية في أي لحظة. وكانت التوقعات المبنية على التجارب السابقة تقول إن كيليتشدار أوغلو سيغير تصريحاته الداعمة للعملية ليبدأ في انتقاد التدخل العسكري في شمال سوريا.
هذه التوقعات كانت في محلها، إذ لم يفاجئ كيليتشدار أوغلو الرأي العام التركي، وسرعان ما انقلب على موقفه الأول، وبدأ ينتقد عملية غصن الزيتون، ولكن بطريقة مختلفة. ولأن الشعب التركي يحب الجيش التركي، لم يتجرأ رئيس حزب الشعب الجمهوري على انتقاد الجيش التركي مباشرة، ولذلك استهدف في تصريحاته الجيش السوري الحر الذي يشارك في عملية غصن الزيتون إلى جانب القوات التركية.
كيليتشدار أوغلو، في لقائه مع ممثلي الصحف والقنوات التلفزيونية بالعاصمة أنقرة، انتقد مشاركة الجيش السوري الحر في عملية غصن الزيتون، وزعم أن الجيش التركي يقاتل في شمال سوريا في ظروف صعبة، ولكن انتصاراته تسجل لصالح الجيش السوري الحر. وأضاف متسائلا: "لماذا يتستر الجيش التركي وراء الجيش السوري الحر؟."
نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزتورك يلماز، ذهب إلى أبعد من ذلك في انتقاده لمشاركة الجيش السوري الحر في عملية غصن الزيتون، ووصف الجيش السوري الحر بــ"مجموعات جهادية"، وادَّعى في برنامج تلفزيوني أن جميع الفصائل المقاتلة في سوريا ضد النظام خرجت من رحم تنظيم القاعدة.
النائب عن حزب الشعب الجمهوري، أرن أردم، هو الآخر استهدف الجيش السوري الحر في تصريحاته، ووصفهم بــ"مجموعة كلاب"، إلا أن صدور مثل هذه التصريحات والشتائم منه أمر غير مستغرب، لأنه سبق أن أعلن بكل صراحة ووقاحة أنه سوف يقاتل في صفوف الجيش الإيراني ضد بلاده إن نشبت حرب بين تركيا وإيران.
حزب الشعب الجمهوري، في حقيقة الأمر، منزعج من عملية غصن الزيتون. لأنه يرى أن الحل في سوريا يمر فقط من دعم النظام السوري والتحالف معه. كما أنه مخترق إلى حد كبير من قبل الموالين لتنظيم الكيان الموازي الإرهابي والموالين لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية. وفي إشارة إلى هذه النقطة، قال كاتب أتاتوركي موال لحزب الشعب الجمهوري، إن أتاتورك لو عاد من قبره إلى الحياة وخاض منافسة مع زعيم الإرهابيين عبد الله أوجلان لتولي رئاسة حزب الشعب الجمهوري لخسر المنافسة.
هناك هجوم آخر يستهدف الجيش السوري الحر من جهة أخرى بسبب مشاركته في عملية غصن الزيتون، ويتهمه بأنه يقاتل من أجل أجندة تركيا، متناسيا أن تطهير شمال سوريا من الإرهابيين الانفصاليين هو لصالح الشعب السوري وثورته المباركة.
الهجوم على الجيش السوري الحر، سواء جاء من جهة حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي أو من جهة من يصفه بــ"المرتزقة"، يخدم أجندة النظام السوري وحلفائه، كما يخدم الإرهابيين الانفصاليين وخطة تقسيم سوريا التي تقف وراءها الولايات المتحدة. هذا ما دفع رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان إلى الدفاع بقوة عن مشاركة الجيش السوري الحر في عملية غصن الزيتون، ووصفه بـــ" مكون وطني يدافع عن بلاده"، مشددا على أنه يشبه قوى المقاومة الشعبية التي تشكلت في تركيا إبان عشرينيات القرن الماضي لمواجهة الجيوش الغازية.
في كل دول الجوار التي وطأ ترابها اللاجئين السوريين ،انقسم المجتمع المدني في تلك الدول الى قسمين ،قسم متعاطف مساند مؤيد ،وقسم متذمر معارض وربما معادي ومحارب.
ويختلف هذا الانقسام والاصطفاف حسب موقف الحكومة والقيادة السياسية الحاكمة في ذلك البلد.
اللغة لم تكن حاجزاً سوى في تركيا، التي اختلفت هي أيضاً في موقفها، ونظرتها، وتقييمها، وأسلوبها في التعامل مع هذه الظاهرة، ومحاولة لتخفيف سلبياتها وأضرارها . هذه النظرة والسياسة تجاه اللاجئين، الذين فضلت تسميتهم ب " المهاجرين والأنصار "هي الأخرى تعرضت لتغيرات ، وتجاذبات، ومد وجزر حسب تغير الأحداث في سوريا ، والمواقف الدولية ، وطول الفترة الزمنية لمكوث اللاجئين في بلد الهجرة ،واستحقاقات ملفات كثيرة فرضت نفسها على الجميع ، من حقوق وواجبات ،كالتعليم والصحة والإقامة والإستملاك والعمل وغيره.
رغم شعار "المهاجرين والأنصار " لمنح العلاقة بين اللاجئين والمقيمين علاقة الأخوة والمرحمة والمودة والعطف ،ورغم النجاح الباهر لهذا المصطلح في كثير من المستويات ، وخاصة على مستوى تحفيز منظمات المجتمع المدني، والتعاطف الشعبي الذي قدم الكثير من الخدمات لتخفيف المحنة والحمل عن الحكومة .لكن هذا لم يستطع منع بعض التساؤلات لدى شريحة لا يستهان بها من المواطنيين الأتراك ،وخاصة عندما تٌستغل من قبل بعض الاطراف المعادية والممتعضة من وجود السوريين بتركيا.
ومن الخطأ الاستخفاف بهذه التساؤلات ، وعدم العمل على تغيير النظرة لدى البعض من هؤلاء إن لم يكن الجميع،وهذا يحتاج لجهود تقع على عاتق الطرفين السوريين والأتراك. فلاتزال بعض الأسئلة والتساؤلات لدى كثير من المواطنين الأتراك تحتاج لأجوبة شافية ومقنعة .
تركيا هي البلد الوحيد من بين دول الجوار التي بدأت بالتفكير بمستقبل هذه الملايين الجديدة،وبتجنيس السوريين المقيمين بها ،ومحاولة الاستفادة من الكوادر العلمية والكفاءات والخبرات رغم حاجز اللغة العائق الأكبر ،والقوانين ، والبيروقراطية المترهلة التي لاتزال تغلب على سمة القوانين الحكومية، رغم كل الجهود الجبارة ، والتغيرات الجذرية التي قامت بها حكومة العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة .
النظرة التفاؤلية في بداية الأمر والتوقعات بقصر طول الأزمة كان سبباً لتأخر كثير من الاجراءات اللازمة ،يضاف لذلك عدم الاستعداد الفكري والنفسي والمؤسساتي لتقبل كل هذا العدد من اللاجئين ،وقبولهم بشكل مستمر ودائم وربما بدون عودة لهم لبلادهم.
قامت الحكومة التركية بسن كثير من القوانين واللوائح الناظمة،التي استطاعت من خلالها تنظيم كثير من أوضاع اللاجئين من الناحية الأمنية والتعليمية والصحية ومزاولة العمل والتنقل ومعاملات الزواج وتسجيل المواليد وغيرها .وكانت ناحجة في كثيراً من هذه الأمور رغم وجود بعض الثغرات والسلبيات في بعض النقاط التي تعمل على حلها كلما توفرت لها المعلومات والاحصائيات والقناعات لحلها.
تصريح الرئيس رجب طيب أردوغان في الفترة الأخيرة ،أعاد موضوع اللاجئين السوريين لمقدمة الحدث ،وأثار قلقاً لدى كثير من السوريين، ووجد صداَ أيضاً لدى الأوساط التركية، وذلك عندما أعلن عن نية تركيا إعادة الثلاثة ملايين ونصف مليون من اللاجئين الى المناطق المحررة بعد نجاح عملية "غصن الزيتون" وتحرير منطقة عفرين ومنبج وبقية المناطق الأخرى.
فهل هذا تغير في النظرة لموضوع اللاجئين الذين بدأ بتجنيسهم وتوطينهم في الفترة الأخيرة..!!؟
أم هو تصريح للرأي العام الداخلي والغربي بآن واحد من أجل معركة عفرين؟
أم هو نتيجة استطلاعات رأي جديدة بخصوص هذا الموضوع...!!؟؟
تناولت بعض القنوات موضوع السوريين في تركيا في أكثر من برنامح ،وكتب عنه العديد من الكتاب والصحفيين،ورغم مرور سبع سنيين على تواجد السوريين بتركيا لاتزال العلاقة والمعرفة بين الطرفين غير واضحة وغير كافية وليست بالمستوى الذي يعطي الطرفين حقه ويلبي طموحاته وتطميناته ةيجيب عن تساؤلاته.
رغم كل الإيجابيات التي يجب أن ننصفها، وننصف الجهود التي بُذلت من قبل الدولة المضيفة ، والجهة المهاجرة ،لكن أيضاً لايزال هناك الكثير من المواضيع العالقة ، والصورة الضبابية عن السوريين، ومستقبلهم، وقضيتهم، مما ترك صورة سلبية لدى كثير من الأتراك وخاصة حملة الأقلام والمحلليين والموجهين للصحافة والرأي العام . وهذا فشل كبير بعد كل هذه السنيين الطويلة.
برأيي أن هناك عدة أخطاء وقع بها الطرفين سببت تأخر حل، وتوضيح الصورة وكثير من المسائل العالقة.
من أهمها اعتماد الدولة المضيفة على جهات ،أو شخصيات ،لم تكن جديرة وليست مؤهلة لتحمل هذه المسؤلية ، بسبب نظرتها القاصرة ، وتركيبة تفكيرها الضيق ، وعدم تقييمها للمسألة بمنظور واسع ومهني، بعيداً عن التأثيرات الأخرى، من دينية، أو قومية،أو مناطقية، أو فكرية.
والمسؤولية الثانية تقع على السوريين الذين لم يستطيعوا شرح قضيتهم، وثورتهم، وهجرتهم، ومحنتهم، ومأساتهم ،ومستقبل أحلامهم وتطلعاتهم.
وسبب هذا الفشل له عدة أسباب أيضاً من أهمها:
1-الفشل في تأسيس مؤسسات مهنية،علمية تعمل بحرفية ووطنية وحرفية . فغالبية المنظمات التي تشكلت، - وخاصة منظمات المجتمع المدني (!)- كانت تتقمص أدواراً ليست هي أدوارها الحقيقية ، وكانت أشبه بشركات تجارية وسيطة ، أو جمعيات خيرية على أفضل توصيف.
2-فشل الهيئات السياسية التي مُنحت الإعتراف السياسي -على الأقل – من قبل الحكومة التركية ، وأعتبرتها مخاطباً رسمياً ،كالإئتلاف والحكومة المؤقتة .فالإئتلاف لم يأبه لهذه الناحية ، وضع سفراءً له ليس من اهتمامهم الإنشغال بالجالية واللاجئيين، بل كان جٌل اهتمامهم هو التمثيل السياسي فقط ،والإنشغال بملفات بعيدة عن هموم اللاجئين الملحة والعاجلة.وحملهم عدة ملفات شغلتهم حتى عن رؤية اللاجئين أنفسهم.
3- تقديم المصالح الشخصية الفردية،الحزبية، القومية على المصلحة العامة التي تهم كل اللاجئين ، مما جعل الطرف الآخر يستخف بهذا التمثيل ، الذي لم يرق لتمثيل طموحات الطرفين ، ولم يرق لحجم التضحيات والآلام التي قدمها ويعيشها اللاجئين في تركيا وأهلهم وذويهم في سورية.
4- التفكير العاطفي الحماسي،واختزال تركيا بشخصية رئيس الجمهورية ، وحزب العدالة والتنمية ، لكثير ممن تكلم بأسم السوريين ، وذلك بسبب قلة المعرفة بالواقع التركي، والتركيبة الذهنية والواقع الداخلي ، وفهم الواقع التركي على اساس علمي وواقعي وصحيح.
ولاتزال الحاجة ماسة، بل وملحة، أكثر مما مضى لتشكيل مؤسسات سورية مهنية تستطيع قراءة الواقع والمستقبل، بكل مهنية وواقعية، وتستطيع طرح المشاكل بمهنية وحرفية وعلى أساس علمي يعتمد الأرقام والتشخيص والعلاج ، لمافيه خيراً كثيراً للدولة المضيفة والضيوف السوريين أيضاً في تركيا.
ما إن أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، توفر فرصة إطلاق عملية سياسية في سورية بعد تحقق "النصر" العسكري، ودوران عجلة التحضير لعقد "مؤتمر الحوار الوطني السوري" في مدينة سوتشي الروسية، الذي كان قد دعا إليه، حتى بدأت تتضح ملامح التسوية السياسية التي يسعى سيد الكرملين إلى تمريرها؛ إن من خلال المحدّدات التي أطلقها أركان حكومته، أو من خلال المدعوين إلى هذا المؤتمر، بوصفهم ممثلين لمكونات الشعب السوري، القومية والدينية والمذهبية والاجتماعية، وقواه السياسية والمدنية والعسكرية، وطبيعة الحل الذي اختاره لشعب آخر من دون اعتداد بمطالبه وتطلعاته التي عبّر عنها بخروجه ضد الاستبداد والفساد، ودفعه غاليا من دم أبنائه وإمكاناته ومصالحه ثمنا لنيل الحرية والكرامة.
بدأ "نضال" الرئيس الروسي بقتل السوريين من دون تمييز بين مشارك في الصراع أو غير مشارك، بين عسكري ومدني، فقد استهدفت طائراته المدن والبلدات والقرى، وتعمدت قصف تجمعات السكان في الأسواق وأمام الأفران وفي المشافي والمدارس، من أجل الترويع والترهيب، وحسم الصراع في مدة قصيرة، باستسلام الثوار أو بسحقهم تحت وابل القنابل بكل صنوفها الذكية والغبية، الارتجاجية والفراغية، الفسفورية والنابالمية، وبمختلف الأحجام والأوزان. قال جنرالاته إنه من 30 سبتمبر/ أيلول عام 2015 وحتى 20 سبتمبر/ أيلول 2017، قام الطيران الروسي بـ 30650 طلعة جوية في أنحاء متفرقة من الأراضي السورية، منها 5165 طلعة في 2015 و13848 طلعة في 2016، نفذ خلالها 92006 غارات على مواقع الإرهابيين، منها 13470 غارة في 2015 و50545 غارة في 2016 تمكن خلالها من تدمير 96828 هدفا وموقعا للإرهابيين (رصدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان الغارات الروسية واستنتجت أن 85% منها استهدف مدنيين).
وتفاخر (جنرالات) بوتين بفعالية أسلحة بلادهم، وبكمية الطلبات التي انهالت على مصانعها من دول عديدة، وبالخبرة التي اكتسبها جنودهم في التدريب بلحم السوريين ومدنهم وبلداتهم وقراهم. وقد سمحت المشاركة العسكرية في سورية بالتحقق من الاستعداد القتالي لجميع الطيارين العسكريين تقريبا، وفق وزارة الدفاع، وأن نحو من 90% من أفراد القوات الجوية تلقوا خبرة قتالية. وقد نفذ الحملة الروسية ثلاثة أرباع طواقم الطيران بعيد المدى، وحوالى 80% من الطائرات التكتيكية التشغيلية و88% من طائرات النقل العسكري، وحوالى 90% من الطيارين. ولاحظت الأركان العامة أن نتائج الطلعات القتالية كشفت عن الجوانب الإيجابية والسلبية للتدريب على الطيران، وكانت الاستنتاجات التي تم التوصل إليها أساسا لتغيير عملية التعلم والتدريب. وفق تقرير على موقع قناة آر تي الروسية. هذا ما حدث، لا مدنيين قتلوا ولا مشافي ومدارس وأفران وخزانات مياه دمرت؛ ولا ملايين فرّوا من جحيم القنابل، تحولت المذبحة إلى أرقام، والقتلى، كل القتلى، إلى إرهابيين.
ترافق العمل العسكري مع تحرك سياسي ودبلوماسي، منسق مع النظامين الإيراني والسوري، لأجل تطويق قوى الثورة السياسية والمسلحة، بتشكيل أطر وكيانات سياسية معارضة (منصات) تتبنى سقوفا منخفضة من الصراع في سورية، وبمواقف وقرارات دولية مرتبطة بحسابات ومصالح قوى إقليمية ودولية، وصياغة اقتراحات وحلول على إيقاع التوازنات العسكرية التي أخذت تميل لصالح النظام وحلفائه، وقبض ثمن المشاركة في حماية النظام سياسيا (استخدام حق النقض 11 مرة لمنع محاسبة النظام)، وترجيح كفته العسكرية اتفاقات تسمح ببقاء القوات الروسية على الأراضي السورية مدة 49 سنة تتجدد من دون حاجة لمفاوضات جديدة لـ 25 سنة (حميميم الجوية وطرطوس البحرية)، وأخرى تسمح لها باحتكار إعادة الإعمار.
غير أن حساب البيدر اختلف عن حساب الحقل. لم يستسلم الثوار، على الرغم من التضحيات الكبيرة، وخسارة معارك، ومغادرة مدن وبلدات وقرى عزيزة على قلوبهم، ترعرعوا فيها وتشكلت في أحيائها وأسواقها وساحاتها وأزقتها مشاعرهم وعواطفهم وتطلعاتهم وطموحاتهم، ولم يقبل المواطن العادي الذي قُتل أبناؤه وبناته ودمر مصدر رزقه، العودة إلى ما قبل ثورة الحرية والكرامة، بقي يعبر عن موقفه بتفضيله النزوح والتشرد واللجوء إلى الخارج القريب والبعيد على الاستسلام ورفع الراية البيضاء.
دفع صمود الثوار وتحمّل المواطنين أعباء المواجهة قيادة الأركان الروسية إلى تغيير في خططها وتكتيكاتها بتكريس جزء كبير من نشاطها الميداني في عقد مصالحاتٍ محليةٍ، تحت سيف الحصار والتجويع والضغط العسكري، حيث تتيح المصالحة إخراج كتائب ومناطق من ساحة المواجهة، وتوظيف العملية في تمزيق صفوف الثوار، والفصائل المسلحة ببذر الشقاق والخلاف في صفوفها، وفي زعزعة ثقة الحاضنة الشعبية بقوى الثورة، ودفعها إلى حالة من اليأس والانفكاك النفسي والعاطفي عن بيئة الثورة وحواملها، وتخفيف العبء العسكري على قوات النظام، وإتاحة فرصة التفرغ لمناطق أخرى، قبل أن توسع دائرة تخفيف الضغط العسكري على قوات النظام بعقد مفاوضات عسكرية بين النظام وفصائل معارضة في أستانة،
برعاية مشتركة مع تركيا، انضمت إليها إيران، وطرح فكرة "خفض التصعيد" بعقد اتفاقات روسية تركية إيرانية، تنفذ فيها عمليات تجميد القتال في مساحات محددة، فترة زمنية محددة (تم الاتفاق على أربع مناطق لخفض التصعيد: الغوطة الشرقية، ريف كل من حمص وحماة ومحافظة إدلب) وتركت ثغرة تسمح للنظام وحلفائه بخرق الاتفاقات، وذلك بلازمة استثناء المناطق التي لـ "داعش" وجبهة النصرة، بمسمياتها الأخرى، مواقع فيها. وهذا أتاح لقوات النظام تشديد الحصار على مدن الغوطة الشرقية وبلداتها، حيث يعيش نحو أربعمائة ألف مواطن، وحرمانها من دخول المساعدات الإنسانية، الغذاء والدواء، وقصفها بشكل دائم من أجل إجبار قوات المعارضة على الدخول في مصالحة مع النظام، وقضم مساحات شاسعة في ريفي حمص وحماة ومحافظة إدلب. كل هذا بالتوازي مع عمل دؤوب لإرباك المعارضة، وتمزيق صفوفها، وإفشال محادثات جنيف التي تتم برعاية الأمم المتحدة.
حاولت روسيا دفع محادثات أستانة نحو مناقشة قضايا سياسية عبر مناقشة قضايا الإصلاح الدستوري، والانتخابات البرلمانية والرئاسية، وطرح مشروع دستور لسورية على وفدي النظام والمعارضة والدول الراعية، ولما لم تنجح في ذلك، دعا الرئيس الروسي إلى عقد مؤتمر للحوار تحت اسم "مؤتمر الشعوب السورية"، واقترحت وزارة الدفاع الروسية عقده في قاعدة حميميم، قبل أن تغير الاسم إلى "مؤتمر الحوار الوطني السوري" وتقرّر عقده في سوتشي. وتحولت الدعوة إلى عقد هذا المؤتمر إلى مادة للتجاذب بين روسيا وحلفائها، حيث لم تلق قبولا لا لدى إيران (لا تقبل بأقل من عودة نظام الأسد إلى ما كان عليه)، ولا لدى النظام السوري وإيران اللذين ما زالا يراهنان على الحسم العسكري. وهناك تحفظات تركية لجهة هدف المؤتمر والقوى التي ستحضره، وبينها وبين الولايات المتحدة وحلفائها، لجهة علاقته بمحادثات جنيف والرعاية الدولية للحل. وقد دفع هذا كله القيادة الروسية إلى تأجيله وإعادة النظر في صيغته، وفي لائحة المدعوين إليه (تحولت اللائحة من دعوة 33 كيانا سياسيا وعسكريا إلى دعوة 1600 شخص، يدعون باعتبارهم ممثلين لقوميات وأديان ومذاهب وعشائر وقوى سياسية وعسكرية ومدنية سورية)، والعمل على تعزيز حظوظه في النجاح، عبر إقناع الدول الراعية محادثات أستانة بتبنيه، بعد أخذ تحفظاتها بالاعتبار، وتحديد موعد عقده الجديد يومي 29 و30 يناير/ كانون الثاني الجاري.
لم تنته العقبات التي تعرقل عقد المؤتمر، فقد تعرض الرئيس بوتين للابتزاز من معظم الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في سورية، خصوصا بعد إعلانه الترشح للانتخابات الرئاسية الروسية التي ستجري في شهر مارس/ آذار المقبل، ومراهنته على نجاح مؤتمر سوتشي في إيجاد حل للصراع في سورية، وفق مصالحه ومصالح حلفائه، بصورةٍ تسمح له بتقديمه لجمهوره في الانتخابات المرتقبة، بعضهم يريد تنازلاتٍ من بوتين في مقابل منحه هالة صانع "السلام" في سورية. فيما يريد آخرون قطع الطريق عليه في ذلك، وإحراجه أمام جمهوره الانتخابي. بدأت مؤشرات ذلك بإطلاق أردوغان تصريحه اللافت، قبل أسابيع، في تونس، حينما أكد استحالة التوصل إلى حل في سورية، بوجود الأسد. ولاحقاً، تم الحديث عن إعادة إحياء النواة الضيقة لـ "أصدقاء سورية" الداعمة للمعارضة، في اجتماع سيتم عقده لمندوبيها، في اسطنبول، خلال شهر فبراير/ شباط المقبل، بمبادرة فرنسية – تركية مشتركة، وتحذيرهم (الأتراك) من فشل مؤتمر سوتشي، بل وانهيار مسار أستانة، برمته، إن لم تتوقف حملة النظام العسكرية على إدلب، المدعومة بغطاء جوي روسي كثيف، وتلكؤ إيران في الإقرار بـ "سوتشي"، على الرغم من الإلحاح الروسي، وتذرع النظام السوري بـ "الإعداد الجيد"، تعبيرا عن تحفظه على المؤتمر (النظام يرفض حتى الآن البحث الجدي في صوغ دستور أو تعديل دستور عام 2012 خارج آليات مجلس الشعب (البرلمان)، إضافة إلى رغبته في تأجيل الحل السياسي إلى "ما بعد استعادة كامل الأراضي"). وتعرّض قاعدة حميميم العسكرية الروسية لهجمات غامضة، من طائرات بلا طيار، بتقنيات عالية، لإحراج القدرات العسكرية الروسية، قبل أسابيع من الانتخابات، وإعلان واشنطن تخفيض تمثيلها في مفاوضات أستانة، وإظهار لا مبالاة مطلقة حيال "سوتشي"، وتمسّكها بمحادثات جنيف باعتبارها المسار الشرعي الوحيد، والإعلان عن بقاء قواتها في سورية مدة غير محددة "حتى تحقيق الاستقرار ودفع الأسد وأسرته خارج السلطة"، وتشكيل قوة حرس حدود من 30 ألف فرد، وطرح ملف الأسلحة الكيميائية في سورية بقوّة في مجلس الأمن ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي، متهمة روسيا "بتعمّد التضليل والتمويه لحماية نظام الأسد"، وتشكيل "شراكة دولية لمكافحة إفلات مستخدمي الأسلحة الكيميائية من العقاب" من 24 دولة في اجتماع باريس، وطرح تصور للحل (اللاورقة) بالاتفاق مع فرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، ورفعه إلى الأمم المتحدة، كي لا تبقى المبادرة الروسية وحيدة على الطاولة. في تحرّكٍ يؤكد نيتها العمل على إفشال ذلك المؤتمر (قال القائم بأعمال نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد ساترفيلد، في إفادته أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، إن واشنطن تمتلك وسائل عدة لتقليل التأثير الروسي في نتائج المحادثات السورية).
جرى تعديل أهداف المؤتمر؛ فغدا لوضع أرضية لحل قائم على إجراء إصلاحات دستورية وانتخابات برلمانية ورئاسية، يشارك فيها رأس النظام وحكومة وحدة وطنية بمشاركة المعارضة. وطمأنة رأس النظام بإعلان موسكو رفض أن يحضر المؤتمر من يدعو لتنحيه. وهذا لم يرض لا المعارضة ولا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ولا الأمم المتحدة (تضمنت رسالة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى الجانب الروسي سلسلة معايير ليوافق على إيفاد المبعوث، ستيفان دي ميستورا، إلى المؤتمر، بينها أن يكون جلسة واحدة ضمن عملية جنيف، وأن يكون ضمن مفاوضات جنيف وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، إضافة إلى تشكيل الأمم المتحدة لجنة الدستور وعبر مسار جنيف الذي وبدت الأمم المتحدة متمسكة به، لبحث تنفيذ القرار 2254 وتنفيذ تشكيل جهاز الحكم وإطلاق عملية صياغة الدستور، وصولاً إلى انتخابات)، فلجأت القيادة الروسية إلى تعديلات وتحويرات، علها تحوز على رضا الأمم المتحدة والمعارضة السورية، فأعلنت أن "سوتشي" ليس بديلا لمحادثات جنيف، بل مكمل لها وفي خدمتها، وتضمنت مسودة وثيقة المؤتمر بنود دي ميستورا الإثني عشر، التي نالت رضا المعارضة في جلسة جنيف 8، ووجهت دعوة إلى الهيئة العليا للمفاوضات لزيارة موسكو للبحث في تحفظاتها وهواجسها، كما استعانت بدول إقليمية لها دالة على المعارضة للضغط عليها كي تحضر المؤتمر، ودعت أعضاء مجلس الأمن والسعودية ومصر والأردن والإمارات لحضور المؤتمر مراقبين.
استقر تصور روسيا لمؤتمر سوتشي أخيرا على تشكيل ثلاث لجان: رئاسية للمؤتمر، الإصلاحات الدستورية، الانتخابات وتسجيل المقترعين، مع تصور أولي لمحتوى الحل السياسي، انطوى على: تشكيل "جيش وطني يعمل بموجب الدستور"، والتزام أجهزة الأمن بـ "القانون وحقوق الإنسان"، وتأكيد الحكومة السورية "الوحدة الوطنية" وتوفير "تمثيل عادل لسلطات الإدارات الذاتية". وفق نص مسودة وثيقة المؤتمر التي صاغتها.
واضح أن روسيا غير قادرة على تفعيل دور سياسي قوي، بعد أن فعلت كل ما في استطاعتها لتسريع فرض حل في سورية؛ بذلت جهوداً غير عادية لاستنزاف بيان جنيف1 ونصوصه.
بذلت جهوداً غير عادية لفرض تغييراتٍ داخل المعارضة، وتدخلت عسكريا عامين، فإنها ما زالت تواجه صعوبات كثيرة في التوفيق بين مطالب اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة السورية. وكشفت الأيام الأخيرة حجم الصعوبات التي تعترض طريقها؛ فالأمم المتحدة لا تخفي معارضتها محاولة تكريس "سوتشي"، وتحويل جنيف صندوق بريد، مهمته انتظار الرسائل الواردة من "سوتشي". واشنطن تعود تدريجياً إلى التشدّد، ولو من بوابة رفض أي حلول تكرس سورية حلقة في "الهلال الإيراني". الأوروبيون يظهرون، على الرغم من تمسكهم بالاتفاق النووي مع إيران، استعداداً أكبر للنظر في سياسات زعزعة الاستقرار التي تنتهجها الأخيرة. إسرائيل تعبر أكثر من ذي قبل عن تبرّمها من عجز روسيا عن إبعاد المليشيات الإيرانية عن المناطق الحدودية، وتصعّد غاراتها في العمق السوري. وهذا دفع وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، إلى محاولة إغواء جميع الأطراف، والإعلان عن الاستعداد للاستجابة لتطلعات الجميع، فقال في مؤتمر صحافي، استعرض فيه نتائج عمل وزارته خلال عام 2017 "نحاول عبر مبادرة عقد مؤتمر الحوار السوري تحقيق المواءمة لمصالح جميع الأطراف السورية وكل اللاعبين الخارجيين الذين قد يؤثرون على الأوضاع هناك، وتريد ضمان مصالحها ضمن إطار التسوية السورية". وإن "سوتشي" مكمل لمفاوضات جنيف، وليس بديلا عنه، مع أنه سبق ووضع "سوتشي" مقابل "جنيف"، حين قال "إن لا تقدم في الجولة التاسعة للمفاوضات بين السوريين في المدينة السويسرية من دون عقد مؤتمر الحوار الوطني في المنتجع الروسي، والأخذ في الاعتبار نتائج جولات أستانة، مع أنها (روسيا) تدرك أنه كي تحصل على شرعية لمؤتمر سوتشي من الأمم المتحدة لا بد من تقدم في مفاوضات جنيف.
وقال المحلّل الروسي، ديمتري فرولوفسكي، لمدونة ديوان من مركز كارنيغي للشرق الأوسط في 24/1/2018، "يقرّ الكرملين حالياً بأنّ واشنطن، من خلال إقامة منطقة خاضعة لها فوق ما يقارب الـ 25% من الأراضي السورية في الشمال والشرق، تعتزم ضمان دور مؤثّر لها في تسوية سياسية، وفي مستقبل البلاد ما بعد الحرب. كما ستساعد هذه المنطقة الولايات المتحدة على تأمين معقل لها في المشرق، والتأثير على علاقات روسيا بحلفائها الإقليميين. الكرملين مستاء من هذا التطوّر، بل إن مسؤولين روسا يتهمون البيت الأبيض بانتظار القوّات الروسية للقيام بكلّ الأعمال القذرة، قبل القفز في اللحظة الأخيرة والمطالبة بحصته".
تكمن نقطة ضعف الموقف الروسي في تجاهله جذر الصراع في سورية (ثورة شعب ضد نظام مستبد وفاسد) وترجيح عناصر الصراع على سورية في الحل الذي تريد تمريره، ما يجعله ليس أكثر من سلام زائف، لا يحقق الاستقرار والاستمرار، ويحول سورية إلى دولة محتلة من أكثر من طرف، وعرضة لصراع مديد من أجل طرد المحتلين، وإقامة نظام سياسي وطني وعادل.
لا يدلّ مؤتمر سوتشي المدّعى سوى على أهواء أصحاب الدعوة. والمدى الذي راحوا إليه في محاولة تسويق و(تعميم) فكرة التسوية المبتذلة المرادفة في ظاهرها وباطنها للكسر والإذعان والفرض والقنص اللصوصي!
كأن موسكو تتسلّى بعذابات السوريين! وتهزأ من الجميع: ما يُسمى «المجتمع الدولي» والأمم المتحدة، والإدارة الأميركية والأوروبيين والمجموع العربي والأتراك، وكل مَن يفترض أنّه معني بشكل أو بآخر بهذه النكبة المستحيلة وبهذه المذبحة المفتوحة على مداها!
نظّمت «المؤتمر» كعراضة إعلامية ليس إلاّ. وما همّها سوى صورة «الراعي» للسلام بعدما رسّخت صورة البطّاش في الحرب. وأرادت المعارضة تتمّة للديكور! والمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا شاهد زور! ومسار جنيف الدولي «وجهة نظر»! والغياب الأوروبي والأميركي (والعربي!) مبرّراً للغلوّ في الادّعاء والمسرحة والتهتك.. وفرصة كي يُطلق سيرغي لافروف وزير خارجية فلاديمير بوتين أحدث نكاته عندما قال «إن الظروف باتت مهيّئة اليوم لإحلال السلام» في سوريا!
.. نظمت المؤتمر وهي تعرف سلفاً أنّه ذروة فشلها! وأن «الشعوب السورية» لا تزال في خنادقها! وأن الحشود «المفاوضة» التي شحنتها بالمئات من دمشق جاءت في رحلة استجمام وسياحة! وأن العراضات التي تجري في ما يُسمى «مجلس الشعب» في دمشق، مسلّية للميديا أكثر! ومليئة بالنوادر والفكاهة أكثر من الذي يحتويه المبنى الفخم في ذلك المنتجع السياحي!
مؤتمر سوتشي في السياسة والإعلام هو رديف لـِ«عاصفة السوخوي» في القتل والهتك! عراضة تدلّ على مدى الاستهزاء بحياة السوريين ومستقبلهم! مثلما دلّ القول عن التمارين الحيّة للأسلحة الروسية خلال المعارك بمدى الاستهزاء بأرواحهم وكراماتهم وأرزاقهم!
المشاهد التي انتشرت على عدد من المنصّات الإخبارية، وكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، المتعلقة بموت نحو 17 سورياً بجمرة البرد الحارقة التي تعرض لها هؤلاء اللاجئون على الحدود المشتركة مع لبنان، أيقظت في نفوس الملتاعين بفظائع الحرب، المتواصلة منذ نحو سبع سنوات، فيضاً من صور موتٍ لا حصر لها، محفورةٍ عميقاً في الذاكرة، ومسجلةٍ بالصوت والصورة، بفعل ما دهى السوريين من موت زؤام، تعدّدت أشكاله، وتنوعت أساليبه، على أيدي قوى دولية وإقليمية متصارعة، وجماعات محلية متنافسة بالحديد والنار، فيما كان للنظام الدكتاتوري الأقلوي القابض على مقاليد الجيش والأمن وعدة الحرب، حصة الأسد من هذا الموت الجماعي الذي لم يكابد مثله أي شعب آخر في المحيط المجاور بكل تأكيد.
كنت أعتقد أن الموت في أقبية التعذيب هو أشد رهبة على النفس، وكنت أرى كذلك أنه أكثر أشكال القتل إيلاماً على الإطلاق، بينما كان بعضٌ من محاوريّ يعتقد أن الموت بالتجويع، أو بالسلاح الكيميائي والغازات السامة، أو القضاء تحت قصفٍ بالبراميل، ناهيك عن نيران المدافع والصواريخ، أو غير ذلك من صنوف ترويع وتهجيرٍ تعد ولا تحصى، أشد مرارة من الموت البطيء على أيدي جلاوزة أجهزةٍ مدرّبةٍ على القتل بدم بارد، وذلك كله إلى أن شاهدت تلك الصور التي أضافت إلى الذاكرة المستباحة مشهداً غير مسبوق من مشاهد الموت، الذي ظل يلاحق السوريين في الداخل وفي الخارج، في البر وفي البحر، حين يمم مئات الآلاف منهم وجوههم نحو أوروبا، للنجاة بأنفسهم من طاحونة الموت الدائرة في الديار.
ومع أن عدد الذين قضوا نحبهم تجمداً كان قليلاً، ويكاد لا يذكر، قياساً بأعداد من يقتلون يومياً على أيدي النظام الأسدي و"داعش" والمليشيات الإيرانية، فضلاً عن طائرات موسكو وصواريخ واشنطن، وغيرهم من القتلة الأوغاد، إلا أن مشهد الموت بجمرة الثلج حصراً بدا أشد وقعاً على الضمائر من كل ما سبقه من طرائق قتل بالجملة والمفرق، إن لم نقل إنه كان أكثر فجيعة من كل ما عداه، بما في ذلك الموت في الأقبية الباردة والمسالخ البشرية، مثل سجن صيدنايا سيئ الصيت، لا سيما وأن الموت تجمّداً جاء متزامناً مع موجة برد قارسة، اكتسحت شرق المتوسط كله، وبالتالي فقد أدرك الناس، والحالة هذه، ولمسوا خلال معانتهم الطفيفة، ما معنى أن يقضي المرء نحبه بفعل لفح زمهرير الشتاء الحارق في العراء.
على هذه الخلفية المثيرة للخواطر، تواردت إلى الذهن حكاية الجلجلة الثاوية عميقاً في الوجدان العام، وبدا الموت متعدّد الأشكال، الذي لا يزال يداهم السوريين صبحاً ومساءً، وفي كل حين، أقرب ما يكون إلى تلك الواقعة التاريخية الرهيبة، التي حمل فيها السيد المسيح صليبه على ظهره، وسار به على ما يعرف اليوم "طريق الآلام" يوم الجمعة العظيمة، من موقع قرب باب الأسباط في شرق القدس القديمة، إلى الصخرة التي صلب عليها في جنوب غرب المدينة، حيث أقيمت كنيسة القيامة في ما بعد، وصارت منذ ذلك الحين أقدس مكان يحج إليه المسيحيون المؤمنون، فيما يعبر السوريون جلجلتهم منذ سبع سنواتٍ حافلاتٍ بكل أشكال الموت، من دون أن يحفل بموتهم الموثق بمقاطع الفيديو، والمبثوث من عين المكان، أحد من بني جلدتهم، إلا من كاتب هنا أو مثقف هناك.
نشرت، قبل أيام، صحيفة إلكترونية جادة ورصينة، تصدر تحت اسم "عنب بلدي"، وهي صحيفة سورية معارضة، قائمةً طويلةً من طرق الموت التي جرّبها السوريون، دون غيرهم من بني البشر، تضمنت سبع طرق رئيسة، واحتوت على أعداد من قضوا بكل طريقةٍ على حدة، حيث تصدر القصف بالبراميل والمدفعية والصواريخ، على مدى السنوات السبع الماضية، أكبر أعداد الضحايا على الإطلاق، برقم بلغ نحو 16.4 ألف شخص، تلاه الموت غرقاً بعدد بلغ 15 ألفاً، ثم التعذيب حتى الموت بعدد بلغ أيضاً 13 ألفاً، وبعد ذلك الكيميائي (1420)، الحرق (1000)، الجوع (700) أغلبهم في محيط دمشق، وأخيراً كان الموت بجمرة الثلج بالعدد المذكور آنفاً.
إذ يبدو أن تكرار مشاهد القتل على نحو يومي، وعلى مدار أيام السنوات السبع هذه، قد ثلم، إن لم نقل بلّد المشاعر الإنسانية لدى أكثرية الناس، الذين اعتادوا رؤية جثث السوريين على طرقات شوارع مدنهم وقراهم، بل وتحت الركام وبين الأنقاض، وعلى سطح الماء في أعالي البحار، الأمر الذي جعل من عشرات آلاف المشاهد والصور المنقولة من خلال عدسات الهواتف المحمولة مجرد مشاهد اعتيادية روتينية متكرّرة، من يوميات حربٍ تبدو بلا نهاية منظورة، في ساحةٍ مفتوحة أمام قوى إقليمية ودولية متطاحنة على النفوذ، خصوصا منذ بدأت هذه القوى المتوحشة حربها على ظاهرة الإرهاب، ووجدت ضالتها المنشودة في تنظيم الدولة الإسلامية، الذي قدم ذريعةً مثاليةً لاستباحة الأرض والأجواء السورية، حتى وإن ذهبت حيوات آلاف السوريين ثمناً للقضاء على هذا الإرهاب.
وأحسب أن ما فاقم مشاعر الناس السلبية في الجوار العربي تجاه ما بدا مثل موتٍ عبثي لا طائل من ورائه، كان اقتتال الفصائل الجهادية في ما بين بعضها بعضا، ووقوع خسائر بشرية واسعة بين المقاتلين أنفسهم، وبين المدنيين المحاصرين، لا سيما في الغوطة الشرقية التي شهدت أسوأ أشكال الاقتتال بين فصائل مطوّقة من أربع جهات، وتقصف من جانب النظام بلا هوادة منذ نحو خمس سنوات. ومع ذلك، لم تتورع تلك الفصائل المهدّدة بالاجتياح والترحيل إلى إدلب، عن الوقوع في الشرك المميت، وراحت تتبادل القصف والاختطاف والإغارات، في مشهد ضرب مشاعر المتضامنين مع الثورة في الصميم، وجعلهم أقل انفعالاً مع فيض الأخبار المروّعة، وأدنى تعاطفاً مع أشرطة الصور المؤلمة، المتدفقة عبر فضاء العالم الافتراضي، طالما أن السوريين المعارضين يقتلون أنفسهم على مثل هذه الطرقة المجانية الحمقاء، التي لم تدخل في قائمة "عنب بلدي".
خلاصة القول، إن الموت على الطريقة السورية القاسية قد بلغ حداً يثقل على الضمير المشترك والوجدان العام، ويدعو إلى الرثاء، وإن هذه الكارثة الإنسانية الرهيبة فاقت كل ما وصلت إليه الكوارث العربية المتنقلة من العراق إلى ليبيا، مروراً باليمن والصومال، وحتى فلسطين، لا سيما إذا ما أضفنا إلى القائمة الطويلة عشرات آلاف المعتقلين والمخفيين قسرياً، وملايين النازحين واللاجئين الهائمين في كل الديار، وحدث ولا حرج عن الدمار والخراب والإفقار، وما انتشر من كراهية وأحقاد متبادلة بين سائر المكونات، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن ما يجري في منطقة عفرين لن يكون نهاية المطاف مع الأسف الشديد.
على وقع طبول الحرب في الغوطة الشّرقيّة وريف إدلب، تعقد روسيا مؤتمر سوتشي بعد أن أحضرت من تستطيع، بهدف تحقيق "السّلام" في سوريا وفق المزاعم الرّوسيّة، سلامٌ تريده روسيا على نموذج غروزني.. "دمّر وأحرق كل شيء، ولا شيء للمهزوم". فهل ينجح الرّوس عبر "سوتشي" في مسعاهم، ويطبّقون سلام غروزني في سوريا؟
تثبت المعطيات - حتى الآن - على نجاح الرّوس في تطبيق سياسة الأرض المحروقة للمدن السوريّة، تماماً كحال غروزني، لكنّ مؤتمر سوتشي وما سبقه يوضح فشل الرّوس في الخروج من المستنقع السّوري بحلٍّ سياسي روّجت له كثيراً. فالمؤتمر فشل قبل أن يُعقد لأنّه افتقد لشرطين مهمّين لإنهاء الصّراع..
- فَقَدَ المؤتمرُ شرط النّدية، سواء من حيث الحضور أو الوضع الميداني؛ فلا يرجى خير من مؤتمر غالبية الحاضرين السّاحقة فيه موالية للنظام أن يسفر عن مخرجات لا يرضاها الأسد، كما يعقد في ظل وضع عسكري صعب جداً للمعارضة السّوريّة. فلا مقارنة بين قوّة النّظام "روسيا" وقوّة المعارضة السّورية، بعد سنوات من التّدخل الرّوسي والإيراني. فعقدُ الرّوسِ للمؤتمر بعد اختلال الموازين العسكرية؛ هدفه إجبار المعارضة القبول بالحلول (الإملاءات) الرّوسية.
- غياب الحياديّة، فالرّاعي لسوتشي طرف رئيس في الصّراع، وغير مؤهل لإنجاح مؤتمر سلام، ولا سيّما أنّه يمارس الدّكتاتورية في بلده، فلا يصلح أن يلعب الرّوس دور الخصم والحكم في آن.
يكفي هذان السّببان لجعل مؤتمر سوتشي مؤتمراً للاستسلام لا السّلام؛ لو حضرته المعارضة السّوريّة ووافقت على مخرجاته.
فالمؤتمر لا يهدف لإخراج القضيّة السّورية من مظلّة الأمم المتّحدة فحسب، رغم ادّعاءات الرّوس الخادعة تمسكهم بالشّرعيّة الدّوليّة، إنّما يهدف أيضا لخطف القضيّة السّوريّة برمّتها، وجعلها مسألةَ خلافات داخليّة بسيطة حول وزارة هنا وتعديل مادة دستوريّة هناك؛ بإمكان الروس وبعض الحلفاء في الإقليم حلّها بالتّعاون مع نظام الأسد "الشرعي"، وفق المنطق الرّوسي.
وأخفق الرّوس في تحقيق مبتاغهم من "سوتشي"، إذ لم يستطع الرّوس إضفاء أيّة شرعيّة وغطاء سياسي لسوتشي؛ الذي أرادت منه أن يكون نهاية سياسيّة ناجحة للقاءات أستانة بعد قضم مناطق المعارضة، ومحاصرتها في جيوبٍ ما زال يجري قضمها جيباً تلو الآخر، وما بلدة "أبو الظهور" إلا مثال على ذلك.
تمثل الفشل الثّاني للروس في رفض المعارضة السياسيّة وحضور المؤتمر، رغم ما تعرضت له من ضغوط واتهامات الإقرار بالهزيمة السياسيّة. وأطلق هذا الرَّفضُ رصاصةَ الرَّحمة على سوتشي، حيث بانَ خواء الدّبلوماسية الرّوسيّة وعجزها عن الحلّ السّياسي منفردة، وظهر أنّها لاعب في الصّراع ليس بيده إلّا خيط واحد من خيوط الحل.
وهذا يقودنا لفتح دوائر أخرى أسهمت في إفشال أهداف الرّوس من "سوتشي" وبيان الأطراف التي تمسك ببقية الخيوط. منها:
الرّفض الإقليمي الضّمني للمؤتمر حتّى من حلفاء روسيا، فإيران التي تراقب مؤتمر سوتشي بعين؛ تُراقب بالعين الأخرى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على رأس وفد ضمّ شخصيات عسكرية أمنية إسرائيليّة لموسكو، حيث تزداد خشية إيران كلّما ازداد النفوذ الروسي؛ لأنّه سيكون - بلا شك - على حسابها. ويدرك الإيرانيون مهارة الرّوس في بيع الحلفاء، وليس مثال عفرين عنها ببعيد.
وليس موقف الأتراك ببعيد عن الموقف الإيراني، حيث اكتفت تركيا بتوجيه نصيحة للهيئة العليا للمفاوضات بالتّوجه لسوتشي، دون ممارسة أيّة ضغوط حقيقيّة. وهذه النّصيحة تندرج في إطار مجاملة روسيا من أجل كسب ودّها في معركة "غصن الزّيتون"، ومواقف المجاملات لا تحلّ قضيّة السّوريين. إذ يعتقد الأتراك أنّ الحل النّهائي يكون بإشراف الأمم المتحدة، وفق تعبيرهم. فهم يؤمنون بأن ترك الخيار لروسيا منفردة يعني بقاء الأسد، وهو أمر مرفوض.
وكشف بيان الدّول الخمس الذي سبق المؤتمر مواقف السعوديّة والأردن، واصطفافها خلف الولايات المتّحدة في ضرورة الحل عبر قنوات الأمم المتحدة بعيداً عن ضغوط الدّول.
كما كشف بيان الدّول الخمس مواقف فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لسوتشي وما يصدر عن سوتشي، ورفض الدّول الحضور، ولو بصفة مراقب، يوضح مقدار المأزق الرّوسي وتغريدها خارج السّرب. فالموقف الأمريكي كان واضحاً من خلال تصريح المسؤولة الإعلامية في السفارة الأمريكية في موسكو، ماريا أولسون، بأنّ "الجهود المشتركة للتسوية في سوريا يجب أن تكون موجهة نحو عمليّة سياسيّة برعاية الأمم المتحدة في جنيف".
ولن يستطيع الرّوس فرض سياسة الأمر الواقع، رغم كل المكاسب العسكريّة الميدانيّة. فالاتفاقات مع تركيا ما زالت في حيز التّفاهمات، ولم ترقَ لمستوى الانسجام والعلاقات الاستراتيجيّة.
والثّمرة الوحيدة التي قد تجنيها روسيا من وراء فشل سوتشي إعطاء الشّرعية للقاءات أستانة. إذ باتت أستانة البوّابة الوحيدة للروس لتنفيذ أجندتهم في سوريا، لكن في الوقت عينِه، فإنّ بوّابة أستانة ذاتها قد تنهار في أيّة لحظة؛ نتيجة ارتدادات مؤتمر سوتشي الذي بدا واضحاً للجميع أنّه محاولة مفضوحة لإعادة إنتاج النّظام السّوري على جثث ودماء السّوريين، حيث كان مجلس سوتشي صورة مصغرة لمجلس الشّعب السّوري.
في الوقت الذي تحاول فيه موسكو كسب سباق الوقت لتحقيق اتفاق سلام «مناسب» في سوريا، نفذت قوات الأسد 93 غارة على ريف إدلب، بينها طائرات هليكوبتر ترمي القنابل المتفجرة على الأحياء المدنية. وقام حزب الله اللبناني بقصف الغوطة، وهي من ضواحي دمشق، حيث يحاصر أربعمائة ألف شخص.
كيف يحدث هذا كله والمتفاوضون يناقشون مسودة سلام؟ ولماذا يظن الروس والإيرانيون، والدول الداعمة لهذا الخط، أن المتفاوضين عن المعارضة السورية يتجرأون على القبول بأي صيغة حل والرسالة التي ترسل إلى الشعب السوري هي القتال والتدمير والتشريد؟
قد يرى مفاوضو سوتشي أن التصعيد العسكري جزء من وسائل الضغط على المعارضة لإجبارها على القبول بالاتفاق، وهذا ما يحدث عادة في الحروب! لكن ليس صحيحاً في الحالة السورية؛ أولاً، القتال لن يحسم الآن مناطق النفوذ. وثانياً، لا يستطيع المفاوضون التوقيع دون موافقات محلية، ودون دعم من الدول الإقليمية والأخرى الكبرى الموالية. وكل ما يحدث من قصف للمدن والبلدات السورية هو إفساد لمفاوضات سوتشي، وليس العكس.
والأسوأ من تكثيف العمليات العسكرية هو ما تسرب من معلومات عن مسودة المفاوضات. جاءت مخيبة للآمال، حيث لم تتضمن أي تبديل يمكن أن يقنع السوريين والعالم بجدية السلام في سوتشي. المعروض على المعارضة لا يزيد عن كونه فرض الوضع الحالي كما هو. يملي واقعاً يبقي على النظام السياسي، وكيان الحكومة، ما يجعله مجرد اتفاق استسلام. وسيقال إنها بالفعل وثيقة فرض الواقع الحالي، وهنا يمكن أن نقول إن إكراه السوريين على القبول بها سيؤدي إلى استمرار القتال سنين أخرى، وسيفقد النظام السوري كل ما حارب من أجله الروس والإيرانيون وحققوه له من انتصارات في السنوات الثلاث الماضية.
لكن حتى مع اختلافنا مع الروس في التفاصيل السورية لا يمكننا تجاهل أهمية مفاوضات سوتشي، وأهمية فرصة السلام التي يمكن تحققها لو طرحت بصيغة معقولة. فالمصلحة السورية، لكل السوريين، نهاية الحرب، وتلبية المطالب المعقولة والعادلة، التي تلبي توقعات المعارضة في المشاركة في المؤسسات السيادية العليا، وتحقيق سلامة المنطقة بإخراج كل الميليشيات الإيرانية وغيرها، وتأمين سيادة واستقلال سوريا.
فشل سوتشي يعني فشل الروس، وبسببه ستتسع دائرة النزاع أكبر مما نرى الآن. وهي قد ازدادت تعقيداً مع دخول الأتراك في الحرب وانقسام المواقف حول دخولهم الأراضي السورية، وما رافقه من خلاف مع الولايات المتحدة التي أصبحت تنشط عسكرياً في حرب سوريا، مثل روسيا وإيران.
نحن نعرف أن الروس يملكون أوراقاً مهمة، وهي قدرتهم في الضغط على النظام في دمشق وعلى إيران، التي تمكنهم من فرض حل معقول على الطاولة أفضل مما هو معروض الآن.
ونخشى أن كل الدلائل تقول بالفشل، بسبب إصرار حلفاء دمشق على فرض اتفاق استسلام وليس سلام. بعدها ستحمل الوفود حقائبها وتسافر إلى فيينا، لتبدأ من جديد رحلة سلام مختلف، قد لا يكون حظه أفضل من حظوظ مؤتمرات سوتشي وجنيف السابقة.
تميزت العلاقات التركية الأمريكية بالتقلب والتبدل المستمر صعودا وهبوطا، لكن جميع الصعوبات والعقبات والمشاكل لم تخرج تلك العلاقات عن دائرة التحالف الاستراتيجي، حيث لم تصل الخلافات بين البلدين إلى درجة القطيعة منذ تأسيس الجمهورية التركية إلى يومنا هذا.
المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية "هيذر نويرت" شبهت العلاقات التركية الأمريكية بحياة زوجين بينهما عقد قران. "تحدث بينهما مشادات، لكن في كل مرة يأسف كل منهما على ما بدر منه"، فهل جاء الدور على أمريكا هذه المرة في الأسف والاعتذار؟.
أمريكا اليوم أمام اختبار حقيقي قد يؤدي إلى خسارة تركيا كحليف استراتيجي، إن هي استمرت في تقديم الدعم اللامحدود للميليشيات الانفصالية في شمال سورية، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب المتمثل في تنظيم داعش، وإن هي أصرت على الاستمرار في التعاطي السلبي مع القضية السورية.
تعلم واشنطن جيدا استحالة قبول أنقرة بكيان مسلح في شمال سورية مهما كان شكل ومسمى هذا الكيان، وتدرك واشنطن أيضا أن تركيا سوف تقاوم أي محاولة لتأسيس هذا الكيان مهما كان الثمن، لأنها تعتبره تهديدا مباشرا لأمنها الاستراتيجي.
وتعلم واشنطن يقينا أن ب ي د PYD ب ي ج YBG وقوات سورية الديمقراطية ما هي إلا مسميات مختلفة لكيان واحد اسمه بي كا كا PKK، الحزب الشيوعي الستاليني، المصنف على قوائم الإرهاب عالميا وأمريكيا أيضا.
وجاء اعتراف الأمريكان أكثر من مرة بعلمهم المسبق بالعلاقة العضوية بين هذه الميليشيات. جاء ذلك علنا في شهادة وزير الدفاع السابق أشتون كارتر أمام الكونجرس، حيث قال بالعبارة الصريحة بأنه يعلم أن PYD هو "فرع" للتنظيم الإرهابي PKK وأن PKK مصنف كتنظيم إرهابي في أمريكا كما غالبية دول العالم.
كذلك المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية "هيذر نويرت"، وفي معرض انتقادها لتركيا قالت : إن "تركيا أهملت الحرب على تنظيم داعش، وأعلنت الحرب على تنظيم بي كا كا".. هكذا بكل وضوح، دون أن تأتي على ذكر PYD أو YBG!.
طبعا هذا اعتراف واضح من مسؤول عالي المستوى في الإدارة الأمريكية . لكن اللافت أكثر أنه لا "نويرت" ولا أحدا سواها من الإدارة الأمريكية، لم يصحح هذا الخطأ، الذي يبدو أنه كان مقصودا.
في عهد الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، بحثت واشنطن عن بندقية جاهزة للإيجار، تصل من خلالها لأهدافها في السيطرة على منابع الطاقة الواقعة شرقي وشمالي سورية، وهذه مناطق نشاط ميليشيات ب ي د/ بي كا كا . إضافة إلى أن فصائل الجيش السوري الحر، فضلا عن رفضها قتال عدواً سوى نظام الأسد، الذي ثارت ضده أساسا، لم تكن بالجاهزية العسكرية بالقدر الكافي الذي يبحث عنه الأمريكان، الذين وجدوا ضالتهم عند ميليشيات صالح مسلم المنظمة والمدربة عسكريا، والمستعدة لتنفيذ الأجندات المطلوبة خارجيا.
التوتر في العلاقات التركية الأمريكية ليس محصورا في دعم واشنطن للمنظمات الانفصالية فقط، إنما هناك عقبات أخرى تتمثل في الدعم الواضح والمكشوف الذي قدمته بعض المؤسسات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية للمحاولة الانقلابية الفاشلة. حيث لعبت قيادة قاعدة إنجيرليك دورا مهما في دعم الانقلابيين، مما اضطر السلطات التركية حينها لقطع التيار الكهربائي عنها.
كما يشكل رفض واشنطن طلب تركيا تسليم زعيم الكيان الموازي الإرهابي فتح الله كولن، الذي تتهمه أنقرة بقيادة المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016، أحد أهم أسباب التوتر في العلاقات بين البلدين.
وبينما تتذرع واشنطن باستقلال القضاء الأمريكي، ترد عليها أنقرة بقضية محاكمة رجل الأعمال التركي من أصل إيراني (رضا صراف)، حيث تم استدراجه ثم الاتفاق معه على الاعتراف بضلوع مسؤولين أتراك بخرق الحظر الأمريكي على إيران، حيث تؤكد تركيا بأنها عملية سياسية أكثر منها محاكمة قضائية.
وعقب إسقاط الطائرة الروسية من قبل عناصر في الجيش التركي ينتمون للكيان الموازي، الذي يقوده غولن من بنسلفانيا بأمريكا، وصلت تركيا إلى حافة الحرب مع روسيا، وخضعت لحالة من العزلة الخانقة، ولم تجد حكومة حزب العدالة والتنمية مخرجا منها سوى التوجه نحو موسكو التي كانت هي بدورها بحاجة ماسة لتركيا.
يعلم الأمريكان أنّ موسكو لا يمكنها اختراق الدائرة الاستراتيجية الأميركية، وأنَ بوتين رغم استغلاله توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن لن يتمكن من ضم أنقرة لطرفه كشريك استراتيجي، كما هو الحال مع طهران.
كما أن جمع تركيا مع إيران في حلف استراتيجي واحد عمل شبه مستحيل، لأسباب كثيرة منها ما هو تاريخي، ومنها اختلاف التوجهات وتعارض الأجندات على أكثر من صعيد، في سورية ولبنان وأذربيجان وغيرها.
بالنسبة لموسكو، يهمها التحالف مع إيران بالدرجة الأولى، وخصوصا في سورية، حيث يضمن لها وجود قوات برية تحت مختلف التسميات، تساهم في استمرار وجودها العسكري هناك، لأنّ سلاح الجوّ وحده لا يحسم معركة ولا يبني نصراً على الأرض. كذلك فإن الحلف الروسي - الإيراني يضمن لموسكو نجاحات وتقاطعات استراتيجية مهمة في المنطقة.
ذهاب الأمريكان بعيدا بإعلانهم عن تشكيل جيش قوامه 30 ألف عنصر يتم اختيارهم من "قوات سورية الديمقراطية" التي يشكل ب ي د / ي ب ج عمودها الفقري، بزعم حماية الحدود التركية السورية، جعل الكيل يطفح بتركيا، فاتخذت قرارها التاريخي بالبدء بعملية "غصن الزيتون" ضد تنظيم ب ي د/ بي كا كا / ي ب ج، المتمركز في عفرين، والذي لم يتوقف عن تهديد المدن الحدودية التركية.
صحيح أن العملية العسكرية التركية في عفرين شكلت صفعة قوية للأمريكان، حيت اتفقت أنقرة مع موسكو وليس واشنطن في الترتيب والإعداد لها. لكنها شكلت في الوقت ذاته منعطفا هامة في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، حيث أجازتها واشنطن وإن على مضض، وأبدت تفهمها للهواجس التركية وحاجتها لتأمين حدودها.
وهذا يدل بوضوح على أن الأمريكان مستعدون للتخلي عن ب ي د/ بي كا كا / ي ب ج عندما يجد الجد، بل إن تصريح قادة البنتاغون بعدم وجود أي قوات لهم في منطقة عفرين فسر على أنه ضوء أخضر لأنقرة بأن تقوم بما تريد في عفرين.
أما الاعتراضات على استحياء والمطالبة بإنهاء العملية العسكرية بأسرع وقت ممكن، فما هي إلا ردود أفعال طبيعية لا تفسد للود قضية.
عدة أيام مضت على انطلاق عملية "غصن الزيتون " في عفرين. مرت بسهولة لم تكن متوقعة، لكنها ربما تزداد صعوبة مع مرور الوقت، خصوصا مع توقعات بأن يتوسع العمل العسكري ليشمل منبج. لكن أنقرة ستتجاوز هذه المصاعب بفضل التحضيرات الجدية الكبيرة التي سبقت العملية، والتأييد الشعبي العارم الذي حظيت به، حيث أيد 83% من الشعب التركي عملية "غصن الزيتون" في عفرين.
القضية الأساسية هي أن أنقرة نجحت في إضفاء الشرعية الدولية على عمليتها العسكرية في عفرين، حيث رفض مجلس الأمن الدولي شجبها، أو اعتبارها اعتداء تركياً على الأراضي السورية.
كل ذلك تم بفضل الاستدارة الأمريكية نحو أنقرة، إذ كان بإمكان واشنطن التضييق على تركيا كما فعلت أيام العملية العسكرية التركية في جزيرة قبرص، بالنظر لوجود كثير من أوجه التشابه بين العمليتين.
ينعقد اليوم وغدا (29 – 30/1/2018) مؤتمر منتجع سوتشي على البحر الأسود، تقول موسكو إن الهدف منه المساهمة في حل القضية السورية، من خلال حوار بين "الشعوب السورية" كما يسميها الروس، لوضع دستور جديد للبلاد، ووقف العمليات العسكرية، والبدء بالعملية السياسية التي تتوقع موسكو منها إنهاء المأساة السورية، ولكن على طريقتها الخاصة، بالإبقاء على النظام الاستبدادي في دمشق، وعدم التطرّق أو مناقشة مصير رأس هذا النظام، لإبقاء بشار الأسد في السلطة حتى عام 2035، بحسب مسودة الدستور التي سبق أن قدمتها موسكو في أستانة، وذلك بعد أن جعل الروس وجوده فيها مسألةً محسومة، ليس باستطاعة أحد تحدّيها.
وترى موسكو أن استمرار المفاوضات والحل السياسي على أساس مرجعية مؤتمر جنيف لن يؤمن أهداف إيران وروسيا بإبقاء بشار الأسد في السلطة. وعليه، يجب العمل على إيجاد صيغة جديدة للحل السياسي في سورية. لذلك يأتي الإصرار الروسي على انعقاد مؤتمر سوتشي، وتقف وراء هذا الإصرار عدة أهداف، منها توهم بوتين بقدرته على الانفراد في فرض حل للقضية السورية، ومحاولة إيجاد مرجعية جديدة للحل السياسي في سورية من خلال نسف مسار مفاوضات جنيف، أو التشويش عليها على الأقل، لتمييع قرارات مجلس الأمن، والقرارات الأممية الأخرى التي تشكل المرجعية الأممية للحل في سورية، وبالتالي الالتفاف على القرارات التي تنص على تشكيل هيئة حكم انتقالية، لا يكون النظام مشاركاً فيها، وفي مقدمتها بيان جنيف لعام 2012 والقرار 2118 لعام 2113 والقرار 2254 لعام 2015.
ومن الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من وراء المؤتمر إظهار نفسها حريصة على التوصل إلى السلام في سورية، وتوسيع نفوذها في الملف السياسي، مستغلة التراجع الواضح لدور الولايات المتحدة والأطراف الدولية والإقليمية الأخرى في هذا الملف. كما تسعى موسكو عبر لعبها دور "صانع السلام" إلى تخفيف حدة الصورة الدموية التي تظهر بها أمام العالم جرّاء عمليات القتل الواسعة التي ترتكبها طائراتها في سورية، بدعوى محاربة الإرهاب.
تصب جميع الأهداف التي تسعى روسيا إلى تحقيقها من هذا المؤتمر في صالح موسكو وحليفها نظام الأسد، بدءاً من أجندة المؤتمر، وقائمة المدعوين لحضوره التي وصلت إلى نحو 1500 شخصية، والرسائل السياسية التي تريد روسيا إيصالها برعايتها هذا المؤتمر. فمعظم الجهات والشخصيات المدعوة للمؤتمر مرتبطة بروسيا وأجهزة المخابرات التابعة للنظام، بغرض تمييع المعارضة الحقيقية، وإضعاف دورها في التوصل إلى حل يتناسب مع تضحيات الشعب السوري.
وعلى الرغم من التهديدات التي وجهتها موسكو إلى المعارضة السورية فيما إذا رفضت الحضور، أو وضعت شروطاً مسبقة للمشاركة في المؤتمر بأنها ستكون خارج العملية السياسية، فقد قرّرت الهيئة العليا للمفاوضات، بأغلبية أعضائها، عدم الذهاب إلى المؤتمر لعدة أسباب، أهمها الغموض الذي يحيط بالمؤتمر، وعدم امتلاكه أجندةً واضحة للحل، والإصرار على بقاء مصير بشار الأسد خارج المحادثات التي ستجري داخل أروقة المؤتمر، إلى جانب اعتراض الهيئة على مكان انعقاد المؤتمر، ورعاية روسيا له، وقائمة المدعوين الذين وجهت إليهم روسيا دعوات للحضور.
وحتى تتواءم مخرجات مؤتمر سوتشي مع ما تشتهيه، فقد صاغت موسكو وثيقةً له تنص على ضرورة تشكيل جيش وطني يعمل بموجب الدستور، وأن تلتزم أجهزة الأمن بالقانون وحقوق الإنسان، وتوفير تمثيل عادل لسلطات الإدارات الذاتية. ومن المقرّر، بحسب التصور الروسي، أن يؤدي مؤتمر سوتشي إلى تشكيل ثلاث لجان: لجنة رئاسية للمؤتمر، ولجنة خاصة بالإصلاحات الدستورية، ولجنة للانتخابات وتسجيل المقترعين. كما أن من المحتمل أن تجري في مؤتمر سوتشي مناقشة إقامة "حكومة وحدة وطنية"، تجمع النظام والمعارضة، وهو مطلب روسي، دأبت موسكو على جعله أمراً واقعاً، بحيث يبقى الأسد على رأس السلطة، أي التطبيع مع النظام، وطي صفحاته السوداء الممتلئة بالضحايا طوال السنوات الماضية، وإعادة إنتاج الاستبداد في سورية، بعد تطعيم بعض مؤسساته بمظاهر احترام حقوق الإنسان، والمحافظة على الجذر الاستبدادي في صورته الأصلية، والإبقاء على الذهنية الاستبدادية لإدارة هذه المؤسسات، وفي مقدمتها الجيش والأمن.
في المقابل، تسعى أطراف أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة، إلى منع موسكو من استثمار مخرجات مؤتمر سوتشي، لتظهر أمام الرأي العام الدولي بمظهر المنتصر واللاعب الأساسي في الملف السوري، وإشعارها بأن كل ما حققته في سورية يبقى هشاً في ظل التعقيدات التي تتسم بها القضية السورية، فقد طرح وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، خلال جولة المحادثات الأممية في مقر الأمم المتحدة في فيينا، أخيرا، وثيقة خماسيةً، أعدها وزراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن في مباحثاتٍ تمت في باريس في 23 من شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، على هامش مؤتمر يتعلق بمنع انتشار السلاح الكيميائي واستعماله، خصوصاً في سورية. وتضمنت الوثيقة الخماسية مبادئ الحل السياسي السوري، حيث أكدت على ضرورة إجراء إصلاحات دستورية، وتحديد صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والإدارات المحلية، تمهيداً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، بإشراف الأمم المتحدة، إضافة إلى وجود ربط واضح بين مساهمة الدول الغربية بإعادة إعمار سورية وتحقيق الانتقال السياسي.
وبحسب وكالة الأناضول، تناقش الوثيقة المنهجية التي ستكون عليها المفاوضات في جنيف، استناداً إلى قرار مجلس الأمن 2254، مع التركيز، بشكل مباشر وفوري، على مناقشة إصلاح الدستور، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، كما طالبت بخروج المليشيات الأجنبية من سورية، والشروع في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، ووقف القصف، وإيصال المساعدات.
وأوصت الوثيقة المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، أن يعمل على تركيز جهود الأطراف على مضمون الدستور المعدل، والوسائل العملية للانتخابات التي تشرف عليها الأمم المتحدة، وإيجاد بيئة آمنة ومحايدة في سورية، يمكن أن تجري فيها هذه الانتخابات. وجاء في الوثيقة أن الرئيس، المعدلة صلاحياته، يجب أن يكون محققاً لتوازن كل القوى، وضامناً استقلال المؤسسات الحكومية والمركزية، أما الحكومة فيرأسها رئيس وزراء، مع منحه صلاحيات موسعة، وصلاحيات للحكومات المحلية، كما أن البرلمان سيتكون من مجلسين، يكون ممثلاً في مجلسه الثاني من كل الأقاليم، للتأثير على عملية صنع القرار في الحكومة المركزية، من دون وجود سلطة رئاسية لحل البرلمان. كما تناولت الوثيقة أيضاً "إصلاح أجهزة الأمن"، بحيث تخضع للسلطة المدنية وإنهاء الحصانة عنها، إضافة إلى عملها في شكل حيادي مع خضوعها للمساءلة والمحاسبة.
وتبدو هذه الوثيقة متمايزة عما تطرحه موسكو في مؤتمر سوتشي، إلا أنها لم تشر إلى تشكيل هيئة حكم انتقالية، ولا تتحدث عن تنحي بشار الأسد عن السلطة، والاكتفاء بتقليص صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء، وتوسيع صلاحيات الحكومات المحلية على أساس اللامركزية، وتشكيل برلمان ذي مجلسين، على غرار الموجود في الأنظمة البرلمانية ومنح دور أكبر للأمم المتحدة، للإشراف على تطبيق الحل السياسي، خصوصا فيما يتعلق بالانتخابات، وتشكيل هيئة انتخابية محايدة ومتوازنة، والسماح للاجئين والنازحين بالمشاركة في الانتخابات، وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254.
يبدو أن الولايات المتحدة تريد أن تظهر للأطراف الفاعلة في القضية السورية أن استراتيجيتها في سورية ستشهد في الفترة المقبلة انعطافة مفصلية مهمة تجاه فرض حل سياسي للملف السوري، وأن هناك تبدلاً حصل في أولوياتها في المنطقة، بعد الانتهاء من محاربة "داعش" التي كانت تتقدم أولوياتها، وتمكّنها من فرض وجود عسكري لها على المدى المتوسط في منطقةٍ تتمتع بأهمية استراتيجية بالغة، لاحتوائها على مصادر الطاقة والثروات الأخرى، يجعلها لاعباً أساسياً في أية رؤية للحل السياسي مستقبلاً، ولتحجيم الدور الروسي، وكذا الإيراني المتزايد على وجه التحديد، والذي يثير حفيظة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل.