لا شيء يفضح الهوة بين «حزب الله» وعموم اللبنانيين، ومن بينهم حلفاء الحزب، كالثقافة. الثقافة بمعناها الواسع بوصفها جزءا من الهوية اللبنانية الاجتماعية، كذائقة وأنماط استهلاك وعادات وفنون وصورة؛ صورة البلد الرخوة، الطرية المبالِغة أحياناً باحتفائها بالحياة والإقبال على ملذاتها.
في هذه المساحة تتبدى المسافة بين اللبنانيين وبين «حزب الله»، لا سيما أن الحزب بعقيدته وقيمه ومحرماته حزب قيادي في مجتمعه وبيئته، خلافاً لأشباهه في البيئات الأخرى، ممن لا يقلّون عنه افتراقاً عن «النموذج» اللبناني العام، ولكن تعوزهم الصفة التمثيلية التي للحزب، وتنقصهم القدرة على ترجمة أجنداتهم إلى سياسات تسندها حشود. مناصرو «حزب الله» من السنة مثلاً، ليسوا في متن الطائفة ولا يتصدرون التعبير السياسي والاجتماعي عنها، ودائرة تأثيرهم تتقلص إلى أحياء محددة. أما البيئات المسيحية والدرزية فهي، حتى في نواحيها المحافظة، مفتوحة كفاية على أنماط الهوية الاجتماعية اللبنانية ومشتركاتها.
وسرعان ما تنفجر بين «حزب الله» والآخرين، حتى الأقربين منهم، حين تكون المسألة الثقافية هي المحك. من يتابع وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، سيشهد على شبه حرب إلكترونية مندلعة بين أنصار «حزب الله» وجمهور الرئيس ميشال عون، على خلفية إجازة عرض فيلم «ذا بوست» للمخرج الأميركي اليهودي ستيفن سبيلبيرغ، وانحياز تلفزيون عون للعرض، وانتقاده بشدة في مقدمة النشرة الإخبارية منطق المقاطعة باعتباره «لا يوصل إلا إلى الهزائم»! تختفي هنا الاعتبارات السياسية التي جمعت في تحالف هجين، تياراً ليبرالياً مسيحياً هو التيار العوني، مع ميليشيا مذهبية كـ«حزب الله» منذ عام 2006. وتطفو على السطح الحساسيات المتصلة بالنموذج اللبناني، على رداءة كثير من جوانبه وكليشيهاته. فمنع فيلم بحجة أن مخرجه متعاطف مع إسرائيل، شأن لا يحتمله مسيحي ليبرالي، أو سني أو درزي أو شيعي، أي هذا اللبناني المشترك في كل اللبنانيين، والذي لا صلات لـ«حزب الله» به.
فلا تنطلي، إلا على قلة، فكرة رفض التطبيع التي توسلها «حزب الله»، وهو يفتتح نقاشاً خاسراً حول جواز عرض فيلم سبيلبيرغ أو منعه؛ لأن الأصل هو الافتراق الهائل بين نموذج «حزب الله» وبين المساحة المشتركة لنماذج بقية اللبنانيين.
فهو في كل مرة أطل بمقص رقيبه، توسل عنواناً مختلفاً، وقدم لرأيه بحيثيات تختلف عن المرة التي سبقتها ليبقى الثابت الوحيد، شهيته لقضم المزيد من مفردات النموذج اللبناني وتطويعها.
المجمع الجامعي التابع للجامعة اللبنانية في الحدث جنوب شرقي بيروت، شهد في مناسبات عدة على هذه الحرب الخفية بين نموذج «حزب الله» وما أسميه النموذج اللبناني العام. من مثالات ذلك إسقاط الحزب من برنامج كلية الفنون الجميلة، للموديل، الذي يعد من «ألف باء» دروس الرسم والنحت ومادة نجاح أو رسوب في تخصصات الفنون التشكيلية، في حين تحافظ عليه برامج معاهد وجامعات خاصة في لبنان منذ أربعينات القرن الماضي.
المجمع الجامعي نفسه، الذي يتحول في أوقات عدة من السنة إلى حسينية بالمعنى الحقيقي للكلمة، شهد على منع بث أغنيات السيدة فيروز، في إحدى المناسبات الطلابية، بضغط مباشر قاده طلبة «حزب الله» على اللجان الطلابية وعلى إدارة الكلية التي كانت تحتضن المناسبة.
وأذكر بين ما أذكر «نأي» وزير «حزب الله» بنفسه في إحدى الحكومات قبل سنوات قليلة، عن رعاية وزارته لمهرجان النبيذ اللبناني، وتولي وزير بالوكالة، مهمة الرعاية والحضور. صحيح أن النأي بالنفس، لا يرتقي إلى مستوى المنع والتحريم، وهو أمر دونه الكثير، لا سيما أن صناعة النبيذ في لبنان صناعة كبيرة نسبياً وترفد قطاع الزراعة والعاملين فيه، لكنه يعطي إشارة إلى مدى الافتراق بين نموذج «حزب الله» والنموذج اللبناني العام.
لا يقف الأمر هنا. فبمثل ما حوّل «حزب الله» المجمع الجامعي في منطقة الحدث جنوب شرقي بيروت إلى حسينية، حوّل بعلبك، مدينة الشمس، إلى مدينة الإمام الخميني، بصوره العملاقة التي تستقبلك عند مداخلها والأعلام والرايات الحزبية والإيرانية. لا شيء في بعلبك يشير إلى أنها مدينة سياحية، بل ربما المعلم السياحي الأبرز في لبنان، إلا في خلال مواسم مهرجانات بعلبك التي لطالما عبر «حزب الله» عن امتعاضه الموارب والصامت منها. وقد نجح الحزب، متذرعاً عام 2013 بالظرف الأمني الناتج عن الحرب في سوريا، في منع المهرجانات لتعود في العام التالي، من دون أن يخلو أي من الأعوام من اعتراضات لـ«حزب الله» على الفرق الأجنبية والأميركية المستقدمة إلى الحفلات بالإضافة لسجالات التطبيع لو حصل أن فناناً سبق له الغناء في إسرائيل!!
حقق «حزب الله» «انتصارات» في هذا المجال، وخاض معارك خاسرة مع النموذج اللبناني؛ آخرها فشله في منع عرض فيلم «ذا بوست»، وهذا يظهر قوة النموذج اللبناني الليبرالي، لكنه أيضاً ينذر بأن الخطر الحقيقي ليس التطبيع مع إسرائيل بل التطبيع مع «جمهورية حزب الله»!
جاءت زيارة مساعد وزير الخزانة الاميركية لشؤون مكافحة تمويل الارهاب مارشال مبلتغسلي لبيروت بعد جملة اجراءات وعقوبات اتخذتها الادارة ضد «حزب الله»، آخرها تشكيل وحدة في وزارة العدل للتحقيق في ما تسميه نشاطات الحزب في الحصول على تمويل من الاتجار بالمخدارات لغايات الارهاب.
وتقول مصادر ديبلوماسية، ان المسؤول الاميركي هدف من زيارته مراقبة تنفيذ لبنان والقطاع المصرفي للعقوبات، وامتثال القطاع للقوانين الاميركية والدولية.
ولدى الاميركيين متابعة دقيقة للموضوع، اذ لا تعتبر واشنطن الامر امنياً او سياسياً فحسب، انما ايضاً، يكمن في ان وجود تنظيم مسلح في لبنان شريك في الحكومة والبرلمان متهم بهذه الاعمال من جانب الولايات المتحدة. وزيارة المسؤول الاميركي، تثبت المسار الذي تتمسك به واشنطن بالنسبة الى سياستها تجاه الحزب وتجاه ايران من ورائه. كما يأتي التحرك الاميركي للادارة الحالية، رداً على الانتقادات التي وجهت داخلياً للادارة السابقة هناك، والتي تغاضت عن ملاحقة شبكات «حزب الله» في العالم، من اجل التوصل الى التوقيع على الاتفاق النووي مع ايران. ويدخل التحرك في اطار تصعيد الضغوط لتوقف تنامي نفوذ ايران في الشرق الاوسط. والقدرات العسكرية للحزب مع الاشارة الى ان ملاحقة هذه الشبكات كانت موضوع تحقيق بموجب «مشروع كاساندرا» السابق.
وما لا تستسيغه واشنطن هو ان الحزب الذي لديه "الدور السياسي الميليشيوي" بحسب المصادر، شريك في ادارة البلد في ظل الاتهامات الاميركية الموجهة اليه. ولديها تساؤلات حول ان الحزب الذي يدعي بأنه يحارب التكفيريين "هو نفسه متورط في المخدرات والارهاب". وبالتالي، ان الزيارة جاءت في اطار "الضغوط القانونية والمعنوية والسياسية على الدولة لتذكيرها ان شريكها في السلطة خارج القانون الدولي وهو متهم".
وتفيد المصادر بأن الولايات المتحدة استطاعت ادراج اسماء من «حزب الله» او غيره على لوائح الارهاب، نتيجة المراقبة الدقيقة للتعاملات التي تحصل بين الدول، لا سيما بين اميركا اللاتينية وافريقيا. وبالنسبة الى واشنطن، فان ما قامت به وزارة العدل، هو مراقبة المعاملات المالية المرتبطة غالباً بالمخدرات، حيث هناك العديد من الشبكات المتخصصة في هذا المجال. ما يعني انه قبل تشكيل اللجنة المولجة بالتحقيق في انشطة «حزب الله»، في هذه الوزارة، فان التحقيقات الفعلية الاميركية، والاستقصاءات ومتابعة حركة التحويلات المصرفية، كانت نشيطة ومركزة.
ولا تستبعد المصادر، ان تضع الولايات المتحدة لوائح جديدة تطال هذا الموضوع، وهي تأتي في اطار سياسة التشدد حيال الحزب وحيال الراعي الاقليمي له، اي ايران. وتأتي ايضاً بالتزامن مع موقف الرئيس الاميركي دونالد ترامب الاخير حول ضرورة تعديل الاتفاق النووي بما يضمن عدم قدرة ايران على امتلاك القنبلة النووية نهائياً، وليس فقط لمدة عشر سنوات كما ينص عليه هذا الاتفاق. وهو سيقود محادثات مع الاوروبيين حول هذا الهدف.
وتشير المصادر، الى ان الولايات المتحدة لديها لوائح متنوعة حول الارهاب والمخدرات، وحقوق الانسان، والاتجار بالبشر، والارهاب المتصل بالوضع السوري وغيرها وهي تفرض عقوبات في كل هذه المجالات وتضع اسماء افراد وشركات تعتبرها متورطة. وعلى الرغم من ان اللوائح اميركية، الا ان كل العالم يتأثر بها، لان من يتعامل مع المتورطين، يخضع للعقوبات نفسها من جانب الولايات المتحدة.
مصادر ديبلوماسية اخرى، تقول ان اي تحقيق اميركي مباشر في لبنان من وزارة العدل الاميركية لم يحصل، لكنه اذا حصل يبدو غريباً، لانه يجب ان تكون هناك ممارسة سيادية والا كل شيء بات مستباحاً ويجب ان تكون هناك اطر ما لاي تعاون، فهناك التعاون القضائي مثلا، ويتخلله ارسال مذكرات حول اسماء محددة، وهناك التعاون الامني، وهذا بالتحديد سيجعل الحزب قلقاً من مثل هذا التعاون، الا اذا حمل الاميركيون اسماء معينة. كما يمكن ان يتم التحقيق ضمن اطار الامم المتحدة والاتفاقيات المالية الدولية التي ترعى العمل ضد كل الجرائم المعروفة، والتحويلات المالية التي تخصص لها. فهناك لجنة مكافحة الجريمة المنظمة والمخدرات في الامم المتحدة. ثم هناك التعاون عبر الانتربول الدولي.
وتؤكد المصادر، ان كل ما تقوم به واشنطن هو وسيلة ضغط اضافية على «حزب الله» وعلى ايران في الوقت نفسه. لانها تعتبر انه من ضمن الموقف الاستراتيجي من ايران يجب ملاحقة اتباعها في المنطقة، انما ليس سهلاً ارسال وفد الى الدول ومن بينها لبنان للتحقيق في انشطة الحزب.
وافادت مصادر ديبلوماسية، ان مجيء اي لجنة الى بيروت في حال حصوله ستسمع ان الحزب اعلن بذاته انه لا يستعمل المصارف في حركة امواله، وليس لديه تحويلات عبرها والحزب لا يتعاطى مع المصارف. وفي الوقت نفسه فان القطاع المصرفي يلتزم بالقوانين الدولية.
تستمر العملية العسكرية التي تقودها القوات المسلحة التركية في شمال سوريا بهدف إنهاء فعاليات عناصر بي كي كي ووحدات الحماية الشعبية بالتقدم، وذلك من دون التعرّض لأي عوائق تُذكر، فيما اشترك ذوو الخبرة في الشأن العسكري على رأي موحّد وهو أن سر النجاح الكبير لهذه العملية يعود إلى تخطيط مسبق وطويل الأمد، أما على الصعيد السياسي فمن الممكن والمتوقع حدوثه بشدة أن تأتي عملية عفرين بنتائج قد تعود بمكاسب كبيرة على السياسة الخارجية لتركيا. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النجاح السياسي تحقق نتيجة التقييم الجيد للسياسة الدولية والإقليمية.
ومن المعلوم أن مجرد وجود حزب الاتحاد الديمقراطي الجناح السياسي لـ بي كي كي في سوريا هو أمر غير مقبول بالنسبة إلى تركيا، ولا سيما أن دعم أمريكا وروسيا لحزب الاتحاد الديمقراطي وتسليحه بحجة مكافحة داعش يشكّل مصدراً لإثارة المشاكل، باعتبار أمريكا وروسيا دولاً حليفةً لتركيا. في السابق لم تكن الظروف السياسية موائمة لتدخل تركيا، لكن أدت بعض التطورات في الآونة الأخيرة إلى فتح المجال أمامها للقضاء على هذا الخطر الذي يهدد أمنها القومي بشكل مباشر.
لم تتمكن أمريكا التي تعتبر الحليف الأقوى لحزب الاتحاد الديمقراطي، وكذلك روسيا التي تعتبر العامل الأكثر مساهمةً في تطور الحزب من تقديم أي اعتراض ملموس تجاه عملية عفرين التي تستهدف التنظيم بشكل مباشر، وهناك عدة أسباب لذلك والأول هو المنافسة الموجودة بين موسكو وواشنطن فيما يخص التحالف مع حزب الاتحاد الديمقراطي، لنتوسّع في هذه المسألة قليلاً، بي كي كي هو تنظيم يؤسس علاقاته ويختار حلفاءه بناء على الموازين الدولية والإقليمية، في الواقع بعد تأسيس تنظيم بي كي كي في ظل الإدارة الروسية بدأ التنظيم يميل إلى واشنطن أكثر من موسكو، كما أصبح في بعض الأحيان قريباً من إيران وبعض الدول الأوروبية أيضاً.
ربما لو استمرت فترة الحل التي حاولت تركيا تنفيذها لمرتين مسبقاً لكان ذلك قد أدى إلى تشكيل حركة سياسية كردية تحت إدارة أنقرة، لكن القوى الخارجية لم تسمح بحدوث ذلك، فيما انتهت فترة الحل الثانية حين اقترب الأكراد من تأسيس دولة كردية مستقلة في منطقة "روجافا" -منطقة في الشمال السوري حاول الأكراد تحويلها إلى دولة كردية مستقلة ولكن لم تعترف بها أي دولة في العالم حتى الوقت الحاضر- ولكن يجب أن لا ننسى نقطة مهمة وهي بعكس ما تزعمه الحملات الدعائية الصادرة عن بي كي كي فإن الجمهورية التركية بحكم مبادئها وقيمها السياسية والثقافية لا تعارض تأسيس حزب سياسي كردي، وتأكيدا على ذلك اقترب إقليم كردستان العراق الذي عارضت تركيا تأسيسه بشدة في البداية لأن يكون الحليف الإقليمي الأقوى لأنقرة حين بدأ بإظهار مواقف قريبة من الحكومة التركية، واستمر ذلك إلى مرحلة الاستفتاء الذي أُجري في الإقليم على الرغم من معارضة أنقرة لذلك، يمكن القول إن أنقرة قد أظهرت ردة فعل طبيعية حيال إنشاء دولة كردية أو إقليم كردي وذلك لخوفها من أن تتبع الدولة المزعومة سياسة التمييز الطائفي بين الشعب. وأثبتت الأمثلة التي شهدناها مسبقاً أن الأمر لا يتعلق بهوية الطرف الآخر إنما يتعلق بموقفه تجاه الحكومة التركية.
عند العودة إلى الوقت الحاضر نلاحظ أن سيطرة أمريكا على منطقة كوباني تزداد يوماً تلو الآخر، فيما استمرت منطقة عفرين بالبقاء تحت سيطرة روسيا، إذ تعتبر روسيا أنه لا فائدة من السيطرة على عفرين فقط من ضمن منطقة روجافا كاملة، وأن عفرين ستعود للاتحاد مع كوباني التي تقع تحت السيطرة الأمريكية عاجلا أو آجلا، لذلك لم تجد ضرورةً للمبالغة في معارضة اقتراحات تركيا فيما يخص عملية عفرين، وهناك من يصف تحليل هذا الموقف بعبارة "روسيا خانت بي كي كي لأن الأخير قد خانها مسبقاً"، أما بالنسبة إلى الصمت الأمريكي تجاه عملية عفرين فيعود السبب في ذلك إلى اعتبار أمريكا أن عفرين في جميع الأحوال منطقة تابعة لروسيا.
يمكن أخذ هذا التحليل بعين الاعتبار لدرجة معينة لكن عند مشاهدة الظروف من منظور أوسع نلاحظ وجود لوحة جديدة في سوريا، حان الوقت لتأسيس بنية سياسية جديدة في سوريا، وبما أنه لا وجود لاحتمال توحّد الأطراف التي أراقت دماء بعضها البعض لسنوات عديدة فذلك يعني التوجّه نحو إيجاد حل مشترك ومناسب لجميع الأطراف، في حين تبدو الخريطة الجديدة للمنطقة أكثر وضوحاً الآن.
تشي العملية العسكرية التي تخوضها تركيا في منطقة عفرين في شمال سورية، بالاعتماد على مقاتلين من فصائل في الجيش السوري الحر، بأن الصراع في سورية انتقل إلى مرحلة تثبيت النفوذين، الدولي والإقليمي، فيها، حيث تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى تثبيت نفوذها بعد إعلان استراتيجيتها الجديدة في سورية، الهادفة إلى إنشاء دويلة أو كيان انفصالي في منطقة الجزيرة السورية، عبر إعلانها العمل على تشكيل جيش مؤلف من ثلاثين ألف مقاتل، قوامه الأساسي عناصر مليشيات "وحدات حماية الشعب"(YPG)، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، مهمته الانتشار على طول الحدود مع تركيا والعراق، وعلى الصفة الشرقية لنهر الفرات، إلى جانب إنشائها قاعدة "التنف" في الجنوب الشرقي من سورية، وقواعد ومطارات عسكرية في شمالها، بينما تسيطر روسيا على منطقة الساحل السوري، بدءا من اللاذقية، وصولاً إلى حمص ودمشق، وأقامت فيها قواعد عسكرية بحرية وبرية ومطارات، وثبتت وجودها العسكري باتفاقيةٍ مذلة مع النظام السوري، تقرّ بتحول القوات العسكرية الروسية إلى قوة احتلال شبه دائم في سورية. أما إيران فقد ضمنت الطريق الممتد من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، وثبتت نفوذها في البوكمال في البادية السورية، وفي المنطقة الممتدة من دمشق إلى بيروت، حيث تنشر فيها أكثر من 70 ألف مرتزق من مليشيا حزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية، فضلاً عن قواعد ومصانع أسلحة، وضباط ومقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وسواهم.
وبقيت تركيا الطرف الإقليمي الذي لم يرضه ما حصل عليه في حسابات صراع تقاسم النفوذ، إذ اكتفت مرغمةً بمنطقة محدودة، تمتد من مدينة جرابلس إلى بلدة الراعي، وصولاً إلى مدينة الباب، مع أنها من أكثر الدول المعنية بالملف السوري، حيث منعها الأميركان والروس من التقدم باتجاه مدينة منبج، عندما أطلقت عملية "درع الفرات" في 24 أغسطس/ آب 2016. وأرغمت تلك الممانعة الساسة الأتراك على تغيير وجهتهم الغربية باتجاه التفاهم والتنسيق مع الروس والإيرانيين حيال الوضع في سورية.
ولم يكن للعملية العسكرية التركية في عفرين أن تنطلق، لولا حصول تفاهماتٍ عليها ما بين الساسة الأتراك والروس والإيرانيين، وعدم اعتراضٍ من الإدارة الأميركية، لأنه في عالم السياسة والعلاقات الدولية، لا تتصرف الدول إلا حسب مصالحها القومية ومشاريعها. وفي القضية السورية، لا يكترث ساسة هذه الدول بمعاناة الشعب السوري، ولا بالكلفة البشرية والمادية الهائلة التي دفعتها غالبيته خلال سنوات الصراع في سورية وعليها.
وقد جرت مقايضات دولية وإقليمية خلال التفاهمات بين الساسة الأتراك والروس والإيرانيين بشأن العملية العسكرية في عفرين، إذ ليس مصادفة أن ينسحب الجنود الروس من بلدة كفر جنة القريبة من مدينة عفرين، وأن تعلن وزارة الدفاع الأميركية أن منطقة عفرين لا تدخل ضمن نطاق علميات التحالف الدولي الذي تقوده ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأن تفسح كل من روسيا والولايات المتحدة المجال أمام المقاتلات التركية، بوصفهما القوتين المسيطرتين على السماء السورية، كما أنه ليس بعيداً عن ذلك كله تقدم قوات النظام الأسدي والمليشيات الإيرانية في محافظة إدلب، وسيطرتها على مطار أبو الظهور.
ولعل التخلي الأميركي والروسي عن مليشيات وحدات الحماية الكردية في عفرين يكشف هشاشة تعويلها الكامل على الأميركيين أولاً، وعلى الروس ثانياً، لأن ساسة هاتين القوتين العظميين لا ينظرون إلى اللاعبين المحليين إلا وفق منظور استخدامهم وتوظيفهم خدمةً لمصالحهما وأجنداتهما ومشاريعهما التوسعية.
وفي الجانب الإقليمي، ليس مستغرباً أن يحصل التفاهم بين ساسة تركيا وإيران، إذ على الرغم من تضارب إيديولوجية كلتا الدولتين، واختلاف مشاريعهما في المنطقة، وسعي ملالي إيران إلى تنفيذ مشروعهم الهادف إلى السيطرة على المنطقة، إلا أن ساسة هذا النظام لم يتوانوا عن عقد الصفقات المقايضات مع جميع الأطراف. لذلك، جاء الموقف الإيراني من العملية العسكرية التركية في عفرين باهتاً، حيث اكتفت الخارجية الإيرانية بتصريح عبر عن قلقهم البالغ، وعن أملهم "في إنهاء العمليات التركية ضد المدينة" في أسرع وقت.
غير أن اللافت ليس فقط وقف منظومة إس 400 الصاروخية الروسية في سورية، والسماح للمقاتلات التركية بدكّ حصون مليشيات الحماية الكردية، بل تصريح فرانس كلينتسيفيتش، نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس الاتحاد الروسي، لوكالة نوفوستي الروسية، إن "روسيا لن تتدخل، حتى ولو حصل نزاع بين الجيش التركي وقوات نظام الأسد"، متذرعاً بأن "الاتفاقات مع النظام السوري لا تنص على ذلك". وهو تصريح فريد، والأول من نوعه لمسؤول روسي، عن عدم وقوف روسيا إلى جانب النظام الأسدي.
ومهما كانت التفاهمات والمواقف الدولية حيال العملية العسكرية في عفرين السورية، فإن المدنيين السوريين هم الطرف الخاسر الوحيد، عرباً وكرداً وتركمانا وسواهم، وقد يدفعون ثمناً يضاف إلى الأثمان الباهظة التي دفعوها في السنوات السبع الماضية. ومعروف أنه عندما تشتعل المعارك العسكرية، فإن السياسة لا تغلق أبوابها، بل تفتح على الصفقات والتفاهمات والمزايدات. وتعي تركيا أن دخول مدينة عفرين مكلف جداً على الجميع. لذلك من المرجح أن تقتصر العملية العسكرية التركية على تمكن فصائل الجيش الحر من استرداد البلدات والقرى العربية التي تحتلها مليشيات الحماية الكردية، وأن يُحاصَر مقاتلو هذه الوحدات أو يُرتب انسحابهم من المدينة بتفاهم دولي، وهو أمر لا يبدو سهلاً، لأن منتسبي حزبي العمال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي يسيطرون على هذه المدينة منذ سنوات، والأهالي أشبه برهائن بالنسبة إليهم، والأمر يتوقف على إرادة اللاعبين والخائضين في الملف السوري وحساباتهم، للبتّ في حدود العملية ومداها.
«سنعزز تحالفاتنا القديمة وسنشكل أخرى جديدة».
كانت هذه كلمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 20 يناير (كانون الثاني) في مراسم تنصيبه.
هذا المبدأ الحاكم في سياسة ترمب الدولية، هو المفتاح الذي ندخل به دهاليز السياسة الأميركية الحالية في الشرق الأوسط؛ موقفه الصلب من النفوذ الإيراني، موقفه الضاغط على الأوروبيين بخصوص مراجعة الاتفاق «السيئ» كما يصفه دوماً مع إيران بخصوص برنامجها النووي (5+1)، كما يلاحظ الجميع.
ضمن هذا السياق أتت الخطوة الأميركية التي أعلن عنها وزير الخارجية الأميركية ريكس تيلرسون، الاثنين الماضي، أن الولايات المتحدة تعتزم إرسال فريق دبلوماسي إلى أوروبا، والفريق سيبحث «كيف يتسنى لنا التعاون بصورة أكبر بشأن مواجهة الأنشطة الإيرانية التي لا علاقة لها بالبرنامج النووي»، من ذلك صادرات إيران من الأسلحة «إلى اليمن وأماكن أخرى».
في هذا السياق أيضاً نفهم المقالة الكاشفة للباحث الأميركي جاي سولومون، الزميل الزائر بـ«زمالة سيغال» معهد واشنطن، ومؤلف «حروب إيران: ألعاب التجسس، معارك المصارف، والاتفاقات السرية التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط». المقالة منشورة على شبكة «إم بي إن» الأميركية، وفيها تحدث سولومون بتوسع عن الضغط الأميركي على الدول التي لها علاقة بإيران في المنطقة، حتى لو كانت علاقة وساطة مع إيران أيام أوباما، حسب سولومون كانت سلطنة عمان هي مثال المقال.
كما تحدث عن ازدياد الدعم اللوجيستي والاستخباري الذي تقدمه الولايات المتحدة للسعودية والتحالف العربي باليمن، قياساً على الموقف السلبي أو البارد أو المتخاذل أو المتواطئ، صفه بما شئت، أيام «العظيم العبقري» باراك أوباما!
على ذكر الأخير، كل يوم نكتشف المزيد من «ألغام» وهدايا الرجل لنا بخصوص النفوذ الإيراني، وكالة «رويترز» ذكرت أن موقع «واشنطن فري بيكون» كشف عن اتفاق «سري» آخر أبرمته إدارة باراك أوباما مع إيران يعرقل فرض عقوبات على «هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية» المتهمة بانتهاكات حقوق الإنسان.
وطبعاً لدينا صفقة «كاسندرا» الفاضحة التي تُتهم إدارة أوباما بها، وهي إيقاف التحقيق بخصوص أكبر شبكة اتجار بالمخدرات وغسل أموال لـ«حزب الله» اللبناني في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية! عشان عيون الاتفاق المقدس مع إيران.
بوضوح، مَن كان يلعب بالهامش الأوبامي مع إيران، لأن أميركا العظمى وقتها تحت قيادة السياسات الأوبامية الدافئة مع إيران، عليه أن يحدد موقفه بوضوح اليوم، سواء بأوروبا أو بلاد العرب.
يجب استيعاب الرسالة الأميركية الجديدة بخصوص إيران، وهي كما قال ترمب: «نعزز تحالفاتنا القديمة ونشكل أخرى جديدة».
حين يصبح «مكتوباً» على الولايات المتحدة وروسيا أن تتعايشا في ميدان عمليات واحد، كما الحال في سورية، فسيكون على بقية الأطراف الإقليمية أن تتحسس رؤوسها. يطلق وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون استراتيجية بلاده الجديدة في سورية، لكنه من داخل النص يقرأ السمات المتقدمة لسياسة بلاده الجديدة في الشرق الأوسط.
ووفق ما قدمه وزير الدفاع جيمس ماتيس مكملاً ما نفخ به زميله تيلرسون، فإن واشنطن تعود إلى المواجهة لوقف صعود صيني بات مقلقاً ولكبح جماح روسيا التي زينت سورية لها أمر ارتقائها نحو قمة العالم. يكشف رجال الديبلوماسية والدفاع في الولايات المتحدة أن ذلك النأي الذي مارسته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما عن الانخراط الفعلي والفاعل في أزمة سورية، أتاح تقدماً لبكين وموسكو، وأن العودة إلى سورية هي الفيصل في استعادة زمام أمور زعامة الولايات المتحدة على العالم أجمع.
ربما في الأمر مفارقة. ذلك أن التحوّل الأميركي في الشرق الأوسط سريع الوتيرة انقلابي الخيارات تعوزه رصانة وثبات يليقان بالدولة العظمى في العالم.
فلا خيط عقلانياً يجمع بين قرار ترامب في شأن القدس ودعم الأكراد في سورية ومواجهة إيران وتعظيم التحالف مع دول الخليج. ولن نهضم نظريات تبيع حكمة من وراء ما هو ارتجالي انفعالي في خيارات واشنطن وتعتبرها واجهة لخطط جذرية متينة قادمة لإحلال السلم والعدل في المنطقة.
فجّرت واشنطن قنبلتها السورية فأصابت شظاياها أطرافاً قريبة وأخرى بعيدة جداً. ذلك أن تركيا كادت تعتبر الأمر عدواناً فيما رأت فيه موسكو تدخلاً غير شرعي وراحت طهران من خلال دمشق تهدد برد الاعتداء الغاشم. في الوقت ذاته صدر في باكستان والصين وأفغانستان والهند، ما جعل من «التفصيل» السوري حدثاً بيتياً له دلالات كبرى.
تدخل الولايات المتحدة إلى «عقــــر دار» روسيا وإيران، وهنا بيــــت القصيد. أسقطت واشنطن عقد الشراكة الملتبس الذي أبرم بين أوباما وفلاديمير بوتين. لم تكن شراكة بالمعنى الدقيق، بل كانت غضَّ طرفٍ أميركي يشبه الرعاية الكاملة لخطط سيّد الكرملين في هذا البلــــد. تمّ تقاسم الأدوار بين الدولتين، بحيث يبقى التنافر تقليدياً حول أوكـــرانيا على أن يكون تواطؤاً كاملاً في سورية. أوفى بوتين بقسطه من العقــــد، بأن أشرف على سحب سلاح النظام الكيماوي (الذي ثبت لاحقاً أنــــه لم يسحب) وسهر على صيانة أمــــن إسرائيل في سورية وراحت آلته العسكرية تحرق وتدمر على نحو لا تريد المنظومة الغربية التورط فيه، وسعى بدأب الى صناعة حلّ سوري يقي الغرب إرهاباً ومهاجرين.
تقادمت الشراكة السابقة بين واشنطن وموسكو في سورية. بات لواشنطن قواعدها العسكرية وطائرات مسيّرة تغير على قواعد روسية، وفق اتهامات موسكو. وبات على بوتين إعادة قراءة موقعه السوري وفق المعطى الأميركي الجديد. ومن تأمل ردود فعل روسيا منذ إطلاق تيلرسون «قنابله»، نستنتج حصافة عالية في مقاربة المستجد ودقة كبيرة في انتقاء صيغ التعبير. فبوتين متمرس في التحديق في ما هو بعيد، فيما الآخرون مستغرقون بالجلبة القريبة. يعرف الرجل أن أميركا تغيرت وأن عليه فقط تغيير شروط الشراكة.
على هذا ترتسم يوميات الخطط الأميركية في سورية، على إيقاع التحقيقات الداخلية الأميركية المتعلقة بمسؤولية روسيا في التلاعب بالانتخابات التي أتت بدونالد ترامب إلى البيت. وفي ضوء تقدم وتراجع التهم التي قد تكال إلى الكرملين والبيت الأبيض، ستتبدل وتتصّدع وتتعدّل سطور الشراكة الجديدة المفترضة بين موسكو وواشنطن في سورية. يدرك رجل روسيا القوي أن آستانة وسوتشي باتتا قرقعة لا مستقبل لها من دون رعاية أميركية كاملة. فواشنطن أعادت تأهيل جنيف من جديد بصفته المدخل الشرعي الوحيد لأي حل حقيقي في سورية.
لكن الحدث السوري بالنسبة إلى واشنطن يضاف إلى الحدث العراقي أيضاً ،من حيث العودة لتحدي إيران داخل مناطق لطالما اعتبرت ساقطة داخل نفوذها. يأتي التدبير الأميركي في سورية مكملاً لمسار أميركي عتيق أسس لعودة عسكرية وسياسية كاملة تحت مسوغ مكافحة تنظيم «داعش» في العراق. وفي الإعلان عن بقاء القوات الأميركية في سورية ما يأتي ملتحقاً بموقف ترامب من الاتفاق النووي، وربما تحضيراً لما تؤكد مراجع أميركية أنه عزم على الانسحاب من هذا الاتفاق على رغم تمسك الأوروبيين به. واللافت أيضاً، والذي يقلق طهران ويستفز داخلها البحث عن أدوات خلاقة للرد، أن المواجهة الأميركية لنفوذ إيران في المنطقة تأتي مباشرة بأدوات أميركية خالصة من دون المرور بالوكلاء والحلفاء في المنطقة. وكأن سياسة حافة الهاوية التي احترفتها إيران أضحت معتمدة في واشنطن أيضاً تستدرج الصدام.
قد تستفز سياسة واشنطن الجديدة في سورية الجميع، روسيا تركيا وإيران. لكن روسيا لن تصطدم مع واشنطن وكذلك لن تفعل تركيا، على رغم الصخب العسكري حول عفرين. فبين تلك البلدان حسابات دقيقة التي لا تتيح أن يتحوّل تناقض المصالح إلى مواجهة ميدانية. تعرف واشنطن ذلك، وهي في مقاربتها الهجومية تجذب الشركاء-الخصوم إلى تموضع آخر يفضي إلى توازنات جديدة. في المقابل، فإن طهران هي الوحيدة التي لها مصلحة في تقويض الوجود الأميركي في سورية كما فعلت سابقاً في العراق وأفغانستان.
ومع ذلك، فإن إيران التي اهتزت مدنها، على وقع التظاهرات الأخيرة والتي تراقب الزلزال القادم المتعلق بمستقبل الاتفاق النووي وتقلق من انفجار بنيوي داخلي على خلفية عدم القدرة على استشراف مستقبل النظام بعد خامنئي، لن تقوى على فتح جبهة إضافية ضد واشنطن لا من خلال «حرسها» الثوري ولا من طريق ميليشياتها التابعة. تعرف واشنطن ذلك، وتطلق في سورية عملية تقويض كبرى ضد إيران تنهل من حقد عتيق أحيا الأميركيون ذاكرته مؤخراً في نبش غريب لحدث عتيق تمّ ضد ثكنة المارينز في بيروت منذ أكثر من ثلاثة عقود.
يتخفف وفد المعارضة السورية من كل الشروط السابقة لحوارات الكيانات السياسية مع روسيا، الدولة الشريكة في صناعة المقتلة السورية. وعلى الرغم من أهمية ما يمكن أن ينتج عن الحوار المباشر مع دولةٍ شريكة للنظام في الحرب على الشعب السوري، إلا أن هذا الحوار كان يمكن أن ينتج من موقف كل من الجهتين المتحاورتين، أي الوفد باعتباره ممثلا عن المعارضة التي تتلقى حاضنتها الشعبية، بشكل دائم، صواريخ الجانب الروسي وقنابله، المقابل للمعارضة في الحوار في موسكو يومي الثلاثاء والأربعاء، والذي سبقته المعارضة ببيان يمكن أن تسميه روسيا "بيان اعتذار" أكثر منه بيان تصريح عن قبول "الدعوة" الموجهة إلى الوفد من الخارجية الروسية.
من المفيد أن يتابع الوفد نشاطاته بزيارات دولية لكسب التأييد الديبلوماسي للقضية السورية، بيد أن زيارة موسكو لا يمكن أن تقع ضمن سياق هذه الجهود، واعتبار البيان السابق لزيارة روسيا: "طرفاً معنياً بما يجري في سورية، وأحد رعاة العملية السياسية في جنيف، وضامنا أساسيا لمناطق خفض التصعيد"، حسب ماجاء في البيان الصادر عن هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية في 21 يناير/ كانون الثاني الجاري، من دون أي إشارة إلى شراكتها ومسؤوليتها عن الحرب الدائرة في سورية منذ تدخلها العسكري المعلن عام 2105، وفي وقت يتزامن فيه إصدار البيان مع قصف وحشي من روسيا على مناطق عديدة في سورية، ما يجعل من البيان ليس إعلانا، وإنما تصريحاً لاعتذار عن موقف المعارضة السابق من توصيف موسكو عدوا للثورة ومناصريها، ورسم صورة جديدة لروسيا في المشهد السوري، بما يتوافق والرغبة الروسية على ظاهر الحال.
إعادة ترتيب المعارضة استراتيجيتها في التعامل مع الأطراف المتصارعة في سورية، وعلى سورية، لا يمكن أن يتساوق مع فكرة تجاهل أن روسيا هي من رفعت الفيتو 11 مرة في وجه أي قرار يخدم أي تقدم في وقف المأساة السورية، ورفع الظلم عن السوريين ومحاسبة المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية، ما يعني أن الحوار مع الجانب الروسي، على الرغم من الاستعراض الشعبي الذي يحدث في المؤتمرات الصحافية، يجب أن يكون مفهوما من المعارضة، حتى ضمن محتوى بياناتها، أنه حوار مع خصم، وليس مع "معنيٍّ بما يجري في سورية"، فروسيا ليست فرنسا ولا ألمانيا، بل هي من تحوم طائراتها فوق المدن السورية محملةً بقنابل الموت والدمار. ومن هنا أهمية الحوار معها من أجل الطلب منها وقف عدوانها، والالتزام بالقرارات الدولية ذات الصلة بالصراع في سورية، وحتما ليس من أجل، كما ذكر البيان، "الوقوف على حقيقة الموقف الروسي تجاه العملية السياسية".
وأيضاً لا بد من القول إن المعارضة، بكل واقعية، بعد التخلي الأميركي عنها، لا تملك إلا السبل الدبلوماسية لمواجهة قوة عظمى مثل روسيا، ما يبرّر لوفد الهيئة مسعاها إلى الحصول على فرصة الحوار مع عدو للثورة، وأحد ضامني (مع إيران) تفوّق النظام في حربه الممتدة على مساحة سورية، لكن هذا المسعى لا يشترط تغيير المصطلحات والوظائف التي تتناسب وحقيقة الدور الروسي في المأساة السورية، وهو ما كان يمكن أن يعطي قوةً للوفد، وسبباً لوجوده في روسيا، قبيل تحضيراته لمباحثات فيينا تحت الرعاية الأممية، وقبل أيام من مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه موسكو بغرض خلط الأوراق، وتمييع قضايا جوهرية، مثل مناقشة الدستور وقانون الانتخابات، وسط فوضى المدعويين، وبعيداً عن الشرعية الدولية.
تفيد هنا الإشارة إلى أن كل ما يدور اليوم من تعظيم لهالة "سوتشي"، وجعله مفصلياً في حياة المعارضة قد يصب جميعه في المصلحة الروسية التي قسمت الشارع: بين معارضين ومؤيدين من جهة، وبينه وبين القيادات المعارضة، على الرغم من أن تجاوز حضوره عبر الحوار مع روسيا مباشرة، والتعاطي معها وفق رؤيتها للحل في سورية، من خلال منحها متعة الانتصار معنوياً في جرّ المعارضة إلى حديقتها، في توقيتٍ متزامنٍ مع مذبحتها وما فرضته على نحو مائتي ألف سوري من تهجير قسري من إدلب، ومئات الضحايا في ريف دمشق، يوحي بأن المجتمع الدولي قد تخلى عن دعم المعارضة وتركها لمواجهة مصيرها مع روسيا وحلفها الجديد (إيران وتركيا)، على الرغم من إعلان المعارضة نجاحات الزيارات المكوكية لدول عديدة.
يمكن القول إن سلوك المعارضة السياسية ما قبل زيارة موسكو لن يكون كما بعدها، على الرغم من ترجيح عدم حضورها مجتمعة، مثل وفد الهيئة، مؤتمر سوتشي، وإبقاء الأمر منوطاً برأي كل مكون من مكونات وفد المعارضة، ما يتيح مرونة في التعبير عن رأي كل مكون بالحلول المقترحة، فبينما منصة موسكو لن تعارض، تكون منصة القاهرة صامتةً عن مشاركة أعضاء لها. ويبقى قرار الائتلاف الوطني في إسطنبول مرهوناً، حتى اللحظة الأخيرة، في ما يتعلق بحضور "سوتشي"، بقرار حليفته المضيفة له، وكذلك قرار الفصائل المسلحة الشريكة في مسار أستانة ومعركة عفرين، حيث يرتبط قرار أنقرة بحضور سوتشي بتفاهماتٍ عديدة، تتقاطع من خلال معركتها الدائرة في عفرين، حيث الموقف الروسي داخل أروقة مجلس الأمن سيكون المنعطف الحاسم في الطريق إلى سوتشي، وفي التوافقات على جدول أعماله، وأسماء المدعوين له.
ليس من باب التقليل من أهمية الاستراتيجية الجديدة للهيئة العليا للتفاوض، ولكن من باب التنبيه إلى أن الاعتراف بأخطاء سياسات الهيئة السابقة، عبر نسف محاذيرها في التعامل مع روسيا، وربما لاحقاً إيران، لا يعني بالضرورة أنه المسار الصحيح. ولكن قد يكون طرق الأبواب التي تعتمدها الهيئة الجديدة مجديا، في حال تسلحت بمشروعٍ وطنيٍّ فعليٍّ، وليس شعاراتيا، وتحدثت عن سورية كما أوردت في بيانها (سابق الذكر): "دولة ديمقراطية ذات نظام سياسي تعددي، دولة المواطنة المتساوية، وسيادة القانون"، من دون أن تنسى أن ضمن هذه الدولة مناطق تحت القصف، منها عفرين ومنبج وإدلب وريف دمشق وحماه.
بعد انتفاضة شعبية عمّت أرجاء إيران جاء آية الله خامنئي إلى الساحة ليقول كلمته في هذا الشأن، خصوصاً أن الشعارات المحورية في هذه المظاهرات كانت تستهدف شخصه بشدة قاسية، حيث إنه هو الآمر والناهي، وهو «العقل المدبّر» لنظام ولاية الفقيه، فمن المهمّ معرفة ما قال في هذا الخطاب الذي دون أدنى شكّ كان محصّلة مواقف نظامه حيال الشعب المنتفض.
كلّنا نعلم أن المسؤولين السياسيين الكبار عندما يتحدثون نصف ساعة، فليست الرسالة التي يريدون إيصالها سوى دقائق أو أسطر من الخطاب أو المقال. وعلى المرء أن يبحث عن هذه المحاور والمقاصد، وألا ينطلي عليه حجم المواضيع التي يطرحها.
لقد ركز المحور الأساسي في حديث خامنئي على «ثالوث» مزعوم كان في رأيه وراء الانتفاضة المذكورة، فسمّى بالجهر أميركا والمنافقين (مجاهدين خلق)، وعرف الثالث «عملاق المال في دول الخليج» قاصداً طبعاً المملكة العربية السعودية.
وعودة إلى ما كتبت عن ضرورة التركيز على المحور الرئيسي في الخطاب، فأعتقد أن ذكر الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية على لسانه لم يكن جاداً لأنه يعرف جيداً أن هاتين الدولتين ما كانتا خلف المظاهرات؛ لأن من المستحيل قيام مظاهرات شعبية في بلد كإيران بإيعاز من دولة أجنبية. لا أريد أن أقول: أن ليس لمواقف الدول تأثير على أحداث كهذه، خصوصاً إذا كانت هذه المواقف سلبية، كما شاهدنا عام 2009 ووقوف باراك أوباما مع خامنئي ومحمود أحمدي نجاد وضد مطالب الشعب الإيراني.
لكن بيت القصيد في خطاب خامنئي كان تركيزه على منظمة «مجاهدين خلق»، ودورها في هذه الانتفاضة. ويكفي نقل ما قال في هذا المجال حتى نعرف هذا التركيز. إنه قال: «كانوا جاهزين منذ أشهر. وسائل أنباء المنافقين اعترفت. هذه الأيام قالوا إنهم كانوا على اتصال بالأميركيين. وقاموا بالتنظيم ليلعبوا دور القوة الراجلة. أن يذهبوا لزيارة هذا وذاك. وحدّدوا أناساً في الداخل. وجدوهم ليساعدوهم. ثم وجّهوا الدعوة إلى الشعب. هؤلاء هم الذين وجّهوا النداء. رفعوا شعار (لا للغلاء). وهذا الشعار يرحّب به الجميع. هذا الشعار يجلب مجموعات. بعد ذلك هم دخلوا الساحة وتابعوا أهدافهم المشؤومة ويجرّون الناس وراءهم...».. وبهذا أعتقد أن خامنئي وضع نقطة نهاية للدعايات الغربية التي تصرّ على أن ليس هناك نفوذ لـ«مجاهدين خلق» داخل إيران.
خامنئي في حديثه أكّد على موضوعين أساسيين آخرين؛ الأول قوله بأن هذه الأحداث كانت مدبرة من الخارج، وهنا ردّ على التحليلات القائلة بأنها كانت عفوية. الثاني إيماؤه باستمرار الانتفاضة، حيث أشار إلى المنتفضين وقال: «عملاء الأعداء لن يتخلوا». وقال هذا في وقت أعلن فيه قبل أسبوع قائد قوات «الحرس» أن الانتفاضة قد انتهت، وكما أن روحاني أيضاً في مكالمته الهاتفية مع الرئيس الفرنس أكد له أن «هذه الاضطرابات ستنتهي بعد يومين».
وقبل أن أكمل التحليل أريد أن أضع النقاط على الحروف فيما يتعلّق بإشارته إلى الرئيس الأميركي، وأعتقد أن الكلام الذي قاله في الإساءة إلى الرئيس الأميركي إن دلّ على شيء فإنه لا يدلّ إلا على عدم تحكّمه في الأعصاب وفقدان السيطرة على النفس، لأن من المستحيل لزعيم دولة أياً كان إذا حظي برزانة عقل ومنطق وتوازن أن يعبّر عن رئيس دولة أخرى بهذه التعابير، ويصفه بـ«المعتوه». وبعبارة أخرى فإن فقدان التحكم بالنفس على قمة الهرم المؤسساتي ينبئ بزعزعة مقبلة داخل النظام كله.
عودة إلى التركيز على «مجاهدين خلق» ودورهم فيما حدث في الانتفاضة، فلا شكّ أن أبناء الشعب الإيراني عبّروا بأقسى العبارات عن إدانتهم السلطة السياسية القائمة جملة، لأن الشعب الإيراني يعيش في فقر مدقع، ولم يجنِ منذ زهاء أربعة عقود من هذا النظام سوى القمع والإعدام والتعذيب والإدمان والدعارة والفقر والغلاء والبطالة والحروب والإرهاب والفساد المتعدد الأشكال من الفقر والرشوة حتى تخريب البيئة و.... من مختلف المساوئ والويلات، فجاءوا إلى الشارع ليقولوا كفى! ويجب إنهاء هذه الحقبة السوداء من تاريخ بلد ينعم بمختلف الخيرات والثروات. والشعارات التي رفعها المواطنون في الشوارع في أكثر من مائة مدينة كانت الشعارات نفسها التي رفعتها المقاومة الإيرانية خلال هذه السنوات الطوال، ودفعت ثمناً باهظاً من أجلها. فدماء أكثر من مائة وعشرين ألف شخص أعدمهم النظام بسبب تمسّكهم بهذه المواقف كان قسطاً من هذا الثمن الباهظ. كما أن ثلاثين ألفاً منهم قضوا نحبهم خلال مجازر رهيبة عام 1988 بأمر مباشر من خميني، وبتنفيذ هؤلاء الذين هم في سدّة الحكم في الوقت الحالي. وهنا يلتقي أبناء الشعب مع المقاومة الإيرانية في المواقف والطموحات والشعارات.
وفي آخر المطاف لقد صدق آية الله خامنئي عندما قال: «إنهم دخلوا الساحة وجرّوا الناس وراءهم».
تحدث وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، أمام مجموعة منتقاة من طلاب إحدى الجامعات الأميركية، وجزء من طاقمها التدريسي، عن استراتيجية جديدة لبلاده حيال الحرب في سورية. وكثف جزءاً من هذه الاستراتيجية بخمس نقاط، يتقدمها بند يتضمن وجوداً غير محدد المدة لقوات أميركية في سورية، وبرر ذلك بحرص أميركا على منع "داعش" من العودة. النقطة الثانية هي الوقوف في وجه النفوذ الإيراني "الخبيث" في المنطقة من أفغانستان وحتى لبنان. ووضعت هذه الاستراتيجية نصب أعينها الجهد الإنساني في سورية، وفي مناطق المعارضة، والحرص على عدم عودة أسلحة الدمار الشامل بأي شكل، وقبل ذلك كله حشدُ إمكانات السوريين كلها لإجبار بشار الأسد على التنحّي، وهو ما أكده تيلرسون، من دون أن ينسى أن يذكّر المتفائلين بأن المشوار طويل، وبأن لدى إدارته طاقة كبيرة على الصبر، ما يعني أن هذه الاستراتيجية لا تختلف كثيراً عما طبقته أميركا سابقاً، حين ساعدت في تشكيل ما عرف لاحقاً بكردستان العراق.
ارتفع الوجود العسكري الأميركي في سورية خلال الفترة السابقة من خمسمائة شخص، كانوا يعملون بصفة مدربين ومخابرات واستشاريين، إلى ما يقارب الألفي شخص. وتوزعوا جغرافيا بين الحدود الأردنية العراقية في منطقة التنف وعلى ضفاف الفرات قرب الرقة، وهو الوجود الذي ترغب الولايات المتحدة بتعزيزه، وسبق أن أعلنت رغبتها بتكوين جيش عديده ثلاثون ألف مقاتل، يقومون بحراسة الحدود التركية والعراقية مع سورية، ويمتدون على ضفاف الفرات الشرقية بمواجهة قوات النظام، مشكلين منطقةً واسعة ذات إمكانية تمويل ذاتي من الغذاء والوقود، عمادُها الأساسي قوات كردية، وهي الشريك الأساسي للوجود الأميركي.
ولكن، كيف يمكن لوجودٍ من هذا النوع أن يجعل استراتيجية الرئيس دونالد ترامب التي أذاعها تيلرسون قابلة للتحقيق؟ فالخطة تتطلب حشد الأكراد السوريين في منطقة محاطة بالمتوجسين من الأتراك والعراقيين والنظام السوري، ولدى كل طرف أكثر من سبب للوقوف ضد هذه القوة، وضد هذه الطريقة بالوجود، وبالتالي ضد هذه الاستراتيجية.
يطبق الروس واقعياً استراتيجية معاكسة تماماً، وفي المناطق المقابلة للمقاطعة التي يرغب الأميركان بتطويقها بقوات كردية، وهم يعملون جاهدين لإبقاء الأسد، ويختلقون مساراتٍ مختلفةً عن مسار الأمم المتحدة التفاوضي في جنيف، وقد كانوا اللاعب الوحيد. أما الآن، وفي ظل إعلان الاستراتيجية الأميركية، قد تتغير بعض عناصر اللعب وقواعده، فالخطة التي أعلن عنها تيلرسون تعاكس تماماً الخطة الروسية المطبقة عملياً على الأرض، وتشي بأنها موجهة بالأساس ضدهم، لكن الصبر الذي أكد عليه تيلرسون هو ما وضع حجر الأساس لنوع جديد من الحرب الباردة، وهو بهذا الخطاب يوجه خصمه الروسي، ليستعد لها، أما المعادل الواقعي للقواعد الروسية في حميميم وطرطوس، وتتزايد مساحتها ومحتوياتها، فسيتم إنشاء مقابل أميركي له، وعلى الجهة المقابلة للفرات، وأعمال الإنشاء قد بدأت بالفعل. وفي مقابل سورية التي يستفيد منها الروس جغرافياً واستراتيجياً هناك سورية سيستعملها الأميركان لإخماد النفوذ الروسي المتعاظم في المنطقة، وقد يكون حينها إخماد النفوذ الإيراني تحصيل حاصل.
إن استطاعت أميركا أن تثبت أقدامها في المساحة الجغرافية وراء نهر الفرات، علينا أن نتوقع فشل مؤتمر سوتشي، وكذلك مؤتمري جنيف وفيينا. وعلينا إعداد أنفسنا لمواجهةٍ سيكون نهر الفرات شاهداً عليها، حيث سيقف فيها السوريون مجدداً بمواجهة بعضهم بعضا، وبالرصاص الحي المستورد من مصانع السلاح في روسيا وأميركا، لمدى زمني غير معروف، كما قال تيلرسون، لأن معارك التراشق المتقطعة التي تتخللها مؤتمرات حوار كثيرة، تتغير بموجب الزمن، وبحسب السياسات، وبحسب نتائج الانتخابات، لكن المفيد في هذه الخطة أن مناطق السخونة ستقتصر على خطوط التماس، ما سيرفع من حرارة النهر، أو ربما يتسبب في جفافه النهائي.
يردد السوريون في هذه الأيام أسئلة متكررة مفادها بطاقة الحماية المؤقتة "الكمليك" وما يدور حولها.
وبعد حصولنا على معلومات من أصحاب القرار في هذا الشأن، وصلنا لمعلومات مفادها إغلاق خانة إسطنبول وأنطاليا نهائيًا بسبب وصول عدد السوريين للعدد المطلوب، وبذلك لا يحق لأي شخص الحصول على الكمليك أو الوثيقة.
ولكن يُسمح بالنقل في حال وجود فرع أو أصل أو زوج يقيم في إسطنبول، بعد الحصول على موافقة شعبة الأجانب بالنقل. وبذلك يعتبر أي استخراج للكمليك مرة ثانية ومن ولاية أخرى جريمة تزوير توصل صاحبها لعقوبتي الحبس والطرد.
وللفت النظر، لا يوجد بحسب قانون الحماية المؤقتة مصطلح كسر البصمة، وفي حال قام الموضوع تحت الحماية بتسليم الكمليك فإنه بذلك يكون قد تنازل عن حقه في الحماية المؤقتة، ولو غادر تركيا وقضى مدة العقوبة وعاد مرة أخرى.
وإلى الوقت الحاضر لا يحق لحامل الكمليك أو الوثيقة 99_98 التقدم للحصول على الإقامة السياحية، ويعتبر استصدار الإقامة لحاملي الكمليك تجاوز للقانون التركي مما يعرض فاعله للمساءلة القانونية.
ويلزم حامل الكمليك بأخذ إذن سفر من شعبة الأجانب في الولاية التي يعيش فيها في حال أراد السفر لزيارة ولاية أخرى. تحديث بيانات الكمليك والحصول على الكرت الجديد يتيح لصاحبه الحصول على إذن للعمل، ويؤهل صاحبه للترشح للحصول على الجنسية التركية الاستثنائية. التحديث شخصي ومن شعبة الأجانب حصرا.
وقد قامت إدارة الهجرة بفتح مركز للشكاوي ووعدت بفتح مركز آخر للتحديث مما يسهل عملية تحديث الكمليك وآلية الحصول عليها.
لم تكد تمضي أيام على تحديد روسيا، الموعد النهائي لمؤتمرها السوري، مؤتمر سوتشي للحوار الوطني، حتى أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إنها تعمل مع قوات سورية الديموقراطية، والتي يشكل عمودها الفقري الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، على تشكيل قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف مقاتل للانتشار على الحدود السورية مع تركيا شمالاً والعراق باتجاه الجنوب الشرقي وعلى طول وادي نهر الفرات.
لا يمكن النظر إلى الحدثين، الروسي والأمريكي، بعيداً من المتغيرات الدولية، والإقليمية، وحسابات كل من موسكو وواشنطن في إطار الاستعداد لمرحلة مابعد «داعش» على الأراضي السورية.
فمن ناحية تخطط موسكو ليكون مؤتمرها المرتقب أحد أهم مسارات الحل السياسي البديل لكل ما سبقه من مؤتمرات ولقاءات، ويكون سوتشي عوضاً عن كل المنصات السابقة التي يلتقي في كل منها مجموعة معارضة، مع فارق أن سوتشي وفق الرؤية الروسية سيضم كل الأطراف المعارضة منها والمؤيدة.
على رغم التدخل العسكري الروسي القوي في سورية طوال العامين السابقين، إلا أن روسيا ما زالت تفتقر إلى تفعيل أي دور سياسي قوي، وباتت تواجه تحدياً من نوع آخر هذه المرة، سياسياً وليس عسكرياً، من هذه الزاوية تعاونت موسكو مع دول إقليمية في المنطقة بهدف دعم موقفها السياسي الضعيف.
موسكو استفادت استفادة كبرى من عدم رغبة الولايات المتحدة في التدخل في شكل واضح في سورية، وضبابية موقفها حيال المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري، لذلك نلاحظ أن كل المحادثات الدولية والإقليمية التي تبحث الملف السوري هي بمبادرات روسية، من جنيف إلى آستانة مروراً (بميونيخ وفيينا لم يكتب لها الاستمرار) والآن وصولاً إلى سوتشي حيث تنتظر موسكو «موسم حصادها» .
فيما واشنطن التي اختارت هذا التوقيت أي بعد انتهاء الحرب على «داعش»، كونها ترى أنه حان وقت الحصاد وتريد أن تبلور نتائج دعمها وشرعنة المجموعات التي دعمتها على الأراضي السورية، بتشكيل قوة تحت مسمى جديد لإخفاء ماضي ووجه القوة السابقة، إلا أنه غاب عنها أن ذلك سيزيد من تقارب الأطراف الباقية المتشابكة في سورية.
وتريد واشنطن من هذه التوليفة الجديدة التي باغتت فيها أنقرة وتجنبت مشورتها – كون تركيا هي المستهدف التالي بهذا المشروع بعد سورية – شرعنة مشروعها وحماية المكتسبات والأراضي التي ورثتها عن تنظيم «داعش»، لتقوم لاحقاً بإجبار بقية الأطراف على دعوة ممثلين عن التشكيل الجديد إلى طاولة جنيف باعتبار أنه يسيطر على جزء كبير من الأراضي السورية، فحتى اليوم هذا التشكيل لا يمتلك أي شرعية، ودعم الولايات المتحدة له لمحاربة «داعش» لا يعطيه أي صفة قانونية على أراضي الجمهورية العربية السورية، إضافة إلى أنه وفق الرؤية التركية- السورية لا يختلف عن بقية التنظيمات الإرهابية التي انتشرت على الأراضي السورية.
عولت أمريكا طويلاً على عامل الوقت في سورية، لخلق واقع جديد، فواشنطن لا تعنيها المعارضة السورية ولا النظام، كما لا يهمها محادثات جنيف ولا محادثات آستانة، ما تريده واشنطن، ألا يعرقل أحد مشروعها، لو كانت جنيف تعنيها لرأينا أفعالاً وليس فقط أقوالاً، فلم يعد يخفى على أحد أن المسؤولين الأميركيين مع كل جولة من محادثات جنيف يبدأون بإطلاق الفقاعات الإعلامية بانهم يدعمون هذا المسار بينما على أرض الواقع وفي الساحة السورية يقومون بأمور لا علاقة لها بهذا المسار، وكذلك في محادثات آستانة التي جمعت الأطراف صاحبة الكلمة الحقيقية على الأرض السورية روسيا تركيا إيران والطرفين السوريين «النظام والفصائل العسكرية المعارضة»، إلا أن واشنطن اختارت صفة المراقب «المتفرج»، في هذا المسار، واليوم حان وقت الجني والاستثمار، رامية بوعودها وتطميناتها السابقة لتركيا عرض الحائط.
صحيح أن واشنطن تراجعت في تصريحاتها، عن تشكيل جيش من قوات «سورية الديموقراطية»، وذلك في تصريحات لوزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الذي قال إنه لا توجد نية لدى الولايات المتحدة في «إنشاء قوة تنتشر على الحدود بين سورية وتركيا»، معتبراً أن المسألة التي أغضبت أنقرة لم تُطرح بالطريقة الملائمة، وشدد تيلرسون في نفيه وجود نية لتشكيل القوة من المسلحين الأكراد في سورية، وقال إنه من «المؤسف أن التصريحات التي أدلى بها البعض خلفت هذا الانطباع»، إلا أن ذلك لم يبدد قلق تركيا وهي ترى التنظيم الذي تحاربه منذ الثمانينات يحظى برعاية حليفها الإستراتيجي، ويتمدد على طول حدودها داخل الأراضي السورية بمسمى وغطاء جديدين، وأعلنت أنها ستنسق مع موسكو وطهران في عمليتها العسكرية المقبلة وعلى وجه الخصوص في عفرين.
من الواضح أن تركيا جادة في تهديداتها ولن تتوانى عن ضرب الأهداف التي تهدد أمنها القومي، بخاصة أن تلك المجموعات، إضافة للمجموعات الجديدة التي تنوي واشنطن تشكيلها، موجودة في منطقة جغرافية بالغة الأهمية الإستراتيجة، لكن الصدام الأميركي– التركي أمر مستبعد، إلا أن التوتر سيزداد بين أنقرة وواشنطن، فالدولتان من بين أعضاء الـ «ناتو» وأصحاب التأثير فيه وأي خلل جدي بينهما قد يؤدي إلى الإطاحة بكامل الحلف، وهو ما يسعد موسكو.
المقال التالي لم أكتبه أمس، بل كتبه في السادس من سبتمبر أيلول عام ألفين وأربعة عشر، أي قبل أكثر من ثلاث سنوات. وتساءلت فيه وقتها: هل داعش حركة جهادية تريد تحرير المنطقة من الغزاة والطغاة، أم هو مجرد مخلب قط بيد قوى كثيرة لاستباحة المنطقة والسيطرة عليها بشكل مباشر بحجة محاربة الإرهاب والتطرف؟ الماء يكذّب الغطّاس يقول المثل الشعبي. وما كنا نخشاه من أن تكون داعش وأخواتها أشبه بحصان طروادة قبل سنوات يتحقق الآن على أرض الواقع بشكل فاقع، خاصة بعد التصريحات الأمريكية المفضوحة بأن أمريكا ستحافظ على قواعد عسكرية دائمة في سوريا بحجة مواجهة الإرهاب والحليلولة دون عودة داعش إلى الساحة بقوتها القديمة.
ذاب الثلج وبان المرج. وقبل الأمريكيين بأسابيع خرج علينا الروس والإيرانيون وتفاخروا بانتصارهم على الدواعش، والهدف طبعاً من مثل هذه التصريحات تبرير بقائهم في سوريا أيضاً بحجة منع ظهور المتطرفين والتكفيريين مجدداً، مع العلم أن الهدف الرئيسي لكل القوى التي تتذرع بمحاربة داعش وأخواتها في سوريا هو تبرير سيطرتها بشكل مباشر على سوريا وغيرها. وبناء على هذه الحقائق الدامغة الآن تعالوا نقرأ ما كتبته قبل أكثر من ثلاثة أعوام حول هذا الموضوع.
كم كان وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشي ديان على حق عندما قال قولته المشهورة: «العرب أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تفعل»! ونحن نقول كم ذاكرتنا العربية والإسلامية قصيرة كذاكرة السمكة، فسرعان ما ننسى لنقع في نفس الأشراك التي لم نكد نخرج منها بعد. لماذا نكرر ببغائياً القول الشريف: «لا يـُلدغ المؤمن من جُحر مرتين»، ثم نسمح لنفس الأفعى أن تلدغنا من نفس الجُحر مرات ومرات؟
لماذا لم يتعلم الإسلاميون من تجربتهم المريرة في أفغانستان؟ ألم تخدعهم أمريكا بالتطوع في معركتها التاريخية للقتال ضد السوفيات ليكونوا وقوداً لها، ثم راحت تجتثهم عن بكرة أبيهم بعدما انتهت مهمتهم وصلاحيتهم، وتلاحقهم في كل ربوع الدنيا، وكأنهم رجس من عمل الشيطان، فاقتلعوه؟
ألم تعدهم أمريكا بالدولة الإسلامية الفاضلة التي ظنوا أنهم يسعون إليها في أفغانستان دون أن يعلموا أنهم كانوا مجرد أدوات لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ بالأمس القريب صفق الكثيرون لتنظيم القاعدة، واعتبروا قائده محرراً للمسلمين من ربقة الطغيان الداخلي والخارجي. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تبين أن ذلك التنظيم وغيره، بغض النظر عن تطلعاته وأهدافه وطموحاته وشعاراته، تبين أنه كان مجرد حصان طروادة حقق الذين استغلوه الكثير من أهدافهم من خلاله. وما أن انتهى دوره حتى لاحقوه في كل بقاع الدنيا، لا بل وضعوا من ألقوا القبض عليهم من أفراد التنظيم في أبشع معسكر اعتقال في العالم ألا وهو «غوانتانامو». لماذا يكررون نفس الغلطة الآن، علماً أن الكثير من رفاقهم ما زالوا يقبعون في معتقل غوانتنامو، وينعمون بحسن ضيافة الجلادين الأمريكيين؟
ربما يقول البعض إن وضع «داعش» الآن يختلف عن وضع القاعدة أيام زمان. ولا مجال للمقارنة، فداعش سليلة تنظيم الزرقاوي الذي ترعرع في العراق وأذاق الأمريكيين وأعوانهم الكثير من الويلات، مما حدا بالأمريكيين إلى تصنيع ما يسمى بـ«الصحوات» لمواجهة تنظيم الزرقاوي. وهذا صحيح، لكن العبرة دائماً بالنتائج وبالمستفيد. ماذا استفادت المنطقة، وخاصة العراق من ذلك التنظيم. هل تراجع النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق مثلاً؟ بالطبع لا. فما زالت إيران التي يدعي التنظيم أنه يعاديها تتحكم بكل مفاصل العراق وتتمدد في سوريا ولبنان واليمن والخليج. ومازالت أمريكا تحكم قبضتها على بلاد الرافدين.
والسؤال الأهم: هل فعلاً دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى العراق من سوريا واحتل محافظة الموصل ومحافظات عراقية أخرى رغماً عن الأمريكيين، أم بتسهيل وغض الطرف منهم؟ ألم تكتشف الأقمار الصناعية الأمريكية بضع عربات روسية دخلت أوكرانيا بسرعة البرق؟ هل يعقل أن تلك الأقمار لم تستطع اكتشاف جحافل السيارات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وهي تدخل الموصل وبقية المناطق العراقية؟ هل يعقل أنها لا ترى جماعات الدولة وهي تتنقل داخل سوريا، وتستولي على مدن ومطارات في أرض مكشوفة؟ صحيح أن الطائرات الأمريكية قصفت بعض مناطق داعش في العراق، لكن ليس كل المناطق، بل فقط المناطق التي تجاوزت فيها داعش الخط الأحمر المرسوم لها أمريكياً، وخاصة عندما توغلت باتجاه كردستان العراق حيث المصالح الأمريكية والاسرائيلية ولا ننسى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تؤكد أن الروس كانوا يقصفون كل الفصائل في سوريا باستثناء داعش، إلا من رحم ربي.
هل سيسمح العالم، وخاصة الغرب بقيام دولة داعشية بين العراق وسوريا بالطريقة التي تحلم بها داعش؟ ألا يُخشى أن يكون ظهور داعش وتمددها حلقة جديدة في سلسلة المشاريع الجهنمية الغربية المرسومة لمنطقتنا؟ أليس من حق البعض أن يعتبرها مسمار جحا جديداً في المنطقة تستخدمها القوى الدولية كحجة، كما استخدم جحا مسماره الشهير، لإعادة رسم الخرائط وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟
أليس كل الجماعات التي يصفها العالم بـ»الإرهابية» استغلتها القوى الكبرى أفضل استغلال لتنفيذ مشاريعها في أكثر من مكان؟ فعندما أرادت أمريكا تأمين منطقة بحر قزوين الغنية بالنفط، فكان لا بد لها من احتلال أفغانستان. وماذا كانت الحجة؟ ملاحقة تنظيم القاعدة في أفغانستان. ذهبوا إلى هناك منذ أكثر من عشر سنوات ومازالوا هناك. ألم تكن القاعدة هي الشماعة لاحتلال أفغانستان؟ حتى في غزو العراق استخدمت أمريكا حجة وجود القاعدة هناك بالإضافة إلى أسلحة الدمار الشامل. ألم تصبح الجماعات المتطرفة شماعة لكل من يريد أن ينفذ مآربه هنا وهناك؟
ألم يوظفوا تلك الحركات جيداً لتحقيق غاياتهم الاستراتيجية؟ فبحجة الجماعات الإرهابية أصبحت كل منطقتنا مستباحة أمام القاصي والداني كي ينفذ كل ما يريد بحجة مكافحة الإرهاب؟ اليوم بإمكان الأنظمة الدولية القيام بكل الجرائم و الموبقات والخطط في المنطقة بحجة محاربة داعش، وبذلك تلقى دعماً كاملاً من شعوبها خوفاً من داعش، ولن يعارض أحد، لأن كل من يعترض يشتبه بصلته بداعش وبالإرهاب. وحتى لو بقيت الدولة الإسلامية، وتمددت كما يتوعد مؤيدوها، هل سيكون ذلك مجاناً، أم على حساب جغرافية المنطقة وخريطتها؟
ما هي الصفقات الدولية والعربية والإقليمية التي تتم من وراء الستار تحت شعار مكافحة إرهاب داعش؟ ألا يخشى أنه كلما ازداد تضخيم داعش إعلامياً كانت المنطقة على موعد مع خازوق تاريخي من العيار الثقيل؟ ألم يتم من قبل تضخيم خطر القاعدة، ثم انتهى قائدها مرمياً في البحر للأسماك؟ أليس من حق الكثيرين أن يخشوا الآن من تكرار السيناريو المعهود في سوريا ودول أخرى مجاورة تحت حجة مكافحة الإرهاب الداعشي؟ ألم يؤد ظهور داعش وأخواتها في عموم المنطقة إلى وأد الثورات العربية وأحلام الشعوب بالتحرر من الطغاة وكفلائهم في الخارج؟ ألا يؤدي إلى إنهاك المنطقة وشعوبها واستنزافها؟ هل تعلم تلك الجماعات أنها مجرد مسمار؟ هل التاريخ يعيد نفسه بطريقة فاقعة، ونحن نصفق كالبلهاء؟
وأخيراً أسألكم بعد قراءة هذا المقال المكتوب قبل أكثر من ثلاث سنوات: ألم يحدث كل ما توقعناه وكنا نخشاه؟