مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٠ يناير ٢٠١٨
بوش وبوتين.. ما أشبه أمس باليوم

ما أشبه اليوم بالأمس! جورج دبليو بوش الذي وصفه بعضهم أغبى رئيس أميركي أعلن انتصاره في العراق، لكن العراق استمرت علله، واستمر معه الاستنزاف الأميركي والنفع الإيراني. واليوم يعلن الرئيس الروسي، الذي يصفه بعضهم أذكى رئيس روسي، "انتصاره" في سورية.

ونتيجة إعلانه قد تكون أكثر هولاً وكارثية في كل الاتجاهات، وفي مقدمتها موسكو، وخصوصا على "المنتصر"، وعينه الداخلية على "الرئاسة" الرابعة، والخارجية على إزاحة نفسه من ملفاتٍ مضنيةٍ، يحملها على كاهله الشخصي، تحدد وجوده ومكانة روسيا في الساحة الدولية. وإذا ما عرفنا أن أيّا من هذه الطموحات والهموم لم تكن هواجس لجورج دبليو بوش، لاستخلصنا أنه حتى ذلك الغبي تفوق على هذا الذي يصفونه ذكيا، وهذه مفارقة تثبت حجم التباين بين من رافعته مؤسسة ديمقراطية ومن رافعته عصابة دكتاتورية تلعب بمصائر الشعوب وتتلاعب بها.

عندما استشعر بوتين موافقة أميركية نصف معلنة على أن يده هي العليا في القضية السورية، وقع في شرك جمع المتناقضات في توليفية جهنمية شبه مستحيلة:
إيران بمشروع إقليمي لم يكتمل؛ عماده بقاء نظام الأسد قتل شعبه، يحتاجها قوة ميدانية ليترجم على الأرض ما يفعله من إجرام في السماء السورية، وتحتاجه للوقوف في وجه أميركا وأوروبا، وفي الجو لتقتل وتدمر ما لا تقدر عليه. تركيا مهدّدة بأمنها القومي، تتراقص على صفيح ساخن بين تحالف "ثانوي" تاريخي وإغراء بوتيني مستجد؛ يحتاجها استراتيجياً...، وتحتاجه أمام إدارة ظهر غربية مهينة وضامنة لمن يعكّر جنوبها. إسرائيل التي تتمتع بخراب محيطها، وتستشعر الأمان الذي لم تعشه تاريخياً؛ يحتاجها ربيبة محظية لدى أميركا، وتحتاجه لمزيد من الخراب في محيطها. والرابعة التي جعلت بوتين يُحشر بتوهمه، أميركا؛ وخصوصا تذبذبها بين النأي بالنفس عن الملف السوري وثماني قواعد في سورية وتحالفات تقض مضاجع أحد المتحالفين مع روسيا (تركيا تحديداً) وصولاً إلى إيصاله إلى حالة التوتر، عندما يطالب علناً بخروج أميركا من سورية بقوله إن وجودها غير شرعي، لأنها لم تأخذ موافقة الحكومة السورية " الشرعية" كما فعل هو. لتزيده تصريحات أميركا توتراً عندما تجيبه بأنها باقية، طالما لم يحدث انتقال سياسي في سورية، الأمر الذي ينسف كل ما يريده بوتين، أو يتمناه، فتراه يسارع إلى سلق "حل سياسي" سعى على الدوام إلى توقيه، إلا بالطريقة "البوتينية"، أي إنجاز السياسات بالطريقة العسكرية. وهنا يجعل بوتين نفسه يتراقص بين إرضاء الحلفاء الأعداء ومصالحهم المتناقضة المريضة وطموحاته المشابهة؛ لكن الغبيّة.

وهكذا؛ ويوماً بعد يوم، تتكشف ضحالة القدرات الروسية السياسية، فأميركا لم تمانع إجهاض بيان جنيف 1 واستيلاد قرار مجلس الأمن الملغّم 2254، ولا هي مانعت القفزة الروسية البهلوانية إلى "أستانة"، تاركة إياها تلعب في عالم التكتيك، بإعطاء وعود التهدئة، وإنجاز المواد الإنسانية في القرار 2254 لتنكثها بيدها ويد من تحميهم من حلفائها. وأخيرا، تتركها تقفز من أستانة إلى سوتشي "عارفة بأنها بيدها أيضاً ستقتل مشروعها الجديد، عندما لا يكون أمامها إلا إطلاق تصريحات تجهض "سوتشي" سلفاً بوضع شروط منسجمة مع تكتيكاتها، فتراها تحدّد قوائم مدعوي مؤتمرها إلى " حوار وطني"، وتطلب من شركائها في "ضمانات" أستانة، ليحدّدوا قوائمهم. وهنا تجد أميركا تنتظر حدوث التناقضات والتباينات والرفض، وتنتظر الأمم المتحدة أن ترفع أي غطاء محتمل لذلك المؤتمر، جاعلة ما يدعو إليه بوتين مؤتمراً روسياً خاصاً لشرعنة الاحتلال والاستبداد.

هذا ما يحدث تجاه إعلان "الذكي" بوتين "نصره" في سورية، كثيرون يحولون دون إعلانه تتويج نصره في سوتشي، فليست أميركا الوحيدة التي تنغص عليه إعلان ذلك الانتصار المزعوم. إنها الأوراق التي طالما راهن بوتين على أنها أوراق قوة وابتزاز بيده، إلا أنها تتحول إلى أعباء ومعرقلات أساسية في إعلانه إياه، فالورقة الإيرانية التي أراد بوتين ابتزاز العالم بها لم تتحول فقط إلى عبء عليه، بحكم العين الحمراء العالمية تجاه إيران ومشاريعها الإقليمية التخريبية، بل أصبحت تلك الورقة بالذات معرقلاً لمشروعه ذاته. فمهما كانت موسكو قادرةً على ابتلاع الوهم والتدليس، وتبليعهما، إلا أنها لا بد تستشعر أن إصبعاً واحدة من يدها تمسك بالساحة السورية، والأربع الباقية تكبلها إيران وتركيا ونظام الأسد وأميركا وإسرائيل وأوروبا، فلا هي قادرة على فك مخالب أولئك من الجسد السوري، ولا هي تستطيع إدارة الظهر لها. والمفارقة العجيبة، على سبيل المثال، تلك الورقة الأسدية؛ التي طالما حلمت موسكو بالمصادقة عليها، وبسعر مرتفع؛ تراها بلا سوق ولا قيمة، إضافة إلى أنها مرتهنة إلى كذا جهة؛ وشريكها (أي شريك موسكو) أردوغان يعود إلى أسطوانة المطالبة بركلها جانباً، عندما يصف الأسد بالإرهابي والقاتل شعبه.

من حق موسكو أن تشعر بالتوتر، هي من وضعت نفسها في هذا الموقع. تجيد القتل والتدمير؛ لكن الاستعراض والتدليس و"الذكاء" يبقيها في عالم التكتيك الذي يجيد استخدام آلة القتل، لا آلة السياسية لإنجاز الأهداف الكبيرة.
هناك من يقول لموسكو وبوتينها " كل مغامرة وأنت قوة إقليمية كبيرة". قالها أوباما يوماً إن روسيا قوة إقليمية كبيرة؛ لكن هذه القوة تصغر بسبب ذكائها.

اقرأ المزيد
٢٠ يناير ٢٠١٨
"جيش صالح مسلم" لحماية سوريا أم تقسيمها؟

بتوقيت مفاجئ ولافت أعلن المتحدث باسم "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش" العقيد ريان ديلور، عزم التحالف إنشاء وحدة عسكرية قوامها ثلاثون ألف جندي، هدفها حماية الحدود السورية التركية، وذلك بالعمل مع ما يسمى "قوات سوريا الديمقراطية" الذراع العسكري لـ "ب ي د" الذي يعد الفرع السوري لمنظمة "بي كاكا" الإرهابية.

ومن الطبيعي أن يكون للتحالف قيادة عسكرية مشتركة تقود العمليات العسكرية، لكن من غير الطبيعي ولا المعتاد أن تتخذ هذه القيادة العسكرية قرارات سياسية، وخصوصا بهذا الحجم من الأهمية الاستراتيجية، هذا على فرض أن قيادة التحالف هي من اتخذت هذا القرار، وليس البنتاغون بمفرده.

وواضح أن الإعلان أمريكي أحادي المصدر، يمثل توجهات الإدارة الأمريكية فقط، حتى بقية أعضاء حلف الناتو لم يصدر عنهم أي تعليق حول الموضوع، وهذا ما يدفعنا لطرح أسئلة عديدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، لماذا اختيار هذا التوقيت بالضبط؟

ولماذا حماية الحدود السورية التركية بالرغم من خلوها من تنظيم داعش؟! أليس الأولى التركيز على حماية الحدود السورية العراقية التي ما يزال تنظيم داعش يسيطر على مناطق منها؟

لماذا لم يتم إخبار تركيا وأخذ رأيها في هذا الموضوع الاستراتيجي؟ أليست تركيا عضوا في "التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش"، وعضوا في حلف الناتو أيضا؟

في تفسير الخطوة الأمريكية بتأسيس جيش من ميليشيات "ب ي د" تحت مسمى "قوة أمنية حدودية"، يعزو كثيرون ذلك إلى الرغبة الأمريكية في العودة إلى الساحة السورية بقوة من خلال مشروع يربك جميع الأطراف.

ويعضد هذا الرأي الهجوم الغامض على قاعدة حميميم الروسية مؤخرا، والذي حمل رسالة مفادها أن الروس أضعف من أن يكونوا قوة قادرة على حماية نفسها والتمركز في سوريا لفترة طويلة بحكم ضعف إمكاناتهم التكنولوجية.

وللتذكير فقط، فإن هجوم "الدرونز" على قاعدة حميميم الروسية لم يتبنه أي فصيل سوري حتى اللحظة، حتى أن تنظيم داعش الذي يسارع إلى تبني معظم العمليات العسكرية، لم يتبن هذا الهجوم، كما أن الطرف الروسي حمل المسؤولية كاملة للطرف الأمريكي تحديدا.

رد فعل أنقرة لم يتأخر، فقد صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في كلمة ألقاها بمؤتمر فرع حزب "العدالة والتنمية" في ولاية إلازيغ قائلا: "عندما تلبسون إرهابيا زيا عسكريا، وترفعون علم بلادكم على مبنى يتحصن فيه، فهذا لا يغطي الحقيقة، الأسلحة الأمريكية أرسلت إلى المنطقة بواسطة آلاف الشاحنات والطائرات، يباع جزء منها في السوق السوداء، والجزء الآخر يستخدم ضدنا".

وأضاف "تظن أمريكا أنها أسست جيشا ممن يمارسون السلب والنهب، وسترى كيف سنبدد هؤلاء اللصوص في أقل من أسبوع".

وشكلت قضية المليشيات الكردية في سوريا، على الدوام، أحد أسخن الخلافات في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، حيث تقدم الأخيرة دعما كبيرا بالسلاح والتدريب والتغطية الميدانية للمليشيات الانفصالية الكردية تحت مسمى "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تمثل "ي ب ك" عمودها الفقري.

و"ي ب ك" هي الذراع العسكرية لـ "ب ي د" الفرع السوري لـ "بي كا كا" المصنفة تنظيما إرهابيا في أمريكا وأوروبا وفي كثير من دول العالم.

بل إن باحثين أمريكيين أثبتوا أن بعض قتلى قياديي "سوريا الديمقراطية" هم من "بي كا كا" الإرهابية.

ولم يتوان المسؤولون الأتراك عن إبراز الأدلة والبراهين التي تثبت الارتباط العضوي الوثيق بين هذه التنظيمات المختلفة في الاسم المتحدة أيدلوجيا وتنظيميا. فعندما تسيطر هذه المليشيات على أي منطقة تعمد مباشرة إلى رفع صور عبد الله أوجلان مؤسس وزعيم "بي كا كا" الإرهابية.

كما أن جميع قيادات "قوات سورية الديمقراطية" هم من "بي كا كا" الإرهابية تحديدا، أما العرب والكرد المنضوون ضمن هذه المليشيات الكردية فليسوا سوى "كومبارس" لإكمال المشهد فقط.

ورغم جميع الاعتراضات التركية يصر الأمريكيون على دعم هذه المليشيات الانفصالية، بل يذهبون أبعد من ذلك.

هناك محاولة لتأسيس "كيان سيكون نموذجا جديدا في سوريا"، بحسب ديفيد ساترفيلد، المكلف بإدارة ملف الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية، الذي كان يدلي بشهادته أمام الكونغرس مؤخرا.

صدور بعض التصريحات المطمئنة لتركيا من بعض المسؤولين الأمريكيين لا يحجب حقيقة سعيهم الحثيث لتأسيس كيان أقل من دويلة وأكبر من إدارة ذاتية في شمال سوريا.

إيران من طرفها أعربت عن رفضها لمخطط الولايات المتحدة تشكيل ما يسمى "قوة أمنية حدودية" في سوريا، مؤلفة من عناصر تنظيم "ب ي د / ي ب ك".

المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية "بهرام قاسمي"، وصف القرار الأمريكي بأنه "تدخل سافر في شؤون الدول".

وقال قاسمي إن هذا القرار من شأنه تعقيد القضية السورية أكثر، فضلا عن مفاقمة حالة عدم الاستقرار في البلاد.

النظام السوري رفض أيضا الخطوة الأمريكية بتشكيل "القوة الأمنية الحدودية"، وهذا طبيعي ومتوقع، لكن بالرجوع إلى علاقته التاريخية الطويلة مع تنظيم "بي كا كا" وتعامله مع "ب ي د" خلال السنوات السبع الأخيرة، والعلاقات التي تربط مستشار بشار الأسد للشؤون الأمنية علي مملوك بالرئيس المشترك السابق لـ "ب ي د" صالح مسلم، وبقية قيادات التنظيم الإرهابي، يمكننا القول بأن هذا الخيار يشكل كما يقال "أهون الشرين" بالنسبة إلى النظام السوري.

وفي تشرين الأول / أكتوبر عام 2014، وفي إطار الحرب على تنظيم "داعش"، دعت أنقرة صالح مسلم، وعرضت عليه تقديم الدعم له ضد تنظيم "داعش" لكن بشروط ثلاثة، الأول: أن يتخلى عن فكرة إقامة كيان كردي منفصل، والثاني: أن يفك ارتباطه بالنظام السوري، أما الثالث فأن يعمل من خلال الجيش السوري الحر.

وبعد أن أجرى مباحثاته مع أعلى المستويات في أنقرة، لم يوافق صالح مسلم على الاقتراح التركي، وفضّل إبقاء علاقاته مع نظام الأسد، والعمل تحت قيادة الأمريكيين ليؤكد المخاوف التركية من أطماعه الانفصالية، وبدل أن يقف مع الشعب السوري في ثورته ويبتعد عن نظام بشار الأسد، ذهب لجهة عقد صفقات تعاون عسكري وتبادل المواقع في مناطق شمال وشرق سوريا.

حيث قام النظام السوري بتسليم حقل رميلان النفطي بمحافظة الحسكة (شمال شرق)، وهو من أكبر الحقول في سوريا لمليشيات صالح مسلم دون قتال أو أي اشتباكات بين الطرفين.

ولا يزال الغموض سيد الموقف بالنسبة إلى التحركات الأمريكية في سوريا، لكن مشروع تشكيل "قوة أمنية حدودية" شكل عودة قوية لواشنطن.

وهذه الاستدارة الأمريكية نحو سوريا ترمي إلى تحقيق أكثر من هدف على المستويين القريب والمتوسط.

وأول الأهداف إنهاء حالة تفرد الروس بالحل في سوريا، بالإضافة إلى إعادة هيكلة "قوات سوريا الديمقراطية"، بحيث تتحول إلى قوة عسكرية موسعة تضم إلى جانب عناصر "ي ب ك" مكونات أخرى بقيادة أمريكية، حيث تشير بعض المصادر العسكرية إلى أن مقر قيادة القوة الأمنية الحدودية سوف يكون داخل إحدى القواعد العسكرية الأمريكية في سوريا.

اقرأ المزيد
٢٠ يناير ٢٠١٨
الرياء الروسي - الأميركي في سورية

إذاً، هناك استراتيجية أميركية لسورية. هذا ما أنبأنا به وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون. والوسائل هي إبقاء القوات الأميركية في سورية، والعمل الديبلوماسي من أجل حل سياسي يخرج بشار الأسد بنتيجته من الرئاسة، والهدف هو منع عودة «داعش» وإنهاء نفوذ إيران الذي يتمدد على الأرض السورية وفي قلب مؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية.

ومع أن المضمر في كل هذه الاستراتيجية هو وقف استفراد روسيا بالنفوذ على بلاد الشام، بعدما أمعنت في تجاهل الدور الأميركي تارة عبر ابتداعها مرجعية آستانة، وأخرى عن طريق اختراعها منصات للمعارضة السورية في موسكو وغيرها، وأخرى بخلقها أطراً لجمع السوريين في سوتشي بهدف تذويب المعارضة المعتدلة للنظام، فإن واشنطن سبق لها أن سلمت لموسكو بكل هذه الأطر، وتركت لها هندسة مشاريع الحل السياسي على قاعدة حفظ مصالح إسرائيل بإبعاد إيران و «حزب الله» عن حدود الدولة العبرية، وراهنت على أن تساهم شراكتها مع الروس في تقليص نفوذ طهران في سورية بعد أن عدّل دونالد ترامب توجهات الإدارة الأميركية حيال تمدد الحرس الثوري. وقبلت بموازاة هذا الرهان، ببقاء الأسد الذي تعتبر الآن أنه وعائلته لا يمكن أن يلعبا دوراً في حكم سورية.

اكتشفت واشنطن أن موسكو إما غير قادرة أو أنها لا ترغب، في الحد من النفوذ الإيراني الذي تعتمد على وجوده الميداني في تثبيت أهدافها في سورية. ومن أهم الاختبارات لعدم القدرة أو عدم الرغبة، كان فشل اتفاقها مع الجانب الروسي على منطقة خفض التصعيد في جنوب سورية حيث استمر النفوذ الإيراني في التمدد في محافظة القنيطرة. والدليل استمرار القصف الإسرائيلي لمخازن «حزب الله». ولم تنجح خطة واشنطن في قطع الطريق على كوريدور طهران الممتد من حدودها إلى العراق وصولاً إلى سورية، ثم إلى لبنان. وبناء الأوهام العربية والأميركية على التعارض في المصالح الروسية والإيرانية، بدا سراباً. فموسكو لم يرف لها جفن في إسقاط اتفاق مناطق خفض التصعيد الذي صاغته منذ أيار (مايو) السنة الماضية مع إيران وتركيا في آستانة، وشملت محافظة إدلب، شمال حمص، الغوطة الشرقية والجنوب السوري، حين أعادت إطلاق العمليات العسكرية بوحشية وقحة، بالتعاون مع قوات النظام و «حزب الله» في هذه المناطق، في ظل سكوت تركي كامل لم يخرقه إلا احتجاج خجول على استهداف إدلب بعد أن كانت قمة سوتشي الروسية- الإيرانية- التركية أوكلت إلى أنقرة أمر إدارة التهدئة فيها. بل أن مهندسي السياسة الأميركية وجدوا أن بوتين تمكن من اجتذاب أنقرة وضمان سكوتها عن خرق مناطق خفض التصعيد، مقابل إعطائها حرية مواجهة التمدد الكردي في الشمال الشرقي لسورية، المدعوم أميركياً، وأن التعاون التركي الروسي لم يعد مسألة تكتيكية بل أصبح يعاكس بالكامل ما تسعى إليه واشنطن، وصولاً إلى ما يشبه التماهي والتحالف مع طهران. لم يتوقف التلاعب الروسي الذي أتقنه سيرغي لافروف مع نظيره الأميركي السابق جون كيري عن إدارة الظهر للتوافقات الدولية والإقليمية حول سورية، طوال السنة السابقة التي أوحت لقاءات الجانبين أن في الإمكان تعاونهما في سورية. على العكس، تعمقت الحرب بالواسطة التي يخوضانها الواحد ضد الآخر. وما جرى من قصف على مطار حميميم وقاعدة اللاذقية الروسيين، شاهد على ذلك.

منذ عام 2011، وفي كل محطة تتنبه الإدارة الأميركية إلى أنها تفقد زمام المبادرة وموقع الشراكة في سورية، تعود فتتشدد، لكن بعد أن تكون تخلت عن خيوطها، بحرمان المعارضة المعتدلة من الدعم، لكن تصحيح «استراتيجيتها» يأتي متأخراً وسلبياً، لأن سقفه الإفادة من مأزق روسيا في تكريس انتصاراتها العسكرية باحتكار الحل السياسي.

بدت القوتان العظميان تمارسان سياسة طفولية حين تنافستا على اعتداد كل منهما بأنها وراء الانتصار على «داعش» قبل أسابيع. وهما تواصلان الرياء على السوريين بالحديث عن أن لا حل عسكرياً لأزمتهم، فيما هما تتقاتلان بالواسطة في الميدان.

اقرأ المزيد
٢٠ يناير ٢٠١٨
إعادة النظر في المشكلة النووية الإيرانية

أسفر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب تمديد رفع بعض العقوبات على إيران لمدة 120 يوماً أخرى، عن فتح باب النقاش القديم بشأن «ما الذي يجب فعله حيال إيران». وفي حين أن البعض قد أدان الرئيس ترمب لتجديده تخفيف العقوبات على الملالي، فإن البعض الآخر قد عنفوه بكلام قاس بسبب دعوته لإعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووي الذي أقره الرئيس الأسبق باراك أوباما.

إن فتح باب النقاش حول «ما الذي يجب فعله حيال إيران» بكل هدوء وبطريقة بناءة لن يكون سهلاً لعدد من الأسباب.

السبب الأول أن المسألة الإيرانية قد أصبحت وثيقة الصلة بالولايات المتحدة، والأسوأ من ذلك، أنها باتت وثيقة الصلة في الآونة الأخيرة بشخصية الرئيس الأميركي نفسه.

وكما نعلم جميعاً، مهما كانت المسألة التي ترتبط بالولايات المتحدة، حتى ولو عن بعد، فإنها تترقى للأفضل أو تنحدر للأسوأ.

على سبيل المثال، لم يعبأ أحد عندما قتل مليون شخص في رواندا، أو تعرض مجتمع بأسره للنزوح في بورما بأسلوب التطهير العرقي.
فلم تكن الولايات المتحدة، ولن تكون، مهتمة بالأمر.

وتكثر رحلات السيدة فيديريكا موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، إلى رانغون ليس لأجل العمل على تخفيف معاناة الروهينغا، ولكن من أجل توجيه الانتقادات للولايات المتحدة بشأن «تهديد الاتفاق النووي مع إيران». ويدعو الفاتيكان إلى احترام الاتفاق النووي المبرم، ولكنه يحرص على عدم ذكر لفظة «الروهينغا».

وفي كل دولة تقريباً يوجد هناك دائرة نشطة تعمل ضد الولايات المتحدة، وهي التي تحكم على كل حادثة من حيث ارتباطها بالولايات المتحدة من عدمه.
وبالنسبة لهذه الدائرة فإن الخدعة تكمن في أن ترى ما تراه الولايات المتحدة ثم التفوه بعكس ذلك تماماً.

على سبيل المثال، كان جيرمي كوربين زعيم حزب العمال البريطاني يفكر لفترة وجيزة في الإعراب عن لفتة لطيفة من التعاطف إزاء الشباب والفقراء الإيرانيين الذين كانوا يصارعون نظام حكم الملالي في طهران قبل أسبوع أو نحوه. وفي خاتمة المطاف، رغم كل شيء، رفض كوربين انتقاد الملالي مباشرة بسبب أن الولايات المتحدة قد أعربت عن تعاطفها مع المتظاهرين.

وبمجرد بروز المسألة الإيرانية على سطح الأحداث فإنها سرعان ما تتحول إلى هراوة لمعاقبة «الشيطان الأكبر»، أو كما يحلو للسيد كوربين وصفها بـ«القوة الإمبريالية المتنمرة».
والسبب الثاني الذي يجعل من النقاش حول المسألة الإيرانية محفوفاً بالمخاطر هو أنه أصبح مرتبطاً بالانقسام الحزبي المرير في معترك السياسات الأميركية.

وبالنسبة لأحد الجانبين، لا بد من دفن الاتفاق النووي تماماً لسبب وحيد وهو أنه كان وليد السيد أوباما. وعلى الجانب الآخر، لا بد من المحافظة على الاتفاق النووي كما لو كان نصاً مقدساً بسبب أن الرئيس ترمب قد تعهد بتمزيقه والتخلص منه. ولذلك، دعونا ننظر ما إذا كنا نستطيع التفكير في مسألة الاتفاق النووي بالحد الأدنى الممكن من الهدوء.

وبادئ ذي بدء دعونا نستخدم شيئاً يسيراً من التقريع الأميركي وقسوة الرئيس ترمب لطمأنة الدوائر المناوئة للولايات المتحدة ولرئيس الولايات المتحدة.

على النحو التالي: الولايات المتحدة هي «الوحش الإمبريالي الذي يلتهم الكرة الرضية التهاماً» والذي يرغب في ابتلاع بلداناً مثل كوريا الشمالية، وكوبا، وبطبيعة الحال، إيران تحت حكم الزمرة الخمينية.

بعد ذلك، دونالد ترمب ليس إلا كائناً مفترساً يتحدى حفنة من الفتيان المسالمين أمثال عشيرة فيدل كاسترو في هافانا، وقبيلة كيم في بيونغ يانغ، وحاشية المرشد الأعلى في طهران. وبعد حالة الارتياح التي بلغها كارهو الولايات المتحدة والرئيس ترمب، دعونا نرَ ما الذي يجري بشأن الاتفاق النووي.

في بداية الأمر فإن الاتفاق النووي غير ملزم من الناحية القانونية نظراً لأنه تم التفاوض بشأنه بواسطة مجموعة دول 5+1، وهي مجموعة غير رسمية ولا يوجد إطار قانوني لها، وليس هناك بيان واضح لمهمتها، وهي غير مسؤولة أمام أي جهة من الجهات على الإطلاق. ولقد خرج عن المجموعة بيان صحافي يحمل عنوان «خطة العمل الشاملة المشتركة» في 176 صفحة، من ثلاث نسخ مختلفة، تلك التي لم يوقع عليها أي شخص ولم تصادق عليها أي سلطة تشريعية في أي دولة من الدول المعنية.
وتعهدت إيران، في البيان الصحافي المذكور، بالاضطلاع بعدد من الأمور للتأكد من أن مشروعها النووي لن يكون له بُعد عسكري.

ولقد التزمت إيران الوفاء ببعض هذه الوعود في حين أنها تجاهلت بكل هدوء الوفاء بالبعض الآخر.

وكانت النتيجة أن البرنامج النووي الإيراني لا يزال يحمل بُعده العسكري التقليدي. وتستمر إيران في تخصيب مخزونها من اليورانيوم، الذي، ولأنه من درجة جودة متدنية بنسبة لا تتجاوز 5 في المائة بكثير، يعتبر غير ذي جدوى في خدمة الأغراض الطبية أو الصناعية. كما أنه غير صالح لاستخدامه وقوداً بسبب أن إيران لا تملك محطات للطاقة النووية. (والمحطة النووية الوحيدة لدى إيران تحصل على إمدادات الوقود النووي من روسيا التي شيدت المحطة بنفسها. واليورانيوم الإيراني المخصب هو من كود مختلف تماماً عن الوقود الذي يغذي المحطة النووية التي شيدتها روسيا).

والسبب الثاني هو أن إيران تعمل على تطوير جيلين مختلفين من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، وبسبب أنه يسهل تركيب الرؤوس الحربية صغيرة الحجم عليها، فهي تعتبر ذات جدوى من الناحية العسكرية إن تم تركيب الرؤوس النووية عليها.

ولا يزال خطر قيام إيران بتطوير الترسانة النووية قائماً. (وهذا، بطبيعة الحال، من حقوق إيران إن رغبت في ذلك. ولكن خطة العمل الشاملة المشتركة تفترض أن إيران لا ترغب في أن تتحول إلى قوة نووية).

وفي المقابل، فإن مجموعة دول 5+1، وهم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، كان من المفترض أن يقوموا بتنفيذ عدد من الأمور لتخفيف العقوبات المفروضة على إيران بسبب انتهاكها معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. وإنهم، أيضاً، قد استوفوا بعضاً من هذه الوعود ولكن بدرجة غير كافية لإحداث فارق كبير بقدر ما تهتم إيران بالأمر.

وكما غشت إيران في خطة العمل الشاملة المشتركة، فإن مجموعة دول 5+1 قد احتالت على إيران. فلم يتم إلغاء أي عقوبة من العقوبات الدولية المفروضة، ولم يُسمح لإيران إلا بإنفاق جزء طفيف من أموالها المجمدة وبتصريح من مجموعة دول 5+1. وبسبب آلية الارتداد السريع التي يمكن بموجبها إعادة فرض العقوبات الدولية على الفور، حتى تلك العقوبات التي تم رفعها بصفة مؤقتة، أصبح قلة قليلة من الناس يرغبون في الاستثمار داخل إيران.

ولا تتعلق المسألة بما إذا كان الاتفاق النووي جيداً أو سيئاً، بل إن الأمر يتعلق بأن «هراء» باراك أوباما لم يُفلح في شيء ومن غير المرجح له أن يسفر عن شيء.
فلا جدوى من إعادة إعمال السكين في الجرح: فإن الاتفاق النووي سيئ بالنسبة إلى إيران، وإلى مجموعة دول 5+1، وإلى العالم بأسره.

إن المشكلة النووية الإيرانية تستلزم المعالجة بطريقة نزيهة، وجادة، وسخية بغية تلبية المطالب المشروعة لجميع الأطراف المعنية. مما يعني الحاجة إلى إعادة التفاوض ولكن على نطاق أوسع. وهذا ما يقترحه الرئيس ترمب، وهو الشخصية المكروهة الذي يهاجم وسائل الإعلام الرئيسية، ويستخدم اللغة القاسية في تصريحاته وخطاباته.

حتى أكثر الناس احترافاً ممن يكرهون دونالد ترمب سوف يجدون صعوبة بالغة في رفض اقتراحه بأن الاتفاق النووي الحالي «معيب» وفي حاجة إلى إعادة النظر بشأنه.
ولكن يجب عليهم أولا أن يعرفوا كيفية ترويض كراهيتهم.

اقرأ المزيد
١٩ يناير ٢٠١٨
مثقفو البراميل القاتلة

لا معنى لانعقاد مؤتمر لاتحاد الأدباء الكتاب العرب في دمشق، قبل أيام، سوى أنه تواطؤ مع القاتل في القتل، ومع الطاغية في الطغيان، والأكيد دائما أنه ضد الإنسانية، وضد الأدب، وضد الإبداع بكل معانيه.

سبع سنوات والنظام السوري القاتل يوغل في القتل، وينافس كل القتلة الآخرين على أرض سورية في عدد الضحايا وكمية الدماء البريئة وأشكال الموت، بعد أن ساهم في جعل بلاده أرضا مستباحةً أمام كل الذين يودون القتال المجاني وغير المجاني، قاضيا بذلك على ثورة شعبية سلمية بأشد وسائل التنكيل والقتل.

لا التباس في جرائم النظام السوري أمام أحد. وبالتالي، لا عذر لأحد في الجهل بما يحدث، وخصوصا جهل مثقفين وأدباء وإعلاميين، يفترض أن متابعة مصائر البشر الأبرياء من اهتماماتهم التلقائية أصلا. كل الإجرام الذي كان يتوالى على البلاد والعباد إجرام حي يبث على الهواء مباشرة، فلم يترك لأحد مظنة الشك أو الريبة في ما يحدث هناك. البراميل القاتلة سلاحه المبتكر، والموت معروضٌ على كل شاشات العالم، وجثث اللاجئين ما زالت طريةً موزعةً على شواطئ اللجوء بالعدل والقسطاس، والدماء ما زالت تسيل.. كل هذا ومجموعة تسمى نفسها نخبة مثقفة أبت إلا أن تغمض أعينها عنه، كي تبرّر لنفسها أن تذهب إلى القاتل في داره، وتحييه على ما يقوم به! أو لعلها رأت هذا كله فعلا، ووافقت عليه، بل ورأت فيه واجبا يستحق القاتل أن يمتدح لأنه أقدم عليه.

الغريب العجيب أن الاتحاد عقد مؤتمره الملطخ بدماء الضحايا تحت شعار "ثقافة التنوير.. تحديات الراهن والمستقبل". وفي الشعار معنى فانتازي، لا بد أن المشاركين في المؤتمر انتبهوا إليه، وهم ينتمون إلى عدة دول عربية، ضمتهم قاعة الأمويين في فندق الشام في دمشق، في مفارقة تاريخية ما بين تحديات الراهن والمستقبل، كما أعلنوه في شعارهم واسم القاعة واسم الفندق الطالعين في عمق تاريخٍ لا يخلو من إشارات دموية واضحة. أما ثقافة التنوير فلا بد أن لها دلالة لدى هؤلاء الذين اجتمعوا بضيافة نظام مغرق في تخلفه، بقى يحكم أقدم عاصمة في التاريخ، وأحد أعرق شعوب الأرض، وأكثرها ثقافة وحضارة. وفي سبيل "التنوير والثقافة والراهن والمستقبل والتحدّي"، كما يعرفها أعضاء اتحاد الكتاب العرب الذين شاركوا في هذا المؤتمر، أوصوا بنشر عشرين كتاباً تنوعت موضوعاتها بين شعر وقصة ورواية ودراسة، وتوحدت في مديح الطاغية الذي جلسوا، في ختام جلسات المؤتمر، في حضرته صاغرين.

ومن المثير حقا أن يتبرع بعضهم بالقول إن ما فعلوه ليس إلا انتصاراً للشعب السوري، بعيداً عن النظام ورغما عنه. وربما كادت فعلتهم أن تمر على كثيرين لم ينتبهوا إلى شناعتها، لولا تنادي جمع من الكتّاب والمثقّفين العرب ليوقعوا على بيانٍ دانوا فيه ذلك المؤتمر، لما يمثله كما قالوا "من تواطؤ مرفوض مع النظام الأسدى المجرم الّذى لم يتوقّف، منذ سبع سنوات، عن سفك دم أهلنا الأبرياء فى سوريّة وتخريب العمران ودفع الوطن السوري بكل عنف وهمجيّة إلى الهاوية، شأنه في ذلك شأن فصائل الإرهاب الديني والطائفي وأدواته المشبوهة. إنّ اجتماع دمشق ليس سوى تعبير مؤسف عن هزيمة الكاتب العربي، وجبنه وزيف وعيه وارتهانه وتخلّيه عن دوره الرسالي في نقد أنظمة القمع، والانتصار لشعوب أمّته المقهورة وقضاياها العادلة؛ وإنّ تعامي المجتمعين في دمشق عمّا يعنيه اجتماعهم من تأييدٍ للقاتل، وتخلٍّ عن الضحايا، لهو أمرٌ مؤسفٌ يندى له جبين الأحرار ذوي الضمائر الحيّة". وحري بكل مثقفٍ حرّ أن يتبنى مثل هذا البيان، الواضح في إدانة جريمة مثقفي البراميل القاتلة.

اقرأ المزيد
١٩ يناير ٢٠١٨
تكلفة الحرب في سوريا وراء أزمات إيران!

تكاثر مهنئو إيران بانتهاء الأزمة الأخيرة، ومنهم من سافر إلى طهران ليقدم التهاني وجهاً لوجه، لكن الأزمة لم تنتهِ وهي جد معقدة، وفقاً لتقارير إعلامية أثارت قفزة في أسعار الدواجن ومشتقاتها المظاهرات. وتدعي السلطات الإيرانية أن ارتفاع أسعار البيض بنسبة 40 في المائة كان بسبب تفشي إنفلونزا الطيور، على الرغم من أن سعر البيض ارتفع بنسبة 30 في المائة اعتباراً من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كما انخفض سعر الريال الإيراني في السوق السوداء إلى 42 ألف ريال لكل دولار، من 39 ألفاً، مما أدى إلى ارتفاع كبير إنما غير مبالغ فيه بالنسبة إلى معدل التضخم الإجمالي الذي يبلغ الآن حوالي 11 في المائة.

ارتفاع سعر البيض مزعج، لكنه وحده لا يسبب خروج مئات الآلاف من كل المناطق إلى الشوارع، وكانت إذاعة «فاردا»، قبل أن تغلق السلطات وسائل التواصل الاجتماعي نشرت في الثاني من الشهر الحالي فيديو يظهر فيه المتظاهرون وهم يحرقون مركزاً للشرطة في مدينة غاهداريجان التي تبعد 24 كلم عن مدينة أصفهان، وغاهداريجان صغيرة ولا أحد يفكر فيها، لكن القرويين شعروا بالظلم، فنهر زاياناده رد (معطي الحياة)، الذي يروي أصفهان، يجف قبل وصوله إلى قريتهم، وهذا ضحية سوء إدارة إيران للموارد المائية المتضائلة.

احتجاجات غاهداريجان بدأت منذ زمن. وقبل عامين حذر عيسى كالنداري مستشار وزارة البيئة الإيرانية من أن 50 مليون إيراني سيُتركون من دون مياه بسبب استنفاد 70 في المائة من المياه الجوفية وإساءة تغيير مجرى الأنهار للتعويض.

يقول محدثي، إن الزراعة في إيران تستهلك 92 في المائة من المياه، وعدم المحافظة على المياه دفع فلاحي تلك الأراضي إلى المدن التي تعاني بالفعل من حوالي 30 في المائة من بطالة الشباب. وكان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد أدرك أن تغيير المناخ وسوء إدارة المياه يدمران مزارع الأسر، فقدم إعانات مادية للأسر التي تكافح من أجل توفير الطعام لأولادها، وعندما لمح الرئيس الحالي حسن روحاني إلى أنه سيقلل من هذه الفوائد، ثارت الاحتجاجات. وفي حين أن الاضطرابات في الأسابيع الأخيرة كانت بسبب ارتفاع أسعار البيض والتخفيضات للإعانات، إلا أن من أكبر التحديات الاقتصادية في إيران سببها موجة الجفاف الشديدة التي بدأت أواخر التسعينات، ويقول محدثي إن إيران معرضة بشكل متزايد للتغيير المناخي، وأن منطقة الخليج وبحلول عام 2070 يمكن أن تشهد ارتفاعاً كبيراً في موجات الحرارة، هذا وفقاً لدراسة معهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا» نشرها عام 2015. ثم إنه في الصيف الفائت سجلت إيران واحدة من أعلى درجات الحرارة على الأرض (53,72 درجة مئوية).

في السنوات الأخيرة أقرت الحكومة الإيرانية بأن تغيير المناخ يشكل تهديداً حاداً. وخلال العام الماضي حذر عدد من المراقبين من حدوث أزمة اقتصادية وشيكة. ومن جهة أخرى، تتراوح تقديرات الإنفاق العسكري الإيراني في سوريا من 6 مليارات دولار إلى 15 أو 20 مليار دولار سنوياً، ويشمل ذلك 4 مليارات دولار من التكاليف المباشرة، فضلاً عن الدعم المقدم لـ«حزب الله» في لبنان وغيره من المجموعات المسلحة التي أنشأتها إيران وتسيطر عليها. يقول محدثي: لنفترض أن التقديرات الأقل هي الأقرب إلى الحقيقة، فيتبين أن تكلفة الحرب السورية على النظام الإيراني تساوي تقريباً العجز الكلي في ميزانية البلاد الذي يصل سنوياً إلى 9,3 مليار دولار. ويضيف أن النظام الإيراني على استعداد للتضحية بالاحتياجات الأكثر إلحاحاً للاقتصاد الداخلي لصالح طموحاته في سوريا. وحسب البنك المركزي فإن إيران خفضت الإنفاق على التنمية إلى الثلث، مع تراجع إيرادات الدولة عن التوقعات خلال الفصول الثلاثة المنتهية في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

تعاني إيران من أزمات متعددة وشعور عميق بالضيق. إدارة المياه ليست سوى واحد من الكثير من العجز المخفي الذي تراكم على إيران منذ الثورة عام 1979؛ إذ تواجه أجزاء كبيرة من نظام المعاشات للمتقاعدين الإفلاس على المدى القصير. والمتأخرات السنوية للحكومة إلى نظام الضمان الاجتماعي الذي يعاني من النقص في التمويل، هي عدة مرات حجم عجز ميزانيتها الرسمية، ومع نسبة الإيرانيين الذين وصلوا إلى سن الشيخوخة، فإن التركيبة السكانية ستجعل المشكلة الحرجة أسوأ بكثير خلال السنوات القليلة المقبلة. ويقول محدثي إن إيران هي أول دولة تشيخ قبل أن تصبح غنية، مما يؤدي إلى أزمة في معاشات التقاعد، أكثر حدة من أي أزمة أخرى في العالم.

ويصل محدثي إلى النظام المصرفي الإيراني المعسر، ويرجع السبب جزئياً إلى الضغوط الاقتصادية، وجزئياً إلى إقراض داخلي ضخم للمستثمرين العقاريين المتصلين بالنظام. ويقول: قد تصل تكلفة خطة الإنقاذ المالي إلى 50 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي. وينقل عن صحيفة «دنيا الاقتصاد»، أن الأصول غير المنتجة في المصارف تمثل 40 إلى 50 في المائة من إجمالي الأصول المصرفية في البلاد «وفقاً للبيانات الرسمية». ويتكون ما يقرب من 15 في المائة من هذه الموجودات من أصول غير منقولة مثل الأراضي والمباني، والباقي من القروض المتعثرة والديون الحكومية، «ولا توجد بيانات رسمية عن الأصول الثابتة للبنوك». وحسب موقع «سيرات نيوز» الإلكتروني فقد قدر إجمالي قيمة الممتلكات غير المنقولة والمملوكة من 31 مصرفاً ومؤسسة مالية بقيمة 13,8 مليار دولار.

هناك الكثير من المصارف في إيران التي تقدم فائدة على الودائع تصل إلى 30 في المائة، وفي أوائل عام 2017 قرر النظام أن يكون سعر الفائدة 15 في المائة، لكن القليل امتثل، فردت الحكومة بالسماح بانهيار مؤسسات ائتمان خاصة، مما أدى إلى تبخر ودائع عشرات الملايين من المودعين الصغار، كما انهارت العديد من شركات الإقراض غير المصرح بها، وكانت انتشرت زمن أحمدي نجاد لتقدم قروضاً خلال طفرة البناء.

مصدر مالي قال إن إعادة التنظيم المالي للقطاع المصرفي الإيراني البالغ 700 مليار دولار، ستكلف ما بين 180 و200 مليار دولار، أي 50 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي لإيران. وهذا لا تستطيع إيران تحمله، حيث إن الناتج الإجمالي المحلي لديها يصل إلى 428 مليار دولار.

لدى إيران الكثير من الموهوبين الذين لا يمكن توظيفهم، وتبلغ نسبة البطالة بين الشباب 20 في المائة مع استثناء البطالة التي يعاني منها 4.7 مليون طالب جامعي. ولدى إيران العديد من المدارس الهندسية العليا، لكن الغالبية العظمى من الخريجين يتطلعون إلى الهجرة، وحسب غرفة تجارة طهران فإن هناك 3.5 مليون إيراني يستعدون لمغادرة البلاد.

إذا جمعنا تكاليف إعادة رأس مال المصارف، وإنقاذ صناديق المعاشات التقاعدية، وإصلاح نظام المياه، فإنها تفوق بكثير الناتج الإجمالي المحلي، وعلى الرغم من أن الدين الحكومي المباشر صغير، فإن النظام الإيراني يغرق في التزامات غير ممولة.

ليس من الواضح كيف سيحل النظام الحالي الإيراني أو أي نظام سيخلفه هذه الأزمات المتداخلة. يقول محدثي، إن إيران تحتاج إلى برنامج لمكافحة الفساد صعب جداً كالذي أقدم عليه الرئيس الصيني شي جينبينغ، ثم لا يمكنها أن تستمر في المغامرات العسكرية الخارجية، ومواصلة برنامج طموح للصواريخ الباليستية.

إن النظام الحالي غير قادر على تنفيذ هذا التحول المعقد والمكلف، وليست لديه رؤية واضحة حتى للإمساك برأس خيط هذه المشاكل المتراكمة منذ 39 عاماً. وأكدت الاحتجاجات في الشوارع أن النظام فقد مصداقيته، الأمر الذي سيجعل من الصعب عليه الاستمرار في المناورة والمراوغة.
يقول محدثي: في مواجهة مشاكل على هذا النطاق، تقلل حكومات العالم الثالث عادة من التزاماتها بتخفيض قيمة العملة والتضخم، حيث إن المعاشات التقاعدية والمطلوبات الإيرانية من حق الشعب، لكن الحكومة تكسب المال بالعملة الصعبة، كما أن تخفيض قيمة العملة والتضخم يمثلان تحويل الثروة من الشعب إلى النظام. ويضيف: والنتيجة المتوقعة هي فترة طويلة من عدم الاستقرار تتخللها مظاهرات متفرقة إنما عنيفة في الشارع، وتدهور اقتصادي إضافي!

اقرأ المزيد
١٩ يناير ٢٠١٨
إيران والعرب ... الحرب ليست قدراً

كان من الممكن لإيران أن تكون أهم دولة في الإقليم المشرقي، وأكثرها حظاً في تزعم المنطقة. وكانت مؤهلةً، بما تملكه من تاريخ وحضارة وموارد طبيعية وقدرات بشرية، لأن تلعب دورا رائدا في عملية تحديث دول المشرق وتنميتها، لو أنها اختارت طريقا آخر غير الذي هدرت فيه بلدان المشرق الكبرى مواردها، منذ تجربة محمد علي في مصر، في القرن التاسع عشر، إلى صدام حسين في أواخر القرن العشرين، وتكبّدت جميعها بسببها هزائم قاسية، لم تتحرّر من أعبائها النفسية والمادية عقودا طويلة تالية، وأقصد بها سياسة القوة، والسعي المحموم إلى السيطرة الإقليمية، بصرف النظر عن تكاليفها. وما فاقم من مخاطر هذه السياسة وعواقبها في إيران ما أضافته إليها الخامنئية، من عناصر تفجيرية، مثل تسييس الخلافات المذهبية والدينية، والجري وراء وهم استعادة عظمة الإمبرطورية التاريخية التي أطاحتها الفتوح العربية الإسلامية، وروح الانتقام التاريخي لها، أو لأهل البيت، وتعميم نظام ولاية الفقيه التيوقراطي المناقض لثقافة العصر، والحلم بإقامة ما يشبه البابوية الإسلامية في زمن تحول التسامح والتعايش الديني فيه إلى الدين الوحيد القادر على البقاء، ومقاومة الفوضى والنزاعات في عالمٍ أصبح في العولمة قرية واحدة مفتوحة.


(1)
لا أعتقد أن مثل هذا التوجه كان حتمياً ومكتوبا في أي لوح. ففي بداية ثورتها "الإسلامية"، استقطبت إيران تعاطفا واسعا في كل البلاد العربية. ولم تبق حركة سياسية، أو مثقف، لم يحي هذه الثورة، باعتبارها ثورة تحرير الشعب الإيراني من الديكتاتورية الشاهنشاهية، ونقلا لوزن إيران من كفة التحالف الغربي الإسرائيلي إلى كفة المقاومة العربية والفلسطينية. وفتحت الشعوب العربية أبوابها وقلوبها لإيران الجديدة التحرّرية، حتى لم تبق حركة سياسية لم تطرق أبواب طهران، وتعقد تفاهمات معها، إسلامية كانت أم علمانية. لقد حققت إيران الثورية، في نهاية القرن الماضي، نفوذا وإشعاعا سياسيا لم يحصل لأي نظام آخر في المنطقة، باستثناء مصر الناصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

لكن الحصار الذي فرضه الغرب على إيران الجديدة، وتراجع آمال التقدم والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتنامي روح التحدّي والصراع التي غذتها استفزازات الغرب، وحصار الولايات المتحدةـ وعداءها أي نزعة استقلالية في المنطقة، دفع شيئا فشيئا نظام طهران الجديد إلى تبني خيارات تدخلية وتوسعية، قائمة على حشد القوى، وتنظيم الأنصار، واستتباع الجماعات الضعيفة، في البلاد العربية، لاستعراض قوتها وتهديد المصالح الأميركية والإسرائيلية. وكان من الطبيعي أن يترافق هذا الصراع العنيد مع صعود القوى الإيرانية الدينية والقومية المتطرّفة في هرم السلطة، وأن تؤجّج سياسات النظام الإيراني التدخلية، باسم الإسلام أو مقاومة النفوذ الغربي والغطرسة الإسرائيلية، مخاوف الدول العربية والخليجية التي تفتقر لمقومات القوة. وجاءت شعارات تصدير الثورة، والعمل على تعميم تجربة حزب الله في دول عربية عديدة، لتجعل من إيران مصدر الخطر الأول على الأمن الداخلي للنظم التي تعاني من الهرم والتقادم، وليس لديها الحد الأدنى من المرونة السياسية، أو من هامش المناورة لاحتواء الضغوط الفكرية والسياسية والمذهبية الإيرانية واستيعابها، وهي التي بنت استقرارها على تهميش المجتمعات وعزلها، أقليات وأكثريات، لا فرق.

في محاولةٍ استباقية لوقف مخاطر انتقال العدوى، أو تصدير الثورة، بدأ الخليج سلسلة الحروب العربية الإيرانية، بهجوم عراقي مدعوم من الغرب، ومن بلدان الخليج العربية. وكان الهدف الواضح من هذه الحرب دفع إيران إلى الانكفاء على نفسها، ووضع حد لسياسة تصدير الثورة، وإجهاض محاولات إيران لتعبئة السكان الشيعة المتعاطفين معها، والذين يشكلون أغلبية سكان العراق. لكن الرد الإيراني على هذه الحرب لم يتأخر كثيرا. وجاء متعلقا بأذيال التدخل الأميركي واسع النطاق في العراق، في بداية القرن الحالي، وقضائه على نظام صدام حسين، وتسليم السلطة للمليشيات الشيعية التي عاشت وتلقت تدريباتها وتوجيهاتها العقائدية والسياسية في إيران، وكانت حصان طروادتها لقلب الطاولة على الأميركيين، وتكريس سيطرتها شبه المطلقة على بلاد الرافدين.

وجاءت ثورات الربيع العربي، في بداية العقد الثاني من القرن الحالي، لتفتح شهية طهران لتحقيق مزيد من المكاسب الجيوسياسية، بداية في البحرين ثم في تونس ومصر وليبيا واليمن. لكن قوى الثورة المضادة العربية سبقتها إلى إجهاض هذه الثورات، ومنعها من ركوبها لمد نفوذها بشكل أكبر في الإقليم. أما الحرب الثانية الكبيرة التي راهنت عليها طهران لاستكمال انتصارها في العراق، ومد نفوذها إلى المشرق، فقد كانت مشاركة إيران الحاسمة في الحرب، لسحق الثورة الشعبية في سورية، حيث لعبت الدور نفسه التي لعبته قوى الثورة المضادة في البلدان الأخرى، وفي البحرين بشكل خاص، لمنع حصول تغيير في النظام الذي كان على وشك السقوط في دمشق. ومنذ سبع سنوات، تخوض إيران حربا دموية ضد قوى الثورة السورية وبالوكالة ضد بلدان الخليج، ولا تخفي أطماعها في السيطرة على سورية، وضمها إلى دائرة نفوذها وسيطرتها الإقليمية، مستغلة انهيار النظام وتفككه. وفي ما وراء ذلك، توسيع ساحة الحرب في المشرق، والسعي إلى تطويق شبه الجزيرة العربية ودولها الهشة، بإقامة ما تسميه الهلال الشيعي، أو محور المقاومة الذي يضم حتى الآن، إلى جانب طهران، بغداد ودمشق وبيروت، ويشكل مع اليمن والبحرين طوقا يحيط ببلدان الخليج، ويعزّز قوة الاختراق الإيراني للأمن العربي في المشرق.


(2)
يعتقد قادة إيران أن طهران هي الأحق، بسبب ما تملكه من موارد بشرية وعلمية وتقنية وثروات باطنية، بالتحكم بسياسة الشرق العربي، والأقدر على ربح معركة السيطرة عليه، في مواجهة الدول الغربية التي تتحكم، منذ عقود طويلة، بسياساته، وتهيمن على المنطقة. وترى في الحرب التي تشنها لتقويض دول المنقطة، وزعزعة بنيانها، كما هو حاصل في عديد منها اليوم، حربا على الولايات المتحدة والغرب، حتى لو كان ضحاياها الشعوب العربية التي لا ترى فيها سوى بيادق أو محميات غربية. هكذا تحول صراع طهران المشروع والعادل ضد حصار الغرب لها إلى حربٍ إيرانية عربية شاملة، تستخدم فيها جميع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة، الدينية والسياسية والإعلامية والعسكرية. ومع ما راكمته البلدان العربية ونخبها من تخلفٍ عن ركب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تأتي الضغوط الإيرانية العسكرية والمذهبية، لتزرع الموت والفوضى، وتقضي على آخر ما تبقى من تماسكٍ في جسد مجتمعاتٍ دمرها ثلاثي الفقر والفساد والاستبداد.

كما يعتقد قادة طهران أن الحرب التي يخوضونها في البلاد العربية حربٌ مشروعة. وهي حربٌ دفاعية تهدف إلى منع الغرب من تحقيق أهدافه في إيران وفي المنطقة على حد سواء. وفي هذا الخطاب كثير من الصحة، إذ على الرغم من سياسة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، التي كانت ممالئة للنظام الايراني، لأسبابٍ متعددة، أهمها الملف النووي، لكن أيضا الخوف من كلفة الصدام معها في المنطقة والعالم، ليس هناك أي شك في أن الغرب لا يضمر أي عاطفةٍ إيجابية تجاه النظام الإيراني. لكن خطأ إيران أنها تتعامل مع الدول والشعوب العربية المجاورة كما لو كانت امتدادا للغرب، بل أذنابا له، لا فرق بين نظم وشعوب ومجتمعات. ولا ترى ما تحدثه سياستها من تدمير لشروط حياتها ودولها ومجتمعاتها اعتداء عليها، وإنما وسيلة لزجّها في الحرب التاريخية ضد الغرب، الذي لا تريد طهران، في النهاية، سوى انتزاع اعترافه بها قوة إقليمية. والمحصلة، تخوض إيران حربها ضد الغرب، لكن على الأرض العربية، وعلى حساب العرب، وبأياد عربية، فتحول الحرب من حرب إيرانية أميركية إلى حرب أهلية طائفية عربية، تهدّد بالقضاء على الدولة، ونشر الخراب والفوضى في المشرق بأكمله. وبدل أن تعيد توحيد شعوب المنطقة من حولها، لتزيد قوتها في مواجهة الغرب، تقدم للغرب وإسرائيل أعظم هديةٍ مجانية، وتوفر عليها أكثر من حرب للقضاء على الدول العربية المحيطة بها، وهي تدفع، منذ الآن، النظم التي تخشى سقوطها إلى إعادة تعريف استراتيجيتها الأمنية، والتقرب شبه العلني من إسرائيل. بهذه السياسة، لا تعمل طهران على تقويض شرعية مشروعها التوسعي نفسه، لكنها تحفر قبرها بيديها، فالمشرق العربي هو حاضنتها الإقليمية الطبيعية، ومجال استثماراتها وتوسعها ونفوذها، وبالتالي استقرارها وازدهارها. وبمقدار ما تدمره، وتجعله بيئة غير صالحة للحياة، كما هو حاصل اليوم، تحرم نفسها من إمكانية تحويله إلى حليف لها، وتضع نفسها على فوهة بركان من الأحقاد المتراكمة والكراهية والانتقام. وبمعنى آخر، في تقويضها حياة المشرق، واستقراره وازدهاره، تحكم طهران على نفسها بخسارة أكبر رهاناتها، وهو كسب شعوب المشرق إلى جانبها.

لن يربح أحد هذه الحرب. ولا تستطيع إيران أن تبسط سيطرتها على المشرق، مهما عبأت من قوى، وحشدت من مليشيات لبنانية وعراقية ويمنية وأفغانية وباكستانية وغيرها. ولم يساعدها الرمي بكل ثقلها لإنقاذ نظام حرق شعبه وبلده بالأسلحة الكيميائية والفوسفورية، وبالبراميل المتفجرة والصواريخ الباليستية، ومشاركتها في قتل مئات ألوف السوريين وتشريدهم، في تعزيز موقعها داخل البلاد العربية، أو حتى في الخارج. وكل ما قادها إليه مشروعها القائم على الرهان على القوة، وخوض الحرب الخاطئة ضد الشعوب العربية لكسب المعركة السياسية ضد الغرب، واستثمار موارد إيران كلها في شراء الأسلحة وتصديرها إلى مليشياتها الموزعة على أكثر من خمس دول عربية، والتوسع على حساب الآخرين، وتفكيك دولهم وتخريبها، هو خسارتها ذاتها ومستقبلها، أي لتأييد الشعب الإيراني الذي وجد نفسه الخاسر الأول في السباق على هيمنةٍ إقليميةٍ، لا قيمة لها لإيران، وليست قادرةً على المحافظة عليها في وجه القوى الكبرى والروس والأميركيين فيها. والسبب تناقض قاتل في جوهر الاستراتيجية الإيرانية، فبعكس ما يفكر القادة الإيرانيون، لن يهرع الغرب، وإسرائيل على رأسه، للتفاوض مع طهران، لإنقاذ المشرق الرهينة من الخراب والتهديد، لكنه سوف يعمل كل ما في وسعه لتشجيعها على قتل الرهينة والقضاء عليها. فهو يحقق بذلك، من دون أن يقوم بأي جهد، عدة أهداف بوقت واحد: تدمير الدول العربية وفرط عقدها، ودفع المنطقة إلى حربٍ إقليمية، تحيدها وتقضي على أي أمل لها بالنهوض، والتحول إلى قوة مؤثرة عقودا طويلة مقبلة.

لا ينبغي أن نخلط سياسة حكومة طهران التوسعية والمهووسة بمظاهر القوة، وتحقيق التقدم والنفوذ خارج حدودها، وتهديد ما تعتقد أنه مصالح غربية أساسية في المشرق وبلدان الخليج، بأي ثمن، مع الشعب الإيراني ومصالحه، ومع الثقافة والحضارة الإيرانيتين الراقيتين. بالعكس، هذه السياسة هي المسؤول الأول عن التفريط بمصالح شعب إيران وموارده وموقعه الإقليمي في المشرق، وفي حضارته متعددة الموارد والأقطاب، وكذلك عن تهديد إيران بحرب داخلية، ستعيدها عقودا عديدة إلى الوراء، بعد خسارة العقود الأربعة الماضية.

لو استثمرت إيران في شعبها، بدل أن تضع رهانها كله على تطوير صناعة الأسلحة النووية وغير النووية، وحشد المليشيات لزعزعة استقرار الدول المحيطة بها، اعتقادا بأن في وسعها أن تفرض نفسها لاعبا أول في الإقليم، وتصبح ندا لأميركا وروسيا، والمحاور الرئيس لهما عن الشرق الأوسط، لكانت اليوم أهم قوة صناعية وعلمية وبشرية في المنطقة، وتحولت إلى قلعةٍ للاستقرار، وجمعت من حولها أكثر دول المنطقة الغارقة جميعا في أزماتها المستعصية، وحققت بثمن أقل، بل بمكاسب إضافية لا تقدر، رهانها لتكون القوة الأولى، ولساعدت الشعوب المجاورة على عبور مرحلة الانتقال الصعبة نحو الاستقرار السياسي وحكم القانون، بدل إجبارهم على العيش المقيت تحت رحمة زعماء المليشيات وأمرائها. إيران خامنئي هي الآن في طريقها إلى أن تخسر كليا الرهان الذي صرفت جهدها ومواردها من أجله، بعد أن خربت المنطقة التي كان من المفروض أن تشكل حاضنتها الطبيعية، ومجال توسعها الاقتصادي واستثماراتها الرابحة. كانت الحريق الذي قضى على اقتصادها، وأضنى شعبها والشعوب المحيطة بها، وقوّض مستقبل المنطقة بأكملها. والآن، نجد جميعا في المشرق معلقين في الفراغ، ننتظر حكم الدول الكبرى التي لم تول أي أهميةٍ لوقف نزاعاتنا ولا تعبأ بخرابنا.


(3)
في مواجهة ثقافة التخويف التي اتبعها بعض القوميين العرب، والتي كانت تصور كلا من تركيا وإيران أعداء حتميين للعرب، كتبت أكثر من بحث ومقالة، في السنين الثلاثين الماضية، لأعبر عن أملي بأن يخرج المشرق، والعالم العربي معه، من هوسه القومي والديني غير المنتج وغير المجدي، والانكباب على التفكير في تطوير تعاون إقليمي فعال، من أجل الإسراع بوتائر التنمية واستدراك ما فات مجتمعاتنا من عوامل (وأطوار) التقدم والبناء الحضاري، المدني والاقتصادي والسياسي والعلمي والتقني. وكتبت أننا إذا لم نتقدّم نحو تشكيل منظمة للأمن والتعاون والتنمية الاقتصادية، قائمة على اتفاقات واضحة والتزامات جماعية من كل الأطراف، لن يضمر لنا المستقبل سوى مزيد من النزاع والحرب والخراب، فدولنا حديثة النشأة، التي تعيش تحت ضغوط داخلية وخارجية هائلة، اقتصادية وعسكرية وثقافية ونفسية معا، لن تجد سبيلا لتأكيد سيادتها المنقوصة، وتجاوز تناقضاتها الداخلية، وعجز حكوماتها الحتمي عن الوفاء بالتزاماتها تجاه شعوبها، في ظروف توزيع الموارد القائمة، سوى بالهرب إلى الأمام، وتفجير حروب ونزاعات مع جيرانها، بأي ذريعة، للتغطية على فشلها المحتم وشرعنة استمرارها، وأننا سوف نكرّر، إذا لم ننجح في هذا المشروع، بالضرورة، تاريخ الدول الأوروبية التي مرت بعشرات الحروب الوحشية والقاتلة، ومثالها الحربان العالميتان في القرن العشرين، قبل أن نكتشف، بتكاليف هائلة، أهمية العمل على بناء أطر التعاون الإقليمي، وتنظيم العلاقات بين الدول، بالطريقة الوحيدة التي تساعد على معالجة مسألة السيادة، أي بالتفاوض على التنازل عن جزء منها لصالح سلطة إقليمية أعلى، تعمل لفائدة الجميع، بدل تأكيده في كل مرة بحربٍ جديدة.
يتشابه وضع إيران الخامنئية في المشرق مع وضع ألمانيا تحت السلطة النازية في أوروبا.

 فكما أنجبت الهزيمة الألمانية في الحرب العالمية الأولى والمعاملة المهينة التي تعرّضت لها على يد الدول المنتصرة الوحش النازي الذي أرعب أوروبا قبل أن يقودها إلى الحرب العالمية الثانية، الأكثر فتكا وتدميرا، ولد الحصار الذي فرضه الغرب على الشعب الإيراني، بسبب ثورته على الحكم الملكي الحليف للغرب، والمعاملة المهينة لها، وسد جميع السبل أمام تحقيقها ذاتها وتنمية قدراتها، وحش الخامنئية التي هي مزيج من العدوانية الارتداداية وجنون العظمة والطائفية المقيتة، التي احتلت روح الثورة الشعبية من الداخل، وقضت عليها وساقتها في مسالك رهيبة. وتكاد طهران تعيد المسار نفسه الذي قاد ألمانيا إلى هدر جهود شعبها، والتضحية بخيرة شبابه في الجري وراء حلم السيطرة العسكرية على قارة بأكملها، وفرض إرادتها عليها، انتقاما لنفسها من استهانة أوروبا بها، واستردادا لكرامتها، وردا على الهزيمة المهينة التي كبدتها لها الدول الأوروبية.

وقد نجحت بالفعل في تدمير أوروبا وتركيعها أكثر من عقدين، لكنها دمرت، في النهاية، نفسها، وسارت نحو انتحارها.

ليس هناك حل للصراعات المتفاقمة، والانسدادات التي تعيشها شعوب المنطقة على كل الأصعدة، إلا في الارتفاع فوق الرؤية الوطنية الضيقة، واكتشاف طريق التعاون والأمن الجماعيين. وإذا لم ننجح في ذلك، سوف تتحول الدولة الحديثة التي لم يعد لها من الوطنية إلا الاسم، إلى أكبر فخ منصوب لشعوبها، بمقدار ما سوف تدفع بها إلى الحروب المتكرّرة، والقطيعة، حتى مع أقرب جيرانها. وهذا ما نعيشه منذ نصف قرن.

هذا هو الحل الوحيد لمعالجة نزوع إيران الراهن إلى السيطرة وتجاوز حدودها وعدوانيتها الفائضة وتهديدها جيرانها، تماما كما كانت الوحدة الأوروبية، الفكرة العبقرية التي نجح من خلالها الأوروبيون في احتواء ألمانيا وعدوانيتها ونزوعاتها التوسعية، وفي تحويلها، أكثر من ذلك، إلى رافعةٍ قويةٍ وسندٍ لتقدم أوروبا وازدهارها. لكن شرط ذلك كان أيضا سقوط النازية، ونضج القادة الأوروبيين الذين عرفوا كيف يميزون بين ألمانيا الشعب والحضارة والنظام الفاشي الطارئ عليها. فما ضمن نجاح الوحدة الأوروبية أنها لم تحصل في مواجهة ألمانيا، ولا بهدف الانتقام منها، حتى لو أنها جاءت لاحتواء عدوانيتها، وإنما لإعطائها الفرصة لإظهار قدراتها وتفوقها في مجالٍ مفيد للجميع، وإشراكها في مشروع بناء أوروبا، وإرساء أسس السلام والأمن الدائمين فيها. هذا ما يحتاجه الشرق النازف والمنذور لدمار عميم.

لكن، لا يمكن الشروع في مثل هذا الحل وإنجاحه من دون احترام الدول حدود بعضها بعضا وسيادتها، والتخلي عن سياسة الفتح والغزو والإكراه، واعتماد لغة المفاوضات الجماعية والاتفاقيات القانونية الموقعة والالتزمات المختارة. البديل عن ذلك هو تعميم علاقات النزاع والحرب، وخسارة أهم الشروط لتقدّم الأمم والشعوب والمجتمعات وازدهارها، وهو إرساء أسس السلام والاستقرار الدائمين.

كان من حظ أوروبا أنها حظيت، بعد خروجها من الحرب الثانية، برجال مخلصين لشعوبهم، وأصحاب رأي ورؤية ثاقبة، عرفوا كيف ينتزعون قارتهم من منطق حروب الثأر والانتقام المدمرة بعد إسقاط النازية. لكن، للأسف الشديد، ربما لن يجد المشرق المدمر، في أعقاب سقوط امبرطورية الولي الفقيه الحتمي، ما يكفي من القادة المتبصّرين، القادرين على التفكير في المستقبل، وتحويل هزيمة الخامنئية إلى مناسبةٍ لتحقيق مصالحة إيران الحقيقية مع محيطها، وفتح صفحةٍ جديدةٍ في تاريخ المنطقة، قائمة على التعاون والعمل المشترك، لفائدة عموم شعوب المشرق. كما أنني لست على ثقة من أن الولايات المتحدة التي لم تتخلّ عن سيطرتها على المنطقة سوف تكون حريصة، كما كانت مع أوروبا، على بسط الأمن والسلام والاستقرار في المشرق، والحماس لإعادة إعماره ومساعدة شعوبه، وتشجيعها على عقد الصلح وتحقيق السلام. لكن لا ينبغي لذلك أن يحبطنا. ليس لنا بديل عن هذا الخيار.

اقرأ المزيد
١٩ يناير ٢٠١٨
مع بدء العد التنازلي لعملية عفرين..

أصبحت مسألة وقت لا أكثر.. بحسب ما وجهه الرئيس رجب طيب أردوغان من رسائل في خطاباته الأخيرة فإن الجيش التركي يمكن أن ينفذ عملية عسكرية "قبل مضي أسبوع" ضد قوات وحدات حماية الشعب الموجودة في مدينة عفرين شمال سوريا..

انتهت الاستعدادات من أجل هذه العملية. حتى أن القوات التركية بدأت قصفًا مدفعيًّا من مواقعها في إدلب على بعض الأهداف التابعة لوحدات حماية الشعب بعفرين.

تصريحات أردوغان كانت شديدة اللهجة وواضحة للغاية: لن يسمح الجيش التركي بإقامة حزام إرهابي في شمال سوريا، وسيخرج وحدات حماية الشعب من الأراضي التي احتلتها من عفرين حتى منبج، وسيواصل مكافحته "حتى لا يبقى إرهابي واحد"..

العزم الذي أبداه أردوغان في هذا الخصوص ناجم عن اعتبار تركيا الأمر مسألة وجود من ناحية أمنها القومي. ولتركيا الحق في اتخاذ تدابيرها الدفاعية في مواجهة تهديدات وحدات حماية الشعب، ذراع حزب العمال الكردستني.


حساب المخاطر
لا شك في أن هذا النوع من العمليات، على الرغم من كل مصاعبها، لا يمكن تنفيذه دون الوضع في الاعتبار مجموعة من المخاطر.

والمخاطر المتعلقة بعملية تُنفذ ضد عفرين تتركز في المجال السياسي على وجه الخصوص: ماذا سيكون موقف روسيا أولًا، والولايات المتحدة ثانيًا، من مثل هذه العملية؟

منطقة عفرين تحت سيطرة القوات الروسية. تنفيذ الجيش التركي عملية ناجحة هنا مرتبط باستخدامه قوته الجوية بسهولة، وهذا يتطلب موافقة روسيا. لم تبدِ موسكو حتى اليوم موقفًا واضحًا في هذا الخصوص. لكن ليس هناك مؤشرات أيضًا على اعتراض بوتين على مثل هذه العملية. وعلى الأخص عقب قرار الولايات المتحدة تأسيس "قوة حرس حدود" تضم عناصر وحدات حماية الشعب..

هذا القرار من المحتمل أن يغير توازنات القوى في المنطقة. في حال إطلاق الجيش التركي عملية ضد عفرين ماذا ستفعل الولايات المتحدة؟ هل ستغامر بالوقوف في مواجهة تركيا من أجل نجدة وحدات حماية الشعب، التي أعلنتها شريكًا لها رسميًّا؟ أم أنها ستغض الطرف عن دخول الجيش التركي عفرين كي لا تجابه حليفتها أنقرة؟


الوضع خطير
الوضع حقيقة شديد الخطورة، بل يمكن القول إن العلاقات التركي الأمريكية مقبلة على أخطر مراحلها في التاريخ القريب.

القضية شائكة جدًّا بالنسبة لتركيا: هل ستنفذ أنقرة عمليات عسكرية ضد عفرين وعلى الأخص ضد منبج الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة، على الرغم من موقف الأخيرة الواضح؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى صدام تركي أمريكي على الأرض؟

الولايات المتحدة اتخذت قرار تشكيل جيش معظمه من وحدات حماية الشعب دون استشارة تركيا، ما أدى إلى زيادة الخلاف بين أنقرة وواشنطن. الخطير في الأمر هو عدم اقتصار الخلاف على الناحية السياسي الدبلوماسي، وإنما ظهوره على الصعيد العسكري بحيث يمكن أن يتجه إلى المواجهة المباشرة للمرة الأولى.

اقرأ المزيد
١٨ يناير ٢٠١٨
خيارات تركيا في سورية كلّها مجازفات بلا ضمانات

تقف تركيا حالياً أمام منعطفات تقودها جميعاً إلى مأزق شامل في تعاطيها مع الملف السوري وتداعياته عليها داخلياً. فكلّ خطر حاولت إبعاده أو تجنّبه ما لبث أن ارتسم وتأكّد. وفي حين استطاع جميع اللاعبين في سورية ترتيب مصالحهم، موقتاً، يغلب على حسابات تركيا السعي هاجس الحدّ من الخسائر. وفيما تقاسمت الولايات المتحدة وروسيا «الانتصار على داعش» وتبنيان عليه، وشاركهما فيه النظام السوري وإيران ليبنيا عليه أيضاً، حاولت تركيا إبراز عملية «درع الفرات» كمساهمة ناجحة ضد «داعش»، إلا أن الآخرين يواصلون تحميلها مسؤولية أساسية في تدفّق المقاتلين الأجانب، وتتضافر جهودهم لفرملتها وإبقاء مكاسبها محدودة، خصوصاً لعدم تمكينها من استثمار الدور الذي منحتها إياه روسيا في تحجيم قوة أكراد سورية الذين استفادوا أولاً من تعاونهم مع نظام بشار الأسد والإيرانيين، ثم ظفروا بدعم أميركي متعاظم وسعي روسي دائب لاحتضانهم.

تمرّ العلاقات التاريخية بين تركيا والولايات المتحدة بأسوأ مرحلة على الإطلاق، وعلى رغم صلابتها المزمنة وبعدها الاستراتيجي المؤكّد إلا أنها لم تصمد أمام «الإغراء الكردي» الذي تعلّقت به واشنطن ولم تبالِ بأخطاره على دولة حليفة كتركيا ولم تحرص على طمأنتها أو على توثيق أي ضمانات لتهدئة مخاوفها على وحدة جغرافيتها. فالمقاتلون الأكراد لم يكونوا فقط أداة فاعلة في يد أميركا لمحاربة «داعش» بل أشعروها للمرّة الأولى بأن لديها «مصالح» في سورية، لذلك فهي تعمل لبقاء مديد في الشريط الشمالي أسوة ببقاء روسيا المديد لإدارة مصالحها في عموم سورية. ومع أن أنقرة اندفعت في علاقة متقدّمة مع موسكو، واستحصلت منها على دور في سورية، إلا أن تعاونهما لم يرقَ إلى مستوى الشراكة التواطؤية بين روسيا وإيران، فظلّت الشريك الثالث الطارئ الذي يعوّلان عليه لاستكمال ضعضعة المعارضة العسكرية وإدارة هزيمتها الميدانية. وحتى عندما حصل فجأة تنسيق بين تركيا وإيران تصدّياً لولادة دولة كردية مستقلة منفصلة عن العراق، ظل تقاربهما محدوداً بسبب خلافهما على مصير الأسد ونظامه، وفيما خسرت تركيا جانباً مهمّاً من استثماراتها مع كردستان العراق تنفرد إيران حالياً بإعادة هندسة العلاقة بين بغداد وأربيل.

يجمع خبراء ومراقبون على أن تركيا راكمت الأخطاء في الأعوام الأولى للأزمة، سواء مرغمةً أو بإرادتها وتردّدها، إذ أضاعت وقتاً طويلاً في البحث عن تفويض أميركي أو أطلسي في سورية وتبيّنت باكراً أنها لن تحصل عليه فأحجمت عن التدخّل المباشر عندما كان متاحاً، حتى ولو في شكل محدود. وحين فضّلت الحرب بالوكالة، عبر دعم فصائل المعارضة، أخطأت أيضاً في «أدلجة» خياراتها بإعطاء أولوية للإسلاميين بدلاً من التركيز على «الجيش السوري الحرّ» الذي كان واضحاً أن النظام والإيرانيين يعتبرونه عدوّهم الأول والأخطر، وما لبث الروس بعد تدخّلهم أن جعلوا إضعافه إحدى أولوياتهم لإنقاذ النظام.

كانت خسارة المعارضة وفصائلها فادحة نتيجة التدخّل الروسي، لكنها لحقت أيضاً بالدول التي دعمتها، كما وضعت أي دور لتركيا على محكٍ تسارعت صعوباته، ليس فقط بتداعيات إسقاط طائرة «السوخوي» بل أيضاً في نأي «الناتو» بنفسه عن أي مواجهة مع روسيا. ثم تراكمت الصعوبات في العلاقة مع الولايات المتحدة، من مفاوضات شاقة على اتفاق إتاحة قواعد تركية للطائرات المشاركة في «الحرب على داعش»، إلى الملف الشائك المتعلق بتسليح الأميركيين أكرادَ سورية ودخول أكراد تركيا على الخطّ، وصولاً إلى المحاولة الانقلابية (15/07/2016) التي تتهم أنقرة واشنطن بدعمها.

شكّلت هذه المحاولة نقطة تحوّل في تفكير الطاقم الحاكم، لذا كانت زيارة رجب طيّب أردوغان الخارجية الأولى بعدها إلى روسيا، وفي أواخر آب (أغسطس) 2016 أطلقت تركيا عملية «درع الفرات» لطرد «داعش» من غرب النهر إلى شرقه. وهي عملية أجازها فلاديمير بوتين ليدعم أردوغان ويظهره كمَن بدأ يحقق لتركيا طموحاتها في سورية، وأيضاً ليجتذبه إلى مقاربة مختلفة للملف السوري، إذ كانت معركة حلب محتدمة وقتذاك ولم تُحسم إلا بعد ثلاثة شهور وبعدما استكملت روسيا تدميرها المنهجي شرقَ المدينة، وعندذاك انخرط الروس والأتراك في تفاوض على ترتيبات انسحاب مَن تبقى من مقاتلين ومدنيين في المدينة. كان ذلك تدشيناً لدور تركي في مراحل تالية بوشرت بإنشاء «الثلاثي الضامن» لوقف النار الذي لم يطبّق ويُلتزَم إلا في مناطق المعارضة، أما قوات النظام والميليشيات الإيرانية فتابعت قضم مناطق هنا وهناك، خصوصاً في محيط دمشق. وتطوّر هذا التعاون مع اجتماعات آستانة وصولاً إلى الاتفاق على المناطق الأربع لـ «خفض التوتّر» التي استمرّ الطيران الروسي يقصفها باستثناء تلك الواقعة جنوب غربي سورية والخاضعة لاتفاق خاص بين روسيا وأميركا والأردن (وإسرائيل ضمنياً).

بعد مرور ثماني شهور على هذا الاتفاق لم تتمكّن الدول الثلاث «الضامنة» من تفعيل آليات مراقبة لـ «خفض التوتّر» أو إشراك دول أخرى في تلك الآليات، كما تعهّدت، بل إن ثلاثي روسيا وإيران والنظام دفع خلال تلك الفترة بمزيد من النازحين المرحّلين قسراً من منطقتَي «خفض توتّر» إلى منطقة أخرى هي محافظة ادلب حيث تجمّع خليط من فصائل مصنّفة «معتدلة» (الجيش الحرّ) وأخرى «متطرّفة» (أبرزها «هيئة تحرير الشام»/ «جبهة النصرة» سابقاً). وإذ طلبت تركيا تولّي ترتيب الأوضاع في إدلب فقد نالت من الشريكين موافقةً ملتبسةً. وقبل ذلك كانت عملية «درع الفرات» اصطدمت بخطّين أحمرين: أولاً، لم يسمح الأميركيون لتركيا بالوصول إلى منبج، حتى أنهم عطّلوا نظام «جي بي إس» لشلّ حركة قواتها، ثم أرسلوا قوة مراقبة رافعة العلم الأميركي لمنع قوات النظام وإيران من دخول المدينة ولإبقاء سكانها العرب تحت سيطرة كردية لا يريدونها. وثانياً، هبطت فجأةً قوة روسية في منطقة عفرين لتجعلها تحت حمايتها... إذاً، كان هناك اتفاق روسي - أميركي على إحباط استخدام تركيا دورها في سورية ضد الأكراد. وكما حال الأميركيون دون أي مشاركة لها في معركة الرقّة، على رغم إلحاحها، كذلك لم يوافق الروس على طلبها إخراج المقاتلين الأكراد من عفرين كشرط لتنفيذ مهمّتها في إدلب.

انطوت التصريحات الأخيرة لأردوغان، قبل استدعاء الخارجية التركية السفيرين الروسي والإيراني والقائم بالأعمال الأميركي وبعده، على ثلاث دلالات: 1) إن تركيا بلغت مفترقاً خطيراً، فمن جهة أخفقت في ثني الأميركيين عن تسليح الأكراد ودعمهم لإنشاء كيان خاص بهم في شمال سورية وضمّ مناطق عربية إليه، ومن جهة أخرى لم تستطع إقناع روسيا بتوجّساتها الكردية بل إن موسكو تراهن على التعاون مع الأكراد على المدى الطويل. 2) إن شريكي اتفاقات آستانة، الروسي والإيراني، لم يتخلّيا عن هدف السيطرة على كامل سورية بل إنهما عهدا إليها في سياق هذا الهدف بمهمة تصفية المجموعات المتطرّفة في إدلب إمّا بمهاجمتها مباشرة أو باستخدام الفصائل ضد بعضها بعضاً، وعندما أصرّت على خطط استخبارية لاختراق المنطقة وعزل «النصرة» أطلقا مع النظام هجمات واسعة جنوب شرقي إدلب في تهميشٍ واضح للدور التركي. 3) إن عدم استكمال عملية «درع الفرات»، بتوسيعها إلى منبج وتحييد عفرين وإخراج المقاتلين الأكراد منها كحدٍّ أدنى، يجعل «مناطقها» في شمال سورية عرضة للتأكّل بهجمات أسدية - إيرانية يغطّيها الروس جوّاً، بالتالي فإن تركيا قد تضطر لاحقاً لاستقبال ما لا يقلّ عن مليوني نازح إضافي.

أخطر ما في مأزق تركيا أن إخفاقاتها استراتيجية ويصعب تصحيحها أو تعويضها، فالشريكان الروسي والإيراني وحتى الحليف الأميركي ربطوا مصير دورها بمصير فصائل المعارضة التي يريدون جميعاً تصفيتها. ويعزو بعــــض المراقبين إلى الغضب التركي عــــودة الفصائل السورية إلى القتال وتحقيقها نتائج مفاجئة في إدلب وحرستا ضد قوات النظام وإيران. وإذا كان بوتين فضّل استبعاد مسؤولية تركيا عن الهجمات بطائرات مسيّرة (درون) على قاعدتي حميميم وطرطوس، فلأنه يريد حالياً استمرار دورها في إدلب وينتظر أن تضغط على المعارضة لتشارك في مؤتمر «الحوار السوري» في سوتشي، لكن أنقرة تتوقع ثمناً لذلك في عفرين وتلوّح بانتزاعه بالقوة. وفي المقابل تقدّم الأميركيون خطوات جديدة بـ «ترسيم» حدود «الكيان الكردي» والبدء بتشكيل قوة لحراسة حدوده، في ما يعدّ استفزازاً لا تملك أنقرة أي ردّ عليه.

اقرأ المزيد
١٨ يناير ٢٠١٨
بعد إدلب.. ماذا عن سوتشي؟

جحيم جديد في سورية يفتح أبوابه من الجهة الجنوبية لإدلب التي كانت تقع بالكامل تحت سيطرة قوى معارضة متعددة، بعضُها متشدد.

شعرت قوات النظام بالراحة بعد انخفاض حدة المعارك على جبهتي دير الزور والجنوب السوري، فسارعت إلى إشعال جبهتين جديدتين. الأولى قرب العاصمة دمشق والثانية في الشمال، وتحديداً في الريف الجنوبي والشرقي لمدينة إدلب. وهجوم النظام يعني مزيدا من القنابل العمياء، المتمثلة بالبراميل التي تهبط مترافقةً مع قصف عشوائي غزير، هذا الهجوم هو أحد جوانب الجحيم. والجانب الآخر هو انخفاض درجات الحرارة الشديد في شهر يناير/ كانون الثاني، والذي قد يكون تأثيره قاتلاً على سكان المنطقة، مع عدم وجود جدران أو أسقف، فقد طوّر جيش النظام عقلية عسكرية خلال سنوات الحرب السبع، في هجومه على المدن، وهي أن يبدأ القصف بشدة باتجاه أماكن الرعاية والتزود بالقوت والطعام، وسرعان ما تنهار المستشفيات والأسواق والمخابز، ليبدأ هجومه البرّي مستولياً على الأرض التي أحرقها للتو، وهي بالطبع خالية من الأحياء.

في الهجوم على إدلب، أخيرا، يستخدم النظام خطته التي لطالما اتبعها لفصل قطاع صغير من الأرض ومحاصرته، ثم التركيز عليه واحتلاله قبل الهجوم على القطاع التالي. ويبدو مجمع أبو الظهور الهدف العسكري الأول من الهجوم الحالي. وقد حالفَ الحظُّ النظام، في هذه المرحلة، فترافق تقدمه مع ظهور جديد لتنظيم الدولة الإسلامية الذي أصبح يتقدّم بالتوازي معه، فاستولى على مجموعة قرى، مثل جب الصفا وقصر بن وردان، وهي هدية قيمة، من الواضح أن قوات النظام تقبلتها شاكرة، وشُكرها يتلخص بتوجيه نيرانها نحو ما تبقى من المدنيين هناك، فيما يتحرّك تنظيم الدولة الإسلامية بما يشبه الدهم نحو الأمام من دون مقاومة.

لم يصدر عن أي جهة دولية ردة فعل حيال ما يجري، وكأن الأمر متفق عليه، فلم تظهر على السطح إلا بضع صرخاتٍ خافتة، تذكّر بالوضع الإنساني للمنطقة، بعد الهجوم الغاشم عليها، إلى أن أبدى الجانب التركي بعض الحدّة، فاستدعى سفراء روسيا وإيران وهدّد باتخاذ موقف مختلف من مؤتمر سوتشي.

بعد اجتماعات متعدّدة، عقدت السنة الماضية، بين روسيا وتركيا وإيران، وهي الدول التي بيدها مفاتيح التحرّك السوري. وبعد ظهور ملامح الحل التي بدأت تحت عناوين متعدّدة لسوتشي، أَدخَلت هذه الدول إدلب في عداد المناطق ذات التوتر المنخفض، بما يعني أن تبقى خطوط التماس فيها على ما هي عليه، مع قبول حدوث مناوشاتٍ من دون أن يتقدّم أي طرف على الأرض باتجاه الطرف الآخر، وقد قامت تركيا بتحركات عسكرية في المنطقة لرصد خطوط التماس، ومراقبة حركة النار بالاتجاهين. ولكن ما إن انتهى جيش النظام من معركة دير الزور، وودّع بشار الأسد فلاديمير بوتين في قاعدة حميميم، حتى بدأ الهجوم باتجاه إدلب، في خرقٍ واضح لاتفاق خفض التوتر، وكأن النظام وكل حلفائه يرغبون بالذهاب إلى سوتشي بوفدٍ عريضٍ يمثل النظام فقط، من كل وجوهه، بعد أن يتمكن من كتم الأصوات العسكرية المعارضة، وخصوصا في إدلب، وهي المعارضة التي يصفها الجانب الروسي بالمتطرّفة.

مطار أبو الظهور محطة عسكرية وسياسية مهمة، فأمام النظام استحقاقان، أحدهما في جنيف، وهي المحطة الأسهل التي إن عقدت سيستطيع رئيس وفد النظام، بشار الجعفري، كالعادة، تجاوزها من دون خسائر. والمحطة التالية هي سوتشي التي تبدو أيضاً يسيرة على النظام الذي سيلعب في أرضه وبين جمهوره، وإذا نجح في تشغيل مدرجات مطار أبو الظهور قبل افتتاح جلسات سوتشي، يكون قد حقق المطلوب. أما الجانب الإنساني الكارثي وهو ما يترافق عادة مع حملات النظام، فالجميع أصبحوا خبراء في التعامل معه، ويمكنهم ابتلاعه بصم الآذان وغض البصر عن مصير مليوني إنسان آخرين.

اقرأ المزيد
١٨ يناير ٢٠١٨
عن حرب مؤلمة ومكلفة في برّ إدلب

... والمشهد: أربعة أطراف تتنازع السيطرة على مدينة إدلب وأريافها، اختلفت مصالحها وحساباتها وأهدافها، لكن تجمعها حقيقة واحدة، هي الاستهتار بالوطن السوري وبحيوات البشر وحقوقهم.

أولاً، ترزح غالبية محافظة إدلب تحت سيطرة «هيئة تحرير الشام»، أو الفرع السوري لتنظيم القاعدة، والذي لن يتوانى أو يتردد عن فعل أي شيء للحفاظ على وجوده وسلطته، حتى لو أفضى ذلك لاستباحة المدينة عنفاً وتنكيلاً بصفتها موطن الإرهاب الجهادي، ولا يغير هذه الحقيقة المريرة وجود جيوب لفصائل عسكرية تنتمي للجيش الحر، ولا محاولات «الهيئة» إظهار بعض الاعتدال والاستعداد لتقديم الخدمات وتوزيع المعونات بالتنسيق مع مؤسسات الإغاثة الدولية، أو سعيها إلى فتح قنوات تواصل مع حكومة أنقرة ومع الائتلاف المعارض والمجلس الإسلامي السوري، بل يؤكدها إصرار «الهيئة» على التفرد في الهيمنة وسحق الجماعات المسلحة المنافسة لها، كـ «حركة أحرار الشام» وغيرها، وأيضاً سلوكها المفضوح لإغلاق مكاتب المعارضة السياسية ولإخراس الناشطين الإعلاميين وقمع تظاهرات شعبية مناهضة لها شهدتها بلدات عدة، كمعرّة النعمان وخان شيخون وسراقب، والأسوأ إجهاضها دور المؤسسات المنتخبة من مجالس مدنية وإدارات محلية، لفرض ما صنعته وسمته «حكومة إنقاذ» لتسيير شؤون الناس.

ثانياً، لا تزال قوات النظام والميليشيات الحليفة له تسعر معارك الفتك والتنكيل في الريف الجنوبي الشرقي لمحافظة إدلب، مدعومة بقصف جوي روسي كثيف، خارقة بذلك خطوط وقف إطلاق النار التي حددتها تفاهمات آستانة، ومثيرة الأسئلة عن دوافع موسكو وطهران، كطرفين ضامنين لتلك التفاهمات، في تغطية ودعم هذا الخرق؟ هل الأمر يتعلق بحاجة مستجدة لإجراء تعديل حاسم في توازنات القوى قبل مؤتمر سوتشي وما يمكن أن يفرضه من خرائط ثابتة على الأرض؟ أم هو إغراء الخيار العسكري في نشوة ما اعتبر انتصاراً على داعش في دير الزور والبوكمال؟ أم الغرض الإمعان في إضعاف المعارضة السورية وقطع الطريق على التسوية الأممية التوافقية، من بيان جنيف الى مفاوضاتها الماراتونية، تمهيداً لفرض المشروع الروسي؟ أم يرتبط الدافع بالحاجة للجم طموح حكومة أنقرة وتجميد فعالية وجودها العسكري في بقعتين جغرافيتين ضيقتين، شمال حلب وشرق محافظة إدلب، ما يفضي إلى تحجيم دورها السياسي وحصتها في المستقبل السوري؟ أم لعل الأمر يتعلق برد استباقي على ما يثار عن خطة يبيتها التحالف الأميركي و«قوات سورية الديموقراطية» للتقدم نحو إدلب؟!.

ثالثاً، بالتعاون مع تركيا وبالتنسيق مع فصائل معارضة موجودة في إدلب، تتحين جماعات من «الجيش الحر»، المنضوية تحت قوات «درع الفرات» الفرصة للتقدم من الشمال باتجاه المدينة، وأهدافها تتعلق أساساً بما ترمي إليه حكومة أنقرة، بدءاً بإقامة منطقة نفوذ واسعة في الشمال السوري تقوي أوراق تركيا على طاولة المفاوضات، مروراً بإعاقة النظام وحلفائه من السيطرة على محافظة إدلب كاملة وإجهاض فرصة تفردهم في تقرير مصير البلاد، ومروراً بتفويت الفرصة على أي محاولة أميركية رامية إلى دعم «قوات سورية الديموقراطية» للتقدم نحو إدلب بغرض تعزيز النفوذ وتسهيل اصطياد بعض قادة «هيئة تحرير الشام»، وانتهاءً بخشيتها من أن تفضي المعارك المحتدمة هناك، إن لم يتوسع شريط سيطرتها بما يحاكي المنطقة الآمنة، إلى مأساة إنسانية جديدة على حدودها الجنوبية، حين يندفع عشرات آلاف السوريين للجوء إليها.

ومع أن حكومة أنقرة تدرك صعوبة التقدم العسكري وأيضاً تكلفته الباهظة، لكن يرجح أن لا تقف متفرّجة كما كان حالها في معارك الرقة، ليس فقط لأن مناطق إدلب تحاذي مباشرة حدودها، بل لأن تلك المناطق محط اهتمام حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي للتمدد وتوسيع الكانتون الذي يتطلع لتكريسه وإدارته.

ثالثاً، وعلى رغم تردد السياسة الأميركية حيال الصراع السوري، فإن ثمة إشارات لافتة ترجح احتمال أن يشجع التحالف الغربي بقيادة واشنطن، «قوات سورية الديموقراطية» لتنازع الآخرين السيطرة على محافظة إدلب، متوسلاً لهفة الأكراد ربط المناطق التي يسيطرون عليها شرق نهر الفرات بتلك التي في غربه، وراجياً أهدافاً متضافرة، منها المحاصصة على النفوذ وعدم ترك موسكو تحدد منفردة المصير السوري، ثم توظيف توسيع النفوذ الميداني الجديد كعائق في مواجهة الهلال الشيعي، وأيضاً للضغط على حكومة أنقرة وتخفيف اندفاعها صوب روسيا وإيران، بما في ذلك استخدامه كورقة قوة في التعاون والتعاضد مع البلدان العربية والغربية للتشارك في تقرير شؤون المنطقة.

والمشهد: إدلب مدينة مستباحة تضم أكثر من مليوني نسمة، لجأ إليها كل من هجّر قسرياً من جماعات المعارضة المسلحة وحواضنها من أرياف دمشق وحمص... مدينة يحكمها إرهاب آلاف المقاتلين المنتمين إلى «هيئة تحرير الشام»، وهم مستعدون عسكرياً للمواجهة والدفاع عن معقلهم الأخير مهما كانت التكلفة والأثمان، ما ينذر بحرب دموية طويلة ومدمرة... مدينة تتعرض لقصف وحشي عنيف ولهجمات سلطوية منفلتة لا غاية لها سوى الكسب وتحسين الموقع، ولعل هروب وتشرد أكثر من مئة ألف سوري، خلال أيام القصف الأولى، دليل على حجم الخزان البشري وما يمكن أن يحل به، وتالياً على عمق الكارثة الإنسانية التي سيتعرض لها المدنيون من أهلها وسكانها ونازحوها.

والحال، هل هو كثير على السوريين أن يطالبوا الرأي العام والمجتمع الدولي، بمساعدة هذه المدينة المنكوبة وإنقاذها من مأساة مروعة تنتظرها؟ هل هو كثير عليهم أن يتمنوا مبادرة أممية تلزم الجميع، وقبل فوات الأوان، وقف هذه الحرب العبثية والمكلفة، يحدوها نزع السلاح وتسليم المدينة لهيئات محلية منتخبة تتولى، بإشراف دولي، إدارة شؤون البشر وحاجاتهم اليومية والإنسانية؟ أم هو قدرهم، كسوريين، أن يقفوا من جديد عند مأساة إدلب، بعد حمص وحلب والرقة ودير الزور، وقلوبهم تعتصر حزناً وألماً على ما قد يحل بمدنيين عزل، لا ذنب لهم، سوى أنهم ولدوا على هذه الأرض.

اقرأ المزيد
١٨ يناير ٢٠١٨
أنا بشار ... يعيدون تأهيلي!

جَلَسَ أعضاء الوفد الروسي أمامي بوجوهٍ كأنها من شمْعٍ لا يتحرّك فيها عصَبٌ. نشروا الخرائط وبدأ كبيرهم الكلام:

السيّد الرئيس، فعلْنا كل ما نستطيع من أجل إبقائك في السلطة. غَطّيْنا المجازر دولياً، وشاركْنا في القتال محلياً. أَخْرَجْناك من مأزقِ الكيماوي الأول عبر اتفاق بوتين - أوباما، وضَغَطْنا كي تأتي ردة الفعل الدولية الثانية إثر خان شيخون محصورةً ببضعة صواريخ من ترامب لم يعرف أين سقطتْ وقال لاحقا إنها ذهبتْ الى العراق. (ابتسم أحد أعضاء الوفد ثم سحب ابتسامته فوراً مع نظرةٍ نافذةٍ من كبيره).

أَرْسَل الحلفاء لك كلّ مرتزقٍ في المنطقة بعدما صار جيشك مجموعات مرتزقة. دخلتْ إيران وميليشياتها على الأرض، وسيطرتْ السوخوي على الأجواء، ودرّبنا طيارينا بِلَحْمِ السوريين الذين انتفضوا ضدّك.

غول التطرف أُطلق في اللحظة المناسبة إقليمياً ودولياً. أَخْرَجْنا "البضاعة" من السجون في العراق وعندكم ومن اليمن وحتى الشيشان، وطلبتْ إيران من قيادات عندها تحريك الأمور على الأرض تماماً كما فعلتْ بعد احتلال أميركا للعراق. صار عندنا سلاحان قاما بخدمتك كما لم يفعل لا جيشك ولا أقرب المقرّبين لك ... النصرة وداعش.

إفْتَتَحْنا قناةً مهمة جداً مع الاسرائيليين لحماية نظامك، نخبرهم بكل طلعاتنا الجوية وتَحَرُّك دباباتك على الأرض، لا نضربهم ولا يضربوننا، وإن ضَرَبوا فبعض الصواريخ الإيرانية او تلك الذاهبة الى الميليشيات ... هذا من ضمن الاتفاق، وما كان عليكم إلا الصمت او التنديد او التحذير من أنكم ستردّون في المكان والزمان المناسبيْن كما تفعلون دائماً، لأن أعداء الداخل بالنسبة إليكم أَهَمّ وأَوْلى من اسرائيل حالياً وصواريخ إيران بالنسبة الى اسرائيل أَهمّ وأَوْلى من بقاء نظامكم او ذهابه. ثم ان فيلم اسرائيل منذ 1973 لم يعد حتى بحاجة الى بيان او رد فعل، فكما تقولون باللهجة الشامية "دافنينو سوا".

لعبْنا كل أوراقنا مع الدول العربية والعالم، تارةً باسم محاربة الإرهاب وطوراً باسم الاتفاقات الاقتصادية وتسهيل الحلول. وعبَرْنا الى جماعات المعارضة فشتّتْناها باسم توحيدها وأَوْجَدْنا مسارات جديدة تجاوزتْ الأمم المتحدة وجنيف. أثْبتنا لك ان السيطرة على الأرض تَنْتزع الأوراق في السياسة وأن كثرة الأوراق السياسية لا تنْتزع شبراً من الأرض. ولا تنسَ كيف نظّمْنا الصراع مع تركيا وأَقَمْنا منظومةً ثلاثية فيها إيران وجعلْنا الورقة الكردية التي حرّكتْها واشنطن مدخلاً الى توافقات إقليمية.

ويختم كبير الوافدين: السيّد الرئيس، ما زالتْ الأمور لم تُحسم نهائياً على الأرض، والساحة السورية مفتوحة على كل الاحتمالات والاستخبارات، إنما اليوم، ونقول اليوم دون أن ندري ما يحمله الغد، نجحنا في إقناع العالم عملياً ببقائكم حتى انتهاء ولايتكم وحقّكم في خوض انتخاباتٍ جديدة، والمطلوب تغيير جذري في مسيرة النظام وسلوكياته كي نتمكّن من التغطية ولو في الحدود الدنيا. لا بأس من انتهاء الـ 99.99 % ومن وجود دستور مدني متقّدم، وفسْح المجال للمشاركة العامة، وانتهاء مسرحية انتخابات مجلس الشعب السمجة وتَحكُّم فريق داخلي طائفي بكل مفاصل الحياة العامة والخاصة. ولا بأس من حريات إعلامية وعامة وحرية المعارضة في التحرّك السياسي بأعلى سقْف وأيّ موقع. هل تعرف كم صحيفة وتلفزيون وحزب في روسيا ينتقدون يومياً بوتين وسياساته؟ هل تعرف كم تظاهرة وتَجمُّعاً ومسيرة ضدّه في عموم روسيا؟ ومع ذلك يفوز بشخصه او بميدفيديف ويفوز تياره وتستمرّ خياراته.

... ماذا قلتَ؟ الكلام لكم.

هذا المتغطرس يفرض عليّ سلوكياتٍ لو فكّر فيها سوري واحد مجرّد تفكير لكان القبر سريره. أحبّ الإيرانيين أكثر رغم ان ابتساماتهم الكثيرة تستفزّني وأشعر بأن خلْفها أشياء مخيفة. المهمّ سأبدأ استيضاحاتي:

هل تطلبون مني أن أسمح بظهور شخص في التلفزيون يدعو لإحلال دولة مدنية مكان الدولة الأمنية؟ لولا الدولة الأمنية لانهار النظام منذ زمن طويل. وهل أسمح لشخصٍ بأن يكتب عن حصْر الثروة والسلطة في يد مجموعة معيّنة من إخوتي وأقاربي ومعارفي؟ أو أن يكون هناك قضاء نزيه ومعارضة حقيقية وتَداوُل سلطة ومؤسسات يلجأ لها الناس لتحصيل حقوقهم؟ هل أنتم في سويسرا؟

أصمت قليلاً وأتمنى ألا يكون الوفد الروسي قد أَكْثَرَ من الفودكا قبل اجتماعه معي. يعيدون تأهيلي؟ هذه آخرتها. اذا كتب تلميذٌ في مدرسة شعاراً على حائطٍ لا أسحب أظافره ولا أسجن أهله. اذا تظاهر أحد لا أعيده الى ذويه أشلاء. إذا أَنْشد منشد أغنية سياسية لا أذبحه ولا أرمي حنجرته في النهر. إذا تجمّع الأهالي في طابور أمام فرن لا أضربهم بالبراميل ثم أكمل ضرْب من تَجمّع لإنقاذهم. إذا تَقدّمتْ المعارضة في قرية لا أحرقها بالكيماوي. إذا حلّق الطيران فوق مبنى لا أقصفه وأهدمه على مَن فيه. وإذا احتجّ سكان بلدةٍ لا أحاصرهم ولا أجوّعهم ... فعلاَ مَن يَهُنْ يَسْهُل الهَوان عليه.

أتابع: أيها السادة، أشكر كل ما فعلتموه وأقدّر مطالبكم، إنما أحتاج الى وقت كي أهضم مقترحاتكم، فمَن شبّ على شيء شاب عليه. بلادكم متقدّمة في الطب وتعلمون أن الأعراض الانسحابية للمدمنين تحتاج أحياناً الى سنوات كي تختفي ...

لم يكن لدى كبير الوفد وقت ليتابع مداخلتي التي تأخذ ساعتين أحياناً. لمْلم أوراقه وطلب ان أردّ عليهم كتابةً، وان أسلّم الرسالة الى العسكري الذي أَوْقَفَني في حميميم ومَنَعَني من متابعة السير الى جانب بوتين.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان