هل تُشهر الأسلحة؟ هل تشهد الساحة صدامًا بين الجيش التركي ونظيره الأمريكي؟
هذا هو السؤال الوحيد الذي بحث الجميع عن إجابة عنه أمس..
إذا هاجمت تركيا وحدات حماية الشعب خلال تطهير حدودها، هل تشتبك مع القوات الأمريكية؟
وإذا اشتبكت ماذا سيحدث؟
من ينظرون إلى عدم اضطراب أسعار العملات والفائدة والبورصات يقولون "لن يحدث صدام"..
الأسواق لا تشهد أجواء قلقة..
ومن يتابعون السياسة وحملات الولايات المتحدة يعتقدون أن الصدام يوشك أن يقع..
وإذا تساءلتم ماذا يحدث، سأوجز لكم الأمر باختصار..
تسعى الولايات المتحدة إلى تأسيس دولة في منطقة الأكراد بسوريا بهدف تحويلها إلى "حاملة طائرات عملاقة" تتبع لها..
وتريد تحويل قوات سوريا الديمقراطية، التي ينتمي معظم عناصرها لوحدات حماية الشعب، إلى جيش نظامي..
لهذا تجري التحضيرات..
عندما لاحظت أنقرة هذه التحضيرات أطلقت التحذيرات على أعلى المستويات.. وحشدت القوات العسكرية على الحدود، موجهة رسالة مفادها إمكانية ضرب منبج وعفرين في أي لحظة..
في كل اجتماع له خلال الأيام الأربعة الماضية حذر الرئيس التركي بقوله "يمكن أن نضرب في أي وقت"..
عندما انكشف الأمر اعترفت الولايات المتحدة، وأعلنت أنها شكلت "قوة حرس حدود" قوامها 30 ألف شخص..
أي حدود ستحميها هذه القوة وضد من؟
تقول واشنطن إنها ستحمي حدود تركيا والعراق!..
ضد من؟
ضد تنظيم داعش!
هنا تبدأ اللعبة الكبرى.. الحقيقة أن الولايات المتحدة تعمل من أجل تأسيس دولة تابعة لها في شمال سوريا..
تنشئ واشنطن قوة عسكرية لهذه المنطقة ذات الحكم الذاتي أو المحررة، إن لم نشأ تسميتها دولة..
لكن لماذا؟ هل هي خطوة ضد تركيا؟
لا.. مهما ساءت علاقاتنا، ليس ضدنا وإنما ضد إيران..
تعتزم واشنطن تشكيل منطقة عازلة لها في شمال سوريا ضد النفوذ الإقليمي الإيراني (محور طهران/ بغداد/ دمشق/ لبنان)..
ستقولون ما القضية إذًا؟
القضية هي أن أنقرة لا تقبل قيام الولايات المتحدة بهذه الحملة بالتعاون مع وحدات حماية الشعب، ذراع حزب العمال الكردستاني..
لأنها عاشت تجربة مرّة مشابهة في السابق..
أُلقي القبض على عبد الله أوجلان عام 1999، وتشتت حزب العمال الكردستاني.. أصبح غير قادر على التحرك..
احتلت الولايات المتحدة العراق من أجل الإطاحة بصدام حسين عام 2003..
كانت هذه الفوضى في صالح حزب العمال..
جمع صفوفه، وامتلك أسلحة ثقيلة، وشكل منطقة مستقلة لنفسه في شمال العراق، وعزز قواه بشكل كبير..
في 2015 أطلق حربًا على تركيا في ديار بكر وماردين وشرناق وهكاري ومناطق أخرى..
أجرى بروفة من أجل حرب داخلية..
لكنه تلقى ضربة وتزعزع من جديد.. لم يعد قادرًا على الاتيان بحركة داخل حدود تركيا..
وهو يسعى لإعادة ترتيب أوراقه..
هذا هو السبب الأول في اعتراض أنقرة الشديد على إقامة منطقة كردية تسيطر عليها وحدات حماية الشعب/ حزب العمال الكردستاني..
أما السبب الثاني.. حزب العمال نشأ في سوريا ونفذ منها هجماته الأولى ضد تركيا.. أقام أوجلان في دمشق أعوامًا طويلة..
بعد ذلك انتقل إلى شمال العراق..
ما تبذله أنقرة من جهود هو للحيلولة دون عودة الحزب إلى موطنه القديم.. لكي لا نعيش تلك الأيام من جديد..
يقدم الحراك الإيراني الذي انطلق أواخر كانون الأول (ديسمبر) جملة مظاهر وسمات مشتركة خصوصاً مع الانتفاضة السورية. السمة الأولى للحراكين أنهما انفجرا في شكل عفوي، وانطلاقاً من دعوات شبابية أمكن لها توظيف التكنولوجيا في نقل وقائع ما يجري في البلدين. ان غلبة عنصر الشباب ناجم عما تعانيه أجيالهم من حالات بطالة وفقر وحرمان. افتقد الحراكان القيادة والتنظيم، الذي تكوّن لاحقاً في سياق الحراك في سورية، وهو سائر الى التكون في إيران. يختلف المشهد الإيراني الحالي عن حراك 2009 لجهة وجود قيادة، آنذاك، من صلب النظام. تشكل العفوية عنصراً إيجابيا ًلجهة الاستنهاض، لكنها قاصرة عن الذهاب به نحو أهدافه السياسية الأخيرة. في الانتفاضات العربية امكن للأحزاب الإسلامية ذات التنظيم الموروث ان تتسلط على الانتفاضات.
السمة الثانية ان الحراكين انطلقا من مطالب اجتماعية، لكن هذه المطالب سرعان ما تحولت سياسية، وهو أمر بديهي. لذا ارتفعت الشعارات الداعية الى إسقاط النظم الأسدي من جهة ونظام ولاية الفقيه من جهة ثانية. فمن شعارات «الشعب يريد اسقاط النظام»، و «ارحل ارحل يا بشار»، الى «الموت للديكتاتور» اي الخامنئي، وذهاب روحاني وإحراق الحوزات الدينية.. قواسم مشتركة في البلدين تصب في أهداف سياسية واحدة: تغيير النظام.
السمة الثالثة، ولعلها تكتسب أهمية كبرى في ايران والبلدان العربية، وهي المتعلقة بكسر هيبة النظام، بل كسر حاجز الخوف، من خلال نزول الشعب الى الشارع والشعارات التي نادى بها. كان الرئيس السوري حافظ الأسد ومن معه في الحكم يرددون دائماً ان أحد عناصر قوتهم وسيطرتهم هو هيبتهم. والهيبة تستند الى قدسية القائد وتأليهه، وأي مس بهذه القدسية تعني سقوط منظومة سيكولوجية، سيترتب عليها نتائج خطيرة على موقع القيادة. ليس بسيطاً ان تُحرق صور الخميني والخامنئي، وهو حريق يمس قدسيتهم بالدرجة الأولى.
السمة الرابعة، ان النظامين رفضا اعتبار الحراك ناجماً عن انفجار الاحتقان السياسي والاجتماعي في بلديهما، فاتّهما الخارج بتدبيره وقيادته. في الاتهام احتقار للشعبين السوري والإيراني من جهة، وهروب من مسؤولية القيادتين عن الفساد والظلم والاضطهاد المسلط على الشعبين. في اجتماع مجلس الشورى الإيراني الذي جرى الأسبوع الماضي، حصل استجواب لوزيري الأمن والاستخبارات حول التدخلات الخارجية، فنفيا اي تدخل.
السمة الخامسة، ان سورية وإيران يحكمهما نظام يستعصى على الإصلاح، ويرى سلطته أبدية. القيادتان تريان إلى سلطتهما مستمدة من الإله وليس من الشعب. مما يعني ان محاسبتهما لا تقوم بها مؤسسات النظام التشريعية او القضائية. ومن خلال أبدية السلطة، لا يرى الأسد او الخامنئي مانعاً من تدمير البلد على رؤوس أبنائه ثمناً للبقاء في السلطة. قالها بشار الأسد مبكراً، إما انا او أحرق البلد. وصدق في تهديده فأحرق سورية ودمرها وأباد نصف سكانها بين قتلى وجرحى ومعتقلين ومهجرين الى بلدان أخرى. ليس النظام الإيراني أقل وحشية في قمعه للحراك وفي استخدام اسلحته المتطورة لهدم المدن والقرى الإيرانية على رؤوس ابنائها، اذا ما استفحل الحراك الإيراني وعجز الحرس الثوري عن إنهائه.
السمة السادسة، تتناول حدود الانقسامات في قلب السلطة. في سورية، لم يخل الأمر من رفض ضمن الصف القيادي والعسكري لسياسة بشار الأسد في القمع العاري، لكن النظام أجاب عنها بالقتل، ولعل حادثة اغتيال القيادة الأمنية والعسكرية في 2012 وعلى رأسها رئيس الأركان آصف شوكت خير دليل على ذلك. في ايران، ما زال الوقت مبكراً للحديث عن انقسام في القيادات. إلا ان ارهاصات بدأت تظهر عبّر عنها رئيس الجمهورية حسن روحاني عندما اعترف بحق المتظاهرين في التعبير عن رأيهم، وبضروة تفهم الشباب الإيراني ومطالبه، مع عدم اتهام الخارج بتنظيم التظاهرات. سرعان ما رد عليه الولي الفقيه الخامنئي بتكرار اتهام الخارج بتحريك الشارع واتهام المتظاهرين بالسعي الى إسقاط النظام. إذا كان روحاني يبغي استيعاب الحراك، فإن الخامنئي ومن معه يرفضون تقديم تنازلات إصلاحية خوفاً من ان تفتح هذه التنازلات على جملة مطالب ستصب في النهاية بتعديل النظام. الأمر نفسه هو الحاصل في سورية، فقد رفض النظام منذ البداية تقديم أي إصلاح لأنه يدرك ان هذه الإصلاحات ستكر سبحتها لتطاول النظام في جوهره. فالنظامان مغلقان على اي إصلاحات، ولو كانت لمصلحة بقائهما.
إذا كانت الانتفاضة السورية تشرف على عامها الثامن من دون النجاح في تغيير النظام، فإن الحراك الإيراني قد بدأ مسيرة يصعب ان تنتهي بالسرعة التي يبشر بها أركان النظام والمثقفون الذي يدورون في فلكه. ان التقطع والصعود او النزول هي سمة لكل حراك سياسي. والأسباب التي انطلق منها الحراك، أي الجوع، لن يمكن للنظام الحد منها، ما سيجعل إيران على أبواب هزات ارتدادية، قد يؤثر القمع فيها سلباً، ولكن نارها لن تنطفىء ابداً.
الحرب لم تتوقف، لكن القتال انخفض ضمن ترتيبات لإنهائه. وتباشير «السلام» الموعودة وصلت مرحلة من التفاؤل لدرجة أن بعض الحكومات أعادت سفراءها إلى دمشق، ونُعيت المعارضة. كما تصرفت بغرور الأطراف «المنتصرة»، حكومة الأسد وإيران وروسيا، بتجاهل مؤتمر جنيف، معتبرة أن مفاوضات سوتشي، وليس غيرها، من ستحسم مصير سوريا، وفقاً لرغبتها. إيران زادت من حضورها العسكري، ومن تسليح «حزب الله»، فيما يبدو محاولة لحسم الأيام الأخيرة لصالحها، وفرض وجودها لمرحلة ما بعد الحرب.
هذا التمادي يبدو أنه أعاد المتحاربين إلى الحرب. القتال مستعر في إدلب، وفي جبهة جنوب حلب، وكذلك في ضواحي دمشق، وشرق نهر الفرات في دير الزور، ثم إن هناك الهجمات الغامضة التي دمرت جزءاً من القوات الروسية في قاعدة حميميم في اللاذقية.
وأهم ما يلفت النظر ما قاله ديفيد ساترفيلد، القائم بأعمال نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، من أن الحكومة الأميركية ضد الوجود الإيراني في سوريا، وأن هذه مسألة استراتيجية. هذا التوضيح الصريح مهم وخطير، ويفسر كثيراً من الأحداث الأخيرة، بما فيها عجز مؤتمر سوتشي عن تحقيق أي تقدم، وعودة القتال، وتراجع المندوب الأممي عن دعمه للحل السياسي، والهجمة العسكرية الإسرائيلية على مواقع إيرانية عسكرية بالقرب من العاصمة دمشق.
إذا كانت واشنطن، حقاً، تعتبر أن الوجود الإيراني و«حزب الله» في سوريا مرفوض، وتعتبره في صلب سياستها تجاه سوريا، فإنها قادرة على قلب المعادلة، وإفشال كل ما حققه النظام السوري بدعم حلفائه.
ولأن تركيا لم تعد على وفاق مع واشنطن، فقد يعتقد البعض أن الأميركيين خسروا أهم جبهة تحيط بسوريا، التي أصبحت خارج الحرب. وهذا جزئياً صحيح، لكن لديهم ما يكفيهم من الحلفاء لفرض شروطهم بإخراج الإيرانيين من سوريا، أو تدمير مشروعهم بالاستيطان العسكري. هناك إسرائيل، و«قوات سوريا الديمقراطية» التي ضُمَّ إليها عدد من فصائل الجيش الحر شرق الفرات، وهناك المعارضة في الجنوب، بالقرب من حدود الأردن. وما دام الحرس الثوري يتخندق في سوريا، مع ميليشياته الأجنبية، فإننا أمام جولة جديدة من الحرب السورية، وستكون رمالاً متحركة موجهة بشكل مركز ضد القوى الإيرانية.
وعن وجود الروس، يرى المسؤول الأميركي أنهم سيعيدون النظر عندما يجدون أن الحرب لا تخدم مصالحهم على المدى الطويل، ولا التحالف سيدوم بينهم وبين الإيرانيين.
الانتكاسة التي أصابت مفاوضات إنهاء الحرب السورية ليست مفاجئة لأنها تعامت عن أهم عوامل التوتر، أي الوجود العسكري الإيراني مع ميليشياته. وجودهم هناك يعني، بالنسبة للسوريين، اعترافاً باحتلال وتشريعه على ظهر نظام ضعيف في دمشق. وهو، أيضاً، بالنسبة لدول المنطقة تغيير خطير في ميزان القوى الإقليمي. أراد الثلاثي السوري والإيراني والروسي طبخ السلام في سوتشي على عجل، مستفيدين من التهاون الإقليمي والأميركي والتقدم العسكري، وكان بإمكانهم ذلك لولا أن العامل الإيراني صعب غض النظر عنه. واشنطن تعتبر مواجهته جزءاً من استراتيجيتها التي لم تكن موجودة قبل أشهر قليلة مضت.
ضمن رؤيته للواقع العربي المتردّي والمهزوم أمام أنظمته الاستبدادية، وقيمه الوطنية الجمعية، وأمام الضغوط والتدخلات الخارجية، كان من السهل على الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفريق إدارته، تمرير قراره الكارثي بخصوص القدس التي تعتبر من أكثر القضايا حساسية في العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من الضجّة الشعبية التي واجهت قرار ترامب، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وما رافق ذلك من استياءات دولية، شملت دولاً غربية، تدرك حجم الآثار الخطيرة المحيطة بقرار محوري، من شأنه تقويض العملية السياسية الخاصة بالقضية الفلسطينية، ومعها الانتصار المعنوي ـ الدبلوماسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الجلسة الاستثنائية التي عقدت في 21 يناير/ كانون أول 2017، وقبلها في مجلس الأمن الدولي (على الرغم من الفيتو الأميركي)، على الرغم من ذلك كله، كان ترامب يراهن، في قراره، على عودة الصمت إلى الشارع العربي، المهموم بتردّي أوضاعه الذاتية، وبأنظمته السياسية، وبحالة التصدّع المجتمعي السائدة، إذا كانت هذه المؤثرات محسوبةً لدى صانع القرار الأميركي، سواء بشأن القدس، أو غيره؛ بما يتعلق بالمنطقة العربية، ومنها واقع الصراع في سورية.
على ذلك، ليس مستغرباً أن تجرّنا الأحداث الجارية في فلسطين المحتلة أو في سورية، إلى إحداث مقارناتٍ بين مسعيي حكومتي دمشق وتل أبيب إلى ضرب مصداقية (وجدّية) الوساطات الدولية التي تدعمانهما أساساً، على اختلاف من يمثلها، سواء الجانب الأميركي في التسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، أو الجانب الروسي الذي يطرح نفسه وسيطاً في تسويةٍ مشبوهةٍ بين النظام السوري والمعارضة. هكذا فإن قرار ترامب أبعد أي توهماتٍ يعيشها الجانب الفلسطيني في إمكانية الوصول إلى اتفاق سلامٍ يحقق للفلسطينيين دولتهم، وللاجئين عودتهم، وللعرب قدسهم الشرقية على أقل تقدير، مقابل السلام في المنطقة، ومن بينها إسرائيل دولة الاحتلال. وأيضاً في الجانب الآخر، حيث تشن روسيا حرباً شرسة في سورية إلى جانب النظام، بينما تقدّم نفسها للسوريين، موالاة ومعارضة، راعية للتسوية، بينما توزّع نيرانها الموت في أكثر من مكان في إدلب وريف دمشق وحماة.
وإذا كان مؤسفاً المقارنة، اليوم، وفق الأحداث الجارية بين شدة العنف ونتائجه في مكانين، أحدهما تحت حكم الاحتلال، والآخر تحت حكم سلطة "وطنية"، وكلاهما أنتج واقعاً مأساوياً لشعبي البلدين، فإن مسألة التهجير القسري في مقدمة تلك المشكلات الناجمة عن ممارسة أقصى أنواع القوة في وجه الرافضين للاحتلال من جانب، والهيمنة الأمنية والسياسية من جانب آخر. إذ تفيد إحصائيات أسبوع من القصف الوحشي لروسيا المساندة للنظام وإيران في حربهما على إدلب فقط، إلى تهجير ونزوح نحو مائة وخمسين ألفاً من السوريين نساء ورجالاً وأطفالاً، أي نحو ست وعشرين ألف عائلة، في وقت يمكن الحديث فيه عمّا يزيد عن عشرة ملايين سوري نزحوا أو هجروا منذ اندلاع صيحات الحرية في سورية بوجه النظام في العام 2011، نتيجة العنف وتدمير المدن والمناطق وتوسيع دائرة الاعتقالات بين السوريين، وهو ما يوازي ضعف ما قامت إسرائيل (الدولة المحتلة) من تهجير الفلسطينيين، بالنظر إلى النسبة والتناسب، وهذا من دون أن يفهم من ذلك وجود جريمةٍ تغطي على أخرى، أو تقلل من آلامها، فالجريمة مهما كان حجمها تعتبر جريمة.
على ذلك، جاء القرار الأميركي ضمن سياقات طبيعية لرئيسٍ لم يخف جدول أعماله خلال حملته الانتخابية، ومنه موضوع القدس، أي أن لا أحد من المسؤولين العرب، المعنيين بالقضية الفلسطينية، يستطيع ادعاء مفاجأته بقرار ترامب الذي صرّح إنه أجرى اتصالات بشأن ذلك قبيل الإعلان، ناهيك عن أن القرار ليس بدعةً منه، وإنما هو موجود ضمن أدراج الرئاسات الأميركية منذ عام 1993، لكن اللافت، أن هذا الرئيس ذاته، المعادي للعرب والمسلمين واللاجئين عموماً، لم يؤخذ بجريرة تصريحاته على مستوى علاقاته العربية، ما يسهّل له الطريق للمضي في تنفيذ ما تبقى من وعود انتخابية، ليست أصعب من قراره الكارثي بشأن القدس.
ولعل ذلك يستدعي السؤال عن موقف ترامب من قضية الصراع في سورية، وعن تصريحاته في حملاته الانتخابية، وتحديداً ما يتعلق بقضية اللاجئين السوريين، ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، ما يستدعي على دولة عظمى، كأميركا، أن تمنح لهؤلاء البديل عن اللجوء، بإنهاء المسببات له في بلادهم، على غرار وعوده التي مضى في تنفيذها للكرد، عندما أعلن أنه من أنصارهم، وأنه سيمضي في شراكته معهم في الحرب على "داعش"، وهي الوعود التي ينظر من خلالها كرد سورية إلى أنها ستفضي إلى جلوسهم إلى طاولة المفاوضات في أي عملية سياسية جادة.
هنا يأتي السؤال لقيادات المعارضة، إذا كانت فهمت الدرس من مضي ترامب بتنفيذ قراراته بما يتعلق بأكثر القضايا حساسية لكل العرب والمسلمين، وهو بهذا القرار يقف في مواجهتهم جميعاً، فما هي فرص أن يتجاوز وعوده، على الرغم من رعونتها في أحيان كثيرة، في ما يتعلق بلا مبالاته بتقسيم سورية إذا كان ذلك مطلباً لشعوبها. وهنا، هل يقصد ترامب كل الشعوب، أم يخص من يشاركهم فقط؟
في المقابل، يأتي السؤال عن الجهة التي تحمي سورية والسوريين من رعونة القرارات، أو حتى من صمت ترامب وإدارته على قرارات موسكو المحابية للنظام؟ وما هي انعكاسات تجاهل المعارضة البحث الجاد والاستباقي بشأن الوصول إلى تفاهماتٍ مع كرد سورية بعيداً عن الأجندات الإقليمية، منعاً لرعونة مفاجآت تم الإعلان عنها سابقاً، كموضوع قرار إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ليس فقط أميركياً، وإنما روسياً أيضاً؟
لعل التشابه، اليوم، يكمن أيضاً في فقدان مصداقية من قبلت بهم الأطراف المتضرّرة كرعاة لمسار السلام، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، في كل من فلسطين وسورية، أي السلطة الفلسطينية والمعارضة السورية، ما يضع هذين الطرفين أمام مسؤولياتهما عن قبولهم بمسارات جانبية، وبرعاة غير حياديين، هدفهم النيْل من القرارات الأممية، واستبدالها بتسوياتٍ غير عادلة، لحساب كل من إسرائيل والنظام، وفق خياراتهما المعلنة والمتراكمة، والتي لا يكمن ادعاء حياديتها، بل وعداوتها سواء لحقوق الفلسطينيين، أو لحق السوريين في إقامة دولتهم المتأسسة على المواطنة والديمقراطية.
لعل رهان ترامب على الصمت والعجز العربي، سواء في موضوع القدس، أو في توزيع الأدوار في الصراع على سورية، هو ما يفقد الأمل بحلول قريبة، ما لم تلجأ الجهات المتضرّرة إلى البحث بجرأة وموضوعية عن حلولٍ لا تكرّر خيباتهم السابقة، ولا تجعل من قضايانا معبراً لمصالح المستفيدين وتجار الدم والمستهترين، فهذا الصمت العربي الذي أنتج التغريبة الفلسطينية في آلامها وتحدياتها هو نفسه الصمت الذي يُجهز على ما تبقى من القضية برمتها، لو لم يكن للشعب الفلسطيني انتفاضته بطرقها العديدة، ومنها عهد التميمي، وهو الصمت نفسه الذي يلوح بفقداننا بوصلة أهداف الثورة في إنهاء نظام استبدادي وإقامة البديل الديمقراطي الذي يهدد الأنظمة الشمولية، على اختلاف مواقع حكمها الجغرافي.
مؤكد أن إيران لا يمكن أن تتجاوز ما حدث من احتجاجات وكأنه لم يحدث. تبدو الأمور هذه المرّة مختلفة عما تعرفه خبراتنا عن إيران، وما حدث سنة 2009 كان "عركة" بين أصحاب البيت، أما اليوم فهناك آخر، "القاع الاجتماعي" يهدّد الجميع، "المحافظين والإصلاحيين". ولأن قادة إيران يعرفون أن شعبها هو صانع السجادة الحقيقي، وأن الصبر والهدوء هو أسلوب عمل وطريقة حياة، يستطيع من خلالهما تضليل الآخر لإيقاعه في الخطأ الحسابي، تماما كما حصل في الثورة ضد الشاه، حيث بدأت أحداثها عادية ورتيبة، واستمرت هكذا عاما، حتى تبدى للشاه وحلفائه أنه تم احتواء الثورة، لتنعطف الأخيرة وتسجل ضربتها القاضية.
على ذلك، سيكون لحدث الاحتجاجات انعكاسات على مستوى قادة وصناع القرار (النخب الحاكمة)، ستظهر آراء تنادي بضرورة الانكفاء داخليا لإدارة الأزمة، وآراء ستطالب بتخفيف الانهماك بالخارج، والالتفات إلى الداخل، ومعالجة أزماته، وتفكيك القنابل الموقوتة الكثيرة في البيت الإيراني.
وستتصارع هذه الآراء، وتتفاعل فيما بينها، وبينها وبين الشارع، وسيكون لها أثر على موازين القوى بين المحافظين والإصلاحيين، وقد يتشكل تيار ثالث في السلطة، يتجاوز طروحاتهما، فالحريق وصل إلى البيت الداخلي، ولم تعد مسارح سورية واليمن ساحاته، وبالتالي، يجب أن تكون الترتيبات مختلفة.
وإذا كان من الطبيعي أن تكون لهذه التغييرات المحتملة انعكاساتها على طبيعة إدارة إيران ملفاتها الإقليمية، في ظل وصول الانتشار الإيراني، على مستوى الإقليم، إلى درجاتٍ لم يسبق لأنظمة الحكم الإيرانية معرفتها في العصر الحديث. ولا يمكن لأحد نكران حقيقة أن إيران أسست شبكة إقليمية اخترقت بها مجتمعات الدول المجاورة وأنظمتها، كما أنها أوصلت وكلاءها في المنطقة إلى سدة السلطة، أو جعلتهم يتحكمون بمخرجات السياسة والسلطة في تلك البلدان. والأكثر من ذلك، غيرت إيران خريطة الجغرافيا السياسية للمنطقة بشكل كبير، إلى درجةٍ أصبحت جارة لدول المنطقة جميعها، بفضل وكلائها.
وليس خافياً أن إيران بذلت الجزء الأكبر من طاقتها الاقتصادية والسياسية، في العقد الأخير، في مسعى ترتيب الشؤون الإقليمية لمصلحتها، واستثمار الفرص التي قدّرت أنها لا تعوّض، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت إيران فاعلاً إقليميا ومؤثراً في مجمل قضايا الإقليم، وزعم قادتها أن لا شيء يمكن تقريره بخصوص دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء من دون الرجوع إلى طهران.
وبالمعنى الإستراتيجي، جرى تفسير الفعل الإيراني في المنطقة ب "صناعة الفراغ وملئه"، فبعد أن أوجدت مجالاً فوضويا في غالبية الدول التي وقعت تحت تأثيراتها، من خلال تحطيم ركائز وطنيتها، وتدمير أنسجتها الاجتماعية، صنعت بدائل للجيوش تمثلت بالمليشيات، وقسّمت المجتمعات عقائدياً ومذهبياً، ثم صدّرت رجالاتها، قاسم سليماني وأضرابه لإدارة هذا المجال الفوضوي، وحرّكت دبلوماسيتها للتفاوض على جملة أوراق الدول التي تساقطت في خريف النظام الدولي المعاصر.
مؤكّدٌ أن إنشغال إيران بداخلها وبصراعاتها الداخلية المحتملة، ورفع يدها الثقيلة عن المنطقة، سيولد فراغا كبيرا. والسؤال البديهي الذي يشغل كثيرين اليوم، كيف سيكون شكل المعادلات في المنطقة في حال حصول هذا التطور، وهو ليس افتراضياً بالمطلق، بل يقع في الدائرة القريبة لتداعيات الأحداث الإيرانية، هل ستتغير قواعد اللعبة كليا لصالح الأطراف التي تضرّرت من الوجود الإيراني، أم أن وكلاء إيران أصبحوا من القوة، بحيث لم يعودوا في حاجة لإشراف مباشر منها، أم أن خصومها وصلوا إلى مرحلة من الضعف لم تعد لديهم القدرة على إدارة مسارح المناطق التي تنسحب منها إيران؟
لا أحد في المنطقة لديه الاستعداد لملء الفراغ ، فأدوات ملء الفراغ هي ذاتها أدوات مواجهة المشروع الإيراني، والتي لم يجر تأسيسها وتنظيمها، بل كان هناك حركة تفكيك واضحة لهياكل وبنىً كان ممكنا أن تكون أدوات فاعلة في مواجهة المشروع الإيراني؟ هل تتوزع روسيا وأميركا حصة إيران الإقليمية؟ لا يبدو هذا الاحتمال ممكنا، فالتوجه الروسي الأميركي "الاستعماري" المحدّث يقوم على أساس انتخاب ديمغرافيا وجغرافيا محدّدة للاستثمار فيها، ومنع قيام أيٍّ من أشكال النظام والدولة في جوارهما، إما بهدف تظهير نجاح تجاربهما في مناطق سيطرتهما، أو اعتبار ذلك شرطا لازما لنجاح تلك التجارب في الأصل.
هل تفتح تداعيات الحدث الإيراني على متغيراتٍ جديدة غير محسوبة، من نوع حصول تغييرات في البيئة المؤيدة لإيران، من خلال ظهور أصوات داخلية أو بروز تيارات تنتهز فرصة ضعف اليد الإيرانية؟
تتناقض الأرقام والإحصائيات حول عدد السوريين في ألمانيا، والسبب الأساسي في التناقض هو فارق بين اللاجئين الجدد واللاجئين القدامى. وإذا كان المقصود باللاجئين الجدد الذين وصلوا إلى ألمانيا في السنوات الخمس الأخيرة، فإن أعدادهم تزيد قليلاً على 650 ألف نسمة، حسب المصادر الألمانية.
ويتوزع اللاجئون السوريون على مختلف المدن والقرى الألمانية، وإن يكن بنسب مختلفة، وهو توزع متعمد من جانب الحكومة الألمانية، هدفه كما يقول مسؤول ألماني تسريع عملية اندماج السوريين، ومنع قيام كانتونات لهم، تؤخر اندماجهم السريع عبر تعلم اللغة الألمانية وإجادتها، مما يساعدهم في الحصول على عمل، يعطيهم فرصاً أفضل للانخراط في البنية العامة للمجتمع الألماني.
ويتقاطع الهدف الألماني المعلن مع رغبات أغلبية اللاجئين في بدء حياة مستقرة، تعزز مشاركتهم في الحياة العامة، وتوفر لهم ولأولادهم مستقبلا أفضل بعد كل ما أصابهم من كوارث في السنوات الماضية على أيدي نظام الأسد وحلفائه من روس وإيرانيين، أدت بالنتيجة إلى تهجيرهم ولجوئهم إلى ألمانيا.
ورغم المشترك في هدفي الألمان واللاجئين السوريين، فإن مشكلات كثيرة تحيط بالطرفين، وتخلق صعوبات وعقبات في طريق الوصول إلى تحقيق المشترك في أهدافهما.
ولعل الأبرز في الصعوبات والعقبات على الجانب الألماني، الارتباك الواضح في السياسة الألمانية في موضوع اللاجئين السوريين خاصة، الذي يجد تعبيراته المباشرة في أمرين: الأول، التغييرات المتواصلة في القوانين الألمانية المتعلقة باللجوء والهجرة، التي تغيرت وتبدلت مراراً في السنوات الثلاث الأخيرة، والأمر الثاني الخلافات بين الجماعات السياسية وداخلها حول قضايا اللاجئين ومستقبلهم في ألمانيا، وهي خلافات أثرت على نتائج الانتخابات العامة الأخيرة، وعلى تركيب وعلاقات التحالف الحاكم، وجعلت الأطراف الأكثر تفهماً وتأييداً لسياسة إيجابية، أضعف مما كانت عليه، وإن لم تقصها عن السلطة، كما أدت تلك الصعوبات والعقبات إلى خلق تناقضات واقعية في حياة اللاجئين ومحتويات ومستويات التعامل معهم ومع مشكلاتهم في ألمانيا.
أما الأبرز في الصعوبات والعقبات لدى السوريين، فكانت أكثر لأنهم الطرف الأضعف في الثنائية الألمانية - السورية، وتظهر الصعوبات والعقبات في معطيات كثيرة لعل الأهم فيها حاجز الاندماج، وما يتصل بموضوع تعلم اللغة الألمانية، وهي لغة غير مألوفة من جانب السوريين على نحو ما هو حال الإنجليزية والفرنسية، الأمر الذي يشكل عقبة أمام متوسطي الأعمار وكبار السن، تمنع انخراطهم في سوق العمل، سواء بخبراتهم السابقة أو في موضوع اكتسابهم خبرات جديدة، لا يمكن الحصول عليها إلا عبر إجادة الألمانية حتى بالنسبة للأعمال البسيطة والهامشية.
وبين المعطيات الخاصة بالعقبات والصعوبات، ما يخص الإقامة وتأخير إجراءات الحصول عليها وعمليات لم الشمل العائلية، وقد خلق الارتباك الألماني في منح الإقامات مشكلات معقدة، خاصة إذا تم منح الإقامة لمدة عام، التي لا يجوز للحاصل عليها القيام بلم شمل أفراد أسرته، التي يكفل القانون الألماني حقهم في لم الشمل، كما أن في منح إقامات الأسر مشكلات بينها، أفراد منها يمنحون إقامات لثلاث سنوات، وآخرون لا يمنحون إلا عاماً واحداً، والبعض لا يعطى إقامة أساساً، مما يخلق أجواء من عدم الاستقرار، ويجعل من الصعوبة بمكان السير في عملية الاندماج، كما ينبغي أن تسير. كما أن شكوكاً أخذت تتنامى في صفوف السوريين ممن حصلوا على إقامة إنسانية حول مستقبل البقاء في ألمانيا في حال تحسن الأحوال الأمنية في سوريا.
وكما هو واضح في الارتباكات المشتركة، فإن نتائجها تترك آثاراً سلبية على الطرفين الألماني والسوري، حيث بدأ الأول في سنوات 2015 - 2016 شديد الحماس لاستقبال اللاجئين السوريين واستيعابهم، مضحياً بدفع أكثر من ستة عشر مليار يورو على اللاجئين (وأكثرهم من السوريين) فيما كان السورين يفضلون اللجوء في ألمانيا على غيرها من البلدان الأوروبية، قبل أن تتبدل نظرة كثيرين منهم، بل وميل بعضهم إلى مغادرة ألمانيا إلى بلد آخر.
الأهم مما سبق، أن عملية الارتباك القائمة لدى الألمان والسوريين مستمرة، بل إنها مرشحة للتصاعد مع صعود الاستياء من وجود اللاجئين، بدل أن تسير نحو معالجة جذرية، تؤدي إلى تحسين أوضاع اللاجئين وتسهيل عملية اندماجهم، وخلق ظروف أفضل لمستقبلهم في ألمانيا.
يمكننا القول إن عملية عفرين على وشك الانتقال إلى مرحلة جديدة مع تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حولها أمس.
وفي الواقع، بدأت القوات التركية تنفيذ عملية عفرين منذ مدة طويلة. ففي المرحلة الأولى للعملية دخلت إلى إدلب وشكلت نقاط مراقبة في جنوب عفرين. وهذا كان نقطة تقاطع عمليتي إدلب وعفرين.
فالقوات التركية كانت تهدف إلى السيطرة على جنوب عفرين عبر مراقبة وقف التصعيد في إدلب من جهة، ونشر وحداتها في نقاط استراتيجية من جهة أخرى.
ولو لم تسيطر القوات التركية على جنوب عفرين لتعرضت وحداتها في إدلب إلى هجمات من جانب حزب العمال الكردستاني.
عفرين حاليًّا واقعة في حصار بين الأراضي التركية في الشمال والوجود العسكري التركي في الجنوب. وتعيش عفرين حاليًّا من خلال علاقتها مع نظام الأسد، في حين تمنحها روسيا ضمانة أمنية بوجودها العسكري الصغير فيها.
المرحلة الأولى من العملية جرت على أساس حصار استراتيجي، وهذا نجح بنسبة كبيرة. ومن المرتقب أن تبدأ المرحلة الثانية الآن وترمي إلى استهداف وجود حزب العمال الكردستاني في عفرين.
هناك سيناريوهان رئيسيان بخصوص مستقبل عفرين.
الأول، تنفيذ الجيش التركي قصف مدفعي وغارات جوية على المناطق القريبة من الحدود، ثم دخول عفرين. هذا حل جذري وهو أكثر الخيارات فعالية في مكافحة حزب العمال، غير أنه يواجه تحديات جدية.
فعفرين تختلف من الناحية الطبوغرافية عن منطقة درع الفرات، وهي جبلية أكثر. ويمكن لهضبة عفرين توفير تفوق استراتيجي من جهة إدلب، غير أنها تشكل في الوقت نفسه عائقًا كبيرًا أمام التحركات العسكرية.
كما أن الموقف الروسي ما يزال غامضًا. فإلى أي مدى يصر الجيش الروسي على لعب دور درع يحمي حزب العمال، هذا متعلق بالمباحثات الثنائية بين أنقرة وموسكو.
السيناريو الثاني، هو قصف مدفعي مستمر ومكثف على عفرين المحاصرة من ثلاث جهات وإضعافها. ويمكن للمقاتلات التركية تنفيذ ضربات جوية محدودة دون اجتياز الحدود. هذا حل لاستنزاف قوى حزب العمال بعفرين.
وعقب الاستنزاف، تبدأ عملية عسكرية بواسطة قوات درع الفرات من غرب مارع، وبذلك يتم ربط إدلب بحلب. وهذا الخيار أيضًا قد يتطلب إجراء مباحثات مع موسكو وطهران أيضًا لأنه يمر عبر قريتي نبل والزهراء الخاضعتين لسيطرة إيران.
وعندما يدرك حزب العمال أن الهزيمة محققة سيطرق باب النظام أولًا. وكما رأينا في حالات مشابهة سابقة، قد تُطرح مسألة تسليم عفرين إلى النظام السوري.
لا يملك حزب العمال القدرة مقاومة القوات التركية بإمكانياته وحدها، وما دامت تركيا تطبق استراتيجيتها على الأرض فباستطاعتها تحويل عفرين إلى جحيم بالنسبة للحزب.
على الرغم من أن تركيا تعطي الأولوية للحوار في سوريا إلا أنها لن تحجم عن الإقدام على خطوات مستقلة من أجل حماية أمنها القومي، وعملية درع الفرات خير مثال على ذلك.
أعلنت الولايات المتحدة أمس إنها تعمل مع فصائل «حليفة» لها لتشكيل «قوة حدودية» جديدة قوامها 30 ألف جندي ستكون مهمتها الانتشار على الحدود السورية مع تركيا شمالا والعراق باتجاه الجنوب الشرقي وعلى طول وادي نهر الفرات.
الفصائل الحليفة المقصودة طبعا هي «قوات سوريا الديمقراطية» أو «وحدات الحماية الكردية» وكلاهما من الواجهات ذات الأسماء المتعددة لحزب العمال الكردستاني في تركيا، (وهو ما يعني أنه حزب يعبّر عن سياق سياسي لأكراد تركيا وليس أكراد سوريا) وهذا ما يفسّر الغضب التركي السريع من الإعلان واستدعاء أنقرة للسفير الأمريكي لديها.
توازى الإعلان مع تصريحات للرئيس التركي رجب طيب إردوغان تهدد بمهاجمة مدينة عفرين، وهي مركز أساسي لسيطرة «حزب العمال الكردستاني» لكنه قريب جدا من تركيا (حوالى 70 كم) وبعيد عن حدود نهر الفرات، وهي تصريحات سبق أن كررها المسؤولون الأتراك على مدى سنوات، ولكن رافقها هذه المرة توسيع القصف المدفعي منذ السبت الماضي على مواقع حزب العمال في المدينة وإرسال تعزيزات عسكرية للحدود والحديث عن قرب ظهور تشكيل من 5 آلاف مسلّح مع تحركات تشير إلى هجوم برّي، وكلّ هذه إشارات تدلّ على تصاعد غير مسبوق لغضب الأتراك تجاه الأمريكيين.
لا يخفي «حزب العمال» أبداً خططه لتشكيل دولة «اتحادية» كردية داخل سوريا (مع إمكان توسّعها إلى مناطق نفوذه في العراق وتركيا)، والواضح أن هذا يجد دعماً أمريكياً متزايداً لأن الحزب كان مطواعاً في تنفيذ الأهداف العسكرية والسياسية الأمريكية في سوريا والعراق، ولكونه (على عكس التجربة الأمريكية مع الفصائل العسكرية السورية المعارضة) معصوما عن الهوى «الإسلامي» الذي «يزعج» الإدارات الأمنية والسياسية الأمريكية، وعلى عكس تلك الفصائل، كان قادراً على التنسيق مع النظام السوري و»توحيد القوى» معه ضد «الإسلاميين» بكافة أشكالهم حين يحتاج الأمر.
يمكن ربط النقلة الأمريكية الحالية بتجربة واشنطن التاريخية الطويلة مع الأكراد، لكن إذا وضعنا في حسباننا تخلّي الولايات المتحدة الأمريكية عن استفتاء الاستقلال الأخير في كردستان العراق يمكننا اعتبار ما يحصل في سوريا حاليّاً تطوّرا غير مسبوق.
سحب التجربة الكردية العراقية على تركيا يكشف بدوره تغيّرات مهمة في الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة، ففي حين تدافع واشنطن عن وحدة الدولة العراقية وترفع بطاقة حمراء لاستفتاء استقلال الأكراد هناك، فإنها، في المقابل تحوّل حزب العمال الكردستاني إلى جيش وتحدد له حدود دولة في سوريا (مع قابلية للتمدد)، وهو ينتج بالضرورة أشباح المشابهة بين حال عراق صدام تسعينيات القرن الماضي وتركيا إردوغان الحالية.
يمكننا اعتبار تفكك سوريا وتمدد تنظيم «الدولة الإسلامية» من العراق إليها مدخلاً للحالة الراهنة، ولكنّ هذا التفكك وصعود «الجهادية» المتطرفة ما كانا ليحصلا لولا الاجتياح الأمريكي الشهير للعراق، وتجاهل أمريكا للوحشيّة الرهيبة التي قوبلت بها الثورة السلمية في سوريا، وبالتالي فإن كل ما جرى يحمل بصمات أمريكا ويجعلها مسؤولة كبرى عما حصل.
ولكن ماذا لو أن كل ما حصل هو نفسه «الاستراتيجية الأمريكية»؟
وماذا لو أن استهداف تركيا كان ضمن هذه الاستراتيجية وليس نتيجة فرعيّة لتفكك سوريا وصعود «الجهادية» المتطرفة؟
يشعر وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل، شأنه في ذلك شأن غير دولة في أوروبا الغربية، بالقلق مجدداً من أن تعصف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالاتفاق النووي الإيراني.
ولا يتعلق الأمر فقط بالتأكيدات الأوروبية على الامتثال الإيراني لبنود الاتفاق النووي المبرم في عام 2015. بل إن السيد غابرييل يعتقد أن الخروج من ذلك الاتفاق من شأنه أن يبعث برسالة خاطئة إلى كوريا الشمالية. ولقد صرح وزير الخارجية الألماني إلى الصحافيين في اجتماع عقد مع نظيره الإيراني والنظراء الأوروبيين مؤخراً في بروكسل: قائلا إنه «من الضروري للغاية البعث بإشارة مفادها إمكانية اتباع المنهج الدبلوماسي للحيلولة دون تطوير الأسلحة النووية، في الوقت الذي تناقش فيه أجزاء أخرى من العالم كيفية الحصول على الأسلحة النووية واستخدامها».
وكانت استراتيجية الرئيس ترمب تتمحور حول التهديد بإعادة فرض عقوبات على إيران حتى يتسنى دفع الجانب الأوروبي على التفاوض بشأن شروط أفضل مع الجانب الإيراني. وكما ذكر موقع «واشنطن فري بيكون» الإخباري الأميركي المحافظ خلال الأسبوع الجالي، فإن هناك حالة من الجهود المحمومة داخل الكونغرس وداخل الإدارة الأميركية نفسها لمنح هذه الاستراتيجية المزيد من الوقت.
وقد يبدو أن ترمب وغابرييل على جانبين متناقضين من القضية. ولكن كليهما عالق في دورة سياسية معتادة عندما يتعلق الأمر بالدول النووية المارقة: وهي دورة التهديد، والمعاقبة، ثم التفاوض. وكما ظهر في الاتفاق النووي، من المرجح دفع الدول العدائية، مثل النظام الإيراني، على وقف البرامج النووية مؤقتاً في مقابل رفع العقوبات ووعود الاستثمارات. ومع ذلك فإن جذور المشكلة في إيران ترجع إلى النظام الحاكم نفسه. ونذكر أنه أثناء تفاوض كل من أوروبا، وأميركا، والصين، وروسيا مع الدبلوماسيين الإيرانيين، كان قادة الإرهاب لدى النظام الإيراني يدعمون الديكتاتور السوري بشار الأسد وحملة القتل الجماعي التي يشنها ضد شعبه.
وهناك حاجة إلى منهج جديد، ولا سيما في ضوء الاحتجاجات التي هزت النظام الإيراني الحاكم خلال الأسبوعين الماضيين. فلن يمكن فصل الديكتاتورية الإيرانية عن مطامح التوسع والانتشار. وفي واقع الأمر، يعتبر البرنامج النووي بمثابة بوليصة التأمين للنظام الإيراني. ولنتصور لو لم يكن لدى إيران البطاقة النووية في عام 2009. عندما خرج مئات الآلاف من المتظاهرين الإيرانيين إلى الشوارع للاحتجاج على الانتخابات الرئاسية المسروقة؟ كانت الضغوط الغربية سوف تركز بكل أحقية، وبمرور الوقت، على إطلاق قادة الحركة الخضراء الذين لا يزالون إلى يومنا هذا قيد الإقامة الجبرية أو داخل السجون. بدلا من ذلك، تم إسقاط هذه القضية تماماً من قبل الجانبين الأوروبي والأميركي، وانتهى بنا الحال مع الاتفاق النووي.
لقد حان الوقت للسيد ترمب لأن يجعل الشعب الإيراني محور سياسته إزاء إيران. وهذا الأمر يستلزم بضع خطوات. أولا: لا ينبغي على ترمب إعادة فرض العقوبات النووية. فهذه العقوبات كانت مصممة لفرض أقصى قدر ممكن من الضغوط على الاقتصاد الإيراني، لإجبار النظام الحاكم على التساهل بشأن برنامجه النووي. وبعيداً عن الافتقار إلى الخيارات الجيدة بشأن ما يجب القيام به إذا خرجت إيران عن طوق الاتفاق النووي، فهذا المنهج سوف يكون عقاباً على الشعب الإيراني وليس نظامه الحاكم في لحظة ينبغي فيها على الولايات المتحدة التحلي بروح التضامن مع حركة الحرية في البلاد.
يقول كل من دينيس روس المستشار الأسبق للرئيس أوباما، وريتشارد غولدبرغ السيناتور الجمهوري الأسبق، وكلاهما ساعد في صياغة حزمة العقوبات الأصلية المفروضة على إيران: في لحظات كهذه، من الممكن غض الطرف تماماً عما يجري في إيران. وكانت لدى رونالد ريغان المقدرة على الضغط على السوفيات بشأن معاملة المنشقين مع حملهم على الالتزام باتفاقيات الحد من التسلح الموقعة مع واشنطن.
وبدلا من ذلك، ينبغي على ترمب ممارسة الضغوط على الحلفاء الأوروبيين بهدف اعتماد سياسة موحدة لمعاقبة النظام الإيراني بسبب معاملة السجناء السياسيين والمتظاهرين. ويسمي المنشق السوفياتي الأسبق ناتان شارانسكي هذا المنهج بـ«الربط»، بسبب أنه يربط سوء معاملة الديكتاتور لمواطنيه بشرعية نظام حكمه على المسرح الدولي. وينبغي على ترمب الضغط على الحكومات الأوروبية للبدء في معاملة إيران مثل حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من قبل.
وهذا يعني إعادة النظر في أنواع العقوبات المفروضة على إيران. وينبغي للأهداف أن تكون أضيق نطاقاً من البنك المركزي الإيراني أو صادرات النفط الإيراني. وينبغي النظر إلى ذراع الدعاية الرسمية الإيرانية، والمعروفة باسم جهاز البث الإيراني الرسمي، أو إلى صندوق المرشد الأعلى السيادي المعروف باسم صندوق «سيتاد». إن أهدافاً مثل هذه تساعد في الفصل بين الديكتاتور ومعاونيه عن الشعب. وفي حالة صندوق «سيتاد» السيادي، فإنها خطوة تبعث برسالة غاية في الأهمية بسبب أن هذا الصندوق، والذي تقول وكالة رويترز الإخبارية إن قيمته تقدر بنحو 95 مليار دولار، مصنف بأصول تم الاستيلاء عليها في المحاكم من المواطنين الإيرانيين العاديين.
كما ينبغي لمنهج العقوبات أن يكون مختلفاً كذلك. يمكن للسيد ترمب سحب صفحة من ملف العقوبات المفروضة على القادة الروس – أي العقوبات المسماة على اسم محامي الضرائب المقتول سيرغي ماغنيتسكي – ويسمم بذلك أصول النظام الحاكم الإيراني.
وأقارب الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، لا ينبغي السماح لهم بحرية السفر والانتقال إلى أوروبا أو الولايات المتحدة. وأبناء كبار رجال النظام لا ينبغي أيضا السماح لهم بالدراسة في الولايات المتحدة الأميركية.
كما يمكن للرئيس ترمب توجيه حكومته إلى فعل المزيد، من وراء الكواليس، لزيادة التكرارية والمرونة في شبكة الإنترنت الإيرانية. وعلى عكس ما جرى في عام 2009. لا يمكن للنظام الإيراني وقف الاتصال بالإنترنت بكل بساطة، إذ يعتمد وزراء الدولة بصورة كبيرة على الإنترنت للقيام بذلك. مما يوفر الفرصة السانحة للولايات المتحدة لتيسير الأمر على المواطنين الإيرانيين للوصول إلى الإنترنت، على سبيل المثال، من خلال تعزيز إشارات الأبراج الخلوية بالقرب من الحدود الإيرانية أو العمل مع منصات الاتصالات الأخرى مثل شركة تليغرام للالتفاف حول الحظر الحكومي الإيراني الأخير ضد التطبيق الهاتفي.
كما يمكن للسيد ترمب أيضا إصدار التعليمات لحكومته بجمع المعلومات حول وحشية النظام الحاكم ضد الشعب. وتسنح هنا الفرصة أمام الحلفاء في أوروبا، والذين يملكون السفارات المختلفة داخل إيران، من أجل المساعدة في ذلك. وكما كتبت من قبل، ينبغي على الغرب جمع أسماء المواطنين الإيرانيين المعتقلين، والذين تعرضوا للإيذاء الجسدي، والمقتولين منهم خلال الاحتجاجات الأخيرة، ثم تقوم الجماعات الخارجية بنشر هذه الأسماء على الملأ.
إن تهديد الاقتصاد الإيراني على أمل إعادة التفاوض بشأن أحكام بند «غروب الشمس» (موعد نهاية الاتفاق بعد 10 سنوات من التوقيع عليه)، يفترض أن الملالي الذين يحكمون إيران سوف يستمرون في مناصبهم إلى الأبد. بدلا من ذلك، ينبغي على الرئيس ترمب العمل مع الشعب الإيراني، والذي يركز على «غروب الشمس» الأكثر أهمية: ألا وهو نهاية النظام الإيراني الحاكم.
يبدو أن مسار أستانة، الذي تشكل بين تركيا وروسيا وإيران بشأن سوريا، يتعرض لهزة عنيفة.
الهدف من المسار إنهاء الحرب الدامية المستمرة منذ 6 سنوات وإعداد أرضية للسلام. كانت أول خطوة أقدمت عليها "ترويكا أستانة" اتفاق لوقف إطلاق النار في المناطق الحساسة كإدلب، بين النظام وقوات المعارضة باستثناء المجموعات الجهادية كجبهة النصرة.
وفي هذا الإطار، نشرت البلدان الثلاثة "الضامنة" قوات عسكرية لها في مناطق محددة بإدلب، لكي تسهر على استمرار حالة "وقف التصعيد"..
أظهرت التطورات الأخيرة حدوث مشاكل في تحقيق هذه المخططات. وبسبب تعرض مناطق خفض التصعيد إلى انتهاكات شهد المسار للمرة الأولى مشاحنات واتهامات متبادلة بين تركيا وروسيا.
من بدأ؟
ظهر المؤشر الأول الواضح على الخلاف داخل ترويكا أستانة حين استدعت وزارة الخارجية التركية سفيري إيران وروسيا لتذكرهما بمسؤولية بلديهما في حماية وقف إطلاق النار، وتنبههما في هذا الخصوص.
أشارت تركيا إلى هجمات نظام الأسد على إدلب، ووجهت رسالة مفادها ضرورة إيقاف روسيا وإيران هذه الهجمات بوصفهما بلدين ضامنين في سوريا.
وبينما كان من المنتظر أن تقدم موسكو على خطوة في هذه المسألة، أصدرت بيانًا مختلفًا أعلنت فيه أن 13 طائرة بدون طيار انطلقت من المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في إدلب وهاجمت قاعدتين روسيتين، مشيرة إلى إسقاطها الطائرات.
هذه المرة ذكرت روسيا تركيا بمسؤوليتها كبلد ضامن للمنطقة التي يتمركز فيها الجيش السوري الحر المدعوم من جانب أنقرة..
كيف سينتهي التوتر؟
من الصعب تحديد علاقة السبب- النتيجة من الخارج في هذه الأحداث. لكن الحقيقة أن هذا الوضع خلق صدعًا لدى ترويكا أستانة وأثار شكوكًا وتوترًا بين "الحلفاء الجدد".
الحادث من هذه الناحية سيئ بالنسبة لتركيا. فالأسد يعزز موقفه العسكري بدعم من روسيا، وهو يريد تجيير هذا الحادث لصالحه.. وروسيا عندما ترد بالمثل لا تصغي لأحد، وتستخدم القوة المفرطة.. كما أن قوات المعارضة في المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا ليست على قلب رجل واحد..
يهدف الوجود العسكري التركي في إدلب إلى الضغط على عفرين الواقعة تحت سيطرة وحدات حماية الشعب، وحتى المشاركة في عملية عسكرية محتملة ضدها. غير أن الوجود العسكري الروسي في المنطقة يقيد حرية حركة أنقرة. ومن المعروف أن موسكو غير متحمسة لعملية عسكرية تركية ضد عفرين..
وعلى نفس المنوال، لم يتضح بعد موقف روسيا بشأن من سيشارك من أكراد سوريا في مؤتمر الحوار الموسع، المزمع إجراؤه في مدينة سوتشي أواخر الشهر الحالي.
وتتزايد تعقيدات المشهد في سوريا عند الأخذ في الاعتبار، علاوة على ما سبق ذكره، الأنباء حول إنشاء الولايات المتحدة جيشًا نظاميًّا من وحدات حماية الشعب، وإمكانية اعتراف فرنسا بالوجود الكردي في شمال سوريا..
لا يكفي أن تعلن انتصارك. يبقى ناقصاً ما لم يشهر الآخر هزيمته. وأحياناً تكفي نكزة صغيرة لتذكير ملاكم كبير أن المباراة لم تنتهِ بالضربة القاضية، وأن الخصم المترنح لا يزال قادراً على إفساد العرس وإلحاق جرح بالصورة.
أغلب الظن أن فلاديمير بوتين شعر بالمرارة حين تلقى التقارير. موجة الـ«درون» التي استهدفت معاقل قواته في حميميم وطرطوس كانت مزعجة ومحرجة. حفنة طائرات بلا طيار، وبتكنولوجيا عادية، سجّلت اختراقاً هو أشبه بدفرسوار. صحيح أن تحرشاً من هذا النوع لا يغير قواعد اللعبة، لكن الصحيح أيضاً هو أنه كشف أن القلعة قابلة للاختراق، وأنه يمكن العثور على ثغرات في منظومة الهيبة الروسية وإجراءاتها العسكرية. حادثة محدودة تكشف هشاشة إجراءات دولة عظمى. والرسالة واضحة، ومفادها أن الحرب لم تختتم بعد.
برّأت روسيا تركيا من الحادث. ويصعب الاعتقاد أن تركيا الحالية يمكن أن ترتكب مغامرة من هذا النوع. دفعت غالياً في السابق ثمن تجرؤ أحد طياريها على قاذفة روسية. دفعت وبالغت وغيّرت سياستها وخياراتها. حاولت موسكو الإيحاء بوجود رعاية أميركية للعملية، لكن واشنطن سارعت إلى النفي القاطع. ثمة من يرجح أن مجموعة معارضة أرادت تذكير اللاعب الروسي بأن الحرب لا تزال مفتوحة، وتتسع لجولات كثيرة، على رغم تبدل موازين القوى بفعل الانخراط الروسي.
أسوأ ما في الحادث أنه جاء بعد أقل من شهر من إعلان بوتين انتصاره في سوريا. اعتبر أن المهمة أنجزت، وأمر ببدء انسحاب جزء من القوات. والحقيقة أن المشهد الإقليمي والدولي بدا وردياً للقيصر؛ لم يعد هناك مشروع مضاد في سوريا. جنحت معظم القوى الإقليمية والدولية إلى التعامل مع الحل الروسي كأمر واقع. اعتبرت جهات كثيرة أن الحل الروسي هو الطريق الواقعي الوحيد لتقليم أظافر الدور الإيراني هناك. الولايات المتحدة نفسها بدت مستعدة لتقبل النجاح الروسي في سوريا إذا كان من شأنه تقليص سوريا الإيرانية لمصلحة سوريا الروسية.
لم يكن بوتين يشعر بالقلق من الانتخابات الرئاسية المقررة في مارس (آذار) المقبل. وهي في الحقيقة نوع من الاستفتاء في غياب أي منافس جدي. لكنه قد تعمد إعلان الانتصار لتعزيز صورة الزعيم البارع. لم تتحول سوريا بالنسبة إلى بلاده إلى فيتنام أميركية، ولا إلى أفغانستان سوفياتية. بأقل التكاليف، نجح في تنظيم انقلاب واسع أعاد إلى روسيا موقعها وهيبتها. كل ذلك في وقت تعيش فيه أميركا على وقع حروب «تويتر»، وتجاهد ميركل لتشكيل حكومة، وتتعثر تيريزا ماي بإجراءات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي.
أحياناً، تأتيك المفاجأة من حيث لا تتوقع؛ حفنة طائرات صغيرة أعادت طرح السؤال عن الصعوبات التي تعترض الانتصار الروسي الفعلي في سوريا. والانتصار الفعلي هو أن تحمي انتصاراتك الميدانية بحل سياسي دائم يسمح لك بالقول جدياً إن الحرب انتهت.
والواقع يشير إلى أن الحل الروسي ليس نزهة على الإطلاق؛ الحسابات داخل مثلث آستانة، الذي يضم روسيا وإيران وتركيا، ليست متطابقة على الإطلاق. فإيران تعتبر نفسها شريكة أساسية في الانتصار الذي تحقق في سوريا، وتعتقد أنه ما كان باستطاعة سلاح الجو الروسي أن يقلب مسار الحرب لولا الدور الذي اضطلعت به على الأرض الميليشيات الموالية لها. وحسابات تركيا مختلفة هي الأخرى؛ الهم الأول هو توجيه ضربة قاصمة إلى «وحدات حماية الشعب» الكردية. وها هو رجب طيب إردوغان يعطي «الوحدات» في عفرين مهلة أسبوع للاستسلام أو مواجهة السحق على يد قواته والقوات التابعة لها. أكثر من ذلك طالبت تركيا روسيا وإيران بتنفيذ التزاماتهما السابقة حيال إخلال قوات النظام بشروط مناطق «خفض التصعيد»، خصوصاً في إدلب. لا تقبل إيران بأقل من عودة نظام الأسد إلى ما كان عليه، ولا مصلحة لتركيا على الإطلاق في مثل هذه العودة.
لروسيا مصلحة فعلية في الظهور في صورة صانع الحل في سوريا. لا تريد الإقامة في بلد يشهد حرباً بلا نهاية، لكنها تجد صعوبة حتى في توفير الحد الأدنى الضروري لحل يكاد يكون تجميلياً. فالنظام الذي لم يظهر ميلاً إلى تقديم تنازلات يوم كان في وضع شديد الصعوبة لن يظهر مثل هذا الميل بعدما تخطى الأخطار التي كانت تهدد باقتلاعه، ثم إن النظام يستطيع الاتكاء أحياناً على التشدد الإيراني، أو التذرع به. وليس سراً أن أي حل يعيد توزيع السلطات - ولو نسبياً - بين المكونات، لن يكون على المدى المتوسط والبعيد في مصلحة إيران.
فعلت موسكو كل ما في استطاعتها لتسريع فرض حل في سوريا؛ بذلت جهوداً غير عادية لاستنزاف روح بيان جنيف ونصوصه. بذلت جهوداً غير عادية أيضاً لفرض تغييرات داخل الجسم المعارض المعني بالمفاوضات. لكن الأيام الأخيرة كشفت حجم الصعوبات التي تعترض طريق موسكو؛ الأمم المتحدة لا تخفي معارضتها محاولة تكريس لغة سوتشي، وتحويل جنيف مجرد ثلاجة أو علبة بريد مهمتها انتظار الرسائل الوافدة من سوتشي. واشنطن نفسها تعود تدريجياً إلى التشدد، ولو من بوابة رفض أي حلول تكرس سوريا مجرد حلقة في «الهلال الإيراني». الأوروبيون يظهرون استعداداً أكبر للنظر في سياسات زعزعة الاستقرار التي تنتهجها إيران، على رغم تمسكهم بالاتفاق النووي معها. إسرائيل تعبر أكثر من ذي قبل عن تبرمها بعجز روسيا عن إبعاد الميليشيات الإيرانية عن المناطق الحدودية، وتصعد غاراتها في العمق السوري.
واضح أن روسيا تجد صعوبة متزايدة في التوفيق بين مطالب اللاعبين الإقليميين والدوليين على الساحة السورية. تراجع الرهان على جدية الحل الروسي قد يفتح الباب ليقظة خيارات أخرى تساهم في تمديد الحرب التي كشف انحسار «داعش» أنها أكثر تعقيداً مما اعتقد كثيرون. الانتصار النهائي صعب في سوريا. وفي غياب الحل السياسي، يبقى كل انتصار عسكري مهدداً أو قابلاً للاستنزاف.
في ظروف مشابهة لما حصل في حلب، تحيك روسيا تفاصيل معركتها في إدلب وريف دمشق، حيث الترويج لحرب ضد إرهاب النصرة من قبل النظام وحلفائه، وسط صمت من «أصدقاء الشعب السوري» وفي مقدمهم تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وفي استعادة لكامل مشهد الحرب في حلب (2016) تعيد المعارضة السورية أخطاءها، بالمقدار ذاته الذي يخدم التهويل الإعلامي الروسي، بل ويساند نظريته في أن جملة من تقاتلهم وتلقي بحممها عليهم، هم من تنظيم النصرة، التي أعلنت عن تغيير اسمها سابقاً إلى هيئة تحرير الشام، وكانت المعارضة رحبت بهذا الإعلان، واعتبرته خطوة في الاتجاه الصحيح، بينما رفضه المجتمع الدولي واعتبره نوعاً من المخاتلة السياسية ليس أكثر.
وبينما تحصد نيران الدول الضامنة لاتفاقيات خفض التصعيد (إيران وروسيا) أرواح عائلات سورية كاملة، تمكث الدولة الضامنة الثالثة (تركيا) في حال ترقب، ويترك العنان لبعض المعارضة التي تسير ضمن سياق سياستها لخلط الأوراق من جديد بين فصائل المعارضة و «هيئة تحرير الشام»، في تكرار واضح لموقفها من الحرب في حلب وعدم رغبتها في التمييز بين فصائل معارضة سورية، وبين أجندة «هيئة تحرير الشام» التي تمارس الدور ذاته، في تسليم المدن والقرى للنظام وروسيا عبر معارك غير متكافئة، ولا تقتل إلا المدنيين السوريين تحت أسقف بيوتهم وملاجئهم وفي شوارع أسواقهم.
وضمن حملة دفاعية موجهة من المعارضة وسواء هي عن قصد، أو غير قصد، تمكن ملاحظة تماهي الخطاب الإعلامي مع خطاب النصرة في هذه المعركة كحال ما حصل سابقاً في حلب، والتي تبدو نتائجها شبه محسومة لتكون نسخة طبق الأصل عن نتائج المعركة التي خاضتها النصرة في حلب، وتم في نهايتها تسليم المدينة للنظام، وتكبد مئات الضحايا، وخروج عشرات الآلاف من المواطنين السوريين كلاجئين ونازحين، ما يجعل القول إنه ليس مبرراً اليوم اعتبار أن «هيئة تحرير الشام» هي جزء من حراك مسلح ضد النظام، على رغم وجود معارك بينية بينهما، إذ إن هذا الأمر يفيد في توثيق ما يرغبه النظام من وسم فصائل المعارضة جميعها بالإرهاب.
ولعل أوضح نتائج معركة حلب الموجعة التي خسرت فيها المعارضة أحد أهم مواقعها، ليس فقط الميدانية، وإنما السياسية على طاولة التفاوض في جنيف، حيث استجرت المعارضة رغماً عنها، إلى مسار تفاوضي جديد، شكلت ملامحه روسيا المنتصرة على شعب أعزل في حلب، بعد أن مارست «النصرة» دورها الموكل لها في تحريك المعركة، ثم أخذت دور المتفرج على حرب ضروس طاولت البشر والحجر في حلب، وعقدت روسيا من خلال جولات ثمانٍ حتى الآن في آستانة العاصمة الكازاخستانية عدداً من اتفاقيات خفض التصعيد، بضمانة مشتركة بين روسيا وإيران وتركيا، وكان منها اتفاقية خفض التصعيد في إدلب التي تشتعل اليوم بنيران الطيران الروسي وقذائف النظام وإيران، وبينما تلجأ تركيا إلى الصمت الذي يرقى إلى مستوى الموافقة على مجمل العملية التي قد تكون تهيئ لتنفيذ اتفاقية خفض التصعيد، ولكن على الطريقة الروسية بعد عجز تركيا اقناع «النصرة» بتدوير قواتها واندماجها مع الفصائل الإسلامية العاملة في إدلب.
ووفقاً لما تم تمكن ملاحظة: أولاً، أن النظام خلال معركته الآن في إدلب تجاوز الحدود المرسومة له وفق اتفاقية خفض التصعيد التي تمنح تركيا كامل المساحة شرق سكة القطار، ما يعني توقف النظام عند غرب السكة، وهو ما تجاوزته قوات النظام بعبورها السكة ومتابعة تقدمها خلافاً للاتفاقية، وتنفيذاً لسياسته المعتادة في كسب ما يستطيعه في اللحظة المتاحة، ما يضع تركيا أمام معركة سياسية جديدة مع روسيا هدفها إعادة تموضع النظام إلى حدود اتفاق آستانة السابق، وهذا يعطي روسيا ورقة ضغط اضافية للتمهيد لعقد اتفاق جديد مع تركيا وفق الواقع الراهن الذي يقتضيه «النصر الروسي المفترض» في إدلب، والذي يوازي النصر السابق لها في حلب.
ثانياً، وصول النظام إلى مطار أبو ظهور (يبعد نحو 12 كيلومتراً)، وإقامة قاعدة جوية له من جديد، لن يتم إلا بتسهيل من جبهة النصرة، لاستعادة كامل منطقة إدلب لاحقاً، وهو ما عبّر عنه النظام بأن اتفاقيات خفض التصعيد مرحلة موقتة، سيعمل بعدها على استعادتها كاملة عسكرياً وسياسياً، وهذا فعلياً مخطط النظام الذي يتمدد في مناطق خفض التصعيد تباعاً، ويحاول الاستيلاء على المناطق تارة باتفاقيات مقابل الغذاء، وأخرى بالقصف الشديد الذي تقف المعارضة عاجزة عن رده في أكثر من مكان، بسبب تنفيذها الحرفي لاتفاقياتها مع الجانب الروسي، أو بسبب عجزها عن مواجهة طيران النظام وحلفائه.
ثالثاً، خيارات الجانب التركي تبدو شبه معدومة في حال استمر النظام بتقدمه شرق سكة القطار، ما يعني أنها ستناور فقط بما يتعلق بحربها ضد الأكراد المتهمين بالارتباط بحزب العمال الكردستاني المحظور تركياً، لمنع توحيد مناطقها عبر الجيب التركي، الذي يمتد بين عفرين ومنبج، وهو ما يعكر صفو إقامة أي كيان كردي وامتداده في الشمال وصولاً إلى الساحل، وهذا أيضاً يمنح روسيا القدرة على المناورة مع تركيا، في شأن قبولها المشاركة في مؤتمر سوتشي المزمع عقده نهاية هذا الشهر، تحت مسمى الحوار الوطني بين المكونات السورية وفق إعلان النظام، و «الشعوب السورية» وفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يضع المعارضة السورية بين خيارين: المشاركة الطوعية استمراراً «لإنجازه» في آستانة، أو المشاركة تحت ضغط «الخسارة» في إدلب، والقصف الوحشي في ريف دمشق، وما بينهما المصالح التركية التي ستكون عامل ضغط أكبر على المعارضة التي لا تزال تتحدث بلغة غير واضحة عن موقفها من المشاركة في مؤتمر سوتشي.
إلا أن السر في هذه المعادلات التي قد تبدو غير قابلة للحل، ما لم يتوافر العامل الأهم فيها، هو الموقف الأميركي الذي يتراوح بين الصمت الرافض للتسويات الروسية الساعية لإعادة تسويق النظام، وفق مشهدية دستورية وانتخابية تحقق معطيات نجاحها من خلال مؤتمر سوتشي، وبين الفعل الأميركي المتردد في دعم المعارضة بشقيها السياسي والعسكري، بشكل يجعلها قادرة على امتلاك ما يقوي موقفها من أدوات تفاوضية، وفي هذا السياق لا يمكن اغفال ما جرى في قاعدة حميميم وطرطوس من قصف عبر طيران مسير وفق الإعلان الروسي، والذي يشكل رسالة بأن المعركة النهائية لاتزال بعيدة، وأن قلب موازين القوى يحتاج إلى أمرين: دعم المعارضة بالسلاح، وهو ما أعلنت عنه الإدارة الأميركية (رصد 500 مليون دولار للمساعدات العسكرية)، وغض النظر عن تحركات الفصائل المسلحة، وكلاهما لايزال قيد الرغبة الأميركية التي لا ترى ضرورة لانقاذ المتصارعين الثلاثة وضمنهم الأطراف السورية على جانبي الجبهتين من مستنقع الحرب السورية.
وبالمحصلة فإن مقدمات معركة حلب وأيضاً ريف دمشق تنبئ أن مسارات روسيا التفاوضية في آستانة وسوتشي تطبخ على نيران معاركها، وجثامين ضحاياها، وأن المشاركة فيها ليست قراراً سورياً تتخذه المعارضة، أو النظام، بعيداً من أجندات ومصالح الدول الضامنة لهما، ولكن كل ذلك مرهون بما قالته أميركا لوفد المعارضة خلال زيارته الأخيرة، ولما ستقرره موسكو حول استمرار النظام في تحديه لتركيا، الشريك اللازم والضروري لروسيا في إنجاح مساره السياسي الجديد في سوتشي.