المشهد في سوريا يتغير بسرعة قياسية. الخطوات الأميركية دلَّت على ملامح سياسة أميركية جديدة، أكثر من اهتمام آنيّ، أقل من رؤيا شاملة. إنه مشروع إدارة ترمب في التنفيذ. المسرح الحقيقي سوريا، والهدف الأبرز تحجيم نفوذ النظام الإيراني، والحل السياسي في سوريا ممرّ إجباري لتحقيق الغاية التي حددتها واشنطن.
من البداية، قالت الإدارة الأميركية إن طهران هي المسؤولة عن زعزعة استقرار بلدان المنطقة، وأكدت أن سنوات التفاوض على الاتفاق النووي معطوفة على شكل وتوقيت الانسحاب الأميركي من العراق، تركت الباب مفتوحاً أمام طهران لملء الفراغ، والتوسُّع، وممارسة كل أشكال التدخل والقمع لترسيخ سيطرتها، من حروب مباشرة أو بالوكالة، عبر ميليشيات متطرِّفة استُقدِمَت من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، تركت خلفها الخراب العميم والاقتلاع المبرمَج والتهجير الواسع إلى عمليات تغيير ديموغرافي غير مسبوقة.
قبل الاتفاق الأميركي - الروسي بشأن الجنوب السوري وبعده، كان هناك حديث أميركي صريح عن إبعاد ميليشيات الحرس الثوري، ودعوة موسكو لتحجيم نفوذ طهران، ودورها في سوريا، وتكرر الأمر مع توزيع الشرق السوري في المعركة ضد «داعش» بين شرق الفرات وغربه، ومطالَبة أميركية للروس بمنع تقدُّم الميليشيات الإيرانية، لكن شيئاً من ذلك لم يتمّ، وشهد العالم جنرال الحرس الثوري قاسم سليماني يستعرض في البوكمال بعد دير الزور.
ومن «آستانة»، والتعهدات التي أطلقتها موسكو بشأن مناطق «خفض التصعيد» ولم تلتزم بها، مضت روسيا في مشروع مؤتمر «سوتشي» لإملاء «حلٍّ» يرتكز على موازين القوى الراهنة على الأرض، يضمن مصالحها، ويبقى على رأس النظام السوري، أقله إلى حين إبرام سوريا، بعد التسوية الجديدة، كل الاتفاقات المتعلقة بالثروات السورية وخطوط النقل، التي يُراد منها ضخُّ الأموال في خزائن الكرملين. هل هي قراءة متسرعة لموقف واشنطن؟ أو سوء تقدير روسي لحجم الانتصار؟ خصوصاً أن موسكو تهيمن مع حلفائها على نحو 55 في المائة من سوريا، فيما تهيمن أميركا مع حلفائها على نحو 30 في المائة، وهل أقنعت روسيا نفسها بأن التقدُّم الميداني يمكّنها من تقديم حلٍ معلّب في «سوتشي»، بتجاهل كلي لحقيقة التوازنات ومطالب السوريين، وعدم الإقرار بدور حقيقي لممثلي الثورة السورية؟
قبل أن يعلن وزير الخارجية الأميركي تيلرسون أن الوجود العسكري لبلاده مستمر في شرق سوريا وشمالها حتى تحقيق خمسة أهداف، أبرزها: حل الصراع السوري سياسياً بإشراف الأمم المتحدة، ووفق القرار الدولي 2254، ومن دون الأسد، وإنهاء النفوذ الإيراني حتى يصبح جيران سوريا في أمان، إلى عودة كل اللاجئين السوريين، ودون ذلك لا دعم لإعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري... قبل تحديد هذه الملامح للسياسة الأميركية، كانت واشنطن تشهد أحداثاً متتالية، من مباحثات عسكرية مع وفد من الجيش السوري الحر، ولقاءات مع وفد الهيئة العليا للتفاوض، إلى الاجتماع الخماسي في واشنطن بمشاركة فرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن، والإعلان أن أميركا تُعِدُّ ورقة عمل لتصور الحل السياسي في سوريا. وترافَقَ كلّ ذلك مع تأكيد أميركي على تدريب وتجهيز قوة عسكرية من 30 ألف مقاتل مناصفةً بين الأكراد والعرب تنتشر للفصل بين منطقة النفوذ الأميركي والمناطق الأخرى، وتشمل كل الحدود مع العراق حتى قاعدة التنف، أي جنوب معبر البوكمال، بما يعني منع النظام الإيراني من إقامة جسر بري حتى المتوسط.
الخطوات السياسية تلاحقت، ومثلها تسريع عملية التسليح، وما نفاه تيلرسون هو بناء جيش سوري جديد فقط. كل ذلك يعني سياسةً أميركيةً جديدةً تستند إلى وجود ميداني وتحالفات جديدها مع فصائل من الجيش الحر، وإطلاق دينامية دولية - عربية تتقاطع مع الثورة السورية، مقابل الدينامية الروسية الإقليمية التي باتت تفتقر لانسجام حقيقي، مع تزايد الشكوك التركية حيناً، والإيرانية في أحيان كثيرة، في النيات الروسية.
ينعقد «سوتشي»، نهاية الشهر، أو لا ينعقد، لم يعد قصةً كبيرةً، بل إنه يترنح وتحوَّل إلى لقاء بين الروس وأتباعهم، وبالتالي روسيا صاحبة الصوت الأعلى في سوريا عاجزة عن إرساء التسوية، وستكون عاجزة أكثر عن ترجمة ما حققته في الميدان من مكاسب سياسية، ولا يبدو أن نهجها سيمنحها القدرة على فهم سليم للشفرة السورية، ومأزقها يكمن في أنه لن يكون هناك «ستاتيكو» في مصلحتها، وتدرك أن جيش الأسد العاجز عن تأمين محيط «حميميم» لن ينجح في ديمومة السيطرة على المناطق التي تم استرجاعها.
خلف الضجيج المضحك للنظام السوري وموسكو وطهران من أن الأميركيين يخرقون «السيادة» السورية (...)، كانت للمواقف الأميركية دلالات كبيرة، عندما يتم التأكيد على مسؤولية نظام الأسد عن خَلْق «داعش»، وعندما توضع موسكو أمام المسؤولية من أن تدخلها وفَّر التغطية لممارسات التطهير العرقي، واستخدام الفيتو 10 مرات وفّر الغطاء لممارسات وحشية ضد السوريين من جانب النظام والحاضنة الإيرانية، حتى إنه تم استخدام غاز الكلور أخيراً ضد الصامدين في الغوطة الشرقية، ما يعني أنه على موسكو أن تضع مصالحها على الطاولة، وتُوازِن بين الممكن أن تنتزِعَه، أو انتظار بدء فصل جديد من الصراع على سوريا أغلب الظن أنه لن يتأخر، والأرض جاهزة لتجدد الحريق، ولا خطوط نفوذٍ مُكرَّسة بعد.
يبقى أن طهران التي تنفق على حربها ضد الشعب السوري نحو 10 مليارات دولار سنوياً على أقل تقدير، تعتبر وجودها في سوريا درَّة التاج في مشروعها الإمبراطوري، ومراراً كان خامنئي يعلن: «لن نترك سوريا أبداً»... فإن الخطوات الأميركية تكشف عن حاجة البيت الأبيض الماسّة للنجاح في سوريا لتوظيفه في الداخل الأميركي، واهتزاز النفوذ الإيراني لن يقتصر على دور طهران في سوريا، بل في كل المنطقة، لا سيما في العراق وفي لبنان، رغم خصوصية «الحشد الشعبي» في العراق و«حزب الله» في لبنان.
رغم كثرة الانتقادات الموجهة لسياسة الإدارة الأميركية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، فإنه يجب أن نعترف أنها أكثر وضوحاً والتزاماً من السياسات السابقة. وقد اختارت سوريا لتكون مركز اختبار استراتيجيتها الجديدة في مواجهة «داعش» وروسيا وإيران؛ لكن لا ندري إن كانت قادرة على إكمال الطريق الذي رسمته وأعلنت عنه أخيراً.
بانهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات انتهت الحرب الباردة، ولم تعد هناك سياسات أميركية خارجية سوى مواجهة الإرهاب. صارت السياسة ردود فعل على هجمات سبتمبر (أيلول) 2001، للرد على الجماعات الإرهابية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا. ودامت تلك المرحلة عقداً ونصف عقد من الزمن.
الآن، في سوريا وأوكرانيا وإيران، وبدرجة أقل في شبه الجزيرة الكورية، نرى ملامح مواجهات بين واشنطن وموسكو. هذا التنازع بين القوتين الروسية والأميركية يعيد للأذهان حالة الحرب الباردة، وجرى التأكيد عليها الأسبوع الماضي في كلمة وزير الخارجية الأميركي عن الاستراتيجية الجديدة لبلاده، أنها تعتمد بشكل أساسي مواجهة القوى المنافسة، روسيا بدرجة أساسية، والصين بدرجة أقل.
تحت إدارة دونالد ترمب اختلفت سياسة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي سوريا والعراق تحديداً. فقد قررت الوقوف في وجه الوجود الروسي وكذلك حليفه الإيراني، وكذلك مواجهة تنظيم داعش. واختارت الولايات المتحدة سوريا كأرض للمعركة التي أصبحت معقدة جداً، نتيجة تعدد القوى المنخرطة في الأزمة هناك.
ومع تبني واشنطن سياسة واضحة للمرة الأولى، أتوقع أنها ستفرز إشكالات جديدة لم تكن موجودة سابقاً، من بينها أن واشنطن ستتوقع من حلفائها دعم سياستها والعودة إلى سياسة الأحلاف القديمة. وسيبدأ فرز المواقف من الأزمة السورية، ثم ينسحب لاحقاً على القضايا الإقليمية الكبرى، مثل التعامل مع إيران. تركيا، التي هي عضو في حلف «الناتو» وتاريخياً جزء من منظومة الحلف الأميركي، تحاول اللعب على حبال الأزمة، حتى جاءت معركة عفرين التي وضعتها في مواجهة مع إيران وروسيا ونظام دمشق. وبالتالي ستجد تركيا، وكذلك بقية دول المنطقة، أن خياراتها تضيق مع الوقت. فهل ستتحالف مع واشنطن في سوريا أم مع موسكو؟
الأميركيون تخلوا عن سياسة العام الماضي بالتعاون مع الروس في سوريا، وتبنوا سياسة جديدة تقوم على مواجهتهم عبر الوكلاء والأحلاف الإقليمية. موسكو سبقت واشنطن في تبني هذه السياسة، فهي تستخدم الإيرانيين ووكلاءهم من ميليشيات لبنانية وعراقية وغيرها للقتال على الأرض. في المقابل يستخدم الأميركيون على الأرض ميليشيات كردية سورية، مع فلول «الجيش الحر» السوري، في منطقة شرق الفرات. أصبح التوجه الأميركي الجديد يقوم على إفشال المشروع الروسي الإيراني في سوريا، وإحباط محاولات «داعش» للعودة بعد إسقاط «دولة الخلافة» في الرقة.
ومن حسن حظنا في المنطقة، أن صناع القرار في واشنطن استيقظوا أخيراً إلى الخطر الذي تشكله التحولات الجديدة في سوريا، وهم ضد ما تفعله إيران أيضاً في العراق. وحتى لو لم ترقَ الأمور إلى درجة المواجهات العسكرية هناك، فإن تبني سياسة عدائية يكفي لرفع كلفة الحرب على النظام الإيراني، وسيجعل قدرته على الهيمنة على المنطقة بعيدة الاحتمال اليوم.
بعد إسقاط حلب بيد الإيرانيين والروس ومرتزقة الأسد، وسقوط الخيار الجهادي المتأسلم وأوهامه حول فرص إقامة نظام ديني في سورية، بدت الفرصة متاحةً لاستعادة رهان الثورة الأول، الذي جعلت تحقيقه هدفها الرئيس، وهو إسقاط النظام الأسدي، وبناء نظام ديمقراطي هو بديله الحتمي والوحيد.
قبل سقوط حلب، كان واضحا أن الثورة غير الجهاد، وأن مشروعها نقيض مشروعه، وانتصاره لن يحقق أهدافها التي هتف لها ملايين السوريين، عندما طالبوا بالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية لكل سوري، من دون النظر إلى دينه أو معتقده أو انتمائه أو عرقه أو منبته الاجتماعي... إلخ، بينما أعلن الجهاديون أن مشروعهم هو لأهل السنة والجماعة دون غيرهم، وليس لعموم المسلمين، أو لأتباع الأديان الأخرى، وقالوا إن الحرية كفر والديمقراطية بدعة، في موقفٍ توافق توافقا فاضحا مع مواقف النظام من الثورة وأهدافها.
... واليوم، وبعد ما جرى الأسبوعين الفائتين في ريفي حلب الجنوبي وإدلب، حيث سلم تنظيم القاعدة في بلاد الشام مئات القرى من دون قتال إلى إيران والأسد، وتسبب في هجرة نيف ومائتي ألف مواطن من قرارهم وبلداتهم، يتضح بأدلة لا سبيل إلى دحضها أن الجهاد لم يعد فقط مشروعا مناقضا لمشروع الثورة، بل صار مقتلها، وأن قادته، من أمثال الجولاني، يتحدثون بظاهر لسانهم عن إسقاط الأسد وإقامة حكم الله، بينما يوقفون أفعالهم على استكمال معركة القضاء التام والناجز على ما تبقى من الثورة والسوريين.
وكانت جبهة النصرة قد أظهرت بطولات نادرة حقا في حربها ضد سبعة عشر فصيلا من الجيش الحر، قضت عليها بالتتابع خلال العامين الماضيين، وقتلت مقاتليها أو سجنتهم، وصادرت سلاحهم، ولاحقت من نجوا منهم، وقضت كذلك خلال يومين على حركة كبيرة هي "أحرار الشام"، واستولت على سلاحها، وقتلت وأسرت مئات من منتسبيها. وحين انفردت، أخيرا، بمنطقتي إدلب وجنوب حلب، عقدت "مؤتمرا وطنيا" في سياق سعيها إلى بناء إمارة إسلامية تشبه دولة البغدادي، ولكن بطرقها الالتفافية/ الاحتيالية التي دفعتها إلى تشكيل "حكومة إنقاذ"، سرعان ما بادرت إلى إنقاذ تلامذة المدارس وطلاب الجامعات من العلم، وأغلقت مدارسهم وجامعاتهم، واعتقلت عددا منهم، قبل أن تلغي المجالس المحلية المنتخبة، وتستولى على مكاتبها، وما في مخازنها من مواد غذائية وأدوية للسكان.
وشنت جبهة النصرة هجمات على ريف حماة الشمالي، قتل خلالها مئات من عناصرها، فيما كان عليها اتخاذ موقف دفاعي، يعد إدلب وجوارها لصد هجوم كبير، حين وقع، بادرت إلى إخلاء مناطق شاسعة من دون قتال، تطبيقا لمقرّرات أستانة التي هاجمها الجولاني، واتهم من توصل إليها بالخيانة، لاعتقاده بسذاجة أن كلماته يمكن أن تغطي انفراده بتنفيذ ما تقرّر في أستانة بشأن منطقة خفض التصعيد الرابعة (إدلب وجوارها). والآن، إذا ما تذكرنا أن مساحة المنطقة التي سلمها تربو على أربعمائة كيلومتر مربع، أدركنا المدى الذي بلغه التناقض بين جهاده والثورة. ولماذا استمات الأسد والإيرانيون والروس لفبركة تنظيمات جهادية، منها تنظيمه الذي ما أن أخذ موطئ قدم في سورية حتى شرع يحارب الثوار، وصولا إلى انفراده شبه التام، بما بقي من مناطق محرّرة شمال سورية، حيث تأكد لمن كان لا يصدق أن هدف الجهاد هو خنق الثورة وقتلها، ومنع انتصارها. ولو كان من الثورة لما تخلى عما حرّرته من أراض وبنته من مؤسسات، وأن على السوريين أن يختاروا من الآن بين جهاده والثورة، بعد أن انتفت الشكوك بشأن توافقهما، وتأكد لكل من يريد أن يفتح عينيه أنهما نقيضان، ولا يمكن لأحدهما أن يتعايش بعد إدلب مع الآخر.
واليوم، صار من الضروي أن يتخلى السوريون عن تنظيماته التي أوقفت "جهادها" على ذبح الثوريين، وأن يرتبط مصير سورية بالانحياز إلى الثورة ضد مشبوهين، لا يعرف أحد هويتهم الحقيقية، تكشف أخيرا أن عددا من كبار قادتهم عملاء لواشنطن وموسكو وطهران والأسد، وأن من دعمهم أوصلهم إلى مواقعهم المفصلية، ليسهموا في القضاء على الثورة، وينتزعوا منها ما حرّرته من أرض الوطن بأغلى التضحيات، تمهيدا لإعادتها إلى النظام، كما فعل الجولاني، فهل من المقبول أو المعقول أن يدعم أحد بعد اليوم جهادا يعادي الشعب السوري وحريته، لم يتردد يوما في التآمر عليهما مع الأسد وإيران.
أيها السوريون، إناثا وذكورا، أنقذوا ثورتكم.
هل يمكن أن يعود الوئام للسوريين بعد أن تخمد نار الحرب، بل الحروب التي تشتعل بجسد سوريا وروحها؟
هل يمكن تجاوز خنادق الكره وصدوع الحقد العميقة، بعد أكثر من 6 سنوات من أبشع حرب أهلية يشهدها العالم حالياً، وليس فقط العالم العربي؟
كيف يتعالى السني الحلبي والحمصي والحموي والإدلبي وأهالي مضايا والزبداني وجوبر ومخيم اليرموك وأسر حوران، من فظاعات قوات بشار وميليشيات نصر الله وحرس خامنئي، ومجرمي الحشد العراقي، وعجم الهزارة الأفغان؟
كيف يأمن العلويون، من الأهالي العاديين، بالساحل السوري وجبال الساحل وريف حمص من فظاعات «داعش» و«النصرة» وغيرهما؟
كيف يركن المسيحيون في وادي النصارى وحلب وحمص ودمشق بعد تفشي الثقافات المتطرفة السوداء؟
المجرم الأول بكل ما جرى، معلوم، وهو النظام الذي يحكم، لأنه هو المسؤول، بصفته قائد الدولة، عن صون السلم الاجتماعي واتحاد البلاد وردع الغزاة، لكن الذي فعله نظام بشار هو جلب العصابات الطائفية من كل مكان، وتسليم البلاد للغازي الإيراني والتدخل الروسي، وبذر سموم الفتنة الأهلية واستباحة الدماء والأموال والأعراض، والتسبب بتشريد ملايين السوريين بمنافي الأرض.
لولاه، لما فقست بيضة داعش الشيطانية، ولما تبرعمت ورقة القاعدة الشوهاء على ياسمين الشام.
لكن نرجع للسؤال الأول، هل يمكن لأهل سوريا أن يجتمعوا على كلمة سواء بعد كل هذا الهول؟ وعلى أي أرض؟
ربما هناك بقعة ضوء بعتمة الظلام، فقبل أيام نشرت هذه الصحيفة، «الشرق الأوسط»، خبراً عن الخلاصة التي خرج به سوريون ببرلين الألمانية بعد جولات من الحوار السري.
توصلت شخصيات وقيادات من المكونات العرقية والدينية والطائفية السورية، يعني من السنة، حضراً وعشائر، ومن شخصيات علوية معتبرة آتية من الساحل السوري، ومن كرد ودروز ومسيحيين لوثيقة من 11 بنداً بينها وحدة سوريا، و«المحاسبة الفردية» - يعني ليس أخذ الكل بجريرة البعض - عكست توافقات الكتلة الوسط في المجتمع السوري، مع أمل أن تكون وثيقة «عقد اجتماعي» فوق دستورية لمستقبل سوريا.
الوثيقة التي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها نصّت على 11 بنداً تحت عنوان «مدونة سلوك لعيش سوري مشترك». بها قواعد حاكمة للعقد الاجتماعي السوري المنتظر بعد أن تضع الحرب أوزارها منها: «وحدة الأراضي السورية، المكاشفة والاعتراف، لا غالب ولا مغلوب، لا أحد بريء من الذنب».
بنهاية الأمر، ستنتهي هذه الحرب، إما بالقوة الدولية والإقليمية وإما بتعب أطرافها، لكن كيف سيسفر الصباح السوري في اليوم التالي على دخان الحرائق؟
وثيقة برلين... جسر للعبور من ضفة القنوط لضفة الأمل.
مع كل جلسةِ محاكمةٍ للمناضلة الفلسطينية الصغيرة عهد التميمي، تَنْقل وسائل الاعلام صوراً حية للقضاة والمحامين وذوي تلك الفتاة التي صارتْ أيقونةً لمقاومةِ الاحتلال. تبتسم عهد في المحكمة وترْفع علامة النصر فيما القاضي يتلو الاتهامات: إعاقة عمل السلطات. إهانة جنود وصفْع بعضهم، التحريض، التهديد، أعمال شغب وإلقاء حجارة...
عهد، الطفلة التي دأبتْ منذ 2009 على الانتظام في مسيراتٍ أسبوعية في قريتها النبي صالح تنديداً بالاحتلال والاستيطان والجدار العنصري، أَدهشتْ الإعلاميين والمراقبين والمتابعين السياسيين بشراستها ضدّ الجنود الإسرائيليين إذا تعرّضوا للمتظاهرين وخصوصاً أفراد أسرتها. قال لها والدها في المحكمة: «ابتسمي وافردي شعرك، كوني أنتِ، فأنتِ بطلة، رمز الجيل الجديد من الفلسطينيين الباحثين عن الحرية. جيلنا انتهى أمْره، أنت حاملة الراية»... فردّتْ شَعْرَها وابتسمتْ فيما فريق محاميها برئاسة غابي لاسكي يعمل ليل نهار لإطلاقها مستفيداً من كونها قاصرة ومن كون الأعمال التي قامت بها إنما ناتجة عن بيئةٍ ساد فيها القمع والاحتلال.
غالبية المتعاطفين آلياً مع عهد انسجمتْ مواقفُهم مع إرثٍ طُبع في الوجدان والضمير لأكثر من ستة عقود. إرثُ فلسطين التي ذُبحت مرات من الاحتلال ومرات من التآمر الدولي ومرات من تَقاتُل أبنائها ومرات من استخدام العرب لقضيتها في تصفية حساباتهم. لكن ما يلفت في قضية التميمي هذا المستوى المخيف من النفاق والانفصام لدى النخب الفكرية والإعلامية العربية التي وجدتْ ربما قصةً تُخْرِجُها من صَمْتٍ هو أقرب الى المشاركة منه الى «الحياد»، فإسرائيل جسمها «لبّيس» ويمكن أن تحظى بأطنان من الإدانات والاستنكارات والتظاهرات، أما ديكتاتور البراميل فجسمه «معصوم» عن التنديد ولو كانت مجازره مدرسة لا تقبل في صفوفها حتى عناصر الهاغاناه وشتيرن وأرجون.
مثالٌ واحد فقط من عشرات الآلاف يفضح دخول هذه النخب الإرادي كهوف النفاق... والتواطؤ.
حمزة الخطيب، طفلٌ سوري في عمر قريب لعهد التميمي، وُلد في قرية الجيزة، خرج في نيسان - ابريل 2011 في تظاهرةٍ لكسْر الحصار عن بلداتٍ في درعا عانتْ الأمرّين من التجويع والتقتيل. يومها كان في الثالثة عشرة من عمره والثورة السورية في بداياتها، حيث لا «داعش» ولا «نصرة» ولا غيرها من أدوات الممانعة التي استُخدمت لاحقاً. قريته كلها تقريباً بنسائها وشيبها وشبابها وأطفالها خرجت سلمياً تنادي برفْع الحصار فقط، وحمزة يهتف ويصفّق ويضحك مع أقرانه، الى أن وصل الى حاجز للجيش السوري أطلق جنوده النار عشوائياً على المتظاهرين... ثم اعتُقل مع 50 شخصاً.
سأل أهل حمزة عنه بعد أيام، فأفيدوا بأنه في فرع المخابرات الجوية التي تحقق معه وستطلقه... أَطْلَقَتْه فعلاً وأَعادتْه إلى منزله جثةً، ونقلتْ صحيفةٌ كندية عن طبيب شرعي انه عاد بلا فكّين وبجسدٍ مليء بالحروق وبالصدمات الكهربائية وكدمات الضرب بالكابلات بينما قُطع عضوه التناسلي.
حمزة لم يضرب جندياً سورياً، لم يُلْقِ بالحجارة على أحد، رأى الناس يخرجون طلباً للحرية والتغيير فخرج وعاد كما عاد. مثّلوا بجثته ليعرف أبناء درعا وسورية لاحقاً أن مصيرهم سيكون مماثلاً إنْ كرروا كلمة «حرية». أَحرقوا لحمه ليعرفوا أن الحريق سيطال البلد إنْ فكّر أحد بتغيير الأسد. كسروا فكّيه وطحنوا عظامه ليعرفوا أن القرى والمدن ستتكسّر على مَن فيها وتطحن ساكنيها. قطعوا عضوه التناسلي كي يعرفوا أن الإبادة ستشملهم وذريتهم إنْ فكروا مستقبلاً في تغيير ولاية الذرية الحاكمة.
استعرِضوا أسماء المتعاطفين مع عهد التميمي (وهي تستحقّ ذلك وأكثر) من مفكرين وكتّاب وإعلاميين وسياسيين عرب، وقارِنوا بين مواقفهم من قصتها ومواقفهم من قصة حمزة الخطيب فلن تجدوا أيّ تَضامُن معه بل كل التضامن مع قاتِله.
هي طفلةٌ وهو طفلٌ، هي بدأتْ بالتظاهر من عشر سنوات وهو سار في تظاهرةٍ واحدة فقط، هي طالبتْ بهدْم الجدار العنصري وإنهاء الاحتلال وهو طالب بهدْم جدران القمع والكراهية والتمييز بين أبناء الشعب الواحد وإنهاء الحصار، هي ضربتْ جندياً مُغْتَصِباً وهو قَتَله ومثّل في جثته جندي سوري ينتمي إلى سلطة غاصبة، هي ذهبتْ الى المحكمة وهو ذهب الى القبر، هي رفعتْ علامة النصر أمام القاضي وهو طُحنت أصابعه قبل إحراقها، هي ابتسمتْ لأهلها ومحاميها في المحكمة وهو عاد بلا فكّين فكفنته دموع مودّعيه، هي طالَبها والدها بأن تفْرد شعرها لأنها صارتْ رمزاً لجيل جديد من الفلسطينيين الباحثين عن الحرية وهو فَرَد آلامه وعذاباته على مساحةِ القهر التي تحاصرنا وصار رمزاً لعجْزنا ونفاقنا وخوفنا ومشاركتنا، صمتاً أو تأييداً، في المجازر.
هي في فلسطين المحتلّة وهو في سورية... الأسد.
في 2012 ولعام كامل ظل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يحذر النظام السوري، مواصلاً وضع الخطوط الحمراء، ومهدداً بشار الأسد أنه إن تجاوزها فسيكون ذلك سبباً لرد عسكري أميركي، وبعد ذلك بعام لم يتوان رئيس النظام السوري عن قصف المدن السورية بالسلاح الكيماوي، ما خلف أكثر من 1500 قتيل، غير أن أوباما اختار أن يعود عن تحذيرات رئيس أقوى دولة في العالم وأن لا يضرب الأسد، وعوضاً عن ذلك، ذهب إلى الكونغرس باحثاً عن الموافقة التي لم تأتِ بالطبع، قبل أن تتدخل روسيا عارضة ضمانتها بأن الأسد سيسلم الـ1300 طن أسلحة كيماوية التي يملكها إلى الغرب، ومنذ تلك اللحظة سلم فيها أوباما مفاتيح الملف السوري إلى نظيره الروسي، بمساعدة طهران وأنقرة، وتفرجت واشنطن على ما يحدث من بعيد دون أي تدخل منها لأربع سنوات كاملة، حتى ظنت روسيا وإيران وتركيا أن الساحة خلت لها، وأنها نجحت في تقسيم الكعكة بحسب مصالحها، ثم كانت العودة الأميركية القوية إلى الملعب السوري مفاجئة للجميع، سواء في تشكيل قوة أمنية حدودية قوامها 30 ألف عنصر في شرق سوريا، أو في تصريح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأن الجيش الأميركي باقٍ في سوريا «ليس فقط لدحر (داعش) بالكامل، بل من أجل منع بشار الأسد من بسط سيطرته على كامل البلاد مع حليفته إيران»، وهي استراتيجية أميركية جديدة لافتة تهدف إلى مواجهة النفوذ الإيراني، ومنعها من إقامة ممرها البري الذي يربط بين إيران ولبنان، وكذلك منع عودة ظهور تنظيمات متطرفة مثل «داعش» و«القاعدة»، والوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية تنهي حكم الأسد إلى الأبد.
يبدو أن عام 2018 سيشهد معادلة جديدة للحل السياسي في سوريا، تقوم على أساس دخول أطراف إقليمية ودولية تمثل مصالح أطراف المعارضة السورية، التي ظلت طوال السنوات الماضية يتم التعاطي معها وكأنها في حكم المهزومة، مما يحتم عليها القبول بأي حل يفرض عليها لصالح نظام الأسد. من الواضح أن الإدارة الأميركية استغلت عامها الأول لكي تنتهي من مراجعة سياستها السورية، ثم العودة بقوة إلى الساحة بتوافق مع حلفائها الإقليميين من جهة والمعارضة السورية من جهة أخرى. الرؤية الأميركية الجديدة للحل تستند إلى حتمية رحيل الأسد عن الحكم، مع ضرورة فترة انتقالية تعقب رحيله واستعادة السلم الأهلي بأشكال مختلفة من الوجود العسكري الأميركي، ويمكن القول إن عودة واشنطن تأتي متزامنة مع فشل موسكو في إيجاد أي حلول سياسية طوال السنوات الخمس الماضية، واكتفائها بتعزيز الحلول العسكرية وتقديم الدعم اللامحدود لنظام الأسد، وفرضها رؤيتها لترجمة الواقع العسكري الجديد بين النظام والمعارضة لصالح الأول عبر مسارات آستانة، ولعل آخر مؤشرات الفشل الروسي سياسياً تأجيلها مرتين موعد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، مع احتمال بدأ يلوح في الأفق بتأجيل ثالث.
إذا كانت روسيا تقبل على مضض العودة الأميركية القوية إلى سوريا، في ظل تفهم واشنطن لاستمرار المصالح الروسية وعدم التعرض لها، فإن أكثر الخاسرين، بعد نظام الأسد بالطبع، هو النظام الإيراني، فإن الرؤية الأميركية بمثابة إعادة تقييم الولايات المتحدة لحساباتها السياسية والأمنية، وأبرزها رغبة الإدارة الأميركية في توجيه رسائل عملية لإيران، التي تعتبرها واشنطن الراعي الرسمي للإرهاب في المنطقة، بوضع ميليشياتها المحاربة في سوريا على قدم المساواة مع تنظيمات المعارضة السورية المسلحة المصنفة إرهابياً، ومن ثم فإن الوجود العسكري الأميركي في سوريا سيكون أحد أهدافه الرئيسية قصقصة جناح الميليشيات الإيرانية، وهو هدف لا تعارضه موسكو ما دامت مصالحها لن تتأثر.
التحرك العسكري التركي نحو عفرين تأخر أشهراً عديدة، ومنذ انتهاء عملية درع الفرات في مارس 2017 تحدثت السياسة التركية عن عملية عسكرية مقبلة في عفرين ومنبج، ولكن السياسة التركية أرادت أن تثبت للشعب التركي، قبل غيره، أن وجهة نظرها نحو سوريا كانت ولا تزال وستبقى سياسة دفاعية، وإن أخذت مظاهر السياسة الهجومية.
وقد أثبتت كذلك أنها لا تستعجل في تحقيق أهدافها، وفي مقدمتها عودة الشعب السوري إلى أراضيه في مدنه وقراه، التي هُجر منها غصباً وتشريداً وتطهيراً عرقياً من حزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، مهما كانت تسمية الكتائب والمليشيات العسكرية التي يستخدمها، سواء كانت قوات حماية الشعب (ب ي د) أو باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو باسم قوات حماية الحدود شمال سوريا، بجيش قوامه ثلاثون ألف مسلح، كما أعلن البنتاغون قبل أيام، فوجهة النظر التركية أن لا تتورط بعمل عسكري في سوريا، إلا بقرار سياسي واضح للشعب التركي وللعالم العربي والعالمي، وبقرار عسكري مدروس ومتوافق مع الرؤية الدولية، خاصة روسيا وإيران الدولتين اللتين لهما قواعد عسكرية وجيش وطيران وميليشيات عسكرية منتشرة على الأرض، ولا سيما في منطقة عفرين.
إن الدواعي الحقيقية للتحرك العسكري التركي معلومة للجميع وقديمة أيضاً، وهي منع إقامة دولة كردية جنوب تركيا، وهذا الهدف ـ وهو إقامة دولة كردية شمال سوريا، تسعى أمريكا لتحقيقه ولو على مدى سنوات، ولذلك كان اختلاق أو استثمار أو استغلال وجود «داعش» في شمال سوريا من قبل أمريكا والبنتاغون ـ لا ينطلي على السياسة التركية، فمنذ إعلان أمريكا تشكيل التحالف الدولي الستيني لمحاربة داعش في سبتمبر 2014 رفضت تركيا المشاركة فيه، إلا بعد الاطلاع على خططه وأهدافه، لأن تركيا كانت تعلم بالنوايا الأمريكية السياسية لتقسيم سوريا، وأنها تسعى لسرقة الأحزاب الكردية من الوصاية الروسية إلى الوصاية الأمريكية، وتقديم الدعم العسكري لها، حتى لو كانت على قوائم الإرهاب الدولي، لأن أمريكا تقدم مصالحها على مصالح الدول الأخرى، بما فيها الدول الحليفة لها مثل تركيا، حتى لو أدى ذلك إلى تهديد أمن حلفائها القومي، فالحجج الأمريكية بمحاربة «داعش» في كوباني وغيرها لم تكن تنطلي على تركيا، ولكن تركيا انتظرت حتى تفرغ أمريكا كافة حججها لدعم الارهابيين، سواء كانوا من «داعش» أو من حزب العمال الكردستاني وفروعه قوات حماية الشعب الكردي، أو قوات سوريا الديمقراطية، بل أنها صبرت حتى بعد أن اعلنت روسيا ودول أخرى القضاء على «داعش» في سوريا، وكان ذلك يعني عدم وجود ذريعة لأمريكا لتقديم أربعة آلاف شاحنة محملة بالأسلحة إلى قسد في الأشهر القليلة الماضية، فقد كانت تلك الأسلحة تكفي لإنشاء جيش قوامه ستون ألف مسلح، ثم جاء إعلان أمريكا قبل أيام عن تشكيل جيش قوامه ثلاثون ألف مسلح ليؤكد ذلك، بينما الهدف ليس تشكيل الجيش فقط، وإنما جعله نواة عسكرية لتأسيس الدولة الكردية المقبلة شمال سوريا، التي ستمنح الجيش الأمريكي حق إقامة قواعد عسكرية على أراضيها، حتى تصبح متوافقة مع القانون الدولي، كما فعل بشار الأسد ـ الفاقد لحق الحكم في سوريا ـ بتقديمه اتفاقا لروسيا بإقامة قواعد عسكرية على الأراضي السورية في طرطوس والحميميم وغيرها لإبقائه في الحكم.
إن التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي تيلرسون التي قال فيها: «إن أمريكا لم تكن تسعى لإقامة جيش شمال سوريا». وكذلك تصريح رائد عسكري من البنتاغون قبل يومين بأن أمريكا لا تدعم قوات حماية الشعب في عفرين، وأن منطقة عفرين ليست من ضمن انتشارها العسكري لمحاربة «داعش»، هذه التصريحات تؤكد أن أمريكا أدركت جدية الموقف التركي بالقضاء على التواجد العسكري الارهابي في عفرين أولاً، وبالتالي فهي أي أمريكا تتناغم مع التصريحات العلنية للرئيس التركي أردوغان، ومع تصريحات مجلس الأمن القومي التركي، الذي قرر أن يمنع تشكيل أي جيش يهدد الأمن القومي التركي شمال سوريا، وعلى الأخص إذا كان هذا الجيش تابعاً للأحزاب الكردية الانفصالية الارهابية، فهذه الأحزاب استهدفت الأراضي التركية بالتفجيرات وتهريب الأسلحة، وقتلت أبناء الشعب التركي بمن فيهم المواطنون الأكراد في المدن التركية العديدة في السنوات الماضية.
وتركيا لن تنتظر حتى تبني أمريكا أوكار الفتنة والتهديد والإرهاب على حدودها، بل ستخوض حربا حقيقية، ولكنها في الوقت نفسه، لا تريد أن تريق قطرة دم واحدة، بدليل إعلان تركيا عن هذا التحرك العسكري قبل أشهر وأسابيع وأيام، لإعطاء الفرصة لكل من أخطأ سابقا واشترك في هذه الأعمال الارهابية للتراجع والانسحاب ومغادرة هذه المناطق، فليس الهدف مجرد الحرب ولا المباغتة العسكرية، وإنما ترك الفرصة والوقت لكل من يرغب في النجاة أن يغادر أرض الحرب قبل وقوعها.
وذهاب رئيس الأركان التركي الفريق أول خلوصي آكار، ورئيس المخابرات الوطنية التركية هاكان فيدان إلى روسيا يوم الخميس 18 يناير الجاري هو خطوة في الاتجاه نفسه، فتركيا تريد ان تسمع القيادة الروسية وجهة نظرها الأمنية والعسكرية في عفرين ومنبج وشمال سوريا عموما، وهي لا تسعى للاصطدام مع روسيا ولا مع إيران، ولا مع جيش بشار الأسد في ادلب ولا غيرها، وإنما هي في حالة الدفاع عن نفسها، بمنع الأخطار المحدقة بالأمن القومي التركي، ولا شك في أن وجهة النظر التركية العسكرية تجد آذاناً صاغية في موسكو أولاً، لأن روسيا ترفض وجودا عسكريا أمريكيا في سوريا، وهذا ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لابروف مراراً، وروسيا تطالب حكومة بشار الأسد برفض الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، واعتباره غير قانون وعدواني، فمن مصلحة روسيا أن تقطع تركيا على أمريكا إقامة دولة كردية شمال سوريا، وبالتالي أن تقطع الآمال الأمريكية بإقامة قواعد عسكرية لها في سوريا.
أما إيران فلا شك أن التفاهم معها أكثر صعوبة حول ذلك، لأن إيران لديها اتفاقيات أو تفاهمات أمنية وعسكرية مع امريكا، ولو بتفاهمات أمنية سرية تولى أمرها وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، في مباحثاته السرية أولاً مع إيران في سلطنة عمان، ثم بعد تحويلها إلى مباحثات علنية بحجة الملف النووي الإيراني قبل توقيعه في يونيو 2014، فينبغي للسياسة التركية أن لا تثق كثيرا بالمواقف الإيرانية، ولذلك فإن السياسة التركية مطالبة بأن تأخذ من موسكو كافة التعهدات التي تريدها في سوريا قبل تنفيذ العملية العسكرية في عفرين أولاً، ثم في منبج ثانياً، وحتى لو تم تأخير عملية منبج مرة أخرى، فإن ذلك سيكون مفهوم الأسباب، حيث إن أمريكا لن تتخلى عن بعض أمنياتها الضارة بتركيا، في حال دفعها أو تشجيعها الأحزاب والمنظمات الارهابية لمواجهة تركيا في منبج، بدليل أن نفي التصريحات الأمريكية عن تقديم دعم لـ (ب ي د) تعلق في عفرين فقط، ولم تتحدث عن منبج، بينما كانت الوعود الأمريكية القديمة تتعهد بسحب المقاتلين من منبج بعد طرد «داعش» قبل سنتين، عندما تعهدت امريكا بإخراجهم من غرب الفرات، لولا التعهدات الأمريكية في ذلك الوقت، التي قام بها وزير الخارجية التركي بتذكير أمريكا بهذه التعهدات مرة أخرى.
إن التحركات العسكرية التركية نحو عفرين ليست سهلة الخطوات أولاً، ولا سهلة المهمات ثانياً، ولكنه قرار الدفاع عن النفس من أعلى الدرجات، وما يطمئن هو أن الجيش التركي لا يتصرف كجيش احتلال داخل سوريا، وإنما يجعل من الشعب السوري نفسه، وبالأخص من الجيش السوري الحر صاحب المشروع والتحرير بوصفه صاحب الأرض، ثم يجعل من عودة اللاجئين إلى أراضيهم وإعادة الإعمار فيها أهدافا حقيقية للحملة، لأنها هي الضمانة الحقيقية لمنع عودة الارهابيين إليها، فأهل الأرض السورية وأصحابها هم اولى الناس بحمايتها واستثمارها وإعمارها.
المقال التالي لم أكتبه أمس، بل كتبته في السادس من سبتمبر/ أيلول عام ألفين وأربعة عشر، أي قبل أكثر من ثلاث سنوات. وتساءلت فيه وقتها: هل داعش حركة جهادية تريد تحرير المنطقة من الغزاة والطغاة، أم هو مجرد مخلب قط بيد قوى كثيرة لاستباحة المنطقة والسيطرة عليها بشكل مباشر بحجة محاربة الإرهاب والتطرف؟
"الماء يكذّب الغطّاس"، هكذا يقول المثل الشعبي. وما كنا نخشاه من أن تكون داعش وأخواتها أشبه بحصان طروادة قبل سنوات، يتحقق الآن على أرض الواقع بشكل فاقع، خاصة بعد التصريحات الأمريكية المفضوحة بأن أمريكا ستحافظ على قواعد عسكرية دائمة في سوريا بحجة مواجهة الإرهاب والحيلولة دون عودة داعش إلى الساحة بقوتها القديمة.
ذاب الثلج وبان المرج. وقبل الأمريكيين بأسابيع خرج علينا الروس والإيرانيون، وتفاخروا بانتصارهم على الدواعش، والهدف طبعا من مثل هذه التصريحات تبرير بقائهم في سوريا أيضا؛ بحجة منع ظهور المتطرفين والتكفيريين مجددا، مع العلم أن الهدف الرئيسي لكل القوى التي تتذرع بمحاربة داعش وأخواتها في سوريا هو تبرير سيطرتها بشكل مباشر على سوريا وغيرها. وبناء على هذه الحقائق الدامغة الآن تعالوا نقرأ ما كتبته قبل أكثر من ثلاثة أعوام حول هذا الموضوع.
كم كان وزير الدفاع الإسرائيلي الشهير موشي ديان على حق عندما قال قولته المشهورة: «العرب أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تفعل»! ونحن نقول كم ذاكرتنا العربية والإسلامية قصيرة كذاكرة السمكة، فسرعان ما ننسى لنقع في نفس الأشراك التي لم نكد نخرج منها بعد. لماذا نكرر ببغائيا القول الشريف: «لا يـُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين»، ثم نسمح لنفس الأفعى أن تلدغنا من نفس الجُحر مرات ومرات؟
لماذا لم يتعلم الإسلاميون من تجربتهم المريرة في أفغانستان؟ ألم تخدعهم أمريكا بالتطوع في معركتها التاريخية للقتال ضد السوفييت ليكونوا وقودا لها، ثم راحت تجتثهم عن بكرة أبيهم بعدما انتهت مهمتهم وصلاحيتهم، وتلاحقهم في كل ربوع الدنيا، وكأنهم رجس من عمل الشيطان، فاقتلعوه؟ ألم تعدهم أمريكا بالدولة الإسلامية الفاضلة التي ظنوا أنهم يسعون إليها في أفغانستان، دون أن يعلموا أنهم كانوا مجرد أدوات لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
بالأمس القريب صفق الكثيرون لتنظيم القاعدة، واعتبروا قائده محررا للمسلمين من ربقة الطغيان الداخلي والخارجي. وماذا كانت النتيجة؟ لقد تبين أن ذلك التنظيم وغيره، بغض النظر عن تطلعاته وأهدافه وطموحاته وشعاراته، تبين أنه كان مجرد حصان طروادة حقق الذين استغلوه الكثير من أهدافهم من خلاله. وما إن انتهى دوره حتى لاحقوه في كل بقاع الدنيا، لا بل وضعوا من ألقوا القبض عليهم من أفراد التنظيم في أبشع معسكر اعتقال في العالم، ألا وهو «غوانتانامو». لماذا يكررون نفس الغلطة الآن، علما أن الكثير من رفاقهم ما زالوا يقبعون في معتقل غوانتانامو، وينعمون بحسن ضيافة الجلادين الأمريكيين؟
ربما يقول البعض إن وضع «داعش» الآن يختلف عن وضع القاعدة أيام زمان. ولا مجال للمقارنة، فداعش سليلة تنظيم الزرقاوي الذي ترعرع في العراق وأذاق الأمريكيين وأعوانهم الكثير من الويلات، مما حدا بالأمريكيين إلى تصنيع ما يسمى بـ"الصحوات" لمواجهة تنظيم الزرقاوي. وهذا صحيح، لكن العبرة دائما بالنتائج وبالمستفيد. ماذا استفادت المنطقة، وخاصة العراق من ذلك التنظيم. هل تراجع النفوذ الأمريكي والإيراني في العراق مثلا؟ بالطبع لا. فما زالت إيران التي يدعي التنظيم أنه يعاديها تتحكم بكل مفاصل العراق وتتمدد في سوريا ولبنان واليمن والخليج. ومازالت أمريكا تُحكِم قبضتها على بلاد الرافدين.
والسؤال الأهم: هل فعلا دخل تنظيم الدولة الإسلامية إلى العراق من سوريا واحتل محافظة الموصل ومحافظات عراقية أخرى رغما عن الأمريكيين، أم بتسهيل وغض الطرف منهم؟ ألم تكتشف الأقمار الصناعية الأمريكية بضع عربات روسية دخلت أوكرانيا بسرعة البرق؟ هل يعقل أن تلك الأقمار لم تستطع اكتشاف جحافل السيارات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية وهي تدخل الموصل وبقية المناطق العراقية؟ هل يعقل أنها لا ترى جماعات الدولة وهي تتنقل داخل سوريا، وتستولي على مدن ومطارات في أرض مكشوفة؟ صحيح أن الطائرات الأمريكية قصفت بعض مناطق داعش في العراق، لكن ليس كل المناطق، بل فقط المناطق التي تجاوزت فيها داعش الخط الأحمر المرسوم لها أمريكيا، وخاصة عندما توغلت باتجاه كردستان العراق، حيث المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ولا ننسى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تؤكد أن الروس كانوا يقصفون كل الفصائل في سوريا باستثناء داعش، إلا من رحم ربي.
هل سيسمح العالم، وخاصة الغرب بقيام دولة داعشية بين العراق وسوريا بالطريقة التي تحلم بها داعش؟ ألا يُخشى أن يكون ظهور داعش وتمددها حلقة جديدة في سلسلة المشاريع الجهنمية الغربية المرسومة لمنطقتنا؟ أليس من حق البعض أن يعتبرها مسمار جحا جديدا في المنطقة تستخدمها القوى الدولية كحجة، كما استخدم جحا مسماره الشهير، لإعادة رسم الخرائط وتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ؟
أليس كل الجماعات التي يصفها العالم بـ"الإرهابية" استغلتها القوى الكبرى أفضل استغلال لتنفيذ مشاريعها في أكثر من مكان؟ فعندما أرادت أمريكا تأمين منطقة بحر قزوين الغنية بالنفط، فكان لا بد لها من احتلال أفغانستان. وماذا كانت الحجة؟ ملاحقة تنظيم القاعدة في أفغانستان. ذهبوا إلى هناك منذ أكثر من عشر سنوات ومازالوا هناك. ألم تكن القاعدة هي الشماعة لاحتلال أفغانستان؟ حتى في غزو العراق استخدمت أمريكا حجة وجود القاعدة هناك، بالإضافة إلى أسلحة الدمار الشامل. ألم تصبح الجماعات المتطرفة شماعة لكل من يريد أن ينفذ مآربه هنا وهناك؟
ألم يوظفوا تلك الحركات جيدا لتحقيق غاياتهم الاستراتيجية؟ فبحجة الجماعات الإرهابية أصبحت كل منطقتنا مستباحة أمام القاصي والداني، كي ينفذ كل ما يريد بحجة مكافحة الإرهاب؟ اليوم بإمكان الأنظمة الدولية القيام بكل الجرائم والموبقات والخطط في المنطقة بحجة محاربة داعش، وبذلك تلقى دعما كاملا من شعوبها خوفا من داعش، ولن يعارض أحد، لأن كل من يعترض يشتبه بصلته بداعش وبالإرهاب. وحتى لو بقيت الدولة الإسلامية، وتمددت كما يتوعد مؤيدوها، هل سيكون ذلك مجانا، أم على حساب جغرافية المنطقة وخريطتها؟
ما هي الصفقات الدولية والعربية والإقليمية التي تتم من وراء الستار تحت شعار مكافحة إرهاب داعش؟ ألا يخشى أنه كلما ازداد تضخيم داعش إعلاميا كانت المنطقة على موعد مع خازوق تاريخي من العيار الثقيل؟ ألم يتم من قبل تضخيم خطر القاعدة، ثم انتهى قائدها مرميا في البحر للأسماك؟ أليس من حق الكثيرين أن يخشوا الآن من تكرار السيناريو المعهود في سوريا ودول أخرى مجاورة تحت حجة مكافحة الإرهاب الداعشي؟ ألم يؤد ظهور داعش وأخواتها في عموم المنطقة إلى وأد الثورات العربية وأحلام الشعوب بالتحرر من الطغاة وكفلائهم في الخارج؟ ألا يؤدي إلى إنهاك المنطقة وشعوبها واستنزافها؟ هل تعلم تلك الجماعات أنها مجرد مسمار؟ هل التاريخ يعيد نفسه بطريقة فاقعة، ونحن نصفق كالبلهاء؟
وأخيرا أسألكم بعد قراءة هذا المقال المكتوب قبل أكثر من ثلاث سنوات: ألم يحدث كل ما توقعناه وكنا نخشاه؟
الاثنا عشر لاجئاً سورياً الذين عُثر على جثثهم بالقرب من الحدود اللبنانية ميّتين من البرد ليسوا إلا بعضاً من مئات يموتون دون أن يدري أحد بهم. قتلة الشعب السوري: الطقس، والجوع، والتِّيه، والنهب، إلى جانب الروس والإيرانيين وقوات الأسد و«داعش» و«جبهة النصرة». ومن لم تُهدم داره على رأسه أو يُخنق بالغاز ويُقتل عمداً في الحرب قد يموت في المخيمات أو دروب الهرب.
وإذا كنا أعجز من أن نقف في وجه قوى الشر التي تشترك في حفلات القتل اليومية، فهذا لا يعفينا من إغاثة اللاجئين، وهي في صلب مسؤوليتنا. واجبنا نجدة ملايين السوريين الذين يعيشون في أوضاع مأساوية في المخيمات والملاجئ، خصوصاً في هذه الظروف المناخية القاسية التي نرى فيها كيف أن الآلاف يسكنون في الخيام ووسط الطين والأمطار والثلوج في عشرات المخيمات في الأردن ولبنان وتركيا وداخل سوريا نفسها.
للأسف، الجماعات المتطرفة لم تكتفِ بتخريب الثورة السورية بل أيضاً أساءت إلى النشاط الخيري الذي صار العمل فيه شبهة، واضطر العديد من المؤسسات إلى التوقف، فزادت معاناة اللاجئين.
مجتمعاتنا دائماً فيها حب عمل الخير، ومن أخلاقها المروءة ومد يد العون. ولا بد من إحياء هذه الروح التطوعية من خلال مؤسسات خيرية فيها شفافية ومحاسبة بما تتيح للجميع أن يعرفوا أين ذهبت تبرعاتهم، وكيف أُنفقت.
وفي سنوات الحرب الأهلية في سوريا، وقبلها في أفغانستان والصومال والبوسنة والهرسك وغيرها، صار العمل الخيري محل الشك والملاحقة، من أجهزة الأمن الدولية، نتيجة ما تسلل إليه من جماعات إرهابية أو متطرفة وحتى من مؤسسات مشبوهة. ولقد اضطر العديد من المؤسسات إلى التوقف بسبب المضايقات، كما منعت الحكومات العديد من نشاطات جمع الأموال خشية سوء استخدامها. وبكل أسف انعكس ذلك كله على اللاجئين الذين لا حول لهم ولا قوة ولم تعد لهم من وسيلة سوى انتظار المنظمات الدولية التي أرهقتها ضخامة العدد واتساع مناطق الأزمات وتعددها.
وإيصال الأكل والملابس والخيام والإسعافات الطبية إلى مراكز اللاجئين مهمة صعبة لا تصل إلى محتاجيها بسلام. تتعرض مساعدات اللاجئين لطمع حكومات في المنطقة، يقوم بعضها باستغلالهم والمتاجرة بحاجاتهم، أو من قبل أشخاص في هذه الحكومات لا يتورعون عن نهب المساعدات.
وهذا ما جعل المنظمات الدولية تعاني من تسلط بعض مراكز القوى في الحكومات المضيفة أو التي تعبر المعونات عن طريقها.
ومن المؤسف أن نرى دول منطقتنا أصبحت تبرر تقاعسها بالاكتفاء بلوم بعضها بعضاً، للتهرب من مسؤولية مساعدة الشعوب المنكوبة في منطقتنا. عدا عن أن التطوع والتبرع من أخلاقنا وشيمنا، فإنه أيضاً جزء من شبكة التعاضد الاجتماعي والإنساني الذي يحمي دول المنطقة من ويلات المستقبل، وكل المنطقة مهددة دائماً بالحروب والمآسي، وبالتالي فإن إحياء هذه الأخلاق الحميدة ضمانة للجميع بما فيها الشعوب التي تنعم بالرخاء اليوم.
إخواننا في سوريا واليمن، وغيرهما من المناطق المبتلاة بالحروب، يعيشون كل يوم بيومه، وفي ظروف قاسية، حياتهم تقوم على ما تعطيهم إياه المنظمات الدولية والإقليمية وأهل الخير. وهم جميعاً، أي كل العاملين في قطاع العمل الخيري، يستحقون منا التقدير على استمرارهم في دعم اللاجئين ومساعدتهم. ومعظمهم متطوعون جاءوا من أنحاء العالم، وقد لا تربطهم بمن يقدمون لهم العون أي رابطة سوى الإنسانية وحب عمل الخير.
وعندما نسمع عن الذين يموتون جوعاً أو برداً نتألم، ونشعر بأننا شركاء في مأساتهم لأن بإمكاننا إغاثتهم. وليس صحيحاً أنه ليس باليد حيلة، ويكفي دولار واحد تكلفة إعاشة اللاجئ في اليوم.
ختاماً، إن العمل الجماعي والعمل التطوعي والنشاطات الخيرية من مظاهر تقدم الأمم ورقي مؤسساتها. وفي اليوم الذي ننجح فيه في الإغاثة والعمل الإنساني فإننا نثق بأننا أمة تتقدم وتسير في طريقها الصحيح.
تشي أدبيات الثورات بأنها قد تستغرق حيناً من الدهر كي تؤتي أُكلَها، وأن القليل منها هو الذي يصل إلى منتهاه ليبلغ مبتغاه. وليست بدعاً الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1977 ولم تتمكن من إسقاط نظام الشاه إلا عام 1979، إذ لم يكن التخلص من أوليغارشية الشاه وديكتاتوريته كفيلاً بالعروج بالبلاد إلى واحة الديموقراطية والتنمية. فلم تكد تمضي سنوات قلائل على طي صفحات العهد البهلوي، حتى وجد الإيرانيون أنفسهم أسرى ثيوقراطية نظام الولي الفقيه، الذي انفرد بالسلطة وباشر عملية الإقصاء الممنهج لبقية التيارات السياسية والفكرية التي صنعت ثورة الشعب. ومنذ الثامن والعشرين من الشهر الماضي، تترنح إيران على وقع موجة ثورية تصحيحية للثورة الأم، وإن بدت محفوفة بمخاوف جمة وهواجس شتى من أن تتمخض، إذا ما نجحت في إسقاط نظام الولي الفقيه من دون أن تقدم بديلاً مدنياً ديموقراطياً، عن إفساح المجال أمام الحرس الثوري لانتزاع الحكم بذريعة ملء الفراغ السياسي، الأمر الذي يفضي إلى إعادة إنتاج التسلط والقهر بحيث يجد الإيرانيون أنفسهم وقد انتقلوا من سطوة الثيوقراطية الدينية الفاشية، إلى ربقة الديكتاتورية العسكرية المتسلطة بقيادة الحرس الثوري.
فمنذ خلافة خامنئي الخميني عام 1989، تنامى وتشعّب دور الحرس الثوري، المساند للمرشد الجديد المضطرب، في شكل لافت. فالحرس يهيمن على ما يفوق 40 في المئة من اقتصاد البلاد بعدما بات أكبر المستفيدين من سياسة الخصخصة التي أتاحت تحويل قرابة 90 في المئة من المؤسسات والمشاريع الحكومية إلى شركات تابعة له وللمرشد. كما بسط هيمنته على إمبراطورية اقتصادية ضخمة تتضمن شركات للنفط والتجارة وصناعة السلاح وغيرها، الأمر الذي مكّنه من تطوير منظومة ضمَنت له ولاء ملايين الإيرانيين، الذين خرجوا بعد أسبوع على اندلاع الاحتجاجات الأخيرة في تظاهرات مضادة لتأييد الطغمة الحاكمة والتنديد بالمعارضين. ونجح الحرس الثوري في نشر رجاله في مواقع حساسة ومناصب مهمة في مؤسسات الدولة. كما أحكم سيطرته على البلاد بعدما تفاقمت قدراته العسكرية والأمنية والاستخبارية، التي ترتكن إلى منظومة عتيدة تتمثل في: مجمع صناعي عسكري، مؤسسات إعلامية، ثلاث وكالات استخبارية منفصلة، موالاة قوات الباسيج وتنظيمات مدنية مدرّبة، فضلاً عن الإشراف على العمليات العسكرية والسياسات التدخّلية في الخارج. وبمرور الوقت، ومع تعاظم دوره في قمع الموجات الثورية المتتابعة التي هزّت البلاد طيلة العقود الأربعة المنقضية؛ بغية تصحيح مسار الثورة الأم، بدأ الحرس الثوري يتطلع إلى ترجمة نفوذه المتعاظم داخلياً وخارجياً، إلى حضور طاغ في معادلة السلطة والحكم، ربما يلامس الحلول محل الملالي، محاولاً استثمار الفراغ السياسي الذي من المحتمل أن يحدث جراء غياب البديل المدني المناسب.
وتوخياً لبلوغ غايته تلك، لم يدخر قادة الحرس وسعاً في إجهاض الموجات الثورية التصحيحية. واليوم، لا يتوانى الحرس عن تقويض الموجة الثورية الأخيرة، بعدما تجاوزت الخطوط الحمر وتحدّت التهديدات والتحذيرات بتصفية المشاركين فيها، كما طالت التابوات السياسية بتوجيهها الانتقادات للخميني، مؤسس نظام الولي الفقيه، ومطالبتها بالموت والسقوط للمرشد الحالي والرئيس روحاني وقيادات الحرس الثوري.
ولما كان الحرس الثوري هو المعني بصيانة التوجه الإسلامي للبلاد وحماية نظام الولي الفقيه، فقد أبت قياداته إلا مواصلة عملية التجريف الممنهجة للتربة السياسية الإيرانية وتجفيف روافد طبقتها السياسية عبر عمليات القمع والإقصاء المتواصلين لرموز النخبتين الفكرية والسياسية، متوسلة بتقويض أي بديل مدني. وحرص الحرس الثوري على تجاوز اختصاصاته وانتهاك الدستور عبر الاضطلاع بدور مركزي في اختيار خليفة المرشد الحالي، الذي يحاصره الدهر وينهكه الداء العضال، من خلال الدفع برجل الدين المتشدد إبراهيم رئيسي، الذي سبق للحرس أن دعمه خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة ضد روحاني. وعلى رغم تواضع مؤهلاته وجهوزيته لتولي المنصب، إلا أن علاقة رئيسي القوية بالدولة العميقة وموالاته المطلقة للحرس الثوري، كفيلتان بتعزيز فرصه في اقتناص أرفع منصب ديني وسياسي في البلاد، ليكون ستاراً لزحف الحرس صوب تحقيق غاياته. وإذا ظلّت الساحة السياسية الإيرانية مفتقدة لتيار مدني ديموقراطي بمقدوره تقديم بديل أفضل، فلن يكون عصياً على الحرس الثوري بلوغ مآربه في استغلال الموجات الثورية التصحيحية المتتابعة للانقضاض على السلطة يوماً ما. وحينئذ لن يكون بمقدور ثورة إيران التعسة والممتدة أربعة عقود، النجاة من التيه.
انتظر السوريون وبعض الأميركيين طويلاً حتى تتوضح السياسة الأميركية في سورية. عام كامل مرّ والإدارة الجديدة تتصرف حيال سورية في شكل ملتبس وغامض ومتناقض.
يتصارع في واشنطن حيال المسألة السورية تياران: الأول يمثل سياسة الرئيس السابق أوباما وينفذها أشخاص أبقاهم الرئيس ترامب لسبب غير واضح في إدارته، بينهم السفير مايكل راتني وممثل الرئيس الأميركي للتحالف الدولي لمكافحة داعش بريت ماكغورك، ومساعد وزير الخارجية ديفيد ساترفيلد. التيار الثاني غير متجانس ولا واضح الهوية ويمثله بعض الموظفين في الخارجية الأميركية والبيت الأبيض، وقد يكون الأبرز بينهم مستشار الرئيس للأمن القومي هربرت مكماستر. التيار الأول حريص على بقاء الأسد، همّه الأساس محاربة داعش وإرضاء الروس وإيجاد معارضة سورية لطيفة ومن دون أسنان تقبل بحل، ليس في منتصف الطريق، بل في ربعه أو خمسه أو عُشْرِهِ. الفريق الثاني يرى في الأسد سفّاحاً لا يمكن التعايش معه، ولا يمكن تصور مستقبلي لسورية بوجوده، ولكن هذا الفريق يفتقد السياسة والخطة لتحقيق ذلك. الأربعاء الماضي، وضع وزير الخارجية تيلرسون بعض النقاط فوق بعض الحروف في مجال سياسة أميركا السورية. والخلاصة انحسار الدور الأميركي من دور قيادي رائد إلى دور الطامح في حصة من الكعكة السورية. باختصار، تتكثف السياسة الأميركية حيال سورية في خمس نقاط:
- حليف أميركا الرئيسي هم الأكراد (في استنساخ لتجربة العراق عندما استنسبوا من بين كل مكونات الأمة العراقية الشيعة فقط)،
- بعد هزيمة داعش ستركز الولايات المتحدة على إيران،
- لن تخرج القوات الأميركية من شمال شرقي سورية،
- لن تسمح الولايات المتحدة بالمساعدات الدولية لإعادة البناء في أي منطقة تحت سيطرة نظام الأسد،
- والانتخابات الحرة والشفافة، بما في ذلك مشاركة المغتربين السوريين وجميع الذين أجبروا على الفرار من النزاع، بما يؤدي إلى رحيل الأسد وأسرته عن السلطة.
ولا بأس ببعض الرتوشات هنا وهناك، فبعد الاعتراف بـ «التضحيات الكبيرة التي قدمتها قوات سورية الديموقراطية في تحرير السوريين من داعش»، لا بأس من المطالبة بدور ما «لجميع المجموعات والإثنيات التي تدعم التحول السياسي الأوسع في سورية». ولا بأس بتوجيه كلمتين أو ثلاث للبلد الحليف والعضو في حلف الناتو، تركيا.
ولا بأس أيضاً في التنويه بمناطق خفض التصعيد لا في الجنوب السوري أو المرور مروراً عابراً على ما يجري في الغوطة وإدلب، من دون التأكيد على دور المعارضة السورية في المفاوضات السياسية.
لم يذكر تيلرسون كيف يمكن لسبعة ملايين لاجئ مشتتين في أربع أنحاء المعمورة أن يدلوا برأيهم، ولم يلمح إلى كيف ستمكن مواجهة حزب البعث والأجهزة الأمنية والميليشيات الطائفية وبقايا جيش الأسد أثناء المرحلة الانتقالية. لم يدْلِ برأي في شكل العملية الانتقالية ولا في مضمونها وحدودها.
والرجل يريد إخراج إيران من سورية. ثمّة في واشنطن نشاط كبير في موضوع «قصقصة» الدور الإيراني في المنطقة، وتجد هذه النقطة تأييداً واسعاً في أوساط الكونغرس والصحافة والكثير من مجموعات الضغط الأميركية. ويبدو أن التيار الجديد في الإدارة يشتري أيضاً هذه القضية ويدعمها، بيد أن المشكلة أن الجميع يفتقد الخطة والوسيلة.
فكيف سنُخرج إيران من سورية، إذن؟ يرى تيلرسون أن «تقليص النفوذ الإيراني الخبيث» في سورية يعتمد على سورية ديموقراطية. فلسنوات عدة، كانت سورية تحت حكم بشار الأسد دولة مرتهنة لإيران. ولكن حكومة جديدة «لا تخضع لسيطرة الأسد ستكون لها شرعية جديدة لتأكيد سلطتها على البلاد»، بالتالي فإن ذلك، إلى جانب جهود تخفيف التصعيد وتدفقات جديدة من المساعدات الدولية، سوف «تخفض العنف وتهيئ ظروفاً أفضل للاستقرار وتسرّع رحيل المقاتلين الأجانب».
وتبقى كلمة السر هي روسيا. فلا شيء يمكن أن يحدث من دون أن «تقنع» روسيا الأسد لينخرط في شكل بنّاء في عملية جنيف»، ومن ثم، ربما، إقناعه بالرحيل طوعاً؟ وإحدى الطرق التي يمكن لروسيا أن تفعلها هي «ممارسة نفوذها الفريد على النظام السوري، الذي وافق هو نفسه على المشاركة في عملية جنيف». ويجب على روسيا أن تزيد من ضغطها على النظام «ليشارك في شكل موثوق في جهود الأمم المتحدة وتنفيذ النتائج المتفق عليها».
إذا افترضنا حسن النية، فإن الرؤية الأميركية تعاني من سذاجة وطيبة زائدة، وهي سذاجة ليست غريبة كلية عن السياسة الأميركية، على أية حال. أما إذا افترضنا سوء الطوية، فمجمل الحكاية أن الإدارة الأميركية انحدرت إلى مستوى الحصول على حصة من الكعكة. وهذا السلوك سيساهم فقط في إطالة عمر الأزمة، مع تغير في موازين القوى، فسورية سوف تكون بعد الآن مقسمة بين ثلاثة أقطاب: الروس والإيرانيين في معظم الأراضي السورية، الأميركان والأكراد في شمال شرقي سورية، وتركيا في شمال غربها. أما شكل الصراع المقبل فقد يتغير من صراع ضدّ النظام إلى صراع دموي بين العرب والكرد في الجزيرة والفرات.
لقد كان بإمكان الولايات قبل شهور أن توقف المدّ الإيراني من الاقتراب من نهر الفرات واحتلال مواقع متقدمة على الحدود السورية- العراقية، من خلال تفعيل خطة المعارضة السورية– قبل اجتماع الرياض 2. ولم يكن إيقاف تقدّم قوات النظام السوري وميليشياته الإيرانية مستحيلاً وقتها. ولو أنها اتخذت هذا المنحى، لوفرت على نفسها وعلى السوريين الكثير من الألم والمشقّة. بيد أنّ واشنطن آثرت استبعاد المعارضة من خطتها لتحرير الرقة ودير الزور وأصرّت على التحالف مع طرف سوري وحيد هو قوات سورية الديموقراطية التي يسيطر عليها أكراد سورية القريبون من حزب العمال الكردستاني.
دخلت الولايات المتحدة كلاعب كامل الأهلية والدور والوظيفة في تحديد راهن سوريا كما مستقبلها. بات البلد مهما لاستراتيجية الأمن القومي الأميركي بعد أن جعلته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما متراجعا في سلم الأولويات التي تشغل بال واشنطن. أضحت سوريا موقعا أساسيا في خرائط البنتاغون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض في المنطقة، وجزءا من التحولات التي طرأت على المزاج الأميركي العام حيال باكستان وإيران، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان.
لم يعد سرا أن الجيش الأميركي يملك ما لا يقل عن ثماني قواعد عسكرية في سوريا ينتشر معظمها شرقا في الجهة المقابلة لقاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين في الغرب. ولم يعد سرا أن لا تردد في القرار الاستراتيجي الأميركي القديم الجديد بالاستناد على القوى الكردية لبسط النفوذ الأميركي القادم في سوريا. والظاهر أن أولي القرار العسكري والسياسي والأمني في الولايات المتحدة لم يحتاروا كثيرا في التفضيل ما بين “قوات حماية الشعب” الكردية وتشكيلاتها الرديفة (قسد وغيرها) من جهة/ وما بين الحلف التاريخي الأطلسي مع تركيا من جهة أخرى.
راوغت واشنطن طويلا وأجلت المواجهة مع أنقرة، لكن مصالح واشنطن باتت تميل نحو أكراد سوريا حتى لو كانت مرجعيتهم عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في تركيا، وحتى لو كانت قيادتهم الحقيقية تسكن جبال قنديل الشهيرة شمال العراق.
تذهب الإدارة الأميركية بعيدا في انتهاج خيارات مفاجئة ضربت الطاولة البليدة للشرق الأوسط وأربكت فاعليها. لم تعد أنقرة ترى تميزا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة عن تلك الكارثية بين طهران وواشنطن. تستضيف ولاية بنسلفانيا الأميركية فتح الله غولن العدو الأول للرئيس التركي رجل طيب أردوغان. تماطل واشنطن في إعطاء رد على طلبات أنقرة التي لا تنتهي بتسليمها من تتهمه بأنه زعيم “الكيان الموازي” المتهم بتدبير محاولة الانقلاب الشهيرة في 15 يوليو 2016، وتعد بدرس هذا الطلب قريبا. في تركيا من يرى أن سلوك واشنطن مع غولن يتعدى الاستضافة إلى ما يشبه الرعاية والتواطؤ الملتبسين.
على أن إعلان واشنطن عن ورشة كبرى لإقامة قوة كردية قوامها 30 ألف مقاتل للدفاع عن الحدود الشرقية الشمالية في سوريا يقدم الأعراض الأولى لما ترسمه الولايات المتحدة في سوريا ما بعد داعش. بدا أن الإدارة الأميركية تفرش خيمة أميركية فوق حدود جغرافية سيتجمع الأكراد داخلها ليمارسوا إدارتهم الذاتية المتوخاة. لا شيء يمنع من تطور تلك الإدارة إلى كيان مستقل في عرف الوجدان الكردي، على الرغم من صعوبة ذلك وفق السابقة التي تم إجهاضها في إقليم كردستان العراق. وبدا أيضا أن ما تريده واشنطن للأكراد يرسل إشارات قاسية صوب كافة اللاعبين في الميدان السوري، لا سيما روسيا- بوتين.
حراك عسكر واشنطن في سوريا لا يجري عن هوى، بل هو واجهة من واجهات سياسة خارجية في سوريا تتكشف أوراقها يوما بعد آخر
تفصح المناورة الأميركية في شقيْها العسكري الميداني والسياسي الدبلوماسي عن عزم على استعادة زمام المبادرة في سوريا. والأمر يتجاوز الحسابات السورية لينبسط باتجاه ما تدبره واشنطن في العراق وما تحيكه من خطط لمواجهة إيران في كل المنطقة. ضمن هذا السياق تعود موسكو لتستفيق على وضع جديد يحرمها من موقع الريادة الذي تمتعت بـه في السنوات الأخيرة.
لم تعد سوريا بالنسبة لبوتين منبرا عاليا يطل منه على العالم أجمع، ولم يعد بالإمكان تنظيم تعايش يشبه الشراكة بين روسيا والغرب في سوريا، يكون بديلا عن فضاء التنافر داخل الميدان الأوكراني. لم تستطع المنابر الروسية العسكرية الرسمية كتم دهشتها من فرضية أن مخالب أميركية كانت وراء الغارات الجماعية التي شنتها 13 طائرة مسيرة ضد قاعدتي حميميم وطرطوس. حتى أن وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الذي احترف الحنكة مع نظيره الأميركي القديم جون كيري إبان الإدارة السابقة، بدا فاقد الحجة متلعثم اللسان في تفسير ذلك الانقلاب المقلق في استراتيجية واشنطن السورية.
قد تكون إيران في هذه الأيام هي أكثر المرتاحين للتطور الأميركي في سوريا. استفاقت طهران لتجد نفسها في خندق حقيقي واحد مع روسيا وتركيا، ولتلاحظ، للمفارقة، مدى التناغم الجاري هذه الأيام بين نظام أنقرة ونظام دمشق.
تعرف طهران أن أمر التحالف هذا ظرفي انتهازي مؤقت، وأن تسويات قد يتم إدراكها بين واشنطن وكل من أنقرة وموسكو، وأن تلك التسويات لا بد أنها ستأتي على حساب إيران في كل المنطقة.
خلال ساعات اختلطت أوراق كثيرة في سوريا. تكتشف موسكو أن تقدمها متحالفة مع إيران ونظام دمشق داخل محافظة إدلب لم يغضب الأتراك فقط، بل فقد كل معانيه حين أطل الأميركيون ملوحين بألويتهم الكردية شرق البلاد. خلال ساعات فقط تحوّل السجال بين أنقرة وموسكو وطهران إلى سجال بين الجميع وأصحاب الحل والربط في واشنطن. بات نظام الأسد يهاجم أمر القوة الكردية من بوابة الدفاع عن وحدة سوريا، فيما توعد نظام أردوغان ذلك المشروع بصفته تقسيميا لسوريا. وبين هذا التصريح وذلك الموقف يطل وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون متأبطا ملفا سميكا يوحي أن حراك عسكر واشنطن في سوريا لا يجري عن هوى، بل هو واجهة من واجهات سياسة خارجية في سوريا تتكشف أوراقها يوما بعد آخر.
يكتشف السوريون أن لواشنطن خطة سورية. قيل إن نصر الحريري رئيس وفد المعارضة السورية إلى جنيف، حين زار نيويورك، سمع من أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس كلاما حازما في شأن سوريا يَعدُ بجهد دولي قادم باتجاه تسوية التغيير في سوريا. قيل أيضا إن كواليس واشنطن تتحدث بلهجات راديكالية ضد نظام دمشق بما يقوّض كل الهمم التي تبذلها روسيا لإيجاد حل دمشقي الهوى في سوتشي. تفصح منابر الإعـلام عـن اجتماعـات أوروبيـة غربية جـرت في واشنطن واستكملت في باريس من أجل إخراج خطة يتم التجادل بشأنها مع موسكو لإخراج سوريا من أتون النار والعبث الحالي.
وعلى قاعدة الاختراق اللافت الذي تعمل عليه واشنطن في سوريا يتسابق جنيف وسوتشي على خطب ود الفرقاء السوريين. سوتشي لا تحظى برعاية الأمم المتحدة ودون ذلك فإن ما قد يخرج من مداخن بوتين هناك لن يحظى بغطاء دولي يفرج عن التمويل الدولي لمشاريع الإعمار في هذا البلد.
عادت ميادين سوريا لتفاجئ اللاعبين. أظهرت معارك الغوطة، كما غارات الدرون كما دينامية الفصائل في إدلب كما التطور الكردي شرقا، أن أمور سوريا تعود لمربعات أولى خُيّلَ للمراقب تجاوزها. بدا أن التواصل القريب بين تيلرسون ولافروف، كما ذلك الذي جرى بين رئيسي الأركان الأميركي والتركي على هامش اجتماعات الحلف الأطلسي، بمثابة إعلان نوايا أميركي جديد وجب على كافة الأطراف أخذه بعين الاعتبار.
فإذا ما قرر ترامب تأجيل الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران طالبا من شركائه الأوروبيين إيجاد صيغ لإصلاح ما أفسده هذا الاتفاق، فذلك أن رجل البيت الأبيض يعوّل على حضور عسكري وسياسي أميركي في سوريا والعراق يطل مباشرة على دوائر النفوذ الإيراني في البلدين.ش