بوش وبوتين.. ما أشبه أمس باليوم
ما أشبه اليوم بالأمس! جورج دبليو بوش الذي وصفه بعضهم أغبى رئيس أميركي أعلن انتصاره في العراق، لكن العراق استمرت علله، واستمر معه الاستنزاف الأميركي والنفع الإيراني. واليوم يعلن الرئيس الروسي، الذي يصفه بعضهم أذكى رئيس روسي، "انتصاره" في سورية.
ونتيجة إعلانه قد تكون أكثر هولاً وكارثية في كل الاتجاهات، وفي مقدمتها موسكو، وخصوصا على "المنتصر"، وعينه الداخلية على "الرئاسة" الرابعة، والخارجية على إزاحة نفسه من ملفاتٍ مضنيةٍ، يحملها على كاهله الشخصي، تحدد وجوده ومكانة روسيا في الساحة الدولية. وإذا ما عرفنا أن أيّا من هذه الطموحات والهموم لم تكن هواجس لجورج دبليو بوش، لاستخلصنا أنه حتى ذلك الغبي تفوق على هذا الذي يصفونه ذكيا، وهذه مفارقة تثبت حجم التباين بين من رافعته مؤسسة ديمقراطية ومن رافعته عصابة دكتاتورية تلعب بمصائر الشعوب وتتلاعب بها.
عندما استشعر بوتين موافقة أميركية نصف معلنة على أن يده هي العليا في القضية السورية، وقع في شرك جمع المتناقضات في توليفية جهنمية شبه مستحيلة:
إيران بمشروع إقليمي لم يكتمل؛ عماده بقاء نظام الأسد قتل شعبه، يحتاجها قوة ميدانية ليترجم على الأرض ما يفعله من إجرام في السماء السورية، وتحتاجه للوقوف في وجه أميركا وأوروبا، وفي الجو لتقتل وتدمر ما لا تقدر عليه. تركيا مهدّدة بأمنها القومي، تتراقص على صفيح ساخن بين تحالف "ثانوي" تاريخي وإغراء بوتيني مستجد؛ يحتاجها استراتيجياً...، وتحتاجه أمام إدارة ظهر غربية مهينة وضامنة لمن يعكّر جنوبها. إسرائيل التي تتمتع بخراب محيطها، وتستشعر الأمان الذي لم تعشه تاريخياً؛ يحتاجها ربيبة محظية لدى أميركا، وتحتاجه لمزيد من الخراب في محيطها. والرابعة التي جعلت بوتين يُحشر بتوهمه، أميركا؛ وخصوصا تذبذبها بين النأي بالنفس عن الملف السوري وثماني قواعد في سورية وتحالفات تقض مضاجع أحد المتحالفين مع روسيا (تركيا تحديداً) وصولاً إلى إيصاله إلى حالة التوتر، عندما يطالب علناً بخروج أميركا من سورية بقوله إن وجودها غير شرعي، لأنها لم تأخذ موافقة الحكومة السورية " الشرعية" كما فعل هو. لتزيده تصريحات أميركا توتراً عندما تجيبه بأنها باقية، طالما لم يحدث انتقال سياسي في سورية، الأمر الذي ينسف كل ما يريده بوتين، أو يتمناه، فتراه يسارع إلى سلق "حل سياسي" سعى على الدوام إلى توقيه، إلا بالطريقة "البوتينية"، أي إنجاز السياسات بالطريقة العسكرية. وهنا يجعل بوتين نفسه يتراقص بين إرضاء الحلفاء الأعداء ومصالحهم المتناقضة المريضة وطموحاته المشابهة؛ لكن الغبيّة.
وهكذا؛ ويوماً بعد يوم، تتكشف ضحالة القدرات الروسية السياسية، فأميركا لم تمانع إجهاض بيان جنيف 1 واستيلاد قرار مجلس الأمن الملغّم 2254، ولا هي مانعت القفزة الروسية البهلوانية إلى "أستانة"، تاركة إياها تلعب في عالم التكتيك، بإعطاء وعود التهدئة، وإنجاز المواد الإنسانية في القرار 2254 لتنكثها بيدها ويد من تحميهم من حلفائها. وأخيرا، تتركها تقفز من أستانة إلى سوتشي "عارفة بأنها بيدها أيضاً ستقتل مشروعها الجديد، عندما لا يكون أمامها إلا إطلاق تصريحات تجهض "سوتشي" سلفاً بوضع شروط منسجمة مع تكتيكاتها، فتراها تحدّد قوائم مدعوي مؤتمرها إلى " حوار وطني"، وتطلب من شركائها في "ضمانات" أستانة، ليحدّدوا قوائمهم. وهنا تجد أميركا تنتظر حدوث التناقضات والتباينات والرفض، وتنتظر الأمم المتحدة أن ترفع أي غطاء محتمل لذلك المؤتمر، جاعلة ما يدعو إليه بوتين مؤتمراً روسياً خاصاً لشرعنة الاحتلال والاستبداد.
هذا ما يحدث تجاه إعلان "الذكي" بوتين "نصره" في سورية، كثيرون يحولون دون إعلانه تتويج نصره في سوتشي، فليست أميركا الوحيدة التي تنغص عليه إعلان ذلك الانتصار المزعوم. إنها الأوراق التي طالما راهن بوتين على أنها أوراق قوة وابتزاز بيده، إلا أنها تتحول إلى أعباء ومعرقلات أساسية في إعلانه إياه، فالورقة الإيرانية التي أراد بوتين ابتزاز العالم بها لم تتحول فقط إلى عبء عليه، بحكم العين الحمراء العالمية تجاه إيران ومشاريعها الإقليمية التخريبية، بل أصبحت تلك الورقة بالذات معرقلاً لمشروعه ذاته. فمهما كانت موسكو قادرةً على ابتلاع الوهم والتدليس، وتبليعهما، إلا أنها لا بد تستشعر أن إصبعاً واحدة من يدها تمسك بالساحة السورية، والأربع الباقية تكبلها إيران وتركيا ونظام الأسد وأميركا وإسرائيل وأوروبا، فلا هي قادرة على فك مخالب أولئك من الجسد السوري، ولا هي تستطيع إدارة الظهر لها. والمفارقة العجيبة، على سبيل المثال، تلك الورقة الأسدية؛ التي طالما حلمت موسكو بالمصادقة عليها، وبسعر مرتفع؛ تراها بلا سوق ولا قيمة، إضافة إلى أنها مرتهنة إلى كذا جهة؛ وشريكها (أي شريك موسكو) أردوغان يعود إلى أسطوانة المطالبة بركلها جانباً، عندما يصف الأسد بالإرهابي والقاتل شعبه.
من حق موسكو أن تشعر بالتوتر، هي من وضعت نفسها في هذا الموقع. تجيد القتل والتدمير؛ لكن الاستعراض والتدليس و"الذكاء" يبقيها في عالم التكتيك الذي يجيد استخدام آلة القتل، لا آلة السياسية لإنجاز الأهداف الكبيرة.
هناك من يقول لموسكو وبوتينها " كل مغامرة وأنت قوة إقليمية كبيرة". قالها أوباما يوماً إن روسيا قوة إقليمية كبيرة؛ لكن هذه القوة تصغر بسبب ذكائها.