مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٩ فبراير ٢٠١٨
عن غرامنا بالجثث

ماذا لو كنت شاباً سورياً وتعرّضت أختك أو زوجتك لاغتصاب ممنهج في سجون الأسد؟ من المحتمل طبعاً أن هذا الشاب سينجو بحياته، وسيحاول فتح صفحة جديدة في بلد آخر، بل سيحاول نسيان بلده الأصلي بالمطلق عسى أن ينسى تلك الشوكة في قلبه. ومن المحتمل بالطبع أن يكون الشاب نفسه "لا أخته" هو من تعرّض للاغتصاب والتعذيب المنهجيين، مثلما من المحتمل في الحالتين ألا يرى العالم إلا من خلال الانتهاك الفظيع الذي خضع له، وأن ينظر بعين المساواة إلى جسد قريبته وأجساد العالم جميعاً، أي أن ينظر إليها كأشياء وكوسائل للانتقام فحسب.

ماذا لو كنت سورياً ورأيت جثة أحد من عائلتك، ضامرة هزيلة مثقوبة بالتعذيب، ضمن الصور التي كُشف عنها في ما يُعرف بقضية سيزار عن القتل تحت التعذيب في سجون الأسد؟ ثمة احتمال بالطبع لأن يرى هذا الشاب خلاصه في البحث عن العدالة والسعي إلى محاكمة المجرمين، لكن، ثمة احتمال لا يقل وجاهة لأن يتحول إلى منتقم يريد تحويل كل ما يمت بصلة لأولئك القتلة إلى جثث على النمط نفسه الذي شاهده في صور سيزار.

ماذا أيضاً لو رأيت جثة أخيك المقاتل ضمن جثث مصفوفة في شاحنة كأنها قطع من السردين تجول في شوارع مدينة عفرين، ويقوم عناصر من الميليشيات الكردية أو أناس عاديون بالتقاط الصور التذكارية مع جثة أخيك؟ طبعاً من المرجح في هذه الحالة أنك تضع احتمال مقتل أخيك في الحسبان، بصرف النظر عن عدالة حربه أو عدمها، أما التقاط صور الـ"سيلفي" معها فشأن آخر قد لا تتسامح معه مثل التسامح مع الموت.

وإذا صادف وكنت قريباً للمقاتلة الكردية بارين كوباني، أو تجمعك بها عصبية من أي نوع، فلا شك أن منظر جثتها العارية والدوس فوقها مع التعليقات المخزية غير الإنسانية من قاتليها، كل هذا قد يجعل العدالة آخر ما تفكر فيه، ولا يُستبعد أن يكون الثأر أول خاطر يجول في ذهنك، أو حتى أن تتمنى لو تلوك جثث أولئك القتلة بأسنانك.

هذه الأسئلة والافتراضات لا تنصرف إلى الضحايا الذين قُتلوا وتم التنكيل بهم، بل تنصرف أساساً إلى الذين يُعرفون قانونياً بالضحايا من الدرجة الثانية أو الثالثة، مع التنويه بأن عدداً هائلاً من الضحايا لا يقع ضمن هذا التصنيف، وهم ضحايا الجو العام للعنف والوحشية من دون التعرض لهما مباشرة أو عبر أحد الأقارب، يستوي في ذلك أكانوا رمزياً من جهة المقتولين أو من جهة القتلة. ويلزم التنويه بأن هذه الممارسات باتت توصف بالداعشية بما يحرف الأنظار عن نقاش موضوعي فيها، فأول من ذبح الناشطين والأطفال بالسكاكين في مجازر عديدة كانوا شبيحة الأسد، وأول من التقط الصور مع الجثث بتباهٍ كان مذيعو ومذيعات الأسد، وهذا كله مسجّل وموثّق قبل الطارئ الذي مثّله وجود دولة داعش واستمر أثناء وجود التنظيم وبعد القضاء عليه. ممارسة العديد من الأطراف لهذه الفظائع تنزع عنها الصفة الدينية، وهي للحق ممارسات وجدت من قبل ولم تلتصق بمذهب أو دين أو قوم.

ولأن هذه الممارسات لم تختص بها جماعة بشرية عبر التاريخ، وفي الوقت نفسه شهدت ازدهاراً في العديد من الصراعات، سيكون من الأفضل تحري ذلك الغرام بالجثث، أو الغرام بسحق الجسد البشري واغتصابه بمختلف الطرق حياً. فالقتل هنا هو تفصيل ثانوي، بل يكاد يكون الأشد هامشية بالمقارنة مع التنكيل، وفي كثير من الحالات يكون القتل رحمة قياساً إلى التنكيل ذاته. وما يزيد الأمر سوءاً وجود مختلف الأسلحة الحديثة التي تجعل القتل أكثر رأفة بالقاتل نفسه، من منطلق أن القتل يصبح أسهل كلما كانت الضحية بعيدة عنه، إلا أن قتلتنا لا يريدون ترك مسافة بينهم وبين الضحايا، بل يريدون التأكيد على تماسهم الفيزيولوجي مع الضحية من منطلق استهتارهم التام بها، أو على نحو أدقّ من منطلق استهتارهم التام بالمجموعة البشرية التي تنتمي إليها الضحية.

هذه الوحشية القصوى كانت تاريخياً سمة حروب الإبادة والاستيطان، وكانت دائماً سمة الحروب الأهلية التي يكون هدفها عادةً محو الآخر من الوجود، أو تقليل وجوده البيولوجي إلى الحد الأقصى. في هذه الحروب يكون سحق الآخر نفسياً وجسدياً من طبيعة الحرب، بمعنى عدم إمكانية ردّ هذه الممارسات إلى اختلالات شخصية للمحاربين، وكل ما أضافته العصور الحديثة من قوانين حرب ومن إعلانات عن التقيد بها لم تعدّل من منسوب الوحشية في هذا النوع من الصراعات. غاية الوحشية بهذا المعنى أيضاً هي قطع الطريق نهائياً على احتمالات السياسة أو التعايش، وبهذا تلتقي مع أحد تمظهرات النيكروفيليا وفق علم النفس وهو الوجه الذي يرى في القوة والدمار حلاً لأية مشكلة، فضلاً عن تلازم اعتماد القوة مع الإحساس الشديد بالتملك وعدم قبول منطق المشاركة مع الآخر.

سحق الضحايا والتنكيل بأجسادهم، أو التنكيل عبرها بجماعاتهم، لا يحدث عادة في المعتقلات أو في ميدان المعركة فحسب. إنه يحدث أولاً بتهيئة القتلة، وبتهيئة المناخ العام الذي سيتقبل أفعالهم بترحاب، أو على الأرجح سينظر إليها كنوع من البطولة سراً إن لم يكن علناً. في حالتنا السورية كان هذا يحدث طوال الوقت وبسخاء قلّ نظيره، ومن المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي "بخلاف تسميتها الأصلية" كانت الميدان الأنسب لاستباحة الآخر معنوياً والتهيئة لاستباحته فعلياً. فعلى صفحات التواصل الاجتماعي حدثت تغطية أشنع الأفعال ومباركتها وإيجاد مبررات لها، وحتى حينما كان يجري إنكارها في بعض الأحيان كان هدف الإنكار هو سحق الضحية مرة أخرى بالقول ألا وجود لها كضحية أيضاً، أو أنها لا تستحق شرف أن تكون ضحية. ذلك يشبه تماماً أن تقوم قوات الأسد باستخدام السلاح الكيماوي ثم تنكر استخدامه، رغم معرفة العالم كله بكذبها ورغم تقديم أدلة حاسمة على استخدامه، فالغاية هنا ليست التهرب من المسؤولية عن الإبادة وإنما سحق الضحية مرة أخرى بإنكار وجودها.

الحق أنه، إذا أخذنا في الحسبان حملات الإبادة والتنكيل على وسائل التواصل الاجتماعي، ستبدو الحصيلة الواقعية من التنكيل أدنى من المتوقع، باستثناء التنكيل المنهجي الذي يقوم به تنظيم الأسد ويتغاضى عنه العالم. ذلك يعني أن كل ما شهدناه حتى الآن، أو ربما ما لم نشهده لأنه بقي بعيداً عن التصوير، لا يعبّر بما يكفي عن غرام أعمّ بالجثث، ويعني على الأرجح أننا قطعنا مسافة بعيدة عن بوابة الجحيم.

اقرأ المزيد
٩ فبراير ٢٠١٨
عقدة الحل في سوريا

يدرك السوريون أن ثورتهم من أجل الحرية والكرامة أصبحت حدثاً هامشياً، فقد تطور الصراع من تظاهرات عفوية ضد سطوة أجهزة أمن النظام إلى تصفيات دولية بين القوى الكبرى في العالم. وتحول السوريون في المشهد الدولي الراهن إلى ضحايا، دورهم في المسرحية التراجيدية أن يموتوا، بينما يتنافس الكبار على لعب دور البطولة في قيادة العالم. ولا أحد يصدق أن روسيا دخلت إلى سوريا بكامل قواها العسكرية من أجل الدفاع عن الأسد أو نظامه، فهي في الحقيقة تصارع الغرب كله، وتتقن شروط اللعبة، بأن يكون الضحايا من الكومبارس السوري الذي يشكل الأغلبية السكانية على الضفتين. وأما إيران فهي تنفرد وحدها بمشروع توسعي بين الدول المتصارعة وتقضم الأمة العربية ضمن خطة منهجية محكمة، فبعد أن استولت على العراق ولبنان، وجدت في انهيار الأمة فرصة سانحة لقضم سوريا واليمن معاً، وهي تتابع مشروعها غير عابئة بالتهديدات الأميركية التي لم تتوقف.

أما الولايات المتحدة التي تبدو مترددة في رسم توجهاتها، فهي الغائبة الحاضرة في القضية السورية، وقد بدا غيابها نوعاً من التخلي عن مبادئ كبرى مثل حقوق الإنسان التي بات الإنسان السوري يطلب أقل من أدناها، فقد علق بعض السوريين إثر تركيزها الإعلامي على التهديد بخطورة تكرار استخدام الأسلحة الكيماوية، بقول ساخر «ليس بالكيماوي وحده يموت السوريون» وكانت الاتفاقية التي وقعت في فيتنام بين الرئيسين ترامب وبوتين اهتمت بالتنسيق بين طائرات البلدين في سماء سوريا، واختصرت حل القضية السورية في الدستور والانتخابات، وهذا ما فعله الروس في سوتشي، وما ركزت عليه ورقة اللاورقة التي قدمتها الدول الخمس في باريس، وكلا الحلين المقترحين (شوتشي واللاورقة) يتجاهلان العقدة الرئيسة للحل النهائي في سوريا وهي موضوع بقاء الأسد أو رحيله.

ويدرك أكثرية السوريين أن قادة العالم يعرفون جيداً أن بقاء الأسد يعني بقاء الصراع واستمراره لعقود طويلة، فليس بوسع الأسد أن يستعيد سلطته إن لم يستخدم مزيداً من العنف والقمع، وهذا لا يوفر أمناً واستقراراً مهما بلغ حد العنف. كما أن الشعب الذي أسقط جدار الخوف وضحى بمليون شهيد، وتعرض لهجرة غير مسبوقة في تاريخه، لن يرضخ لحكم طائفي لا يستطع الأسد التخلي عنه، فهو العضد الذي يشد أزر النظام منذ خمسين سنة، وليس بوسع النظام أن يغير شيئاً من سلوكه، وبنيته عصية على التغيير. وهذا سر تمسك الأسد بمنظومة حكمه، فهو يخشى أي تغيير في قوائم طاولة الحكم خشية أن يزحزح ثباتها الوهمي. كما يخشى أيضاً من أي تنازل يمكن أن يؤدي إلى رفع سقف المطالب الشعبية أو إلى مزيد من التنازلات، وهذا سر كونه لم يقدم أية مبادرة للحل منذ سبع سنوات، وهو مصر على الحسم العسكري بيد الإيراني والروسي، حتى لو فقد سيادته وبقي تحت سطوة الأجنبي، فهو يخشى أن تخرج بنية نظامه (العصبية) من التاريخ فلا تعود إليه قروناً. ولن يغامر السوريون مرة أخرى بمنح الولاء والتفويض لأية طائفة تتفرد بالحكم في سوريا، وهذا سر إصرارنا على الوصول إلى حكم غير طائفي، يتشارك فيه السوريون جميعاً في إطار ديموقراطي، وينتهي فيه التمايز الإثني، فقد أثبتت السنوات الخمسون الماضية أن تحكُّمَ طائفة واحدة في السلطة المطلقة وتفردها بها، مفسدة مطلقة، وقد أوصلت البلاد إلى الدمار الشامل، ولم يسعفها وجود ممثلين عن السُّنة، أو الأقليات الأخرى، في واجهات الحكم، لأن طبيعة النظام كانت عضداً يقوم على (العصبية ) كما وصفها ابن خلدون.

ومع انهيار مؤتمر سوتشي الذي استغل النظام فيه جهل روسيا بالأبعاد والرموز الاجتماعية السورية، فأرسل إليه وفداً كرنفالياً تعبيراً عن عدم اهتمامه بالمؤتمر، جعل الروس يخسرون فرصة تبييض الوجه الدامي بعد أن أعلن بوتين انتصاره في حميميم! لقد قادهم النظام بعد سوتشي إلى مزيد من التدمير في الغوطة وإدلب، وأسقط عنهم قناع رعاية السلام، فلم يعد بوسع روسيا أن تلعب دور راعي المفاوضات في آستانة أو في جنيف بعد أن غرقت سوريا في الدماء تحت شعار السلام والمصالحة في سوتشي.

ويبدو أن الجولة العاشرة القادمة من المفاوضات ستواجه ذات الطريق المسدود، إن هي لم تقتحم عُقد الحل، فأي حديث عن دستور وانتخابات برعاية الأسد مضيعة للوقت وهدر لمزيد من الدماء.

اقرأ المزيد
٩ فبراير ٢٠١٨
هل تنشئ تركيا قاعدة عسكرية في سوريا؟

أسس الجيش حتى اليوم 5 نقاط مراقبة في إطار اتفاق مناطق خفض التصعيد الذي توصلت إليه ترويكا أستانة (تركيا، روسيا، إيران).

وكانت وحدات من الجيش التركي دخلت إدلب عبر ريف حلب قبل ثلاثة أيام، بهدف تأسيس نقطة المراقبة السادسة.

توجد أبراج مراقبة للجيش التركي في كل من قرية سلوى، ومنطقة سمعان، وتل الشيخ عقل وبلدة العيس. وثلاث من نقاط المراقبة التركية تقع بالقرب من حدود عفرين.

وتقول بعض المصادر إن مباحثات أستانة واتفاقية مناطق خفض التصعيد تمنح تركيا حق إنشاء قاعدة عسكرية في إدلب.

وبحسب ما تقوله المصادر السورية المحلية فإن موكبًا مكونًا من 4 سيارات يقل مسؤولين أتراك، أجرى جولة تفقدية في قاعدة تفتناز الجوية بإدلب.

وتضيف المصادر المحلية إن تركيا ستنشئ قاعدة عسكرية جديدة في تفتناز بموجب الاتفاقية. وتشير إلى أن قوات تركية ستنتشر في قاعدة تفتناز الجوية، التي تضم ساحة مناسبة لإقلاع وهبوط المروحيات، عند انتقال السيطرة عليها إلى أنقرة.

وتلفت إلى أن القوات التركية المزمع نشرها في تفتناز ستراقب مناطق خفض التصعيد في كل من حلب وحماة، علاوة على إدلب.

دخل الجيش التركي إدلب قبل انطلاق عملية غصن الزيتون في عفرين. أكثر ما يلفت في مهمة الجيش بإدلب هو أن إحدى نقاط المراقبة الثلاث تقع على حدود عفرين.

وهذا ما كان قد قطع الطريق أمام إرهابيي حزب العمال الكردستاني في عفرين، فضلًا عن محاصرتهم تأهبًا لعملية محتملة بعفرين.

تنفذ تركيا عملية في عفرين منذ 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، ويملك جيشنا قوات في إدلب. نقطة المراقبة السادسة على وشك الانجاز، في حين يجري الحديث عن إنشاء قاعدة جوية أيضًا.

كانت قاعدة تفتناز الجوية تحت سيطرة المعارضة السورية عام 2013. وبعد ذلك تبادلت عدة جهات السيطرة عليها بعد ظهور تنظيم داعش.

تقع تفتناز على الطريق ما بين حلب وإدلب، ولهذا فهي تتمتع بأهمية من الناحية الاستراتيجية. امتلاك تركيا قاعدة عسكرية فيها سيكون ذا فائدة كبيرة في عمليات مافحة الإرهاب مستقبلًا.

أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب له قبل يومين، على إدلب إضافة إلى عفرين ومنبج، وقال إن العمليات ستتواصل مع إدلب.

ولن يكون من المدهش إقدام أنقرة على خطوة إنشاء مثل هذه القاعدة العسكرية قبل عملية محتملة في منبج على وجه الخصوص. لأن تركيا تقدم على كل خطوة بما يتناسب مع قوتها على الساحة، ودائمًا تكون خطواتها واثقة.

اقرأ المزيد
٩ فبراير ٢٠١٨
بعد سوتشي: ما الذي تحوّل في الحرب؟

روسيا التي أرادت من محادثات آستانة أن تنخرط في ترتيب مناطق خفض التصعيد على الجبهات كتوطئة للشروع في محادثات سياسية بين الأطراف السوريين شرعت، بعد سوتشي، بالانخراط مباشرةً في التصعيد بما يفتح الباب أمامها للبت بملف محافظة إدلب، وذلك باعتبارها تشكل الخلفية التي تنطلق منها المعارضة لتهديد الوجود الروسي على الساحل السوري.

ومؤتمر سوتشي، الذي ظهرت نتائجه حتى قبل أن يبدأ، عرّض الديبلوماسية الروسية إلى شماتة أميركية وردت على لسان وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي قال إن «الأسلوب الأكثر لباقة لوصف نتيجة المؤتمر هو القول إنه لم يحقق شيئاً». طبعاً لم يأتِ التقليل من قيمة هذا المؤتمر من فراغ، وربما مَن شاهد وزير الخارجية الروسي وهو يُقاطَع بزجليّات أهل النظام، لا شك وافق على ما خلص إليه ماتيس.

هذه المشاهد من سوتشي أتت لترسم نهاية لا تليق بمسار الديبلوماسية الذي اشتغلت عليه روسيا في ظل الإدارة الأميركية السابقة وذلك قبل أن يعيد ترامب انخراط إدارته بفعالية في الضغط بالملف السوري. أما المشهد الأكثر نفوراً فقد كشفه سقوط الطائرة الروسية التي كانت تقوم بمهمات قتالية فوق إدلب بما أوحى وكأن هناك مساراً عسكرياً لروسيا منفصلاً تماماً عن المسار السياسي، بخاصة أنه أعقب إعلان القيادة الروسية مرات نهاية الحرب في سورية وانتصارها على الإرهاب وعودة الطائرات والقوات العسكرية إلى قواعدها في روسيا، وهي كانت ترعى قبل أيام حواراً مفترضاً بين السوريين لم يجف حبر بيانه الختامي بعد!

التطورات التي أدت إلى تعقُّد المشهد الميداني في شمال سورية إلى هذا الحد تضع الروس أمام حقائق واستنتاجات تختلف عن السابق. إذ من البديهي أن تتراجع أولوية التمسك بالأسد إلى مرتبة ثانوية ويصبح الأهم هو البحث عن تأمين الوجود العسكري الإستراتيجي في ظل ارتفاع الكلفة عليهم وتلمّسهم ملامح استنزاف تُخطَّط لهم.

وهذا التأمين لا يتحقق بالعناد والتمسك بأشخاص، إنما بعملية سياسية عادلة تفرض عليهم التضحية، وبإستراتيجية خروج مُحصّنة دولياً وتتعلق أولوياتها بالمصلحة الروسية التي تتقاطع مع حسابات دولية قائمة في أماكن أخرى من العالم. يصعب على الروس إلى الآن تصديق مقولة إنهم ملزمون التفتيش عن أفق سياسي جديد لوجودهم الذي دخل عامه الثالث من دون تحقيق نتائج سياسية مستدامة.

المعارضة لا تزال تمتلك حق النقض والاعتراض وترفض التسليم لأن التحدي بات يتعلق بصراع الإرادات وليس لديها ما تخسره. أما المشروعية الدولية فلا تلقي بظلها على الأسد من دون حصول تحوّل جوهري في الأزمة السورية يتيح التقدم بالمسار السياسي، هذا عدا عن الإشارة إلى التوغل الإيراني الذي يتفاقم وكأنه يريد تهشيل الروس!

لذلك تبدو العودة إلى جنيف هذه المرة مطلباً روسياً أكثر منها حاجة أميركية أو غربية، بخاصة بعد فشل سوتشي وتبدُّد مفاعيل آستانة ودخول تركيا المباشر إلى الأراضي السورية. روسيا تحصد إخفاقات متعددة في متابعاتها السورية، بدءاً من عدم الوفاء بالتزامها معالجة ملف الأسلحة الكيماوية والذي يُعاد بحثه دولياً، وعجزها عن معالجة التمدّد الإيراني بخاصة في الجنوب السوري، وصولاً إلى فشلها في ترتيب وضعية إدلب المحاذية لوجودها العسكري وفق مناطق خفض التصعيد في آستانة. هذا إضافة إلى أنها لا تمتلك مفاتيح الضغط في شكل مجدٍ على الأسد الذي يلعب على التوازن بينها وبين إيران، وهنا بيت القصيد.

وعلى عكس روسيا يملك الأميركيون قواعد عسكرية على الأراضي السورية لكن ليست لديهم عقدة تأمينها بعد، ولا زالت حربهم هناك تُخاض بالوكالة وعامل الوقت لا يطاردهم كما الروس. إضافة إلى أن الأميركيين يربطون وجودهم بـ «المحاربة الدائمة» للإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط، وذلك يتعلق بسقف زمني مفتوح في ظل حالة عدم الاستقرار العام الموجودة لدى السلطات القائمة وحال التمدد الإيراني الذي أكمل طوقه حول إسرائيل.

ترامب لا يبحث عن شرعية لوجود قواته في ظل استيعاب المؤسسات الأميركية أولوية محاربة الإرهاب والتصدي لإيران ونجاحه في تجنب الأكلاف البشرية.

وفي حين لا يُعتبر قرار أردوغان بالدخول التركي إلى منطقة عفرين وليد لحظته أو أنه أتى كرد فعل على تشكيل الولايات المتحدة قوة من 30 ألف مقاتل من الأكراد لحماية الحدود، فإن تركيا تدخل لغاية تترصّد فرَصَها منذ سنوات، وتتعلّق بفرض نفسها طرفاً رئيسياً في إدارة الحل في سورية وتُخرجها من عقدة أن تستظل بالموقفين الأميركي والروسي، بخاصة أن حماية وحدة أراضيها وصيانة أمنها القومي مسألتان باتتا تتعارضان جوهرياً مع ما يدور على حدودها السورية. الخطير في المؤشر التركي أنه يفتح الباب أمام إسرائيل لكي تستنسخ المبررات ذاتها في ما خص الجنوب السوري.

وبالتالي فقد دخلت الحرب السورية حقبة جديدة تراكمت فيها المتغيرات لتنقلها من حرب داخلية بمساعدة أطراف خارجيين إلى حرب خارجية وصدام إستراتيجيات كبيرة تفرض على «بعض» اللاعبين أن يتحسّسوا رؤوسهم.

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٨
فشل سياسي روسي ووحشية عسكرية

ظهر مؤتمر سوتشي السوري مهزلة، سواء من حيث الحضور أو من حيث ما تقرَّر فيه، حيث كانت القرارات معدة مسبقاً، وفي إطار توافق دولي بشكل ما، ولم تكن نتيجة نقاش في "المؤتمر" الذي لم يكن سوى حشد استعراضي. كانت روسيا مضطرّة إلى قبول ما طرحه مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، قبل أشهر في جنيف، وربط ما يمكن أن "يتقرّر" في سوتشي بمسار جنيف. كانت عاجزة عن تقرير ما تريد في مؤتمر لمَّ حشداً لا معنى له، ولا قيمة، فقط ظهر أنها ترعى مؤتمراً لـ "شعوب سورية"، أو كما أُسمي: مؤتمر الحوار الوطني. ولكي تقول إنها عقدت مؤتمراً سورياً، قبلت بمخرجاتٍ لا علاقة لها بالمؤتمر، ولا بحوار المؤتمرين، حيث أرادت القول إنها المتحكّم في الحل السوري.

مسرحية هزلية جرى تمثيلها، لكن لم ينته الأمر، فقد ظهرت روسيا لاعبا هزيلا يستجدي موافقة دي ميستورا ودولا أخرى، لكي تظهر أنها قادرة على عقد مؤتمر سوري، على الرغم من كل وجودها العسكري. وضع كاريكاتوري أظهر هزال مقدرة روسيا على فرض حلها السياسي. لهذا لجأت إلى العنف الشديد، حيث بدأت في سلسلة غاراتٍ وحشيةٍ على إدلب وسراقب وبلداتٍ عديدة في ريف إدلب، زادت من وحشيته، بعد أن ظهر أنه يمكن إسقاط طائراتها. وبالتالي، يمكن أن تُكبَّد خسائر كبيرة، وهي تعتقد أن وحشيتها سوف تجعلها قادرةً على فرض الحل الذي تريده، على الرغم من تنبيهها بأن طائراتها يمكن أن تتهاوى بسهولة.

هل سيؤدي ذلك إلى أن تنجح في فرض حلها الذي تريد؟ لا بالتأكيد، فحلها مستحيلٌ مهما فعلت، وهي وحدها لا تستطيع تحقيق حل سياسي، وحتى إنْ توافقت مع أميركا وتركيا وكل الدول الأخرى على حلها فسيسقط. قلتها منذ البدء، لا حلّ بوجود بشار الأسد وحاشيته، ولا حل من دون تحقيق مطالب طرحتها الثورة منذ البدء. الثورة لم تستطع الانتصار، وربما لا تستطيع الانتصار، لكن ليس من الممكن هزيمتها، مهما جرى تشويهها، ومهما جرى اختراع قوى لتجهضها من داخلها، وأيضاً بغضّ النظر عن التوافق مع دولٍ كانت تدعي دعمها. ولا شك في أن ما جرى من قصفٍ لقاعدة حميميم، وإسقاط طائرة لها، يُظهر أنه يمكن أن تغرق في أفغانستان جديدة. ولهذا، عليها التخلي عن عنجهيتها، وعن اعتقادها أنها قادرة على أن تقرّر ما تريد.

لم يخرج الشعب السوري بهدف التغيير، ولم يسقط كل هذا العدد الضخم من الشهداء، ويتشرّد ملايين السوريين، ويعتقل مئات الآلاف، لكي يبقى بشار الأسد وحاشيته. هذه هي المعادلة البسيطة التي كان من يمكن حلها قبل أن يجري ذلك كله، لكن عنجهية النظام، ثم إيران، والآن روسيا، هي التي أوصلت إلى ذلك من أجل بقاء النظام. لكن، ليس من الممكن أن يبقى، ومن المستحيل أن يبقى، مهما توحشت روسيا التي باتت تدافع عن مصداقيتها، وعن ادعائها أنها قوة عظمى مقرّرة. وتنطلق وحشيتها الآن من إقناع ذاتها أنها مقرّرة، على الرغم من كل الفشل الذي تعانيه. مرّت سنتان ونصف السنة مارست فيهما كل وحشيتها، واستخدمت كل أسلحتها الأكثر حداثة، وجرّبت كل ما تستطيع، لكنها تقف عاجزةً عن فرض الحل الذي تريده. فحين عقدت "سوتشي" ظهر مهزلة، وهي لم تتقدّم على الأرض إلا بصفقات، مع تركيا ومع "داعش" ومع جبهة النصرة، وفي منطق تحقيق المناطق "منخفضة التصعيد" التي رعتها تركيا، أو أميركا والأردن والدولة الصهيونية، أو مصر كما قيل. وكل ما فعلته هو قتل الشعب، وتدمير المستشفيات والمدارس والبنى التحتية، فهذا هو الفعل الحقيقي لطيرانها. وهذه هي وحشيتها.

ما يفعله الروس من قتل وتدمير يجب أن يفرض تحويل فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه شويغو، إلى محكمة الجنايات الدولية، كونهما مجرمي حرب، بعد كل ما فعلوا. لكن أن يكون واضحاً لنا أننا نواجه احتلالاً روسياً، ومتعدّد الأطراف.

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٨
استقطاب دولي وانفراد أميركي في سوريا

تكثفت الهجمات الروسية - الأسدية على الغوطة الشرقية وعلى إدلب. ويعمل الإيرانيون عن كثب مع الطرفين على الأرض في المنطقتين. ولا يزال الأتراك غارقين في حرب عفرين، كما لا يزالون مصرّين على التقدم نحو منبج بعد عفرين. بل ويتحدثون أيضاً عن الذهاب بعد منبج إلى الحدود السورية - العراقية؛ وخلال ذلك يستمرون في الحملة على الولايات المتحدة وسياساتها في الملف السوري، أو بالأحرى في دعم أكراد سوريا. ويُلمّح الأتراك إلى أن الأميركيين لا يملكون قواتٍ في منبج، ولذلك فلا مانع من دخولها. ويبدو أن ذلك صحيح، ولذلك فإن الأميركيين ومع بدء الانسحاب من العراق، سيرسلون معظم القوات المنسحبة إلى أفغانستان، لكنهم لن ينسوا إرسال بضع مئات إلى منبج لحرمان الأتراك من التقدم باتجاهها أو يشتبكون معهم إن أصرّوا.


في الأصل؛ وبحسب «آستانة» ومقرراتها؛ فإن مناطق خفض التصعيد الأربع تشمل إدلب كما تشمل الغوطة الشرقية. إنما منذ أكثر من شهرين؛ فإنّ النظام والروس، ومن ورائهما إيران، مصرّون على الاستيلاء على الغوطة الشرقية، كما أنهم مصرّون على الدخول إلى إدلب. وفي منطقة الغوطة، التي قالت الأمم المتحدة؛ إنه، وبخلاف الاتفاقيات؛ منذ ثلاثة أشهر ما أمكن إدخال المساعدات الإنسانية، ولا توقّف القصف العنيف عليها. ويتحجّج النظام بأنّ حملته على الغوطة سببها القصف الذي يصل منها إلى دمشق وجوارها القريب، بينما يقول الثوار إنهم لا يقصفون دمشق إلا بعد الغارات النظامية والروسية على الغوطة ومدنها وقراها. وهم يتابعون أن النظام عاد لاستخدام غاز الكلور في الغوطة للإضرار بالمدنيين بالذات. أمّا في إدلب وجوارها (قرى من حماة ومن غرب حلب) فإنّ الروس والنظام والإيرانيين يذهبون إلى أنهم إنما يقاتلون الإرهاب (جبهة النصرة)، ويضاف إلى ذلك الآن إسقاطهم طائرة السوخوي الروسية. ويتابعون أنه كان من ضمن اتفاقية آستانة بخصوص إدلب، أن تتولى تركيا عمليات الانتشار بالمنطقة، واستيعاب «جبهة النصرة» وحلفائها، وهي لم تقم بذلك. والأتراك يقولون إنهم انتشروا عبر ثلاثة مراكز، وسيتابعون الانتشار؛ دونما تحديد زمن لذلك!

هناك تحالُفٌ عملي الآن بين روسيا وإيران وتركيا في سوريا. ويبدو أنه في مقابل هذا التحالف، ومن ضمنه التقدم في الغوطة وإدلب؛ فإن تركيا مسموحٌ لها بالتقدم إلى عفرين، خصوصاً أن ذلك يزعج الولايات المتحدة. وهو انزعاجٌ قد يصل إلى حدود الاشتباك إذا تقدمت تركيا إلى منبج.

لماذا بدت السياسة الأميركية في سوريا مختلفة، في الشهور الأخيرة؟

العامل الأول في التغيير النسبي يعود إلى زيادة التنافُر مع موسكو. فقد اعتبر الروس أنّ سوريا صارت لهم في مقابل التنسيق مع أميركا وإسرائيل في جنوب سوريا، من الحدود الأردنية وإلى الجولان، خصوصاً أنه في مقابل ذلك الانسحاب الأميركي من سوريا، ومنذ أيام أوباما، كان ينبغي أن يتقدم الحلُّ السياسي في جنيف، وهو ما لم يحصُل. ولذلك، فإن أميركا وقفت مع المعارضة السورية في موقفها من مؤتمر سوتشي. فالولايات المتحدة أياً تكن انسحابيتها من الملف السوري، لا تستطيع الاستمرار في ذلك، ما دامت لا تستطيع تحمل الإخلال بالتوازن الاستراتيجي، ولو في ساحة جانبية مثل سوريا.

العامل الثاني: الموقف من الأكراد؛ فقد حصل إخلال بهيبة الولايات المتحدة عندما تخلّت عن بارزاني في العراق، وقد أفاد من ذلك الإيرانيون والأتراك، خصوصاً أن واشنطن بذلت جهوداً في العراق، أكبر بكثيرٍ من جهودها في سوريا. ولذلك، فقد أرادت واشنطن إظهار صلابة وصمود مع أكراد سوريا، لكي لا تزداد سمعتُها سوءاً. ثم إن أكراد سوريا حققوا تحت لواء الولايات المتحدة إنجازاتٍ كبرى، وذروتها استعادة الرقة من «داعش». وفي وسع واشنطن، وقد صارت منطقة شمال وشرق سوريا بنفطها ومياهها رهينة لديها، أن تستخدم ذلك في مساوماتها مع موسكو.

والعامل الثالث: إقبال الولايات المتحدة في عهد ترمب على محاصرة النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان... في لبنان لجهات التمويل والإدارة. وفي سوريا لجهة الإبقاء على المعارضة في وجه بشار الأسد والإيرانيين، بحيث تكون الانسحابات متبادلة إذا تقدمت ورقة الحلّ السياسي.

العامل الرابع: استحداث توازُن من نوعٍ ما على الساحة السورية من طريق دعم المعارضة السياسية والأُخرى المسلحة، وطمأنة الأكراد، وطمأنة إسرائيل. وهذا الأمر يطمئن «الحلفاء» المفترضين، بدلاً من أن يضيع هؤلاء مثلما أضاعت أميركا تركيا، ومثلما ستضطر إسرائيل إلى الاعتماد على بوتين، ويضطر الأكراد السوريون للتعاون مع الروس والنظام قبل أن يؤونَ الأوان.

ولذلك كلّه، وكما سبق القول، تبدو الولايات المتحدة مصممة على أن يكون لها دورٌ في الحل السوري أو تستمر الحرب، بدلاً من حدوث خسارة كاملة في العوامل والنقاط التي ذكرناها. ثم إن قواتها في سوريا (أكثر من ألفين) ستزيد ولن تنقص. وهناك نوعٌ من التحدي لروسيا ولتركيا في تسليح الأكراد وتسليح المعارضة (إسقاط الطائرة الروسية، وتدمير الدبابات التركية)، والإصرار على «جنيف» والتقليل من شأن «سوتشي». وزيادة الحملة على الروس وعلى النظام في القصف العنيف على إدلب وعلى الغوطة، وفي الاتهام بالكيماوي، وفي التشهير بتركيا، وفي تهديد إيران بسوء العواقب.

لماذا قلنا في العنوان إن هناك انفراداً أميركياً؟ لأن روسيا لديها تحالف مع إيران وتركيا في سوريا؛ بينما تُطل أميركا برأسها وحدها، لأن الأوروبيين لا يدينون الحملة التركية على عفرين بقوة، ولا يشهّرون بالقصف العنيف على إدلب والغوطة باستثناء فرنسا. وإنما يكتفون بالتركيز على الملف الإنساني والملف الكيماوي. إنما من جهة أخرى؛ فإن روسيا تبدو في موقع الدفاع في مجلس الأمن منذ أكثر من عامين. فحلفاء الولايات المتحدة هم الذين يتقدمون بمشروعات القرارات، وروسيا هي التي تستعمل «الفيتو». وما انخذلت الولايات المتحدة في مجلس الأمن أخيراً إلا في ملف القدس. وسيزداد انخذالُها بعد أن تتبين معالم «صفقة القرن» التي يُعِدُّ لها ترمب، وقد لا يملك الفلسطينيون إلا رفْضها رغم نصيحة الأوروبيين لهم بالتريث!

إن هناك اليوم شعبين عربيين يعانيان أشد المعاناة: الشعب الفلسطيني، الذي تقف الولايات المتحدة في مواجهته مع الصهاينة، والشعب السوري، الذي يقف في مواجهته الإيرانيون وميليشياتهم بالقتل والتهجير والاستيلاء والدعم الروسي. هل يشكّل ذلك تعادُلاً؟ بالطبع لا.

وذلك لأن الطرفين الكبيرين في الصراعين الهائلين، إنما يخرجان على القرارات الدولية، وعلى الحسّ الإنساني السليم، وكلٌّ لمصلحة استراتيجية، لا علاقة للشعبين ولمصالحهما بها. وبذلك؛ فروسيا ليست مع الفلسطينيين، وأميركا ليست مع السوريين... «واللهُ غالبٌ على أمْرِه ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يَعلَمون».

اقرأ المزيد
٨ فبراير ٢٠١٨
رهانات المعارضة السورية بين «بيان سوتشي» و «اللاورقة»

يبدّد القصف الروسي الهمجي على إدلب وريفها ومناطق سورية أخرى، أي مراهنات على دور روسيا، كشريك وكضامن في العملية التفاوضية السياسية، الذي بدا أن وفد «الهيئة العليا للتفاوض» يراهن عليه، إبان زيارته إلى موسكو قبيل انعقاد الاجتماع الخاص في فيينا برعاية الأمم المتحدة في 22 و23 من الشهر الماضي، ولاحقاً خلال تعامله الإيجابي مع مخرجات مؤتمر «سوتشي»، الذي رعته موسكو أخيراً، وقادت إليه مئات من السوريين تحت عنوان الحوار الوطني السوري- السوري، بمشاركة بعض قوى المعارضة، ومنها منصّة موسكو أحدى تكوينات تلك الهيئة، على رغم اتخاذ قرار رسمي داخل هذا الإطار بعدم المشاركة.

هذا الواقع يضعنا أمام ملاحظات مهمة وتساؤلات جادة، قبيل انعقاد اجتماع الهيئة في العاشر من هذا الشهر، لمراجعة الأداء ودراسة المعطيات الجديدة للواقع السياسي الدولي، في ظل التصعيد العسكري من جهة النظام وروسيا في إدلب وريف دمشق، والمعركة التي تقودها تركيا بمشاركة فصائل سورية محسوبة على المعارضة في عفرين. ومثلاً، فهل تم التعامل مع معطى توحيد وفد المعارضة بمنظور شكلي، أي لا يرقى إلى مستوى العمل المشترك بين أطياف هذا الوفد، مما يجعل الافتراق عند القضايا المفصلية أمراً محتملاً ومسموحاً به، وفق بيان الهيئة الذي أجاز التعامل مع الدعوات إلى حضور «سوتشي» يتم بطريقة فردية غير مؤسساتية؟ وهل كان من المجدي مقاطعة المؤتمر، بينما هناك تنسيق- تحت الطاولة- في عملية إعداده وتحضير منتجاته، كما تم التنويه عن ذلك من جانب أعضاء في الوفد التفاوضي؟

أيضاً، هل ينقذ «سوتشي» المحاولة الواهية للتعامل مع النقاط 12 التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وكان تجاهلها، أو اعترض على الرد عليها، وفد النظام، في حين أن المعارضة تعاملت معها بكل جدية، وأخذت عليها بعض الملاحظات التي لا ترقى إلى حيّز الاعتراض على أي من نقاطها؟ فإذا كان ورود هذه النقاط التي يسوّقها دي ميستورا كمشتركات، يمكن العمل عليها في صناعة مستقبل سورية، فإن ما تم التعاطي معه في «سوتشي» لا يرقى إلى ذلك، حيث تجاهل البيان الختامي الصادر عن ذلك المؤتمر فكرة تداول السلطة، والتعاطي مع الصراع الحاصل على أنه صراع بين من هم- دون النظام- من حيث البنية، مع جملة من النصوص الدستورية والقانونية، كأن الخلاف ليس بين الشعب السوري، الذي قدم مئات آلاف الضحايا، وبين النظام الحاكم، ما يعني أنه خلاف على أولوية الإصلاحات، وليس على شرعية بقاء النظام الحاكم، مما يمنح كامل رموز النظام صك براءة من المشاركين في المؤتمر، ومنهم شركاء في وفد المعارضة!

إن القبول بما نتج من «سوتشي»، ولو كاحتمال ضعيف، كأساس للحوار بين المعارضة والنظام، يتضمن القبول لاحقاً بخطف كل بند تفاوضي من طاولة المباحثات في جنيف إلى حيث يريد أحد الضامنين للصراع المسلح في سورية، ومنهم تركيا وإيران وروسيا، وهو ما تم سابقاً في «آستانة»، وأصبح مرجعية في التفاوض، على رغم انتهاك ما تم الاتفاق عليه في مناطق خفض التصعيد التي باركتها الأمم المتحدة، وتتعامل اليوم مع انتهاكاتها بصمت مريب، يرقى إلى درجة الشراكة بقبول المذابح التي يتعرض لها الشعب السوري، في أكثر من مكان، وعلى يد الضامنين لخفض التصعيد المأمول، من مسار آستانة الدخيل أصلاً على مسار المفاوضات الأممية في جنيف.

في الغضون، وفي ظل المقتلة التي تتعرض لها سورية، في مناطق إدلب وحماه وحلب، تتبادل الدول الضامنة لخفض التصعيد مباركاتها بعضها بالصمت على ما ترتكبه كل قوة منها في سورية، وسط حراك ديبلوماسي لفرنسا والولايات المتحدة، ومعهما بريطانيا والسعودية والأردن، حيث تبنّت من خلاله هذه الدول ما سمي «اللاورقة»، التي تعاطت مع الحل السوري وفق معطى جديد لا يستثني أي مكون، وهو أخذ في الاعتبار أن العودة إلى سورية الدولة الرئاسية شديدة المركزية التي كانت ما قبل 2011، أمر شبه مستحيل من حيث البنية الدولتية والبنية السلطوية، وعلى رغم ما يمكن اعتباره أنه تجاوز على التعاطي البنيوي لبيان جنيف1 والقرار 2254، من حيث ترتيب الأبجديات المنوطة بالعملية السياسية التفاوضية، وباعتبار أن تلك «اللاورقة» قابلة للتطوير، بما يسمح بضم مزيد من الشركاء لتبنيها، كألمانيا وتركيا وحتى روسيا، على رغم المحاولة الثلاثية من موسكو وأنقرة وطهران بتعطيلها، وتغييبها من خلال تضمين بيان مؤتمر سوتشي بعض ما اعتبرته روسيا تنازلات، تتوافق إلى حد ما، ومطالب الأمم المتحدة في صياغة الحل السوري، من دون أن تتعامل مع الهدف الأساسي لهذه النقاط الـ12 التي تعني إنهاء نظام الحكم القائم واستبداله بنظام ديموقراطي تعددي، يقوم على الفصل بين السلطات واحترام حقوق المواطنة وتداول السلطة.

على ما تقدم، فإن الهيئة خلال اجتماعها القريب عليها أن تناقش الأمور صراحة، بما يتضمن مناقشة مواقف الدول الضامنة لآستانة، وانشغالات قوات هذه الدول (روسيا وتركيا وإيران) في حروب متعددة داخل الأراضي السورية، حيث تنقسم الهيئة في تأييد هذه الحروب، تبعاً لمجاراتها تركيا أو روسيا أو حتى لاعتبار بعض المعارضة أن الوجود الإيراني في سورية لديه مقومات الشرعية في وجوده، نظراً الى موافقة النظام على ذلك، ما يعني أن المعارضة داخل الوفد وخارجه منقسمة في أهم القضايا السورية، التي تتعلق بأمان السوريين وحياتهم، والحروب التي تشنّ عليهم من أطراف داعمة إياهم من جهة، وفي توافق مع النظام في حربه على السوريين من جهة أخرى.

من المفيد التذكير بأن رفض ما نتج من سوتشي لا يعني عدم التعامل مع النقاط الـ12، بكل ما يبنى عليها، من وحدة سورية أرضاً وشعباً، واحترام سيادتها، وحق تقرير الشعب مستقبله، والمحافظة على مؤسسات الدولة وإقامة جيش وطني، واحترام حقوق الإنسان وتنوع المجتمع السوري ومكافحة الفقر ومحاربة الإرهاب، إذ إن كل ذلك لم تبتعد منه «اللاورقة» ولكن بصياغة بعيدة من الإنشاء، وعبر صوغ وسيلة تفاوضية مستمرة ومباشرة، تضع حداً للتلاعب بمسارات وجولات العملية التفاوضية، على ما حصل في تجربة الجولات الثماني السابقة. ولعل هذه هي الفرصة المناسبة لجمع الأطراف المعنية بالصراع السوري حول رؤية تؤسس لسورية جديدة، بعيدة من قبضة إيران وقادرة على التخفف سريعاً من وجود الاحتلالات العديدة على الأرض السورية، وإنهاء المأساة السورية، ووقف نزف الدم الذي يشارك في إراقته الأعداء والأصدقاء.

اقرأ المزيد
٧ فبراير ٢٠١٨
ثلاث هزات لروسيا في سوريا

في أقل من شهر، تلقت موسكو ثلاث هزات في سوريا. الأولى كانت عسكرية، عندما تعرضت قاعدتا حميميم الجوية وطرطوس البحرية لهجوم بالطائرات المسيرة عن بعد (درونز)، حيث أكدت وسائل إعلام روسية أن الهجوم حقق إصابات مباشرة في حميميم، وتسبب بإخراج سبع مقاتلات جوية من الخدمة. واللافت أن الهجوم جاء بعد أسابيع من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقاعدة، وإعلانه النصر في الحرب السورية، ما يسمح باعتبار الهجوم رسالة للكرملين بأنه استعجل إعلانه الانتصار العسكري، في الوقت الذي تستطيع فيه المعارضة السورية المسلحة - لو توفرت لها الإمكانيات - أن تكسر ربما هيبة موسكو العسكرية، بالوصول إلى قواعدها الرئيسية.

أما الهزة الثانية، فكانت سياسية بامتياز، بعدما رفضت الدول الكبرى، ومعها الدول الإقليمية المؤثرة، إعطاء شرعية دولية لمؤتمر سوتشي للحل، الذي قاطعته الهيئة العليا للمفاوضات، ما أدى إلى تحويله لمؤتمر بين موالين للنظام ومعارضين له، يجمعهم في سوتشي تأييدهم للتدخل الروسي، وقبولهم بالحل تحت سقف الأسد. وقد واجهت موسكو تحديات سياسية من قبل المجتمع الدولي قبل وصول الوفود المشاركة إلى سوتشي، بعد إعلان أميركا وفرنسا وبريطانيا ودول إقليمية أخرى عن مشروعها للحل في سوريا، الذي يعيد الاعتبار لمفاوضات جنيف ولقرارات الشرعية الدولية.

وعلى الرغم من أن مشروع الدول الخمس ربط رحيل الأسد بالمرحلة الانتقالية والانتخابات، فإنه طالب بنقل صلاحيات الرئيس إلى الحكومة والبرلمان، وهو ما يرفضه الروس لاعتبارات تربط مصالحهم في سوريا بمنظمة أمنية عسكرية تتطلب أن تبقى تحت إشراف رئيس الجمهورية. فبالنسبة لموسكو، فإن قبول إبقاء الأسد من دون صلاحيات لا يوازي القبول بحكومة وبرلمان لا يمكن ضمان موقفهما من الدور الروسي في سوريا ومستقبله، لذلك اعتبرت الدبلوماسية الروسية أن العرض هو محاولة استباقية لإفراغ مؤتمر سوتشي من محتواه.

أما الهزة الثالثة، فاعتباراتها استراتيجية لدى القيادة الروسية، وستؤدي إلى فتح جدل داخلي حول التحديات المقبلة، في حال تكررت عملية استخدام الصواريخ المضادة للطائرات في سوريا، وهو ما سيضاعف الهم الروسي من المقتلة السورية، في حال أثبتت التحقيقات أن الصاروخ الذي أسقط القاذفة الروسية «سو-25» من نوعية «ستينغر» الأميركية، ما يثير التساؤلات حول كيفية وصول هذا النوع من الصواريخ للمعارضة، وما سيجبر الروس على تغيير كثير من تكتيكاتهم العسكرية التي ستجبر طائراتهم الحربية على التحليق على ارتفاعات شاهقة، خوفاً من التعرض لهذا النوع من الصواريخ الفتاكة، ما سيفقدها عامل المناورة والقدرة على ضرب أهدافها بسهولة، وهذا ما قد يؤمن للمعارضة المسلحة وضعية دفاعية جيدة تساعدها على الصمود بوجه الهجوم الذي تنفذه روسيا جواً، وإيران براً، ضد محافظة إدلب. والمقلق لموسكو الآن أنه يمكن للطرف الذي زود المعارضة بهذا النوع من الصواريخ، أو سمح لها باستخدامها، أن يعتبر أن ذريعة الخوف من وصول الـ«ستينغر» إلى «داعش» أو «القاعدة» قد انتهت بعد هزيمة الإرهابيين في سوريا، وأن الطيران الروسي بات يؤمن غطاءً جوياً لطرف آخر تعتبر كثير من الدول أنه يشكل خطراً إرهابياً لا يقل خطورة عن تهديد «داعش».

في سنة 2012، اعترض وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل على البيان الختامي لمؤتمر «أصدقاء الشعب السوري»، الذي عقد في تونس بمشاركة أكثر من 100 دولة، بعدما لمس رفض الدول الغربية تزويد الجيش السوري الحر بسلاح نوعي يساعده على مواجهة آلة القتل التي يستخدمها الأسد بغطاء روسي إيراني، والتي تسببت بكم هائل من الدمار، وسمحت للأسد بالقيام بعملية إبادة جماعية تعرض لها الشعب السوري أمام مرأى الدول الغربية، التي بررت رفضها تزويد المعارضة بصواريخ أرض - جو بذريعة الخوف من وقوعها بيد متطرفين، ما أدى إلى تفوق الأسد جوياً، وقيامه بتدمير المدن فوق رؤوس قاطنيها، بمساعدة روسيا التي استخدمت قوتها الضاربة، ما أدى إلى قلب المعادلة العسكرية على الأرض لصالح إيران والأسد، إلا أن حادث «السوخوي» يأخذ بعداً جديداً يجعل الروس من جديد أسرى التجربة الأفغانية، التي استطاع فيها الأفغان قلب المعادلة، وهزيمة الجيش السوفياتي بعد 7 سنوات من احتلاله أفغانستان، عندما قررت إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان تزويد المجاهدين الأفغان بصواريخ «ستينغر» التي قلبت المعادلة العسكرية، وأدت إلى خروج السوفيات مهزومين من أفغانستان.

الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، ما بين الرد الروسي على الـ«ستينغر» وما تهيئه واشنطن من رد على استخدام الأسد لغاز الكلور، فيما باتت اتفاقيات خفض التصعيد ومناطق النفوذ بين القوى المتصارعة على كف عفرين وما بعدها.

اقرأ المزيد
٧ فبراير ٢٠١٨
ما بعد سوتشي: سقوط «السوخوي» والانتقامات الروسية

لم تنتظر موسكو اختتام مؤتمر سوتشي لتبدأ تنفيذ «تهديد حميميم» بالعودة رسمياً إلى التصعيد العسكري، خلافاً لنظرية «مناطق خفض التوتّر» التي روّجتها عنواناً لإنهاء الصراع في سورية، بضمانتها إلى جانب إيران وتركيا. وجاء إسقاط طائرة «سوخوي 25» ليطيّر صوابها، إذ يدشّن مرحلة جديدة في الحرب، وإذا رُبط بهجمات مطلع السنة لطائرات من دون طيار فوق قاعدتها المركزية فإنه مؤشّر إلى بداية استهداف مباشر للوجود الروسي في سورية. ولعل إعلان «هيئة تحرير الشام» («جبهة النصرة» سابقاً) مسؤوليتها عن العملية يزيد الأمر تعقيداً ويضع الروس في مواجهة مع تنظيم «القاعدة»، وقد يعيدهم بصيغة أو بأخرى، إذا تكرّرت الهجمات وتنوّعت أساليبها، الى أيام افغانية جهدوا كي يطردوها من ذاكرتهم. لا تعتقد موسكو بأنها إزاء «كابوس أفغاني» آخر، فالأطراف الإقليمية (إسرائيل، تركيا، إيران...) منخرطة في تعاون وتنسيق معها دفاعاً عن مصالحها، وظروف التدخّل الأميركي مختلفة لا تنافسها ولا تبحث عن مواجهة معها، إلا أنها لا تستطيع استبعاد استراتيجية أميركية لتوريطها في سورية، ولو بالتغاضي عن أسلحة نوعية تصل إلى أيدي إرهابيين تابعين بـ «القاعدة».

مع انتهاء مؤتمر سوتشي، الذي لم يكن «حواراً» بين السوريين بمقدار ما كان مبارزات كواليسية بين المتدخّلين الخارجيين، ولم يكن «سورياً» إلا بمن دُعوا الى حضوره بانتقاءات اعتباطية في معظمها، والأكيد أنه لم يكن محطة فاصلة بين الحرب والسلم بل يبدو على العكس كأنه دفع موسكو أكثر فأكثر إلى اعتماد الخيار العسكري الذي كان ولا يزال الخيار الأسدي- الإيراني الوحيد ولن يعارضه الروس، إلا أنهم أخضعوه لحساباتهم الخاصة سواء في التعاطي مع اللاعب الأميركي الذي لا يمكنهم تجاهله أو مع الأطراف الإقليمية. فمع كل جولة عسكرية بمجازرها وغازاتها السامة ودمارها الشامل كانت روسيا تعطي فرصة لـ «داعمي» المعارضة كي يقنعوها بالذهاب إلى جولة مفاوضات في جنيف لإبداء القبول بالتراجع والاستسلام وخصوصاً بالعودة إلى كنف نظام بشار الأسد، أي الى كنف الاحتلال/ الوصاية الروسي– الإيراني. وعدا أن هذه صيغة لا يمكن أن تقبلها أي معارضة، فإن «الداعمين» لا يرون فيها معادلة متوازنة. وبما أن مفاوضات جنيف تعرّضت لإفشال روسي مبرمج فقد دفعت موسكو بـ «البديل» في سوتشي، لتجد أن لدى شريكيها «الضامنين» التركي والإيراني وحليفها نظام دمشق من التحفّظات ما يفوق اعتراضات الدول الخمس التي أنذرتها بوجوب التزام مسار جنيف وبأنها لا تستطيع وحدها فرض حل سياسي.

لذلك اكتفت روسيا من مؤتمر سوتشي بـ «مكسب» عقده ولو فشلت في تحقيق الهدف الذي رسمته له، ولئلا يكون الفشل كاملاً فإنها أبرزت حضور «مبعوثها» الأممي ستافان دي ميستورا على أنه «رعاية» من الأمم المتحدة و»شرعية دولية» للمؤتمر، كما أظهرت «الاتفاق» على تشكيل «لجنة الاصلاح الدستوري» وكأنها تنازل تمكّنت من انتزاعه. لكن أحداً لا يعرف مَن اتفق مع مَن على هذه اللجنة، وهل المعني بها «اصلاح» دستور الأسد أم إعداد دستور جديد يتضمّن «تنازلات» في صلاحيات الرئيس لاجتذاب الدول الخمس المناوئة. هذه التساؤلات وغيرها تعني أن كل شيء سيتوقّف على كيفية استغلال موسكو هذه اللجنة، فالأرجح أنها ستستخدمها لاختراق مسار جنيف للتحكّم بالدستور واستطراداً بالانتخابات من دون «انتقال سياسي» يُتّفق عليه بالتفاوض وفقاً للقرار 2254، أو لمواصلة عرقلة المفاوضات والدفع عسكرياً وسياسياً إلى توافق جديد مع واشنطن لإطاحة القرار 2254 والتخلّي عن «هيئة الحكم الانتقالي». في الحالَين يبقى هدف روسيا واضحاً، وثابتاً لم يتغيّر: إمّا أن ترضخ المعارضة أو تستمرّ تصفيتها عسكرياً... وهذا ما يفسّر خلو البيان الختامي من أي إشارة إلى وقف إطلاق النار وفكّ الحصارات والإفراج عن المعتقلين وإيصال المساعدات الانسانية.

في ضوء ما تقدّم، ووسط نذر المواجهات التي تلوح في الأفق السوري، لم يعد أحد قادراً غداة مؤتمر سوتشي على توقّع استئناف مسار جنيف أعماله. فالرؤية السياسية تشوّشت، وليس واضحاً كيف سيوفّق دي ميستورا بين استكانته الطويلة للإملاءات الروسية ومتطلّبات مواءمة مهمته مع توجيهات «اللاورقة» التي تبنّتها الدول الخمس (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والاردن). كان الصوت الأكثر خفوتاً، قبل محطة سوتشي وبعدها، هو لإيران ونظام الأسد اللذين اكتفيا بالتنسيق السرّي مع الروس، وبمعزل عن تركيا التي حدّدت لها موسكو مهمّة مختلفة تتمثّل خصوصاً بـ «إحضار» المعارضة الى سوتشي، وقد فعلت أنقرة ما تستطيعه فأرسلت وفداً لحضور المؤتمر، لكن بشروطه التي لم يقبلها الروس فبقي في المطار ثم غادر. لكن الضمانات المسبقة التي حصل عليها الأسد والإيرانيون لم تنعكس على المؤتمر بعدما خفّض الروس سقفه، أو في بيانه الختامي الذي تمكن قراءة العديد من نقاطه على أنها نقدٌ لـ «الدولة السابقة» وإدانة ملطّفة لسياسات الأسد وفشلها على أكثر من صعيد. وفي أي حال كان النظام أرسل ألفاً ومئتَين من مواليه و «معارضيه»، آملاً بأن يساهم المؤتمر في تلميعه واعادة تعويمه، لكن البنود المتعلقة بـ «الإصلاحات» المطلوبة خصوصاً في الجيش والأجهزة الأمنية والمؤسسات كافة لم تكن ملائمة لطموحات الأسد.

لا يزال التقاء المصالح والتوافق مع طهران ودمشق على شكل الحل السياسي وتهميش المعارضة أجدى وأعمق من أن تخضعه موسكو للمساومة مع واشنطن طالما أنها لا تعرض أي صفقة، أو مع أنقرة التي تحافظ على أوراق لها عند أميركا وروسيا وتتعايش مع المحدّدات التي تضعانها لتدخّلها في سورية أو تحاول التمرّد عليها. وفيما يتقاطع بيان سوتشي و «اللاورقة» عند ترجيح أولوية الدستور (ثم الانتخابات)، كذلك عند تجاهل «هيئة الحكم الانتقالي» كما تطالب بها المعارضة، فهذا يعني بالنسبة إلى روسيا أن الدول الخمس اقتربت من أطروحتها بتخطّيها عقدة «مصير الأسد» وقبولها ضمنياً ببقائه. لكن الخلاف قائم على تصوّر «المرحلة الانتقالية»: فالروس يراهنون على «إصلاح دستوري» طفيف يحفظ للرئيس (أي الأسد) صلاحياته الجوهرية ويمكّنه من الاشراف على الحكومة وعلى الانتخابات، ما يطمئنهم الى التلاعب الحتمي بنتيجتها وبالتالي إلى أن مصالحهم مضمونة. أما الولايات المتحدة وحلفاؤها فيريدون دستوراً يوزّع جزءاً كبيراً من صلاحيات الرئيس بين رئيس الحكومة والبرلمان، ويفهمون الانتخابات كـ «إطار للانتقال السياسي»، بل يشترطون لإجرائها تهيئة «البيئة الآمنة والمحايدة» بوقف النار واطلاق المعتقلين و»انسحاب الميليشيات الأجنبية».

في أي حال، لم يثر الشعب السوري على استبداد النظام للحصول على نصٍّ دستوري جديد، فالمشكلة ليست في النصّ بل في تطبيقه لمنع الحاكم من مصادرته لتبرير استفراده مع عائلته وطائفته بالسلطة، بل هي في آلة القتل التي أنشأها النظام وحكم سورية بها محتقراً كل دستور أو قوانين. هذه الآلة لا تزال أولى المشكلات وستكون كفيلة بتبديد أي «بيئة آمنة» لإجراء انتخابات حقيقية. والمتعارف عليه أن أي دستور يتفق عليه بالمفاوضات سيكون بالضرورة لمرحلة انتقالية، أما الدستور النهائي والدائم فهو الذي يُصار إلى إعداده بعد الانتخابات. ليس هناك أي أساس جدّي أو هدف جوهري لمسار جنيف، إذا أتيح استئنافه، سوى الشروع في تفاوض مباشر للتوافق على مبدأ الانتقال السياسي وآلياته.

هذا ما تعرفه روسيا وإيران وتخشيان أن يمسّ لاحقاً بمصالحهما، وهذا ما يعرفه النظام مدركاً أن أي تفاوض حقيقي ومباشر سيطلق العدّ العكسي لنهايته. لذلك كان الخيار الأول والوحيد لهذه الأطراف الثلاثة أن تكون جولات جنيف لكسب الوقت والاعتماد على دي ميستورا للعبث بأجندة التفاوض وخلط أوراقها، تارةً بإثارة مشكلة تمثيل المعارضة وكأنها غير معروفة، وطوراً باشتراط أولوية البحث في مكافحة الارهاب وكأن المعارضة- وليس النظام- مسؤولة عن استشراء الإرهاب ومستفيدة من انتشاره، وأخيراً بمحاولة سوتشي لفرضها بديلاً من مسار جنيف، والمؤكّد أن محاولات أخرى ستُبذل، إذ لا يراد لهذه المفاوضات أن تنجح.

اقرأ المزيد
٧ فبراير ٢٠١٨
من الذي يواجه تركيا في شمال سوريا؟

"من الذي يقاتل ضد القوات التركية في عفرين؟"، و"من الذي يقتل جنودنا المشاركين في العملية العسكرية؟"، و"من هو عدونا في الحقيقة؟".. مثل هذه الأسئلة يطرحها الرأي العام التركي منذ انطلاق عملية غصن الزيتون، ويبحث عن أجوبتها، ويدور حولها نقاش ساخن في مختلف الأوساط. وما يدفع الأتراك إلى هذا التساؤل؛ هو الدعم السخي الذي تتلقاه وحدات حماية الشعب الكردية من جهات عديدة.

الأغلبية الساحقة في تركيا ترى أن الولايات المتحدة تأتي على رأس القوى التي تواجهها تركيا في شمال سوريا، وأن وحدات حماية الشعب الكردية ما هي إلا أداة من الأدوات التي تستخدمها الإدارة الأمريكية لتحقيق أهدافها في المنطقة. وهذا الرأي ليس مبنيا على معاداة أمريكا لأسباب أيديولوجية، بل يستند إلى أدلة قوية وقرائن ملموسة.

الإدارة الأمريكية، على الرغم من التحذيرات المتكررة التي أطلقتها القيادة التركية، دعمت وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية بكل الوسائل، وساعدتها في توسيع نفوذها وبسط سيطرتها على مناطق واسعة في الأراضي السورية. وأرسلت إلى الإرهابيين حوالي خمسة آلاف شاحنة محملة بالأسلحة والذخائر، بما فيها الأسلحة المتطورة، بحجة أنهم يقاتلون ضد تنظيم داعش الإرهابي. وها هي تلك الأسلحة تُوَجَّه اليوم ضد القوات التركية المشاركة في عملية غصن الزيتون، بل ويتم استخدامها في قصف المدن التركية المتاخمة للحدود.

رئاسة الأركان التركية أعلنت، السبت الماضي، استشهاد خمسة جنود أتراك، جراء استهداف الإرهابيين دبابة تركية في منطقة "شيخ خورز"، شمال شرق مدينة عفرين. وهناك آراء مختلفة حول منشأ الصاروخ الذي استخدمه الإرهابيون ومن الذي زوَّدهم به. هل هو صاروخ أمريكي أم روسي؟ وهل حصلوا عليه من الأمريكيين أو الروس أو النظام السوري؟

رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان، في تصريحات صحفية أدلى بها قبيل زيارته لإيطاليا والفاتيكان، ذكر أن لدى السلطات التركية معلومات، ولكن التحقيقات لم تنتهِ بعد حول نوع الصاروخ الذي استخدمه الإرهابيون في استهداف الدبابة التركية، ووعد بكشف نتائج التحقيقات للجميع.

الصاروخ الذي استهدف به الإرهابيون الدبابة التركية في شمال سوريا قد يكون أمريكياً أو روسياً، أو من إنتاج أي بلد آخر، ولكن المسؤول الأول من مقتل الجنود الخمسة هو الجانب الأمريكي الذي أرسل إلى الإرهابيين خمسة آلاف شاحنة من الأسلحة والذخائر. وليس من المستبعد أن تكون بين تلك الأسلحة صواريخ مضادة للدبابات؛ تم شراؤها من بلاد أخرى، لإرسالها إلى وحدات حماية الشعب الكردية.

استطلاعات الرأي التي أجريت في تركيا مؤخرا؛ تشير إلى أن كراهية الولايات المتحدة في الشارع التركي بلغت ذروتها. وفي آخر استطلاع للرأي أجرته شركة "أوبتيمار للاستشارات والإعلان والأبحاث" التركية، أكد 71.9 في المئة من المشاركين معارضتهم للولايات المتحدة، في ردهم على سؤال "هل تعتبر نفسك معارضا لأمريكا؟"، في حين ذكر 22.7 في المئة منهم أنه "معارض نوعا ما"، فيما أجاب 5.4 في المئة فقط بأنه "ليس معارضا" للولايات المتحدة الأمريكية.

أنقرة ستستقبل خلال أيام مسؤولين أمريكيين. ومن المتوقع أن يصل مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت ماكماستر العاصمة التركية نهاية الأسبوع الحالي، كما سيزورها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون الأسبوع القادم. ومما لا شك فيه أن ملف عملية غصن الزيتون والتدخل التركي في شمال سوريا؛ هو الأول من بين الملفات التي سيبحثها الجانبان التركي والأمريكي خلال زيارتي ماكماستر وتيلرسون. وليس متوقعا أن تشهد العلاقات التركية الأمريكية المتأزمة أي تحسن في ظل انعدام الثقة. وهذا ما أشارت إليه تصريحات المتحدث باسم رئاسة الجمهورية التركية، إبراهين كالين، في مؤتمر صحفي عقده الأربعاء في القصر الرئاسي بأنقرة، حيث قال إن الجانب التركي يبذل جهودا لإعادة بناء الثقة مع الولايات المتحدة، وأضاف أن إعادة الثقة بين البلدين منوطة بالخطوات الملموسة التي ستتخذها الإدارة الأمريكية على الأرض.

إن كانت الإدارة الأمريكية ترغب في إعادة الثقة بين أنقرة وواشنطن، وترميم العلاقات التركية الأمريكية، فالخطوات المطلوبة منها واضحة. ويمكن أن تبدأ بسحب الأسلحة التي قدمتها إلى وحدات حماية الشعب الكردية، من أيدي الإرهابيين، وإعادة هؤلاء من مدينة منبج إلى شرق الفرات.

اقرأ المزيد
٦ فبراير ٢٠١٨
مطلوب وقف الجرائم في سورية

من يتابع كوارث نتائج الحرب السورية على البلد وشعبه وجرائم رئيس اتفق العالم أنه باق في هذه المرحلة ولا يجب التطرق إلى رحيله من أجل الحل، يتساءل عن جدية قرارات مجلس الأمن وإلزامها بشأن استخدام السلاح الكيماوي. سمعنا في ٢٠١٣ أن الرئيس الأميركي باراك أوباما امتنع عن ضرب القواعد الجوية السورية وأنه في المقابل اتفق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن بشار الأسد وحكومته سيدمران السلاح الكيماوي. وتم تبني قرار في مجلس الأمن وضع جدول زمني لتسليم وتدمير السلاح الكيماوي تبعاً لقرار منظمة منع التسلح الكيماوي. وكما هو متوقع، لا بشار الأسد ولا فلاديمير بوتين يباليان بأي التزام دولي.

فمنع استخدام السلاح الكيمياوي في سورية كما قرارات اجتماعات آستانة حول ما سمي بالعمل من أجل تخفيف التصعيد في أماكن الحرب السورية القاتلة أصبحت أوهاماً. مراسل مجلة «بلد» الألمانية جليان روبكي الذي يغطي الحرب السورية غرد أن ٢٢ مدنياً معظمهم أولاد قد اختنقوا في شرق الغوطة جراء استخدام نظام الأسد غاز الكلورين الذي تم قصفه بصواريخ كاتيوشا روسية. وقد لعب النظام الإيراني دوراً مهماً في تزويد النظام السوري بغازات السارين والخردل. وقالت ممثلة الأمم المتحدة لشؤون نزع التسلح أمام مجلس الأمن أول من أمس أن منظمة منع استخدام السلاح الكيمياوي تدقق في استخدام النظام السوري السلاح الكيمياوي.

لكن في هذه الأثناء يقع الشعب السوري تحت قصف طائرات وصواريخ النظام الكيمياوية وغيرها. ويقول الدكتور زياد أليسا رئيس اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية لسورية، إن المدن السورية تتعرض لهجوم بمعدل كل ٢٤ ساعة وهي جرائم حرب تستهدف الأطباء الذين يقدمون الرعاية الطبية للجرحى والمرضى. وتعرضت منطقة سراقب في إدلب إلى هجوم بالكلور.

وحدها فرنسا تحركت من أجل جمع دول تتخذ قرارات صارمة ضد استخدام السلاح الكيمياوي. وكان الرئيس ترامب قد أعلن لدى تسلمه منصبه أراد أن يظهر أنه مختلف عن سلفه أوباما وقصفت قواته مركزاً عسكرياً في سورية انطلق منه هجوم كيمياوي. بعد ذلك توقفت الولايات المتحدة عن الضغط ومنع الهجمات الكيماوية مكتفية بانتقاد الجانب الروسي لأنه لم يف بالتزامه.

إن ترك بشار الأسد يتصرف بمثل هذه الوحشية من دون أي رادع ما دامت روسيا وإيران راضيتين يمثل شكلاً من الإجرام العالمي بحق الشعب السوري. وينبغي أن يدرك التحالف الدولي ضد «داعش» أن هذا التنظيم من صناعة نظام سوري وحشي اعتمد القتل والتعذيب نهجاً له وأن «داعش» تعلم على أيديه الملطخة بالدماء، فالحرب ضد «داعش» لا يمكن أن تنتهي ما دام العالم يقبل بقاء الأسد وممارساته واستخباراته التي عرفها لبنان لعقود مريرة. وأمس، عندما كانت بريفي إيرينياك تتحدث أمام الرئيس ماكرون عن جريمة قتل زوجها كلود إيرينياك في كورسيكا، واستشهاد ماكرون بقول صديق زوجها إن نسيان الجريمة هو جريمة بحد ذاته كانت أذهان المراقب العربي تعود إلى جرائم النظام السوري القائمة في بلده حالياً والتي سبقتها جرائم شهداء لبنان الذين قاوموا عائلة الأسد منذ جريمة كمال جنبلاط أيام الأسد الأب ثم جريمة قتل الرئيس رفيق الحريري في عهد الأسد الابن. ولسوء حظ سورية ولبنان فإن محاسبة المجرمين لم تتم ولن تتم لأن العالم يفضل التناسي لكن، وكما قال صديق كلود إيرينياك نسيان الجريمة هو جريمة. فليعِ المجتمع الدولي أن مسؤوليته إيقاف هذه الجرائم بقوة وحزم وليس عبر مؤتمرات عقيمة مثل سوتشي وآستانة وغيرهما من مسرحيات روسية عنوانها بحث عن حل سلمي وهي بالفعل تكريس موقع روسيا في سورية. أخطأ المبعوث الأممي إلى سورية ستيفان دي ميستورا بالمشاركة في مسرحية سوتشي وكان التصعيد على الأرض في ذروته. فالمرجو من الإدارة الأميركية أن تعود إلى حزمها السابق عندما قصفت مراكز استخدام الكيمياوي لأن العقوبات لم تعد تكفي.

اقرأ المزيد
٦ فبراير ٢٠١٨
سورية الديموقراطية غير الطائفية!

منذ انطلاق الثورة السورية، وعلى امتداد منعطفاتها الصعبة ومحطاتها الحرجة، طرحت عشرات الأفكار والمبادرات ونوقش العديد من «السيناريوات» المحتملة، وكان «التقسيم» حاضراً في كل ذلك، يتقدم ويتأخر بحسب الوقائع على الأرض وزاوية النظرة وما تعتمده من مدافعات ومرافعات، وكان «سيناريو» التقسيم يستند في تحليله على فشل المعارضة والنظام في تحقيق انتصار يرغم المهزوم على الإذعان لشروط المنتصر، وزاد من قوة حجة القائلين به انتقال القضية من مسألة شعب ثار ضد جلاديه إلى «ملف دولي» دخل في تعقيد «المقايضات» الإقليمية والدولية، ولم يعد الهدف الأساس معالجة التناقض بين تلبية حق الشعب السوري في رفض الظلم وتمسك النظام بالبقاء.

ومن الواضح غياب العرب عما يجري الآن في سورية، كما تغيب المعارضة المستقلة عن المشاركة في تمثيلية «سورية الديموقراطية غير الطائفية القائمة على المواطن المتساوية» كما أعلن عنها «محركو العرائس» في سوتشي الروسية. وبات الحديث عن حلول تضمن وحدة الأراضي تحت ظل نظام ديموقراطي كلام لا يستحق الالتفات إليه، بل يثير الشفقة والاشمئزاز من رافعي لافتاته، فالواقع السوري يقول إن مشروع التقسيم يجري تنفيذه، عملياً، على أرض الواقع، فالمنطقة الشمالية، غرب نهر الفرات بين إقليم اسكندرون وجرابلس، تعمل فيها تركيا بهمة ونشاط للسيطرة عليها حماية لحدودها ومنع قيام أي وجود يتعارض مع هذه السيطرة، ومنطقة الساحل أصبحت تحت الوصاية الروسية بعد أن بنت فيها قواعدها البحرية والجوية، والولايات المتحدة تعمل، من خلال أدواتها الكردية، لإحكام سيطرتها على منطقة شرق الفرات لتبقى قريبة من العراق الذي لا تريد الخروج منه على رغم تغلغل إيران في مفاصله، وبقي نظام بشار، وغطاؤه الإيراني، مسيطراً على غالبية المدن الكبرى، على رغم ما يواجهه من جيوب مقاومة لم تمكنه روسيا من القضاء عليها قبل «ترتيب» الصورة الختامية وتوزيع المكاسب على العاملين النشطاء في الميدان، وهناك، على هذه الخريطة الممزقة، ندوب المنظمات الإرهابية والمتطرفة المتعاونة مع النظام، تعاطفاً أو خوفاً أو حاجة، موزعة على أكثر من بقعة، والجزء الوحيد الذي يبقى متأرجحاً حيران هو الجزء الجنوبي الذي لم يتقرر مصيره بعد، وهو أكثر أجزاء سورية تأثراً بما يجري على الساحة الفلسطينية.

هذه الخريطة الجغرافية والديموغرافية، هي ترجمة للمواقف السياسية للدول الموجودة على الأرض، فمنذ التحرك الروسي وخطواته العملية وتراجع الدور الأميركي وتبدل الموقف التركي، بعد سوء العلاقة مع واشنطن وآثارها على دول المنطقة ومواقعها من القضية وما يتصل بها من مسائل إقليمية، تحركت القوى الثلاث (روسيا - تركيا – إيران) لترتيب ملفات القضية، وتولت روسيا زمام المبادرة وجلست في مقعد القيادة للالتفاف على قرارات المجتمع الدولي ولحماية حلفائها الجدد والأقدمين من قرارات مجلس الأمن، ووعدهم بالحصول على ما يطمحون إليه، وكان من الواضح أن المرحلة اقتضت من كل طرف إعادة حساباته وتعديل مشاريعه وفق المعطيات الجديد، فطهران ستكتفي «بجائزتها» التي استماتت في سبيلها وجوعت الشعب الإيراني من أجلها وهي المحافظة على نظام الأقلية في دمشق، الذي يصل أسبابها بالضاحية الجنوبية في بيروت ويضمن استمرارها مع تثبيت الجسور الممتدة من بغداد، وهي في هذه المرحلة بدت وكأنها مقتنعة بما حصلت عليه من «القيادة الروسية» بعد أن كانت تريد «التهام» كل شيء وإظهار انتصارها على مفهوم «الأمن العربي» الذي فقد حقيقته وتأثيره على الواقع بسبب حال الضعف التي مزقت أوصاله وأوهنت عزائم أهله وفرقت كلمتهم.

وتركيا، التي أعلنت مراراً أنها لا تريد التوسع، سمح لها بالتحرك على الأرض السورية لتأمين ما تقول إنه ضرورة لأمن حدودها الجنوبية، وهي الحركة التي تضيف إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة، عقداًَ جديدة تشجعها المواقف الروسية والإيحاء الإيراني الذي يستفيد من توتير العلاقة بين أنقرة وواشنطن في ظل التصعيد الذي يلوح به ترامب، وبدت أنقرة، في هذه المرحلة، بعد اختفاء العرب من المشهد، أنها مناصرة لجيش سورية الحر الممثل للمعارض المستقلة، وهي، في الحقيقة، لا تطمع في أكثر من تأمين حدودها الجنوبية والاحتفاظ بتفهم روسيا لهذا الهدف والالتقاء مع إيران في الموقف المعارض لقيام أي كيان كردي على حدودهما. وتبدو واشنطن، هي الأخرى، تريد نصيبها من «سورية المقسمة» في الواقع، المحتفظة بعنوان: «وحدة الأراضي»، على رغم أنها عملياً ماضية في سياسة أوباما الذي سلم كل الملف إلى بوتين في صفقة تتصل بأوروبا الشرقية.

ولا يحتاج المراقب إلى كبير جهد ليفهم لماذا اقتصرت المرحلة الأخيرة من ترتيب أوضاع سورية على روسيا وتركيا وإيران؟ ولماذا اختفى الصوت العربي من المشهد؟ الأمر في غاية الوضوح: القضية دخلت مرحلة «التصفية» وتقسيم الغنائم ومن ليس له قدرة على أخذ سهم فليس له مكان، حتى إن مسار المفاوضات الجديد «المفروض» على السوريين الذي بدأ بآستانة وذهب إلى «سوتشي» لم تراع فيه موسكو أصدقاءها العرب القدماء والمتطلعين إلى بناء علاقات جديدة معها، وتدعوهم إلى هذا المسار الذي ألغى، واقعياً، «مسلسل جنيف» الذي رعته الأمم المتحدة، وإذا بها تذهب لتعطي مؤتمر «سوتشي «مشروعية» أممية ما كان يتمتع بها، وتمهد ليكون بديلاً ينسف المبادئ المقررة منذ «جنيف1»!

أمام هذه الصورة يصبح الحديث عن سورية الديموقراطية الموحدة غير الطائفية المعتمدة على المواطنة المتساوية ضرباً من الأحلام والأماني أو العبث المراد به «الاستهلاك» والتغطية على عجز الأمم المتحدة وإطلاق يد روسيا، ومن قبل أن يسير في ركابها بحكم المصالح أو الظروف، لتمرير أجندة باتت ملامحها واضحة.

سورية «الديموقراطية القائمة على المواطنة المتساوية» تتطلب أكثر مما يجري حالياً على أرضها، تحتاج عودة الملايين المهجرين إلى بيوتهم ومناطقهم وإعادة بسط الأمن وتوفير الاستقرار إلى ربوعهم قبل الحديث عن أي ترتيبات تفضي إلى انتخابات، وإذا توافرت الأسباب الموضوعية لانتخابات حرة نزيهة فإن نتائجها، قطعاً، ستخالف التقسيم الواقع على الأرض، وهذا معناه، عملياً، أن «جوائز» المنتصرين ستذهب من أيديهم وهو مخالف لطبيعة الأشياء، فلن تفرط روسيا في مكاسبها، ولن تتنازل طهران عن «جائزتها»، وستتمسك تركيا بنصيبها، وتتشبث واشنطن بحق حلفائها الأكراد في ما تحت أيديهم. وهكذا يبدو التقسيم هو الواقع حتى وإن تغطى بعناوين الوحدة والمساواة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)
● مقالات رأي
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب