مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٦ فبراير ٢٠١٨
سورية: أكثر من اعتداء وأقل من رد ... ونصف موقف

بدّدت «الهيئة العليا للمفاوضات»، المنبثقة عن قوى الثورة والمعارضة السورية، شكوك النظام ومؤيديه، في ما يتعلق بموقفها من الاعتداءات الإسرائيلية على سورية، في البيان الذي أصدرته عقب انتهاء اجتماعها (الرياض - 12/2)، والذي رفضت فيه أن تكون سورية ساحة للنزاعات الإقليمية، وبتأكيدها أن إسرائيل هي عدوة لكل السوريين، أي للمؤيدين والمعارضين، على حد سواء، متجاهلة بذلك زيارات متباعدة لبعض المحسوبين على المعارضة إلى الكيان الصهيوني، ما أعطى النظام على الدوام مادة حية لشن هجماته على أوساط المعارضة جميعها، باتهامه لها بأنها جزء من مؤامرة على النظام وحلفائه المشكلين لمحور المقاومة.

وعلى رغم أن البيان جاء في سياق ارتدادات إسقاط الطائرة الإسرائيلية من قبل الدفاعات الجوية السورية، إلا أنها- أي الهيئة- وجدت الفرصة متاحة لها للتعبير الضمني المؤيد والمساير للمشاعر الشعبية المتعلقة بهذا الحدث الجلل في المنطقة العربية.

ربما من المفيد القول إن إسرائيل عدوة للسوريين، والعرب جميعهم، على الأقل شعبياً، لكن، ورغم ذلك، فإن دولة الاحتلال، وهي دولة استعمارية وعنصرية وتمارس أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين وتنتهك سيادة سورية، بغاراتها المتكررة بضرب القواعد العسكرية السورية والإيرانية، هي في الوقت ذاته ليست من ساهم بتحويل سورية إلى ساحة للنزاعات الإقليمية، إذ ظلت تنأى بنفسها عن ذلك، على الأقل بصورة علنية أو مباشرة.

هكذا فإن الجيش الإسرائيلي ليس بين الجيوش التي انتشرت قواعده على امتداد أرض سورية، كحال الدول الضامنة للحل السياسي، و «خفض التصعيد» في مناطق سورية عديدة، ومنها إدلب وريف دمشق، حيث تقصف القوات الروسية والإيرانية والتركية (إضافة إلى الولايات المتحدة)، كل على حدة، هذه المناطق، لأسباب تخصّ أجندة كل دولة، ما يخلف مئات الضحايا، شهداء وجرحى، وعشرات آلاف المشردين من منازلهم، وهدم أحياء في المدن والقرى، بما في ذلك مستشفيات ومدارس ودور عبادة.

إلى ذلك، فإن البيان الصادر عن الهيئة التفاوضية، على أهمية تضمينه الموقف من إسرائيل، يجاري إعلام النظام، إلى حد ما، بتحميله هذا الكيان المغتصب أراضينا الفلسطينية والسورية وزر كل ما يحدث، تحت بند المؤامرة، في تجاهل متعمد لأدوار الدول الداعمة لمكونات هذه «الهيئة»، لا سيما روسيا وتركيا، وفي المقابل ثمة تخفيف لمسؤولية النظام وحليفته إيران ومعهم «حزب الله» كمحور مقاومة.

وفي الواقع فإن ما أحدثه التدخل الإيراني في سورية من انعكاسات سلبية على الصراع، من حيث تغيير بنيته بين طرفين سوريين، أحدهما يمتلك السلطة، ويتغول من خلالها على الطرف الآخر، الذي واجهه باحتجاجات شعبية واسعة، تطورت بفعل انتهاج النظام الحل الأمني، الذي دعمته إيران، إلى ثورة شملت معظم الجغرافيا السورية، ثم توالت التدخلات على الجانب الآخر، الذي اعتبر تصريحات الدول التي سميت لاحقاً «أصدقاء الشعب السوري»، بمثابة وعود قطعية، ستؤدي إلى إنهاء نظام الاستبداد، وإقامة نظام ديموقراطي ينهي مأساة الحكم الأمني، الذي استمر خمسة عقود متتالية، وهو العامل الأبرز في تحويل سورية إلى ساحة صراع إقليمي مسلح، تمرر من خلالها إيران رسائلها الاستفزازية إلى دول الجوار كلها، وتعمل من خلال موقعها الاحتلالي لسورية على تعبيد طريقها المفتوح، من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، من دون أن تنسى إيران «المقاومة» زرع الفتن والحروب الداخلية في اليمن والبحرين لزعزعة استقرار الخليج العربي كاملاً.

وعلى الجانب الآخر فقد تجاهلت هيئة التفاوض في بيانها ذكر حقيقة ما يحدث في سوريا من مجازر، تقوم بها الدول الضامنة لمسار آستانة، الذي وقع اتفاقيات خفض التصعيد في المناطق التي تشهد أعنف تصعيد في سورية، خلال سنوات الحرب الماضية، فحيث روسيا الدولة الضامنة للنظام تقصف مع شريكيها (النظام وإيران) بكل أنواع الأسلحة مناطق «خفض التصعيد» في ريف دمشق وإدلب، بينما تدك المدفعية التركية والطيران منطقة عفرين، من دون أي اعتبار لسورية هذه المناطق جغرافياً، وسكانياً، بغض النظر عن تنوع القوميات التي تسكن تلك المناطق من عرب وكرد وآخرين سوريين.

لقد تعاملت «الهيئة» مع الحرب في عفرين من مبدأ الحيادية حيث أقرت أهمية التهدئة، من دون التطرق إلى جوهر القضية بأن تركيا، الدولة الداعمة للائتلاف وكثير من الفصائل المسلحة- تتعاطى مع الوجود الكردي في سورية كأحد أخطار وجود حزب العمال الكردستاني، المحظور والمصنف إرهابياً في تركيا، من دون أن تعطي فرصة التعاطي مع حل النزاع السوري مع بعض أطياف الأحزاب الكردية ضمن الحل الساسي الشامل، لكل ما يحدث في سورية، ما يدفع اليوم الكرد للاستعانة بالنظام في وجه حرب لجيش دولة كبرى كتركيا يشن هجوماً على ما تسميه تركيا ذاتها ميلشيات، ما يعني حرباً غير متكافئة تعيد الكرد إلى النظام، كملجأ أخير لهم، أمام تقدم الجيش التركي مصحوباً ببعض الفصائل السورية، في حرب لا تخدم أجندة الثورة السورية، ولا تدخل ضمن معطيات المعارضة التي تتحدث عن دولة واحدة وشعب واحد!

هنا يمكن السؤال بجدية عن المغزى من أنصاف المواقف حول القضايا التي يناقشها اجتماع «هيئة التفاوض»، فمن جهة هو ممانع مع النظام ضد العدو الإسرائيلي، وهذا جيد، من دون التصريح عن موقفها من الخسائر أو الأخطار الناجمة عن تدخل إيران عبر هذا الاستهداف، ومن جهة أخرى، يتعامل البيان «بخفر» مع جرائم موسكو ضد الشعب السوري. أيضاً، وفي مكان آخر، في البيان، يتم التهرب من تصريحات أعضاء في الهيئة التي سبقت انعقاد مؤتمر سوتشي بالرعاية الروسية، والتي أكدوا فيها غير مرة أنهم: «غير معنيين بما ينتج عنه»، ليكشف البيان الصادر عن اجتماعهم أنهم منخرطون بمناقشة اللجنة الدستورية التي أقرها «سوتشي»، متناسين تصريحاتهم السابقة، بأن اللجنة الدستورية هي من اختصاص الهيئة الانتقالية، ما يهيئ للقول أن تجنّب انتقاد جرائم موسكو يدخل في صلب أنصاف المواقف، التي تتيح لبعض الهيئة ومنهم «منصة موسكو» تمرير ما لا يتماشى مع بيان الرياض 2، من خلال الهيئة، من دون أن تكلف هذه الأطراف نفسها عناء تحمل الغضب الشعبي من مواقفها.

من الملاحظ، في هذه المرحلة، وجود تقاطع في المصالح بين تركيا وروسيا وإيران في الصراع على سورية، ما يبرر تمرير مثل هذه البيانات الهشة من الهيئة، والتي تعبر عن توافقات باطنية بين الضامنين لمكونات الوفد، قبل أن تعبر عن واقع تعيشه المعارضة السورية، وينقسم بين رغبتها في المحافظة على موقعها التفاوضي مقابل النظام، وهذا يظنه بعض محدثي العمل السياسي قائم على: «التنازلات لمصلحة التبعيات»، وبين ما يحتاجه موقعها الوطني من مشروع سوري يجمع تحت جناحيه مصالح السوريين في دولة ديموقراطية، مع إبعاد شبح التدخلات الخارجية في صياغة التفاهمات حول هذه الدولة من خلال ادواتهم اللاوطنية، وبين المنقسمين ثمة من يعمل بالتوافق، الذي ينتج نصف الموقف حيث لا يمكن البناء عليه، كما لا يمكن التمسك به.

في معركة إسقاط الطائرة الإسرائيلية انتصر النظام على النظام، من دون أن يمرر هذا الانتصار أي هزيمة لإسرائيل، التي استباحت سوريا مرات ومرات إثر ذلك، ما يعني أن الانتصار كان على النظام ومنه وليس أكثر، وأن علينا أن نعترف بأن ما يحدث اليوم أكثر من اعتداء، وأقل من رد، وأنصاف مواقف من المعارضة.

اقرأ المزيد
١٦ فبراير ٢٠١٨
صراع الكبار بدأ في سوريا ... مواجهات تمهيدية بمشاركة سورية ضعيفة

أصيبت العمليات السياسية المتعلقة بسوريا بنوع من الفتور والتوقف، وإن كان بشكل غير تام، لكن بمدى يكفي لتوسيع الخيارات العسكرية بين الأطراف على الأرض، توسع هذه المرة بعيداً عن الأدوات والانتقال إلى المواجهة المباشرة.

اشتباكات دير الزور التي لازالت مستمرة، ويستمر معها كشف حجم الخسائر المتلاحقة للأطراف، فاليوم روسيا تبلغ عن وجود أكثر من 300 شخص روسي بين قتيل وجريح، في هجوم 7 شباط، الهجوم الذي يبدو أنه سيشعل فتيل المواجهة المباشرة الأولى بين روسيا وأمريكا، في صراع على الطاقة والثروات الباطنية في حقول النفط والغاز شرق دير الزور، الخاضع لأمريكا وحلفائها على الأرض.

بوادر الاشتباك المباشر لا يبدو أنها ستقتصر على اللاعبين الكبار في سوريا، إذ امكانية امتداده ليطال لاعبين أقل حجماً، ألا هما تركيا وإيران، اللذين يحاولا انتهاج أسلوب ضبط النفس، محاولات لا يبدو أنها ناجحة سيما مع التصعيد المتواتر، والذي شهد مناوشات هنا وهناك وسيكون بعدها تبعيات أكثر توسعا في قليل الأيام القادمة.

المواجهة التركية – الإيرانية، التي بدأت شرارتها ابان عملية اخلاء مدينة حلب في كانون الأول من عام 2016، عندما عرقلت طهران عملية الاخلاء، وبالأمس تكرر مع الانتشار التركي في العيس مع قصف المباشر للجيش التركي، ولكن الشرارة الأكبر التي لا يمكن التغاضي عنها، هو ما يحدث في عفرين، فبعد سلسلة التصريحات الرافضة للعملية برمتها، بدت ملامح التدخل الحقيقي الإيراني من خلال ارسال قوات من نبل والزهراء لمواجهة الجيش التركي، إضافة لظهور آليات وأسلحة نوعية مع الوحدات الكردية، مع وجود شكوك جدية لدى أنقرة أن المروحية التركية التي أسقطت، كانت بسلاح إيراني، هذه التطورات انعكست على درجة التنسيق بين الطرفين، فقطعت سلسلة اجتماعات استانا في الوقت الراهن، مع التحضير لرد في مكان قد يكون ذا قيمة عالية لطهران، وربما يكون نبل والزهراء، أو يتم الاكتفاء بإطباق حصار كامل ونهائي حول كفريا والفوعة.

في التطورات الراهنة، يوجد حالة من غياب العناصر السورية في المواجهة، صحيح أن الغياب ليس تام، ولكن هذه المرة ليس الطاغي على المشهد إذ يتصدر المشهد بدلات عسكرية متنوعة وذات طابع رسمي ونظامي.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٨
طهران ـ تل أبيب وخيارات موسكو الصعبة

بين معضلة احتواء إيران وضبط إسرائيل، تحاول موسكو تجنب الوقوع بالفخ الذي نصبته لها الدول الغربية في سوريا، التي تطالبها بالحد من نفوذ طهران والضغط من أجل انسحاب جميع الميليشيات التابعة لها من سوريا، وهو ما بات طلباً ملحاً لدى دوائر صنع القرار الغربي تجنباً لوقوع اشتباك إقليمي واسع بين إيران وإسرائيل، ستؤدي نتائجه إلى خسارة موسكو جزءاً من مكتسباتها السورية. معضلة مصيرية تحاول موسكو احتواءها من خلال دبلوماسية التوافق المستحيل بين خصمين، جمعتهما جغرافيا النزاع وتقاطعت مصالحهما على فكرة الحفاظ على النظام، ولكن من خلفيات متناقضة، كشفت الأحداث الأخيرة صعوبة تعايشها تحت السقف الروسي، ما جعل موسكو لأول مرة منذ تدخلها المباشر في الصراع على سوريا خريف 2015 أن تكون مجبرة على الاختيار بين طهران وتل أبيب.

تدرك موسكو جيدا أنها من خلال 25 طائرة حربية وعدة قطع بحرية إضافة إلى 3 آلاف جندي ومستشار وعدة شركات أمنية خاصة لا تستطيع تغطية الميدان السوري، وبأن القيادة السياسية والعسكرية ليست في وارد إرسال قوة عسكرية كبيرة من الجيش الروسي إلى سوريا تجنبا لتكرار سيناريو أفغانستان، لذلك هي مجبرة بالاعتماد كلياً على الميليشيات الإيرانية من أجل السيطرة على المساحات التي تم انتزاعها من المعارضة والحفاظ عليها بعدما فقدت الثقة بالوحدات العسكرية التابعة للأسد، وقناعتها بصعوبة إعادة ترميم جيش النظام، وهذا ما جعل الوجود الإيراني في سوريا أحد عوامل القوة الروسية. في المقابل تستفيد طهران من هذه المعادلة الميدانية من أجل ترسيخ نفوذها وحماية مصالحها وفرض وجودها على طاولة الحل، ورغم وجود امتعاض روسي من محاولات طهران ممارسة سياسة مستقلة في سوريا وإصرارها على تخطي الخطوط الحمر التي وضعتها التفاهمات الروسية الإسرائيلية، استطاعت الحفاظ على موقعها الاستراتيجي في معادلة موسكو الجيوسياسية، التي تدفعها إلى مراعاة الحساسيات الإيرانية على حساب هواجس الأمن القومي الإسرائيلي المستفز من محاولات طهران الاقتراب من حدوده الشمالية وتثبيت وجودها هناك.

وهذا لا يعني أن موسكو في وارد التقليل من موقع إسرائيل في الأزمة السورية، لكنها لم تعد قادرة على التغاضي نهائياً عن ضربات الطيران الإسرائيلي لمواقع عسكرية سورية إيرانية روسية مشتركة مثل مطار تي4. وقد نبهت موسكو تل أبيب على ضرورة الانتباه إلى سلامة جنودها وحذرتها من أن تكرار الضربات القاسية ضد مواقع نظام الأسد كما حدث منذ أيام قد تؤدي إلى إضعاف سيطرته كثيراً، وسيجعل إسرائيل في مواجهة مباشرة إما مع فصائل إسلامية متطرفة وإما مع ميليشيات إيرانية، ما قد يؤدي إلى دخولها في حرب إقليمية مكلفة غير مضمونة النتائج.

تعلم تل أبيب جيداً أن حادث إسقاط طائرة إف 16 الإسرائيلية عبر كمين جوي سوري إيراني مشترك لا ينجح دون تواطؤ روسي محدود من خلال شبكة الرادارات التابعة لقاعدة حميميم، التي تستطيع تحديد إحداثيات الطائرات المُغيرة وإعطائها للدفاعات الجوية التابعة للأسد التي استطاعت إسقاط طائرة وإصابة أخرى، لذلك اعتبر الحادث رسالة روسية لواشنطن وتل أبيب بأن موسكو ليست بوارد السماح في استفراد إيران في سوريا مراعاة للمصالح الغربية، لكنها مستعدة لتسوية تُجنب المنطقة حرباً إقليمية، خصوصاً أن تل أبيب ليست مستعدة لخوض حرب بالوكالة عن واشنطن من أجل تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة الذي جاء نتيجة مواقف باراك أوباما من الاتفاق النووي ومن الثورة السورية. وهذا ما عبر عنه نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي للشؤون الدبلوماسية مايكل أورين، الذي اعتبر أن «روسيا تمسك بأوراق الوضع في المنطقة بين إسرائيل وسوريا وإيران وأنها الجهة القادرة على وقف المواجهة التي نشأت عند الحدود».

تراهن موسكو على تحويل التصعيد العسكري الأخير إلى فرصة من أجل إعادة رسم حدود الاشتباك بين حليفيها الأعداء إيران وإسرائيل من خلال التوصل إلى تفاهم غير مباشر بينهما، يقوم على إقناع إيران بالابتعاد مسافة 30كلم عن الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة مقابل أن تتراجع تل أبيب عن اعتراضها على النفوذ الإيراني في سوريا. وهي معنية في التوصل إلى تسوية بين الطرفين لأنها على يقين بأنها الخاسر الأكبر من أي مواجهة مقبلة في سوريا خصوصا أن خياراتها أصبحت صعبة بعدما ارتبط جزء من نفوذها بالموقف الميداني الإيراني وربطت الدول الغربية اعترافها بدورها مقابل فك ارتباطها بطهران.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٨
واشنطن لموسكو: كش ملك

أسرعت روسيا إلى استثمار دور قواتها المسلحة في حماية النظام السوري، وقبضت الثمن بعقد اتفاقيتين مع الأخير، قبل بموجبهما بقاء القوات الروسية على الأرض السورية، في قاعدتين، جوية في حميميم وبحرية في طرطوس، مدة كل منهما 49 سنة قابلة للتمديد آليا، فترة إضافية مدتها 25 سنة. جاءت الاتفاقيتان تنفيذا لرؤية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاستراتيجية بالوجود العسكري في نقاط قريبة من الخاصرة الرخوة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في حوض البحر الأبيض المتوسط، للرد على التهديدات الغربية، واحتواء مخاطر زحف الحلف المذكور باتجاه حدود روسيا الغربية، ونشر الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا ورومانيا وتركيا. وقد بوشر بتحويل القاعدتين إلى مجمّعين كبيرين للقوات (البحرية غدت جاهزة لاستقبال وخدمة صنوف السفن والمدمرات والفرقاطات والغواصات والطرادات النووية. والجوية لصنوف الطائرات، قاذفات ومقاتلات ومروحيات. وعززا بالدفاعات الجوية الحديثة من طراز إس 300 وإس 400 والدبابات والمدرعات والأسلحة والذخائر، بالإضافة إلى طواقمها من الجنود وصف الضباط والضباط الذين تجاوز عددهم 4500 فردا لتشغيلها وحمايتهما)، وإلى نقطتي ارتكاز متقدمتين في مسرح عمليات فائق الأهمية.

لم تكتفِ روسيا بالقاعدتين على الأرض السورية، بل تحركت لاستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي في مصر والجزائر والسودان، وتواصلت مع الجنرال خليفة حفتر في ليبيا للغرض نفسه، من أجل تكثيف الضغط على التحالف الغربي، ودفعه إلى الإقرار بها قوة عظمى، والتسليم بدورها ومصالحها والاتفاق معها على مخارج للملفات العالقة بينهما (رفع العقوبات الاقتصادية عنها، القبول بضم جزيرة القرم، وقف نشر الدرع الصاروخية الأميركية قرب حدودها، وقف زحف حلف الناتو نحو حدودها)، وعلى مناطق النفوذ وحل المشكلات الإقليمية والدولية الساخنة.

جاء التدخل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، بعد فشل محاولات وقف زحف "الناتو" ونشر الدرع الصاروخية الأميركية في الهجوم على جورجيا عام 2008، واقتطاع أراض منها وإقامة كيانين سياسيين تابعين (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية) والهجوم على أوكرانيا عام 2014، وضم جزيرة القرم وتشكيل جمهوريتين "شعبيتين" مواليتين في شرقي البلاد (جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك)، وما ترتب عليه من فرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ عليها، انعكست سلبا على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، التي تعاني من مصاعب أصلا بسبب انهيار أسعار النفط، وانهيار سعر صرف العملة الوطنية: الروبل.

لم تستجب الولايات المتحدة للرسائل والإشارات الروسية، بل تركتها تغوص في الصراع  السوري، من أجل استنزافها وتدفيعها أثمانا باهظة، وتحميلها مسؤوليات سياسية وأخلاقية عن القتل والتدمير الممنهج للمدن والبلدات والقرى السورية الذي انخرطت فيه، إلى جانب قوات النظام وحلفائه الإيرانيين ومليشياتهم الطائفية، ووضعها في مواجهة العالم الإسلامي السنّي، على خلفية هذا الاصطفاف المذهبي، لابتزازها ودفعها للخروج من أوكرانيا وإعادة جزيرة القرم إليها.

ردّت الولايات المتحدة على رؤية بوتين الاستراتيجية، ونشره قوات روسية في سورية، بعقده الاتفاقيتين المذكورتين، بخطوة من النوع نفسه: إقامة قواعد عسكرية على الأرض السورية (5 قواعد عسكرية شمال شرق الفرات جُهز بعضها لاستقبال طائرات ثقيلة واستيعاب معدات وعتاد متطور، خصوصا قاعدة تل حجر في منطقة رميلان التي زودت بتقنيات دقيقة، وفق مصادر مطلعة أشارت إلى الحراسة المشددة حول القاعدة المكونة من طوقين، خارجي تقوم به "وحدات حماية الشعب" الكردية، وداخلي تقوم به قوات خاصة أميركية ويمنع اجتيازه لغير الأميركيين، بالإضافة إلى نقل المعدات من كردستان العراق عبر معبر سيمالكا بشاحنات مغلقة كي لا يتم التعرف إلى طبيعة المعدات ونوعيتها)، والإعلان عن بقائها (القوات الأميركية) فترة مفتوحة. وهذا مع قاعدة التنف، ذات الموقع الاستراتيجي الحساس (على مشارف الحدود مع العراق والأردن والجولان السوري المحتل)، والمزوّدة بأسلحةٍ حديثةٍ ومتطورة، راجمات صواريخ مداها 350 كم قادرة على شل القاعدتين الروسيتين في حميميم وطرطوس، والأسلحة التي خزّنتها ونشرتها في إسرائيل، يعكس التوازن العسكري بينهما شرق المتوسط. تتضح الصورة أكثر، إذا ربطنا هذه المعطيات بالاستراتيجية الأميركية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في خطابه عن حالة الاتحاد، واعتباره روسيا تهديدا للأمن القومي الأميركي، وبرنامجه لتطوير القوة النووية الأميركية (التركيز على تصنيع قنابل نووية صغيرة لتكون قابلة للاستخدام).

يمكن اعتبار الخطوة الأميركية، إقامة هذه القواعد وتجهيزها بالتقنيات والمعدات المتطورة والعتاد الثقيل، تطويقا للقاعدتين الروسيتين، وامتصاص أثرهما واحتواء دورهما في معادلة الصراع الغربي الروسي. وهذا يفسر إلى حد كبير عصبية القيادة الروسية وتوترها والتصريحات الحادة ضد الوجود الأميركي على الأرض السورية (عدم شرعيته، زوال مبرّره، هدفه تقسيم سورية، المطالبة بانسحابه) التي أطلقها كل من وزير الخارجية، سيرغي لافروف، وزير الدفاع سيرغي شويغو، الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، الممثل الخاص للرئيس الروسي في سورية، ألكسندر لافرنتييف، الناطقة باسم الخارجية، ماريا زخاروفا، السفير الروسي في لبنان، ألكسندر زاسيبكين، السفير الروسي في دمشق، ألكسندر كينشاك، رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، فلاديمير شامانوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما، قسطنطين كوساتشيف، بالإضافة إلى الحملات الإعلامية التي شنتها وسائل الإعلام الروسية المرئية والمسموعة والمقروءة على الدور الأميركي في سورية.

لم تتوقف الحملة الروسية على الوجود العسكري الأميركي في سورية، وخصوصا في شمال شرق نهر الفرات، عند الحملات الدبلوماسية والإعلامية، بل سعت إلى تحفيز ضغط ميداني مباشر من خلال مباركة الموقف الإيراني الذي أعلنه مستشار المرشد الأعلى، علي أكبر ولايتي، والذي لوح بطرد القوات الأميركية من شمال شرق الفرات، واختبار مدى جدية الموقف الأميركي في الدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية" بمهاجمة مواقع تلك القوات في ناحيتي ذيبان والبصيرة (قرى خشام، جديد عقيدات، جديد بقارة) في محافظة دير الزور بقوات من الفيلق الخامس، الذي شكلته منذ نحو عام، تساندها قوات موالية لإيران (لواء الباقر). والدفع نحو صدام أميركي تركي، من خلال تشجيع تركيا على تحدي الموقف الأميركي من بقاء "قوات سورية الديمقراطية" في منبج، والتصعيد عسكريا ضد فصائل المعارضة لإحراج واشنطن التي شجعتها على مقاطعة مؤتمر سوتشي، وربط استكمال العملية السياسية باستعادة النظام السوري لكل الأراضي السورية. وهذا استدعى ردا أميركيا تمثل في هجمات بطائرات درون (طائرات من دون طيار) على قاعدتيها في حميميم وطرطوس (نجم عنها إعطاب سبع طائرات ومنصة صواريخ إس 400)، وإسقاط طائرة سوخوي 25 في محافظة إدلب، وقصف قوات النظام وحلفائه في ريف دير الزور (قتل 137 عنصرا منهم) في استهداف مباشر للوجود الروسي في سورية.

تنطوي الخطة الأميركية على نتيجتين مباشرتين بالنسبة للملف السوري: بقاء الملف مفتوحا فترة غير محدّدة، وما سينجم عن ذلك من قتل ودمار وتهجير، واستمرار حاجة واشنطن لقوات "وحدات حماية الشعب" الكردية، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، في الحروب بالوكالة الدائرة على الأرض السورية، ما سيدفعها إلى الضغط من أجل إشراك الحزب المذكور في المفاوضات، مع احتمال تبني مشروعه الفيدرالي في سورية.

اقرأ المزيد
١٥ فبراير ٢٠١٨
دبلوماسية إسقاط الطائرات في سوريا

في أقل من أسبوعين، أسقط مقاتلون سوريون، مقاتلةً روسيةً، وأسقط أكرادٌ مروحيةً تركيةً فوق عفرين، وأسقط الإيرانيون طائرتين حربيتين إسرائيليتين. ماذا بعد هذه الاشتباكات؟

على التراب السوري ثلاث درجات من القوة. الأميركية ضد الروسية. والإسرائيلية ضد الإيرانية. والميليشيات من «حزب الله» ونحوه ضد «الجيش الحر السوري» وغيره.

ويبقى احتمال الاصطدام الإيراني الإسرائيلي هو الأهم، لأن تركيا لن تصعد ولن تتوغل، ويمكن رسم العلاقة معها في منطقة القتال. وربما غيرت سلسلة الأحداث الأخيرة قواعد الاشتباك. فإسرائيل قامت بقصف وقتل إيرانيين مباشرة، بعد أن كانت في السابق توقع العقوبات بميلشياتهم من «حزب الله» وغيره.

والولايات المتحدة، أيضاً، قتلت مائة من ميليشيات موالية لإيران، لأنها هاجمت مسلحين أكراداً موالين لها. يبدو أن روسيا وإيران بيتتا لضرب إسرائيل ضمن رسم «قواعد الاشتباك». فإسرائيل غضبت من دخول طائرة درون إيرانية صغيرة أجواءها، وردت بقصف مواقع للحرس الثوري الإيراني، الذي تجرأ على إسقاط طائرتين إسرائيليتين، ورد الإسرائيليون بقصف مواقع إيرانية مباشرة. ومثلما أنكرت واشنطن معرفتها بما فعله حلفاؤها، أنكرت موسكو أي دور لها في إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين! أمر مستبعد تماماً.

النتيجة حركة دبلوماسية خلف الأبواب المغلقة بين واشنطن وموسكو وإسرائيل وإيران، إما إنها تسعى لتنظيم الخلاف ورسم قواعد الاشتباك، وبالتالي تجنب توسيع المواجهة العسكرية، أو الذهاب إلى مواجهات مباشرة، إيرانية إسرائيلية!

معروف أن إيران أضعف عسكرياً من إسرائيل، ولا تستطيع الانتصار، لكنها تستطيع إلحاق الأذى بها. فهي تستخدم جيشاً من المجندين الأجانب مستعدة للزج به، يقدر بأكثر من خمسين ألفاً من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها.

إسرائيل مثل تركيا تأخرت في التدخل، وهي تدفع ثمن تبنيها «سياسة البلكونة» بالجلوس في الشرفة، والتفرج على الحرب الأهلية في جارتها سوريا اعتقاداً أنها تستنزف خصومها. مثل تركيا، تركت إيران تتمدد، وتبني قواعد، وتنشر ميليشياتها وتستغل الغطاء الروسي. الآن تشتكي تركيا وإسرائيل من أن الحرب صارت تهدد أمنهما واستقرارهما. ولا نرى احتمالية أن تهدأ الأوضاع طويلاً في سوريا، بل المواجهات بين القوى المختلفة هي الأرجح. فقد وصلت الأمور إلى وضع يصعب على أي فريق الانسحاب دون القبول بالخسائر. فميلشيات إيران منتشرة في كل مكان، وتزداد في تقويتها، تريد حكم سوريا مستغلة ضعف نظام الأسد الذي فقد معظم قدراته العسكرية والأمنية.

وليس الوضع طارئاً كما توحي التصريحات التي أعقبت إسقاط الطائرتين الإسرائيليتين. لنتذكر أن تل أبيب تدرس، وتفاوض، وتستعد للوضع السوري تحت الاحتلال الإيراني، وكان الموضوع الرئيسي في لقاءات المسؤولين الإسرائيليين مع الروس والأميركيين خلال الأشهر القليلة الماضية.
ومهما قيل، فما حدث ليس مفاجئاً، ويفترض أن يوضع في إطار تبادل إسقاط الطائرات ضمن صراع القوى الكبرى والمتوسطة على التراب وفي الأجواء السورية.

الجميع ينفي، لكن الحقيقة تبدو غير ذلك. فالمعارضة السورية المسلحة عندما أسقطت طائرة روسية فوق إدلب نفى مسؤول في «البنتاغون»، قبل تسعة أيام، أن تكون الولايات المتحدة خلفها، وأنكر أنهم زودوا حلفاءهم في سوريا بصواريخ أرض جو. والروس نفوا علاقتهم بإسقاط مقاتلتي إسرائيل. وإيران تنفي أنها طيرت الدرون داخل إسرائيل، مدعية أن قوات النظام السوري من أرسل الدرون، ومن أطلق الصواريخ التي تصدت للمقاتلات الإسرائيلية. الحقيقة أن الجميع شركاء في الحرب، وهذا فصل مهم دفن مشروع «سوتشي»! الحل في سوريا إخراج قوات النظام الإيراني وميلشياته، ووضع حل سياسي مقبول للجانبين المتحاربين.

اقرأ المزيد
١٤ فبراير ٢٠١٨
الحرب العالمية الثالثة اشتعلت في سوريا

إذا جاز لنا التعبير، غيرت تركيا منحى السياسة العالمية من خلال عمليات درع الفرات وجرابلس والباب وغصن الزيتون ضد تنظيم داعش ووحدات حماية الشعب.

مع القضاء على داعش انكشف النفاق العالمي المسمى بـ "التحالف الدولي" على حقيقته، ولهذا ظهر إلى الواجهة الصراع  الجيوسياسي الذي خاضته القوى العالمية في الخفاء.

الحرب الدولية على الإرهاب بدأت بالتخلي عن مكانها لصالح حرب أخرى لا هوادة فيها بين القوى العظمى في العالم. وفي هذا السياق فإن وطيس الصراع بدأ يستعر بين روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا في سوريا على الأخص.

في هذه المرحلة الجديدة، تقف الولايات المتحدة وإسرائيل في جانب، وروسيا وتركيا، فضلًا عن إيران والنظام السوري في جانب آخر.

في 6 يناير/ كانون الثاني تعرضت قاعدتان عسكريتان روسيتان في طرطوس وحميميم لهجوم من جانب 13 طائرة مسيرة، وكان هذا طلقة البداية للمرحلة الجديدة.

اعتبر المسؤولون الروس أن هذا الهجوم هو استفزاز أمريكي، وفي أعقابه شهر البلدان أسلحتهما في مواجهة بعضهما البعض.

في 20 يناير، أطلقت تركيا عملية عفرين، التي زعزعت الموازين في المنطقة. وفي 3 فبراير/ شباط، أُسقطت مقاتلة روسية من طراز سوخوي 25، في المنطقة الخاضعة لسيطرة تركيا في إدلب.

في اليوم نفسه، تعرضت دبابة للجيش التركي إلى هجوم في محيط عفرين أسفر عن سقوط 8 من عناصره.

مساعد رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الشيوخ الروسي فرانز كلينتسيفيتش قال بشأن المقاتلة المستهدفة بصاروخ محمول على الكتف: "أعطت الولايات المتحدة هذا الصاروخ إلى الإرهابيين عن طريق بلدان أخرى. يرمي إسقاط الطائرة إلى إفساد علاقات موسكو مع أنقرة. دور الاستخبارات الأمريكية واضح جدًّا في هذا الهجوم الذي يبدو شديد التعقيد"، مؤكدًا استمرار الهجمات الأمريكية على التحالف الروسي التركي.

بعد ثلاثة أيام من استهداف الدبابة التركية، في 7 فبراير التقط جنرالات أمريكيون صورًا مع إرهابيي وحدات حماية الشعب ليبدوا تضامنهم معهم، فيما اعتُبر تحديًا لتركيا.

وفي اليوم التالي، هاجمت الولايات المتحدة ميليشيات موالية للنظام السوري نفذت هجومًا على إرهابيي وحدات حماية الشعب في دير الزور. وادعى الجيش الأمريكي أنه قتل مئة من عناصر الميليشيات المذكورة.

وأمس الأول، شهدت الحرب السورية المستمرة منذ 7 أعوام تطورًا جديدًا، أشبه ما يكون "بحرب داخل حرب". فقد أسقطت إسرائيل أولًا طائرة إيرانية مسيرة، كانت تحلق فوق مرتفعات الجولان المحتلة.

وفي أعقاب ذلك، هاجم نظام دمشق مقاتلة إسرائيلية من طراز إف-16، لترد عليه تل أبيب بالهجوم على 12 هدفًا في سوريا، 4 منها إيرانية و8 تابعة للنظام.

هذا المشهد الدامي خلال الأيام السبع الأخيرة هو في الحقيقة خير مؤشر على أن الحرب العالمية الثالثة اندلعت منذ مدة في سوريا.

اقرأ المزيد
١٤ فبراير ٢٠١٨
ما بعد حرب الفناء في سوريا

تمثل الفترة الأخيرة من الحرب في سوريا مرحلة هي الأكثر دموية والأشد إيلاماً في السنوات السبع الماضية. فمن النادر أن مرّ أحد أيامها السوداء دون سقوط مئات من القتلى والجرحى، جلّهم من المدنيين العزل ومن النساء والأطفال الذين تلاحقهم هجمات حلف نظام الأسد مع الروس والإيرانيين وميليشياتهم، وتهاجم مخيماتهم ومنازلهم ومدارسهم والأسواق، وصولاً إلى المشافي القليلة والحقول والبراري، التي ينتشرون فيها هرباً من هجمات البراميل المتفجرة والصواريخ، وأسلحة الدمار الشامل المحرّمة دولياً من أسلحة كيماوية إلى قنابل النابالم.

ويزيد بشاعة الحرب الجارية في سوريا تفاصيل أخرى بينها، أن الحرب تتواصل على مناطق محاصرة وشبه مغلقة، مثالها الأكثر وضوحاً غوطة دمشق الشرقية المحاصرة بصورة شبه محكمة منذ أكثر من أربع سنوات، منع فيها الدخول والخروج، بما فيه دخول الغذاء والدواء وحليب الأطفال واللوازم والتجهيزات الطبية، وانعدمت فيها خدمات التعليم والصحة، وهي حالة تقارب ما صارت إليه محافظة إدلب وجوارها في أرياف حلب وأرياف حماة، التي إضافة إلى سكانها، تضم مئات آلاف النازحين والمهجرين من مناطق أخرى كثير منهم، تم إيصالهم إلى هناك نتيجة اتفاقيات هدن من محيط دمشق وريفها ومن حمص ومناطق أخرى، كانت حتى الأمس القريب خارج سيطرة نظام الأسد.

وثمة نقطة تضاف في مجريات الحرب. إذ تتواصل لا في سياق استعادة سيطرة النظام وحلفائه على تلك المناطق فقط، وإنما بالتوازي مع هدف آخر ربما هو الأهم، وهو الانتقام من سكان تلك المناطق وتقتيلهم، ورغم هذا يواجهون الهجمات ويصدّون محاولات قوات الأسد وحلفائها لاقتحام الغوطة من جهة، ورداً على عملية إسقاط طائرة روسية، تمت مؤخراً في إدلب – وهو ما أكدته تصريحات صدرت رسمياً عن مسؤولين روس - استتبعت جلب طائرات حديثة للمشاركة في الحرب الجارية.

بشاعة هذه الحرب، لا تتصل فقط بمجرياتها وبنتائجها من قتل وجرح وتدمير وتهجير، إنما أيضاً بطبيعتها من حيث استهداف شبه حصري للمدنيين ومن استخدامها أشد الأسلحة فتكاً، وتحويل المناطق المستهدفة إلى ساحة لاستعراض واختبار أحدث الأسلحة والذخائر الروسية، وسط تشارك القوات الروسية والإيرانية مع قوات النظام والميليشيات الخاضعة لغرف عمليات مشتركة.

ومما لا شك فيه، أن البيئة المحيطة بحرب الفناء، تعطي لها خصوصية، تضاف إلى ما سبق. إذ تتواصل بعد جلب وإخضاع أغلب جماعات المعارضة المسلحة، ودفعهم للانخراط في مسار آستانة المتوافق عليه بين روسيا وإيران وتركيا، والضغط المتواصل على المعارضة السياسية وتهميشها سواء في تحالفها التفاوضي ممثلاً بالهيئة العليا للمفاوضات، التي أنتجها مؤتمر الرياض2، أو القوى المنخرطة فيها، ولا سيما الائتلاف الوطني السوري بعد أن رفضت جميعاً حضور مؤتمر سوتشي، وخطته في تدويل المساعي الروسية لحل يتوافق مع مصلحة تحالف نظام الأسد وإيران وروسيا، وتثبيته في مسار جنيف ليغدو الإطار الدولي للحل في سوريا.

وسط تلك المعطيات، يطرح سؤال عما يمكن أن تتركه حرب الفناء في سوريا على السوريين من نتائج راهنة ومستقبلية؟

إن الأبرز في النتائج، هو إشاعة اليأس والإحباط لدى غالبية السوريين، إن لم نقل كلهم؛ لأن الموجودين في مناطق سيطرة النظام، ليسوا بأفضل حالاً من أقرانهم في المناطق الخارجة عن سيطرته، واليأس ليس فقط بسبب القتل والإعاقات والتهجير والتدمير، إنما بسبب انعدام شروط الحد الأدنى للحياة الإنسانية والحرمان من خدمات التعليم والصحة، وإشاعة الاقتتال بين مكونات الجماعة الوطنية القومية والدينية والطائفية والمناطقية، واستخدامها أدوات في صراعات الدول المتدخلة في القضية السورية، والإهمال الشائع من المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه لمعاناة السوريين الكارثية، وبخاصة لجهة قتلهم الرخيص والواسع بالأسلحة المحرمة دولياً، والإبقاء على قضيتهم دون حل، ودون أفق لحل منتظر.

ومن البديهي، أن يسبب ما سبق نمواً وتوسعاً في اتجاهات التشدد والتطرف في أوساط لا تعاني فقط، وإنما هي محرومة من فرص التعليم والعمل، التي ستخلق جيلاً من الهامشيين ومحدودي الفهم والقدرة على معالجة المشكلات القائمة بطرق عقلانية وموضوعية وعملية؛ مما يجعل أكثرية السوريين بيئة قابلة لسيطرة المتطرفين والإرهابيين الذين سيمدون نشاطهم نحو بلدان الجوار والأبعد منها، ولدينا اليوم أمثلة ملموسة سواء في نموذج «داعش» الذي جاء من العراق و«النصرة» الموصوفة بفرع القاعدة، وحزب الاتحاد الديمقراطي السوري الموصوف بفرع حزب العمال الكردستاني في تركيا (بي كي كي).

وسيكون الأمر أسوأ مع التهميش والتدمير القائم للمعارضة السياسية والمسلحة الحالية (رغم مساوئ الاثنتين ومشاكلهما الراهنة)، وهو سلوك مقترن على نحو عام مع تهميش النخبة السورية في سوريا وخارجها؛ الأمر الذي يعني ترك السوريين في أيدي الغوغائيين والجهلة وعديمي الإمكانات والقدرات، ولعل أكثرية الوفد الذي أرسله النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون لحضور مؤتمر سوتشي مؤشر على النموذج الممكن من القيادات السورية المقبلة، التي تخلقها حرب الفناء والقائمون بها. إنها باختصار حرب تتجاوز في نتائجها وآثارها كل ما يظهر للعين من حيثيات وتفاصيل.

اقرأ المزيد
١٤ فبراير ٢٠١٨
حرب الطائرات فوق جغرافيا الكارثة السورية

بعد أكثر من 115 غارة على الأراضي السورية منذ بدء الثورة عام 2011، وقرابة 36 عاماً من آخر مرّة أسقطت فيها طائرة إسرائيلية خلال اجتياح قواتها لبنان عام 1982، تمكّن النظام السوري أخيراً من إيجاد «الوقت المناسب للرد» على الغارات الإسرائيلية وامتلك الإرادة والإمكانيات لإسقاط طائرة «إف 16» عبر كمين معقّد ساهمت فيه طائرة مسيّرة إيرانية محمّلة بصاروخ توغّلت في الأراضي الفلسطينية، تبع إسقاطها السيناريو المعلوم والمتوقع من خروج ثماني طائرات إسرائيلية لقصف الموقع الذي خرجت منه الطائرة الإيرانية لتقابل بعشرات الرشقات من صواريخ إس 200 (المعروف بـ«سام 5») الروسية الصنع ما أدّى لإعطاب وسقوط طائرة إسرائيلية (أصيب أحد طياريها بجراح خطيرة) وإصابة طائرة أخرى.

على ازدحام الحلبة السورية المفتوحة منذ سبع سنوات على كافة أشكال الصراع الدولية والإقليمية بالمفاجآت فإن إسقاط الطائرة الإسرائيلية يعتبر حدثاً فريداً كونه يوجّه صفعة كبيرة للغطرسة الجوّية الإسرائيلية، ويجعلها، مثل باقي القوى المتصارعة في الأجواء والأراضي السورية، غير محصّنة من نيران العواقب التي تنال المتدخلين هناك، مما يفرض عليها حسابات جديدة لقواعد الاشتباك، ويجعل فكرة تقييد حركة ذراعها الجوّية الطويلة ممكنة.

ولا تغيّر ردود الفعل الإسرائيلية التالية على إسقاط الطائرة (قصف 12 موقعاً إيرانياً في سوريا)، ولا تصريحات رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إن قواته ستواصل العمليات هناك أن واقعة عسكرية (وسياسية بالتالي) جديدة قد ارتسمت في مفادها أن على طائرات إسرائيل أن تتحسّب من ردّ قاس حين تدخل الأجواء السورية.

ورغم أن الفاعلين الرئيسيين في المعادلة المستجدة هما إيران وإسرائيل، فإن هكذا واقعة ما كانت ستمرّ من دون ضوء روسيّ أخضر، وهو ما يمكن ربطه، بسقوط طائرة سوخوي روسية في إدلب قبل أسبوع ومقتل طيارها بصاروخ حراريّ أطلقته المعارضة السورية، تبعه اتهام لواشنطن بالمسؤولية عن تزويد «هيئة فتح الشام» بالسلاح الفعال المضاد للطائرات، وكذلك بالضربة الأمريكية لميليشيات إيرانية وسورية وجنود روس خلال تحرّك لاحتلال حقل غاز في منطقة دير الزور، وقبلها هجوم طائرات مسيّرة متطورة على قاعدة حميميم ما أدّى لإعطاب عدد من الطائرات الروسية هناك.

استخدام منظومة الدفاع الجوي الروسية في سوريا للتصدي لطائرات إسرائيل قد يعني أيضاً أن موسكو تعلّق تفاهمات سابقة مع تل أبيب وتنسّق بشكل كبير مع إيران وهو ما سيدفع إسرائيل لإعادة حساباتها الروسيّة ويجعلها تتمهّل كثيراً قبل أن تفكر بتصعيد كبير ضد طهران.
غير أن أسوأ ما في الأمر، أن هذه الصراعات كلّها تجري في سوريا، وأنها تخضع لحسابات دول تشارك (مع النظام السوري) في دوّامة القتل المبرمج لمئات آلاف المدنيين المحاصرين والجوعى في مشافي وأسواق وأفران ومساجد وبيوت أهل الغوطة وإدلب ودرعا ودير الزور وغيرها.

اقرأ المزيد
١٣ فبراير ٢٠١٨
حين تبين لإسرائيل أن للردع وجهين

في «اليوم التالي» للحرب التي لم تقع بين إسرائيل وسورية – إيران، أخذت إسرائيل، على لسان إعلامها ومعلقيها العسكريين، تراجِع حساباتها ليقينها أن بعض المعادلات التي عملت بموجبها حتى الأمس القريب كان مغلوطاً أو نابعاً أساساً عن ثقة زائدة بالنفس، ما دفع بكثيرين من المعلقين إلى اعتبار ما حصل «علامة فارقة» يضع الدولة العبرية أمام معضلة: هل تواصل قصفها مواقع في سورية وحربها ضد النفوذ الإيراني في سورية وهذه المرة بثمن احتمال دخول حرب إقليمية هي الأوسع منذ حرب العام 1973؟ أم تلجأ إلى «ضبط النفس»، فتتجرع ما حصل وتدفع ثمناً ينعكس على سلاحها الأقوى الذي تتباهى به: الردع.

لم يكن يوم السبت الماضي يوماً كبقية الأيام في إسرائيل. منذ عقود لم تجد إسرائيل نفسها مبغوتة ومرتبكة وكتومة. استذكرَت أن المرة الأخيرة التي أسقِطت طائرة حربية لها كانت قبل 35 عاماً، لكن في سماء لبنان، وليس في أعماق أراضيها على مسافة عشرات الكيلومترات من الحدود، وأكثر من ذلك على يد صاروخ قديم استطاع إسقاط طائرة مجهزة بأحدث المنظومات الإلكترونية.

تبدلت لغة التهديد التي صعّدها نتانياهو وليبرمان في الأسابيع الأخيرة أن لا يحاول أحد اختبار إسرائيل، بهدوء مفاجئ فرضه نتانياهو على وزرائه والقادة العسكريين.

بذلت إسرائيل كل جهد لتطمئن العالم أن وجهتها ليست نحو التصعيد فبثّت، إثباتاً لذلك، صور عشرات آلاف المتنزهين في جبل الشيخ والمحميات الطبيعية في الشمال، في موازاة طمأنة مواطنيها بأنهم بأيادٍ أمينة. لكن هذه الرسالة العلنية قابَلتها تساؤلات مكثفة حول التصرف المستوجب. إذ ثمة شيء جديد حصل لم يكن في الحسبان. هل تتحرك لـ «رد الاعتبار» وتتحمل ثمن ذلك؟ هل تكون مستعدة لحرب واسعة مع أثمانها المختلفة، أم تكتفي بالتهديد في موازاة دعوة «أمسكوني»؟ أم تمر مر الكرام على إسقاط طائرتها وتكتفي ببيانها بأنها ألحقت دماراً هائلاً بالدفاعات الجوية السورية وبمنظومات إيرانية متطورة، وبدعوتها روسيا للتحرك من أجل منع اندلاع حرب شاملة؟

والأهم: هل الجبهة الداخلية والبلدات الشمالية التي تفتقر إلى الملاجئ المناسبة مستعدة لتحمل الثمن؟ وكيف المحافظة على معنويات عالية لدى الإسرائيليين طالما شكلت لبِنة أساسية في اعتبارات المستويين السياسي والأمني؟ ولم ينسَ البعض طرح التساؤل: هل يتهور نتانياهو في الخروج في حرب للتغطية على فساده؟

ولدى المعلقين عادت معادلة «الحرب على الوعي» أو «صورة الانتصار»: هل تكون شريط فيديو اعتراض الطائرة الإيرانية المسيّرة، أم شريط فيديو هبوط الطياريْن ثم صور النيران المشتعلة من الطائرة الحربية «أف 16»؟ وكان الجواب الحازم للإسرائيليين: هذه المرة كانت الغلبة لصورة إسقاط الطائرة. لم يكن سهلاً على إسرائيل تجرع مرارة هذه الصورة. مع ذلك، فإن الصورة لن تشكّل حائلاً دون إصرارها على منع وجود إيراني في الأراضي السورية أو اعتراض قافلات أسلحة متطورة من سورية إلى «حزب الله». ستبقى عيناها نحو «حزب الله» أساساً لقربه الجغرافي من البلدات الإسرائيلية. من هناك يأتيها التهديد الأكبر، وليس من أعماق الأراضي السورية.

لا يمكن التشكيك بقدرات إسرائيل العسكرية وأنها إن أقدمت على حرب على لبنان وسورية فقد لا تتردد في حرق الأخضر واليابس، لكنها تأخذ في الحسبان دماراً مماثلاً داخلها أيضاً، كما تأخذ على محمل الجد تهديدات حزب الله بأن صواريخه تطاول كل بقعة في إسرائيل، وقد يكون إغلاق سماء مطارها الدولي لساعة من الزمن نتيجة هذه التهديدات.

لن تتغير أهداف إسرائيل، ولن تتغير مطالبها في شأن ادعائها حول اتساع النفوذ الإيراني في سورية، وتعاظم قوة حزب الله العسكرية، وحقول الغاز المختلف عليها مع لبنان، ومطالبتها روسيا والولايات المتحدة بأن تأخذا مصالح إسرائيل في الحسبان عند أية تسوية في سورية، وأن تكون حاضرة في رسم حدود مصالح الأطراف المختلفة. لن يثنيها إسقاط طائرتها عن القيام بأي عمل عسكري يحقق لها هذه المطالب، لكن الجديد في الأمر أنها ستعدّلها بعد أن أدركت أن قواعد اللعبة تغيرت، ولن تستكين أكثر إلى أن سورية لن ترد على أي اعتداء تقوم به.

اقرأ المزيد
١٣ فبراير ٢٠١٨
حرب على الأبواب؟

وصلت حدة التوتر على الجبهة العربية الإسرائيلية، وخصوصاً على الحدود بين فلسطين المحتلة وكل من لبنان وسورية، إلى مستوىً غير مسبوق نتيجة مجموعة من التراكمات، واقتربت أمس من لحظة الانفجار مع إسقاط طائرة "أف 16" إسرائيلية، بصاروخ أطلق من الأراضي السورية. لكن هل تعني هذه التطورات أن الحرب باتت واقعة لا محالة، وأنها أصبحت قريبة الاندلاع؟

هذا السؤال يشغل متابعين ومواطنين كثيرين، خصوصاً في لبنان وسورية، مع كثير من القلق حول التداعيات المحتملة لاندلاع مثل هذه الحرب، غير أن المعطيات المستجدة، بعد حادثة يوم أمس، قد تعطي إجابة مريحة نسبياً لهذا السؤال، لتعيد الأوضاع إلى مربع التهدئة الأساسي الذي كان قبل أشهر، لفترة لا بأس بها من الزمن، ولا سيما من إسرائيل، إلى حين استيعاب عملية إسقاط الطائرة وتداعياتها وأبعادها.

من الممكن القول إن إسقاط الطائرة الإسرائيلية سيؤسس لقواعد اشتباك جديدة على الحدود بين فلسطين المحتلة وكل من لبنان وسورية، بعد دخول منظومة الأسلحة المضادة للطيران على خط الاشتباك المستمر منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية، حين كانت دولة الاحتلال تنفذ غارات جوية على مواقع داخل الأراضي السورية، بذريعة منع وصول أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان، مدركةً أن نظام الدفاع الجوي في سورية غير قادر على إلحاق الأذى بالطائرات الإسرائيلية الأميركية. غير أنه مع دخول أطرافٍ عديدة على خط الأزمة السورية، ولا سيما مع الوجود الإيراني والروسي على الأرض، تبدلت الأمور على ما يبدو، خصوصاً مع التأكد من وجود أسلحة "كاسرة للتوازن" على الأراضي السورية، وربما اللبنانية.

التحولات الحاصلة على الأراضي السورية ليست مقتصرةً على المعطيات العسكرية، بل على السياسية أيضاً، إذ لم يعد قرار الحرب والسلم بيد النظام السوري، ولا حليفه الإيراني، واللذين يحتاجان إلى التنسيق باستمرار مع الراعي الروسي للأحداث في سورية، كبيرها وصغيرها، وحتى إسقاط الطائرة أمس، لم يكن ليحدث، لو لم تكن هناك موافقة روسية، أو غض طرف، على ذلك. ولم تكن هذه الموافقة لو لم يعلم الروس يقيناً أن أي تصعيد على الجبهة السورية - الإسرائيلية سيكون مضبوطاً إلى أبعد الحدود، وليس أكثر من تبادل رسائل ثلاثية بين إيران وروسيا والولايات المتحدة.

برز هذا الضبط منذ اللحظات الأولى اللاحقة لإسقاط الطائرة الإسرائيلية، مع مسارعة سلطات الاحتلال إلى مناشدة الروس والأميركيين التدخل لتهدئة الجبهة، وهو ما لاقته موسكو مباشرة بالدعوة إلى وقف التصعيد. وهي رغبة يتشارك فيها الجميع، على الأرجح، إذ إن لا أحد معنياً اليوم بفتح باب جديد للحرب في المنطقة، وحتى الأطراف نفسها التي قد تكون مشاركة في هذه الحرب، غير راغبة فيها، بالنظر إلى الجبهات الأخرى المفتوحة، والتي لم تغلق بعد. وبغض النظر عن أن النظام السوري نفسه فاقد قرار الحرب والسلم، فإن الإيرانيين ليسوا في وارد فتح معركةٍ تستنزف مزيدا من مواردهم، والأمر ينسحب تلقائياً على حزب الله، إضافة إلى أن الفيتو الروسي مؤكد على مثل هذه الحرب، خصوصاً في ظل وجود القوات الروسية في المنطقة. ويمكن إضافة إسرائيل الآن إلى قائمة عدم الراغبين في الحرب، وتحديداً بعد إدراكها حالياً أن خللاً واضحاً أصاب موازين القوى وضرب السلاح الجوي الذي كان يعطي دولة الاحتلال التفوق في الحروب التي كانت تدخلها.

ما بين الرغبات السياسية والتطورات الميدانية، يمكن اعتبار حادثة يوم أمس مفصليةً في إعادة ضبط قواعد الاشتباك في المنطقة، من دون أن تؤدي، بالضرورة، إلى الانجرار نحو حربٍ لا يريدها أحد.

اقرأ المزيد
١٣ فبراير ٢٠١٨
واشنطن و"ب ي د".. "حرب كبرى" ضد تركيا

نظرة سطحية تلك التي تعتبر الأحداث الدائرة في الأعوام السبع الأخيرة على حدودنا الجنوبية، مساعٍ لتأسيس دولة إرهابية. لأن هذه النظرة تجعل المسألة حدثًا عاديًّا في شمال سوريا، وينجم عن ذلك موقف يقول "وما شأننا، فليفعلوا ما يشاؤون".

الولايات المتحدة تضع أسس "إسرائيل ثانية" في شمال سوريا. لكن الأهم من ذلك أن واشنطن تعد حزب الاتحاد الديمقراطي، فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا من أجل "حرب كبرى" ضد تركيا.

منذ اندلاع الحرب السورية يستعد حزب الاتحاد الديمقراطي للقتال ضد تركيا. وتحت إشراف أمريكي طور الحزب نفسه وزاد عدد عناصره وتسلح بحيث أصبح قوة عسكرية معتبرة.

قدمت الولايات المتحدة السلاح والعتاد والذخيرة لوحدات حماية الشعب، الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهذه الأخيرة انتشرت على طول الحدود التركية، بدأت بالتحول إلى جيش نظامي.

الخطوة التالية بعد ذلك كانت شن "حرب كبرى" على تركيا بإشراف أمريكي. فمن غير الممكن تأسيس "إسرائيل ثانية" دون الضغط على تركيا وتقسيمها وإجبارها على اتخاذ موقف دفاعي.

لكن عملية غصن الزيتون أفسدت حسابات البنتاغون، فأجبرتها على بدء تلك "الحرب الكبرى" في وقت سابق لما خططت له.

كان خطأ فظيعًا انتظار تأسيس الولايات المتحدة جيش إرهابي على مرأى العالم، ومهاجمتها تركيا، التي أطلقت عملية عفرين ليلًا على حين غرة فهاجمت الإرهابيين وأحبطت استعدادات ومخططات الولايات المتحدة، التي تهدد وجودها.

 أقدمت تركيا على تدخل يتصف بأهمية تاريخية من ناحية توقيته. ولن تألو الولايات المتحدة جهدًا حتى تنهي أنقرة العملية بسرعة.

 من الآن فصاعدًا، لم يعد ما تقوله الولايات المتحدة مهمًا بالنسبة لتركيا، وإنما ما تفعله. عند النظر بتمعن إلى السياسة الخارجية الأمريكية نجد أن وعود أوباما ومن بعده ترامب لم يكن لها قيمة.

أوباما وعد تركيا بانسحاب حزب الاتحاد الديمقراطي من منبج، لكن البنتاغون وطدت وجود الحزب في المدينة أكثر من السابق. كما تعهد ترامب بوقف تسليح الحزب، إلا أن البنتاغون عادت واستمرت في تسليحه ومده بالذخيرة والعتاد. القوة الحاكمة في الولايات المتحدة لم تغير أبدًا من تحركاتها سواء في الميدان أم على حدودنا.

لو لم تتثبت أنقرة من هذه الحقيقة لما عملت على حك جلدها بظفرها. هدف الولايات المتحدة واضح كما هو الحال بالنسبة للموقف الذي ينبغي أن تتخذه أنقرة والخطوات الواجب عليها الإقدام عليها.

لن تتوقف عملية غصن الزيتون، وستتجه نحو منبج، وتهديدات الولايات المتحدة لا يمكنها تغيير هذا التوجه. 

اقرأ المزيد
١٢ فبراير ٢٠١٨
في أربعينية مشروع الخميني

يستقبل النظام الإيراني أربعينيته التي تأتي ومعها ارتجاجات واهتزازات كثيرة يصعب عليه اجتيازها مثلما اجتاز ما قبلها.

في الحادي عشر من فبراير 2018 يبلغ عمر هذا النظام 39 عاما، صمدت خلالها فلسفة الإمام الخميني في وجه العواصف التي ثارت في وجهها. وظن ورثته المعممون المسلحون أنهم قد انتصروا فيها، وحققوا أهدافها، وتمكنوا من تصديرها إلى عواصم عربية مهمة، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وأنهم أصبحوا أقرب، أكثر من أي وقت مضى، من استكمال احتلال عواصم عربية أخرى. صدقوا أنفسهم وآمنوا بأن نظام إمامهم ووريث إمامهم سيُصبح، إن لم يكن قد أصبح فعلا، وليَّ أمر شعوب المنطقة كلها، والقادر على مناطحة القوى الدولية العظمى والانتصار عليها وإجبارها على الاعتراف به قوة إقليمية عظمى لا تقاوم.

ووقع في مثل هذا الوهم قبلهم كثيرون، ثم اكتشفوا في النهاية أنهم كانوا يحلمون، وأن ما بنوه لم يكن أكثر من برج رملي على شاطئ بحر هائج مسحته الموجة العاتية المفاجئة، وهم غافلون. ولا نريد هنا أن نفصّل واقع الحال الذي جعل ورثة الإمام الخميني يتسللون إلى بغداد ودمشق، ويتمكنون من وضع أقدامهم في بيروت وصنعاء.

لكن المتابع لأحداث المنطقة، في النصف الثاني من القرن الماضي، يعرف جيدا أنهم فشلوا في احتلال أي مدينة عراقية والبقاء فيها، رغم كل ما قدموه من قتلى ومصابين ومفقودين، وما أحرقوه من أموال طائلة لو أنفقوها على شعبهم لتمكنوا من احتلال قلوب المعوزين منهم، ولأغلقوا الباب على أي انتفاضات أو ثورات متوقعة ربما ستُسقطهم في يوم من الأيام.


لولا الغزو الأميركي للعراق، ولولا قرار الإدارتين الجمهورية والديمقراطية الأميركية أن تغضا نظرَهما عن تدفق ميليشيات النظام الإيراني ومخابراته، واستكمال هيمنته على الدولة العراقية بغطاء وكلائه العراقيين، لما تمكن من القفز من بغداد إلى دمشق، ومنهما إلى صنعاء.

وينافق رئيس الوزراء حيدر العبادي، ويزوّر حين يدعي بأن “نسبة تدخل إيران في صناعة القرارات العراقية يساوي صفرا”. فرفاقه (المجاهدون) في بدر والعصائب وحزب الله العراقي والنجباء وباقي ميليشيات الحشد الشعبي لا يعترفون، فقط، بالتدخل الإيراني في كل صغيرة وكبيرة من شؤون العراق، بل يفاخرون بأن القرار النهائي في أي أمر عراقي كبير هو لولاية الفقيه.

إيران، ذاتُها، وعلى ألسنة أغلب قادتها العسكريين والمعممين، تباهت مرارا وتكرارا بذلك التدخل. ومؤخرا أعلن العميد حسين سلامي، نائب قائد حرس الثورة، صراحة، أن إيران تخطط لاستخدام الجيش العراقي في الدفاع عن أراضيها في صد أي هجوم أميركي عليها. مؤكدا أننا “نعتبر الجيش السوري والعراقي العمق الاستراتيجي لنا”.

ونكاية باعتراف العبادي الصريح بأهمية الدعم العسكري الجوي والبري الذي قدمته القوات الأميركية والغربية الأخرى للجيش العراقي في حربه مع داعش، فإن قيادات ميليشيات الحشد الشعبي تطالبه، بطرد تلك القوات، وتهدد صراحة بقتالها إن لم تغادر قواعدها في العراق.

وسواء بقيت القوات الأميركية أو غادرت فإن شيئا لن يحدث لتبديل الواقع المعيشي في العراق. فإيران هي قوة الاحتلال الحقيقية الوحيدة المهيمنة على مفاصل الحياة المدنية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والتعليمية والثقافية فيه، ولا خلاص للشعب العراقي من أسرها، في المدى المنظور، بقواه الذاتية وحدها.

إيران، بهيمنتها الكاملة على وزارة الداخلية والقوى الأمنية، لا بد أن تكون وحدها القادرة على تقرير نتائج الانتخابات المقبلة، مهما بذلت القوى الوطنية التحررية من جهود. ومعنى هذا أن وكلاءها العراقيين، والكثير منهم يحملون الجنسية الإيرانية أيضا، باقون على رأس الوليمة، بل سيتسلمون مقاعد الأغلبية في البرلمان القادم، وسيكون الاحتلالُ الأجنبي الإيراني وجودا شرعيا بمباركة الممثلين المفترضين لإرادة الشعب العراقي.

ويتفق العراقيون والعرب والأجانب على أن سبيل الخلاص الأوحد الباقي لتحرير العراق وسوريا من هذا الواقع المزري لن يتحقق إلا بواحد من احتمالين، إما أن يستبدل النظام الإيراني طبيعته العدوانية الاحتلالية بأخرى عقلانية واقعية مسالمة مع شعبه ومع دول الجوار، وهذا من رابع المستحيلات، وإما أن يتحقق حلم الجماهير الإيرانية الديمقراطية وتهبَّ الانتفاضة الشعبية القادمة لتطيح بالنظام. وهذا أمر لا يتوقعه المتضررون من السلوك العدواني الإيراني وحسب، بل يحذر من حدوثه المحتوم قادةُ النظام الإيراني أنفسُهم، أكثر من غيرهم بكثير.

وأعرب رئيس مجلس خبراء القيادة الإيرانية، أحمد جنتي، عن قلقه بشأن مستقبل النظام في بلاده بعد الاحتجاجات التي طالب فيها المتظاهرون بتنحي المرشد الأعلى خامنئي، وأدت إلى مقتل وجرح العشرات، قائلا “أنا قلق بشأن ما سيحدث في الأعوام القادمة. علينا من اليوم أن نصل للشعب ونسمع آلامه، ولا نعزل أنفسنا عن المواطنين. الأوضاع المعيشية سيئة للغاية”.

وذكرت وزارة الداخلية الإيرانية في تقريرها الذي رفعته إلى حسن روحاني أن “30 بالمئة من الشعارات في الاحتجاجات كانت اقتصادية، و70 بالمئة سياسية، وأن 75 بالمئة من الناس كانوا متعاطفين مع المتظاهرين في 80 مدينة إيرانية”.

هذا مع تزايد تأثيرات العقوبات الدولية على اقتصاد إيران المتعثر المُتعَب، وتراجع عملتها، وتوقف صادراتها النفطية والزراعية والصناعية إلى دول المنطقة، وازدياد المخاوف من اندلاع انتفاضة إيرانية في موسم الانتخابات المقبلة.

كل هذه العوامل، مجتمعة، تبرر لجوءَ القادة الإيرانيين إلى تأكيد تبعية العراق وسوريا لنظامهم، وتذكير أعدائهم، وهم كثيرون، بأنهم “قادرون على إطلاق عدد ضخم من الصواريخ، ومن كل الأنواع، في اتجاه أهدافها”. و”ليس منطقيا أن يحصر أي بلد نطاق أمنه داخل حدوده، ونحن نعتبر الجيشين السوري والعراقي عمقنا الاستراتيجي”.

والسؤال المهم، هل العراق وشعبه على موعد مع الحرية والانعتاق وانقشاع الكوابيس في أربعينية نظام الولي الفقيه؟ اللّهم آمين.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان