مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٣ فبراير ٢٠١٨
الغوطة مذبحة روسية بامتياز

تتعرّض منطقة الغوطة في ريف دمشق لحرب إبادة بلغ ضحاياها في الأيام الأخيرة مئات القتلى من المدنيين، منهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، وسط صمت دولي وعربي على الجرائم التي ترتكبها روسيا والنظام السوري ضد قرابة 400 ألف محاصَر هناك منذ عام 2013.

باتت الغوطة الشرقية تنتظر مصيرا مشابها لما تعرّضت له حلب الشرقية في نهاية عام 2016، على يد الروس والمليشيات الإيرانية، حيث تم حرث المدينة بالطيران الحربي والقصف المدفعي، وجرى تهجير من بقي على قيد الحياة من المدنيين.

معركة إبادة الغوطة روسية بامتياز. القرار روسي والسلاح روسي، ويساعد في ذلك النظام والمليشيات الايرانية، وقد تم تصنيفها من روسيا والنظام ضمن المنطقة التي أطلقوا عليها اسم "سورية المفيدة" أو "النافعة". وحصل تنافس بين طهران وموسكو عليها، نظرا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للعاصمة دمشق، ولغناها منطقةً زراعيةً خضراء، ورئةً تتنفس منها العاصمة التي اختنقت بالإسمنت منذ حوالي ثلاثة عقود، بسبب البناء العشوائي جرّاء النزوح من المدن الأخرى.

يعود تصميم روسيا على إسقاط الغوطة عسكريًا، وتفريغها من أهلها وطرد الفصائل المسلحة منها إلى عدة أسباب. أولها العودة الأميركية إلى الملف السوري. وكانت الشرارة من لحظة استقبال وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، وفد الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة نصر الحريري في الرابع عشر من فبراير/ شباط الحالي في العاصمة الأردنية. وكان واضحا أن روسيا لم تتقبل الأمر، بعد أن فشلت في إقناع الهيئة بحضور مؤتمر سوتشي الذي انعقد في نهاية الشهر الماضي، وانتهى إلى فشل ذريع.

والسبب الثاني أن العودة الأميركية إلى الملف السوري باتت تترجم نفسها على الأرض، من خلال السيطرة على كامل منطقة الجزيرة السورية التي تشكل قرابة ثلث الجغرافيا السورية، وهي غنية بالنفط والغاز والقطن والحبوب، وقد تم ذلك من خلال التحالف مع الأكراد الذين شكلت لهم واشنطن "قوات سورية الديمقراطية"، وقامت في الآونة الأخيرة بزيادة عديد هذه القوات بمعدل 50 ألف مقاتل، ورصدت لها موازنة بمقدار 500 مليون دولار، وأسندت لها مهمة حماية الحدود السورية مع العراق وتركيا. وحينما حاولت روسيا إرسال مليشيات تابعة لها إلى حقل نفطي شرق دير الزور، وقضى عليها الطيران الأميركي كليا، وهناك معلومات متداولة عن مصرع 300 روسي.

أما السبب الثالث فهو يعود إلى عملية تقاسم نفوذ على الأرض السورية، بين كل من روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل. وفي الوقت الذي يبدو أن منطقة الجزيرة صارت من حصة أميركا، فإن بقية الأطراف لم تحدّد حدودها النهائية، وهناك صراعٌ حتى بين أقرب الحلفاء، كما هو الحال بين موسكو وطهران على الغوطة الشرقية. وحسب أوساط سورية، قد تضطر روسيا للتنازل عن الغوطة لإيران في مقابل تسليم الأخيرة لروسيا بقية المناطق، وخصوصا القواعد العسكرية في طرطوس واللاذقية، وثمنا لسكوت طهران عن التفاهمات الروسية الإسرائيلية في الجنوب.

صراع النفوذ يتم على حساب الدم السوري. السوريون ضحايا نزاعات الأطراف وخلافاتهم، ولا يبدو أن هناك بارقة أمل لتحرك دولي، من أجل تحييد المدنيين على الأقل، وإخراجهم من دوائر حروب المصالح الدولية على الأرض السورية، ولخص وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، الموقف بقوله "القادم في سورية أسوأ إذا لم نتحرّك".

يحتاج الأمر إلى تحرك دولي جاد لوقف روسيا التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية في سورية، وإلا فإنها ماضية، ولن يردعها سقوط ضحايا مدنيين، فقد جرّبت ذلك في حلب، ولم تتعرّض للمساءلة، ويزيد تصميمها على ارتكاب الجرائم، مع اقتناعها بأن هذا الطريق سوف يقود إلى تركيع الشعب السوري، ليقبل ببشار الأسد رئيساً من جديد.

اقرأ المزيد
٢٣ فبراير ٢٠١٨
كأنها حرب عالمية في سورية

شهدت الأسابيع القليلة الماضية تصعيداً كبيراً في الصراع بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع المحتدم في سورية، منذ سبعة أعوام، أو ما يمكن اعتباره بمثابة حرب عالمية مصغّرة على أراضيها، الأمر الذي ينذر إما بتصعيد عسكري كبير في هذا البلد، أو باحتمال أن يكون ذلك تسخيناً للتمهيد لفرض حلّ ما، وثمة احتمال ثالث مفاده الاستمرار بالاستراتيجية المتبعة، أي الحفاظ على ديمومة الصراع بين الأطراف المعنية.

هكذا سمعنا فجأة عن غارة لطائرات موجّهة (من دون طيار) على مطار حميميم (31/1)، دمرت سبع طائرات عسكرية روسية، ومستودع ذخيرة، من دون أن يعلن طرف محدّد مسؤوليته عن ذلك، بل إن الأمر تكرّر، بعد أيام قليلة، بإسقاط طائرة حربية روسية، في ريف إدلب (3/2)، لكن هذه المرة بواسطة صاروخ محمول مضاد للطائرات، لم يعرف أحد مصدره أو مصدر إطلاقه! لم يتوقّف الوضع عند هذا الحد، بالنسبة لروسيا، إذ قامت طائرة عسكرية أميركية، بدون طيار (11/2)، بتدمير دبابة روسية الصنع، شرق دير الزور، قيل إن طاقمها كان من الروس (المرتزقة) في سورية، أي بنفي اعتبارهم من الجيش الروسي، وذلك في ثاني ضربة دفاعية ضد قوات موالية للحكومة السورية خلال أقل من أسبوع. والمشكلة أن كل ذلك أتى بعد جملة ضربات وجّهت إلى روسيا على خلفية عقدها مؤتمر «سوتشي» (أواخر الشهر الماضي)، إذ تم تحجيم طموحاتها من هذا المؤتمر، الذي تحول إلى مجرد مهرجان، وباتت قراراته مجرد توصيات، سيما مع كشف الغطاء الدولي عنه، والتأكيد أن مسار جنيف التفاوضي والقرار 2254 هما مرجعية الحل السوري.

وفي ما يخصّ حصّة إيران في الصراع الدائر، فقد حاولت قوات ميليشياوية مرتبطة بها شنّ هجوم واسع على مواقع لـ «قوات سورية الديموقراطية»، على الضفة الشرقية لنهر الفرات في ريف دير الزور الشمالي الشرقي (8/2)، إلا أن طائرات قوات التحالف صدّت هذا الهجوم ونتج عنها مصرع ما يزيد عن مئة من أفراد تلك الميليشيات، في حادثة غاية في الأهمية، لم يتم تسليط الأضواء عليها بما يتناسب مع حجمها أو معناها. ويمكن أن نقدّر معنى ذلك، بالنسبة لإيران، على ضوء أن قواتها، الموجودة في سورية، حاولت بعد ذلك بيومين (10/2) الاحتكاك بإسرائيل، من خلال إرسال طائرة موّجّهة من دون طيار، لاختراق أجوائها، إذ جاء ردّها سريعاً وقوياً، ليس فقط بإسقاط تلك الطائرة، وإنما بإرسال ثماني طائرات حربية للإغارة على أهداف عسكرية في سورية عدة، منها مطارين عسكريين (تيفور، قرب تدمر، والمزة، في دمشق)، وثلاث قواعد للدفاعات الجوية، ومواقع عسكرية مهمة في ريفي دمشق ودرعا. وقد نتج عن هذه الغارة إسقاط طائرة إسرائيلية، تعرضت لهجومات صاروخية، في سابقة فريدة من نوعها، من نظام تعود على التعايش مع الغارات من دون أي رد، بدعوى أنه سيرد في المكان والزمان الملائمين، والتي باتت مدعاة للسخرة والتندر. على ذلك من الواضح أن نظام إيران بات يجد نفسه في مكان صعب، بعد تدخّل روسيا العسكري المباشر في الصراع السوري، إذ باتت هي التي تمسك الملف السوري على حسابه، في حين أن الولايات المتحدة باتت تطالب بإخراج القوات الإيرانية وميليشياتها من سورية، وإغلاق «الكرادور» بين طهران ولبنان، مروراً بسورية والعراق، إضافة إلى أن الولايات المتحدة تضيق عليها بالحصار وبمراجعة ملف الاتفاق النووي.

أما عن الحصّة الإسرائيلية في الصراع السوري، فقد دأبت إسرائيل طوال الأعوام السبعة الماضية على إبعاد الصراع المسلح عن حدودها، وهو ما توج أخيراً باتفاقية وقف التصعيد، التي عقدتها الولايات المتحدة مع روسيا وإيران، من فوق مسار «آستانة»، الذي يجمع روسيا وإيران وتركيا؛ هذا أولاً. ثانياً، التوصل إلى تفاهمات ثنائية مع روسيا لاستبعاد أي تواجد لقوات إيرانية أو حليفة لها قرب حدودها، ما يفسر علاقات التنسيق العالية بين الطرفين، والزيارات المتكررة لرئيس حكومتها إلى روسيا للقاء بوتين. ثالثاً، كالعادة فإن إسرائيل لا تكتف بالتأكد من الحفاظ على مصالحها عبر حلفائها، وإنما تقوم بذلك بنفسها، الأمر الذي ترجمته بشن عشرات الغارات على مواقع عسكرية، وسط وجنوب سورية، وضمن ذلك على مواقع لقوات إيرانية ولمليشيات تتبع لها، لا سيما حزب الله، كما على مستودعات وقوافل تسلح، من دون أن تلقى أي رد، باستثناء الرد المحدود والدفاعي مؤخراً. رابعاً، ظلت إسرائيل طوال السنوات الماضية تظهر نوعاً من النأي بالنفس عما يجري، لكنها كانت تؤكد دوما على حصتها في تقرير مستقبل سورية، بما يتلاءم مع رؤيتها لأمنها ومصالحها، أسوة بغيرها، مع تبنيها استراتيجية أخرى تتأسس على عبارة: «دع العرب ينتحرون»، إذ تعتبر أن خراب سورية والمشرق العربي سيعود عليها بالفائدة لعقود.

في شأن تركيا وحصّتها تبدو هذه الدولة في وضع صعب، إذ علاقاتها مع الولايات المتحدة، وهي حليفها الطبيعي، ليست على ما يرام، في حين أن تحالفها الاضطراري، مع روسيا أو إيران، لا يتأسس على تفاهمات ثابتة أو دائمة، إذا استثنينا العلاقات الاقتصادية، فثمة هنا تباين في الأجندة والدور. كما أن تركيا تجد نفسها بعد اتفاقات وقف التصعيد كأنها خاسرة، لذا ربما تعوض عن ذلك في جعل منطقة ادلب بمثابة منطقة نفوذ لها، لكن هنا ثمة مشكلتان، الأولى، جبهة النصرة، المصنفة كمنظمة ارهابية، ومنطقة عفرين حيث يسيطر البي ي دي، الذي تراه امتدادا لحزب ب ك ك الكردي (التركي) الذي تصنفه كمنظمة إرهابية، لذا فهي تشن حربها الخاصة في عفرين، من دون أفق سياسي أو عسكري، في هذه الظروف المضطربة.

في الغضون، يجدر بنا أن نذكر أن احتدام الصراع العسكري جاء بعد احتدام الأجندات السياسية لحل الصراع السوري، فمقابل مؤتمر سوتشي (الروسي) أعلنت الولايات المتحدة منتصف الشهر الماضي استراتيجيتها للحل، ودعمتها بما أسمته «اللاورقة»، التي توافقت عليها مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا والأردن والسعودية (ويحتمل أن تنضم دول أخرى إليها)، وقوامها تعزيز التدخل السياسي والديبلوماسي والعسكري في الصراع السوري (للولايات المتحدة ثماني قواعد عسكرية شرق الفرات)، وفرض حل يتأسس على تغيير النظام، بتغيير قواعد اللعبة التفاوضية العقيمة، بصوغ دستور يتأسس على تقليص صلاحيات الرئيس، والفصل بين السلطات، وإقامة نظام برلماني، وتداول السلطة وضمان حقوق المواطنين وإعادة بناء الجيش والأجهزة الأمنتية وإجراء انتخابات، وفقاً لمعايير وضمانات دولية.

الفكرة، ربما، أن التوكيل الروسي انتهى، وأن المهمة الإيرانية في تخريب المشرق العربي انتهت، وأنه آن الأوان لفعل شيء آخر، وهو ما يفترض معرفته في قادم هذه الأيام الساخنة.

اقرأ المزيد
٢٢ فبراير ٢٠١٨
روسيا تسترد هيبتها بقتل السوريين

من التنبيهات التي أرسلتها روسيا إلى إسرائيل في أعقاب غارات الأخيرة على مواقع قرب دمشق، تأكيدها أن هذا الفعل يضر بما أسمته موسكو تصفية الجيب الإسلامي شرق الغوطة، ما يوضح مخططاً روسياً لإنهاء عملية خفض التصعيد التي رعتها مع تركيا وإيران في أستانة بعد السيطرة على حلب. والواضح أن النية معقودة على إخراج الغوطة الشرقية وشمال حمص وجنوب حماة بالدرجة الأولى من قائمة خفض التصعيد، وهي مناطق ليس لها ظهير إقليمي، ولا طرف دولي ضامن. وبالنسبة لروسيا، تجاوزت الوقائع عملية أستانة، كما أن الأهداف التكتيكية التي جرى من أجلها إبرام اتفاق خفض التصعيد تحققت، وخصوصاً هدف تفريغ جزء كبير من المليشيات للمشاركة في معارك دير الزور، ولم يعد في شمال شرق سورية ما يستدعي بقاء مزيد من القوات، بعد أن تأكدت روسيا، بعد المذبحة التي تعرّضت لها قواتها والمليشيات المشتركة، أن أميركا جادة في حماية مناطقها ومستعدة للذهاب بعيداً، ولا داعي لإعادة اختبارها.

يضاف إلى ما سبق أن روسيا لم تعد معنيةً بالوقوف على خاطر المعارضة، بعد رفض الأخيرة الذهاب إلى مؤتمر سوتشي، وبعد فشل المؤتمر بالأصل، وإدراك روسيا أن هذا الباب أغلق نهائياً، ولم يعد ثمّة أهمية لعملية أستانة برمتها، خصوصاً وأن علاقاتها مع تركيا لن تتأثر، طالما سمحت لأنقرة بدور في إدلب، وبالتحرك تجاه عفرين. وبالتالي، هي لم تعد ملزمة تجاهها في مناطق أخرى. أما منطقة الجنوب فهي خارج اتفاقات أستانة، وتخضع لترتيبات وتفاهمات مشتركة مع الأردن وإسرائيل وأميركا.

غير أن السبب الأهم الذي يدفع روسيا إلى اتخاذ قرار السيطرة على الغوطة الشرقية وأرياف حمص وحماة، التعقيدات الجديدة التي ظهرت على المشهد السوري في الآونة الاخيرة، وما اعتبرته موسكو استهتاراً بنفوذها وهيمنتها على سورية، وخصوصاً بعد إقدام إسرائيل على شن حرب مصغرة، شملت مساحة واسعة من سورية، واستهدفت خلالها أهدافاً استراتيجية، تتبع نظام الأسد والإيرانيين.

وكانت روسيا، قبل ذلك، قد تعرّضت، لجملةٍ من الصفعات المؤلمة، عبر تدمير عدد من طائراتها في قاعدة حميميم، وإسقاط فخر صناعاتها "سو 25" الجوية في ريف إدلب، وثالثة الأثافي مقتل وجرح المئات من المقاتلين الروس، وعلى يد القوات الأميركية في دير الزور، وهو ما وضع مقولة إن روسيا صاحبة الأمر في سورية موضع شك، أو على الأقل عكست هذه الحوادث مدى هشاشة الوضع الروسي في سورية، وبطلان مزاعم الانتصار التي بشر بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية العام الماضي.

تدرك روسيا أن الطريقة التي صنعت بها إنجازها السوري تنطوي على ضعف وهشاشة خطيرتين، وهي ليست سوى توليفةٍ من تفاهماتٍ وتنازلاتٍ لأطراف إقليمية ودولية، وألعاب دهاء ضد قوى المعارضة السورية، المسلحة والسياسية، مع مزيج من أساليب حروب الإبادة وسياسات الأرض المحروقة التي أجرتها تحت ستار إعلامي، يدمج إدعاءات الحرب على الإرهاب ومحاولات إعادة الاستقرار لبلدٍ مزقته الحرب الأهلية، والوعد بتحقيق سلام متوازن، يرضي جميع الأطراف.

لكن، ومن أجل تمرير هذه التوليفة المتناقضة، اضطرت روسيا إلى الانخراط في تفاهماتٍ متناقضة ومتعاكسة، وتبدت هذه المسألة بوضوح في عدم قدرة موسكو على صياغة قواعد اشتباك صريحة وواضحة، جعلت الأطراف المتصارعة تمارس لعبة حافة الهاوية إلى أقصاها، من دون ضابط أو رقيب، وكانت النتيجة أن أغلب الأطراف مارست لعبة ابتزاز روسيا، ووضعت الأولوية لتحقيق مصالحها، ولم تستطع روسيا سوى ابتلاع الإهانات، ومحاولة لعب دور الساعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين، والمتفهم لمصالح الجميع والمراعي هواجسهم. وبالطبع، باستثناء العرب الذين لم تهتم روسيا لمصالحهم الأمنية، بدليل أن الغوطة الشرقية وريف حمص كانت مصر ضامنتهما.

وعلى الرغم من كل ما فعلته روسيا، إلا أنها وجدت نفسها في وضعٍ لا يليق بالمكانة التي تتصوّرها عن نفسها، ولا بالوضع الذي تطرح نفسها من خلاله، بصفتها دولةً قابضةً على سورية، ومتحكمة بالتفاعلات في شرق البحر الأبيض المتوسط، والصانعة لتأثيرات ما بعد هذه المنطقة، فلا أحد من الدول المعنية احترم دعوتها إلى مؤتمر سوتشي، ولولا حضور المبعوث الأممي، دي ميستورا، لظهر كما لو أنه مؤتمر بعثي لأعضاء من الدرجة الثانية، كما أن أي طرفٍ لم يحترم خطوطها الحمراء في سورية، هل لروسيا أصلاً خطوط حمراء؟.

إلى ذلك، روسيا بصدد تعديل طريقة إدارتها الحرب السورية، وبما أن قدرتها على ضبط اللاعبين الآخرين منخفضة، وبالكاد تتوّسط بينهم في حال الاختلاف، إيران وإسرائيل، أو تحاول النفخ في النيران، كما في الخلاف الأميركي – التركي، فإن خياراتها في التعديل تبدو منحصرةً في الاستقواء على المعارضة السورية، وستحاول في المرحلة المقبلة إعادة صيانة هيبتها ومكانتها، باستخدام أقصى درجات العنف تجاه المعارضة السورية، وعبر استعادة السيطرة على مناطق جديدة، وتحديداً في الغوطة وأرياف حمص وحماة.

لكن لماذا الاستغراب والحرب في سورية ليست سوى صراع على النفوذ والحصص من جميع الأطراف، وهم جميعاً رحماء فيما بينهم وأشداء على السوريين، ثم إن روسيا لم تفعل شيئاً منذ تدخلها سوى القتل والحرق، وحتى اقتراحها المسمى مناطق خفض التصعيد لم يكن سوى إقامة معازل مرحلية، إلى حين التفرغ لاجتثاثها، وقد حان الوقت.

اقرأ المزيد
٢٢ فبراير ٢٠١٨
هل يمكننا أن نرمي بسهم من جعبة تيلرسون؟

منذ بدايتها كانت مباحثات أستانة مسارًا معقدًا للغاية. فهي جمعت على طاولتها إيران، التي يتمثل هدفها الرئيسي في الحفاظ على كرسي الأسد وبالتالي الوضع القائم، وروسيا التي تدعم الأسد خشية وقوع سوريا في يد الولايات المتحدة وحرصًا على مصالحها في الشرق الأوسط، وتركيا التي اتبعت أشد السياسيات في مواجهة الأسد منذ سبع سنوات.

ولأن روسيا يهمها من سيحل محل الأسد في المرحلة الانتقالية أكثر من الأسد نفسه، فقد استطاعت تسجيل هدف في مرمى من يلعبون الكرة في جنيف منذ سنوات، وكسبت تركيا في صفها.

أدت محادثات أستانة ومن بعدها قمة سوتشي لصياغة الدستور السوري إلى نتائج أكثر فعالية من كافة الاجتماعات التي عقدتها الولايات المتحدة. أما تركيا فقد نفذت عملية درع الفرات أولًا والآن غصن الزيتون بدعم من روسيا على الرغم من اعتراضات الأسد.

بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إلى أنقرة كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوجه رسالة إلى تركيا من خلال الإدلاء بتصريحات انتقد فيها دعم الإدارة الأمريكية لوحدات حماية الشعب.

وقال لافروف: "لم تغير الولايات المتحدة خططها في تكوين قوة أمن حدودية في منطقة الحدود السورية التركية"، في تلميح إلى تركيا كي لا تجلس إلى طاولة المباحثات مع الولايات المتحدة.

ويبدو أن شكوك روسيا بخصوص تركيا ثارت مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي لأنقرة. فخطة هذا الأخير تقضي بانسحاب وحدات حماية الشعب من منبج، وبسيطرة القوات التركية والأمريكية معًا علي المدينة.

ولا شك أن مثل هذا الاتفاق دفع موسكو للتفكير بأن تركيا ستتفق مع الولايات المتحدة وتتصرف ضد مصالح الروسية، إلى درجة أن قناة روسيا اليوم نشرت ليلة الاجتماع مع تيلرسون، مزاعم كاذبة من مصادر في وحدات حماية الشعب عن استخدام تركيا أسلحة كيميائية في عفرين.

ونعلم أن روسيا ضغطت على تركيا حتى اللحظة الأخيرة كي تعتبر وحدات حماية الشعب ممثلًا شرعيًّا كي تشارك في الحوار السوري، وأنه لولا تغاضي ودعم روسيا لما تحقق وجود الوحدات في عفرين. كما أن الدعم الصامت الذي يقدمه النظام السوري للوحادت ليس سرًّا.

لكن هناك حقيقة أن الولايات المتحدة وروسيا تتصارعان على المناطق الغنية بالنفط مثل دير الزور، وأن مقاتلين مرتزقة روس قُتلوا ودبابات لهم تعرضت لقصف مقاتلات أمريكية.

ولا يبدو منطقيًّا توقع أو تأمل سحب واشنطن دعمها كليًّا لوحدات حماية الشعب. فحتى هوليود بدأت بتلميع التعاون الأمريكي مع الوحدات، حيث من المنتظر أن يدخل العرض هذا العام فيلم يروي قصة انضمام مجموعة من الأمريكيين إلى الوحدات من أجل محاربة داعش. ولا شك أنها لا تحبب وحدات حماية الشعب للشارع الأمريكي عن عبث.

ومن جهة أخرى، لا بد من التذكير بأن روسيا لا تدرج حزب العمال الكردستاني على قائمة التنظيمات الإرهابية.

بمعنى أن المعادلة شديدة التعقيد ولا مجال أمامنا لارتكاب أخطاء. علينا أن نكون متأكدين من السهم الذي سنطلقه. فلست على ثقة من أن خطة تيلرسون المثيرة للشكوك، هي السهم المناسب.

اقرأ المزيد
٢١ فبراير ٢٠١٨
الأزمة السورية والتدخلات الأجنبية

يلاحظ بعض المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما على موقع «فيسبوك»، أن سوريين يضعون لافتات تشيد بالوجود الأجنبي ولا سيما العسكري في سوريا، الأمر الذي جعل بعضهم يذهب إلى قول، إن السوريين باتوا يرحبون باحتلال بلادهم من قبل دول وميليشيات مسلحة.

وللحق، فإن ثمة ما هو واقع في هذه الملاحظة. فبعد توسع عمليات القمع الدموي التي باشرها نظام الأسد قتلاً وجرحاً واعتقالاً للسوريين وحصاراً وتدميراً للمدن والقرى والأحياء الثائرة، ارتفعت أصوات سورية في أواخر عام 2011، تطالب بالتدخل الدولي من أجل لجم السياسة الدموية للنظام ووضع حد لها، فيما اتجه النظام للاستعانة بحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية لقمع حركة الاحتجاج الشعبي بعد أن عجز وحيداً عن فعل ذلك، وسط تزايد عدد ومساحة المناطق الخارجة عن سيطرته، وبهذا فتح الباب واسعاً أمام التدخل العسكري الأجنبي في البلاد.

وبطبيعة الحال، فقد طورت القوى الأجنبية تدخلاتها العسكرية في العامين الأخيرين وخصوصاً الحليفة لنظام الأسد. فبعد أن دفعت إيران بميليشياتها للقتال إلى جانب النظام في العامين الأولين 2011 - 2012 زاد عدد مستشاريها الأمنيين والعسكريين والتقنيين، ثم دفعت بقواتها من الحرس الثوري للقتال ضد جماعات المعارضة المسلحة، وبنت قواعد لها في عدد من المناطق السورية ولا سيما في ريفي دمشق وحمص، ومضت روسيا في خطوات مماثلة، فعززت وجودها العسكري والأمني والتقني، قبل أن ترسل قواتها البحرية والجوية أواخر عام 2015 للمشاركة الأوسع والأهم في الحرب، وقامت بتثبيت وجودها في قواعد برية وبحرية وجوية في مناطق سوريا الغربية ومطاراتها.

ومما لا شك فيه، أن تطورات الوجود العسكري لحلفاء النظام، وتأثيراته على الصراع في سوريا وحولها، دفع دولاً أخرى للبحث عن موطئ قدم على الأرض السورية، ولئن كان البعض منهم له وجود غير مباشر عبر علاقاته وصلاته بأطراف مسلحة مثل الولايات المتحدة، التي لها علاقات قوية مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd) وميليشياته من وحدات الحماية الكردية، وتركيا التي لها علاقات مع أغلب جماعات المعارضة المسلحة، فإن تلك الدول اندفعت باتجاه إرسال قواتها مباشرة إلى الداخل السوري، فأرسلت واشنطن إضافة إلى الخبراء والمستشارين جنوداً وأسلحة، وأقامت قواعد جوية وبرية في شمال شرقي سوريا، فيما دفعت تركيا بقواتها بالمشاركة مع جماعات المعارضة المسلحة في موجتين، كانت أولاهما عملية درع الفرات التي دخلت محيط جرابلس أواسط 2016، ثم عملية غصن الزيتون، التي توجهت إلى عفرين في 2018 لطرد وحدات الحماية الكردية من هناك التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd).

وباستثناء الوجود الأجنبي السابق والكبير نسبياً الذي بات يسيطر على غالبية الأراضي مباشرة، أو عبر حلفائه المحليين من قوات الأسد وقوات الحماية الكردية وتشكيلات المعارضة المسلحة، فإن هناك وجوداً عسكرياً مباشراً لدول أخرى لها علاقات ونفوذ على بعض التشكيلات المسلحة.
إن الانعكاس المباشر للتدخلات الأجنبية ولا سيما العسكرية على واقع الصراع السوري، جعل من سوريين ينظرون بشكل متفاوت لهذا الوجود. فبدا من الاعتيادي أن ينظر مؤيدو النظام إلى الروس والإيرانيين وميليشياتهم باعتبارهم حماة لهم ولنظامهم، وأن ينظروا للأتراك باعتبارهم قوة احتلال، وهو موقف يخالف كلياً نظرة فئات من معارضي النظام الذين يرون في الأتراك حلفاء لهم في مواجهة نظام الأسد وحلفائه من روس وإيرانيين وميليشيات باعتبارهم محتلين، خاصة في ضوء ما تم من اتفاقات جرى توقيعها بين النظام والطرفين الروسي والإيراني.

وبخلاف ما سبق، فإن الموقف من الوجود الأميركي بدا أكثر تعقيداً. ووحدهم أكراد (Pyd) وحلفاؤهم، كانوا متحمسين للوجود العسكري الأميركي باعتباره قوة دعمهم السياسي والعسكري في مواجهة الآخرين، وكانوا الأكثر شراسة في مواجهة الوجود العسكري التركي الذي يستهدفهم، ويعتبرهم «جماعة إرهابية» تمثل امتداداً لحزب العمال الكردي في تركيا (Pkk)، فيما يحيط الضباب بموقفهم من الوجودين الإيراني والروسي، بينما يعارض أغلب السوريين من النظام والمعارضة الوجود الأميركي من منطلقات ليست واحدة، أبرزها موقفهم من ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd).

وسط تلك اللوحة المعقدة من المواقف حيال الوجود العسكري الأجنبي، لا يمكن القول، إن السوريين أو جزءاً كبيراً منهم يرحب بالاحتلال الأجنبي لبلدهم، كما يلوح للبعض أو يتوهم. بل الأمر لا يتعدى صلة موقفهم بواقع الصراع السياسي والمسلح الذي صاروا إليه والذي تهددهم تداعياته بشراً وكياناً، تضاف إلى التدخلات الدولية والإقليمية العنيفة، التي اتخذت من بلدهم وأرضهم ميداناً لتصفية حساباتها، وخدمة استراتيجياتها في المنطقة.

ومما لا شك فيه، أن تلك الحيثيات، تجعل من أي مواقف سورية تتناغم مع إحدى قوى الوجود والاحتلال العسكري لأرض سورية، مواقف غير حقيقية، وغالباً هي مواقف «مؤقتة» مرهونة بوقف الحرب وعودة السلام إلى سوريا، التي كثيراً ما حفل تاريخها بما فيه الحديث باحتلالات أجنبية انحسرت، وشهدت انقسامات وصراعات داخلية انتهت، وكلتاهما دفعت السوريين بكل مكونات جماعتهم الوطنية إلى تأسيس كيانهم الواحد في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، التي بلورت صورة سوريا، التي كانت عليها في عام 2011، والتي وإن قال البعض إنها لن تعود، فإن صورة سوريا المقبلة، لن تكون بعيدة كثيراً، عما كانت عليه كدولة مستقلة، فيها أغلب مكوناتها القومية والدينية والطائفية.

اقرأ المزيد
٢١ فبراير ٢٠١٨
سورية.. حضور أميركا وغيابها

تتوافق المخاوف الأميركية مع المعارضة السورية، بما يتعلق "بخطورة الوضع الراهن، وما يمكن أن تؤدي إليه عرقلة العملية السياسية"، حسب بيان الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية، الصادر يوم 14 فبراير/ شباط الجاري، إثر لقاء جمع وفداً من الهيئة بوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، ريكس تيلرسون، في عمّان، على الرغم من أن تلك المخاوف نابعةٌ من موقف العجز الذي تمر به المعارضة السورية، أشمام قوى التصارع الدولية على سورية، وفيها، وقدرة هذه الدول على التحكّم بمآلات تصعيد التوتر داخل الأراضي السورية، والتلاعب بمسار المفاوضات، سواء المتعلقة بوقف إطلاق النار، أو التي تحرف المسار السياسي من مكانته الأممية إلى الرعاية الثلاثية (روسيا، إيران، تركيا)، كما كانت المحاولة التي تمت في مؤتمر سوتشي، إلا أن المخاوف الأميركية لا يمكن أن تنبع من المكانة نفسها غير القادرة على تحريك العملية السياسية، والحد من مستوى العنف في سورية، إلا إذا كانت أميركا تريد أن تأخذ دور المتفرج والرابح في النهاية.

يتميز الحضور الأميركي في سورية والعراق بأنه كالحاضر الغائب، ففي حين يستوجب وجود قوة عظمى في المنطقة حفظ السلام والأمن الدوليين، حسب دورها العالمي، فإن كلا البلدين اللذين "ينعمان" بالوجود الأميركي، قوة عسكرية متفاعلة، يعيشان حالةً من الفوضى، والحروب المتعدّدة الأطراف التي تقع الولايات المتحدة طرفا متحاربا فيها، بدل أن تكون حامية للاستقرار، وعامل ضمان لمنع التمدّد الإيراني الذي تتكاثف التصريحات الأميركية بشأن محاربته، وإرغام إيران على الانكفاء داخل حدودها، ما يثير الشبهات في ما يتعلق بمصداقية تلك التصريحات التي لا تقترن على الأرض بأي حراكٍ فاعل، يهدد المصالح الإيرانية، باستثناء التصريحات والتلميحات التي لا تثمر في المعارك عن أي انتصارات، ولم تأت بأي تفاهماتٍ دوليةٍ، تعيدها إلى داخل حدودها، بعيدا عن العواصم العربية الأربع التي تمارس عبرها التدخل في منظومة الحكم فيها، من بغداد إلى بيروت ودمشق وصنعاء.

وعندما تأخذ الإدارة الأميركية دور الحاضر في الشأن السوري تميز بين حضورها العسكري لمشروعها الخاص بها في الشمال السوري، تحت غطاء الوجود الكردي، ودعمها له في حربها على "داعش"، وبين غيابها التام عما يحدث في مناطق مختلفة من سورية، مثل ريفي دمشق وإدلب، وحتى عفرين الواقعة تحت سيطرة حلفائها من الكرد، فبين حضورها في الشمال، وتمتعها بكامل حصانتها التي تدافع عنها، تارة، متصدّرة قواتها التي يزيد تعدادها المعلن عن ألفي جندي أميركي المشهد، وتارة أخرى، مختبئة بعباءة التحالف الدولي ضد الإرهاب، بينما تترك المناطق الساخنة تشتعل بنيران القوات الروسية والإيرانية، إضافة إلى التدخل التركي، أخيرا، والذي يمكن تسميته حالة تعميم الغرق لكل الجهات الضامنة لخفض التصعيد الموقع في العاصمة الكازاخستانية أستانة، مكتفية بطلب ضبط النفس، أو التنديد بما ينتجه ذلك التصعيد من مآسٍ إنسانية في مناطق التخفيض.

من الملاحظ أن الولايات المتحدة مارست سياسة إغراق كل الأطراف في مستنقع الحرب، لإعادة توزيع الأدوار من داخل الصراع، وليس من خارجه، فالوجود الكردي في منبج وعفرين كان بمثابة التهديد الذي تعلم الإدارة الأميركية أن تركيا لن تصمت تجاهه طويلاً، وهي أمام خيار القبول به من باب الرضوخ للإرادة الأميركية، متعاليةً على جراحها، أو خيار المواجهة (الذي اختارته) لتغيير قواعد اللعبة مع واشنطن، والدخول في حربٍ مع كرد سورية تحت غطاء الحفاظ على أمنها القومي، وحماية حدودها من أطماع حزب العمال الكردستاني التي تصنفه "إرهابيا"، على الرغم من أن مغالطات كثيرة بنيت عليها هذه الحرب، ونتج عنها خسائر في البشر والبنية التحتية، والأهم من هذا وذاك ما نتج من خلط الأوراق بين القضيتين، الكردية السورية والتركية الكردية، والتعاطي مع الأمر من منظور اللحظة الراهنة، من دون النظر إلى أبعاد هذه الحرب، في ظل إشراك فصائل سورية معارضة إلى جانب القوات التركية، في مواجهة القوات الكردية التي معظمها من السوريين.

تتمسّك تركيا بفرض خريطة جديدة لتوزيع قواتها داخل الأراضي السورية، ومنها نقاط سيطرة لها في عفرين ومنبج وإدلب شرق السكة والريف الحلبي. وفي المقابل، يستوجب ذلك عليها تفاهمات مع روسيا وإيران، تسمح من خلالها لكل من الدولتين ممارسة أقصى حدود العنف، لفرض سيطرتهم على ما تبقى من خارطة أستانة، لإعادة الاعتبار إلى هذا المسار، بعد انهيار تخفيض التوتر، الذي تمهد له كل من الدول الثلاث الضامنة "برفع مستوى التصعيد" الذي تشهده سورية، ويعد من أسوأ المراحل العنفية التي مرت عليها خلال سنوات الحرب. وبذلك تتجاهل تركيا ما ينتج عن التصعيد من مجازر، وخسائر في صفوف المعارضة التي تقف تركيا في المحافل الدولية داعمة لهم، على نقيض موقف كل من إيران وروسيا الداعمتين للنظام السوري.

ويستجلب هذا التقاسم على النفوذ في سورية أشرس المعارك في أنحاء مختلفة من الغوطة الشرقية وإدلب وعفرين، ضمن عملية مواجهة مشتركة بين ثلاثي أستانة، لمواجه الرغبة الأميركية بالشراكة مع فرنسا وبريطانيا، المتمسكة بمسار مفاوضات جنيف، ضمن قواعد تفاوضية جديدة، مهدت لها "اللاورقة" التي نتجت عن اجتماع باريس (24/1)، وأسست لمفهوم جديد في العملية الانتقالية، يبدأ من تغييراتٍ في شكل الحكم ونظامه في سورية، وصولا إلى إقامة نظام حكم لامركزي، تمهد من خلاله الإدارة الأميركية تثبيت حضورها الدائم في الإقليم الشمالي الذي يعد المنطقة الاستراتيجية اقتصادياً وجغرافياً وسكانياً، ما يعني أن السوريين يواجهون مشروعين متضادين بالتبني الدولي، وبالآن نفسه، يلتقيان في خانة تقاسم النفوذ أحدهما (الروسي، التركي، الإيراني) يريدون سورية النظام مع امتيازات وجودهم الدائم. والمشروع الآخر يريد سورية جديدة مع حفظ حقوق الأقاليم بإدارتها نفسها، ضمن ما يمكن تسميتها فيدرالية خاصة، وأيضاً يبرّر هذا الشكل من الحكم الوجود الأميركي الذي لم تحدد الإدارة نهاية له.

فمن الوجود الأميركي العسكري الفعلي في الشمال، إلى شبه الصمت عما يحدث في الريف الدمشقي ووسط البلاد، إلى الحماية المطلقة للحدود "الإسرائيلية"، تتوزع الأدوار الأميركية بين الحضور والغياب، لكنها في المحصلة لا يمكن اعتبارها قوة مجهولة التأثير في المعادلة السورية، وإنما هي الطرف الذي على المعارضة السورية البناء على حضوره وغيابه، بما يتناسب والمشروع الوطني، لسحب الورقة الكردية منه، ضمن تفاهماتٍ للبحث عن حل عادل لها، وقطع الطريق على حربٍ شرسةٍ تخوضها تركيا في عفرين، بصياغة حل سوري - سوري يعالج مخاوف تركيا من جهة، ويبني على الوعود الأميركية في إقامة دولة سورية الديمقراطية، من دون أن يكون لأي مكون فيها ميزة التسلح بقوة خارجية.

اقرأ المزيد
٢١ فبراير ٢٠١٨
المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا

خلقت الادعاءات المتسرعة بهزيمة "الإرهاب" في سوريا؛ دينامية جديدة من الصراعات الدولية والإقليمية، تؤذن بحلول حقبة من المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد الحروب الشاملة. وإذا كان الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وإزاحة نظام صدام حسين السني قد أسفر عن وضع العراق تحت وصاية إيران، فإن التدخل الأمريكي في سوريا 2011، وهزيمة تنظيم أبو بكر البغدادي السني، أفضى إلى جعل سوريا تحت سيطرة إيران. وأحد أكبر المفارقات في التاريخ المعاصر أن أحد أهم ذرائع التدخلات الأمريكية في العراق وسوريا كانت تهدف إلى الحد من النفوذ الإيراني الشيعي ومحاربة "الإرهاب" السني، وعقب كل تدخل أمريكي كانت إيران تخرج أكثر قوة وأشد نفوذا، وكان "الإرهاب" يكتسب خبرة أكبر ونفوذا أوسع.

في هذا السياق، تبدو السياسات الأمريكية التي تسيير على هديها الدول الأوروبية تعمل على تحقيق نقيض أهدافها المتعلقة بحرب "الإرهاب". ففي كل جولة من التدخلات، تزداد قوة الجمهورية الإيرانية، وتتنامى قدرة المنظمات الجهادية. لكن ذلك لا يبدو غريبا في ظل هيمنة منظورات غربية تصر على ربط العنف والتطرف والإرهاب؛ بثقافة ودين المنطقة، وليس بالأسباب والشروط والظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية. فتنامي الحالة الجهادية الموسومة بـ"الإرهابية" برز في سياق ثلاثة ظروف استراتيجية؛ الأولى: محلية وطنية، وتتمثل بانغلاق الأنموذج السياسي وفشل وعود التحول الديمقراطية ورسوخ الاستبداد، والثانية: إقليمية، وتتمثل بعدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين، والثالثة: عالمية، وتتمثل بانهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة القطب الأمريكي الواحد وحلول العولمة.

تصر السياسات الأمريكية على السير على طريق تأجيج حالة العنف في المنطقة، وتدفع باتجاه تغذية منابع "الإرهاب" الرئيسية في المنطقة. فعقب إعلانها عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية تبنت منظورات استرتيجية توسس لديمومة العنف والإرهاب عبر أطروحة "صفقة القرن"؛ التي تقوم على أساس تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العريية والاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية. وقد بات واضحا أن منظومة العنف الإرهابوي في المنطقة هو رد على نظام العنف البنيوي المتجسد بالإمبريالية الخارجية والاحتلالية الإسرائيلية والطائفية الإقليمية والدكتاتورية المحلية.

على مدى عقود ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط. ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود الجمهورية الإيرانية الإسلامية؛ من الحديث عن الخطر الإيراني واعتبار إيران دولة راعية للإرهاب، فضلا عن كونها دولة مارقة، ومع ذلك من ذلك تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار، وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد، مرورا بدمشق وصولا إلى بيروت، فضلا عن نفوذها في البحرين واليمن. وفي كل مرة ادعت أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني، كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم.

منذ قدوم إدارة ترامب، بات الحديث عن الخطر الإيراني حدثا يوميا، وأصبحت التهديدات لازمة خطابية لأركان الإدارة الأمريكية، كان آخرها تحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت ماكماستر؛ من تزايد قوة ما وصفها بـ"شبكة وكلاء" إيران في المنطقة، حيث قال ماكماستر، أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن في 17 شباط/ فبراير 3018، إن إيران تبني وتسلح شبكة قوية على نحو متزايد من الوكلاء، في دول مثل سوريا والعراق واليمن. وأضاف أن شبكة وكلاء إيران أصبحت أكثر قوة، وأن الوقت حان للتصرف تجاه طهران.

إن المواجهة الأمريكية للنفوذ الإيراني هي أقرب إلى الأوهام، فبحسب الواشنطن بوست تفرض إيران اليوم هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل وكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، والتي تملك عربات مدرعة ودبابات وأسلحة ثقيلة، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك؛ ممّا أكسبهم خبرة كبيرة.

تشير التطورات المتسارعة في سوريا إلى بروز منطق جديد في نمط المواجهة بين أمريكا وإيران. ففي تطور مهم ولافت، أسقطت الدفاعات الجوية السورية مقاتلة إسرائيلية قصفت أهدافا عسكرية داخل سوريا في 10 شباط/ فبراير 2018، وسرعان ما اتهمت إسرائيل إيران بإسقاط الطائرة، وتنامى الحديث عن منطق المواجهة الجديد الذي يتجاوز حروب الوكالة. وعلى الرغم من حرص البلدين وكافة الأطراف الدولية والإقليمية على التهدئة وعدم التصعيد، فإن حقبة جديدة من الصراع تبرز في المنطقة، لكنها بعيدة عن منطق المواجهة الشاملة نظرا للكلفة الباهظة والعواقب الخطيرة.

في أعقاب الغارات الإسرائيلية على سوريا أصدرت إدارة ترامب بيانات تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكنها لم تقدم أي مساعدة عسكرية (على الأقل علناً) للعمليات ضد القوات الإيرانية في سوريا. وفي هذا الصدد، أعلنت واشنطن أنها تعتزم إبقاء نحو ألفي جندي شرقي نهر الفرات في شمال وشرق سوريا، ولا تزال مهمتهم غير واضحة المعالم، باستثناء دعوى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية". وركزت الإدارة الأمريكية أيضاً على إدارة التوترات التركية - الكردية، من خلال زيارة كل من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت رايموند ماكماستر؛ إلى أنقرة مؤخراً. وفي المقابل، هناك بعض المؤشرات الملموسة على الأرض بأن واشنطن تحاول جاهدة الحدّ من النشاط الإيراني في سوريا، فضلاً عن التصريحات العامة التي أدلى بها تيلرسون، ومفادها أن استمرار الوجود العسكري الأمريكي يهدف جزئياً إلى كبح نفوذ طهران المحلي.

يستند منطق المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى قناعة إسرائيلية بأن الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بإيران قاصرة، ولا تتوافر آليات فاعلة للحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عموما، وفي سوريا خصوصا. فالاستراتيجية التي وضعها فريق الأمن القومي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتصدي لإيران؛ تتضمن مجموعة من العناصر الأساسية تقوم على: تحييد التأثير "المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية وكذلك تقييد عدوانيتها، ولا سيما دعمها للإرهاب والمسلحين"، وإعادة تنشيط التحالفات الأمريكية التقليدية والشراكات الإقليمية كـ"مصد ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة"، وحرمان النظام الإيراني، ولا سيما الحرس الثوري، من تمويل "أنشطته الخبيثة" ومعارضة أنشطة الحرس الثوري، ومواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وحشد المجتمع الدولي لإدانة "الانتهاكات الجسيمة للحرس الثوري" لحقوق الإنسان، و"احتجازه لمواطنين أمريكيين وغيرهم من الأجانب بتهم زائفة"، وحرمان النظام الإيراني من المسارات المؤدية إلى سلاح نووي.

لا شك أن استراتيجية ترامب النظرية تتماهى مع الطرح الإسرائيلي، فقد عكفت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة، في إطار بحثها عن حل إقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على حشد جبهة موحدة تضم إسرائيل والقوى العربية السنية في وجه إيران، عدو واشنطن وإسرائيل اللدود، الأمر الذي دفع بنيامين نتنياهو إلى تقديم اقتراح بـتبني "مقاربة إقليمية" لإنهاء صراع الشرق الأوسط، حيث أشاد بما وصفها "فرصة غير مسبوقة تتمثل في تخلي بعض الدول العربية عن اعتبار إسرائيل عدوا، بل صارت ترى فيها حليفا في مواجهة إيران و"داعش"، القوتين التوأمين في "الإسلام المتطرف" واللتين تهددان الجميع". وتتوافق الرؤية المشتركة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي بـترتيبات "صفقة القرن"، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف أمريكي إسرائيلي مع بعض دول المنطقة، تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".

لا جدال أن إسرائيل كانت الأكثر سعادة بقدوم إدارة ترامب ورحيل أوباما، نظرا للتباين الشديد في رؤية الرجلين لإيران ودورها في المنطقة. فأوباما أنجز الاتفاق النووي مع إيران ونظر إليها كعامل استقرار، بينما ترامب لا يدع مناسبة للحديث عن الخطر الإيراني المزعزع للاستقرار. فبحسب دينيس روس: "قد لا تكون أسهم الرئيس دونالد ترامب مرتفعة للغاية في الولايات المتحدة، لكن كل من أمضى مؤخراً بعض الوقت في إسرائيل أو السعودية، كما فعلتُ أنا، يمكنه أن يشهد أن الرئيس الأمريكي هو من المفضلين في أوساط قادة هاتين الدولتين الشرق أوسطيتين". لكن المشكلة بالنسبة لإسرائيل لخصها دينيس روس في عنوان مقالة في مجلة "فورين بوليسي"؛ بأن "ما يقوله ترامب بشأن إيران هو مجرد كلام، إذ يشعر جميع أولئك الذين تحدثتُ إليهم بأن الولايات المتحدة تنازلت عن سوريا لصالح روسيا، تاركةً إسرائيل للتعامل بمفردها مع الوجود الإيراني هناك. وبطبيعة الحال، يعتقد هؤلاء أنه لو كانت الولايات المتحدة مهيأة للإشارة إلى استعدادها لوضع حدّ للتوسّع الإيراني في سوريا، فإن السلوك الروسي قد يتغيّر أيضاً. ولكن على الرغم من تركيز خطاب وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بشأن سوريا الشهر الماضي؛ على مواجهة إيران، إلّا أنّ مسؤولي الأمن الإسرائيليين الذين تحدثتُ معهم لم يروا أي مؤشر على أن الإدارة الأمريكية ستقابل أقوالها بأفعال".

في هذا السياق، تنظر إسرائيل إلى أن الاجراءات العملية للولايات المتحدة ضد إبران في سوريا لا يمكن أن تفضي إلى الحد من نفوذها، وكان آخرها توجيه ضربة عسكرية دفاعية في 7 شباط/ فبراير 2018، حيث أطلق طابور من الوحدات التي تقودها إيران قذائف مدفعية باتجاه "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة، جنوب دير الزور، على بعد ثمانية كيلومترات من خط تجنّب المواجهة في شرق نهر الفرات الذي أنشأته واشنطن وموسكو. وبحسب مايكل آيزنشتات ومايكل نايتس، في مقالة بعنوان" تجاوز الخطوط الحمراء: ديناميكيات التصعيد في سوريا"، شملت القوة (المؤلفة من حوالي 500 جندي) مقاتلين أفغان تابعين لمليشيا "لواء فاطميون" التى يقودها "حرس الثورة الإسلامية"، وعناصر قبليين محليين عرب تم تجنيدهم مؤخراً للقتال إلى جانب مليشيا "لواء الباقر" بقيادة ضباط إيرانيين، ومقاتلين من "قوات الدفاع الوطني" التابعة لنظام الأسد، إلى جانب القوات المساعدة "صائدو الدواعش" المجهزة من روسيا، والمقاتلين العسكريين الروس الذين يشاركون في الحرب بموجب عقود الخاصين من "مجموعة فاغنر". وقد دمرت القوات الجوية والمدفعية الأمريكية القوة المهاجمة، مما أسفر عن مقتل حوالي مئة شخص، من بينهم ما يقدر بنحو ثلاثين عنصرا من "قوات الدفاع الوطني"، وأربعين سورياً آخرين، وثلاثين مقاتلاً روسياً (يشاركون في الحرب بموجب عقود)، كما دُمّرت حوالي عشرين مركبة، منها تسع دبابات.

لم تكن ضربة جنوب دير الزور الحادثة الأولى في المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا ولن تكون الأخيرة، لكنها كانت الأعنف. فعلى مدى الشهور الماضية شهدت المواجهة بين أمريكا وإيران في سوريا تصعيدا محدودا ومحسوبا. ففي 18 أيار/ مايو الماضي ضربت المقاتلات الأمريكية رتلا عسكريا للمليشيات الشيعية أثناء تقدمه نحو القاعدة الأمريكية، والتي كانت تهدف إلى تطويق قوات التحالف وعزلها على الأرض. وبعد الحادثة بأيام، قامت القوات الأمريكية بإسقاط طائرة إيرانية مسلحة بدون طيار؛ قالت الولايات المتحدة إنها كانت تهاجم مقاتلين أمريكيين وآخرين من قوات المعارضة في منطقة التنف، وقد برهنت تلك التحركات والحوادث على استعداد "فيلق القدس" لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة في سوريا، كما ظهر جليا في 19 حزيران/ يونيو الماضي عندما أعلنت القوات الأمريكية عن إسقاطها طائرة إيرانية بدون طيار بالقرب من قاعدة التنف.

لم تنقطع الرسائل والمواجهات المحدودة بين أمريكا وإيران في سوريا في مناطق أخرى، فقد ظهرت ساحة جديدة للمعركة على طول وادي نهر الفرات. ففي 18 حزيران/ يونيو الماضي، هاجمت طائرة مقاتلة سورية قوات مدعومة من الولايات المتحدة جنوب مدينة الرقة، وهي منطقة تقوم القوات السورية فيها بدعم العمليات العسكرية التي يقودها "فيلق القدس"، الأمر الذي دفع القوات الجوية الأمريكية إلى إسقاط الطائرة، وهو أمر استدعى بعث رسالة إيرانية شديدة، حيث شنت إيران هجمات بالصواريخ الباليستية على أهداف قالت أنها تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" في الوادي، ومن ضمنه مدينة دير الزور، معللة ذلك بالانتقام من الهجمات التي نفذها التنظيم على طهران، لكن الحقيقة أن الهجمات الصاروخية كانت تستهدف جميع خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها.

خلاصة القول، أن أمريكا تدرك تماما صعوية ومخاطر الدخول في مواجهة شاملة مع إيران، وتعتمد استراتيجيتها على تأسيس حلف عربي إسرائيلي، لكن الجميع يدرك صعوبة تحقيق ذلك، فالدول العربية المقصودة أعجز عن القيام بتلك المغامرة، وإسرائيل لا تحتمل تلك المقامرة، وبهذا سوف تبقى المواجهة في حدود المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد المواجهة الشاملة، لكن المؤكد أن إيران خرجت مرة أخرى أكثر قوة وأوسع نفوذا بانتظار مواجهة منتظرة قادمة لا تزال معالمها مجهولة.

اقرأ المزيد
٢٠ فبراير ٢٠١٨
الصاروخ الذي أيقظ واشنطن

... وفي السنة الثامنة من الحرب في سورية وعليها تنبهت واشنطن إلى أن موسكو سرقت منها بلاد الشام بما فيها من دول وأنظمة ومناطق ومواقع، ومفارق إستراتيجية تتحكم بالشرق الأوسط وبثرواته وقراراته الإقليمية والدولية، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالكيان الإسرائيلي. ولذلك بادرت واشنطن إلى رفع علامة (Stop) في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

لكن ما يدعو إلى الانتباه والتساؤل مع هذا التحوّل المفاجئ في الموقف الأميركي أنه جاء بعد يومين من إطلاق الصاروخ السوري الذي أسقط طائرة حربية إسرائيلية من فئة (F16)... ثم بعد ثلاثة أيام جاء مؤتمر السبعين دولة في الكويت بمشاركة دول الغرب الأميركي والأوروبي، فضلاً عن الدول العربية والآسيوية والأفريقية، وكانت نتيجته ثلاثين بليون دولار لحساب إعادة إعمار العراق، والعقبى لسورية التي أتيح لوفدها الذي يمثل المعارضة أن التقى وزير خارجية أميركا ريكس تيلرسون وأبلغه خلاصة مذكرة سياسية باسم الشعب السوري.

لكن، ماذا عن سورية؟

بعيداً من مدن «جنيف» السويسرية، و «سوتشي» الروسية، و «آستانة» الكازاخية، حيث دار في أروقتها «مؤتمر السلام» الخاص بسورية خلال سبع سنوات، ولا نتيجة منه سوى بيانات تتراكم على مواعيد جديدة لجولات أخرى، جاء الحدث الفاصل من الفضاء، ومعه التساؤلات:

هل هو صاروخ روسي أو إيراني، أو من صنع محلي سوري؟ لكن، أياً يكن المصنع فلن يغير في معنى الحدث والترددات التي تتوالى على الصعيدين الميداني والسياسي، وعلى الجبهتين السورية والإسرائيلية. ثم، وبكثير من الواقعية والتواضع، أعلنت دمشق بلسان معاون وزير الخارجية: على إسرائيل أن تتوقع مفاجآت أكثر.

ومع أن سورية، التي تكلمت في ذلك اليوم هي سورية النظام الذي كان السبب في المآسي والكوارث التي تتراكم على الشعب المندثر والموزع في أقطار الأرض، فلا بدّ أن هذا الشعب قد أصغى إلى ما سمع وقرأ بالقليل من الغبطة وبالكثير من الألم المتراكم عبر الترحال في التيه بعيداً من البيت والحي والأهل، والبلاد التي يملأ اسمها القلب والوجدان نعمة الصبر والأمل والرجاء: سورية...

وتتلاحق الأحداث والتطورات على الصعيد السوري في الداخل، وفي الإقليم، ومعظمها يوحي بالقلق على المصير. فوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أعلن في مؤتمر وزراء خارجية التحالف الدولي الذي عقد في الكويت في 13 شباط (فبراير) الجاري أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة باتت تسيطر على مساحة 30 في المئة من الأراضي السورية، وضمنها حقول النفط، مع الإشارة إلى أن مساحة سورية تبلغ 185 ألف كيلومتر مربع، لكن خطر «داعش» لا يزال ماثلاً في الأراضي السورية، كما في الأراضي العراقية بعد استعادة أمنها بمعدل 98 في المئة.

منذ نحو ثماني سنوات، على الأقل، أي منذ بدايات الثورة السورية، تنازل النظام عن قراره للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل يمكن القول إن الرئيس بوتين، شخصياً، أمسك بالقرار السوري، تاركاً هوامش للنظام على سبيل استطلاع الرأي، وفي ظل ذلك الوضع استفحلت تنظيمات الإرهاب في بعض المناطق التي استطاعت الاستيلاء عليها والتحكم بإنتاجها من النفط والغاز.

وبالعودة إلى تلك المرحلة تبرز سلسلة مقابلات أجراها محققون صحافيون من مجلة «فايننشال تايمز» بين 12 و16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وقد كشفت التقارير التي أعدها الصحافيون، ونشرت في المجلة، عن تعاون وتنسيق مباشر بين حكومة النظام السوري وتنظيم «داعش» في إدارة واستثمار إنتاج الغاز في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وعلى قاعدة المناصفة، من دون أن يغيّر ذلك التعاون القواعد المتبعة في العمليات الحربية على الجبهتين. وتأكيداً على صحة المعلومات ذكر مندوبو «فايننشال تايمز» أن فريق النظام السوري كان يضم موظفين مسيحيين مع الموظفين المسلمين، وقد فُرضت على هؤلاء الجزية ذهباً مع «الجَلد»!. وهكذا كانت حكومة النظام تتقاسم مع «داعش» إنتاج معامل توليد الطاقة الحرارية بمعدل سبعين ميغاوات لــ «داعش» مقابل خمسين ميغاوات للنظام.

فهل كانت موسكو تجهل ذلك الاتفاق بين النظام وعدو الشعب السوري، بل هل كانت موسكو خارج الاتفاق؟!

ويعود السؤال: «داعش» مع سواه من التنظيمات الإرهابية التي اخترقت سورية وبعض مناطق العراق منذ ثمان سنوات، من أين أتى؟... والى أين يذهب عندما يغيب في مهمة أو إجازة؟ وهل من سؤال عن العلاقة، (وربما الشراكة)، غير المباشرة بين «داعش» وإسرائيل؟

روسيا دولة عظمى في العالم، وبوجود رئيس أميركي من طراز دونالد ترامب يحق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقول إنه رئيس الدولة الأعظم!

وعلى هامش هذا الوضع الرديء جاء الصاروخ (المجهول الهوية المصنّعة) لينعش المزاج العربي بالضربة التي سدّدها إلى الطاووس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي قد يفيده أن يراجع الأسطر التالية من حروبه على لبنان:

في أعقاب معركة بين المقاومة الوطنية اللبنانية وجنود الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب أواخر صيف العام 1998 من القرن الماضي، كان بنيامين نتانياهو، رئيساً للحكومة، وكانت نتائج تلك المعركة باهرة بالنسبة إلى المقاومة والشعب اللبناني، فقد سقط من الجنود الإسرائيليين عدداً من القتلى والجرحى، وشهدت مناطق الاحتلال مناحات متفرقة كان نتانياهو خلالها يطوف معزياً عائلات الجنود القتلى، ويزور الجرحى الموزعين في المستشفيات حيث كان يواجه بصرخات غضب ودعوات إلى انسحاب كامل الجنود من جنوب لبنان. وفي ذلك الجو الأسود الذي خيّم على المناطق الفلسطينية المحتلة صدرت جريدة «هآرتس» الإسرائيلية بعنوان مقال لأحد كبار المعلقين في الصحيفة يتضمن جردة حساب مالية لـ «سعر» الجندي الإسرائيلي الذي يبقى حياً ويخدم في جنوب لبنان،» و «سعر» الجندي القتيل، وصولاً إلى «سعر» الجندي الجريح.

ولم تكن جردة الحساب «تقديرية»، بل أن الصحافي ناقشها مع أحد الجنرالات في الجيش الإسرائيلي الذي أجاب عن الأسئلة بالأرقام في النص التالي المترجم عن العبرية:

«إن سعر الجندي الإسرائيلي في الخدمة الإلزامية هو الأرخص لدينا، إذ أنه يكلف 16 ألف شيكل في العام. أما الجندي الذي يسقط جريحاً فإن تكلفته ترتفع بشكل حاد. وأما سعر الجندي القتيل فيعود تقديره إلى رئيس شعبة إعادة التأهيل في الجيش الإسرائيلي، وتبلغ الكلفة مليوني شيكل تُدفع لذوي القتيل عبر السنين. أما الجندي الذي يسقط جريحاً ويتحول مُقعداً فيمكن أنت ترتفع كلفته إلى ثلاثة ملايين شيكل؟؟!

وتبقى جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة العربية بالغة الأهمية بالتصريحات التي أطلقها كأنه يبشر بـ «صحوة» أميركية بلغت حد كسر الجليد مع «حزب الله». لكن الصاروخ السوري الذي أسقط الـ «16F» يبقى الأهم، لأنه أيقظ واشنطن بإدارة دونالد ترامب، على تحوّلات في ما يُسمى اللعب على حافة الهاوية في الشرق الأوسط، وفي قلبه البلاد العربية التي تخوض مرحلة إعادة نظر في ركام أخطائها، على تعدد أنظمتها واختلافاتها.

كما يبقى الصاروخ السوري برمزيته هو الأهم، لأنه فتح باب الرجاء للجيل العربي الجديد، على الأقل، إذ أنه أتى بعد الصواريخ التي خطفت أرواح أولاد مدينة «درعا» وسائر أولاد المدن والأرياف في المحافظات والأقضية السورية الذين خربشوا أحلامهم بالحبر والطبشور على جدران مدارسهم، وما كانوا يدرون أنهم لامسوا عصب نظامهم، فكان جزاءهم القتل. لكن يكفي أهلهم ورفاقهم وشعبهم انهم أكدوا بقاء خميرة الحرية والعروبة والشهادة في عجين الشعب السوري.

اقرأ المزيد
٢٠ فبراير ٢٠١٨
استفزاز إيران أسهل الطرق

بقاء النفوذ الإيراني في المنطقة العربية في لبنان وسوريا والعراق واليمن مستمر إلى أن يعي «الجناح العربي» المستفيد من هذا الوجود أنه مجرد خادم لأجندة سياسية قومية إيرانية، وهذا الوعي المتقدم احتمال ضعيف نتيجة لحجم التغييب المؤثر فيه، خاصة أن هذا الجناح تمدد بعد أن سقطت الدولة، والسيناريو الثاني الذي يمكن أن ينهي هذا الوجود هو الاقتتال الطائفي وهذا ما يتجنبه الجميع. أما الاحتمال الثالث لوقف التمدد وإعادة إيران لحدودها المحلية هو أن يعي الأوروبيون والأميركيون أن هذا الوجود هو تهديد لمصالحهم بشكل مباشر، وهذا ما نجحت إيران – إلى الآن - في منح ضمانتها بأنه لن تصاب أي من تلك المصالح بضرر.

«الصفاقة الإيرانية» واحدة من أهم نقاط ضعفها والتي قد تسرع بكشف أجندتها ونواياها وحقيقة خطرها على الأمن الإقليمي والدولي، فإيران تختال طاووسيا وخطابها يقوم على الاستعراض والتحدي، وذلك خطاب له استحقاقه عاجلا أم آجلا، فإيران تظن أنها تستطيع أن تبقى في المنطقة العربية كقوة استعمارية هانئة مطمئنة ما دام في المنطقة عملاء وخونة عرب يفتحون لها الباب، وما دامت قادرة على إرسال رسائل تطمين لحلفائها الروس والأوروبيين أن الأمور تحت السيطرة، وأن وجودها في العراق وسوريا تلبية لحكوماتها الشرعية، وأن ذلك لمحاربة داعش والتكفيريين فقط، وأنه لا تهديد على أي من المصالح الحيوية كممرات البترول والغاز والملاحة الجوية والبحرية.

إنما قادتها صفاقتها هذه المرة إلى التحرش بإسرائيل معتقدة أن ذلك سيرفع من رصيدها في المنطقة العربية على اعتبار أنها قائدة لمحور ما يسمى المقاومة، واستحقاقا لخطابات «المقاومة» ولا يجوز لمن يتصدى لهذا الدور أن يكون على بعد عدة أمتار من إسرائيل وقائد قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على بعد عدة أميال من الحدود الإسرائيلية، ويتمركز هناك في قاعدة جوية وتحت يده بطارية صواريخ زودتهم بها روسيا ولا يتحرش على الأقل بطائرة بدون طيار بالإسرائيليين!

للصفاقة استحقاق حتى وإن كان وهميا إنها (بطولة) وهمية مجانية لن تكلفهم إلا طائرة صغيرة تطير بالريموت كنترول، يستطيع بها سليماني تسويق أضحوكة محور المقاومة لأنصاره ومشجعيه في المنطقة، ويستطيع روحاني أو ظريف الاعتذار سرا وإنهاء القصة، وما توقع أبدا أن يكون هذا هو رد فعل الإسرائيليين!!

لم يتوقع أبدا أن تنطلق من إسرائيل طائرتا إف 16 ونفاثة دمرت مركز القيادة في القاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرة، ودمرت مدرعة مما اضطر السوريين إلى إطلاق صاروخ على الطائرة الإسرائيلية دفاعا عن النفس، وأسقطت في إسرائيل ونجا الطياران، فما كان من إسرائيل إلا أن دمرت 15 هدفا منها بطاريتان إس إيه 5 وإس إيه 17 روسيتان، وكانت تلك الرسالة الإسرائيلية للإيرانيين واضحة وجلية أن العبث له ثمن!

الصمت الإيراني الذي تلا هذه المغامرة يؤكد وجود الاتصال بين جميع اللاعبين روسيا وأميركا وإسرائيل وإيران للملمة القصة، لتمرير هذه المغامرة الحمقاء وسكوت إيران على الإهانة الإسرائيلية وعدم خروج تصريح يتبجح فيه سليماني بطائرته التي اخترقت المجال الجوي الإيراني يؤكد أن المغامرة كانت حمقاء بالنسبة للمصالح الإيرانية، وخارج سياق التطمينات الإيرانية المتسمة لإسرائيل وللأوروبيين، فإيران تريد أن تستقر في سوريا لا أن تتحرش بإسرائيل.

إيران أشطر من أن تصعد في خطابها في التصريح بأنها باقية و«إلى الأبد» في سوريا على حد تعبير جواد ظريف في مؤتمر روما في ديسمبر (كانون الأول)، بل تتبجح في مؤتمر المانحين لإعمار العراق بأنها لن تدفع تومانا إيرانيا بل ستحتل العراق بأموال العراقيين وأموال المانحين! وعلى الجميع التأقلم مع هذا الواقع، هذا هو خطابها المسكوت عنه والذي لم يحاول أحد أن يدفعها أو يستفزها لاستحقاقاته، الحماقة الإيرانية التي جرت في سوريا كشفت أنه بالإمكان دفع إيران للحائط ومطالبتها بإثبات قدراتها.

ولكن هل إيران على استعداد لدفع الكلفة المتصاعدة لهذا الوجود؟ في ظل التمرد الإيراني المستمر ودعوات وقف التمدد الخارجي والاهتمام بالداخل؟

هل الأوروبيون والأميركيون بدأوا يعون الآن أن وجود إيران في هذه المواقع الاستراتيجية يشكل خطرا على أمن وسلم المصالح الاستراتيجية والحيوية فيها؟ قد لا يشكل موت الآلاف من العرب أو احتلال أرضهم تهديدا للمصالح الأوروبية، ولكن هل يظنون أن الميليشيات التي تأتمر بأمر سليماني تستطيع أن تحافظ على أمن المنطقة وعلى عدم امتداد نيران هذا الصراع؟ هل بدأوا يعون أن وقف التمدد الإيراني هو خارج نطاق الاتفاق النووي، وأن لديهم من المساحة وحرية الحركة كي يتعاملوا مع هذا الوجود بمعزل عن قيود الاتفاق؟

إلى الآن إيران نجحت في إقناعهم بأنها مأمونة الجانب، إنما ما زلت أعتقد أن الصفاقة الإيرانية هي أهم نقاط ضعفها وأن استفزازها يمكن أن يسقط قناعها.

اقرأ المزيد
٢٠ فبراير ٢٠١٨
ما زال الحارس أميركياً.. ولو غاب

باستثناء أحداث الطبيعة، ما من فعل أساسي وذي شأن يتم في عالمنا، إلا ويكون للولايات المتحدة الأميركية يدٌ فيه، ترتيباً، تأثيراً، توجيهاً أو جني ثمار.

خلال السبع سنوات من الكارثة السورية، كان الغياب الأميركي أشد وقعاً من الحضور. في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس باراك أوباما والسنة الأولى من ولاية الرئيس دونالد ترامب، كان السوريون، وكل منخرط في الشأن السوري، بانتظار تبلور السياسة الأميركية تجاه القضية السورية، رفع السوريون توقعاتهم على إيقاع خط أوباما الأحمر؛ وتصوروا أنه سيضع حداً لمأساتهم، وإذ بذلك الخط يتحول مقدمة مأساة أكبر، تمهد إلى فتح عداد الفيتو الروسي، وتفلّت نظام الأسد من أي عقاب دولي. عاد أمل كسر استعصاء القضية بانتظار ولاية أوبامية جديدة. تأتي الولاية وتتفاقم المأساة، عندما تحدد إدارة أوباما لنفسها ثلاثة توجهات بخصوص سورية، تمثلت في النأي بالنفس عن القضية الأساس، وفي محاربة "داعش"، ووضع الملف في عهدة الروس.

شكلت أميركا تحالفاً لمحاربة "داعش" في العراق. ومضى أكثر من عام، قبل أن تبدأ إدارة أوباما تضيف سورية ميدانا لمحاربة "داعش". وكان الاستبشار كبيراً عندما بدأ أوباما يقول: "محاربة داعش في العراق وسورية"، لكنه كان يرفق ذلك بالنأي بالنفس عن القضية السورية الأساسية، وهنا أتى تعهيد تلك القضية للروس. وكم كان ذلك مواتياً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المثقل بأعباء القرم وأوكرانيا والضغط الاقتصادي؛ فاعتبر أن وضع اليد على سورية سيحولها ورقةً يساوم عليها ملفاته التالية. واستلزم ذلك تدخلاً عسكرياً روسياً، جعل بوتين الحاكم بأمره في سورية؛ ولكن فقط في سورية "التابعة نظرياً للأسد وإيران"، أما في الثلث الشمالي الشرقي من سورية حيث الوجود الداعشي الأكبر، والذي قال بوتين إنه يحاربه، فتبيَن أن 3% فقط من أهداف طائراته كان لداعش (قصة استلام تدمر وتسليمها معروفة).

يسارع بوتين إلى إعلان "نصره" من حميميم وبحضور الأسد، ويدعو إلى مؤتمر حوار ومصالحة للسوريين، بعد أن فشل في تحويل "أستانة" محطةً سياسية، ليتبيّن أن من عهد له بالملف السوري كان قد بلفه. فبعد أن ذكّره بأن النظام الذي يحميه لا يزال يستخدم الأسلحة الكيميائية، ولا بد أن يعاقبه على ذلك بقصف مصدر الكيميائي في مطار الشعيرات، وبعد أن ورّطه في استخدام "الفيتو" مرات في مجلس الأمن، تأتي التصريحات الأميركية بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه المسألة السورية قد تبلورت، وأن أميركا تضع يدها على الثلث المفيد، مياهاً وثروة باطنية وزراعة في سورية، وتعمل على إنشاء جيش من 30 ألف مقاتل، وأنها باقيةٌ، حتى يكون هناك حل سياسي في سورية، وحتى يتم الانتقال السياسي المنصوص عليه في القرارات الدولية. ولتأتي أميركا، ومعها أربع دول معنية بالقضية السورية بما سمته "لا ورقة" عشية مؤتمر سوتشي؛ لتقول لبوتين إن خطوته البائسة في إيجاد "حل سياسي" في سورية خلبية.

والآن، ما معنى أن تفعل أميركا ذلك كله، وماذا تريد واشنطن من موسكو في سورية؛ ولماذا عهدت لها بالملف السوري، وهل تختلف السياسة الأميركية تجاه قضايا حساسة عالمية، بتبدل رؤسائها، أم أن المنظومة الأميركية الأعلى المتحكمة، بما يدور في عالمنا، صغيراً كان أم كبيراً، هي المحرّك لتلك القوة الأميركية تفرداً بمصير عالمنا، وغير مسموح بتعدّد القطبية التي تفلسف بها بوتين؟ أمام هذا السؤال والواقع الاستراتيجي الكبير، يخلص المرء إلى أن وضع اليد الأميركية على القطعة الأهم من الجغرافيا السورية، ليس لمائها وغازها ونفطها وزراعتها، بل لأغراضٍ تتقدمها رسالة لموسكو بأن هناك مقرراً أساسياً لمصير عالمنا، صغر أم كبر.

إنه تلقين درس لروسيا بوتين أن القطب الواحد لا يزال هناك، والحلم الروسي في عودة الإمبراطورية ليس إلا وهماً؛ إنه تثبيت لمقولة أوباما إن روسيا ليست إلا دولة إقليمية كبيرة.

من هنا، يمكن القول إن ذلك التأليب السياسي على ترامب، والتحريض الإعلامي عليه، وفزاعة التدخل الروسي في انتخابه، ليست إلا أدوات لاستنفاره وتحريضه، لوضع حد للروس، وإعادة بوتين إلى حجمه الحقيقي.

إضافة إلى هذا الهدف الكبير الذي أنجزته على الحالة السورية، باستخدام بوتين قفازاً أميركياً غير مرئي، فإن الولايات المتحدة أنجزت أيضا أهدافاً ثانوية، لا تقل وزناً عن هدفها الأكبر، فهي أراحت إسرائيل سنوات تساوي السنوات التي أراحها خلال حكم المنظومة الأسدية بهدوء جبهتها الشمالية الشرقية؛ وذلك بجعل سورية حالةً لا تقوم لها قائمة عقودا. من جانب آخر، كشفت القوة العسكرية الروسية الغاشمة إيران؛ وعرّت مخططاتها الطامحة، لكن العاجزة عن التمدّد، إلا في ظل يد باطشة، كاليد الروسية. وهنا فضحت أميركا الجهتين معاً.

ويبقى آخر اهتمامات لعب الكبار مصير الشعوب وعذاباتها، وتبقى التفاتة بسيطة، وتوافق شفوي كفيل بحقن الدماء ولملمة الجراح؛ فمتى تتم تلك الالتفاتة التي تعيد أهل سورية إلى سكة الحياة؟

اقرأ المزيد
٢٠ فبراير ٢٠١٨
نصرة الغوطة في فتح "معركة الساحل"

تتعالى الصحيات والمناشدات وتكثر البيانات المنددة والمناصرة والمطالبة لمجتمع دولي نائم مع كل انتكاسة أو حملة هوجاء تشنها قوى الإجرام ممثلة بالنظام وحلفائه على بقعة ما من المناطق الخارجة عن سيطرتهم، دون أن تقدم هذه المناشدات والصحيات أي نفع إلا نفخ في جوف خاو لا يعطي أي أثر

مشهد الموت في الغوطة الشرقية اليوم وتكالب كل القوى العسكرية البرية منها والجوية في مواجهة 350 ألف مدني، ماهي إلا صورة حية قديمة جديدة لما حصل للأحياء الشرقية في مدينة حلب وداريا والغوطة الغربية والقصير وكثير من المناطق، بعد طول حصار وقتل وتدمير، وما رافقها من مناشدات ودعوات للتحرك لمجتمع دولي أصمت أذانه وأغمض عينه عن سماح ورؤية مايجري من موت ودمار.

ومنذ بداية الحراك الثوري ومع تعدد السنوات وما أصاب المناطق المحررة من انتكاسات كانت تطلق الدعوات لضرب النظام في مواقع حساسة وقاتلة، تجبره على الرضوخ وتغيير المعادلة وتخفيف القتل والتدمير، وجل المطالبات كانت تتوجه لتحريك جبهات الساحل السوري لما لهذه الجبهة من أثر كبير للنظام وحاضنته الشعبية وأخيراً لروسيا وقاعدتها العسكرية، ولكن كانت تكتفي الفصائل برمي الاتهامات فيما بينهما فيمن يمنع فتح الجبهات دون حراك.

جميع الحجج التي ساقتها الفصائل لعدم فتح معركة الساحل التي تعتبر قاتلة له كانت غير مقنعة ومحاولة التفاف على مطالب الجماهير والدعوات والمستمرة والمتجددة مع كل ضيق، واليوم باتت فصائل الشمال السوري أمام تحدي كبير في فتح معركة الساحل وتخفيف الضغط عن الغوطة الشرقية، ولا تعفي فصائل الجنوب السوري من شن عمليات عسكرية على مواقع حساسة للنظام وتخفيف الضغط العسكري على الغوطة المحاصرة فهل تفعلها الفصائل أم تكتفي ببيانات الوعيد والتضامن دون فعل ...!؟

اقرأ المزيد
٢٠ فبراير ٢٠١٨
مذبحة الغوطة الشرقية

300 ألف إنسان محاصرون منذ خمس سنوات ومحرومون من الطعام والغذاء والدواء ويتم قصفهم يومياً بكل أنواع الطيران والسلاح.

هذا محتجز كبير لمجتمع كامل يتم إبادته في مذبحة مستمرة تُجرب فيها كل أشكال القتل من الأسد وحلفائه، ليست نزاعاً ولا قضية سياسية لكنه عار تتحمله البشرية.

الأطراف العربية والغربية التي تتكلم عن مواجهة النفوذ الإيراني لم يكفها التخلي عن ثوار سوريا وهم المشروع الوحيد الذي يقاتل هذا النفوذ عملياً وسبق أن تمكن من هزيمته، ولكنها سمحت بإبادة وتفكيك وتهجير حواضن شعبية كاملة للسوريين -العرب السنة- لصالح إيران وميليشياتها، ثم تريد محاربتهم بتصريحات وألعاب فيديو.

إنها حرب تطهير واعية واستراتيجية وإبادة ممنهجة للحواضن الشعبية للثورة، وتغيير شكل البلد وشعبه للمستقبل.


الأسد عبر عن ذلك بعقيدة التجانس والإيرانيون يستبطنونه طائفياً ويبنون بلدهم على الأرض، والطيران الروسي وفر الوسيلة الأسرع للقتل والتغيير المجتمعي الواسع، يوافق ذلك صعود الفاشية عالمياً ونظرة يمين متطرف و"أقليات بيضاء" ونظم ثورات مضادة أن هذه حواضن "متطرفة" ومزعجة لمناداتها بالحرية وامتلاك المصير.
ما يجري ليس قمعاً أو صراعاً، هو إبادة وتشكيل بلد وشعب جديد.

مذبحة الغوطة الشرقية وإبادة شعبها مستمرة بسلاح إيراني روسي وتواطؤ دولي، دول "عربية" دون تصريح واحد، شعوب تنظر إلى شعب جار يتم إبادته أمامها على يد سفاح وجيوش محتلة، أمم توثق المجزرة ببرود وتتكلم عن نزاع أطراف، حضارة "إنسانية" جديدة يعاد إنتاجها على عقيدة المذبحة في الغوطة.

السوري هو المذبوح ولكن كلّ إنسان مهدد في عالم يشبه الأسد.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)
● مقالات رأي
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب