يلاحظ بعض المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما على موقع «فيسبوك»، أن سوريين يضعون لافتات تشيد بالوجود الأجنبي ولا سيما العسكري في سوريا، الأمر الذي جعل بعضهم يذهب إلى قول، إن السوريين باتوا يرحبون باحتلال بلادهم من قبل دول وميليشيات مسلحة.
وللحق، فإن ثمة ما هو واقع في هذه الملاحظة. فبعد توسع عمليات القمع الدموي التي باشرها نظام الأسد قتلاً وجرحاً واعتقالاً للسوريين وحصاراً وتدميراً للمدن والقرى والأحياء الثائرة، ارتفعت أصوات سورية في أواخر عام 2011، تطالب بالتدخل الدولي من أجل لجم السياسة الدموية للنظام ووضع حد لها، فيما اتجه النظام للاستعانة بحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية لقمع حركة الاحتجاج الشعبي بعد أن عجز وحيداً عن فعل ذلك، وسط تزايد عدد ومساحة المناطق الخارجة عن سيطرته، وبهذا فتح الباب واسعاً أمام التدخل العسكري الأجنبي في البلاد.
وبطبيعة الحال، فقد طورت القوى الأجنبية تدخلاتها العسكرية في العامين الأخيرين وخصوصاً الحليفة لنظام الأسد. فبعد أن دفعت إيران بميليشياتها للقتال إلى جانب النظام في العامين الأولين 2011 - 2012 زاد عدد مستشاريها الأمنيين والعسكريين والتقنيين، ثم دفعت بقواتها من الحرس الثوري للقتال ضد جماعات المعارضة المسلحة، وبنت قواعد لها في عدد من المناطق السورية ولا سيما في ريفي دمشق وحمص، ومضت روسيا في خطوات مماثلة، فعززت وجودها العسكري والأمني والتقني، قبل أن ترسل قواتها البحرية والجوية أواخر عام 2015 للمشاركة الأوسع والأهم في الحرب، وقامت بتثبيت وجودها في قواعد برية وبحرية وجوية في مناطق سوريا الغربية ومطاراتها.
ومما لا شك فيه، أن تطورات الوجود العسكري لحلفاء النظام، وتأثيراته على الصراع في سوريا وحولها، دفع دولاً أخرى للبحث عن موطئ قدم على الأرض السورية، ولئن كان البعض منهم له وجود غير مباشر عبر علاقاته وصلاته بأطراف مسلحة مثل الولايات المتحدة، التي لها علاقات قوية مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd) وميليشياته من وحدات الحماية الكردية، وتركيا التي لها علاقات مع أغلب جماعات المعارضة المسلحة، فإن تلك الدول اندفعت باتجاه إرسال قواتها مباشرة إلى الداخل السوري، فأرسلت واشنطن إضافة إلى الخبراء والمستشارين جنوداً وأسلحة، وأقامت قواعد جوية وبرية في شمال شرقي سوريا، فيما دفعت تركيا بقواتها بالمشاركة مع جماعات المعارضة المسلحة في موجتين، كانت أولاهما عملية درع الفرات التي دخلت محيط جرابلس أواسط 2016، ثم عملية غصن الزيتون، التي توجهت إلى عفرين في 2018 لطرد وحدات الحماية الكردية من هناك التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd).
وباستثناء الوجود الأجنبي السابق والكبير نسبياً الذي بات يسيطر على غالبية الأراضي مباشرة، أو عبر حلفائه المحليين من قوات الأسد وقوات الحماية الكردية وتشكيلات المعارضة المسلحة، فإن هناك وجوداً عسكرياً مباشراً لدول أخرى لها علاقات ونفوذ على بعض التشكيلات المسلحة.
إن الانعكاس المباشر للتدخلات الأجنبية ولا سيما العسكرية على واقع الصراع السوري، جعل من سوريين ينظرون بشكل متفاوت لهذا الوجود. فبدا من الاعتيادي أن ينظر مؤيدو النظام إلى الروس والإيرانيين وميليشياتهم باعتبارهم حماة لهم ولنظامهم، وأن ينظروا للأتراك باعتبارهم قوة احتلال، وهو موقف يخالف كلياً نظرة فئات من معارضي النظام الذين يرون في الأتراك حلفاء لهم في مواجهة نظام الأسد وحلفائه من روس وإيرانيين وميليشيات باعتبارهم محتلين، خاصة في ضوء ما تم من اتفاقات جرى توقيعها بين النظام والطرفين الروسي والإيراني.
وبخلاف ما سبق، فإن الموقف من الوجود الأميركي بدا أكثر تعقيداً. ووحدهم أكراد (Pyd) وحلفاؤهم، كانوا متحمسين للوجود العسكري الأميركي باعتباره قوة دعمهم السياسي والعسكري في مواجهة الآخرين، وكانوا الأكثر شراسة في مواجهة الوجود العسكري التركي الذي يستهدفهم، ويعتبرهم «جماعة إرهابية» تمثل امتداداً لحزب العمال الكردي في تركيا (Pkk)، فيما يحيط الضباب بموقفهم من الوجودين الإيراني والروسي، بينما يعارض أغلب السوريين من النظام والمعارضة الوجود الأميركي من منطلقات ليست واحدة، أبرزها موقفهم من ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (Pyd).
وسط تلك اللوحة المعقدة من المواقف حيال الوجود العسكري الأجنبي، لا يمكن القول، إن السوريين أو جزءاً كبيراً منهم يرحب بالاحتلال الأجنبي لبلدهم، كما يلوح للبعض أو يتوهم. بل الأمر لا يتعدى صلة موقفهم بواقع الصراع السياسي والمسلح الذي صاروا إليه والذي تهددهم تداعياته بشراً وكياناً، تضاف إلى التدخلات الدولية والإقليمية العنيفة، التي اتخذت من بلدهم وأرضهم ميداناً لتصفية حساباتها، وخدمة استراتيجياتها في المنطقة.
ومما لا شك فيه، أن تلك الحيثيات، تجعل من أي مواقف سورية تتناغم مع إحدى قوى الوجود والاحتلال العسكري لأرض سورية، مواقف غير حقيقية، وغالباً هي مواقف «مؤقتة» مرهونة بوقف الحرب وعودة السلام إلى سوريا، التي كثيراً ما حفل تاريخها بما فيه الحديث باحتلالات أجنبية انحسرت، وشهدت انقسامات وصراعات داخلية انتهت، وكلتاهما دفعت السوريين بكل مكونات جماعتهم الوطنية إلى تأسيس كيانهم الواحد في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، التي بلورت صورة سوريا، التي كانت عليها في عام 2011، والتي وإن قال البعض إنها لن تعود، فإن صورة سوريا المقبلة، لن تكون بعيدة كثيراً، عما كانت عليه كدولة مستقلة، فيها أغلب مكوناتها القومية والدينية والطائفية.
تتوافق المخاوف الأميركية مع المعارضة السورية، بما يتعلق "بخطورة الوضع الراهن، وما يمكن أن تؤدي إليه عرقلة العملية السياسية"، حسب بيان الهيئة العليا للمفاوضات لقوى الثورة والمعارضة السورية، الصادر يوم 14 فبراير/ شباط الجاري، إثر لقاء جمع وفداً من الهيئة بوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، ريكس تيلرسون، في عمّان، على الرغم من أن تلك المخاوف نابعةٌ من موقف العجز الذي تمر به المعارضة السورية، أشمام قوى التصارع الدولية على سورية، وفيها، وقدرة هذه الدول على التحكّم بمآلات تصعيد التوتر داخل الأراضي السورية، والتلاعب بمسار المفاوضات، سواء المتعلقة بوقف إطلاق النار، أو التي تحرف المسار السياسي من مكانته الأممية إلى الرعاية الثلاثية (روسيا، إيران، تركيا)، كما كانت المحاولة التي تمت في مؤتمر سوتشي، إلا أن المخاوف الأميركية لا يمكن أن تنبع من المكانة نفسها غير القادرة على تحريك العملية السياسية، والحد من مستوى العنف في سورية، إلا إذا كانت أميركا تريد أن تأخذ دور المتفرج والرابح في النهاية.
يتميز الحضور الأميركي في سورية والعراق بأنه كالحاضر الغائب، ففي حين يستوجب وجود قوة عظمى في المنطقة حفظ السلام والأمن الدوليين، حسب دورها العالمي، فإن كلا البلدين اللذين "ينعمان" بالوجود الأميركي، قوة عسكرية متفاعلة، يعيشان حالةً من الفوضى، والحروب المتعدّدة الأطراف التي تقع الولايات المتحدة طرفا متحاربا فيها، بدل أن تكون حامية للاستقرار، وعامل ضمان لمنع التمدّد الإيراني الذي تتكاثف التصريحات الأميركية بشأن محاربته، وإرغام إيران على الانكفاء داخل حدودها، ما يثير الشبهات في ما يتعلق بمصداقية تلك التصريحات التي لا تقترن على الأرض بأي حراكٍ فاعل، يهدد المصالح الإيرانية، باستثناء التصريحات والتلميحات التي لا تثمر في المعارك عن أي انتصارات، ولم تأت بأي تفاهماتٍ دوليةٍ، تعيدها إلى داخل حدودها، بعيدا عن العواصم العربية الأربع التي تمارس عبرها التدخل في منظومة الحكم فيها، من بغداد إلى بيروت ودمشق وصنعاء.
وعندما تأخذ الإدارة الأميركية دور الحاضر في الشأن السوري تميز بين حضورها العسكري لمشروعها الخاص بها في الشمال السوري، تحت غطاء الوجود الكردي، ودعمها له في حربها على "داعش"، وبين غيابها التام عما يحدث في مناطق مختلفة من سورية، مثل ريفي دمشق وإدلب، وحتى عفرين الواقعة تحت سيطرة حلفائها من الكرد، فبين حضورها في الشمال، وتمتعها بكامل حصانتها التي تدافع عنها، تارة، متصدّرة قواتها التي يزيد تعدادها المعلن عن ألفي جندي أميركي المشهد، وتارة أخرى، مختبئة بعباءة التحالف الدولي ضد الإرهاب، بينما تترك المناطق الساخنة تشتعل بنيران القوات الروسية والإيرانية، إضافة إلى التدخل التركي، أخيرا، والذي يمكن تسميته حالة تعميم الغرق لكل الجهات الضامنة لخفض التصعيد الموقع في العاصمة الكازاخستانية أستانة، مكتفية بطلب ضبط النفس، أو التنديد بما ينتجه ذلك التصعيد من مآسٍ إنسانية في مناطق التخفيض.
من الملاحظ أن الولايات المتحدة مارست سياسة إغراق كل الأطراف في مستنقع الحرب، لإعادة توزيع الأدوار من داخل الصراع، وليس من خارجه، فالوجود الكردي في منبج وعفرين كان بمثابة التهديد الذي تعلم الإدارة الأميركية أن تركيا لن تصمت تجاهه طويلاً، وهي أمام خيار القبول به من باب الرضوخ للإرادة الأميركية، متعاليةً على جراحها، أو خيار المواجهة (الذي اختارته) لتغيير قواعد اللعبة مع واشنطن، والدخول في حربٍ مع كرد سورية تحت غطاء الحفاظ على أمنها القومي، وحماية حدودها من أطماع حزب العمال الكردستاني التي تصنفه "إرهابيا"، على الرغم من أن مغالطات كثيرة بنيت عليها هذه الحرب، ونتج عنها خسائر في البشر والبنية التحتية، والأهم من هذا وذاك ما نتج من خلط الأوراق بين القضيتين، الكردية السورية والتركية الكردية، والتعاطي مع الأمر من منظور اللحظة الراهنة، من دون النظر إلى أبعاد هذه الحرب، في ظل إشراك فصائل سورية معارضة إلى جانب القوات التركية، في مواجهة القوات الكردية التي معظمها من السوريين.
تتمسّك تركيا بفرض خريطة جديدة لتوزيع قواتها داخل الأراضي السورية، ومنها نقاط سيطرة لها في عفرين ومنبج وإدلب شرق السكة والريف الحلبي. وفي المقابل، يستوجب ذلك عليها تفاهمات مع روسيا وإيران، تسمح من خلالها لكل من الدولتين ممارسة أقصى حدود العنف، لفرض سيطرتهم على ما تبقى من خارطة أستانة، لإعادة الاعتبار إلى هذا المسار، بعد انهيار تخفيض التوتر، الذي تمهد له كل من الدول الثلاث الضامنة "برفع مستوى التصعيد" الذي تشهده سورية، ويعد من أسوأ المراحل العنفية التي مرت عليها خلال سنوات الحرب. وبذلك تتجاهل تركيا ما ينتج عن التصعيد من مجازر، وخسائر في صفوف المعارضة التي تقف تركيا في المحافل الدولية داعمة لهم، على نقيض موقف كل من إيران وروسيا الداعمتين للنظام السوري.
ويستجلب هذا التقاسم على النفوذ في سورية أشرس المعارك في أنحاء مختلفة من الغوطة الشرقية وإدلب وعفرين، ضمن عملية مواجهة مشتركة بين ثلاثي أستانة، لمواجه الرغبة الأميركية بالشراكة مع فرنسا وبريطانيا، المتمسكة بمسار مفاوضات جنيف، ضمن قواعد تفاوضية جديدة، مهدت لها "اللاورقة" التي نتجت عن اجتماع باريس (24/1)، وأسست لمفهوم جديد في العملية الانتقالية، يبدأ من تغييراتٍ في شكل الحكم ونظامه في سورية، وصولا إلى إقامة نظام حكم لامركزي، تمهد من خلاله الإدارة الأميركية تثبيت حضورها الدائم في الإقليم الشمالي الذي يعد المنطقة الاستراتيجية اقتصادياً وجغرافياً وسكانياً، ما يعني أن السوريين يواجهون مشروعين متضادين بالتبني الدولي، وبالآن نفسه، يلتقيان في خانة تقاسم النفوذ أحدهما (الروسي، التركي، الإيراني) يريدون سورية النظام مع امتيازات وجودهم الدائم. والمشروع الآخر يريد سورية جديدة مع حفظ حقوق الأقاليم بإدارتها نفسها، ضمن ما يمكن تسميتها فيدرالية خاصة، وأيضاً يبرّر هذا الشكل من الحكم الوجود الأميركي الذي لم تحدد الإدارة نهاية له.
فمن الوجود الأميركي العسكري الفعلي في الشمال، إلى شبه الصمت عما يحدث في الريف الدمشقي ووسط البلاد، إلى الحماية المطلقة للحدود "الإسرائيلية"، تتوزع الأدوار الأميركية بين الحضور والغياب، لكنها في المحصلة لا يمكن اعتبارها قوة مجهولة التأثير في المعادلة السورية، وإنما هي الطرف الذي على المعارضة السورية البناء على حضوره وغيابه، بما يتناسب والمشروع الوطني، لسحب الورقة الكردية منه، ضمن تفاهماتٍ للبحث عن حل عادل لها، وقطع الطريق على حربٍ شرسةٍ تخوضها تركيا في عفرين، بصياغة حل سوري - سوري يعالج مخاوف تركيا من جهة، ويبني على الوعود الأميركية في إقامة دولة سورية الديمقراطية، من دون أن يكون لأي مكون فيها ميزة التسلح بقوة خارجية.
خلقت الادعاءات المتسرعة بهزيمة "الإرهاب" في سوريا؛ دينامية جديدة من الصراعات الدولية والإقليمية، تؤذن بحلول حقبة من المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد الحروب الشاملة. وإذا كان الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وإزاحة نظام صدام حسين السني قد أسفر عن وضع العراق تحت وصاية إيران، فإن التدخل الأمريكي في سوريا 2011، وهزيمة تنظيم أبو بكر البغدادي السني، أفضى إلى جعل سوريا تحت سيطرة إيران. وأحد أكبر المفارقات في التاريخ المعاصر أن أحد أهم ذرائع التدخلات الأمريكية في العراق وسوريا كانت تهدف إلى الحد من النفوذ الإيراني الشيعي ومحاربة "الإرهاب" السني، وعقب كل تدخل أمريكي كانت إيران تخرج أكثر قوة وأشد نفوذا، وكان "الإرهاب" يكتسب خبرة أكبر ونفوذا أوسع.
في هذا السياق، تبدو السياسات الأمريكية التي تسيير على هديها الدول الأوروبية تعمل على تحقيق نقيض أهدافها المتعلقة بحرب "الإرهاب". ففي كل جولة من التدخلات، تزداد قوة الجمهورية الإيرانية، وتتنامى قدرة المنظمات الجهادية. لكن ذلك لا يبدو غريبا في ظل هيمنة منظورات غربية تصر على ربط العنف والتطرف والإرهاب؛ بثقافة ودين المنطقة، وليس بالأسباب والشروط والظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية. فتنامي الحالة الجهادية الموسومة بـ"الإرهابية" برز في سياق ثلاثة ظروف استراتيجية؛ الأولى: محلية وطنية، وتتمثل بانغلاق الأنموذج السياسي وفشل وعود التحول الديمقراطية ورسوخ الاستبداد، والثانية: إقليمية، وتتمثل بعدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين، والثالثة: عالمية، وتتمثل بانهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة القطب الأمريكي الواحد وحلول العولمة.
تصر السياسات الأمريكية على السير على طريق تأجيج حالة العنف في المنطقة، وتدفع باتجاه تغذية منابع "الإرهاب" الرئيسية في المنطقة. فعقب إعلانها عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية تبنت منظورات استرتيجية توسس لديمومة العنف والإرهاب عبر أطروحة "صفقة القرن"؛ التي تقوم على أساس تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العريية والاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية. وقد بات واضحا أن منظومة العنف الإرهابوي في المنطقة هو رد على نظام العنف البنيوي المتجسد بالإمبريالية الخارجية والاحتلالية الإسرائيلية والطائفية الإقليمية والدكتاتورية المحلية.
على مدى عقود ادعت الولايات المتحدة الأمريكية أن إيران تشكّل تحدياً شاملاً لمصالحها، وتهديدا واسعا لحلفائها وشركائها في الشرق الأوسط. ولم تخل أي وثيقة للأمن القومي الأمريكي منذ سقوط نظام الشاه وصعود الجمهورية الإيرانية الإسلامية؛ من الحديث عن الخطر الإيراني واعتبار إيران دولة راعية للإرهاب، فضلا عن كونها دولة مارقة، ومع ذلك من ذلك تمكنت إيران خلال العقود الأربعة الماضية من التمدد والانتشار، وتمكين سيطرتها وزيادة نفوذها، وخلق فضاء جيوسياسي من طهران إلى بغداد، مرورا بدمشق وصولا إلى بيروت، فضلا عن نفوذها في البحرين واليمن. وفي كل مرة ادعت أمريكا التصدي للنفوذ الإيراني، كانت إيران تخرج بنفوذ أكبر وتوسع أعظم.
منذ قدوم إدارة ترامب، بات الحديث عن الخطر الإيراني حدثا يوميا، وأصبحت التهديدات لازمة خطابية لأركان الإدارة الأمريكية، كان آخرها تحذير مستشار الأمن القومي الأمريكي هربرت ماكماستر؛ من تزايد قوة ما وصفها بـ"شبكة وكلاء" إيران في المنطقة، حيث قال ماكماستر، أثناء مؤتمر ميونيخ للأمن في 17 شباط/ فبراير 3018، إن إيران تبني وتسلح شبكة قوية على نحو متزايد من الوكلاء، في دول مثل سوريا والعراق واليمن. وأضاف أن شبكة وكلاء إيران أصبحت أكثر قوة، وأن الوقت حان للتصرف تجاه طهران.
إن المواجهة الأمريكية للنفوذ الإيراني هي أقرب إلى الأوهام، فبحسب الواشنطن بوست تفرض إيران اليوم هيمنتها ونفوذها على القوس الممتد من طهران وحتى البحر الأبيض المتوسط، ومن حدود حلف شمال الأطلسي إلى حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً على امتداد الطرف الجنوبي من شبه جزيرة العرب. فلدى إيران اليوم الآلاف من المليشيات المتحالفة معها، والجيوش التي تقاتل وكالة عنها في الخطوط الأمامية في سوريا والعراق واليمن، والتي تملك عربات مدرعة ودبابات وأسلحة ثقيلة، فضلاً عن آلاف من أعضاء الحرس الثوري الإيراني الذين يشاركون في تلك المعارك؛ ممّا أكسبهم خبرة كبيرة.
تشير التطورات المتسارعة في سوريا إلى بروز منطق جديد في نمط المواجهة بين أمريكا وإيران. ففي تطور مهم ولافت، أسقطت الدفاعات الجوية السورية مقاتلة إسرائيلية قصفت أهدافا عسكرية داخل سوريا في 10 شباط/ فبراير 2018، وسرعان ما اتهمت إسرائيل إيران بإسقاط الطائرة، وتنامى الحديث عن منطق المواجهة الجديد الذي يتجاوز حروب الوكالة. وعلى الرغم من حرص البلدين وكافة الأطراف الدولية والإقليمية على التهدئة وعدم التصعيد، فإن حقبة جديدة من الصراع تبرز في المنطقة، لكنها بعيدة عن منطق المواجهة الشاملة نظرا للكلفة الباهظة والعواقب الخطيرة.
في أعقاب الغارات الإسرائيلية على سوريا أصدرت إدارة ترامب بيانات تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لكنها لم تقدم أي مساعدة عسكرية (على الأقل علناً) للعمليات ضد القوات الإيرانية في سوريا. وفي هذا الصدد، أعلنت واشنطن أنها تعتزم إبقاء نحو ألفي جندي شرقي نهر الفرات في شمال وشرق سوريا، ولا تزال مهمتهم غير واضحة المعالم، باستثناء دعوى هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية". وركزت الإدارة الأمريكية أيضاً على إدارة التوترات التركية - الكردية، من خلال زيارة كل من وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون ومستشار الأمن القومي هربرت رايموند ماكماستر؛ إلى أنقرة مؤخراً. وفي المقابل، هناك بعض المؤشرات الملموسة على الأرض بأن واشنطن تحاول جاهدة الحدّ من النشاط الإيراني في سوريا، فضلاً عن التصريحات العامة التي أدلى بها تيلرسون، ومفادها أن استمرار الوجود العسكري الأمريكي يهدف جزئياً إلى كبح نفوذ طهران المحلي.
يستند منطق المواجهة بين إيران وإسرائيل إلى قناعة إسرائيلية بأن الاستراتيجية الأمريكية المتعلقة بإيران قاصرة، ولا تتوافر آليات فاعلة للحد من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عموما، وفي سوريا خصوصا. فالاستراتيجية التي وضعها فريق الأمن القومي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتصدي لإيران؛ تتضمن مجموعة من العناصر الأساسية تقوم على: تحييد التأثير "المزعزع للاستقرار للحكومة الإيرانية وكذلك تقييد عدوانيتها، ولا سيما دعمها للإرهاب والمسلحين"، وإعادة تنشيط التحالفات الأمريكية التقليدية والشراكات الإقليمية كـ"مصد ضد التخريب الإيراني واستعادة أكبر لاستقرار توازن القوى في المنطقة"، وحرمان النظام الإيراني، ولا سيما الحرس الثوري، من تمويل "أنشطته الخبيثة" ومعارضة أنشطة الحرس الثوري، ومواجهة تهديدات الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى الموجهة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وحشد المجتمع الدولي لإدانة "الانتهاكات الجسيمة للحرس الثوري" لحقوق الإنسان، و"احتجازه لمواطنين أمريكيين وغيرهم من الأجانب بتهم زائفة"، وحرمان النظام الإيراني من المسارات المؤدية إلى سلاح نووي.
لا شك أن استراتيجية ترامب النظرية تتماهى مع الطرح الإسرائيلي، فقد عكفت واشنطن منذ تدخلها في المنطقة، في إطار بحثها عن حل إقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على حشد جبهة موحدة تضم إسرائيل والقوى العربية السنية في وجه إيران، عدو واشنطن وإسرائيل اللدود، الأمر الذي دفع بنيامين نتنياهو إلى تقديم اقتراح بـتبني "مقاربة إقليمية" لإنهاء صراع الشرق الأوسط، حيث أشاد بما وصفها "فرصة غير مسبوقة تتمثل في تخلي بعض الدول العربية عن اعتبار إسرائيل عدوا، بل صارت ترى فيها حليفا في مواجهة إيران و"داعش"، القوتين التوأمين في "الإسلام المتطرف" واللتين تهددان الجميع". وتتوافق الرؤية المشتركة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي بـترتيبات "صفقة القرن"، التي تقوم على تصفية القضية الفلسطينية، وإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تأسيس تحالف أمريكي إسرائيلي مع بعض دول المنطقة، تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالمنظمات "الإرهابية" والجمهورية "الإيرانية".
لا جدال أن إسرائيل كانت الأكثر سعادة بقدوم إدارة ترامب ورحيل أوباما، نظرا للتباين الشديد في رؤية الرجلين لإيران ودورها في المنطقة. فأوباما أنجز الاتفاق النووي مع إيران ونظر إليها كعامل استقرار، بينما ترامب لا يدع مناسبة للحديث عن الخطر الإيراني المزعزع للاستقرار. فبحسب دينيس روس: "قد لا تكون أسهم الرئيس دونالد ترامب مرتفعة للغاية في الولايات المتحدة، لكن كل من أمضى مؤخراً بعض الوقت في إسرائيل أو السعودية، كما فعلتُ أنا، يمكنه أن يشهد أن الرئيس الأمريكي هو من المفضلين في أوساط قادة هاتين الدولتين الشرق أوسطيتين". لكن المشكلة بالنسبة لإسرائيل لخصها دينيس روس في عنوان مقالة في مجلة "فورين بوليسي"؛ بأن "ما يقوله ترامب بشأن إيران هو مجرد كلام، إذ يشعر جميع أولئك الذين تحدثتُ إليهم بأن الولايات المتحدة تنازلت عن سوريا لصالح روسيا، تاركةً إسرائيل للتعامل بمفردها مع الوجود الإيراني هناك. وبطبيعة الحال، يعتقد هؤلاء أنه لو كانت الولايات المتحدة مهيأة للإشارة إلى استعدادها لوضع حدّ للتوسّع الإيراني في سوريا، فإن السلوك الروسي قد يتغيّر أيضاً. ولكن على الرغم من تركيز خطاب وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بشأن سوريا الشهر الماضي؛ على مواجهة إيران، إلّا أنّ مسؤولي الأمن الإسرائيليين الذين تحدثتُ معهم لم يروا أي مؤشر على أن الإدارة الأمريكية ستقابل أقوالها بأفعال".
في هذا السياق، تنظر إسرائيل إلى أن الاجراءات العملية للولايات المتحدة ضد إبران في سوريا لا يمكن أن تفضي إلى الحد من نفوذها، وكان آخرها توجيه ضربة عسكرية دفاعية في 7 شباط/ فبراير 2018، حيث أطلق طابور من الوحدات التي تقودها إيران قذائف مدفعية باتجاه "قوات سوريا الديمقراطية" المدعومة من الولايات المتحدة، جنوب دير الزور، على بعد ثمانية كيلومترات من خط تجنّب المواجهة في شرق نهر الفرات الذي أنشأته واشنطن وموسكو. وبحسب مايكل آيزنشتات ومايكل نايتس، في مقالة بعنوان" تجاوز الخطوط الحمراء: ديناميكيات التصعيد في سوريا"، شملت القوة (المؤلفة من حوالي 500 جندي) مقاتلين أفغان تابعين لمليشيا "لواء فاطميون" التى يقودها "حرس الثورة الإسلامية"، وعناصر قبليين محليين عرب تم تجنيدهم مؤخراً للقتال إلى جانب مليشيا "لواء الباقر" بقيادة ضباط إيرانيين، ومقاتلين من "قوات الدفاع الوطني" التابعة لنظام الأسد، إلى جانب القوات المساعدة "صائدو الدواعش" المجهزة من روسيا، والمقاتلين العسكريين الروس الذين يشاركون في الحرب بموجب عقود الخاصين من "مجموعة فاغنر". وقد دمرت القوات الجوية والمدفعية الأمريكية القوة المهاجمة، مما أسفر عن مقتل حوالي مئة شخص، من بينهم ما يقدر بنحو ثلاثين عنصرا من "قوات الدفاع الوطني"، وأربعين سورياً آخرين، وثلاثين مقاتلاً روسياً (يشاركون في الحرب بموجب عقود)، كما دُمّرت حوالي عشرين مركبة، منها تسع دبابات.
لم تكن ضربة جنوب دير الزور الحادثة الأولى في المواجهة الأمريكية الإيرانية في سوريا ولن تكون الأخيرة، لكنها كانت الأعنف. فعلى مدى الشهور الماضية شهدت المواجهة بين أمريكا وإيران في سوريا تصعيدا محدودا ومحسوبا. ففي 18 أيار/ مايو الماضي ضربت المقاتلات الأمريكية رتلا عسكريا للمليشيات الشيعية أثناء تقدمه نحو القاعدة الأمريكية، والتي كانت تهدف إلى تطويق قوات التحالف وعزلها على الأرض. وبعد الحادثة بأيام، قامت القوات الأمريكية بإسقاط طائرة إيرانية مسلحة بدون طيار؛ قالت الولايات المتحدة إنها كانت تهاجم مقاتلين أمريكيين وآخرين من قوات المعارضة في منطقة التنف، وقد برهنت تلك التحركات والحوادث على استعداد "فيلق القدس" لمواجهة نفوذ الولايات المتحدة في سوريا، كما ظهر جليا في 19 حزيران/ يونيو الماضي عندما أعلنت القوات الأمريكية عن إسقاطها طائرة إيرانية بدون طيار بالقرب من قاعدة التنف.
لم تنقطع الرسائل والمواجهات المحدودة بين أمريكا وإيران في سوريا في مناطق أخرى، فقد ظهرت ساحة جديدة للمعركة على طول وادي نهر الفرات. ففي 18 حزيران/ يونيو الماضي، هاجمت طائرة مقاتلة سورية قوات مدعومة من الولايات المتحدة جنوب مدينة الرقة، وهي منطقة تقوم القوات السورية فيها بدعم العمليات العسكرية التي يقودها "فيلق القدس"، الأمر الذي دفع القوات الجوية الأمريكية إلى إسقاط الطائرة، وهو أمر استدعى بعث رسالة إيرانية شديدة، حيث شنت إيران هجمات بالصواريخ الباليستية على أهداف قالت أنها تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية" في الوادي، ومن ضمنه مدينة دير الزور، معللة ذلك بالانتقام من الهجمات التي نفذها التنظيم على طهران، لكن الحقيقة أن الهجمات الصاروخية كانت تستهدف جميع خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها.
خلاصة القول، أن أمريكا تدرك تماما صعوية ومخاطر الدخول في مواجهة شاملة مع إيران، وتعتمد استراتيجيتها على تأسيس حلف عربي إسرائيلي، لكن الجميع يدرك صعوبة تحقيق ذلك، فالدول العربية المقصودة أعجز عن القيام بتلك المغامرة، وإسرائيل لا تحتمل تلك المقامرة، وبهذا سوف تبقى المواجهة في حدود المعارك المحدودة دون أن تبلغ حد المواجهة الشاملة، لكن المؤكد أن إيران خرجت مرة أخرى أكثر قوة وأوسع نفوذا بانتظار مواجهة منتظرة قادمة لا تزال معالمها مجهولة.
... وفي السنة الثامنة من الحرب في سورية وعليها تنبهت واشنطن إلى أن موسكو سرقت منها بلاد الشام بما فيها من دول وأنظمة ومناطق ومواقع، ومفارق إستراتيجية تتحكم بالشرق الأوسط وبثرواته وقراراته الإقليمية والدولية، وعلى الأخص ما يتعلق منها بالكيان الإسرائيلي. ولذلك بادرت واشنطن إلى رفع علامة (Stop) في وجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لكن ما يدعو إلى الانتباه والتساؤل مع هذا التحوّل المفاجئ في الموقف الأميركي أنه جاء بعد يومين من إطلاق الصاروخ السوري الذي أسقط طائرة حربية إسرائيلية من فئة (F16)... ثم بعد ثلاثة أيام جاء مؤتمر السبعين دولة في الكويت بمشاركة دول الغرب الأميركي والأوروبي، فضلاً عن الدول العربية والآسيوية والأفريقية، وكانت نتيجته ثلاثين بليون دولار لحساب إعادة إعمار العراق، والعقبى لسورية التي أتيح لوفدها الذي يمثل المعارضة أن التقى وزير خارجية أميركا ريكس تيلرسون وأبلغه خلاصة مذكرة سياسية باسم الشعب السوري.
لكن، ماذا عن سورية؟
بعيداً من مدن «جنيف» السويسرية، و «سوتشي» الروسية، و «آستانة» الكازاخية، حيث دار في أروقتها «مؤتمر السلام» الخاص بسورية خلال سبع سنوات، ولا نتيجة منه سوى بيانات تتراكم على مواعيد جديدة لجولات أخرى، جاء الحدث الفاصل من الفضاء، ومعه التساؤلات:
هل هو صاروخ روسي أو إيراني، أو من صنع محلي سوري؟ لكن، أياً يكن المصنع فلن يغير في معنى الحدث والترددات التي تتوالى على الصعيدين الميداني والسياسي، وعلى الجبهتين السورية والإسرائيلية. ثم، وبكثير من الواقعية والتواضع، أعلنت دمشق بلسان معاون وزير الخارجية: على إسرائيل أن تتوقع مفاجآت أكثر.
ومع أن سورية، التي تكلمت في ذلك اليوم هي سورية النظام الذي كان السبب في المآسي والكوارث التي تتراكم على الشعب المندثر والموزع في أقطار الأرض، فلا بدّ أن هذا الشعب قد أصغى إلى ما سمع وقرأ بالقليل من الغبطة وبالكثير من الألم المتراكم عبر الترحال في التيه بعيداً من البيت والحي والأهل، والبلاد التي يملأ اسمها القلب والوجدان نعمة الصبر والأمل والرجاء: سورية...
وتتلاحق الأحداث والتطورات على الصعيد السوري في الداخل، وفي الإقليم، ومعظمها يوحي بالقلق على المصير. فوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أعلن في مؤتمر وزراء خارجية التحالف الدولي الذي عقد في الكويت في 13 شباط (فبراير) الجاري أن الولايات المتحدة الأميركية والدول الحليفة باتت تسيطر على مساحة 30 في المئة من الأراضي السورية، وضمنها حقول النفط، مع الإشارة إلى أن مساحة سورية تبلغ 185 ألف كيلومتر مربع، لكن خطر «داعش» لا يزال ماثلاً في الأراضي السورية، كما في الأراضي العراقية بعد استعادة أمنها بمعدل 98 في المئة.
منذ نحو ثماني سنوات، على الأقل، أي منذ بدايات الثورة السورية، تنازل النظام عن قراره للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل يمكن القول إن الرئيس بوتين، شخصياً، أمسك بالقرار السوري، تاركاً هوامش للنظام على سبيل استطلاع الرأي، وفي ظل ذلك الوضع استفحلت تنظيمات الإرهاب في بعض المناطق التي استطاعت الاستيلاء عليها والتحكم بإنتاجها من النفط والغاز.
وبالعودة إلى تلك المرحلة تبرز سلسلة مقابلات أجراها محققون صحافيون من مجلة «فايننشال تايمز» بين 12 و16 تشرين الأول (أكتوبر) 2015، وقد كشفت التقارير التي أعدها الصحافيون، ونشرت في المجلة، عن تعاون وتنسيق مباشر بين حكومة النظام السوري وتنظيم «داعش» في إدارة واستثمار إنتاج الغاز في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وعلى قاعدة المناصفة، من دون أن يغيّر ذلك التعاون القواعد المتبعة في العمليات الحربية على الجبهتين. وتأكيداً على صحة المعلومات ذكر مندوبو «فايننشال تايمز» أن فريق النظام السوري كان يضم موظفين مسيحيين مع الموظفين المسلمين، وقد فُرضت على هؤلاء الجزية ذهباً مع «الجَلد»!. وهكذا كانت حكومة النظام تتقاسم مع «داعش» إنتاج معامل توليد الطاقة الحرارية بمعدل سبعين ميغاوات لــ «داعش» مقابل خمسين ميغاوات للنظام.
فهل كانت موسكو تجهل ذلك الاتفاق بين النظام وعدو الشعب السوري، بل هل كانت موسكو خارج الاتفاق؟!
ويعود السؤال: «داعش» مع سواه من التنظيمات الإرهابية التي اخترقت سورية وبعض مناطق العراق منذ ثمان سنوات، من أين أتى؟... والى أين يذهب عندما يغيب في مهمة أو إجازة؟ وهل من سؤال عن العلاقة، (وربما الشراكة)، غير المباشرة بين «داعش» وإسرائيل؟
روسيا دولة عظمى في العالم، وبوجود رئيس أميركي من طراز دونالد ترامب يحق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقول إنه رئيس الدولة الأعظم!
وعلى هامش هذا الوضع الرديء جاء الصاروخ (المجهول الهوية المصنّعة) لينعش المزاج العربي بالضربة التي سدّدها إلى الطاووس الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي قد يفيده أن يراجع الأسطر التالية من حروبه على لبنان:
في أعقاب معركة بين المقاومة الوطنية اللبنانية وجنود الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب أواخر صيف العام 1998 من القرن الماضي، كان بنيامين نتانياهو، رئيساً للحكومة، وكانت نتائج تلك المعركة باهرة بالنسبة إلى المقاومة والشعب اللبناني، فقد سقط من الجنود الإسرائيليين عدداً من القتلى والجرحى، وشهدت مناطق الاحتلال مناحات متفرقة كان نتانياهو خلالها يطوف معزياً عائلات الجنود القتلى، ويزور الجرحى الموزعين في المستشفيات حيث كان يواجه بصرخات غضب ودعوات إلى انسحاب كامل الجنود من جنوب لبنان. وفي ذلك الجو الأسود الذي خيّم على المناطق الفلسطينية المحتلة صدرت جريدة «هآرتس» الإسرائيلية بعنوان مقال لأحد كبار المعلقين في الصحيفة يتضمن جردة حساب مالية لـ «سعر» الجندي الإسرائيلي الذي يبقى حياً ويخدم في جنوب لبنان،» و «سعر» الجندي القتيل، وصولاً إلى «سعر» الجندي الجريح.
ولم تكن جردة الحساب «تقديرية»، بل أن الصحافي ناقشها مع أحد الجنرالات في الجيش الإسرائيلي الذي أجاب عن الأسئلة بالأرقام في النص التالي المترجم عن العبرية:
«إن سعر الجندي الإسرائيلي في الخدمة الإلزامية هو الأرخص لدينا، إذ أنه يكلف 16 ألف شيكل في العام. أما الجندي الذي يسقط جريحاً فإن تكلفته ترتفع بشكل حاد. وأما سعر الجندي القتيل فيعود تقديره إلى رئيس شعبة إعادة التأهيل في الجيش الإسرائيلي، وتبلغ الكلفة مليوني شيكل تُدفع لذوي القتيل عبر السنين. أما الجندي الذي يسقط جريحاً ويتحول مُقعداً فيمكن أنت ترتفع كلفته إلى ثلاثة ملايين شيكل؟؟!
وتبقى جولة وزير الخارجية الأميركي في المنطقة العربية بالغة الأهمية بالتصريحات التي أطلقها كأنه يبشر بـ «صحوة» أميركية بلغت حد كسر الجليد مع «حزب الله». لكن الصاروخ السوري الذي أسقط الـ «16F» يبقى الأهم، لأنه أيقظ واشنطن بإدارة دونالد ترامب، على تحوّلات في ما يُسمى اللعب على حافة الهاوية في الشرق الأوسط، وفي قلبه البلاد العربية التي تخوض مرحلة إعادة نظر في ركام أخطائها، على تعدد أنظمتها واختلافاتها.
كما يبقى الصاروخ السوري برمزيته هو الأهم، لأنه فتح باب الرجاء للجيل العربي الجديد، على الأقل، إذ أنه أتى بعد الصواريخ التي خطفت أرواح أولاد مدينة «درعا» وسائر أولاد المدن والأرياف في المحافظات والأقضية السورية الذين خربشوا أحلامهم بالحبر والطبشور على جدران مدارسهم، وما كانوا يدرون أنهم لامسوا عصب نظامهم، فكان جزاءهم القتل. لكن يكفي أهلهم ورفاقهم وشعبهم انهم أكدوا بقاء خميرة الحرية والعروبة والشهادة في عجين الشعب السوري.
بقاء النفوذ الإيراني في المنطقة العربية في لبنان وسوريا والعراق واليمن مستمر إلى أن يعي «الجناح العربي» المستفيد من هذا الوجود أنه مجرد خادم لأجندة سياسية قومية إيرانية، وهذا الوعي المتقدم احتمال ضعيف نتيجة لحجم التغييب المؤثر فيه، خاصة أن هذا الجناح تمدد بعد أن سقطت الدولة، والسيناريو الثاني الذي يمكن أن ينهي هذا الوجود هو الاقتتال الطائفي وهذا ما يتجنبه الجميع. أما الاحتمال الثالث لوقف التمدد وإعادة إيران لحدودها المحلية هو أن يعي الأوروبيون والأميركيون أن هذا الوجود هو تهديد لمصالحهم بشكل مباشر، وهذا ما نجحت إيران – إلى الآن - في منح ضمانتها بأنه لن تصاب أي من تلك المصالح بضرر.
«الصفاقة الإيرانية» واحدة من أهم نقاط ضعفها والتي قد تسرع بكشف أجندتها ونواياها وحقيقة خطرها على الأمن الإقليمي والدولي، فإيران تختال طاووسيا وخطابها يقوم على الاستعراض والتحدي، وذلك خطاب له استحقاقه عاجلا أم آجلا، فإيران تظن أنها تستطيع أن تبقى في المنطقة العربية كقوة استعمارية هانئة مطمئنة ما دام في المنطقة عملاء وخونة عرب يفتحون لها الباب، وما دامت قادرة على إرسال رسائل تطمين لحلفائها الروس والأوروبيين أن الأمور تحت السيطرة، وأن وجودها في العراق وسوريا تلبية لحكوماتها الشرعية، وأن ذلك لمحاربة داعش والتكفيريين فقط، وأنه لا تهديد على أي من المصالح الحيوية كممرات البترول والغاز والملاحة الجوية والبحرية.
إنما قادتها صفاقتها هذه المرة إلى التحرش بإسرائيل معتقدة أن ذلك سيرفع من رصيدها في المنطقة العربية على اعتبار أنها قائدة لمحور ما يسمى المقاومة، واستحقاقا لخطابات «المقاومة» ولا يجوز لمن يتصدى لهذا الدور أن يكون على بعد عدة أمتار من إسرائيل وقائد قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على بعد عدة أميال من الحدود الإسرائيلية، ويتمركز هناك في قاعدة جوية وتحت يده بطارية صواريخ زودتهم بها روسيا ولا يتحرش على الأقل بطائرة بدون طيار بالإسرائيليين!
للصفاقة استحقاق حتى وإن كان وهميا إنها (بطولة) وهمية مجانية لن تكلفهم إلا طائرة صغيرة تطير بالريموت كنترول، يستطيع بها سليماني تسويق أضحوكة محور المقاومة لأنصاره ومشجعيه في المنطقة، ويستطيع روحاني أو ظريف الاعتذار سرا وإنهاء القصة، وما توقع أبدا أن يكون هذا هو رد فعل الإسرائيليين!!
لم يتوقع أبدا أن تنطلق من إسرائيل طائرتا إف 16 ونفاثة دمرت مركز القيادة في القاعدة الجوية التي انطلقت منها الطائرة، ودمرت مدرعة مما اضطر السوريين إلى إطلاق صاروخ على الطائرة الإسرائيلية دفاعا عن النفس، وأسقطت في إسرائيل ونجا الطياران، فما كان من إسرائيل إلا أن دمرت 15 هدفا منها بطاريتان إس إيه 5 وإس إيه 17 روسيتان، وكانت تلك الرسالة الإسرائيلية للإيرانيين واضحة وجلية أن العبث له ثمن!
الصمت الإيراني الذي تلا هذه المغامرة يؤكد وجود الاتصال بين جميع اللاعبين روسيا وأميركا وإسرائيل وإيران للملمة القصة، لتمرير هذه المغامرة الحمقاء وسكوت إيران على الإهانة الإسرائيلية وعدم خروج تصريح يتبجح فيه سليماني بطائرته التي اخترقت المجال الجوي الإيراني يؤكد أن المغامرة كانت حمقاء بالنسبة للمصالح الإيرانية، وخارج سياق التطمينات الإيرانية المتسمة لإسرائيل وللأوروبيين، فإيران تريد أن تستقر في سوريا لا أن تتحرش بإسرائيل.
إيران أشطر من أن تصعد في خطابها في التصريح بأنها باقية و«إلى الأبد» في سوريا على حد تعبير جواد ظريف في مؤتمر روما في ديسمبر (كانون الأول)، بل تتبجح في مؤتمر المانحين لإعمار العراق بأنها لن تدفع تومانا إيرانيا بل ستحتل العراق بأموال العراقيين وأموال المانحين! وعلى الجميع التأقلم مع هذا الواقع، هذا هو خطابها المسكوت عنه والذي لم يحاول أحد أن يدفعها أو يستفزها لاستحقاقاته، الحماقة الإيرانية التي جرت في سوريا كشفت أنه بالإمكان دفع إيران للحائط ومطالبتها بإثبات قدراتها.
ولكن هل إيران على استعداد لدفع الكلفة المتصاعدة لهذا الوجود؟ في ظل التمرد الإيراني المستمر ودعوات وقف التمدد الخارجي والاهتمام بالداخل؟
هل الأوروبيون والأميركيون بدأوا يعون الآن أن وجود إيران في هذه المواقع الاستراتيجية يشكل خطرا على أمن وسلم المصالح الاستراتيجية والحيوية فيها؟ قد لا يشكل موت الآلاف من العرب أو احتلال أرضهم تهديدا للمصالح الأوروبية، ولكن هل يظنون أن الميليشيات التي تأتمر بأمر سليماني تستطيع أن تحافظ على أمن المنطقة وعلى عدم امتداد نيران هذا الصراع؟ هل بدأوا يعون أن وقف التمدد الإيراني هو خارج نطاق الاتفاق النووي، وأن لديهم من المساحة وحرية الحركة كي يتعاملوا مع هذا الوجود بمعزل عن قيود الاتفاق؟
إلى الآن إيران نجحت في إقناعهم بأنها مأمونة الجانب، إنما ما زلت أعتقد أن الصفاقة الإيرانية هي أهم نقاط ضعفها وأن استفزازها يمكن أن يسقط قناعها.
باستثناء أحداث الطبيعة، ما من فعل أساسي وذي شأن يتم في عالمنا، إلا ويكون للولايات المتحدة الأميركية يدٌ فيه، ترتيباً، تأثيراً، توجيهاً أو جني ثمار.
خلال السبع سنوات من الكارثة السورية، كان الغياب الأميركي أشد وقعاً من الحضور. في السنة الأخيرة من ولاية الرئيس باراك أوباما والسنة الأولى من ولاية الرئيس دونالد ترامب، كان السوريون، وكل منخرط في الشأن السوري، بانتظار تبلور السياسة الأميركية تجاه القضية السورية، رفع السوريون توقعاتهم على إيقاع خط أوباما الأحمر؛ وتصوروا أنه سيضع حداً لمأساتهم، وإذ بذلك الخط يتحول مقدمة مأساة أكبر، تمهد إلى فتح عداد الفيتو الروسي، وتفلّت نظام الأسد من أي عقاب دولي. عاد أمل كسر استعصاء القضية بانتظار ولاية أوبامية جديدة. تأتي الولاية وتتفاقم المأساة، عندما تحدد إدارة أوباما لنفسها ثلاثة توجهات بخصوص سورية، تمثلت في النأي بالنفس عن القضية الأساس، وفي محاربة "داعش"، ووضع الملف في عهدة الروس.
شكلت أميركا تحالفاً لمحاربة "داعش" في العراق. ومضى أكثر من عام، قبل أن تبدأ إدارة أوباما تضيف سورية ميدانا لمحاربة "داعش". وكان الاستبشار كبيراً عندما بدأ أوباما يقول: "محاربة داعش في العراق وسورية"، لكنه كان يرفق ذلك بالنأي بالنفس عن القضية السورية الأساسية، وهنا أتى تعهيد تلك القضية للروس. وكم كان ذلك مواتياً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المثقل بأعباء القرم وأوكرانيا والضغط الاقتصادي؛ فاعتبر أن وضع اليد على سورية سيحولها ورقةً يساوم عليها ملفاته التالية. واستلزم ذلك تدخلاً عسكرياً روسياً، جعل بوتين الحاكم بأمره في سورية؛ ولكن فقط في سورية "التابعة نظرياً للأسد وإيران"، أما في الثلث الشمالي الشرقي من سورية حيث الوجود الداعشي الأكبر، والذي قال بوتين إنه يحاربه، فتبيَن أن 3% فقط من أهداف طائراته كان لداعش (قصة استلام تدمر وتسليمها معروفة).
يسارع بوتين إلى إعلان "نصره" من حميميم وبحضور الأسد، ويدعو إلى مؤتمر حوار ومصالحة للسوريين، بعد أن فشل في تحويل "أستانة" محطةً سياسية، ليتبيّن أن من عهد له بالملف السوري كان قد بلفه. فبعد أن ذكّره بأن النظام الذي يحميه لا يزال يستخدم الأسلحة الكيميائية، ولا بد أن يعاقبه على ذلك بقصف مصدر الكيميائي في مطار الشعيرات، وبعد أن ورّطه في استخدام "الفيتو" مرات في مجلس الأمن، تأتي التصريحات الأميركية بأن سياسة الولايات المتحدة تجاه المسألة السورية قد تبلورت، وأن أميركا تضع يدها على الثلث المفيد، مياهاً وثروة باطنية وزراعة في سورية، وتعمل على إنشاء جيش من 30 ألف مقاتل، وأنها باقيةٌ، حتى يكون هناك حل سياسي في سورية، وحتى يتم الانتقال السياسي المنصوص عليه في القرارات الدولية. ولتأتي أميركا، ومعها أربع دول معنية بالقضية السورية بما سمته "لا ورقة" عشية مؤتمر سوتشي؛ لتقول لبوتين إن خطوته البائسة في إيجاد "حل سياسي" في سورية خلبية.
والآن، ما معنى أن تفعل أميركا ذلك كله، وماذا تريد واشنطن من موسكو في سورية؛ ولماذا عهدت لها بالملف السوري، وهل تختلف السياسة الأميركية تجاه قضايا حساسة عالمية، بتبدل رؤسائها، أم أن المنظومة الأميركية الأعلى المتحكمة، بما يدور في عالمنا، صغيراً كان أم كبيراً، هي المحرّك لتلك القوة الأميركية تفرداً بمصير عالمنا، وغير مسموح بتعدّد القطبية التي تفلسف بها بوتين؟ أمام هذا السؤال والواقع الاستراتيجي الكبير، يخلص المرء إلى أن وضع اليد الأميركية على القطعة الأهم من الجغرافيا السورية، ليس لمائها وغازها ونفطها وزراعتها، بل لأغراضٍ تتقدمها رسالة لموسكو بأن هناك مقرراً أساسياً لمصير عالمنا، صغر أم كبر.
إنه تلقين درس لروسيا بوتين أن القطب الواحد لا يزال هناك، والحلم الروسي في عودة الإمبراطورية ليس إلا وهماً؛ إنه تثبيت لمقولة أوباما إن روسيا ليست إلا دولة إقليمية كبيرة.
من هنا، يمكن القول إن ذلك التأليب السياسي على ترامب، والتحريض الإعلامي عليه، وفزاعة التدخل الروسي في انتخابه، ليست إلا أدوات لاستنفاره وتحريضه، لوضع حد للروس، وإعادة بوتين إلى حجمه الحقيقي.
إضافة إلى هذا الهدف الكبير الذي أنجزته على الحالة السورية، باستخدام بوتين قفازاً أميركياً غير مرئي، فإن الولايات المتحدة أنجزت أيضا أهدافاً ثانوية، لا تقل وزناً عن هدفها الأكبر، فهي أراحت إسرائيل سنوات تساوي السنوات التي أراحها خلال حكم المنظومة الأسدية بهدوء جبهتها الشمالية الشرقية؛ وذلك بجعل سورية حالةً لا تقوم لها قائمة عقودا. من جانب آخر، كشفت القوة العسكرية الروسية الغاشمة إيران؛ وعرّت مخططاتها الطامحة، لكن العاجزة عن التمدّد، إلا في ظل يد باطشة، كاليد الروسية. وهنا فضحت أميركا الجهتين معاً.
ويبقى آخر اهتمامات لعب الكبار مصير الشعوب وعذاباتها، وتبقى التفاتة بسيطة، وتوافق شفوي كفيل بحقن الدماء ولملمة الجراح؛ فمتى تتم تلك الالتفاتة التي تعيد أهل سورية إلى سكة الحياة؟
تتعالى الصحيات والمناشدات وتكثر البيانات المنددة والمناصرة والمطالبة لمجتمع دولي نائم مع كل انتكاسة أو حملة هوجاء تشنها قوى الإجرام ممثلة بالنظام وحلفائه على بقعة ما من المناطق الخارجة عن سيطرتهم، دون أن تقدم هذه المناشدات والصحيات أي نفع إلا نفخ في جوف خاو لا يعطي أي أثر
مشهد الموت في الغوطة الشرقية اليوم وتكالب كل القوى العسكرية البرية منها والجوية في مواجهة 350 ألف مدني، ماهي إلا صورة حية قديمة جديدة لما حصل للأحياء الشرقية في مدينة حلب وداريا والغوطة الغربية والقصير وكثير من المناطق، بعد طول حصار وقتل وتدمير، وما رافقها من مناشدات ودعوات للتحرك لمجتمع دولي أصمت أذانه وأغمض عينه عن سماح ورؤية مايجري من موت ودمار.
ومنذ بداية الحراك الثوري ومع تعدد السنوات وما أصاب المناطق المحررة من انتكاسات كانت تطلق الدعوات لضرب النظام في مواقع حساسة وقاتلة، تجبره على الرضوخ وتغيير المعادلة وتخفيف القتل والتدمير، وجل المطالبات كانت تتوجه لتحريك جبهات الساحل السوري لما لهذه الجبهة من أثر كبير للنظام وحاضنته الشعبية وأخيراً لروسيا وقاعدتها العسكرية، ولكن كانت تكتفي الفصائل برمي الاتهامات فيما بينهما فيمن يمنع فتح الجبهات دون حراك.
جميع الحجج التي ساقتها الفصائل لعدم فتح معركة الساحل التي تعتبر قاتلة له كانت غير مقنعة ومحاولة التفاف على مطالب الجماهير والدعوات والمستمرة والمتجددة مع كل ضيق، واليوم باتت فصائل الشمال السوري أمام تحدي كبير في فتح معركة الساحل وتخفيف الضغط عن الغوطة الشرقية، ولا تعفي فصائل الجنوب السوري من شن عمليات عسكرية على مواقع حساسة للنظام وتخفيف الضغط العسكري على الغوطة المحاصرة فهل تفعلها الفصائل أم تكتفي ببيانات الوعيد والتضامن دون فعل ...!؟
300 ألف إنسان محاصرون منذ خمس سنوات ومحرومون من الطعام والغذاء والدواء ويتم قصفهم يومياً بكل أنواع الطيران والسلاح.
هذا محتجز كبير لمجتمع كامل يتم إبادته في مذبحة مستمرة تُجرب فيها كل أشكال القتل من الأسد وحلفائه، ليست نزاعاً ولا قضية سياسية لكنه عار تتحمله البشرية.
الأطراف العربية والغربية التي تتكلم عن مواجهة النفوذ الإيراني لم يكفها التخلي عن ثوار سوريا وهم المشروع الوحيد الذي يقاتل هذا النفوذ عملياً وسبق أن تمكن من هزيمته، ولكنها سمحت بإبادة وتفكيك وتهجير حواضن شعبية كاملة للسوريين -العرب السنة- لصالح إيران وميليشياتها، ثم تريد محاربتهم بتصريحات وألعاب فيديو.
إنها حرب تطهير واعية واستراتيجية وإبادة ممنهجة للحواضن الشعبية للثورة، وتغيير شكل البلد وشعبه للمستقبل.
الأسد عبر عن ذلك بعقيدة التجانس والإيرانيون يستبطنونه طائفياً ويبنون بلدهم على الأرض، والطيران الروسي وفر الوسيلة الأسرع للقتل والتغيير المجتمعي الواسع، يوافق ذلك صعود الفاشية عالمياً ونظرة يمين متطرف و"أقليات بيضاء" ونظم ثورات مضادة أن هذه حواضن "متطرفة" ومزعجة لمناداتها بالحرية وامتلاك المصير.
ما يجري ليس قمعاً أو صراعاً، هو إبادة وتشكيل بلد وشعب جديد.
مذبحة الغوطة الشرقية وإبادة شعبها مستمرة بسلاح إيراني روسي وتواطؤ دولي، دول "عربية" دون تصريح واحد، شعوب تنظر إلى شعب جار يتم إبادته أمامها على يد سفاح وجيوش محتلة، أمم توثق المجزرة ببرود وتتكلم عن نزاع أطراف، حضارة "إنسانية" جديدة يعاد إنتاجها على عقيدة المذبحة في الغوطة.
السوري هو المذبوح ولكن كلّ إنسان مهدد في عالم يشبه الأسد.
من شأن وجود نوع من الاتفاق بين القوى العالمية والإقليمية أن يكون حاسماً بصورة كبيرة، للتوصل لأي حل سلمي في سوريا. وكان ينبغي لذلك أن يكون واضحاً منذ بداية الصراع.
وسواء كان العالم مروعاً، أو متعاطفاً، أو غير عابئ، شهدنا جميعاً انتفاضة الشعب المسالم ضد الديكتاتورية الشرسة. وكان عصيان السخط والغضب فوق كل اعتبار. وأيضاً، كان يجب على المجتمع الدولي ولا يزال يتوجب عليه، التعامل مع التهديدات الإرهابية الفظيعة. لكن، من الصحيح كذلك أن الصراع في سوريا كان يدور دوماً حول مخاوف القوى السنية الإقليمية في المنطقة، وصعود النفوذ الإيراني فيها، والمصالح التركية الخاصة، ومخاوف دولة إسرائيل، واستعداد روسيا لتسجيل النقاط على حساب العالم الغربي، وتردد الولايات المتحدة المزري.
ومن الغريب بدرجة كبيرة تقويض هذا البعد الإقليمي والدولي على أيدي الأمم المتحدة. إذ ركزت الوساطة الأممية بالأساس على السعي اليائس نحو الحوار، وربما بعض أشكال التفاهم بين نظام دمشق وممثلي قوى المعارضة. وفي الأثناء ذاتها، لعب الروس دوراً كبيراً ورائداً في صياغة خريطة الطريق للأمم المتحدة، وكان ذلك في مقامه الأول لأجل استخدامهم المتكرر لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وفي المقام الثاني، بسبب الاستثمارات العسكرية الخاصة بهم على الأرض. وساد وهم كبير بشأن أن الروس كانوا في موقف يسمح لهم بقيادة الحوار السوري - السوري على مسار الحل النهائي الذي يتفق مع «السلام الروسي» المنشود. وتأييد هذا الوهم بعدد من النتائج الإيجابية النسبية لعملية آستانة، مع مساعدة من تركيا وإيران، والتي بلغت ذروتها في الطريق إلى مؤتمر سوتشي.
تبخر هذا الوهم بصورة أو بأخرى مع مرور الوقت. ويظن أحدنا أن الوقت قد حان لصياغة نهج بديل، يستند إلى ضرورة العمل على النظر في إمكانات الاتساق مع مصالح القوى الإقليمية والدولية. وما من شك أن هذا المقترح يبدو أكثر صعوبة من حيث التنفيذ – وقد يقول البعض إنه أقرب إلى المحال – من أي وقت مضى. وهو لا يزال غير صالح للتنفيذ من النهج الحالي بين الأمم المتحدة وروسيا.
دَعُونا في هذا المقام، نؤكد سببين أو ثلاثة تستحق الاعتبار من الزاوية «الإقليمية - الدولية». أولاً، لن يصدق أحد بعد الآن أنه بعد 7 سنوات من الكراهية والفظائع والموت والدمار، أن إجراء حوار بين النظام والمعارضة في سوريا، من دون إطار دولي مناسب، سيسفر عن شيء مثمر. ثانياً، كانت النتيجة الصافية لكل ما حدث حتى الآن هو التقسيم الحقيقي للبلاد إلى مناطق نفوذ متعددة. ولن يمكن لأحد الادعاء بأن هذه الوصفة موثوقة ومؤكدة لإعادة الاستقرار إلى ربوع البلاد. بل على العكس من ذلك، وهذه هي النقطة الثالثة، أننا الآن على مشارف مرحلة خطرة للغاية تكون فيها القوى الإقليمية والعالمية على حافة المواجهات العسكرية المباشرة، كما شهدنا في عفرين، ودير الزور، ويوم السبت الماضي بعد اختراق طائرة إيرانية مسيَّرة (من دون طيار) الأجواء الإسرائيلية.
وإيجازاً للقول، صار الأمر أكثر وضوحاً يوماً عن يوم أن التواصل والتنسيق، ونمط من أنماط التفاهم، هي من الأمور الحاسمة للغاية إن كان الهدف هو تفادي اندلاع حرب إقليمية في المنطقة. إذ إن نزع الصراع أو خفض التصعيد أو المساعي الروسية الحميدة لم تعد كافية بعد الآن.
ولقد أشار أحدهم بالفعل إلى أن الحوار الوثيق بين القوى العالمية والإقليمية قد يكون من المناسب إجراؤه الآن. كما صنع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تماماً. إذ طرح اقتراح «مجموعة الاتصال» حول هذه «الصيغة» الجديدة. ولم يلق هذا المقترح الترحيب المنتظر، وربما ذلك بسبب أن موعده قد تأخر كثيراً؛ فلقد ترسخت بالفعل جملة من الأمور في أرض الواقع، وأصبح من المحال على فرنسا أن تتمكن من تغيير مسار العمليات الدولية الجارية (عملية جنيف، وعملية آستانة، وما سواهما). أو ربما بسبب أن المقترح لم يبلغ حد النضج السياسي بعد.
لكن، والآن، وبعد سقوط المقاتلات الروسية والإسرائيلية، والمروحيات التركية أيضاً، ومع مقتل المرتزقة أو الجنود الروس على ضفاف الفرات وفي غير ذلك من الأماكن، ومع تحطم الطائرة الإيرانية المسيّرة بالنيابة عن الدفاعات الجوية السورية، ينبغي على صناع القرار إدراك أن الوقت قد حان لالتقاط النفس العميق، ومحاولة التفكير في الأمر مرة أخرى.
قد تكون هناك خطوة على المسار الصحيح من خلال إنشاء «مجموعة مصغرة» تحت قيادة الولايات المتحدة وتتألف من فرنسا، والمملكة المتحدة، ودول إقليمية أخرى.
فلقد اجتمعت هذه الدول في باريس على المستوى الوزاري يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي. ولم تكن الغاية من هذه المجموعة المصغرة تشكيل مصدر بديل عن القيادة، ولكن مجرد المساهمة في أي عملية دولية مرتقبة. وإن تُمكّن من العثور على جسر التواصل، تحت ضغط الظروف الراهنة، بين هذه المجموعة وبين روسيا، يمكن التوصل إلى نقطة المنعطف المنشودة في الأحداث الجارية.
وإنْ تم التوصل إلى نقطة المنعطف تلك، فهناك أمران على قدر كبير من الأهمية. أولاً، غير مسموح بارتكاب أي نوع من الأخطاء على جدول الأعمال. والسؤال الأساسي المطروح حالياً يتعلق بمعرفة كيفية تجنب تحول حالة التقسيم الواقعية في سوريا إلى نزاع إقليمي أو على أقل تقدير تحولها إلى خطر إقليمي متصاعد ومستمر. ولا يعني ذلك أنه ينبغي لنظام دمشق أن يظل ثابتاً إلى الأبد من أجل الاستقرار، وأن يتم تجاهل الوصول إلى وقف ثابت للنار، بل يعني أنه يتعين معالجة الجوانب الإقليمية والجوانب المحلية للمأساة السورية معاً.
ثانياً، ينبغي للتقارب بين روسيا والولايات المتحدة والمجموعة المصغرة المذكورة، عند مرحلة من المراحل، أن يسفر عن عقد مؤتمر على غرار «دايتون» بشأن سوريا. وكان اتفاق دايتون قد وضع حد النهاية في عام 1995، للحروب المندلعة في الاتحاد اليوغوسلافي السابق، لكن هذا المؤتمر المقترح، ولجملة من الأسباب، ليس النموذج المثالي لإنهاء حالة الحرب اللانهائية في سوريا. ولكن ما يمكن الاحتفاظ به من عملية دايتون، في الوقت المناسب بالطبع، أي بعد التحضير الدقيق للأمر، هو الأسلوب: أي الاجتماع الذي يجمع كل أصحاب المصالح على مائدة واحدة والمكوث في نفس الغرفة لأطول فترة ممكنة، ما دامت الحاجة دعت إلى إبرام اتفاق. أي اتفاق سلام لسوريا ولمنطقة الشرق الأوسط بأسرها.
بعد سبع سنوات من عمر الثورة السورية ما تزال الحرب التي أعلنها نظام الأسد على الشعب مفتوحةً، ويبدو أن النظام لا يستطيع أن يحسم أي معركة وحده، فلا بدَّ من دعمٍ روسي متعدد الأشكال، ووجودٍ للميلشيات الطائفية الإيرانية وحزب الله إلى جانبه، وبذلك تنتهي أسطورة الدولة الأمنية التي رسمها آل الأسد في ذهن السوريين وتتحول إلى مهزلة.
أصبح التململ الروسي واضحاً في التعامل مع نظام الأسد، خاصة في المعارك الأخيرة، وأصبحت العمليات الروسية منفردةً إلى حدٍّ كبير، متجاوزين بها النظام وقواته، ولعل روسيا أصبحت تعتبر ما تبقى من الجيش السوري عبئاً عليها، حتى في أصغر المعارك وأكبرها، وحتى على الصعيد السياسي، فهم يتعاملون معه باستخفاف وتصغير تارةً، وتصعيد إعلامي ضدَّ المعارضة تارةً أخرى، كورقة ضغط مستمرة، ولا يفوِّتون فرصة خلف الجدران المغلقة، حتى يقولوا للسوريين والمجتمع الدولي: إنهم يسعون إلى أن يكونوا الطرف المحايد الحريص على صداقة الشعب السوري، وهم غير متمسكين بشخص الأسد، بمقدار حرصهم على الدولة السورية، وللأسف، ومع استمرار القتل، يجدون باستمرار من يصدقونهم حتى ممَّن يُحسبون على المعارضة، وقد نجدهم ممثلين أيضاً في هيئة التفاوض، لكن هل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد كماً ونوعاً، وحجم التدمير الذي ألحقه بالبلاد، مع الدعم الروسي له، الذي يعتبر إجراما غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط سيساعد الروس في تغيير الاستراتيجيات العسكرية والسياسية للخروج من المستنقع الذي وضَعوا أنفسهم فيه، ويثبوا حقيقة أنهم يسعون للحل، لا لمزيد من الدمار؟
الثورة السورية دخلت بعدد كبير من المنعطفات والتواريخ على مدار سنواتها السبع، لدرجة أننا قد نعتقد أنه مضى دهر كامل من الزمن لكثرة الأحداث، لكننا، وبسهولة، نستطيع أن نستخلص أن الشعب السوري لن يتنازل أبداً عن ثوابت الثورة، ولن يرضخ ولن يعود إلى ما قبل عام 2011، على عكس ما يتوقعه الروس والإيرانيون. السوريون لديهم كرامة وحرية وأخلاق، يموتون كلَّ يوم ليحافظوا عليها، وقد برهنوا ذلك بشجاعة أخجلت الكثير من دول العالم التي ادَّعت صداقتنا وفق مصالحها فقط.
بالعودة إلى الجهود السياسية الأخيرة، فشلت روسيا بالضغط على نظام الأسد في جنيف، وفشلت في إقناع المعارضة السورية بطرح الحلول الجزئية لإعادة إنتاج نظام الأسد في سوتشي، وبدأت من موسكو إلى أستانة، ومنها إلى سوتشي تؤكد على أهمية الحل السياسي، حسب رؤيتها المتمثلة بإصلاحات دستورية تقود إلى انتخابات، يستطيع بشار الأسد الترشح فيها مرة ثانية تحت رقابة ووصاية الأمم المتحدة، وقالها لنا الروس صراحة: «لا يوجد رئيس يذهب بثورة»، وتشعر من كلامهم كأنهم يقولون: «إن شرَّعنا هذا لكم فهذا يعني أن قائد الكرملين في خطر». ليعودوا وليطرحوا استراتيجيات مختلفة عبر الأمم المتحدة، بعد فشلهم الكبير في إقناع حليفهم نظام الأسد والمعارضة السورية على حدٍّ سواء، ليسجل التاريخ أن نتاج المفاوضات التركية مع روسيا أبدت ثمارها، ولولا الجهود التركية لضمان مصالح المعارضة السورية لكنَّا نعيش الكارثة الأكثر مرارةً من مخرجات سوتشي، وبرعاية الأمم المتحدة، ومن يعتقد أن تركيا حول طاولة المفاوضات ضعيفة أو تلعب دور التابع الاستراتيجي فهو مخطئ.
استطاعت الفصائل العسكرية في أستانة بناءَ شراكة حقيقة مع تركيا عسكرياً وسياسياً؛ لتحقيق مصالح مشتركة وفق آلية واضحة، وبناء مستقبل نتمناه جميعاً لسوريا، على عكس باقي القوى الإقليمية الأخرى، التي أخذت دور المتفرج بانتظار التحرك الأمريكي، الذي فتح الباب على مصراعيه لتمدد روسيا في سوريا عسكرياً وسياسياً، فهؤلاء باعونا الوهم على مدار أعوام، ووقفوا في وجه انتصار الثورة بكل الإمكانيات. روسيا التي هددت وتوعدت المعارضة السورية «بحرب إبادة لم تبدأ بعد» في جلسة غير رسمية داخل الأمم المتحدة في اجتماع فيينا الأخير، واعتبرت أن تهديدها أحد أدوات الضغط على وفد هيئة التفاوض بهدف حضوره سوتشي، فشلت بذلك مجدداً رغم وجود التيار المؤيد لسوتشي من قبل بعض منصات المعارضة، وهنا يطرح السؤال: إلى أي حدٍّ وصلت روسيا حتى تطلق مثل هذه التهديدات؟ هل هي غارقة في مستنقع لدرجة أنها مستعدة لفتح حرب إبادة جماعية هي أساساً لم تنته؟
فشل مؤتمر سوتشي شكلاً، وأثبتت روسيا أنها منفصلة عن الواقع تماماً، وأصبحت استراتيجيها تحسين صورتها أمام شعوب العالم قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية، واستحقاق كأس العالم الذي يعتبر مرحلة مفصلية في السياسة الروسية من ناحية تحسين صورتها، لكن خيبة الأمل الروسية حوّلت المؤتمر إلى فضيحة دولية، فأنقذها التدخل الأخير للمبعوث الأممي ستيفان ديمستورا، الذي أعلن أن اللجنة الدستورية المنبثقة عن المؤتمر ستكون برعاية الأمم المتحدة، وستشكل في جنيف وسط تحفظ صوري من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، التي ماتزال تعتبر نفسها الوصي التاريخي في سوريا، رغم أنها عضو في مجلس الأمن الدولي، لكن حتى الدول الخمس الدائمة العضوية ليست جميعها بالقوة والسوية نفسها رغم امتلاكها حق الفيتو.
والآن مع اقتراب جولة جديدة من مباحثات أستانة، لابدَّ من رسم الاستراتيجيات القوية لدينا كمفاوضين (فصائل عسكرية وسياسيين) والتوقف عن مهاجمة وتخوين بعضنا، على الأقل عندما نجلس مع الروس وفق مبادئنا في بيئة محايدة ونعلم جيداً أننا عندما نذهب إلى أستانة فنحن نذهب لنفاوض عدوا، ونريد تحقيق مطالبنا ولم ولن نتنازل عن أي مطلب سوري، كل ما أردناه هو وقف قتل المدنيين وإنقاذ ما تبقى من سوريا وتحقيق مطالب الثورة، ولا نريد لاستراتيجية الدب الروسي المتمثلة بـ(أضغط المدنيين واقتلهم) حتى تنقلب عليهم الحاضنة الشعبية، وتقبل بالشروط الروسية كما هي، نحن في أستانة حافظنا على ما تبقى من المناطق المحررة، وقاتلنا «داعش» حتى انتصرنا في «درع الفرات»، وما نزال مستمرين في معركتنا ضد جميع أشكال الإرهاب الانفصالي والداعشي وإرهاب الدولة، وكل ما نريده هو تحقيق طموح السوريين وحمايتهم.
بالمقابل على الروس أن يعلموا أن السوريين لن ينهزموا أبداً، فإذا كانت حربهم لم تبدأ كما قالوا لنا، فنحن أيضاً حربنا لم تبدأ بعد، لأننا لا نملك ما نخسره سوى أرواحنا، فإذا أرادوا أرواحنا فنحن مستعدين لذلك، لكن حذارِ الاقتراب من كرامتنا، فلن نتخلى عنها أبداً، وسنقاتل ونموت لأجلها، وإذا اعتبرت روسيا أن الحرب عبارة عن قتل ودمار فقط، عليها أن تعلم أن في الحرب قوانين ومبادئ أيضاً.
وأخيراً مطلوب، وبإلحاح، استعادة الثورة من الأماكن الرمادية التي أخذت إليها، وذلك بالتوجه إلى جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، لمساندتنا والوقوف معنا، ونبذ التخوين والفرقة ، والوقوف في وجه من يعمل على تدمير البلاد والعباد وزرع أوهام تأهيل النظام وإعادة إنتاجه، وعلينا جميعاً مواجهة منظمات التطرف والإرهاب والانفصاليين الذين يحاولون الاستيلاء على الثورة ومصادرة مستقبل سوريا.
ما تزال روسيا وإيران وسوريا يعتمدون مبدأ الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى، ولم يدركوا بحكم آليات الفهم السائدة لديهم من جهة وخبراتهم التاريخية الفاقدة للديمقراطية من جهة ثانية، أهمية التسويات الكبرى التي تقوم على مبدأ المصلحة المشتركة.
هكذا أقدمت روسيا بعيد فشل سوتشي إلى شن حملة عسكرية مجنونة على إدلب، وهكذا يقدم النظام السوري على تدمير الغوطة الشرقية، وهكذا أقدمت إيران على خطوتين الأولى في ديرالزور والثانية عند الحدود مع الاحتلال الاسرائيلي.
إن مبدأ الحرب امتداد للسياسة قد يعبر عن فائض في القوة أحيانا، لكنه يعبر عن ضعف وارتباك أحيانا أخرى، وأفعال الأطراف الثلاثة آنفة الذكر لا يمكن إدراجها ضمن فعالية القوة بقدر ما هي انعكاس لحالة التوتر والارتباك.
الروس في عنق الزجاجة، قدراتهم العسكرية الكبيرة لم تمنحهم قوة سياسية، بل على العكس أوقعتهم في مأزق كبير، فلا هم قادرين على وقف المعارك ولا هم قادرين على فتح باب السياسة، ومع كل سد يقابلهم يلجؤون إلى النظام وإيران، وتركيا، فتكون روسيا الكبيرة أسيرة أطراف محلية وإقليمية.
إيران المحكومة بسقف لا تستطيع تجاوزه في سوريا (روسيا)، وبعدو يتربص بها (الولايات المتحدة)، وبحليف لا يمنحها كل ما تريد (النظام السوري)، وجدت نفسها مضطرة إلى اجتراح أساليبها الخاصة وإن كانت ذات تكلفة باهظة على سوريا الضعيفة.
المكان كان خطأ لجهة ديرالزور أو لجهة الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي، والزمان أيضا كذلك، في وقت تعاني إيران من اضطرابات داخلية أحد أهم عناوينها تكاليف التدخل في سوريا، وفي وقت تكافح أيضا للحفاظ على منجزات الاتفاق النووي مع الغرب.
لكن الحادثتين يصعب ربطهما مباشرة بإيران وإن بدت كذلك في الظاهر، فالجغرافيا السورية اليوم تعج بأجندات متضاربة ومتقاطعة بحيث يصعب تحديد دقة التداخلات/ التخارجات بينها، ويصعب الربط بين ساحات الصراع غير المتصلة.
من الواضح أن هجوم دير الزور وإرسال الطائرة المسيرة إلى الجنوب تم بالتوافق مع موسكو ودمشق على الأغلب، فالأهداف المرجوة من هذين الهجومين تتجاوز المصالح الإيرانية.
بالنسبة لروسيا التي تعرضت لضربات موجعة مؤخرا (هجوم حميميم، فشل سوتشي، إسقاط سوخوي 25،)، ما كان لها أن تمرر ذلك من دون توجيه ضربات غير مباشرة للولايات المتحدة بسبب عدم قدرتها على الاشتباك المباشر.
إن قراءة سريعة للتصريحات الروسية بعيد الضربة الأمريكية في ديرالزور والرد العسكري الإسرائيلي تؤكد أن الروس على علم بكل شيء قبل حدوثه، لأن تجاوز الإيرانيين لخطوط الاشتباك في ديرالزور من دون علم الروس غير ممكن لما له من تأثير سلبي على موسكو لناحية ظهورها بمظهر العاجز غير القادر على ضبط التفاهمات مع واشنطن.
وبالنسبة للجنوب، إما أن إيران تفاهمت مع الروس حيال محاولة تغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل، أو أنها تصرفت بمفردها لمحاولة إرباك الساحة الإقليمية والدولية، وفي كلتا الحالتين تعبر الخطوة عن تراجع في القدرة الروسية لمستها إيران بوضوح.
من مصلحة موسكو إظهار قوة حلفائها على الأرض خصوصا في وجه إسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة.
المقاربة الروسية تقوم على التالي: روسيا تتفهم المخاوف الإسرائيلية، فلا تمنعها من شن ضربات عسكرية، ولكن بالمقابل لا تلبي طلباتها في الجنوب السوري.
ولما كان التفوق العسكري الإسرائيلي كاسحا، عمدت روسيا إلى تعزيز القدرات العسكرية السورية، وهذا ما أعلنته صراحة "قناة حميميم المركزية" حين أكدت "أن إسقاط الطائرة الإسرائيلية ليس أمرا مفاجئا.. في الآونة الأخيرة عملت القوات الروسية على تطوير قدرة الدفاعات الجوية للقوات السورية لتصبح قادرة على استهداف الطائرات التي تخترق أجواءها".
وفي وقت سابق أعلن نائب قائد القوات الجوية والفضائية الروسية سيرجي يشيرياكوف عن توحيد نظم الدفاع الجوي من خلال دمج نظم الاستخبارات الجوية والإنذار المبكر الروسية مع نظيرتها السورية في نظام واحد.
إن محاولة تغيير قواعد الاشتباك بين إسرائيل من جهة والنظام السوري وإيران من جهة ثانية من شأنه أن يفجر الأوضاع بإدخال عنصر جديد مباشرة في الساحة السورية، وهذا أمر سيربك المخططات الأمريكية.
غير أن العقدة التي لم يحسب لها المحور الروسي حسابا كافيا، هو حجم الرد الأمريكي والإسرائيلي معا، فالهجوم الذي شنه الأمريكيون في ديرالزور تجاوز في قوته حدود الفعل الذي قامت به القوى التابعة لإيران، وكذلك الأمر في الجنوب، فالرد العسكري الإسرائيلي الهائل تجاوز حدود طائرة الدونر.
لقد استطاعت إسرائيل تدمير جزء كبير من الترسانة العسكرية السورية، بما فيها بعض الأسلحة المتطورة، لتتحول سوريا بذلك - وهذه أحد مفارقات التاريخ - إلى حلبة للقتال بعدما كانت على مدار عقود صانعة حلبات القتال خارج حدودها.
ستكتفي إيران والنظام السوري بمشاهد إسقاط الطائرة الإسرائيلية في مشهد سوريالي كاف للتمويه على الهزيمة المدوية التي ألحقت بهم خلال أيام قليلة، وستكتفي روسيا بإطلاق تصريحات نارية من جهة واستخدام آلتها العسكرية ضد فصائل المعارضة، الطرف الأضعف في المعادلة السورية من جهة ثانية.
ومع كل ذلك، فإن وصول الصراع العسكري الإقليمي - الدولي في سوريا إلى مرحلة الانسداد، قد يؤدي إلى انفجارات مفاجئة من شأنها أن تجعل الصراع أكثر عنفا عما كان خلال السنوات السابقة.
في الوقت الذي كانت فيه مفاوضات النظام ووحدات حماية الشعب الكردية تسير نحو تأمين عفرين عبر إدخال النظام رسميا بالمعركة ضد القوات التركية والجيش الحر، كانت هناك جهود مقابلة تهدف لإيجاد بديل عن تركيا يواجه تدخل النظام، دون حدوث مواجهة مقابلة بين أنقرة والأسد.
التوافق التركي الروسي، حول عملية عفرين كان واضحاً ومفتوحاً، لكن لا يبدو أنه يشمل جميع من يتواجد على الأرض ولاسيما إيران، التي قررت اعتراض هذا الاتفاق لاستبعادها منه، كما سبق وأن حدث ابان إخلاء حلب.
"قوات شعبية" المصطلح الذي أطلقه نظام الأسد، على الوافدين الجدد إلى عفرين لمواجهة تركيا، يكشف حضور إيران رسميا في المعركة، بعد أن كان عبارة عن تصريحات سياسية، مع رسائل عسكرية تزامناً مع ظهور عناصر يتبعون لها ظهروا خلال المعارك مع سلاح إيراني مضاد للدروع وللآليات.
مصادر تحدثت بشكل مقتضب عن إنجاز اتفاق يسمح لفصائل مقربة في الشمال السوري، الدخول في المعركة بالنيابة عن تركيا، وتكون في مواجهة النظام وإيران الساعين لإنهاء عملية غصن الزيتون.
تضارب مصالح الدول، وعودة استخدام البدائل لمنع المواجهة المباشرة، دفعت تركيا لإبرام اتفاق يفتح المجال أمام هيئة تحرير الشام لتدخل على خط المواجهة، مع تأمين متطلباتها وبعض الاحتياجات إضافة لما يبدو متوقعاً تغيب روسيا وسلاحها عن المعركة، فالمنطقة متفق عليها مع روسيا، ولا تغير بالاتفاقات.
الحشود التي تستجمعها الهيئة طوال الأيام الماضية، فُسرت على أنها تحضير لاقتتال جديد قد يطيح بالزنكي، ولكن يبدو أنه تحضيرٌ لإطلاق معركة جديدة بالتعاون مع فصائل مقربة من تركيا، وهو بمثابة تنفيذ لاتفاق جرى التوقيع عليه أمس، وبدت ملامحه اليوم مع عملية الراشدين التي تم الإعلان عنها، عبر وكالة الهيئة "إباء"، أنها تمت بمشاركة فصيل، وهي بادرة الأولى من نوعها، وتمهد لما هو قادم.