مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٩ فبراير ٢٠١٨
حان الوقت لـ«دايتون سوري»

من شأن وجود نوع من الاتفاق بين القوى العالمية والإقليمية أن يكون حاسماً بصورة كبيرة، للتوصل لأي حل سلمي في سوريا. وكان ينبغي لذلك أن يكون واضحاً منذ بداية الصراع.

وسواء كان العالم مروعاً، أو متعاطفاً، أو غير عابئ، شهدنا جميعاً انتفاضة الشعب المسالم ضد الديكتاتورية الشرسة. وكان عصيان السخط والغضب فوق كل اعتبار. وأيضاً، كان يجب على المجتمع الدولي ولا يزال يتوجب عليه، التعامل مع التهديدات الإرهابية الفظيعة. لكن، من الصحيح كذلك أن الصراع في سوريا كان يدور دوماً حول مخاوف القوى السنية الإقليمية في المنطقة، وصعود النفوذ الإيراني فيها، والمصالح التركية الخاصة، ومخاوف دولة إسرائيل، واستعداد روسيا لتسجيل النقاط على حساب العالم الغربي، وتردد الولايات المتحدة المزري.

ومن الغريب بدرجة كبيرة تقويض هذا البعد الإقليمي والدولي على أيدي الأمم المتحدة. إذ ركزت الوساطة الأممية بالأساس على السعي اليائس نحو الحوار، وربما بعض أشكال التفاهم بين نظام دمشق وممثلي قوى المعارضة. وفي الأثناء ذاتها، لعب الروس دوراً كبيراً ورائداً في صياغة خريطة الطريق للأمم المتحدة، وكان ذلك في مقامه الأول لأجل استخدامهم المتكرر لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وفي المقام الثاني، بسبب الاستثمارات العسكرية الخاصة بهم على الأرض. وساد وهم كبير بشأن أن الروس كانوا في موقف يسمح لهم بقيادة الحوار السوري - السوري على مسار الحل النهائي الذي يتفق مع «السلام الروسي» المنشود. وتأييد هذا الوهم بعدد من النتائج الإيجابية النسبية لعملية آستانة، مع مساعدة من تركيا وإيران، والتي بلغت ذروتها في الطريق إلى مؤتمر سوتشي.

تبخر هذا الوهم بصورة أو بأخرى مع مرور الوقت. ويظن أحدنا أن الوقت قد حان لصياغة نهج بديل، يستند إلى ضرورة العمل على النظر في إمكانات الاتساق مع مصالح القوى الإقليمية والدولية. وما من شك أن هذا المقترح يبدو أكثر صعوبة من حيث التنفيذ – وقد يقول البعض إنه أقرب إلى المحال – من أي وقت مضى. وهو لا يزال غير صالح للتنفيذ من النهج الحالي بين الأمم المتحدة وروسيا.

دَعُونا في هذا المقام، نؤكد سببين أو ثلاثة تستحق الاعتبار من الزاوية «الإقليمية - الدولية». أولاً، لن يصدق أحد بعد الآن أنه بعد 7 سنوات من الكراهية والفظائع والموت والدمار، أن إجراء حوار بين النظام والمعارضة في سوريا، من دون إطار دولي مناسب، سيسفر عن شيء مثمر. ثانياً، كانت النتيجة الصافية لكل ما حدث حتى الآن هو التقسيم الحقيقي للبلاد إلى مناطق نفوذ متعددة. ولن يمكن لأحد الادعاء بأن هذه الوصفة موثوقة ومؤكدة لإعادة الاستقرار إلى ربوع البلاد. بل على العكس من ذلك، وهذه هي النقطة الثالثة، أننا الآن على مشارف مرحلة خطرة للغاية تكون فيها القوى الإقليمية والعالمية على حافة المواجهات العسكرية المباشرة، كما شهدنا في عفرين، ودير الزور، ويوم السبت الماضي بعد اختراق طائرة إيرانية مسيَّرة (من دون طيار) الأجواء الإسرائيلية.

وإيجازاً للقول، صار الأمر أكثر وضوحاً يوماً عن يوم أن التواصل والتنسيق، ونمط من أنماط التفاهم، هي من الأمور الحاسمة للغاية إن كان الهدف هو تفادي اندلاع حرب إقليمية في المنطقة. إذ إن نزع الصراع أو خفض التصعيد أو المساعي الروسية الحميدة لم تعد كافية بعد الآن.

ولقد أشار أحدهم بالفعل إلى أن الحوار الوثيق بين القوى العالمية والإقليمية قد يكون من المناسب إجراؤه الآن. كما صنع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تماماً. إذ طرح اقتراح «مجموعة الاتصال» حول هذه «الصيغة» الجديدة. ولم يلق هذا المقترح الترحيب المنتظر، وربما ذلك بسبب أن موعده قد تأخر كثيراً؛ فلقد ترسخت بالفعل جملة من الأمور في أرض الواقع، وأصبح من المحال على فرنسا أن تتمكن من تغيير مسار العمليات الدولية الجارية (عملية جنيف، وعملية آستانة، وما سواهما). أو ربما بسبب أن المقترح لم يبلغ حد النضج السياسي بعد.

لكن، والآن، وبعد سقوط المقاتلات الروسية والإسرائيلية، والمروحيات التركية أيضاً، ومع مقتل المرتزقة أو الجنود الروس على ضفاف الفرات وفي غير ذلك من الأماكن، ومع تحطم الطائرة الإيرانية المسيّرة بالنيابة عن الدفاعات الجوية السورية، ينبغي على صناع القرار إدراك أن الوقت قد حان لالتقاط النفس العميق، ومحاولة التفكير في الأمر مرة أخرى.

قد تكون هناك خطوة على المسار الصحيح من خلال إنشاء «مجموعة مصغرة» تحت قيادة الولايات المتحدة وتتألف من فرنسا، والمملكة المتحدة، ودول إقليمية أخرى.

فلقد اجتمعت هذه الدول في باريس على المستوى الوزاري يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي. ولم تكن الغاية من هذه المجموعة المصغرة تشكيل مصدر بديل عن القيادة، ولكن مجرد المساهمة في أي عملية دولية مرتقبة. وإن تُمكّن من العثور على جسر التواصل، تحت ضغط الظروف الراهنة، بين هذه المجموعة وبين روسيا، يمكن التوصل إلى نقطة المنعطف المنشودة في الأحداث الجارية.

وإنْ تم التوصل إلى نقطة المنعطف تلك، فهناك أمران على قدر كبير من الأهمية. أولاً، غير مسموح بارتكاب أي نوع من الأخطاء على جدول الأعمال. والسؤال الأساسي المطروح حالياً يتعلق بمعرفة كيفية تجنب تحول حالة التقسيم الواقعية في سوريا إلى نزاع إقليمي أو على أقل تقدير تحولها إلى خطر إقليمي متصاعد ومستمر. ولا يعني ذلك أنه ينبغي لنظام دمشق أن يظل ثابتاً إلى الأبد من أجل الاستقرار، وأن يتم تجاهل الوصول إلى وقف ثابت للنار، بل يعني أنه يتعين معالجة الجوانب الإقليمية والجوانب المحلية للمأساة السورية معاً.

ثانياً، ينبغي للتقارب بين روسيا والولايات المتحدة والمجموعة المصغرة المذكورة، عند مرحلة من المراحل، أن يسفر عن عقد مؤتمر على غرار «دايتون» بشأن سوريا. وكان اتفاق دايتون قد وضع حد النهاية في عام 1995، للحروب المندلعة في الاتحاد اليوغوسلافي السابق، لكن هذا المؤتمر المقترح، ولجملة من الأسباب، ليس النموذج المثالي لإنهاء حالة الحرب اللانهائية في سوريا. ولكن ما يمكن الاحتفاظ به من عملية دايتون، في الوقت المناسب بالطبع، أي بعد التحضير الدقيق للأمر، هو الأسلوب: أي الاجتماع الذي يجمع كل أصحاب المصالح على مائدة واحدة والمكوث في نفس الغرفة لأطول فترة ممكنة، ما دامت الحاجة دعت إلى إبرام اتفاق. أي اتفاق سلام لسوريا ولمنطقة الشرق الأوسط بأسرها.

اقرأ المزيد
١٩ فبراير ٢٠١٨
سوريا: الحرب لم تبدأ بعد!

بعد سبع سنوات من عمر الثورة السورية ما تزال الحرب التي أعلنها نظام الأسد على الشعب مفتوحةً، ويبدو أن النظام لا يستطيع أن يحسم أي معركة وحده، فلا بدَّ من دعمٍ روسي متعدد الأشكال، ووجودٍ للميلشيات الطائفية الإيرانية وحزب الله إلى جانبه، وبذلك تنتهي أسطورة الدولة الأمنية التي رسمها آل الأسد في ذهن السوريين وتتحول إلى مهزلة.

أصبح التململ الروسي واضحاً في التعامل مع نظام الأسد، خاصة في المعارك الأخيرة، وأصبحت العمليات الروسية منفردةً إلى حدٍّ كبير، متجاوزين بها النظام وقواته، ولعل روسيا أصبحت تعتبر ما تبقى من الجيش السوري عبئاً عليها، حتى في أصغر المعارك وأكبرها، وحتى على الصعيد السياسي، فهم يتعاملون معه باستخفاف وتصغير تارةً، وتصعيد إعلامي ضدَّ المعارضة تارةً أخرى، كورقة ضغط مستمرة، ولا يفوِّتون فرصة خلف الجدران المغلقة، حتى يقولوا للسوريين والمجتمع الدولي: إنهم يسعون إلى أن يكونوا الطرف المحايد الحريص على صداقة الشعب السوري، وهم غير متمسكين بشخص الأسد، بمقدار حرصهم على الدولة السورية، وللأسف، ومع استمرار القتل، يجدون باستمرار من يصدقونهم حتى ممَّن يُحسبون على المعارضة، وقد نجدهم ممثلين أيضاً في هيئة التفاوض، لكن هل الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد كماً ونوعاً، وحجم التدمير الذي ألحقه بالبلاد، مع الدعم الروسي له، الذي يعتبر إجراما غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط سيساعد الروس في تغيير الاستراتيجيات العسكرية والسياسية للخروج من المستنقع الذي وضَعوا أنفسهم فيه، ويثبوا حقيقة أنهم يسعون للحل، لا لمزيد من الدمار؟

الثورة السورية دخلت بعدد كبير من المنعطفات والتواريخ على مدار سنواتها السبع، لدرجة أننا قد نعتقد أنه مضى دهر كامل من الزمن لكثرة الأحداث، لكننا، وبسهولة، نستطيع أن نستخلص أن الشعب السوري لن يتنازل أبداً عن ثوابت الثورة، ولن يرضخ ولن يعود إلى ما قبل عام 2011، على عكس ما يتوقعه الروس والإيرانيون. السوريون لديهم كرامة وحرية وأخلاق، يموتون كلَّ يوم ليحافظوا عليها، وقد برهنوا ذلك بشجاعة أخجلت الكثير من دول العالم التي ادَّعت صداقتنا وفق مصالحها فقط.

بالعودة إلى الجهود السياسية الأخيرة، فشلت روسيا بالضغط على نظام الأسد في جنيف، وفشلت في إقناع المعارضة السورية بطرح الحلول الجزئية لإعادة إنتاج نظام الأسد في سوتشي، وبدأت من موسكو إلى أستانة، ومنها إلى سوتشي تؤكد على أهمية الحل السياسي، حسب رؤيتها المتمثلة بإصلاحات دستورية تقود إلى انتخابات، يستطيع بشار الأسد الترشح فيها مرة ثانية تحت رقابة ووصاية الأمم المتحدة، وقالها لنا الروس صراحة: «لا يوجد رئيس يذهب بثورة»، وتشعر من كلامهم كأنهم يقولون: «إن شرَّعنا هذا لكم فهذا يعني أن قائد الكرملين في خطر». ليعودوا وليطرحوا استراتيجيات مختلفة عبر الأمم المتحدة، بعد فشلهم الكبير في إقناع حليفهم نظام الأسد والمعارضة السورية على حدٍّ سواء، ليسجل التاريخ أن نتاج المفاوضات التركية مع روسيا أبدت ثمارها، ولولا الجهود التركية لضمان مصالح المعارضة السورية لكنَّا نعيش الكارثة الأكثر مرارةً من مخرجات سوتشي، وبرعاية الأمم المتحدة، ومن يعتقد أن تركيا حول طاولة المفاوضات ضعيفة أو تلعب دور التابع الاستراتيجي فهو مخطئ.

استطاعت الفصائل العسكرية في أستانة بناءَ شراكة حقيقة مع تركيا عسكرياً وسياسياً؛ لتحقيق مصالح مشتركة وفق آلية واضحة، وبناء مستقبل نتمناه جميعاً لسوريا، على عكس باقي القوى الإقليمية الأخرى، التي أخذت دور المتفرج بانتظار التحرك الأمريكي، الذي فتح الباب على مصراعيه لتمدد روسيا في سوريا عسكرياً وسياسياً، فهؤلاء باعونا الوهم على مدار أعوام، ووقفوا في وجه انتصار الثورة بكل الإمكانيات. روسيا التي هددت وتوعدت المعارضة السورية «بحرب إبادة لم تبدأ بعد» في جلسة غير رسمية داخل الأمم المتحدة في اجتماع فيينا الأخير، واعتبرت أن تهديدها أحد أدوات الضغط على وفد هيئة التفاوض بهدف حضوره سوتشي، فشلت بذلك مجدداً رغم وجود التيار المؤيد لسوتشي من قبل بعض منصات المعارضة، وهنا يطرح السؤال: إلى أي حدٍّ وصلت روسيا حتى تطلق مثل هذه التهديدات؟ هل هي غارقة في مستنقع لدرجة أنها مستعدة لفتح حرب إبادة جماعية هي أساساً لم تنته؟

فشل مؤتمر سوتشي شكلاً، وأثبتت روسيا أنها منفصلة عن الواقع تماماً، وأصبحت استراتيجيها تحسين صورتها أمام شعوب العالم قبيل الانتخابات الرئاسية الروسية، واستحقاق كأس العالم الذي يعتبر مرحلة مفصلية في السياسة الروسية من ناحية تحسين صورتها، لكن خيبة الأمل الروسية حوّلت المؤتمر إلى فضيحة دولية، فأنقذها التدخل الأخير للمبعوث الأممي ستيفان ديمستورا، الذي أعلن أن اللجنة الدستورية المنبثقة عن المؤتمر ستكون برعاية الأمم المتحدة، وستشكل في جنيف وسط تحفظ صوري من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، التي ماتزال تعتبر نفسها الوصي التاريخي في سوريا، رغم أنها عضو في مجلس الأمن الدولي، لكن حتى الدول الخمس الدائمة العضوية ليست جميعها بالقوة والسوية نفسها رغم امتلاكها حق الفيتو.

والآن مع اقتراب جولة جديدة من مباحثات أستانة، لابدَّ من رسم الاستراتيجيات القوية لدينا كمفاوضين (فصائل عسكرية وسياسيين) والتوقف عن مهاجمة وتخوين بعضنا، على الأقل عندما نجلس مع الروس وفق مبادئنا في بيئة محايدة ونعلم جيداً أننا عندما نذهب إلى أستانة فنحن نذهب لنفاوض عدوا، ونريد تحقيق مطالبنا ولم ولن نتنازل عن أي مطلب سوري، كل ما أردناه هو وقف قتل المدنيين وإنقاذ ما تبقى من سوريا وتحقيق مطالب الثورة، ولا نريد لاستراتيجية الدب الروسي المتمثلة بـ(أضغط المدنيين واقتلهم) حتى تنقلب عليهم الحاضنة الشعبية، وتقبل بالشروط الروسية كما هي، نحن في أستانة حافظنا على ما تبقى من المناطق المحررة، وقاتلنا «داعش» حتى انتصرنا في «درع الفرات»، وما نزال مستمرين في معركتنا ضد جميع أشكال الإرهاب الانفصالي والداعشي وإرهاب الدولة، وكل ما نريده هو تحقيق طموح السوريين وحمايتهم.

بالمقابل على الروس أن يعلموا أن السوريين لن ينهزموا أبداً، فإذا كانت حربهم لم تبدأ كما قالوا لنا، فنحن أيضاً حربنا لم تبدأ بعد، لأننا لا نملك ما نخسره سوى أرواحنا، فإذا أرادوا أرواحنا فنحن مستعدين لذلك، لكن حذارِ الاقتراب من كرامتنا، فلن نتخلى عنها أبداً، وسنقاتل ونموت لأجلها، وإذا اعتبرت روسيا أن الحرب عبارة عن قتل ودمار فقط، عليها أن تعلم أن في الحرب قوانين ومبادئ أيضاً.

وأخيراً مطلوب، وبإلحاح، استعادة الثورة من الأماكن الرمادية التي أخذت إليها، وذلك بالتوجه إلى جميع السوريين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، لمساندتنا والوقوف معنا، ونبذ التخوين والفرقة ، والوقوف في وجه من يعمل على تدمير البلاد والعباد وزرع أوهام تأهيل النظام وإعادة إنتاجه، وعلينا جميعاً مواجهة منظمات التطرف والإرهاب والانفصاليين الذين يحاولون الاستيلاء على الثورة ومصادرة مستقبل سوريا.

اقرأ المزيد
١٩ فبراير ٢٠١٨
أمريكا تربك المحور الروسي في سوريا

ما تزال روسيا وإيران وسوريا يعتمدون مبدأ الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى، ولم يدركوا بحكم آليات الفهم السائدة لديهم من جهة وخبراتهم التاريخية الفاقدة للديمقراطية من جهة ثانية، أهمية التسويات الكبرى التي تقوم على مبدأ المصلحة المشتركة.
 
هكذا أقدمت روسيا بعيد فشل سوتشي إلى شن حملة عسكرية مجنونة على إدلب، وهكذا يقدم النظام السوري على تدمير الغوطة الشرقية، وهكذا أقدمت إيران على خطوتين الأولى في ديرالزور والثانية عند الحدود مع الاحتلال الاسرائيلي.
 
إن مبدأ الحرب امتداد للسياسة قد يعبر عن فائض في القوة أحيانا، لكنه يعبر عن ضعف وارتباك أحيانا أخرى، وأفعال الأطراف الثلاثة آنفة الذكر لا يمكن إدراجها ضمن فعالية القوة بقدر ما هي انعكاس لحالة التوتر والارتباك.
 
الروس في عنق الزجاجة، قدراتهم العسكرية الكبيرة لم تمنحهم قوة سياسية، بل على العكس أوقعتهم في مأزق كبير، فلا هم قادرين على وقف المعارك ولا هم قادرين على فتح باب السياسة، ومع كل سد يقابلهم يلجؤون إلى النظام وإيران، وتركيا، فتكون روسيا الكبيرة أسيرة أطراف محلية وإقليمية.
 
إيران المحكومة بسقف لا تستطيع تجاوزه في سوريا (روسيا)، وبعدو يتربص بها (الولايات المتحدة)، وبحليف لا يمنحها كل ما تريد (النظام السوري)، وجدت نفسها مضطرة إلى اجتراح أساليبها الخاصة وإن كانت ذات تكلفة باهظة على سوريا الضعيفة.
 
المكان كان خطأ لجهة ديرالزور أو لجهة الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي، والزمان أيضا كذلك، في وقت تعاني إيران من اضطرابات داخلية أحد أهم عناوينها  تكاليف التدخل في سوريا، وفي وقت تكافح أيضا للحفاظ على منجزات الاتفاق النووي مع الغرب.
 
لكن الحادثتين يصعب ربطهما مباشرة بإيران وإن بدت كذلك في الظاهر، فالجغرافيا السورية اليوم تعج بأجندات متضاربة ومتقاطعة بحيث يصعب تحديد دقة التداخلات/ التخارجات بينها، ويصعب الربط بين ساحات الصراع غير المتصلة.

من الواضح أن هجوم دير الزور وإرسال الطائرة المسيرة إلى الجنوب تم بالتوافق مع موسكو ودمشق على الأغلب، فالأهداف المرجوة من هذين الهجومين تتجاوز المصالح الإيرانية.

بالنسبة لروسيا التي تعرضت لضربات موجعة مؤخرا (هجوم حميميم، فشل سوتشي، إسقاط سوخوي 25،)، ما كان لها أن تمرر ذلك من دون توجيه ضربات غير مباشرة للولايات المتحدة بسبب عدم قدرتها على الاشتباك المباشر.

إن قراءة سريعة للتصريحات الروسية بعيد الضربة الأمريكية في ديرالزور والرد العسكري الإسرائيلي تؤكد أن الروس على علم بكل شيء قبل حدوثه، لأن تجاوز الإيرانيين لخطوط الاشتباك في ديرالزور من دون علم الروس غير ممكن لما له من تأثير سلبي على موسكو لناحية ظهورها بمظهر العاجز غير القادر على ضبط التفاهمات مع واشنطن.
 
وبالنسبة للجنوب، إما أن إيران تفاهمت مع الروس حيال محاولة تغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل، أو أنها تصرفت بمفردها لمحاولة إرباك الساحة الإقليمية والدولية، وفي كلتا الحالتين تعبر الخطوة عن تراجع في القدرة الروسية لمستها إيران بوضوح.
 
من مصلحة موسكو إظهار قوة حلفائها على الأرض خصوصا في وجه إسرائيل الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة.
 
المقاربة الروسية تقوم على التالي: روسيا تتفهم المخاوف الإسرائيلية، فلا تمنعها من شن ضربات عسكرية، ولكن بالمقابل لا تلبي طلباتها في الجنوب السوري.
 
ولما كان التفوق العسكري الإسرائيلي كاسحا، عمدت روسيا إلى تعزيز القدرات العسكرية السورية، وهذا ما أعلنته صراحة "قناة حميميم المركزية" حين أكدت "أن إسقاط الطائرة الإسرائيلية ليس أمرا مفاجئا.. في الآونة الأخيرة عملت القوات الروسية على تطوير قدرة الدفاعات الجوية للقوات السورية لتصبح قادرة على استهداف الطائرات التي تخترق أجواءها".
 
وفي وقت سابق أعلن نائب قائد القوات الجوية والفضائية الروسية سيرجي يشيرياكوف عن توحيد نظم الدفاع الجوي من خلال دمج نظم الاستخبارات الجوية والإنذار المبكر الروسية مع نظيرتها السورية في نظام واحد.
 
إن محاولة تغيير قواعد الاشتباك بين إسرائيل من جهة والنظام السوري وإيران من جهة ثانية من شأنه أن يفجر الأوضاع بإدخال عنصر جديد مباشرة في الساحة السورية، وهذا أمر سيربك المخططات الأمريكية.
 
غير أن العقدة التي لم يحسب لها المحور الروسي حسابا كافيا، هو حجم الرد الأمريكي والإسرائيلي معا، فالهجوم الذي شنه الأمريكيون في ديرالزور تجاوز في قوته حدود الفعل الذي قامت به القوى التابعة لإيران، وكذلك الأمر في الجنوب، فالرد العسكري الإسرائيلي الهائل تجاوز حدود طائرة الدونر.
 
لقد استطاعت إسرائيل تدمير جزء كبير من الترسانة العسكرية السورية، بما فيها بعض الأسلحة المتطورة، لتتحول سوريا بذلك - وهذه أحد مفارقات التاريخ - إلى حلبة للقتال بعدما كانت على مدار عقود صانعة حلبات القتال خارج حدودها.
 
ستكتفي إيران والنظام السوري بمشاهد إسقاط الطائرة الإسرائيلية في مشهد سوريالي كاف للتمويه على الهزيمة المدوية التي ألحقت بهم خلال أيام قليلة، وستكتفي روسيا بإطلاق تصريحات نارية من جهة واستخدام آلتها العسكرية ضد فصائل المعارضة، الطرف الأضعف في المعادلة السورية من جهة ثانية.
 
ومع كل ذلك، فإن وصول الصراع العسكري الإقليمي - الدولي في سوريا إلى مرحلة الانسداد، قد يؤدي إلى انفجارات مفاجئة من شأنها أن تجعل الصراع أكثر عنفا عما كان خلال السنوات السابقة.

اقرأ المزيد
١٩ فبراير ٢٠١٨
هيئة تحرير الشام وفصائل أخرى بديل تركيا لمواجهة تمدد النظام وايران في عفرين

 

في الوقت الذي كانت فيه مفاوضات النظام ووحدات حماية الشعب الكردية تسير نحو تأمين عفرين عبر إدخال النظام رسميا بالمعركة ضد القوات التركية والجيش الحر، كانت هناك جهود مقابلة تهدف لإيجاد بديل عن تركيا يواجه تدخل النظام، دون حدوث مواجهة مقابلة بين أنقرة والأسد.

التوافق التركي الروسي، حول عملية عفرين كان واضحاً ومفتوحاً، لكن لا يبدو أنه يشمل جميع من يتواجد على الأرض ولاسيما إيران، التي قررت اعتراض هذا الاتفاق لاستبعادها منه، كما سبق وأن حدث ابان إخلاء حلب.

"قوات شعبية" المصطلح الذي أطلقه نظام الأسد، على الوافدين الجدد إلى عفرين لمواجهة تركيا، يكشف حضور إيران رسميا في المعركة، بعد أن كان عبارة عن تصريحات سياسية، مع رسائل عسكرية تزامناً مع ظهور عناصر يتبعون لها ظهروا خلال المعارك مع سلاح إيراني مضاد للدروع وللآليات.

مصادر تحدثت بشكل مقتضب عن إنجاز اتفاق يسمح لفصائل مقربة في الشمال السوري، الدخول في المعركة بالنيابة عن تركيا، وتكون في مواجهة النظام وإيران الساعين لإنهاء عملية غصن الزيتون.

تضارب مصالح الدول، وعودة استخدام البدائل لمنع المواجهة المباشرة، دفعت تركيا لإبرام اتفاق يفتح المجال أمام هيئة تحرير الشام لتدخل على خط المواجهة، مع تأمين متطلباتها وبعض الاحتياجات إضافة لما يبدو متوقعاً تغيب روسيا وسلاحها عن المعركة، فالمنطقة متفق عليها مع روسيا، ولا تغير بالاتفاقات.

الحشود التي تستجمعها الهيئة طوال الأيام الماضية، فُسرت على أنها تحضير لاقتتال جديد قد يطيح بالزنكي، ولكن يبدو أنه تحضيرٌ لإطلاق معركة جديدة بالتعاون مع فصائل مقربة من تركيا، وهو بمثابة تنفيذ لاتفاق جرى التوقيع عليه أمس، وبدت ملامحه اليوم مع عملية الراشدين التي تم الإعلان عنها، عبر وكالة الهيئة "إباء"، أنها تمت بمشاركة فصيل، وهي بادرة الأولى من نوعها، وتمهد لما هو قادم.

 

اقرأ المزيد
١٨ فبراير ٢٠١٨
موسكو بين اختيارَين: طهران أم تل أبيب؟

لم يكن التحرّش الإيراني من طريق طائرة «درون» بلا طيار انطلقت من الأراضي السورية نحو شمال إسرائيل، إلا صرخة المكتوم في ضوضاء تعالي الأصوات الدولية، صاحبة النفاذ والرجاحة السياسية والعسكرية على الأرض السورية، وفي مقدمها روسيا. وقد جاء الرد الإسرائيلي سريعاً من خلال 12 غارة نفذها الطيران على مواقع عسكرية بالقرب من دمشق انتهت بسقوط طائرةً F16 المتطورة لتل أبيب.

حتى اليوم، لم تتضح الصورة في شكل كامل، وبالتفاصيل المطلوبة، لكيفية سقوط هذه الطائرة، ولو أن بعض التقارير تناقل نبأ إسقاطها بصاروخ سام 5 الذي خضع للتطوير الروسي منذ تسلّمته سورية قبل عقود. غير أن المغزى من هذا الاستعراض «الحربجي» على الطرفين الإسرائيلي والسوري، وفي هذا التوقيت بالذات، هو حمّال وجوه واعتبارات.

فإيران التي وجدت أنها دُفعت من الحدود السورية مع الجولان المحتل نحو محيط دمشق، إثر الاتفاق الذي تم بين عمان وموسكو وواشنطن في المنطقة المنخفضة التوتر هناك، وهي المنطقة الوحيدة من مجمل المناطق المنخفضة التوتر التي حافظت على وقف إطلاق النار فيها بضغط أميركي لافت، لم ترض بالمطلق عن خسارتها لتلك المواقع المتقدمة مع إسرائيل، والتي ستضمن لها مناورة أوسع على طاولة المفاوضات بين الدول الضامنة من جهة، وأميركا الرابضة للحظة قنص كل مراميها في سورية دفعة واحدة وبلا تردد. ولم ترَ طهران ضمن هذه الشروط الجديدة لتغيّر الأوزان والمعطيات للدول الأربع ذات المنفعة المباشرة في سورية، إلا أن ترسل طائرة الدرون تلك لتقول: أنا هنا!

ومن المضحك والمبكي في آن، أن السفير الإيراني في دمشق ظهر على شاشة التلفزيون الرسمي السوري إثر سقوط الطائرة الإسرائيلية ليبارك العملية ويهنئ الشعب السوري بهذا الانتصار الجوي على إسرائيل، بينما لم يظهر وزير الدفاع السوري أو رئيس أركانه على أقل تقدير للإعلان عن التصدي للاعتداء الإسرائيلي على الأجواء السورية.

طبعاً، لم يفت على المسؤولين في النظام السوري ومعسكره الإعلامي توظيف سقوط الطائرة لمصلحة إعادة تداول الشعارات الممجوجة التي كرسها الأسد الأب، ومن بعده الابن، من أن هذه العائلة هي وحدها القادرة على حماية الأرض والسيادة الوطنية من أطماع تل أبيب، ولو أن هذا التسويق الإعلامي للأسد جاء مغلفاً بغموض العملية وتأرنُب (من أرنب) الجيش النظامي أمام العديد والعتاد الروسي والإيراني، اللذين استقرا على أرضه لا للدفاع عن النظام وحسب، بل عن خارطة نفوذ الدول المعنية التي ملعبها الأرض السورية. وحين يقترب الجميع من تقاسم مواقع النفوذ في سورية، سيرتفع معدل التوتر الميداني والتفاوضي بدرجة موازية لطموح اقتسام الكعكة السورية ولحجم المصالح الدولية الطويلة الأمد. فإيران ذات المطامع العقائدية تريد أن تسترد ما استثمرته في الإبقاء على بشار الأسد ونظامه، ليشكّل وتداً آخر يضاف إلى أوتاد غرستها في لبنان واليمن والعراق، لرفع خيمة مشروعها الطائفي التوسعي العابر للحدود. وإيران المستشرية في النسيج السوري بأذرع ميليشياتها الأخطبوطية، تريد أن تعزز من موقعها في ملف الاتفاق النووي الذي تعد الولايات المتحدة العدة لقلب طاولته على رؤوس متشددي طهران وملاليها، لتفوّت بذلك الفرصة على واشنطن من خلال ليّ ذراعها حيث الوجع العميق: أمن إسرائيل. إلا أن وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسن، الذي يقوم بجولة هذا الأسبوع لدول في المنطقة ستشمل مصر والأردن ولبنان والكويت وتركيا، لم يضف إلى برنامج زياراته محطة تل أبيب إثر هذا التصعيد الأخير، الأمر الذي دعا مدير عام المخابرات الإسرائيلية، تشاغي تزورييل، إلى حض الولايات المتحدة على ضرورة مقاربتها للرؤية الإسرائيلية لنوايا إيران في سورية، واصفاً إيران بأنها «سيدة لعبة الانزلاق نحو المنحدرات».

أما روسيا، التي وضعت يدها في يد إيران لدعم النظام السوري من أجل الاستمرار في السلطة، فما فتئت تتوجس من النفوذ الميليشياوي الإيراني على رغم أنها تسيطر على الأجواء السوريّة تماماً. وروسيا التي تواصلت في شكل وثيق ومتصل مع إسرائيل، هي من مهّد الأجواء (غضّت الطرف في أضعف الإيمان) لدخول الطيران الإسرائيلي وضربه مواقع عسكرية حساسة للنظام ولطهران قرب دمشق، إثر سقوط المقاتلة الإسرائيلية. وعلى رغم أنه لم تُحسم حتى اليوم كيفية سقوط الطائرة الإسرائيلية F16، هل بفعل عطل تقني في تشغيلها أم بالدفاعات الجوية السورية المختلطة الهوية، إلا أن فصل المقال يكمن في الاتجاه الذي ستأخذه موسكو بعد هذا الحدث المنعطف، إذ لن يمكنها بعد اليوم أن تستمر في سيرها البهلواني على حبليّ إسرائيل وإيران معاً، وعليها أن تحسم أمرها على أي جانبيها ستميل.

اقرأ المزيد
١٨ فبراير ٢٠١٨
طائرة كل نصف قرن

أخيرا، شرب ما يسمى "الجيش العربي السوري"، وهو ليس جيشا أو عربيا أو سوريا، حليب السباع، وتصدّى بعد قرابة نصف قرن لطائرات إسرائيل التي أغارت آلاف المرات على سورية، بما في ذلك بيت بشار الأسد، ورشق حزمة صواريخ عليها بأسلوب "يا ربي تجي في عينه"، فأصاب بالخطأ واحدة منها، كانت تضرب مواقع لقوات الاحتلال الإيراني. عندئذٍ، قرّر جنرالات إيران و"استراتيجيون" عرب، أطلوا علينا من تلفزيونات تحولت فجأة إلى ما يشبه تلفاز "المنار" الإيراني في بيروت، أن قواعد اللعبة بين النظام المقاوم وإسرائيل قد تغيرت، وتناسوا أن طائراتها هاجمت أربعة عشر موقعا لجيش العدوان الأسدي على السوريين، وأن إسقاط الطائرة حدث بالخطأ، ولو أن قواعد الاشتباك تبدلت، لكانت قواعد الصواريخ التي دمرتها الغارات قد أطلقت بعض قذائفها، ولما تم تدميرها بالكامل بين دمشق ودرعا، وإخراج مطارات التيفور والمزة وخلخلة من الخدمة، وإحراق معسكراتٍ لـ"حرس الطائفية الجمهوري". اعتبر هؤلاء إسقاط طائرة إسرائيلية خلال قرابة نصف قرن "انتصارا للمقاومة"، بدّل موازين القوى بين نظام سلمه حافظ الأسد عام 1967 محافظة سورية اسمها الجولان، ثم سامحه بها في مقابل تسليمه السلطة، شريطة أن يحكم سورية بلدا محتلا. وهكذا كان، فحكمها مثل مندوب سام صهيوني في رئاسة الجمهورية، وفعل الأفاعيل بالسوريين، قبل أن يقبض الله روحه ويتولى ابنه الحكم، ويكمل مهمة أبيه في القضاء على "شعب الإرهابيين السوري".

ما الذي تغير حقا بإسقاط الطائرة الإسرائيلية، إذا كانت طائرات إسرائيل دمرت ما أرادت تدميره لنظام "المقاومة"، بعيد سقوط الطائرة بساعات؟ وهل يعتقد "الاستراتيجيون" أن العدو الإسرائيلي لا يضع في حسبانه خسارة طائرة كل نصف قرن؟ لو كان يفعل ذلك، لما اعترف بسقوط طائرةٍ وقعت في فلسطين المحتلة، ولأسقط في يد المحللين الاستراتيجيين الذين قفزوا عن حقائق الصراع المذلة، ولما طبّلوا لجيش النظام الجبان الذي كان يقصف الغوطة بالطيران، بينما كانت طائرات إسرائيل تهاجمه، ولرفضوا التحدّث بلغة جنرالات طهران الذين أحرقوا إسرائيل عشرات المرات خلال الأعوام الماضية، من دون أن يرموها ولو بحصاة، ولغة مندوبهم السامي في لبنان، حسن نصر الله الذي حرّر فلسطين آلاف المرات (!).

تكمن قواعد اللعبة في قيام إسرائيل بالضرب حيثما أرادت، وكلما حلا لها أن تضرب، وبعدم الرد عليها، بحجة أن الزمان والمكان لم يكونا مناسبين للرد خلال نصف القرن المنصرم. أمس، أطلقت صواريخ أصابت طائرة، أعقبتها غارات بالعشرات لم يتم خلالها إطلاق صاروخ واحد، فأين هو تبدل "قواعد الاشتباك"؟ لم يكف الصهاينة عن الهجوم، ولم يجرؤ النظام على الدفاع، أليست هذه هي القواعد التي التزم بها بعد إسقاط طائرة إسرائيل بالخطأ، على الرغم من أن الغارات التي تلته استهدفت قواعد الصواريخ التي أصابتها ودمرتها؟

بقصر كلامهم على حدث جزئي هو إسقاط الطائرة، تبنّى الخبراء نظرة إيران، وتجاهلوا حقائق الصراع العسكري، والمضامين السياسية لما جرى، ولماذا صعّدت إيران موقفها العسكري، وهاجمت خلال أيام قوات يدعمها عسكر واشنطن قرب دير الزور، وأرسلت طائرةً مسلحةً بلا طيار إلى إسرائيل، وما هي علاقة محاولات جس النبض هذه، فيما يقال عن تبدل الأدوار الدولية، وليس "قواعد الاشتباك"، في سورية، بعد فشل مؤتمر سوتشي وإعلان واشنطن نهاية سياسة الانكفاء في العراق وسورية.

من المفهوم أن "يفوش" جنرالات طهران بعد إسقاط طائرة إسرائيلية، أما أن يغرق "خبراؤنا الاستراتيجيون" في شبر ماء فهذا ما ليس مفهوما أو مقبولا.

اقرأ المزيد
١٨ فبراير ٢٠١٨
لا تراهنوا على صراع إيراني إسرائيلي!

ظن البعض مؤخراً أن الحرب ين إيران وإسرائيل قد تندلع بين لحظة وأخرى بعد أن ادعت إسرائيل أنها أسقطت طائرة استطلاع إيرانية داخل الأجواء الإسرائيلية كانت قادمة من قاعدة إيرانية في سوريا. ومما زاد في تأزم الوضع بين طهران وتل أبيب أن النظام السوري أسقط طائرة إسرائيلية في اليوم نفسه لأول مرة منذ واحد وثلاثين عاماً. هذه الأجواء المحمومة جعلت الكثيرين يتوقعون أن تشتعل الحرب بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى. لكن السياسة علمتنا أن لا نأخذ أبداً بظاهر الأمور مهما كانت مشتعلة إعلامياً، فالحقيقة لا تجدها في وسائل الإعلام ولا في التصريحات السياسية النارية، بل تجدها على أرض الواقع. وقد أخبرنا الفلاسفة الإغريق أن لا نركز على ما يقوله الساسة، بل على ما يفعلونه على الأرض. ولو نظرنا إلى ما فعلته إسرائيل وإيران على الأرض نجد أن الطرفين حلف واحد يتقاسم العالم العربي بالمسطرة والقلم.

قالها لي باحث سوري كبير يعيش في أمريكا منذ الأيام الأولى للثورة السورية. وهو مؤيد للنظام بطريقة ذكية قال: «لا تتفاجأوا بالتغلغل الإيراني المتزايد في المنطقة عموماً وسوريا خصوصاً: فهناك اتفاق بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى يسمح لإيران بالتمدد واستعداء العرب للتخفيف من العداء العربي لاسرائيل. بعبارة أخرى هناك اتفاق بين اسرائيل وإيران على تقاسم العداء مع العرب، فبدلاً من أن تظل إسرائيل البعبع والعدو الوحيد للعرب في المنطقة تتقاسم العداء مع إيران بحيث يخف الضغط على إسرائيل. ولو نظرنا الآن لوجدنا ثمرات هذا الاتفاق على الارض.

ألم يصبح غالبية العرب ينظرون إلى إيران على أنها أخطر عليهم من اسرائيل؟ وبالتالي، فإن كل العداء هذا الظاهر بين الصفيوني والصهيوني مجرد ضحك على الذقون. أما الخوف الإسرائيلي من الوجود الإيراني في سوريا ولبنان فقد أصبح نكتة سمجة لم تعد تنطلي على تلاميذ المدارس.

تعالوا نشاهد كيف سهّلت أمريكا وإسرائيل لإيران الخمينية أن تتمدد حتى تصل إلى حدود إسرائيل. ألم يرفع الإمام الخميني عند وصوله إلى السلطة في إيران في نهاية سبعينيات القرن الماضي قادماً من بلاد الغرب «اللعين»، شعار محاربة الشيطان الأكبر، ألا وهي أمريكا وكل الجهات المتحالفة معها في الشرق الأوسط؟ ألم تكن إسرائيل على رأس قائمة الجهات التي استهدفتها القيادة الإيرانية الجديدة التي استلمت مقاليد الحكم بعد الثورة؟ ألم نسمع وقتها كيف بدأ الإيرانيون الجدد يرفعون شعار تحرير القدس وإغراق الصهاينة بالماء؟

ألم تنتبه إسرائيل وأمريكا لكل تلك التهديدات الإيرانية الصارخة؟ لماذا لم تتخذ واشنطن وتل أبيب كل الاحتياطات، وترصد كل التحركات الإيرانية الجديدة لحظة بلحظة خوفاً من حملة الثأر الإيرانية الرهيبة التي أطلقها الخميني ضد الشيطان الأكبر وربيبته إسرائيل؟ على العكس من ذلك نجد أن التغلغل الإيراني في المنطقة بعد سنوات قلائل على الثورة الإيرانية، فقد وصلت إيران فوراً إلى الحدود الإسرائيلية بلمح البصر بعد تهديداتها النارية للإمبريالية والصهيونية. وفي بداية الثمانينيات، وبعد ثلاث سنوات أو أقل، ظهر فجأة إلى الوجود «حزب الله اللبناني» كأول طليعة وذراع عسكري لإيران في المنطقة. ولو ظهر ذلك الحزب مثلاً في بلد عربي بعيد عن إسرائيل، لبلعنا القصة. لكن الذي حصل أن إيران أسست حزب الله على الحدود مباشرة مع ما تسميه وسائل الإعلام الإيرانية «الكيان الصهيوني» بعد أن قضت بالتعاون مع النظام السوري على كل الفصائل اللبنانية والفلسطينية والوطنية واليسارية والإسلامية وغيرها في لبنان التي كانت تخوض حرب العصابات ضد إسرائيل.

فجأة ظهر حزب الله ليرفع شعار تحرير القدس من على الحدود مع إسرائيل مباشرة، وليس من طهران.

والسؤال هنا بعد تولي الخميني مقاليد الحكم في إيران ورفعه شعارات تقطر عداء لإسرائيل وأمريكا: كيف سمحت إسرائيل وأمريكا لذراع عسكري إيراني ضارب أن ينشأ على حدود إسرائيل مباشرة مع لبنان بعد فترة قصيرة جداً من وصول الخميني إلى السلطة، وبالتالي أن يهدد «الصهاينة» من على مرمى حجر؟

بعض الساخرين يتهكم قائلاً: يبدو أن أمريكا وإسرائيل اللتين تراقب أقمارهما الاصطناعية دبيب النمل في المنطقة، كانتا نائمتين في تلك اللحظات التي ظهر فيها حزب الله على الحدود مع إسرائيل أو كانت الكهرباء مقطوعة في إسرائيل، فنشأ الحزب ونما، ودجج نفسه بالسلاح الإيراني والسوري بلمح البصر، وعندما استفاقت أمريكا وإسرائيل وجدتا أن هناك قوة عسكرية إيرانية ضاربة على الحدود الإسرائيلية، فأسقط في أيديهما، وندمتا على الساعة التي أخذتا فيها غفوة، فاستغلتها إيران في إنضاج حزب الله، وجعله سيفاً مسلطاً على رقبة إسرائيل بين ليلة وضحاها.

وبما أن النظام الإيراني الجديد رفع منذ بداية الثورة شعار القضاء على الصهيونية، فكيف سمحت له إسرائيل وأمريكا أن يتغلغل في سوريا جارة «الصهيونية» المباشرة بهذا الشكل الرهيب، بحيث أصبحت سوريا على مدى عقود بعد الثورة الإيرانية (عدوة الامبريالية والصهيونية)، أصبحت مربط خيل إيران في المنطقة؟ يبدو أيضاً أن الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية أثناء التغلغل الإيراني في سوريا والهيمنة عليها كانت نائمة، ربما بسبب التعب، أو بعد تناول وجبة ثقيلة من الأسماك، فاستغلت إيران الغفوة أيضاً، ووصلت إلى حدود «الكيان الصهيوني» لتهدده مباشرة. وها هو الحرس الثوري الإيراني الذي يريد أن يدمر الصهاينة يصول ويجول الآن في سوريا حتى وصل إلى تخوم الجولان، وإسرائيل «المسكينة» غافلة عنه. يا سلام! يا حرام!

لو كانت اسرائيل تخشى من إيران وميليشياتها الطائفية في سوريا، لما سمحت هي وأمريكا لتلك الميليشيات بدخول سوريا أصلاً، ومن سلم العراق لإيران على طبق من ذهب، لا يمكن أن يعرقل التغلغل الفارسي في سوريا، ومن يخشى من حزب الله في لبنان، لا يمكن أن يسمح لإيران بإنشاء ألف حزب الله في سوريا.

اقرأ المزيد
١٨ فبراير ٢٠١٨
"فصائل الغوطة" احذروا مكر عدوكم وخذوا من عملية "سكة الحديد" عبرة ودرساً

يتشابه المشهد بشكل واضح لما يجري من تهديد ووعيد للغوطة الشرقية مع بدء تحرك القوات العسكرية ونقل الطائرات المروحية، لما حصل في ريفي حماة وإدلب الشرقيين "شرقي سكة الحديد" قبل أكثر من شهر ونصف، مع بدء التجهيزات العسكرية والتهديد والوعيد لميليشيات النظام قبيل انتهاء عملياتها في دير الزور، وتحديد وجهتها لريفي حماة وإدلب، ثم بدء انتقال القوات العسكرية والطائرات الحربية والمروحية، قبل بدء الحملة في 25 كانون الأول 2017.

إن المعطيات الراهنة على الأرض تشير لنية قوات النظام وروسيا شن عملية عسكرية واسعة النطاق في الغوطة الشرقية، فالتعزيزات العسكرية للميليشيات التي بدأت بالتحرك قبل أيام من ريف حماة وإدلب، واليوم الأوامر لمطار حماة العسكري ومدرسة المجنزرات لنقل الطائرات المروحية والحربية باتجاه مطار الضمير العسكري تؤكد التوقعات، يتزامن ذلك مع تجييش إعلامي كبير للحسم العسكري في الغوطة الشرقية بعد انتهاء العمليات في أرياف "إدلب وحماة وحلب".

ومن المؤكد أن فصائل الغوطة الشرقية تملك مقومات عسكرية كبيرة للصمود في وجه أعتى حملة عسكرية وهي من كسرت شوكة الفرقة الرابعة وقوات النخبة في جوبر وعين ترما وحرستا وقادرة على صد ومواجهة أي حملة في حال أدركت الخطر القادم قريباً، وإلا فإنها ستشرب من ذات الكأس الذي شربت منه فصائل الشمال والتي انصاعت لما خطط ودبر لما هو شرقي سكة الحديد واكتفت بعمليات مسكنة لم تعط أي أثر وشاهدنا النتيجة رغم كل التحذيرات التي أطلقناها قبل الحملة والأن لم يعد ينفع الكلام.

فصائل وشعب الغوطة الشرقية صمدوا في وجه أعتى حملات القصف والحملات العسكرية رغم الحصار لإيمانهم بالتمسك بأرضهم وحقهم فيها، تكاتف الجهود العسكرية اليوم والتي تتطلب الإسراع في تشكل غرفة عمليات للجميع وتكاتف الفعاليات المدنية والإعلامية معاً هو المنجي فقط بعد التوكل على الله ... وكل ما هو غير ذلك من تصريحات وبيانات ومناشدات إعلامية لن تغن ولن تنفع فالحل والقرار بيدكم وحدكم ولتعملوا أن الجميع تخلى عنكم وأنتم من تحددون مصيركم في البقاء والصمود أو الخروج من غوطتكم مهزومين بتهجير قسري جديد يرسم لكم "فاحذروا مكر عدوكم"

اقرأ المزيد
١٧ فبراير ٢٠١٨
«الحرب أولها كلام» وأيضاً اشتباكات المقاتلات الحربية!

عندما تشهد سوريا إسقاط أربع طائرات؛ إحداها «سوخوي 5» روسية، والثانية «F16» أميركية، وطائرتين تركيتين أميركيتي الصنع... إضافة إلى خامسة إيرانية من دون طيار، وخلال فترة قصيرة، فإن هذا يعني أن الصراع في هذا البلد بدأ يأخذ الطابع الدولي، وأن الدول الإقليمية؛ إسرائيل وإيران وتركيا، التي انخرطت في هذا الصراع مبكراً، هي مجرد واجهات وأدوات محلية لمواجهة كونية بين الروس والأميركيين من الواضح أنها ستأخذ منحى تصاعدياً، وأنها ستجذب إلى هذه المنطقة دولاً كبرى كالصين وفرنسا وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.

ولعل ما بات معروفاً ومؤكداً أن مصادر الطاقة في شواطئ البحر الأبيض المتوسط، القريبة والبعيدة، هي التي حولت سوريا، نتيجة حماقة من يحكمونها الذين لم يعرفوا كيف يتعاملون مع شعبهم بعد حادثة درعا المعروفة في مارس (آذار) عام 2011، إلى ساحة صراع دولي كما هو عليه الوضع الآن، وهو صراع من المتوقع أن يأخذ بعد كل هذا التصعيد المتعاظم أبعاداً خطيرة، وأن يشمل، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا، دولاً عربية وبعض الدول المتوسطية الأخرى كقبرص التي فيها قواعد أميركية وبريطانية، واليونان التي لديها مشكلات جديدة قديمة مع جارتها تركيا.

عندما تحولت حادثة درعا آنفة الذكر إلى حروب ومواجهات متنقلة في كل الأراضي السورية، وعندما استقطبت هذه المواجهات مع الوقت تدخلاً إقليمياً عنوانه الرئيسي إيران وتركيا، وتدخلاً دولياً عنوانه في البدايات روسيا الاتحادية التي التحقت بها الولايات المتحدة، وشاركت فيه كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وإنْ بطرق وأساليب محدودة وغير مباشرة، فإن المفترض أن يدرك المعنيون بهذا الصراع، وفي مقدمتهم العرب بصورة عامة، أن الأمور قد تجاوزتهم كثيراً، وأنه أمر طبيعي أن تفشل كل وساطاتهم وتذهب أدراج الرياح، وأن هذه العقدة التي كانت هناك إمكانية لحلها بالأصابع، قد أصبحت عصية على أي حلٍّ إقليمي حتى بالأسنان والأظافر، وحتى مع الاستنجاد بالوجدان العربي وبالأخوة العربية.

والمشكلة أن هذا النظام «الأخرق»، الذي على رأسه بشار الأسد، لم يتردد في أن يستعين بالخارج؛ ليس بالإيرانيين فقط؛ بل بالروس أيضاً، مما استقطب تدخلاً أميركياً تحت عنوان «داعش» تحول مع الوقت بعد انتقال السلطة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين إلى سياسة «استراتيجية» دافعها اعتبار الشرق الأوسط مجالاً حيوياً أميركياً منذ حرب السويس في عام 1956 وحتى الآن، واعتبار البحر الأبيض المتوسط، بما فيه من مصادر طاقة، بحيرة أميركية غير مسموح للروس بالسباحة الحرة فيها، حتى وإن أصبحت سوريا كلها قاعدة عسكرية لهم وليس قاعدتا «حميميم» و«طرطوس» فقط.

والغريب هنا أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي دفعه الخوف من حزب العمال الكردستاني - التركي؛ الـ«p.k.k» إلى الارتماء الكيفي في أحضان الروس وإلى التحالف مع إيران، التي هي الأخطر عليه وعلى بلده من أي دولة أخرى، لم يدرك أن سوريا أصبحت ساحة مفتوحة لصراع دولي، وأن عليه؛ حتى تكون لبلده في مصادر الطاقة «المتوسطية» حصة إنْ ليست مجزية فمعقولة، ألا يضع كل بيضه في السلة الروسية، وألا يسلّم رقبة تركيا للإيرانيين، وأن يدرك أن الأميركيين في عهد الإدارة الحالية التي تضم معظم «صقور» أميركا عائدة إلى الشرق الأوسط بكل قوة.

إن هذه هي الحقيقة، وإن هذا هو واقع الحال، ولذلك فقد تحولت أزمة سوريا من أزمة إقليمية إلى أزمة دولية باتت تستقطب؛ ليست حرباً باردة جديدة فقط؛ وإنما حرباً ساخنة أيضاً عنوانها، بالإضافة إلى مصادر الطاقة في «المتوسط»، العودة إلى الشرق الأوسط بكل قوة ووضع حدٍّ فعلي للتمدد الإيراني في هذه المنطقة والحفاظ على أمن إسرائيل التي لا يهدد أمنها «فعلياً» أحد، والتي هي من يهدد أمن إنْ ليس كل؛ فمعظم الدول العربية القريبة والمجاورة وأيضاً البعيدة. وعليه؛ فإن كل وساطات حلّ الأزمة السورية عربياً قد فشلت، لأن هذه الأزمة سرعان ما تحولت أولاً إلى أزمة إقليمية، وثانياً إلى أزمة دولية، فتدخل إيران العسكري والميليشياوي - المذهبي في سوريا الذي اتخذ طابع الاحتلال المباشر قد أحبط كل محاولات حل هذه الأزمة في الإطار القومي - العربي، وهذا ينطبق على التدخل التركي الذي اتخذ مع الوقت طابعاً احتلالياً مثله مثل التدخل الإيراني، وهكذا وبعد دخول الروس في سبتمبر (أيلول) عام 2015 على خط هذه المشكلة وأصبحت الحرب التي يشنها نظام بشار الأسد ومعه الإيرانيون حربهم، وحيث أصبحت لهم قواعد عسكرية على شواطئ «المتوسط»، تحولت من مشكلة إقليمية إلى مشكلة دولية، وتحول الصراع في هذا البلد العربي من صراع إقليمي إلى صراع دولي، مما جعل مشروعات الحلول السابقة كلها من دون أي أفق؛ لا بل ملغاة، وجعل ما حصل صبيحة السبت الماضي بين الإسرائيليين والإيرانيين بداية مرحلة جديدة قد تأخذ هذه المنطقة كلها إلى صدام دولي على غرار ما حصل بين أميركا والاتحاد السوفياتي بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) في عام 1956. ولذلك، وبناء على هذا كله؛ فإن ما غدا واضحاً أن الأزمة السورية لم تعد أزمة داخلية بين النظام والمعارضة، وأيضاً لم تعد أزمة إقليمية بين الإيرانيين والإسرائيليين ولا بين تركيا والأكراد ممثلين أولاً بحزب العمال الكردستاني - التركي (p.k.k) وثانياً بما يسمى «سوريا الديمقراطية»... لقد أصبحت هذه الأزمة بعد هذا الصدام الأخير أزمة دولية بين الأميركيين والروس، وحيث سينضم الإسرائيليون إلى أميركا، وسينضم الإيرانيون إلى روسيا، فإن هذه المنطقة كلها ستدفع الثمن غالياً، وستدفع ثمنه سوريا تمزقاً قد يحولها من دولة واحدة ذات سيادة إلى عدد من الدويلات المذهبية والعرقية المتناحرة.

وهنا تبدو الإشارة ضرورية إلى أن إسرائيل كانت قد تبنت، من دون إعلان، خطة لتمزيق هذه المنطقة العربية، عرقياً وطائفياً، وتحويلها إلى دويلات متناحرة بالإمكان أن يتشكل منها؛ إنْ ليس كلها فمن بعضها، «كومنولث» طائفي وعرقي يكون لها، أي للدولة الإسرائيلية، فيه مكانة بريطانيا العظمى في الكومنولث البريطاني الذي كان لعب دوراً سياسياً مهماً في القرن الماضي، لكن دوره أصبح شكلياً وكذلك وجوده.

«الحرب أولها كلام»، لكن في سوريا بدأت الحرب بالمدافع والقنابل والصواريخ وبالأسلحة الكيماوية، وكل هذا بينما الغرب بقي متفرجاً وبقيت الإدارة الأميركية متقاعسة، وذلك في حين أن الروس اتبعوا ومنذ البدايات سياسة اقتحامية أبقت على نظام الأسد حتى الآن، وفتحت الأبواب السورية أمام كل هذا التمدد العسكري الإيراني، وأمام غزو طائفي ومذهبي غير مسبوق منذ الحقبة الصفوية المظلمة وحتى الآن. والمشكلة هنا أن مجلس الأمن الدولي بقي عاجزاً ومشلولاً، وأن الدول الغربية كلها قد بدت كأنها متواطئة مع روسيا الاتحادية وأيضاً مع إيران الخمينية والخامنئية.

الآن، كما يبدو، هناك صحوة أميركية وهناك تصدٍّ متصاعد للروس والإيرانيين، وهناك اهتمام مستجد بالشرق الأوسط وبمصادر الطاقة في البحر الأبيض المتوسط وشواطئه. وهكذا؛ فإن الحرب هذه المرة ليس أولها كلام فقط، وإنما إسقاط طائرات مقاتلة روسية وإسرائيلية وتركية وتحشيد متبادل في هذه المنطقة وفي اتجاهها، وهذا يدل، وبكل وضوح، على أن القادم سيكون أعظم... والله يستر!!

اقرأ المزيد
١٧ فبراير ٢٠١٨
إيران في سورية: الأمر لي

أعلنت إيران، ومعها حزب الله، بعد إسقاط الطائرة الإسرائيلية أميركية الصنع "أف -16" السبت الماضي، بكثير من الثقة والزهو بالنفس أن "قواعد اللعبة تغيرت" في المنطقة، وأن "ما كان قائما قبل الطائرة لم يعد قائما بعدها"، بحسب ما جاء على لسان الشيخ نبيل قاووق، أحد القياديين التعبويين في حزب الله. ولكن ما هي تلك "القواعد التي تغيرت" وأين كانت سائدة؟ المفترض في سورية ومحيطها، طالما أن الطائرة الإسرائيلية أصيبت فوق الأجواء السورية، وسقطت داخل الأراضي الفلسطينية. وما الذي كان سائدا؟ ثورة السوريين الذين انتفضوا قبل سبع سنوات ضد نظام مستبد كان يتحكم برقابهم منذ أكثر من أربعين سنة، وانحياز السلطة في إيران إلى جانب النظام وضد الشعب السوري، وكذلك فعل حزب الله بطبيعة الحال. ومع ذلك، لم يتمكن ثلاثي "محور الممانعة" من قهر إرادة السوريين، وإبقاء بشار الأسد واقفا على رجليه. فاضطروا للاستعانة بالحليف الروسي الذي كان يحاول استعادة دور دولي ما يعيد إليه أمجاد الماضي السوفياتي الغابر. فكان أن دمرت سورية وشرّد الملايين وقتل مئات الألوف من شعبها، وتحولت إلى مستنقع وساحة مبارزة بين الجيوش الروسية والتركية والأميركية والإيرانية، وعشرات المليشيات الملحقة بالحرس الثوري الإيراني. فيما كانت إسرائيل تراقب عن بعد وتمارس، من وقت إلى آخر، دور الشرطي بغاراتها الجوية ضد "محور الممانعة"، مستفيدةً من الضمانات التي قدمها لها "القيصر الروسي". فكانت تجري، من وقت إلى آخر، مناوشاتٍ على جبهة الجولان تارة مع قوات النظام، وتارة أخرى مع مقاتلين من فصائل المعارضة. وباتت سورية عمليا بحكم المقسمة، بعد أن تحولت ما اصطلح على تسميتها "مناطق خفض التوتر" الى بؤر توتر وقتال، كما هو حاصل حاليا في الشمال على يد الجيش التركي، وفي الغوطة الشرقية قرب دمشق على أيدي كتائب النظام، وفي جنوب الغرب من قوات أميركية وأردنية.

بعد نحو أربعين سنة من الحرب الكلامية والهدنة الواقعية بين سورية وإسرائيل، تم إسقاط المقاتلة الإسرائيلية، وسارعت إيران والممانعون إلى الإعلان أن "قواعد اللعبة تغيرت"! فما هو البديل المطروح؟ إعلان الحرب على إسرائيل زحفا نحو القدس؟ أم الهرب من الحرب السورية الداخلية التي باتت تشكل وزرا كبيرا على أصحابها إلى الحرب الخارجية مع العدو الإسرائيلي؟ في المناسبة، وعلى سبيل التذكير، يحتفل "محور الممانعة" اليوم ويهلل لإسقاط طائرة، وكأنه هزم إسرائيل، أو على الأقل ربح معركة ضدها. علما أنها الطائرة الأولى التي يتم إسقاطها منذ 32 سنة، عندما أسقطت طائرة "الفانتوم" الإسرائيلية عام 1986 فوق الأراضي اللبنانية، وتم أسر الطيار رون أراد الذي لا يزال مصيره مجهولا.

ما تريده إيران هو محاولة خلط الأوراق والعودة إلى ناصية القرار في سورية. وهي ترى بدهائها أن الوقت الآن هو الظرف المناسب لذلك، بعدما وصلت الأمور إلى طريق مسدود. فإذا كان قد تحقق هدفها، وهدف روسيا، بإبقاء الأسد في السلطة، فهذا بحد ذاته لا يشكل ضمانةً، ولا يمكن الركون إلى من برح يردّد منذ أكثر من عقد أن الرد على الضربات الإسرائيلية "سيكون في الزمان والمكان المناسبين".. كما أنه على الرغم من بقاء الأسد في السلطة، فهو لا يسيطر فعليا إلا على جزء بسيط من سورية، ولم يعد واردا أن يستعيد السيطرة على كامل الأراضي السورية. وهذا أمر لا يحقق رغبات طهران ومطامعها في الإمساك بزمام الأمور، والتمركز على ضفاف المتوسط، بعد كل الجهود التي بذلتها في السنوات الماضية للتمدّد من طهران إلى بغداد، ثم إلى دمشق وبيروت، بالإضافة إلى محاولتها احتواء القرار الفلسطيني. كما أن بقاء الأسد جالسا على الكرسي في دمشق لا يشكل، في المقابل، أكثر من ورقة للتفاوض بالنسبة لموسكو التي تسعى إلى فرض نفوذها، وضمان مصالحها عبر تسوية سياسيةٍ تعرف أنها لا تتحقق من دون التنسيق مع الولايات المتحدة وموافقتها. فالنصر العسكري الذي حققته موسكو في الميدان، وفرضت من خلاله هيمنتها على القرار ومعادلاتها العسكرية على الأرض، وأعادت إيقاف بشار الأسد على رجليه، لن يمكنها من فرض حل للأزمة كما تريدها هي.

وهنا المفارقة. المعنيون والمؤثرون في الحرب الدائرة في سورية، والمنخرطون بالنزاع عليها كثيرون، ولا يمكن فرض أي تسويةٍ من دون إشراكهم جميعا أو معظمهم. بدءا بالولايات المتحدة، مرورا بتركيا ثم إيران، وبعض الدول العربية مثل السعودية ومصر، وليس انتهاء بدولٍ غربيةٍ سيقع على عاتقها تمويل إعادة الإعمار. فمن يصنع النصر العسكري يبدو بالتالي غير قادر على فرض الحل السياسي. هنا المأزق الروسي. ومن هنا، تحاول إيران الدخول بقوة والإمساك باللعبة من أجل "تغيير قواعدها"، كما تعلن مستفيدة من هذا المأزق. فهي بإعادة تسليطها أولا الضوء على إسرائيل، وتوجيه المعركة نحوها، تكون قد أمسكت بأحد خيوط اللعبة، ورصت صفوف "محور الممانعة والممانعين"، وأحرجت بعض العرب المطبعين أو اللامبالين. فهي تريد القول إن القرار لها في سورية.

وثانيا، تحاول رفع الصوت في وجه أميركا دونالد ترامب الذي يهدد بإلغاء الاتفاق النووي الموقع معها، والذي يعتبرها "راعية الإرهاب الدولي" في المنطقة. كما تسعى إلى وضع العصي في دواليب المهمة الأولى لوزير خارجيته، ريكس تيلرسون، في المنطقة، ملوحة بالمواجهة مع إسرائيل، وبإشعال "مثلث الممانعة العراقي- السوري - اللبناني" في وجه واشنطن. ويصبح واضحا في هذا السياق توقيت إسقاط الطائرة، عشية زيارة تيلرسون التي تشمل مصر والكويت والأردن ولبنان وتركيا.

وثالثا، لا تغيب طهران من حساباتها إحراج الحليف، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي باركت تدخله العسكري في سورية، لكنها تبدي امتعاضا من خططه وتكتيكاته التي تجنح ضمنا باتجاه ملاقاة رغبات واشنطن بتحجيم طهران ودورها في أي تسوية، أو على الأقل تغض الطرف عن المحاولات الأميركية في هذا الاتجاه. كما أنها لا تنظر كثيرا بعين الرضا إلى انصياع الأسد لتعليمات موسكو.

وهكذا، تحاول القيادة الإيرانية إرسال رسائلها في كل الاتجاهات، فهي تريد وضع "إنجازاتها" في العراق وسورية ولبنان في الميزان الإقليمي، وتؤكد للزائر الأميركي إمساكها بناصية القرار في حكومات هذه البلدان. فيما تسعى إسرائيل إلى توظيف ترامب وعداوته إيران في تحقيق رغباتها.. فهل المنطقة ذاهبة إلى مواجهة؟

إذا كانت إيران غير قادرة على فرض ما تريد، فإن في وسعها أن تمنع، أو تعرقل على الأقل، حصول ما لا تريد.

اقرأ المزيد
١٧ فبراير ٢٠١٨
الدعم الكردي لعملية غصن الزيتون

أعلنت معظم القوى السياسية والشعبية في تركيا دعمها لعملية غصن الزيتون؛ التي أطلقها الجيش التركي لتطهير منطقة عفرين، في شمال سوريا، من عناصر وحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني. وحظيت العملية حتى اللحظة بتأييد واسع من مختلف شرائح المجتمع التركي، بما فيها الأقليات الدينية.
 
البطريركية الأرمينية في تركيا أعربت، في بيان، عن تمنياتها بالنجاح للقوات المسلحة التركية في عملية غصن الزيتون، وقالت: "نصلي من أجل إنهاء النشاط الإرهابي، وإحلال السلام الذي تحتاج إليه البشرية بأسرها، وإرساء السكينة، لا سيما في منطقتنا". كما انتقد رئيس الاتحاد السرياني العالمي، جوني ميسو، الأعمال الإرهابية التي تقوم بها وحدات حماية الشعب الكردية، من خطف أطفال السكان في شمال سوريا وتجنيدهم قسرا للقتال في صفوفها، مشيرا إلى أن تركيا من خلال عملية غصن الزيتون تريد إحلال السلام في سوريا، وترد على ممارسات المنظمة الإرهابية.

ولعل الدعم الأهم لهذه العملية؛ ذاك الذي جاء من الأكراد، ليؤكد أنها لا تستهدف سوى عناصر المنظمة الإرهابية التي تستغلها قوى دولية وإقليمية لضرب أمن تركيا واستقرار المنطقة. وفي أبرز مثال لهذا الدعم، قامت مجموعة من الشباب الكردي، تطلق على نفسها "حملة كفى"، بإصدار بيان أكدت فيه أن عملية غصن الزيتون هي مثل العمليات التي تقوم بها قوات الأمن التركية في ديار بكر وماردين وشرناق ضد المنظمة الإرهابية، مشددة على أن العملية لا تستهدف السكان الأكراد ولا المدنيين في منطقة عفرين.

رئيس حزب الدعوة الحرة، زكريا يابيجي أوغلو، وفي تعليقه على عملية غصن الزيتون، وصف عناصر وحدات حماية الشعب الكردية بــ"جنود الولايات المتحدة" و"القوات البرية لأمريكا"، مشيرا إلى أن العملية انطلقت ردا على عزم واشنطن تأسيس قوات أمن حدودية قوامها 30 ألف عنصر من الإرهابيين، علما بأن يابيجي أوغلو زعيم سياسي كردي، كما أن حزب الدعوة الحرة يتألف معظم أعضائه من المواطنين ذوي الأصول الكردية.

التأييد الشعبي في تركيا لعملية غصن الزيتون التي بدأت قبل حوالي شهر، يمكن وصفه بــ"الإجماع الوطني"؛ لأن الشارع التركي بكل مكوناته وألوانه يرى أن هذه العملية لا بد منها من أجل حماية أمن البلاد ومستقبلها، ويعتبرها "معركة الدفاع عن الوطن". وهذه الرؤية تعكسها نتائج استطلاعات الرأي بوضوح.

نتائج استطلاع الرأي الذي قامت به شركة "A&G" للدراسات، بعد انطلاق العملية، تشير إلى أن 85.4 في المئة من المواطنين في تركيا يرون أن حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) هو حزب العمال الكردستاني (ب ك ك) نفسه، كما يعتبر 87.9 في المئة منهم حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) تهديدا لبلادهم. ووفقا لذات النتائج، تصل نسبة التأييد الشعبي لعملية غصن الزيتون إلى 89 في المئة.

اللافت في تلك النتائج أن 63.4 في المئة من المواطنين ذوي الأصول الكردية يرون حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) تهديدا لتركيا، كما أن 82.8 في المائة منهم لا يعتبرون الولايات المتحدة صديقا أو حليفا للأكراد. وهذا ما يؤكد أن الأغلبية الساحقة من الأكراد لا تثق بواشنطن التي تدعم وحدات حماية الشعب الكردية بالمال والسلاح، وتستغلها لتحقيق أهدافها في المنطقة.

القوات المشاركة في عملية غصن الزيتون تشدد على أن العملية تستهدف فقط عناصر وحدات حماية الشعب الكردية، وتسعى إلى تحرير منطقة عفرين من سيطرة المنظمة الإرهابية. ومع ذلك، تحاول وسائل الإعلام المؤيدة للإرهابيين أن تظهر العملية على أنها ضد الشعب الكردي، وتستخدم أدبيات ومصطلحات تدعم دعاية المنظمة الإرهابية. وهذا أمر متوقع من وسائل الإعلام التابعة للأنظمة المناوئة لتركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، إلا أن ما يثير الاستغراب والاستياء لدى الأتراك هو استخدام وسائل إعلام محسوبة على دول صديقة لتركيا؛ ذات الأدبيات والمصطلحات التي توحي بأن المنظمة الإرهابية هي الممثل الوحيد للشعب الكردي؟

اقرأ المزيد
١٧ فبراير ٢٠١٨
تغيير قواعد الاشتباك تقرّره روسيا أو أميركا

كانت بلا شك مفاجأة صادمة لإسرائيل التي اعتادت طائراتها التنزّه فعلاً في أجواء سورية لاصطياد مواقع للنظام أو لإيران ولديها معلومات من الأرض بأن شحنات عسكرية جديدة أُنزلت فيها. ومعروف أن تفاهمات فلاديمير بوتين - بنيامين نتانياهو منحت إسرائيل «الحق» في ضرب ما تعتبره «خطراً على أمنها»، أكان تمركزاً إيرانياً أو أسلحة وصواريخ متطوّرة تُنقل إلى «حزب الله».

وكانت بلا شك تجربةً وإرهاصاً مثيرين لإيران والنظام السوري و «حزب الله»، فهذه المرة الأولى التي تسمح فيها روسيا باستهداف طائرة إسرائيلية بهدف إسقاطها. وما قيل في آذار (مارس) 2017 أن الصواريخ المضادة التي أطلقت على طائرات إسرائيلية كانت إيذاناً بـ «مرحلة استراتيجية جديدة وتغييراً في قواعد الاشتباك» يتكرّر الآن بعد إسقاط الـ «إف 16»، وفي ظروف مختلفة تتسم بمواجهة روسية - أميركية متصاعدة. ولعل الحدث ساعد الروس والإيرانيين والنظام على تجاوز خلافات كثيرة طرأت على علاقاتهم في الآونة الأخيرة.

إذاً، فالـ «إف 16» مقابل الـ «سوخوي 25»، من دون أن يتضح ما إذا كانت روسيا سلّحت حليفيها أو أحدهما بصواريخ قادرة على إسقاط طائرة أميركية، ولا اتضح أيضاً ما إذا كانت الولايات المتحدة زوّدت أحد الفصائل بصواريخ محمولة لإسقاط طائرة روسية. وقد أظهر الواقع الميداني أن الدولتين الكُبريين تبادلتا الإندارات، فالغارات الروسية استمرّت ولم تتعرّض لأي استهداف جديد، والغارات الإسرائيلية تكرّرت كالمعتاد ما عنى أن «التفاهمات» مع موسكو لم تسقط مع حطام الـ «إف 16».

قد يكون تأكيد إيران ونظام بشار الأسد و «حزب الله» بداية مرحلة مختلفة متعجّلاً، مثله مثل الذين اعتقدوا أن غارة صباح السبت 10 شباط (فبراير) بداية «الحرب» التي تعتزمها إسرائيل على الوجود الإيراني في سورية، بل ربطوا ذلك بلقاء بوتين - نتانياهو عشية مؤتمر سوتشي. فأي تغيير «استراتيجي» يبقى رهن حسابات بوتين وتقديراته، إذ أتاحت القيادة الروسية لإسرائيل ضرب مواقع إيرانية حيوية في ثلاث مناطق متباعدة وربما تولّت وحدة روسية ضرب الـ «إف 16» تاركة للإيرانيين والنظام استثمار هذا الإنجاز.

يبقى حديث «الحرب» جارياً ومن الطبيعي أن يتصاعد الآن، لأن الأسباب التي أعلنتها إسرائيل مراراً لتبريرها لا تزال قائمة: فمن جهة هناك الحشد المتزايد للميليشيات العراقية (الإيرانية) في منطقة الجولان، ومن جهة أخرى هناك «صواريخ حزب الله» ومصنع الصواريخ الذي يعتقد الإسرائيليون أن هذا «الحزب» أقامه في لبنان بدعم إيراني. ولم تخف طهران رغبتها في مواجهة مع إسرائيل على الأرض السورية، بل تعتبرها مواجهة مع الولايات المتحدة التي عبّرت في أكثر من مناسبة عن دعمها أيَّ عملية إسرائيلية يمكن أن تقلّص النفوذ الإيراني في سورية. وفي خطوة غير مسبوقة أوعزت طهران لزعيم ميليشيات عراقية قيس الخزعلي وزعيم ميليشيات سورية حمزة أبو العباس لزيارة جبهة جنوب لبنان، بل إن إبراهيم رئيسي أحد أقطاب النظام الإيراني تفقد أيضاً هذه الجبهة.

سبق لكثر من متابعي الشأن السوري أن قدّموا تقديرات مفادها أن إقدام إسرائيل على ضرب الوجود الإيراني يحقق مصالح لأطراف عدة، بدءاً بروسيا التي يمكن أن تتخفّف من «شريك» صعب لديه أجندة خاصة ولا تتفق معه دائماً في الخطط التي ترسمها لـ «إنهاء الحرب» سياسياً أو حتى عسكرياً. ومع أن نظام الأسد لا يزال يعتمد على الدعم الإيراني ويستخدمه لمواجهة الضغوط الروسية إلا أنه يتعامل مع أي حرب إقليمية محتملة على أنها فرصة لخلط الأوراق لمصلحته وربما لانفتاح بعض الأطراف الدولية والعربية عليه. ولا شك في أن تركيا تنظر بارتياح إلى إمكان إضعاف النفوذ الإيراني في سورية. غير أن الإسرائيليين لا يتطلعون إلى تقديم خدمات إلى الآخرين بل إلى تحقيق مصالحهم أولاً، لذلك فإنهم يريدون لن يتحرّكوا إلا في حال تأمّن لهم توافق ولو ضمني بين الروس والأميركيين.

من الواضح أن توافقاً كهذا مستبعداً، ولا بد أن الإسرائيليين أدركوا بعد إسقاط طائرتهم أن الروس يمكن أن يوافقوا على ضرباتهم المحدودة ويفتحوا لهم الأجواء لكنهم لا يمنحونهم ضوءاً أخضر لعملية واسعة ومتواصلة. أي أن الاشتباك الأخير قد يكون رسم خطّاً أحمر روسياً يمنع إسرائيل من تجاوز «تفاهمات» بوتين - نتانياهو، فموسكو هي التي تتحكّم بوتيرة المواجهات وأهدافها، ومهما كانت مرحّبة ضمنياً بإضعاف النفوذ الإيراني إلا أن أي مساومة عليه يمكن أن تكون مع أميركا وليس مع إسرائيل. هذا الخط الأحمر يفترض أن تكون موسكو متحكّمة أيضاً بالسلوك الإيراني في الجولان، فالمعروف أنها فشلت في إقناع طهران بإبعاد ميليشياتها عشرات الكيلومترات عن تلك المنطقة كما اشترطت إسرائيل لاحترام «منطقة خفض التوتر» في جنوب غربي سورية، أي أن التوتّر هناك يبقى قابلاً للتفجير وفقاً لرغبة الطرفين.

حقّقت إيران من إسقاط الـ «إف 16» ما غدا اعترافاً دولياً بأنها الطرف الآخر في المواجهة، وعلى رغم أن الإنجاز سجّل باسم نظام الأسد إلا أن هذا الأخير كان الأقل تظاهراً به، فالمحتفلون كانوا أولاً وأخيراً من زبانية إيران. ولعل الظاهرة الجديدة أن أوساط الموالين للنظام لم تشعر بأن الحدث يدعم الأسد، كما أن أوساط المعارضة لم تشعر بأن ما حدث يخدم القضية السورية التي تدافع عنها، ومع اختلاف زاوية النظر بدا الموالون والمعارضون مدركين أن اللعبة الدائرة تتخطّاهم. وعلى رغم كل قيل ويقال عن تقليص النفوذ الإيراني، كهدف استراتيجي أميركي وإسرائيلي، فإن الإشراف على جبهة الجولان ومحاولة إقامة توازن ردعي مع إسرائيل وربط هذه الجبهة بجنوب لبنان لا تعزز نفوذ إيران فحسب، بل تؤسس لوضع يصعب تغييره بالقوة أو بالديبلوماسية من دون الاعتراف لإيران بدورها ونفوذها.

ليس واضحاً بعد ما إذا كان هذا الحدث سيحسّن الجو القاتم الذي هيمن أخيراً على علاقة النظام مع إيران التي ألغت شحنات وقود ومواد طبية مقرّرة سابقاً، وذلك كتعبير عن غضبها من عدم تنفيذ النظام مذكرات تفاهم لمنحها إدارة محطات كهرباء. ونقلت مصادر أن الإيرانيين باتوا يقولون أنهم «سيأخذون ما يريدون بطريقتهم ولن يعطوا النظام ما يحتاج إليه»، إذ يتهمونه بأنه كذب عليهم وظلّ يسوّف في الملفات المتفق عليها ليكتشفوا لاحقاً أنه وقع اتفاقات في شأنها مع روسيا. وسبق للإيرانيين أن طلبوا قاعدة بحرية ولم يوافق الروس عليها، كما اتفقوا مع النظام على حصة في استثمار الفوسفات لكن الروس وضعوا أيديهم على المناجم والمنشآت كلها، كذلك أرادوا إنشاء شركة ثالثة للاتصالات أو حصة رئيسية فيها غير أن «العراقيل البيروقراطية» أبطأت المشروع، والواقع أن الممانعة الروسية هي السبب.

وليس واضحاً أيضاً ما إذا كان الحدث سيلطّف أجواء العلاقة بين الروس والنظام، إذ إنهم يحمّلونه جانباً كبيراً من فشل مؤتمر سوتشي، خصوصاً بتركيبة الوفود التي أرسلها وطبيعة الأشخاص الذين كانوا بمعظمهم من الأتباع المكلّفين إفساد أجواء المؤتمر. أما النظام فكان لديه مأخذ رئيسي على روسيا التي تعرف أن عفرين كانت دائماً في صفّه لكنها تجاهلت ذلك مفضلة تسهيل العملية العسكرية التركية.

أما الخلاف الكبير الذي ثار أخيراً بين دمشق وموسكو فيتعلّق بمنصب «نائب الرئيس»، إذ إن نجاح العطار هي التي تحمل هذا اللقب وقد تدهورت صحتها إلى حدّ استدعى أن يبحث الأسد عن «بديل شكلي»، في حال حصول ما يؤدي إلى غيابه، ريثما تتفق الحلقة الضيقة للنظام على من يخلفه، أو يكون البديل شخصاً جاهزاً لتولّي المنصب. وبعدما استُعرضت أسماء عدة، وجد بشار أن الشخص الوحيد المناسب هو شقيقه ماهر «لتأمين استمرار الشرعية». لكن الروس رفضوا وقالوا لمن استمزجهم بالأمر «هذا غير مناسب ويبعث برسالة سيئة»، وقالوا لآخرين أن «حلفاءنا منفصلون فعلاً عن الواقع».

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)
● مقالات رأي
١٣ مايو ٢٠٢٥
"الترقيع السياسي": من خياطة الثياب إلى تطريز المواقف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٥ مايو ٢٠٢٥
حكم الأغلبية للسويداء ورفض حكم الأغلبية على عموم سوريا.. ازدواجية الهجري الطائفية
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٢٤ يناير ٢٠٢٥
دور الإعلام في محاربة الإفلات من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني - مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب