مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١ مارس ٢٠١٨
معركة الغوطة الشرقية.. دوافعها وعوامل الصمود

تتعرّض غوطة دمشق الشرقية، منذ مطلع شباط/ فبراير 2017، لهجوم عنيف، في ما يبدو محاولةً من النظام وحلفائه لاقتحامها والسيطرة عليها، عبر الاستهداف الناري الكثيف للحاضنة الشعبية؛ من أجل الضغط على الفصائل المسلحة، حتى تقبل بالخروج منها. وقد أدى القصف الجوي والمدفعي، حتى الآن، إلى سقوط أكثر من 600 شهيد، أكثرهم من الأطفال والنساء. ويسعى النظام، كما صرح مندوبه الدائم في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، إلى تكرار سيناريو شرق حلب؛ إذ أدى القصف الجوي الروسي الكثيف إلى إجبار الفصائل المسلحة على مغادرة المدينة، وإجلاء أهلها عنها. فهل يتكرر سيناريو حلب في غوطة دمشق الشرقية؟ أم هل يمكنها الصمود والاستمرار في المقاومة؟ وما هي عوامل الصمود في هذه الحالة؟

حصار الغوطة
تقع الغوطة الشرقية، كما يدل اسمها على ذلك، في شرق مدينة دمشق، وسُميت بهذا الاسم لأنها بساتين غنّاء من أشجار مثمرة تحيط بمدينة دمشق، وقد كانت تشكّل تاريخيًا جزءًا من حزامها الأخضر (إلى جانب الغوطة الغربية)، وسلّة غذائها الرئيسة، وتبلغ مساحتها نحو 110 كيلومترات مربعة، وتضم مجموعة من المدن والبلدات، أكبرها دوما التي تُعد عاصمة إدارية للمنطقة، وحرستا وغيرها من المدن والبلدات التي يصل عددها إلى عشرين مدينة أو بلدة. يشتغل معظم أهلها، وقد كان عددهم قبل الثورة أكثر من مليوني نسمة، في الزراعة. اشتهرت غوطة دمشق بمقاومتها الشديدة للاحتلال الفرنسي. وبالنظر إلى أنها غطاء أخضر متصل بالبادية، مثّلث ملجأً آمنًا للثوار على مر العصور. كانت غوطة دمشق من أوائل المناطق التي ثارت على النظام في آذار/ مارس 2011، بسبب الظلم الذي لحق بها من سياساته الزراعية، وتمليك الأراضي لمشاريع رجالات النظام، واتباع سياسة الاستيراد لبضائع تنتج فيها مثل الأثاث وغيرها. وقد سيطرت عليها المعارضة بداية من عام 2012، وهي تخضع، منذ ذلك الوقت، لحصار شديد من قوات النظام الذي حاول اقتحامها من محاور مختلفة أكثر من مرة خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل. يعيش في الغوطة اليوم، بحسب أكثر التقديرات، نحو 400 ألف نسمة، رفضوا الخروج من أراضيهم وبيوتهم، على الرغم من إجراءات الحصار التي أوصلتهم، في بعض الأوقات، إلى حافة الجوع.

أسباب التصعيد
كانت الغوطة الشرقية تمثّل إحدى مناطق خفض التصعيد الأربع الرئيسة إلى جانب إدلب، ريف حمص الشمالي، ومنطقة جنوب سورية الغربي (درعا والقنيطرة) التي نشأت نتيجة اتفاق روسي – تركي، فتَح الباب أمام ظهور مسار أستانة، بعد سقوط الجزء الشرقي من مدينة حلب بيد روسيا وحلفائها في كانون الأول/ ديسمبر 2016. وقد تم التوصل إلى تفاصيل شمول الغوطة بنظام الهدنة في اتفاق وقعته روسيا، بوساطة مصرية، في القاهرة، في تموز/ يوليو 2017، مع جيش الإسلام (أحد فصيلَي المعارضة الكبيرين اللذين يسيطران على الغوطة الشرقية)، ثم انضم إليه فيلق الرحمن في الشهر التالي. وقد وافقت روسيا على ترؤس أحد قياديي جيش الإسلام (محمد علوش) وفد المعارضة السورية في اجتماعات أستانة، على الرغم من معارضة إيران والنظام لهذه الخطوة.

كانت فكرة مناطق خفض التصعيد تهدف إلى الإعداد لمسار سياسي للحل؛ وفق الرؤية الروسية التي برزت بعض ملامحها خلال جولات أستانة الثماني التي عقدت على امتداد عام 2017، وتوجت بمؤتمر سوتشي في 29 كانون الثاني/ يناير 2018، وكانت روسيا تريده بديلًا من مسار جنيف الذي لم تساعد في إيصاله إلى أي نتيجة، على الرغم من اضطلاعها بدور رئيس فيه من خلال مشاركتها في إصدار قرار مجلس الأمن رقم 2254، والذي غدا مرجعيةً رئيسةً للحل في سورية. لكن سلسة من التطورات الأخيرة أدت إلى إفشال هذه الجهود، واتجاه روسيا إلى الموافقة على توجهات إيران والنظام، إلى التخلي عن فكرة مناطق خفض التصعيد، والذهاب في اتجاه الحسم العسكري، ابتداءً من الغوطة الشرقية (هذا إذا لم تكن مناطق خفض التصعيد تكتيكًا مؤقتًا أصلًا يهدف إلى الاستفراد بمناطق المعارضة المسلحة، والتخلص منها واحدة بعد الأخرى). فقد تعرّضت روسيا لسلسة من النكسات الميدانية والسياسية التي تنتقص من "النصر" الذي أراد الرئيس، فلاديمير بوتين، استثماره إلى الحد الأقصى في انتخابات الرئاسة التي تجري في 18 آذار/ مارس 2018.

فبعد مرور أيام قليلة على زيارةٍ قام بها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية على الساحل السوري، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وإلقائه ما بدا كأنّه خطاب "النصر" أعلن فيه عن بدء خفْض القوات العسكرية الروسية في سورية، تعرّضت القاعدة نفسها لهجماتٍ صاروخيةٍ، أدت إلى إعطاب سبع طائرات كانت في أرض المطار، ثم تعرّضت القاعدة نفسها لهجمات منسقة، قامت بها طائرات من دون طيار (درونز)، عشية رأس السنة، لم تتمكن وسائط الدفاع الجوي عن القاعدة من رصدها، قبل أن يتم في مطلع شباط/ فبراير 2018 إسقاط طائرة "سوخوي" روسية فوق إدلب بصاروخٍ يعتقد الروس أنه محمول على الكتف. وقد اتهمت موسكو الولايات المتحدة الأميركية بوجود دور لها في هذه الهجمات المنسقة للانتقاص من "الإنجاز" الروسي في سورية. ثم جاءت الضربة الأخيرة، عندما وجهت طائرات أميركية معزّزة بالمدفعية ضربة كبيرة إلى مليشيا مرتبطة بشركة أمنية روسية خاصة (كانت تعمل في أوكرانيا قبل أن تنقل مسرح عملياتها إلى سورية)؛ عندما حاولت مهاجمة مقار عسكرية تابعة لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، يوجد فيها جنود أميركيون قرب مدينة دير الزور شرق سورية. وقد أدى الهجوم الأميركي إلى مصرع عدد كبير من عناصر المرتزقة الروس، الأمر الذي تسبب بضجةٍ كبيرة في روسيا، وإحراج شديد لنظام الرئيس بوتين الذي حاول، أول الأمر، تجاهل الحادثة كليًا، قبل أن تضطر وزارة الخارجية الروسية إلى الاعتراف، فقط، بمصرع خمسة مواطنين روس في العملية، قالت إنهم غير مرتبطين بالقوات الروسية العاملة في سورية.

من جهة ثانية، جاء الإعلان عن استراتيجية أميركية جديدة في سورية، بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، واستعادة أكثر الأراضي التي يسيطر عليها، بمنزلة ضربة كبيرة لجهود روسيا من أجل الاستئثار بقيادة الحل في سورية. ففي 17 كانون الثاني/ يناير 2018، أعلن وزير الخارجية الأميركية، ريكس تيلرسون، في خطاب مخصص للسياسة الأميركية في سورية، أن الولايات المتحدة قرّرت عدم تكرار خطئها في العراق، عندما انسحبت منه بعد القضاء على تنظيم القاعدة، وتركته للنفوذ الإيراني، وأن الولايات المتحدة قرّرت، من ثمّ، الاحتفاظ بوجود عسكري لها شرق سورية، بعد طرد تنظيم الدولة الإسلامية. وحدد تيلرسون خمسة أهداف رئيسة، تسعى واشنطن إلى تحقيقها، من خلال الاحتفاظ بهذا الوجود، هي:
1. عدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية، أو القاعدة، بالانبعاث مجددًا، وعدم السماح بأن تعود سورية لتصبح قاعدة أو منطلقًا للتخطيط أو تجنيد أو تمويل أو شن هجمات ضد الولايات المتحدة، أو ضد مصالحها أو حلفائها.
2. إيجاد حل للصراع في سورية، من خلال عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة، وفق نص القرار 2254، للوصول إلى دولة سورية مستقرة وموحدة ومستقلة، تحت قيادة جديدة لا يكون الأسد جزءًا منها.
3. تحجيم النفوذ الإيراني، ومنع إيران من إنشاء قوس نفوذ لها في المنطقة، ومنع تحول سورية إلى قاعدة لتهديد استقرار المنطقة والدول المجاورة.
4. توفير الظروف التي تسمح بعودة اللاجئين والنازحين داخل سورية إلى بيوتهم وبلداتهم.
5. إخلاء سورية من كل أسلحة الدمار الشامل.
اعتبرت روسيا الاستراتيجية الأميركية الجديدة عملًا عدائيًا يستهدف جهودها ومصالحها في سورية؛ إذ رفضت الولايات المتحدة حضور مؤتمر سوتشي، حتى بصفة مراقب، ومارست ضغوطًا على الهيئة العليا للمفاوضات المعارضة لمقاطعة المؤتمر، وأنشأت الولايات المتحدة لجنة خماسية تضمها، إلى جانب بريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن، لمواجهة ترتيبات روسيا مع تركيا وإيران في سورية، وقدمت للمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، ورقة تتضمن رؤية اللجنة الخماسية للحل في سورية، في مواجهة مقررات مؤتمر سوتشي.
من أجل كل هذه الأسباب، قرّرت روسيا التي رأت أن استراتيجيتها السياسية والعسكرية في سورية تتداعى، مع تدهور علاقتها بالولايات المتحدة إلى مستوىً غير مسبوق، أن تنحو في اتجاه حل عسكري في الغوطة الشرقية، في خطوةٍ يكون الهدف منها هزيمة المعارضة كليًا ودفعها إلى الاستسلام، بدلًا من التفاهم معها على حل؛ مثلما كانت الفكرة، عندما انطلق مسار أستانة. ولهذه الأسباب بدأ التصعيد في الغوطة.

القرار 2401
بعد مفاوضات طويلة، وتعطيلٍ، ومحاولات كسب الوقت، على الرغم من الضغوط السياسية والإعلامية التي تصاعدت مع انتشار آثار الدمار والموت؛ بسبب القصف الروسي لمناطق المدنيين في الغوطة، وافقت روسيا على مسودة مشروع قرارٍ مشترك، تقدمت به السويد مع الكويت التي كانت ترأس دورة مجلس الأمن، خلال شباط/ فبراير 2017، لإطلاق هدنة إنسانية في سورية، مدتها ثلاثون يومًا، وفتح ممرات لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة. صدر القرار رقم 2401 في وقت متأخر من يوم الجمعة 23 شباط/ فبراير 2017، لكن روسيا لم توافق عليه إلا بعد تعديلات جوهرية؛ إذ حذفت منه فقرةً توجب بدء الهدنة خلال 72 ساعة من تبني القرار، وأصبحت، بدلًا من ذلك، "من دون تأخير". ومن بين التعديلات، أيضًا، أن تشمل الهدنة سورية كلّها، بدلًا من الغوطة فقط، وأن تستثنى منها الجماعات المتشددة التي يصنفها مجلس الأمن إرهابية (أي تنظيم داعش وجبهة النصرة)، على الرغم من أنه لا وجود لداعش في الغوطة الشرقية، أما جبهة النصرة فأعربت الفصائل المقاتلة عن استعداد هذه الجبهة إخراج قواتها المحدودة من الغوطة، لكن روسيا وحلفاءها طالما استخدموا هذه الحجة للاستمرار في القصف وإخضاع المعارضة.

من جهة ثانية، حاولت روسيا الالتفاف على نص القرار الذي يسمح بتوفير معابر إنسانية لإدخال المساعدات، واقترحت، بدلًا من ذلك، هدنة يومية مدتها خمس ساعات تبدأ في التاسعة صباحًا وتنتهي في الثانية بعد الظهر، للسماح للمدنيين بالخروج من المنطقة؛ في محاولة واضحة لتهجير سكان المنطقة تحت القصف الذي يبدأ في الدقيقة الأولى بعد انتهاء مهلة الخروج، ويستمرّ 19 ساعة يوميًا.

مقومات الصمود
مستفيدةً من تجربة شرق حلب، وسحبًا للذرائع، اقترحت فصائل المعارضة داخل الغوطة، إخراج عناصر جبهة النصرة الذين تتخذهم روسيا ذريعةً لاستمرار القصف، مع أنّ عددهم لا يتجاوز 250 شخصًا مع عائلاتهم (بين 400 ألف نسمة). وعلى الرغم من أن روسيا رحبت بالمقترح، فإنها عرقلت تنفيذه حتى الآن؛ إذ تسعى عمليًا إلى القضاء على آخر جيوب المعارضة المهمة الموجودة حول دمشق، وكانت قد تمكنت، خلال العامين الأخيرين، نتيجةً للقوة الغاشمة والحصار وكثافة القصف الذي مارسته على المدنيين، من إخراج فصائل المعارضة، وتهجير السكان من أكثر مناطق الغوطة الغربية؛ من أقربها إلى دمشق (داريا والمعضمية وقدسيا ووادي بردى) إلى أبعدها عنها (الزبداني ومضايا.. إلخ). وقد عبرت روسيا، صراحةً، على لسان وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، عن أنه من الممكن التوصل إلى اتفاقٍ لخروج فصائل المعارضة السورية من الغوطة الشرقية؛ على غرار الاتفاق الذي جرى في حلب عام 2016 وسمح للمقاتلين بالخروج نحو إدلب.

لكن تحقيق الأهداف الروسية ربما لا يكون بالسهولة نفسها التي تحققت في حلب، قبل أكثر من عام؛ ويعود ذلك إلى أن إمكانات الصمود في الغوطة الشرقية أفضل منها في حلب، على الرغم من أن المنطقة تعيش تحت حصار كامل منذ خمس سنوات. فمعظم (إن لم يكن جميع) مقاتلي المعارضة، من أهالي المنطقة؛ ومن ثمّ فإنهم يعرفون جغرافيتها جيدًا، ولن يكون من السهل على أي قوة عسكرية مهاجمة أن تتقدم. ومن أبرز الأدلة على ذلك أن النظام لم يتمكّن بعد خمس سنوات من القتال الضاري أن يتقدم، ولو مسافة قليلة في حي جوبر، على أطراف مدنية دمشق، والذي يُعد خط الدفاع الأول عن الغوطة، ثمّ إنّ مقاتلي المعارضة كثيرو العدد؛ فوفق أدنى إحصاء لهم، يصل عددهم إلى عشرة آلاف مقاتل، مجهزين بأسلحة ثقيلة غنموها من معسكرات النظام خلال سنوات القتال السابقة، كما أنّ هؤلاء المقاتلين يملكون مخزونًا كبيرًا من الذخيرة يكفي المقاومةَ فترةً زمنية طويلة. وفضلًا عن هذا، يتمتع المقاتلون بخبراتٍ قتالية كبيرة، ولديهم كل الأسباب للبقاء والمقاومة؛ فهم يدافعون عن أرضهم وأهلهم، والخيارات التي أمامهم، إنْ قرروا القبول بالخروج، ليست مشجعة، خصوصا أنّ من سبقوهم من فصائل المعارضة وأهاليهم يتعرّضون اليوم للمستوى نفسه من القصف في إدلب. زيادةً على ذلك، تمكن أهالي المنطقة، خلال سنوات من الحصار والقصف، من بناء شبكة كبيرة من الأنفاق، حتى إنه يمكن القول إن بلدات بكاملها تعيش تحت الأرض، كما أن طبيعة المنطقة الزراعية، وخبرة أهلها في هذا المجال، أمران يسمحان لهم بالصمود، ذلك أنّ المنطقة قادرةٌ على تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذا المجال. وما يمكن أن يمثل فرقًا حقيقيًا هنا، هو، وحدة الفصائل في التعامل مع الهجمة العنيفة التي تواجهها الغوطة، وتجنب ما كان من تناحر واقتتال، لم يعد لهما من مبرّر مقبول للاستمرار في مثل هذه الظروف.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٨
القنبلة السورية الموقوتة

إن الصراع الحالي في سوريا له العديد من القواسم المشتركة مع حرب الثلاثين عاما، التي دمرت قلب أوروبا -ولاسيما مدينة ماغدبورغ الألمانية التي كانت في ذلك الوقت مثل حلب- ودامت ما بين عاميْ 1618 و1648.

وكما وُصفت اليوم تلك الحرب؛ فإنها كانت نتيجة لصراعات جلبت معاناة هائلة للأوروبيين، وانتهت بسلام وستفاليا بعد أن استنفدت كافة الأطراف المعنية أنفاسها تماما.

كانت حرب الثلاثين عاما ظاهريا بمثابة نزاع ديني بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت، تماما مثل الانقسام الكبير بين المسلمين السنة والشيعة في الشرق الأوسط اليوم. ولكن، وكما هو الحال في سوريا اليوم؛ فإن الدين يخفي صراعا أعمق من أجل السلطة والهيمنة الإقليمية.

بدأت الحرب السورية -التي جاءت ضمن الربيع العربي- بعد أن دعا المتظاهرون السوريون إلى الديمقراطية، وإلى وضع حد لدكتاتورية الرئيس بشار الأسد. لكنها سرعان ما أصبحت قضية دولية.

وتدخلت إيران وحزب الله (المليشيا الشيعية اللبنانية التي تدعمها طهران) عسكريا -إلى جانب روسيا- لمنع الأسد من السقوط في أيدي المتمردين المدعومين من تركيا والسعودية، والذين يمثلون الجانب السني من هذا التقسيم.

وفي الوقت نفسه؛ انتشرت الحرب لتحريك حملة بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وعندما هُزمت التنظيم في العام الماضي، سرعان ما نشأ صراع جديد بين تركيا والأكراد في شمال سوريا.

وتستهدف تركيا الآن وحدات حماية الشعب الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة، والتي ثبت أنه لا غنى عنها في الحرب ضد "داعش"، مما يخلق خطر مواجهة عسكرية مباشرة بين عضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) هما أميركا وتركيا. وهناك أيضا خطر المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا، فقد تأكد أن الغارة الجوية الأميركية الأخيرة قتلت عشرات من المرتزقة الروس في سوريا.

ومع كل فصل جديد، تكون المأساة السورية أكثر خطورة. فالصراع لم يعد يتعلق بمن سيتولى السلطة في دمشق، بل بمن سيبسط حكمه في الشرق الأوسط. لم تعد المعركة بين روسيا والولايات المتحدة فحسب، بل أيضا بين إيران الشيعية والسعودية السنية، التي تتفق مع إسرائيل التي هي حليفة لأميركا.

من جانبها، تهتم تركيا بشكل رئيسي بخطر إنشاء دولة كردية في شمال سوريا، من شأنها أن تحفز الفصائل الكردية الانفصالية الأخرى في جنوب شرق تركيا. ويعمل الأكراد في كردستان العراق بالفعل من أجل إنشاء دولتهم الخاصة، حيث قاموا العام الماضي بتنظيم استفتاء على الاستقلال.

وأخيرا، يجب على القوى العظمى العسكرية الإقليمية أن تدافع عن مصالحها الأمنية في لبنان وجنوب سوريا. وحتى وقت قريب، كانت إسرائيل قد ابتعدت عن الحرب؛ ومع ذلك كان عليها التدخل جواً لمنع تدفق الأسلحة إلى حزب الله، ومنع إيران من إقامة وجود قرب حدودها الشمالية.

واشتدت مشاركة إسرائيل هذا الشهر حيث أسقطت طائرة بدون طيارإيرانية دخلت مجالها الجوي من سوريا. ثم ردت المقاتلات الإسرائيلية بضرب أهداف إيرانية في سوريا. وقتل شخص إثر تفعيل الدفاع الجوي السوري (وعاد الطيارون إلى الأراضي الإسرائيلية بأمان)، مما دفع إسرائيل إلى شن غارة جوية على قوات الأسد مباشرة.

ومع كشف هذه الأحداث؛ سرعان ما اتضح أن إسرائيل لا تستطيع الاعتماد على العلاقة الخاصة المزعومة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. فقد كانت روسيا مترددة أو غير قادرة على السيطرة على إيران. ولذلك -سواء قامت بذلك أم لا- فإن إسرائيل الآن فاعل نشط في سوريا.

وعلى وجه التحديد، يمكن أن تنشأ حرب بين إسرائيل وإيران. ورغم أن هذا الصراع ليس في صالح أي من الجانبين، فإنه ليس من الصعب تصور حدوث ذلك بالنظر إلى الحقائق الراهنة. ولا يمكن لإسرائيل أن تبقى خارج الصراع في الوقت الذي يحقق فيه نظام الأسد وإيران وحزب الله انتصارا عسكريا. إن الحقائق على الأرض تهدد أمن إسرائيل وتعزز -بشكل كبير- عدوتها إيران.

إن الحرب بين إيران وإسرائيل -التي ستجعل السعودية في الخلفية- ستعرض المنطقة بأسرها للخطر، لأنها ستخلق جبهة جديدة في النضال من أجل الهيمنة. ولكن أوروبا أيضا ستتأثر بشكل مباشر، وليس فقط لأن انتشار الصراع سيؤدي إلى زيادة عدد اللاجئين في الشمال.

ومع تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإبطال الاتفاق النووي الإيراني، فإنه يمكن لأوروبا أن تجد نفسها في سباق تسلح خطير -أو حتى صراع عالمي جديد- بالقرب من حدودها.

وبالنظر إلى هذه الأخطار؛ لم تعد أوروبا قادرة على المراقبة من الهامش. ومن أجل أمنهم، على الأوروبيين الدفاع عن الاتفاق النووي الإيراني. وبما أن الاتحاد الأوروبي لديه التزامات طويلة الأمد تجاه إسرائيل، فإنه لا يمكن أن يُسمح للصراع العنيف من أجل الهيمنة أن يهدد إسرائيل مباشرة.

إن اليوم -أكثر من أي وقت مضى- هو الوقت المناسب للدبلوماسية الأوروبية. لقد بدت تلوح في الأفق حرب كبرى جديدة في الشرق الأوسط، ويجب على القادة الأوروبيين العمل من أجل تجنبها.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٨
لا يمكن لتركيا أن تتفق مع الأسد

يحاول بعض الأشخاص الذين ذهبوا إلى دمشق في الفترة التي وصل خلالها الظلم والقتل إلى الذروة توريط الآخرين بالدماء التي تلطخوا بها نتيجة دعمهم لنظام الأسد.

اكتسبت الحملات الدعائية التي يرأسها كليجدار أوغلو وبيرنتشيك والتي تدعو للحوار مع بشار الأسد مجالاً واسعاً من خلال إثارة الإشاعة التالية "حزب الاتحاد الديمقراطي يسلّم عفرين للنظام السوري" في الأيام الأخيرة.

عند إدراك حزب الاتحاد الديمقراطي بعدم قدرته على مواجهة القوات المسلحة التركية أو الحصول على تأثير ملموس نتيجة الحملات الدعائية أصبح يلجأ إلى أساليب مختلفة للوصول إلى هدفه.

في البداية يجب أن نذكر أنه لم يتم تسليم عفرين لأي جهة، إنما يحاولون خلق هذه الأفكار لدى الرأي العام من خلال بعض الشحنات اللوجستية المدبرة بغرض الخداع فقط.

وبذلك سيستمر الإرهابيون ذاتهم باستخدام الأسلحة ذاتها في تنفيذ الهجمات الإرهابية، وكذلك لن تتمكن قوات الجيش التركي والجيش السوري الحر من الرد بسبب حرصهم على ضمان وحدة الأراضي السورية

تسبب رأس النظام في سوريا "بشار الأسد" في إفساد جميع المخططات التي تهدف لإيجاد الحل، مع بداية المظاهرات المعارضة له في الشهر الثالث من سنة 2011 قام الأسد بوضع الإرهابيين الذين أحضرهم من جبل قنديل العراقي على امتداد الحدود التركية، وبذلك تمكن بدايةً من قطع صوت الأكراد المعارضين له، ومع زيادة الدعم تم تأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يمثل امتداد بي كي كي في الأراضي السورية.

قام الأسد بدعم هؤلاء الإرهابيين بالسلاح، وذلك على الرغم من أن تلك الفترة كانت بداية انعكاس تأثير "فترة إيجاد الحل" المطروحة من قبل الحكومة التركية، لكن أفسد الأسد هذه الفترة بسبب دعمه للأكراد وتحريضهم ضد الدولة التركية من خلال تقديم الوعود التي تنص على تأسيس منطقة متستقلة للأكراد في الشمال السوري.

في هذا السياق تخلى بي كي كي عن فكرة ترك السلاح، وبدأ باستغلال فترة إيجاد الحل المطروحة بناء على الإرادة السياسية في الاستعداد لتنفيذ هجمات جديدة ضد تركيا، ويجدر بالذكر أنهم قاموا بذلك بدعم من تنظيم الكيان الموازي والمسؤولين عن الأقاليم الموجودة في المنطقة.

هل يمكن اعتبار حزب الاتحاد الديمقراطي ممثلاً للشعب الكردي؟

يجب على الأيدي الأمريكية الموجودة في سوريا والتي تزعم أن حزب الاتحاد الديمقراطي يمثل أكراد سوريا وتتحدث حول تأسيس إقليم مشابه للموجود في شمال العراق إدراك أن الإقليم العراقي ليس تنظيماً إرهابياً يوطد هيمنته من خلال ممارسة الظلم تجاه أكراد المنطقة بهدف خدمة القوى الإمبريالية.

على الرغم من خداع حزب الاتحاد الديمقراطي للنظام من خلال العروض الجاذبة التي قدمتها أمريكا إلا أن العلاقة بين الحزب والنظام السوري حافظت على استمرارها بناء على نظرية العدو المشترك، ولذلك عاد الحزب لطلب المساعدة من النظام السوري عندما فقد قدرة الاستمرار في مواجهة القوات المسلحة التركية.

لكن باءت محاولات الحزب بالفشل لأن الأسد لم يعد قادراً على تقديم أي مساعدة بعد أن أصبح دميةً في أيدي القوى الإمبريالية، في حين يستمر الحزب في محاولة تخفيف سرعة تقدّم القوات التركية بعد أن أدرك العواقب التي سيواجهها في عفرين.

لكن يجب طرح سؤال "كيف يمكن للأسد أن يضمن أمان الحدود التركية بعد أن تحالف مع المنظمات الإرهابية؟" للأشخاص الذين يزعمون أن تركيا ستتراجع عن الدخول إلى عفرين في حال تسليمها للنظام السوري.

من قام بتسليم عفرين لحزب الاتحاد الديمقراطي؟

لا يمكن اعتبار أن نظام الأسد يمثل دولةً يمكن الوثوق بها على أرض الواقع، لو كان الأمر كذلك لوقف النظام في وجه احتلال الإرهابيين التابعين لحزب الاتحاد الديمقراطي لمنطقة عفرين التي يشكل العرب معظم سكانها في سنة 2012.

وبصرف النظر عن ذلك، ألا يصل الدعم اللوجستي للإرهابيين الموجودين في عفرين مروراً عبر المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام السوري؟ لهذا السبب يمكن القول إن الأسد يمثل الخطر الأكبر الذي يهدد وحدة الأراضي السورية.

 كما أن الجهات التي تمدح القوات المسلحة التركية من جهة وتدعم نظام الأسد من جهة أخرى ستدخل في متاهة كبيرة ستؤدي نهايتها إلى تضرر المصالح القومية التركية.

إن اتفاق تركيا مع نظام الأسد يعني فقدانها لإمكانية التعاون مع الجيش السوري الحر نظراً إلى أن الأسد يعتبر أن الجيش السوري الحر هو تنظيم إرهابي، وبذلك ستكون في موضع المحتل للأراضي السورية.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٨
حول ما يجري في الغوطة

على توقيت الغوطة الشرقية تستعد موسكو إلى ضبط عقارب الساعة على توقيتها، فقرار حصر الزمن السوري كاملاً بيدها يحتاج إلى استخدام القوة الحاسمة القادرة على تحقيق الانتصار قبل اعتراض العالم على المجزرة، ففي الوقت الذي كان مضمون القرار الأممي المقدم من الكويت والسويد يخضع لإعادة الصياغة الروسية التي أفرغت بنوده الأساسية من محتواها، وحولته إلى مناشدة غير واضحة الآليات لوقف الحرب على الغوطة، كان مجلس الأمن القومي الروسي يضع اللمسات الأخيرة على خطته لاحتلالها، فالحاجة الروسية - الإيرانية المشتركة إلى الانتهاء من معضلة الغوطة، باتت ملحة من أجل إعادة صياغة التوازنات السياسية والميدانية على الساحة السورية، بعد أن ثبتت واشنطن سيطرتها على مناطق شرق الفرات الغنية بالثروات، ووضعت يدها على سوريا المفيدة اقتصادياً، واستخدمت القوة المفرطة بوجه كل من يحاول عبور نهر الفرات، فأصبح الرد الإيراني - الروسي المشترك على الحضور الأميركي في المشهد السوري يتطلب تأمين توازن جيو - استراتيجي مع واشنطن، يستدعي تحقيق نقلة ميدانية بالوصول إلى سوريا المفيدة جغرافياً، التي تمتد من سواحل البحر المتوسط إلى الحدود اللبنانية والأردنية والفلسطينية، تتيح للقائمين على هذا الحيز الجغرافي التحكم في استقرار بيروت وبغداد ومناكفة عمّان وابتزاز تل أبيب. فسوريا المفيدة جغرافياً ستعيد عقارب الساعة الروسية في سوريا إلى التوقيت الإيراني، الذي يسمح لطهران باستعادة زمنها السوري الذي خسرته جرّاء التدخل الروسي المباشر في الصراع على سوريا خريف 2015، والذي اعتبر نهاية لاستفراد طهران بقرار دمشق، بعدما انتقلت المعادلة إلى ما يمكن وصفه بـ«إيران الروسية في سوريا»، لكن طهران التي على دراية كبيرة بالوضع السوري تدرك أهمية الإبقاء على ما تبقى من سوريا ضمن دائرة الاهتمام الدولي، الذي يؤمّن لها التواصل مع عواصم القرار الدولي وعدم تجاهلها على طاولة المفاوضات، وذلك عبر دفع روسيا إلى خيار المواجهة المباشرة الذي يعيد صياغة التوازنات من جديد على قاعدة «روسيا الإيرانية في سوريا». ففي الوقت الذي كان فيه مجلس الأمن يناقش استجداء موسكو من أجل إدخال مساعدات إنسانية، كان مجلس الأمن القومي الروسي يلوح بتكرار سيناريو حلب من جديد، لذلك فقرار الدخول إلى الغوطة لا رجعة عنه، فهو يعني تجريد المعارضة مما تبقى لها من أوراق القوة، وإنهاء تهديدها العاصمة، وبمثابة فرصة للنظام لكي يعلن انتصاره وينسحب من كل أنواع المفاوضات، لذلك تبنت موسكو تفسيراً خاصاً لقرار مجلس الأمن رقم «2401» تستغله من أجل تصفية فصائل المعارضة كافة، حيث عدّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن «قرار مجلس الأمن لم يشمل (جيش الإسلام) و(أحرار الشام) بوصفهما من التنظيمات الإرهابية»، إضافة إلى قرار وزارة الدفاع سحب الاعتراف ببعض الفصائل العسكرية المشاركة في «آستانة».

وعليه، فإن «روسيا الإيرانية في سوريا»، هي التي ستتحمل العبء الأكبر في المواجهة المقبلة ضد الغوطة، ومن أجل ذلك أرسلت موسكو أحدث طائراتها التي برزت عيوبها الكبيرة والخطيرة، وأفضل ما عندها من دبابات، واستقدمت مقاتلين تابعين لميليشيات الأسد تقودهم أسماء عسكرية سورية تعمل موسكو على إبرازها وتلميعها، بدلاً من ميليشيات إيرانية لا تخضع لسلطتها. إلا أن الحضور الروسي المكثف في معركة الغوطة، يجعل موسكو، أكثر من أي وقت مضى، أقرب إلى القراءة الإيرانية للحل السوري القائم على التمسك بالخيار العسكري بوصفه الرد الأنسب لموسكو بعد إفشال خططها السياسية للحل؛ من آستانة الكازاخية إلى سوتشي الروسية.

في الغوطة يسقط نهائياً الرهان على فصل موسكو عن طهران، وتتلاشى فكرة الفصل بين زمنين؛ واحد روسي، والآخر إيراني، وهو ما ينعكس على رأس النظام وتركيبة الحكم التي بشر بها الصحافي البريطاني روبرت فيسك، السوريين، وهي أن التفكير بغير آل الأسد جريمة تعاقب عليها تقاطعات المصالح الدولية، وتتعارض مع القواسم المشتركة الروسية - الإيرانية - الإسرائيلية التي تؤمن للأسد البقاء في قصر «المهاجرين»، كما يشكل استمرارها طمأنة للغرب المطالب شكلياً لموسكو بتقليص نفوذ إيران في الوقت الذي أصبحت فيه موسكو أكثر عناية بهذا النفوذ.

على المستوى الإقليمي؛ من بيروت إلى بغداد وصولاً إلى اليمن، حيث استخدمت موسكو حق الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع قرار بريطاني دعمته واشنطن وباريس ينتقد تصرفات إيران في اليمن، مما لا شك فيه أن توقيت استخدام هذا الفيتو في اليمن، وقرار دعم إسقاط الغوطة، يشيران إلى بوادر مواجهة مقبلة في المنطقة ترتسم بملامح إيرانية.

اقرأ المزيد
٢٨ فبراير ٢٠١٨
سقوط الأمم المتحدة في سورية

لم تنجح الأمم المتحدة في تقديم معالجة للمسألة السورية طوال سبعة أعوام، وبقيت طوال هذه الفترة تتأرجح بين الفشل والأكثر فشلا، وتحولت إلى ساحة للمرافعات الدبلوماسية واستعراض القوة، الأمر الذي انعكس في صورة كبيرة على سمعتها ورصيدها ودورها الذي قامت من أجله، وخصوصا تقديم المساعدة للمدنيين في ظروف الحرب.

لم تنته المأساة السورية بعد، حتى نجري عملية تقييم شاملة للآثار التي تركها غياب مؤسسات الأمم المتحدة خلال مجريات واحدةٍ من أعقد الأزمات، وأكثرها حدة في تاريخ المنظمة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن الحصيلة حتى الآن تكفي للحكم على مصداقية الأمم المتحدة على نحو سلبي، ووضعها أمام حكم تاريخي قاس، لم يسبق لها أن وجدت نفسها حياله.

سبعة أعوام والأمم المتحدة في حالة تراجع دائم، كأنها قرّرت أن تتقدم نحو الوراء. وبدلا من أن تولي القضية اهتماما يرتقي إلى مستوى خطورتها، فإنها اكتفت بإدارة الأزمة وتصريفها. وقبل الخوض في أسباب هذه الوضعية المزرية التي قبلت أن تتعايش معها، وتتقنها حتى الرمق الأخير، يستدعي السياق سرد ملاحظتين مهمتين. الأولى أن الأمم المتحدة لم تكن في موقع المبادر طوال الأزمة السورية، وعلى الرغم من أنه صدر عنها قرارات وتوصيات كثيرة، إلا أنها لم تكن منطلقة من تقدير دقيق للموقف، والبناء عليه من أجل إيجاد مخرجٍ من الطريق الذي كان يضيق في كل يوم.

الملاحظة الثانية أن الأمم المتحدة انتدبت شخصياتٍ لا تتمتع بكفاءات قيادية، قادرة على تحمل المسؤولية حتى النهاية، فالأمين العام السابق، بان كي مون، كان شخصية ضعيفة جدا، وتصرّف كأنه موظف لدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكانت غاية طموحه إرضاء هذه الدول مجتمعة. وقد انسحب هذا الوضع المائع على أسلوب التعامل مع القضية السورية، وأسهم في تحديد نوعية الرجال الذين تولوا مهماتٍ ذات طابع مفصلي في فريق الأمين العام. وينطبق هذا الأمر على المبعوثين الدائمين إلى سورية، من كوفي عنان والأخضر الإبراهيمي وحتى ستيفان دي ميستورا الذي يشكل نموذجا فاضحا عن هزال الأمم المتحدة ومحدودية دورها وحضورها، ويصلح هذا الرجل للعب دور تصفية نزاعات، وليس حل نزاعات، ويكفيه أنه استمر في موقعه منذ منتصف عام 2014، ولم ينجح حتى في إدخال شحنة حليب ودواء إلى منطقة محاصرة، ومع ذلك يستمر في تنظيم استعراضات بهلوانية مفتوحة، أدت إلى تمديد الوقت أمام عملية القتل.

تتحمل روسيا والولايات المتحدة المسؤولية الرئيسية في منع الأمم المتحدة من لعب دورها في معالجة الأزمة السورية، وبالتالي تدمير مصداقية المنظمة الدولية. وفي حين يتسم الموقف الروسي على مسرح الأمم المتحدة بأنه هجومي، فقد كان نظيره الأميركي انهزاميا في لحظات ذات طابع مفصلي، مثل الموقف من عملية قصف الغوطة بالسلاح الكيميائي في أغسطس/ آب 2013، حيث شكل التخاذل الأميركي عن محاسبة النظام السوري، بسبب ارتكابه جريمة ضد الإنسانية، مدخلا لإفلات هذا النظام من العقاب من منظور الأمم المتحدة، الأمر الذي أعطى روسيا سلاحا قويا تناور به، منذ ذلك الحين، إلى حد اختطافها مجلس الأمن الذي استخدمت فيه الفيتو 12 مرة لمنع إدانة النظام السوري، ووقف جرائمه.

لو كانت الأمم المتحدة جادّة لكانت أولت المسألة السورية اهتماما مختلفا، شبيها بأزماتٍ أخرى، مثل رواندا، وفي هذه الحالة فاتها أن تدرس جديا إرسال قوات دولية لوقف قتل المدنيين.

وهناك ملاحظة أخيرة، هي أن تهاون الأمم المتحدة في سورية شجع روسيا على الاستهتار بها، وتعطيل قراراتها في أماكن أخرى، ليس في أوكرانيا فحسب، بل حتى في اليمن وليبيا.

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٨
بالحبر السوري الأحمر

لا تستطيع روسيا احتمال الفشل في سوريا. ألقت بكل أوراق هيبتها هناك. الفشل يعني فشل مشروع الثأر الكبير الذي حمله فلاديمير بوتين إلى الكرملين وأخفاه في البداية تحت ابتسامته بانتظار التوقيت الملائم للتنفيذ. الثأر من القوى التي دفعت الاتحاد السوفياتي إلى متاحف التاريخ. ومن عالم القوة العظمى الوحيدة. ومن تحريك حلف الأطلسي بيادقه قرب حدود الاتحاد الروسي. ومن الثورات الملونة. والمجتمع المدني. وكل أشكال القوة الناعمة التي لا تحتاج إذناً لعبور الحدود.

لا تستطيع روسيا احتمال الهزيمة على الملعب السوري. الأمر يتعلق بموقعها. وهيبة جيشها. وقدرة دبلوماسيتها. وصورتها كحليف موثوق يمكن الاتكال عليه في الشدائد. الفشل يعني انهيار حلم استعادة الموقع وإرغام أميركا على التعامل بندية مع البلاد التي خرجت مجروحة من الركام السوفياتي.

والنجاح في سوريا يعني بالنسبة إلى روسيا فرض حل سياسي وفق تصورها. وهذه المسألة ليست سهلة أو بسيطة. وكلما تعثرت محاولات موسكو فرض الحل الذي يلائمها تضاعفت رغبتها في الذهاب أبعد بحثاً عن انتصار يحسم المعركة في الميدان. والحسم الكامل يصطدم بصعوبات كثيرة فضلاً عن أنه مكلف. وتضاعف قلق موسكو بعدما ظهر في الأشهر الأخيرة أن واشنطن غادرت سياسة مبايعة الحل الروسي لتعود إلى سياسة الإمساك بأوراق على الساحة السورية نفسها.

ربما هذا ما يفسر موقف روسيا خلال المفاوضات المضنية التي سبقت صدور قرار مجلس الأمن الأخير حول سوريا. تشعر موسكو أن الوقت الذي عمل في السابق لمصلحتها بات يلعب ضدها. رسالة وزير الخارجية سيرغي لافروف كانت صريحة. لم يستبعد تكرار سيناريو حلب في الغوطة الشرقية. إنه يضع القوى المعارضة للنظام السوري أمام خيار وحيد: الاستسلام والتوجه إلى سوتشي.

هذا لا يعني أبداً أن روسيا لم تحقق مكاسب كبرى عبر الساحة السورية. ثمة من يعتقد أن الطباخ الروسي استخدم النار السورية لفرض تغييرات أساسية على المشهد الدولي نفسه. أظهرت فصول المأساة السورية أن عالم القوة العظمى الوحيدة لم يعمر طويلاً. نفذت روسيا تهديدها بأنها لن تسمح بأن تتكرر على المسرح الدولي مشاهد شبيهة بتلك التي أدت إلى اقتلاع نظام صدام حسين ولاحقاً نظام معمر القذافي. نفذت أيضاً تهديدها بأنها لن تسمح للغرب بالإفادة من التباس متعمد في قرارات مجلس الأمن لاستخدام القوة ضد نظام يدرج في خانة أعداء الغرب كما حصل في ليبيا.

في بدايات الفصول الدامية في سوريا استقبل بوتين زائراً عربياً. قال للزائر إن كثيرين يخطئون إذ يعتقدون أننا ندافع في سوريا عن رجل أو أسرة. قال أيضاً إن طول الإقامة في السلطة يؤدي إلى تراكم الأخطاء. لكنه شدّد على أن مسألة من يحكم سوريا يجب أن يحسمها الشعب السوري نفسه لا أن تُحسم من الخارج سواء بالقوة الفظة أو القوة الناعمة. ويمكن القول إن بوتين نفذ تهديداته في هذا المجال أيضاً.

أظهر بوتين خلال الأزمة أنه لا يتعرض لأي ضغوط جدية من الداخل. فقبل أن ينطلق إلى الخارج لتنفيذ برنامجه كان أحكم السيطرة على الداخل. أعاد ترميم الجيش الأحمر وروحه وأسلحته. أحكم قبضته على عالم الأعمال وأحكم قبضته أيضاً على الإعلام. ليس لديه رأي عام يقلقه. وضعه يختلف تماماً عن الزعماء الغربيين. الصور المأسوية الوافدة من سوريا لم تحرجه. يسارع إعلامه إلى تصوير المستشفيات المدمرة ضحية للإرهابيين حتى ولو تهدمت بفعل قذائف روسية أو سورية.

استثمر بوتين إلى أقصى حد ما لحق بصورة أميركا بعد قصة الخط الأحمر الشهيرة. كان موقف أوباما بداية انحسار الدور الأميركي في سوريا. اليوم تراهن موسكو على معركة تبدو قريبة. واضح أن إيران تضاعف ضغوطها على حيدر العبادي ليطالب بخروج الأميركيين الكامل من العراق. خروجهم من هناك سيعجل أيضاً بخروجهم من سوريا المرتبط أصلاً بوجودهم في العراق لمحاربة «داعش».

نجح بوتين أيضاً في إظهار محدودية دور حلف الأطلسي. لا رغبة لدى الحلف في الانخراط في الحريق السوري. ثم إن الجيش الثاني في الحلف لناحية الحجم هو الجيش التركي الذي تشارك قيادته السياسية في رعاية عملية سوتشي. الجيش التركي يقاتل في عفرين بعد الحصول على ضوء أخضر روسي وتركيا الأطلسية ستحمي أجواءها بصواريخ وافدة من الترسانة الروسية.

أنهك بوتين أيضاً مجلس الأمن نفسه. ممثله هناك يحمل سيف الفيتو ويتربّص بأي قرار يمكن أن يعرقل البرنامج الروسي في سوريا. لا يسمح المندوب الروسي بمرور قرار إلا بعد استنزاف مضمونه وتضمينه عبارات تبقي للقوة الروسية والسورية حق التحرك عسكرياً «ضد الإرهابيين». لا شك في استمرار وجود مجموعات إرهابية على الأرض السورية لكن روسيا التي تسعى إلى ضرب هؤلاء تسعى في الوقت نفسه إلى تطويع ما تبقى من المعارضة السورية لإرغامها على السير في الحل الروسي الذي يحرص حتى الساعة على عدم الانفصال عن البرنامج الإيراني في سوريا مكتفياً بتفهم قلق إسرائيل على «مصالحها».

يذهب دبلوماسي عريق إلى أبعد من ذلك. يرى أن ما يجري على أرض سوريا هو أكبر من سوريا. وأن مجريات المأساة المتمادية تحمل في طياتها تشكل ملامح نظام دولي جديد يعيد للقوة مكانها البارز في العلاقات الدولية. ويقدم مصلحة الاستقرار على حسابات التغيير والديمقراطية وحقوق الإنسان وتطلعات المجتمع المدني. يلاحظ الدبلوماسي تراجع منظومة الأمم المتحدة وتراجع القيادة الغربية للعالم وتراجع دور مجموعات الضغط الشعبية وتأثير المظاهرات والإعلام. يعتقد أن سوريا قد تكون منطلقاً لتبلور نظام إقليمي جديد. ويعتبر أن المأساة هي أن هذه الملامح ترسم بدم المدنيين السوريين. ملامح جديدة تكتب بالحبر السوري الأحمر.

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٨
الغوطة محطة حربية

تقول الأخبار الواردة من الغوطة الشرقية في ريف دمشق إن خمسة محاور هي مرتكزات هجوم جيش النظام السوري عليها، هذه المحاور هي مدن وقرى كانت قبل سنين مرادفة للربيع والخضرة والمنتجات الحقلية الصيفية، وأصبحت اليوم مرجعاً لنشرات الأخبار التي تذيع أنباء الحصار والقتل والدمار.. يمهد النظام لهجومه على الغوطة بقصف عنيف بالطيران والبراميل المتفجرة.

قد يكون قرار مجلس الأمن الذي فرض وقفاً للعمليات الحربية في سورية مدة شهر جزءاً من التمهيد المدفعي والغارات الجوية التقليدية التي تسبق الهجوم البري، فلم تمضِ ساعات على القرار، حتى كانت الوحدات البرية ومدرعات النظام تهاجم الخاصرة الدمشقية التي تسمى الغوطة الشرقية، وتختار المناطق البعيدة نسبياً عن دوما عاصمة هذا القطاع، هناك حيث بلدتا النشابية وحزرما. يحاول النظام اقتطاع جزء من الغوطة، قبل أن يبدأ بقضم الجزء التالي وفق تقليد عسكري مكرّر يستخدمه جنراله المفضل سهيل الحسن. وبالإضافة إلى هذا الجهد العسكري الذي تُستعمل فيه كل صنوف الأسلحة، هناك الجانب السياسي والإنساني وظروف الحصار التى تساهم في سقوط المناطق.

استقرت المعارضة المسلحة في الجيب الواسع شرق دمشق، وسيطر جيش الإسلام على مدينة دوما والقرى القريبة منها. ومن هناك، توسعت المساحة الجغرافية التي يسيطر عليها وزاد عدد قواته، حتى بات يقيم استعراضاتٍ عسكرية حاشدة. أما القسم الجنوبي، فوقع تحت إدارة فيلق الرحمن. لا يتمتع هذان الفصيلان بحسن جوار مع بعضهما، على الرغم من صغر الرقعة الجغرافية التي يرتكزان فوقها، فلطالما نشبت المعارك بينهما، إلى جانب محاولة كل منهما استقطاب الجماعات الصغيرة المسلحة الموجودة في المنطقة. أما حرستا فتستقر فيها حركة أحرار الشام التي تشكل هدفاً مفضلاً للنظام في المرحلة الأولى، وهي تمثل أحد المحاور الخمسة التي باشر النظام بالهجوم عليها، فهناك وجودٌ صغير لجبهة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وهو فصيل يعتبره الجميع إرهابياً، ما قد يشكل حجةً يستفيد منها النظام عند تنفيذ هجومه، لأن القرار الدولي بوقف النار يستثني التنظيمات الإرهابية.

تطوّق قوات النظام الغوطةَ الشرقية بشكل شبه محكم منذ مدة طويلة، ما يفرض على الموجودين في الداخل إرهاقاً وجوعاً، سواء كانوا من المقاتلين أو المدنيين، وتعرّضت المنطقة بأسرها إلى هجومٍ منتقى بعناية يلتقط النقاط الموجعة التي تحوي المستشفيات ونقاط التجمع والأسواق، فتهطل عليها القذائف والبراميل بشكل منتظم، بقصد رفع عدد الضحايا المدنيين، وإشغال الموجودين هناك بأعمال الإغاثة، ما يعني خروج العدد الأكبر من المقاتلين عن القدرة على خوض المعركة، ثم سيعمد النظام إلى حرب القضم، فيعزل المناطق الصغيرة، ويبدأ بالأحزاب أو التجمعات التي تعد إرهابية، فيسرح ويمرح هناك، وعينه على مدينة دوما، وخلال الطريق إليها لن يكترث بشيء، وسيغمض المجتمع الدولي عينيه، عما يُهرس من الضحايا والأبرياء.

الغوطة الشرقية محطة حربية جديدة، تأتي بعد عدة محطات حزينة ودامية، وذات طبيعة تطهيرية أيضاً، بدءاً بالقصير إلى داريا، ثم حلب وباقي المدن والبلدات، ولن يكون مصير الغوطة شاذّاً عما أصبح مألوفاً، فقد تنتهي الأمور بمصالحة ورحيل، أو بتشديد الخناق، ومزيد من الضحايا الأبرياء، وربما مزيد من القرارات الدولية التي تشاكل قرار وقف إطلاق النار الأخير. وفي نهاية المطاف، لا بد من مشهد نزوح جديد إلى وجهةٍ باتت معروفة. يحقق جيش النظام النصر على بنى خالية ونصفها مهدّم، ويزيد عداد انتصاراته على مهيضي الجناح، والمقهورين في مناطقهم، ويمضي المطرودون إلى الشمال، وفي قلوبهم حرقة تكفي لإشعال بركان، لا يخطط النظام حتى الآن لاتقاء ارتداداته التي لن ينفع في منعها ما يجري من تمثيلياتٍ سياسيةٍ في جنيف وأستانة، وأخيراً في سوتشي.

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٨
الحل الروسي والمعركة الفاصلة

ليس هناك ما هو أشد خطرا على العاملين في الشأن العام من الثقة بغيرهم. في السياسة، الثقة بالغير مصيدة يقع فيها الذين يجهلون قيمة المبادئ، باعتبارها مسائل تحتمل الشك، كما تحتمل اليقين، فإن رأينا فيها اليقين وحده سقطنا في بلاهة الغفلة، وافتقرنا إلى مناعة الشك التي يجب أن تعين حجم ثقتنا بالآخرين وجدواها، وخصوصا الذين نحبهم منهم، لأنهم بثقتنا بهم يكونون أقدر الناس على خداعنا وخيانتنا.

تنتقل القضية السورية اليوم من طورٍ تم فيه تجاهل القرارات الدولية، من خلال تفاهمات جرت في اجتماعات أستانة، وأنتجت اتفاقيات خفض التوتر بضمانات روسية/ إيرانية/ تركية، إلى طور جديد من تفاهمات جديدة، تبطل القرارات الدولية وعملية السلام نهائيا ومن أساسها، وتدور حول:
ـ تفاهم روسيا وإيران وتركيا: الدول المتخوفة من سياسة الانخراط الأميركية التي أعلنت عنها "لا ورقة تيلرسون"، وزير خارجية الولايات المتحدة، على حل نهائي، في صورة تقاسم وظيفي في سورية، يتم تحت إشراف روسي، بحيث تكون هناك منطقة تركية، تدار بالتفاهم مع الكرملين، ومنطقة روسية تدار عسكريا وسياسيا بالتفاهم مع إيران، بينما تترك منطقة شرق الفرات لأميركا التي يعتقد صغار العقول أنها تتوضع فيها من أجل ثرواتها، ولا يرون أنها بديل العراق الاستراتيجي الذي لن يتخلى عسكر واشنطن عنه في أمد قريب، بسبب موقعه المتحكّم بتركيا وإيران والخليج وشرق المتوسط الذي يتيح لهم الانتقال الفاعل إلى معركةٍ ضد إيران، في حال قرّروا خوضها، ويعطيهم القدرة على التلاعب بالأوضاع الداخلية لإيران وتركيا وسورية والعراق، بواسطة الورقة الكردية التي لا يعرف أحد إلى اليوم مآلها النهائي، وكيف ستستخدم، علما أن تمرير المخطط الروسي/ الإيراني/ التركي لن يزعج البيت الأبيض، إذا كان لن يأخذ صورة تحالفٍ يلزم الدولتين بالوقوف إلى جانب طهران، لمنع إخراجها من المشرق العربي.

ـ فهم الروس درس المؤتمر السوري الذي عقدوه في سوتشي، وأيقنوا أن حلهم المنفرد مستحيل، لافتقارهم إلى أوراقه، وتعارضه مع القرارات الدولية، بما في ذلك قرار مجلس الأمن 2254: قراءتهم التي زوروا من خلالها وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، واستخدموه طوال العام الماضي، لقطع الصلة بين ما ينفذونه على الأرض والوثيقة والقرار اللذين يعترفان، بكل وضوح وصراحة، بحق الشعب السوري في التخلص من بشار الأسد ونظامه، والانتقال إلى النظام الديمقراطي. قررت موسكو تطبيق حل مضاد للقرارات الدولية، يتم تحت إشرافها، على أن تورّط تركيا فيه، وتتعاون مع طهران في بلورة دور جديد لها، يبقى على وظيفته العسكرية/ الأمنية بالقدر الذي ستحتاج موسكو إليه، يضع حرسها الثوري وجموع مرتزقتها تحت تصرفها، ويجنبها المصير الأفغاني عن طريق تقييد تكلفة حربها البشرية.

سيريح هذا الحل روسيا من حمل العبء الأكبر من المسألة السورية بمفردها، وسيقنع أقوى دولتين إقليميتين في الشرق الأوسط بالتحالف معها، والدفاع عن مصالحها ومواقفها، وسيضاعف التحدّي الذي ستواجهه واشنطن، في حال قرّرت إيجاد حل يطبق وثيقة جنيف وقراري مجلس الأمن 2118 و2254، وسيخيّرها بين متاعب الارتطام المكلف بالقوى الثلاث وتركها تنعم بشمس الجزيرة وموقعها الاستراتيجي الذي لن ينازعها عليه أحد، ما دام وجود عسكرها فيها يتكامل مع وجود عسكر روسيا في غيرها من مناطق سورية، ويجعل منها المنطقة الثالثة من مناطق التقاسم الوظيفي الذي ستخضع سورية له، بعد القضاء على الفصائل، عدا الموجودة في المنطقة التركية التي ستستخدم قوات رديفة لجيش أنقرة، ولم يعد دورها الرئيس القتال من أجل الثورة أو في إطارها. في هذا الوضع، سيكون الأسد جحش الفداء الذي سيقدّم ترضية للسوريين، وسيمكن التخلي عنه ورميه، بينما سيقبل ما سيبقى من نظامه هذا الحل، على الرغم من أنه سينقله من تحت إبط بوتين إلى تحت حذائه.

ـ سيضع الحل الروسي حدا للقرارات الدولية وللحقوق التي تكفلها للسوريين، وسينهي نهائيا الحاجة إلى مفاوضات سلام، كانت روسيا وإيران قد عطلتها ستة أعوام، غزت روسيا وإيران خلالها بلادنا، وفتكتا بشعبها أشد الفتك؛ ودمرتا عمرانها. هل ستقاوم واشنطن إلغاء القرارات الدولية، والحل الروسي/ الإيراني/ التركي؟ أعتقد أنها لن تفعل، في حال تعاونت موسكو، كما هو منتظر ومؤكد، في حماية أمن إسرائيل، وحصرت دورها في سورية بالعلاقات العادية التي تقوم عادة بين دول مستقلة، وأنهت دورها العسكري/ الأمني، في ما لا يحتاج الكرملين إليه منه، وآثرت البقاء على الحياد، حيال سياسات واشنطن من طهران. إلى هذا، لا يحول الحل الروسي دون تحسين العلاقات الأميركية/ التركية، إن أراد البيت الأبيض ذلك، ولا يحول دون استخدامه الورقة الكردية للضغط على أنقرة، ومن دون أن تضر ضغوطها بموقع موسكو في سورية، أو تثير مشكلة بينها وبين واشنطن، حتى في حال رغبت الأخيرة في تقليص علاقات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، لأنها ستستهدف الأول، لا الأخير.

ـ تقف اليوم في مواجهة هذا الحل غوطة دمشق الشرقية، وجزء من ريف دمشق الجنوبي، وريف حمص الشمالي، ومحافظات الجنوب. هذه المناطق خاضعة جميعها لضمانات روسية/ إيرانية، وتاليا لغدر روسي/ إيراني، نراه في التحضيرات للهجوم الحاسم على الغوطة، والإنذار الذي وجهه ضباط روس كبار إلى ريف حمص الشمالي وحوران، ونصه باختصار: قبول استبدال اتفاقيات خفض التصعيد بمصالحات وطنية مع الأسد، أو الحرب الشاملة والإبادية. يعني هذا أن الهجوم على الغوطة جزء من حرب التصفية النهائية للفصائل خارج المنطقة التركية التي سيعيد القضاء عليها إلى السيطرة الروسية والإيرانية، بالشروط التي ذكرتها، أي أن معركة الغوطة لن تكون آخر المعارك، ومشاركة المناطق المهدّدة في الدفاع عنها هو، في العمق، دفاع عن نفسها وعن مواطنيها، والمحافظة على الغوطة الشرقية ستكون صعبة ومكلفة جدا، إلا أنها ستعني فشل المخطط الروسي، وبداية انتصار الثورة وخروج سورية من محنتها. بكلمات أخرى: لا مفر من فتح النار بأسلحة جميع مقاتلي المناطق التي تتفرج اليوم على ذبح الغوطة، وستذبح غدا بالسكين التي تستخدمها روسيا وإيران في الغوطة اليوم، فلا عذر لمن يقف جانبا، من أقصى شمال وطننا إلى أقصى جنوبه، ومن شرقه إلى مغربه، ولتهب جميع القوى إلى القيام بواجبها من دون تردّد أو إبطاء، ولتخض معركة إنقاذ الثورة اليوم، كي لا تخوض معارك هزيمتها غدا، بعد الغوطة، وليدرك أصحاب القرار في الفصائل أن فشل روسيا وإيران في كسر شوكة الغوطة لن يجنّبهم المصير الأسود الذي ينتظرهم، ما دام فشلهم أمام أبطال الغوطة سيدفعهم إلى تغطيته بانتصاراتٍ يحققونها خارجها، في الأمكنة التي ما تزال بيد الفصائل، فالغوطة لا تدافع عن نفسها اليوم، بل هي تستميت في الدفاع عنهم، وعن الشعب السوري في كل مكان داخل الوطن وخارجه. وليكن معلوما أن منع المعتدي الروسي من استهداف بقية مناطق الثورة وقواها سيتوقف على حجم الهزيمة التي ستنزلها به قوى الفصائل المقاتلة، بتآزرها في المعركة الفاصلة الدائرة اليوم في الغوطة، وبانتقالها من التبعثر والتشتت إلى وضعٍ جديد ونوعي، من الإجرام بمكان أن تنفك أو تتراخى عراها بعده، ما دمنا في معركةٍ سيتوقف مصير وطننا وشعبنا، ومصير كل فرد منا، عليها. ولا خيار لنا غير الانتصار فيها، إن كنا نريد ألّا نباد ونذل عقودا كثيرة مقبلة.

ـ لم يعد لدينا اليوم من نعتمد عليه غير أنفسنا. هذا ما كان واضحا بعد أشهر الثورة الأولى، وما دفعنا ثمنا فادحا لتجاهله، فهل نتصرّف، أخيرا، بوحي من هذه الحقيقة التي تفقأ العين، وكلفنا ابتعادنا عنها مئات آلاف الشهداء ودمار معظم وطننا، أم نواصل الرضوخ للغفلة التي قوّضت تماما ثقة قطاعات واسعة من شعبنا بعدالة مطالبه، ونتخلص من أي طرفٍ يغذي انقساماتنا أو يغدر بنا مثل "داعش" وجبهة النصرة: الاحتياطي الميداني للذين يهاجمون الغوطة اليوم، ويتجاهلون، في المقابل، دواعش الحجر الأسود والمخيم، ويقصفون ضاحية دمشق الجنوبية وحوران، لحمايتهم من الثوار، والإبقاء على شرورهم.

ـ يطالب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الدول، وخصوصا منها تركيا، بإقامة علاقات وإجراء مفاوضات مع الأسد، ويتحدث وكأن قرار الكرملين بالحسم قد نفذ، أو كأن الثورة هزمت، وانتهى أمرها. يتحدث لافروف وكأننا دخلنا زمن ما بعد ثورة الحرية، ليكن جوابنا: بل إننا في الطريق إلى زمن ما بعد النظام والاحتلالين، الروسي والإيراني، زمن الشعب الذي قرّرتم إبادته، وقرّر مواصلة سيره إلى حريته وكرامته، على جثة أوهامكم.

اقرأ المزيد
٢٧ فبراير ٢٠١٨
بوتين بين عبئي الأسد والنظام الإيراني

منذ تدخل روسيا في سورية لحماية بشار الأسد وقصف الشعب السوري، هرول العالم إلى فلاديمير بوتين للتحدث معه بعدما فرض نفوذه في منطقة الشرق الأوسط عبر القتل والقصف تحت عنوان مكافحة الإرهاب. ما يجري في الغوطة يشبه ما جرى في حلب وغيرها من المدن السورية، هو إبادة جماعية لمدنيين من أطفال وعائلات بأسرها وأطباء إضافة إلى تدمير المستشفيات وإعاقة نقل الجرحى.

وزار أمس وزير الخارجية الفرنسي جان أيف لودريان روسيا لكن لا يُنتظر ظهور أي أمل بنتائج هذه الزيارة. ذلك لأن القيادة الروسية أثبتت أنها غير صادقة في ما تقوله لجميع المسوؤلين الذين يأتون إليها. فقد وافقت روسيا على قرار مجلس الأمن الذي يطالب بوقف القتال مدة ٣٠ يوماً لإتاحة دخول المساعدات الإنسانية. ثم «تكرّم» بوتين وقال عندما لم يتوقف القتال إنه سيوقفه لمدة خمس ساعات في اليوم لإخراج المدنيين. ولكن ليس لإدخال المساعدات الإنسانية من دون قيد وشرط. لماذا ٥ ساعات؟ لا أحد يعرف.

وروسيا المتحالفة مع إيران في سورية لحماية الأسد، قررت أيضاً حماية حليفتها إيران من الإدانة في مجلس الأمن لتزويدها الحوثيين في اليمن صواريخ باليستية. روسيا تحارب الشعب السوري من الجو فهي تقصف وتساعد طيران الأسد على إبادة شعبه ومشاهد الأطفال الجرحى والقتلى مروعة. في حين أن الأسد لا يساعدها حتى في مساعي حل روسي مثلما تبين في سوتشي. بينما تحارب إيران على الأرض السورية عبر حزب الله وغيره من اللبنانيين وعبر كوادرها العسكرية التي يقودها قاسم سليماني. والمنطق يقول إن ليس من مصلحة روسيا أن تتحالف مع إيران لأن التنافس بين قوة في الجو وقوة على الأرض سيكون لمصلحة القوة على الأرض عاجلاً أم آجلاً خصوصاً أن القوات الإيرانية تعتمد على شباب الشيعة اللبنانيين الذين يعرفون الأرض السورية الذين دربتهم حكومتها وأسست مع إيران حزبهم اللبناني الذي يدعي المقاومة في الثمانينات في عهد الأسد الأب.

إن هيمنة روسيا على بلد مدمر ومنقسم أفرغت مدنه من سكانها الأصليين قد تحول موقع روسيا إلى قوة احتلال أجنبية لا تعرف ماذا تفعل ببلد يصعب إيجاد من يعيد إعماره مع نظام ورئيس خربه وهجر الملايين منه وملأ الدول المجاورة بلاجئيه. والتحدي الآخر لروسيا هو أن الوجود الإيراني عبر حزب الله فيه، أكثر تأثيراً من الاحتلال الروسي. صحيح أن انخراط القوات الروسية في الحرب السورية أتاح لبوتين أن يفرض نفسه كلاعب أساسي في وجه القوة العظمى الأميركية التي منذ أوباما حتى اليوم لم تهتم لا بما يجري داخل سورية ولا بمصير الملايين السوريين الذين غادروا بلدهم، ولكن على المدى المتوسط والطويل ستجد روسيا نفسها في الفخ السوري بين نظام إيراني يريد الهيمنة وحده ونظام أسد يعاني من الاهتراء لكثرة الدمار والبؤس والقتل والمجازر والتعذيب. فبوتين يخطئ التقدير في مصالحه في سورية بسبب نشوة انتصاره التي هي فقط نتيجة التقصيرين الأميركي والغربي عموماً.

واليوم بات البعض في الإدارة الأميركية على قناعة أن الحل في سورية لا يمكن إلا أن يكون نتيجة حوار مع روسيا ما يعني تنازلاً كلياً لما يريده بوتين المفتقر إلى الصدقية. فكم هي المرات التي أعلن بوتين رسمياً أن القوات الروسية تغادر سورية مع احتفالات لتأكيد هذه الحيلة الكبرى؟ إن اللغة الدبلوماسية مع بوتين غير مفيدة. فقد حاولها أوباما عندما عقد الصفقة الشهيرة معه حول السلاح الكيماوي السوري وزعم بوتين أن النظام سيتخلص من السلاح الكيماوي. والآن كثر الكلام عن استخدام النظام السوري هذا السلاح والجميع يتحدث عن خطوط حمر لو تأكد ذلك.

لكن القتل بالكيماوي وبقصف الطيران والمجازر متساو. والحرب السورية فضيحة العالم الحر المستسلم لأنظمة مجرمة تحت مظلة القيصر الروسي الذي سيجد أن غطرسة الهيمنة قد تنقلب عليه عاجلاً أم آجلاً وأن أصدقاءه من الأسد إلى النظام الإيراني سيصبحون أعباء عليه إذا استمر في هذا النهج.

اقرأ المزيد
٢٦ فبراير ٢٠١٨
مشاهد من الغوطة!

تماما كذلك المشهد في فيلم "ماتريكس"، الذي تهبط فيه الكاميرا من أعلى لترى ممثلين جالسين على مقعدين وسط خرائب وأنقاض على مدى البصر هي كل ما تبقى من مدينة نيويورك في القرن الثاني والعشرين.

هكذا بدت لي الغوطة وأنا اأشاهد بعض الصور الملتقطة بعد الغارات الجوية التي تشنها الطائرات الروسية وطائرات نظام بشار.
 
خرائب على مدى البصر، وبشر معفرون بالتراب، وبقايا منازل، وأصوات طنين تنبعث من الصور، وصرخات ألم وصياح، وعربات إطفاء وعبارات سريعة غير مفهومة يطلقها رجال الدفاع المدني في حركتهم السريعة المتوترة.
 
رضيعتان وُضع جثماناهما جنبا إلى جنب، يحمل كفن كل واحدة منهما تاريخ يوم استشهادهما.

مجموعة من الأكفان المتراصة فيما تبقى من بناية ما وطفل يقف صارخا في آلة تصوير تحمل صرخاته التي لا تسمعها بكاء ومرارة على من رحلوا.

وأم تقتاد صغارها فوق أنقاض ما وحولها بشر يسيرون يعلو ملابسهم الغبار ذاته. وتلك البيوت المهدمة. وبقايا صواريخ ضخمة تقبع على الأرض وقد تمزقت جدرانها المعدنية، وسلمت حمولتها القاتلة.

وتلك الأيدي التي تمتد إلى تلك الأيدي لتلتقط تلك الأجساد الصغيرة التي نجت بأعجوبة ما من قصف ما.

ودائما ما ترى في الصور تلك الصرخات. لا تسمعها ولكنها تراها واضحة. وتلك القباب من النار التي تخرج منها ألسنة لهب غير منتظمة لتبتلع جزءا من مبنى ما بينما ترتفع فوق أنقاض المباني التي غادرتها طائرات روسيا للتو. وتلك السحب من الدخان والحجار المتهدمة والغبار الذي يعلو كل شيء. المدينة كلها مدمرة والحياة فيها تئن.
 
ومع كل ذلك الخراب الذي تراه في الغوطة، يبدو أن روسيا تخوض معركة إرادات. روسيا ومن بعدها بشار وما تبقى من نظامه يخوضان معركة إرادات مباشرة مع كل فرد من سكان الغوطة.

هذه مباراة شخصية بينهما وبين كل طفل وامرأة وشيخ وشاب في الغوطة. مباراة تقتنص فيها قنابل الطائرات أسماء جديدة تضمهم إلى سجل الشهداء، معركة لم تبق فيها روسيا ولا نظام بشار للسوريين شيئا، ولكن روسيا وبشار لا ينتصران.
 
وهما لا يفعلان شيئا سوى إرسال طائراتهم لتسقط قنابلها ولا شيء بعدها. فقط يقتلون الأهالي، وهما يتبادلان الضحكات الشريرة. والقتل هنا ليس لمجرد القتل، بل هو قتل لكسر الإرادة.
 
رغم كل هذا القتل، إلا أنك ترى إرادة عجيبة في تلك المدينة. هناك ذلك الرجل المغطى بالغبار الذي يصلي في مكان ما منعزل بالغوطة، ومن خلفه خرائب لا تميز منها شيئا سوى بضعة حجارة تبقت من بناية متهدمة ما، وتلك السكينة البادية على ملامحه، وهو يرفع أصبع التشهد ناظرا إلى موضع سجوده.
 
هذا المشهد الذي يجعلك توقن أن كل هذا القتل لم ينل من عزيمة أهل الغوطة. والحقيقة أنني أنظر إلى هذه المشاهد، وأتسائل هل يدرك الذين فرحوا بقصف روسيا للأحياء المدنية في سوريا الآثام التي يتحملونها مع كل روح تزهقها الطائرات الروسية؟
 
مازلت أدعو الله أن يفك أسر الرئيس مرسي كلما تذكرت كلماته في مؤتمر نصرة سوريا، ولا ريب أن كلماته كانت رسالة أمل لأهلنا في سوريا، ولا ريب أن فرض التغيير على العسكر في مصر وانتخاب رئيس إسلامي قد كبل يد نظام بشار عن القتل ولو بدافع السياسة وخشية التوازنات الإقليمية، خصوصا مع الموقف الواضح للرئيس مرسي من الثورة السورية، ولا شك أن الجميع يتذكرون أن مجزرة الكيماوي الأولى في سوريا لم تقع إلا بعد مجزرة رابعة بأيام.

اقرأ المزيد
٢٦ فبراير ٢٠١٨
سربرنيتشا جديدة في الغوطة الشرقية.. ولكن

يصف مارتن شولوف، مراسل الغارديان، ما يجري في الغوطة الشرقية، بأنه «مذبحة لا يمكن تصورها»، بينما يقول ريتشارد سبنسر في «التايمز»، إن «الأسد بقسوته يحوّل الغوطة الشرقية إلى جهنم على الأرض».

ليس هذا هو ما يصف المذبحة التي تجري في الغوطة الشرقية، وتصاعدت خلال الأيام الأخيرة، فأودت بحياة المئات؛ أكثرهم من الأطفال، وأضعافهم من الجرحى، ولا حال الجوع ونقص الأدوية. فقد قرر الطاغية أن يدمّر كل شيء، وأن يقتل بلا حساب كي يصفّي آخر معاقل الثورة في محيط دمشق.

مذبحة تتم أمام نظر العالم أجمع، فلا الذين كانوا يساندون الثورة باتوا يفعلون ذلك بسبب خلل الأولويات وبؤس النظرة السياسية، ولا العالم يأبه لما يجري ما دام بقاء النظام موضع اتفاق بين الجميع، وفي المقدمة الكيان الصهيوني الذي لا يعنيه سوى الوجود الإيراني قرب الحدود؛ في وقت يأمن للوجود الروسي، ولخيارات النظام تبعا لذلك.

هذه ثورة تواطأت عليها كل القوى الكبرى بلا استثناء، وفي المقدمة أمريكا التي ضغطت على الجميع لمنع السلاح النوعي، ولكي يُستنزف الجميع، من دون أن يسقط النظام. وهذه مجرزة تتم أمام بصر العالم أيضا، بينما يغرق العالم في عار الصمت .

من أفضل ما قرأنا خلال الأيام الماضية، كان مقالا للمعلق البريطاني سايمون تيسدال في «الغارديان» يشبّه فيه ما يجري في الغوطة الشرقية بما جرى في مدينة سربرنتشا البوسنية قبل 23 عاما.

يقارن تيسدال بين مصير مسلمي البلدة البوسنية الذين صمت العالم على قتلهم على يد مليشيا العقارب وقوات صرب البوسنة والجنرال راتكو ميلاديتش، وبين مصير الغوطة الشرقية.

يقول: «مع كل طفل يموت، ومع كل عمل وحشي يمضي بلا عقاب تبدو الغوطة الشرقية مثل الجريمة التي وصفها الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، بأنها أسوأ جريمة ارتكبت على الأراضي الأوروبية منذ عام 1945».
ويضيف تيسدال أن «سربرنيتشا مثل الغوطة، لم تكن تبعد سوى قليلا عن سراييفو، وتعرضت للحصار مثل الغوطة، التي فرض عليها النظام الحصار منذ بداية الحرب عام 2011».

ويشير الكاتب إلى أن «الغوطة مثل سربرنيتشا، حيث منع النظام وصول المواد الغذائية والطبية عنها، وفي عام 1993 اعتبرتها الأمم المتحدة (منطقة آمنة)، تماما كما تم اعتبار الغوطة العام الماضي منطقة (خفض توتر)».

ويضيف: «كما حدث في سربرنيتشا، فإنه تم ذبح وقتل حوالي 8 آلاف مسلم، رجلا وطفلا وعلى مدى أيام قليلة، وتعرض ما بين 25 ألفا إلى 30 ألفا من النساء والأطفال والرجال العجزة البوسنيين للانتهاك والتشريد، واعتبرت المحكمة الجنائية ليوغسلافيا السابقة أن هذه العمليات تشكل جرائم إبادة».

 ويقول تيسدال إن «العالم يعلم بمعاناة الغوطة الشرقية، حيث كانت مسرحا للحادث سيء السمعة عام 2013، عندما استخدم النظام غاز السارين ضد سكانه، وقتل أكثر من ألف رجل وطفل وامرأة، ومرة أخرى ترفض الدول الغربية، التي نشرت قواتها في البلد التدخل، فيما تبدو الأمم المتحدة عاجزة، ولم يعد مجلس الأمن مهما بسبب الفيتو الروسي».

 ويرى تيسدال أن «الرئيس الأسد يبدو في الوقت الحالي مثل ميلاديتش عام 1995، غير مهتم بالمنطقة، أو الضغط من الخارج، فالأدلة التي تدينه بجرائم حرب كثيرة، ولم يتم حتى الآن توجيه أي إدانة له».

ويخلص الكاتب إلى القول، «إن الغوطة الشرقية اليوم مثل سربرنيتشا عام 1995، ترتكب فيها جرائم فظيعة، وتمثل إبادة جماعية. في تشرين الثاني/ نوفمبر حكما أخيرا على ميلاديتش بجريمة الإبادة في لاهاي، واستغرق ذلك 22 عاما، فكم عدد الأطفال الذين سيُقتلون قبل تحقيق العدالة في سوريا؟».

والحال أن وضع سوريا والغوطة يبدو أسوأ من سربرنيتشا، فما يحظى به طاغية دمشق من دعم هذه الأيام، يفوق ما حصل عليه «ميلاديتش»، لأن روسيا اليوم في وضع أفضل بكثير مما كانت عليه في السابق، كما أن سوريا ليست البوسنة، فهنا يوجد الكيان الصهيوني، وحساباته تحدد مواقف الدول الغربية أكثر من أي شيء آخر.

سوريا مجرزة القرن الجديد التي تولى كبرها خامنئي حين قرر مواجهة شعب طلب الحرية والكرامة، عبر سيل من الشعارات الكاذبة، لكن معركتها لم تضع أوزارها بعد، فهنا والآن، ينزف الجميع، وما خلفته الحرب من موت ودماء ودمار لن يهدأ، ولو سيطر القتلة على كل التراب السوري، فضلا عن أن تتوزعه قوىً كثيرة، ها هي تتصارع فيما بينها بلا توقف.

اقرأ المزيد
٢٦ فبراير ٢٠١٨
سورية مختلفة فعلاً

في 31 كانون الثاني (يناير) 2011 قال الرئيس السوري بشار الأسد في إجابة على أحد الأسئلة إن سورية تختلف عن تونس وعن مصر، وإنها بالتالي بمنأى عما يحصل لهذين البلدين. قال ذلك في سياق حديث مطول مع صحيفة الـ «وول ستريت جورنال» الأميركية. حينها كان الربيع العربي في بدايته. في ذلك التاريخ كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي هرب. الرئيس المصري حسني مبارك كان على بعد 11 يوماً من التنحي. أما بشار الأسد فكان وهو يتحدث للصحيفة الأميركية على بعد شهر ونصف الشهر تقريباً قبل أن تدق موجة الثورة أبواب الشام. استغرب البعض كيف أن هذا الربيع بطموحاته وأهدافه بدأ في تونس وليس في سورية. والأرجح أن الرئيس السوري نفسه كان لا يقل دهشة وفي الوقت ذاته أكثر خوفاً من ذلك. ومع أن الشام كانت آخر محطات موجة الربيع إلا أن خوف الأسد تغلب على دهشته. والخوف أحد مصادر التوحش.

كان الأسد محقاً في ما قاله عن اختلاف سورية، لكن بمعنى لم يصرح به في إجابته. كان في حديثه يبعث برسالة مبطنة إلى السوريين بعدم الانجرار وراء إغراءات الموجة. وكشفت الأحداث هذا المعنى المبطن بأن سورية لم تختلف عن مصر وتونس. ما اختلف لم يكن المجتمع، ولا الناس، وإنما النظام السياسي السوري برئيسه الوريث، وبجيشه وأجهزته الأمنية المتسربلة بعقائدية جعلتها في مواجهة مع الناس منذ 1970. على مدى سبع سنوات من القتل والتدمير الممنهج تبين أن النظام كان يتربص بالشعب، ويتسلح خوفاً من الشعب.

السؤال الذي يثير حيرة المراقبين: كيف لنظام يمارس في حق شعبه هذه البشاعة ويمعن فيها كنهج ثابت، وبدم بارد؟ هناك سؤال ثان لا يقل أهمية: كيف يمكن تفسير الموقف الأميركي مما يحدث لسورية تحديداً؟ لماذا واشنطن مهتمة بالعراق، وليس بسورية وما يحدث لشعبها من مذابح؟ لا حاجة للسؤال عن الموقفين الروسي والإيراني. فالإجابة معروفة على رغم اختلاف هدف كل منهما من وراء الولوغ في الدم السوري.

نبدأ بالسؤال الأول. عندما تقارن نهج النظام السوري في التعامل مع الشعب السوري، حتى قبل أن يولد بشار الأسد، مع النهج الإسرائيلي في التعامل مع الشعب الفلسطيني، ستجد تماثلاً كبيراً بينهما. هو نهج شرس يتسم بالقسوة والدموية لوأد واستئصال أي معارضة لسياسة النظام. في إسرائيل النظام في حال صراع وجودي مع الفلسطينيين على الأرض. في سورية النظام يعتبر نفسه في حال صراع وجودي مع الشعب ليس على الأرض، وإنما على الحقوق في السياسة والحكم. المشترك بين النظامين السوري والإسرائيلي هو شعور متمكن بالخوف من أقلية قد تستغل أية ثغرة، في أية لحظة، لتنقض من خلالها. وناتج ذلك حساسية أمنية مفرطة لأقلية تمسك بالحكم أمام غالبية كاسحة تشكل في نظر الأقلية مصدر خطر دائم. الإسرائيليون، حكومة وشعباً، يجدون أنفسهم أقلية صغيرة أمام شعب تحت الاحتلال. لكن لهذا الشعب امتدادات قومية ودينية على طول العالم العربي وعرضه. في سورية تحول الحكم بعد 1970 إلى حكم وراثي داخل عائلة علوية، أي تنتمي لأقلية صغيرة. وتبدت ذهنية الأقلية الحاكمة وعلاقتها بالغالبية في أجلى صورها في النموذجين الإسرائيلي والسوري. الأب الروحي لليكود الإسرائيلي زئيف جابوتنسكي أعطى اسماً لهذه الذهنية هو «الجدار الحديدي». يقول في مقالة له عام 1923: «يمكن للاستيطان أن ينمو تحت حماية قوة لا تعتمد على السكان المحليين، بل خلف جدار حديدي هؤلاء السكان أعجز من أن يسقطوه». (انظر The Iron Wall Avi Shlaim, 2000, 13-16) وهو يعنى بالجدار الحديدي قوة الحديد والنار. المفارقة هنا أن علاقة القوة هذه في الحال الإسرائيلية هي علاقة مستوطنين بشعب محتل، وفي الحال السورية هي علاقة نظام حاكم بشعبه، أو ما يفترض أنه كذلك. في هذا الإطار إذا كان الإسرائيليون ينظرون للسياسة الخارجية من زاوية أمنية قبل أي شيء آخر، فإن النظام السوري ينظر للسياسة الداخلية (وليس الخارجية) من الزاوية ذاتها قبل أي شيء آخر.

ماذا عن حكاية المقاومة التي يرددها النظام السوري؟ أمام هذا السؤال ضع نصب عينيك الملاحظات التالية: أن النظام المقاوم لا يعتمد على علاقة قوة مع شعبه كالمشار إليها، ولا يمكن أن يستعين بقوات وميليشيات أجنبية ضد شعبه. فهذه الاستعانة تعني أنه يفتقد قاعدة شعبيه تغنيه عنها، وأنه يتعامل مع شعبه على أنهم أعداء وليسوا مواطنين. ثم كيف لنظام مقاوم أن يطبق في حق شعبه وهو في حال حرب مع العدو مبدأ «إما أن أحكمكم أو أقتلكم»؟ هذا مبدأ سافر للجريمة وليس للمقاومة. والجريمة والمقاومة لا تجتمعان في عقل نظام واحد. وإذا كانت المقاومة هي من أجل الحرية، فالنظام السوري لا يعترف أصلاً بحق للسوريين في الحرية أو في الأمن. والشاهد على ذلك مجازره منذ حماة عام 1982، وفي المعتقلات، وصولاً إلى المجازر المتنقلة بعد الثورة يقترفها بتعمد وإصرار، وآخرها ما يحدث لغوطة دمشق هذه الأيام. في هذا السياق ستلاحظ أن عدد من قتلهم النظام السوري من السوريين حتى قبل الثورة يفوق من استشهد منهم أمام الإسرائيليين. أما بعد الثورة فإن ضحايا النظام من السوريين فقط خلال سبع سنوات (فقط) يفوق بمرات ضحايا الجيش الإسرائيلي من كل العرب خلال 70 سنة من الصراع والحروب.

عندما نأتي للموقف الأميركي سيكون علينا ملاحظة عامل الموقع الجيو- استراتيجي قبل غيره لكل من العراق وسورية. وليس غريباً أن يتكامل هذا الموقف في عدم مبالاته بمصلحة السوريين مع موقف النظام. كانت سورية ولا تزال تحتل موقعاً أقل أهمية من العراق بالنسبة لواشنطن. فالعراق بالنسبة للأخيرة فضلاً عن أنه أغنى وأكثر قوة من سورية، يقع بين إيران، وجنوب شرقي آسيا، وامتداد روسيا شرقاً، وبين الخليج والجزيرة العربية غرباً. وهذا موقع مهم للولايات المتحدة، خصوصاً بعد تصاعد النمو في آسيا الباسيفيكية، لا سيما تنامي قوة الصين في شكل متسارع، إضافة إلى عودة روسيا للمنطقة وطموحات إيران النووية. في المقابل تقع سورية بين إسرائيل وتركيا. وكل منهما قوة عسكرية ضاربة، وحليف لواشنطن، وبالتالي تشكلان معاً حاجز مراقبة دائمة على سورية يخفف من أعباء الدور الأميركي في المنطقة. يضاف إلى ذلك أن سورية يحدها من الشرق العراق، ومن الجنوب الأردن تليه السعودية ومصر، وكلها بلدان صديقة لواشنطن. هذا ما يفسر إلى حد كبير تسليم أميركا الملف السوري لروسيا وانكفائها حتى الآن عن الدخول عسكرياً في شكل كبير في الصراع الدائر هناك. المربك في السياسة الأميركية عدم تبلور موقفها استراتيجياً وبدرجة واضحة من إيران وميليشياتها في سورية والعراق معاً.

تبدو سورية مختلفة بالفعل. لكنه اختلاف النظام بطبيعته العقائدية وتركيبته السياسية التي جعلته في حال صدام دائم مع المجتمع يتدانى أمامه الصدام مع الخارج، خصوصاً إسرائيل. يبدو أن حافظ الأسد كان مدركاً لهذه المفارقة القاتلة. لذلك حاول التخفيف منها بالاحتفاظ بغطاء عربي، إلى جانب التحالف مع إيران. انقلب الموقف مع بشار الذي دفعه التوريث للتضحية بالغطاء العربي لمصلحة التحالف مع إيران. وعندما جاءت الثورة أرغمه هذا التحالف على إعادة سورية إلى ساحة صراع غير مسبوق بين قوى إقليمية ودولية فقد معه سيطرته على القرار. سورية مختلفة، ولذلك تدفع ثمناً قاسياً لنظام مختلف بعقيدته وأهدافه وتحالفاته.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان