عندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تطوير الصاروخ النووي الذي يتفادى أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية، فهو بهذا يعلن توازنَ قوى عالمياً جديداً له دوافعه التي يحب فهمها. كما أن تبعات عالمية وإقليمية تحتاج إلى تأمل عميق يليق بهذا الإعلان، ومع ذلك لو حقّقنا في الدوافع وفِي شخصية بوتين فلربما نحن أمام خدعة استراتيجية كبرى.
لا أشكك في قدرة روسيا على تطوير صارخ نووي عظيم تتجاوز قدراته عشرات المرات قدرة الصواريخ الأميركية «تامهوك» التي شهدنا عرضاً مرئياً لها في الهجوم على صدام حسين عام 2003. ولكن رغم هذا فإن المتابع لشخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أن كان المقدم (lieutenant Colonel) بوتين الذي كان يدير محطة المخابرات الروسية (كي جي بي) في ألمانيا الشرقية لا يستغرب قدرة الرجل على المراوغة. كان بوتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 نائباً لمدير محطة «كي جي بي» في برلين، وكان رئيس «كي جي بي» المباشر في موسكو يوم سقوط جدار برلين وتزاحمت المظاهرات الغاضبة أمام مبنى المخابرات الروسية في برلين، وهرب كثير من العاملين وبَقي المقدم بوتين في الداخل يحرق أوراق المخابرات السرية بالفرن، ولما انتهى من حرق معظم الأوراق خرج على المتظاهرين قائلاً لهم إن بداخل المبنى حراساً مسلحين لأقصى درجة ولديهم أوامر بإطلاق النار على من يقتحم المبنى، وأن عدد القتلى سيكون خرافياً، فقرر المتظاهرون الانصراف، رغم أنه لم يكن بالداخل حراس كما وصفهم، فقد هرب الجميع، ولكن بوتين لم يظهر خوفه بل واجه الخطر الداهم بالخداع الاستراتيجي، وبهذا نجا بوتين من مصير محتوم كان على وشك أن يقع له في السفارة الروسية. عقل بوتين مسكون بهذه التجربة ويرى في أي مظاهرات سواء في موسكو أو في سوريا خطراً عليه، لذلك انحاز دائماً إلى الثورة المضادة في الربيع العربي مثلاً، ولذلك كان موقفه المتشدد في أوكرانيا. بوتين يخاف مصير أي ديكتاتور، ولذلك يلجأ إلى كل السبل التي يستعرض به القوة لنفسه ولروسيا في مواجهة الأخطار القائمة والمحتملة. فهل صاروخ بوتين حقيقي أم هو ضمن خطة الخداع الاستراتيجي؟
بالطبع لم نرَ سوى عرض الفيديو ضمن ما يشبه خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بوتين أمام النواب والنخب الروسية الاقتصادية والسياسية، ولكن أهمية هذا الفيديو وهذا الخطاب هو أنه يأتي في سياق تفوق ملحوظ للصين على الولايات المتحدة الأميركية اقتصادياً، مما يعجل بنهاية العالم أحادي القطبية أو يجعله مكوناً من قطب واحد ولكنه الصين وليس أميركا هذه المرة. في ظل تحالف شرقي بين الصين وروسيا مضافاً إليهما الموقف المتهور لكوريا الشمالية فإن خطاب بوتين يزيد من زعزعة الثقة العسكرية الأميركية التي كانت دوماً تعتمد على تفوقها التكنولوجي والعسكري. ومن هنا تكون تبعات تحدي بوتين حتى لو كان خداعاً له تبعات كبرى عالمية كما أن له تبعات إقليمية في منطقتنا.
صاروخ بوتين بالتأكيد سيجعل الإسرائيليين يعيدون التفكير فيما يعرف بالقبة الحديدية، وخصوصاً بعد إسقاط الصاروخ السوري لطائرة إسرائيلية حديثة، سيفكر الإسرائيليون كثيراً في الصواريخ الروسية الجديدة. وطبيعتها.
صاروخ بوتين أيضاً سيعزز الموقف الروسي في سوريا، ويجعل التوازن الدولي في المفاوضات يرجح الكفة الروسية، هذا إن كان الصاروخ حقيقة، وإن كان خدعة استراتيجية فنحن أيضاً أمام عالم جديد أساسه الخداع، أو عالم ما بعد الحقيقة كما سماه الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي هو - في نظر بوتين - مجرد بوريس يلتسين أميركي. يلتسين الذي سلم السلطة لبوتين طواعية وأعطانا هذه القيادة الروسية التي قد تظل معنا لفترات طويلة.
صاروخ بوتين ليس النهاية، فكلما أحس بوتين بخطر يشبه خطر المتظاهرين في برلين نجده يبحث عن وسيلة جديدة أساسها الرجل الخائف وليس الرجل القوي!
بذهولٍ، كنا نقرأ، ونحن في مقاعد الجامعة في مساق التاريخ، عن مجازر العصابات الصهيونية في فلسطين قبيل النكبة، وإعلان قيام دولة الاحتلال. وقتها كان الطلبة يتساءلون كيف صمت العرب والعالم عن تلك المجازر، وكان جواب الأستاذ لنا "لأن المعلومة لم تصل إلى الرأي العام في ذلك الوقت، إذ لم يكن حينها فضائيات ووسائل الإعلام الحديثة".
واليوم، نتابع بذهول بثا مباشرا لمجازر النظام السوري وحلفائه، وسط صمت عربي، وتلكؤ المجتمع الدولي، وخذلانه الأطفال والنساء، ليثبت هذا عدم صوابية تحليل ذلك الأستاذ، فليس غياب المعلومة والإعلام سبب خذلان الضحية، بل هو جرّاء نظام دولي يكيل بمكيالين، الغلبة فيه للقوي، نظام تغليب المصالح وتغييب الضحايا، ويصحّ والحال هذه مع ما يجري في الغوطة القول إن الضمير الإنساني دفن هناك، وبتنا نتحدث عن مرحلة ما بعد ذلك وآثارها.
وحيث تبدو "محرقة الغوطة" وبشاعة الجرائم التي يرتكبها النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون والأفغان وغيرهم بشعة إلى درجة أن التفكير يتجمد، ويتوقف عند هذه اللحظة البائسة من التاريخ، إلا أن ما بعد هذه المحارق أخطر، فكيف يمكن إقناع جيل "ما بعد حرب سورية" بمبادئ "العدالة الدولية" و"حقوق الإنسان"، وهو الذي شاهد نظامه المجرم يحرق الناس ويدفنهم تحت الأنقاض، غير مكترث بكل تلك الديباجات، كما أنه يواصل جرائمه منذ سبع سنوات، من دون أن يتخذ المجتمع الدولي قرارا حاسما بردعه.
هذا "الكفر" بتلك المواثيق والمبادئ الدولية خطير، لعدة أسباب، إذ من شأن تراكمه أن يولد مظلوميةً لن تنجح كل هذه الديباجات الدولية في معالجة آثارها المدمرة، كما سيخلق جيلا من الناقمين والمحبطين والمسكونين برغبة الانتقام، وهذه وصفةٌ للتطرّف الذي يدّعي العالم الحر أنه يحاربه، فيما هو بهذا الصمت على القتلة يسهم في صناعته، كما أن استمرار هذه المجازر الوحشية هو خدمة مجانية للقوى الراديكالية المتشدّدة التي نجحت في غسل أدمغة آلاف الشباب، وجندتهم في صفوفها، ما يجعلنا اليوم كأمة بالفعل أمام مستقبل مظلم، بلدان مدمرة، ومئات آلاف من الأيتام و المقهورين ومعدومي الأمل، فأي مستقبلٍ ينتظر هذه البقعة من العالم؟
قهر الشعب السوري اليوم عبر تركه وحيدا أمام هذه الآلة الاجرامية لنظامه، المتحالف مع عصابات من شتى أنحاء الأرض، ومضي الإدارة الأميركية في قهر الشعب الفلسطيني عبر اعترافها بيهودية القدس، وتنكّرها لكل حقوقه، إضافة إلى الحملة الشرسة التي تقوم بها أنظمة الثورات المضادة القمعية ضد شعوبها ومعارضيها، كل هذه العوامل هي وصفه لتفجير هذه المنطقة، وإحراق المعبد على رؤوس الجميع كما يقال. ولعل المستفيد الوحيد من ذلك كله إسرائيل التي تعمل على ترويج أنها الديمقراطية الوحيدة في هذه المنطقة، فلم تكن تل أبيب تحلم، في أحسن أحلامها، بما يحصل اليوم، من تفجير أنظمة مجنونة أحزمة ناسفة في بلدانها وشعوبها، فالكل خاسر والحالة هذه، حتى الدول الإقليمية الرئيسة، كإيران وتركيا اللتين تنافستا على تقسيم كعكة هذه المنطقة، لم تعد بعيدة عن هذا البركان، فقد ظنت إيران، في فترة شهر العسل مع" الشيطان الأكبر"، أن واشنطن ستعمّدها شرطيا على المنطقة والإقليم من جديد، فاندفعت بجنون في دعم مليشيات طائفية مريضة، وتآمرت على الربيع العربي، إلى أن قلب الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، لها ظهر المجن، وبدأ تقليم أظافرها، فيما ركبت الثانية موجة الربيع ثم تلكأت وخذلت السوريين، فاضطرت اليوم للدخول في حرب استنزاف طويلة مع المليشيات الكردية لا يعرف مداها ومآلها.
الخلاصة من "محرقة الغوطة" أن الضمير الإنساني دفن هناك، وقد ندفن فيها، نحن الأمة، إذا لم نخرج من حالة العجز والتشرذم والخذلان، وسنكون نسيا منسيا، فهل من عقلاء؟
يروي المؤرخ التركي خليل بركتاي، في مقال له تحت عنوان "غرنيكا 1937، الغوطة 2018"، أولًا الهجوم الوحشي والمجازر التي نفذتها قوات الجنرال الفاشي المتمرد فرانكو بدعم من هتلر وموسوليني، في منطقة الباسك الإسبانية. ثم يقارن بين بلدة غرنيكا التي تعرضت للهجوم والغوطة، ليخلص إلى النتيجة التالية:
"على الرغم من إعلان الأمم المتحدة هدنة لمدة 30 يومًا إلا أن الهجمات الوحشية لم تتوقف. فالنظام السوري أصم، وروسيا لا مبالية. سيلان الدماء مستمر في الشوراع. الغوطة هي غرنيكا عصرنا. من يدرك؟ العالم يرى لكن لا يحرك ساكنًا. وليس للعرب السوريين المسلمين بيكاسو يصور مأساتهم. لا أحد يريد التحرك".
ينشر مراسل الجزيرة مشاهد من الغوطة. جميع الأحياء، التي كان يقطنها قبل الحرب قرابة نصف مليون نسمة، دُمرت بالكامل، أصبحت الشوارع والأزقة أثرًا بعد عين.
من يقصف الغوطة هي القوات البرية والجوية التي ما زالت موالية للأسد. عدد الفصائل المعارضة في الغوطة خمس، وإجمالي أفرادها 30 ألف، جميعها من السنة.
من نقاط التشابه، التي لفت إليها الأستاذ بركتاي في مقالته، بين غرنيكا والغوطة هي أن الجيش لا يستهدف القوة العسكرية المناوئة له، وإنما يقصف المدينة التي تحتضنها وتشاطرها بعض القيم، ويستهدف سكانها المدنيين ومنازلهم ومدراسهم وأسواقهم ومحلاتهم ومستشفياتهم:
"نفذ الطيارون الألمان أول بروفة لقصف الإرهاب، الذي كانوا سيختبرونه لاحقًا في الحرب العالمية الثانية. على مدى أكثر من ساعتين ما بين 16:30 و18:45، قصفوا ورشقوا بالرشاشات الآلية وألقوا قنابل زنتها 50 و250 كغ".
عندما انتهى "قصف الإرهاب" وانسحب الألمان والإيطاليون وقوات فرانكو، لم يكن قد بقي من غرنيكا سوى أطلال. بيد أن الغوطة تواجه منذ أشهر هجومًا أشرس. ولا يمكن القول إن الطيارين السوريين والروس يقلون كفاءة نظرائهم النازيين والفاشيين.
من يعتبر نفسه رئيسًا شرعيًّا للبلد لا يمكن أن يقتل المدنيين بهذه الوحشية. وإذا كان يفعل فهو يعلم بلا شك أن هذا الجرح لا يندمل، وأن من المستحيل له أن يكون زعيمًا لهذا الشعب.
لو أن الأسد لم يقبل بتقسيم بلده إلى ثلاثة أجزاء لكان وضع حدًّا لهذا الهجوم منذ زمن طويل، مهما كان موغلًا في الإجرام.
أسئلة تطرح نفسها الآن: من هي الأطراف الأخرى في خطة التقسيم هذه؟ أين بوتين من هذه الخطة التي تبين أنها أعدت في الولايات المتحدة واستُكملت في إسرائيل؟ وفيما عدا المنطقة التي رضي بها الأسد والميليشيات الشيعية، كيف سيُقسم الجزء المتبقي على العرب والأكراد؟ من سيسيطر على المنطقة الغنية بالنفط؟
وربما السؤال الأهم: ماذا سيكون موقف تركيا وقطر من هذه الخطة؟
تتصاعد عمليات القصف الجوي والمدفعي بشتى أنواع القذائف والصواريخ التي تنهال على المناطق المدنية في الغوطة الشرقية في كل ثانية تحمل الموت معها في كل مكان من أرجاء الغوطة، لم تترك مكاناً واحداً لم تطاله الصواريخ والحمم والموت الذي يحاصر أكثر من 350 ألف مدني ليس لهم إلا الله حامياً.
مئات الغارات والصواريخ والقذائف تتصاعد أرقامها وتتنوع المواد التي تحملها من متفجر وحارق وفوسفور ونابالم وكلور سام، يواجه مدنيي الغوطة الشرقية منذ ساعات الفجر حتى أخر ساعات الليل، وفي كل بقعة في أرجاء الغوطة تسيل شلالات الدم وتصعد الأرواح إلى السماء.
عانت الغوطة الشرقية طيلة خمس سنوات مرارة الموت المستمر جوعاً وقصفاً وحصاراً، لم تنفع كل النداءات والدعوات والاستغاثات لتخفيف حدة الموت الذي يلاحق أهلها من بلدة لأخرى، دمر الأسد وحلفائه كل حياة بتدمير المشافي والمعامل والمصانع والسيطرة على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، هذا عدا عن منع دخول المساعدات الطبية والغذائية، أمام مرأى العالم أجمع.
قدمت الغوطة الشرقية خلال سبع سنوات من الحراك الثوري أكثر من 13 ألف شهيد ومئات الألاف من الجرحى، وواجهت أكبر مجزرة كيماوية في 2013، وصمدت لخمس سنوات ولاتزال في وجه الحصار المفروض عليها والموت الذي يحاصرها من كل اتجاه، حتى تفرغ النظام وروسيا لها في الأشهر الماضية وكثف من ضرباته وغاراته مسجلاً المزيد من الشهداء والجرحى.
الغوطة اليوم تعيش القيامة في الأرض قبل نهاية العالم فعلياً، وحيدة منكوبة محاصرة، ينتظر مدنيوها الموت في كل ثانية وكل دقيقة مع كل صوت طائرة أو ضربة مدفع أو راجمة، ولا تكاد مشاهد الموت اليومية تفارقهم فشهيد هنا ومجزرة هناك، وشهيد يحمل شهيد وينعي شهيد ويشيع شهيد، والعالم يتفرج.
بثت الفضائية السورية، في 19 فبراير/ شباط الماضي، برنامجا "وثائقيا" عن عائلات اختطفتها الجماعات الإرهابية المسلحة، ثم تم تحريرها (بعد ما بين ثلاث إلى خمس سنوات) من تلك الجماعات التي أجمع معظم الأهالي المختطفين أنهم كانوا غرباء من الشيشان والأفغان، وغيرهما، إضافة طبعا إلى "بعض السوريين الخونة". وتم تصوير الحلقة في الهواء الطلق، أي في البرد، ومعظم الذين شاركوا فيها من النساء والأطفال. وكانت المُحاورة في قمة اللطف والتعاطف مع المخطوفين المحرّرين. لكن من عجائب الدنيا أن يتفق المخطوفون أنهم يهدون اختطافهم للوطن، وبعضهم قال إلى الوطن!
تعودنا أن نسمع أن الشهداء يهدون استشهادهم عن طريق شهادات أهاليهم إلى الوطن، فالشهادة في سبيل الوطن فكرة منطقية ومقبولة ويفهمها العقل. أما أن يُهدي المخطوف خطفه إلى الوطن، فأمر يجعل العقل يغادر الجمجمة، كما لو أن المخطوف يملك قرار اختطافه، كما لو أنه بطل لمجرد أنه خُطف. وتحدثت الأمهات المختطفات عن سنوات الخطف، وكيف كان الخاطفون ينقلونهم من قريةٍ إلى قرية، وكيف سجنوهم أشهرا في قرية سلمى الصغيرة ساحرة الجمال، والتي تحولت إلى ركام الآن، وبعد ست سنوات من الحرب القذرة لم يدفع ثمنها إلا السوريون.
سألت المُحاورة طفلا في العاشرة من عمره خطفته الجماعات الإرهابية، لمّا كان عمره ست سنوات، عن تجربته في الخطف، فقال إنه شاهد الخاطفين يذبحون أمه، وإنه عاش سنوات الاختطاف بأمل أن يحرّره الجيش السوري، فسألته المُحاورة إن كان قد تعلمّ شيئا طوال هذه السنوات، فقال لها إن الخاطفين علموه أن يحفظ القرآن. وحكت صبية في السادسة عشرة من عمرها إنها كانت مسؤولة عن إخوتها الأصغر منها، بعد أن رأت بأم عينها كيف ذبح الخاطفون أمها.
كان كل المختطفين يتكلمون كما لو أنهم في سرنمة، أو كأنهم منومون مغناطيسيا. وكالعادة (كما يجمع أهالي الشهداء من كل مدن سورية وأصقاعها على شهاداتهم ويزغردون فرحا لاستشهاد أولادهم)، أجمع الأهالي البسطاء من القرى الملتهبة بالصراع أنهم أهدوا إختطافهم للوطن، وكرّروا إلى ما لا نهاية عبارة الحمد لله، كما لو أنهم يهربون من فراغٍ موحش، ويثير ذعرهم فيما لو وعوه كاملا. وكان كل الأهالي المحرّرين من الخطف بعد سنوات يحكون بلهجتهم المحلية، أي يلفظون القاف قافا، وكل اللهجات مُحترمة، لكن الغريب أن المذيعة فجأة قررت أن تتكلم مشدّدة على حرف القاف، فكانت تلفظه مُشعرة المتفرج والسامع أن وزنه طن. ولم يفهم المشاهد لماذا بدأت الأسئلة والمقابلة مع المختطفين السوريين المُحررين بقاف عادية (بدل أن تقول قلم بتشديد لفظ القاف تقول ألم)، وفجأة قرّرت أن القاف تؤثر أكثر في الجمهور، أو ربما القاف في سورية تُحيي العظام وهي رميم.
هل يمكن لإنسان أن يتخيل رعب أن يعيش أطفال ومراهقون وصبايا بين أربع سنوات وخمس سنوات مع خاطفين مجرمين، وأجمع الجميع (المُختطفون) أن أشكالهم مُرعبة، لكن أيا منهم لم يصف لنا شكل واحد من أولئك. وليت أن مُعد البرنامج لقّن المُختطفين المُحرّرين وصف الخاطفين، كما لقنهم جميعهم العبارات نفسها أنهم يهدون اختطافهم إلى الوطن (!).
مهزلة الإعلام السوري أنه لا يبالي بأبسط قواعد علم النفس، ويتعامل مع طفل شهد ذبح أمه، ومر بتجربة خطف سنواتٍ، كما يتعامل مع تلميذ في المرحلة الابتدائية، يطلب إليه أن يكتب موضوع تعبير يصف الربيع. أيه مهزلة أن تشوّه المفاهيم إلى هذه الدرجة! وأن يُعتبر الاختطاف عملا بطوليا. وما أدرانا، فقد تتحفنا الإخبارية السورية قريبا بحلقة تبث في الهواء الطلق، وبدرجة حرارة تحت الصفر لفتيات تعرّضن للاغتصاب. وحسب المنطق الرسمي والإعلامي السوري، لا يُستبعد أن تهدي الفتيات اغتصابهن للوطن. مهزلة المهازل. كم كان الشعب السوري محقاً حين هتف من أعماق روحه: يا الله، ما إلنا غيرك، يا الله.
لو شاهد غابرييل ماركيز الحلقة التي بثتها الإخبارية السورية، لما استطاع أن يبدع روايته "خبر اختطاف". يبقى على المذيعة اللطيفة والجميلة أن تفسر للجمهور لماذا قرّرت، في منتصف الحلقة، أن تتحول من لفظ القاف بطريقة معينة إلى لفظ القاف بكل ثقلها المُرعب.
إنّ بداية الاحداث السورية التي تستمر منذ 7 سنوات، والتي تحولت إلى حرب عالمية فوضوية جاءت نتيجة كتابة بعض أطفال محافظة درعا السورية عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" على جدران المدارس، وكانت هذه العبارة الهتاف الأكثر شهرةً في العالم العربي، انتشر الربيع العربي في الجغرافيا بأكملها وفي الواقع كانت الشعوب العربية ترغب بإصلاحات ديمقراطية وليس إسقاط النظام بشكل مباشر.
لكن جاء الرد من النظام السوري بقتل الأطفال، وبذلك بدأت الثورة السورية في 15 مارس/آذار 2011 الموافق ليوم الجمعة تحت اسم "جمعة الغضب".
ومنذ ذلك الوقت فقد ما يقارب المليون مواطن سوري أرواحهم، فيما أصبح الملايين في حالة لجوء في الدول الأخرى، وتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة لهؤلاء اللاجئين، وأصبح الأطفال الذين أرسلهم أهاليهم لوحدهم بسبب عدم وجود أماكن كافية في القوارب والسفن ضحايا لعصابات المافيا، وفي هذا السياق فقد عشرات الآلاف من الناس أرواحهم في سجون النظام السوري.
بالتأكيد لا يمكن تحديد أرقام دقيقة، لكن قدمت منظمة العفو الدولية تقريراً يشير إلى الكشف عن مقتل 13 ألف مواطن سوري في أحد سجون النظام بين أعوام 2011-2015، فيما ذكر ناشطو حقوق الإنسان في سوريا أن عدد الضحايا في سجون النظام قد يتجاوز الـ 50 ألفاً، وأضافوا أن العديد منهم فقدوا أرواحهم تحت التعذيب.
إضافةً إلى السجون الرسمية فقد تم تحويل بعض الشركات أيضاً إلى سجون غير رسمية من قبل النظام السوري، في هذا السياق يمكننا ذكر صور الضحايا التي أوصلها أحد جنود الجيش السوري لوكالة الأناضول، إذ تشير الـ 55 ألف صورةً إلى مقتل أكثر من 11 ألف شخص تحت التعذيب والترك للموت جوعاً والعديد من الأساليب الأخرى، والسبب في ذلك هو أن بشار الأسد يعتمد سياسةً تهدف إلى قتل المعارضين بشكل منهجي تحت التعذيب.
هناك مسألة أخرى معروفةً أيضاً لكن لم يتم التدقيق في خصوصها وهي أن النظام يقوم باستخدام التعذيب واغتصاب المعتقلين النساء كسلاح في الحرب.
من المعروف أن 13 ألفا و581 إمرأةً تعرضن للتعذيب في السجون السورية، ويوضّح الشهود أن حوادث الاغتصاب لم تكن فردية بل كانت تنفّذ بشكل منهجي.
وفي هذا السياق خرجت المسيرة المعروفة باسم "قافلة الضمير" تحت إدارة منظمة "حركة حقوق الإنسان والعدالة" من أجل الوقوف في وجه هذه الجرائم الإنسانية، وبذلك شاركت النساء من 55 دولةً مختلفة في مسيرة منظمات المجتمع المدني التي تتضمن منظمة الإغاثة الإنسانية وجمعيات حقوق المرأة والديانة والأنصار أيضاً.
إذ يخططّ لوصول النساء اللواتي ستخرجن في 6 مارس/آذار إلى ولاية هاتاي الحدودية في 8 مارس/آذار، وستقوم بربط الحجابات المزينة على الأسلاك الحدودية كرمز للطهارة وحسن النية من أجل إنقاذ المعتقلات السوريات في سجون النظام السوري.
في هذه النقطة سنذكر كلمة "غولدين سونميز" مساعدة رئيس جميعة حركة حقوق الإنسان والعدالة
"هناك6 آلاف و763 امرأة تترقّب الموت في سجون النظام السوري، ونحن نسعى لإنقاذهن، نحن نعلم أن النساء اللواتي تتعرضن للاغتصاب تميل للانتحار وأن اللواتي لا يمتن يعانين من صعوبات شديدة في الاستمرار بالعيش، ويجدر بالذكر أن تعذيب واغتصاب النساء تعتبر جرائم إنسانية بناء على معايير جميع الأديان السماوية ومنظمات الحقوق الدولية".
يستخدم النظام التعذيب والاغتصاب كسلاح خلال الحرب، ونحن ننتظر منذ 7 سنوات تدخّل المؤسسات والدول ولجنة منع التعذيب التي تملك القدرة على الوقوف في وجه هذه الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية، لكن نلاحظ أن الجهات المذكورة تغض النظر عن أحداث التعذيب والاغتصاب، أو أنها تدعم الجيوش التي تقوم بقصف المواقع المدنية في سوريا، لذلك نطالب الجميع بفعل المستطاع من أجل المعتقلات السوريات في سجون نظام الأسد.
يتبع "أبو اليقظان المصري" شرعي الجناح العسكري في هيئة تحرير الشام، سياسية إعلامية تقوم على زف "البشريات" عبر حسابه "الرسمي" على موقع "تلغرام"، تتجسد صورة هذه البشريات على الأرض في اقتحام بلدة أو مدينة أو قتل أو أسر عدد من أبناء الشعب السوري في المناطق المحررة.
ففي كل إعلان لبشرى تكون عناصر هيئة تحرير الشام تحاول اقتحام بلدة أو مدينة ما ضمن المناطق المحررة لقتال جبهة تحرير سوريا، يتولى "أبو اليقظان" تهيئة الأجواء لزف بشراه في قصف المنطقة واقتحامها بالدبابات، ومن ثم السيطرة عليها، لتتم وتتحقق "بشراه" وكأنه يزف تحرير كفريا والفوعة أو مدينة حلب أو ينصر الغوطة الشرقية.
ساهمت فتاوى "أبو اليقظان" في تحليل سفك دم أبناء الشعب السوري وإباحة قتله وإهدار دمه في معارك داخلية أرهقت الثورة السورية وفصائلها العسكرية فيما بينها، برز في فتواه الشرعية للقتال "اضرب بالرأس" إبان اعتداء الهيئة على حركة أحرار الشام الإسلامية في تموز 2017، والتي خلفت العشرات من الضحايا من طرفي الاقتتال بفعل هذه الفتوى.
ومع الاقتتال الحاصل بين هيئة تحرير الشام وجبهة تحرير سوريا واستمرارية فتاوى "أبو اليقظان المصري" ظهرت مؤخراً فتوى جديدة على لسان الشرعي في هيئة تحرير الشام "أبو الفتح الفرغلي" والتي اعلنها صراحة غير أبه بحرمة الدماء المعصومة وبأحاديث حرمة الدم بفتواه "إضرب فوق وتحت الرأس نصرة للدين".
في بدايات الربيع العربي، حينما كان الحلم أنه سيكون ربيعا حقيقيا، استطاع شباب العرب الذين نزلوا، بأصواتهم ورغبتهم بالتغيير، إلى شوارع المدن العربية وساحاتها، إعادة الاعتبار إلى مفردة "الشعب"، بعد أن تحولت، عقودا طويلة، إلى شعار مفرغ من معناه، ومستبدلة بمفردة "الجماهير" التي استخدمها الزعيم الراحل، جمال عبد الناصر، وصدّرها، كما صدّر تجربة "ثورات" العسكر، إلى باقي الدول العربية، فمفردة الجماهير توحي مباشرة بقطعان من البشر تسير وراء الراعي/ الزعيم الذي يلوح بيده، ليدل القطيع على وجهته، الزعامة السياسية بأشكالها الديكتاتورية المتعدّدة كان يلزمها هذه الجماهير التي تهتف للزعيم القائد، لاسمه ولحياته ولسلطته ولبقائه الأبدي، بينما اسم الوطن في هتافات الجماهير بقي في الخلفية، أو نسب إلى الزعيم القائد. وحدها مصر شذّت قليلا عن القاعدة هذه، على الرغم من أنها التي صدّرتها، ظلت الجماهير تهتف لمصر، كما تهتف لجمال عبد الناصر، فمصر، الأمة المهولة، بحجمها وحضورها وتاريخها، كان سيصعب على أي زعيم، حتى لو كان صاحب كاريزما خارقة كعبد الناصر، أن ينحيها جانبا.
ما كان مرادا له أن يكون ربيعا سوريا، أعاد الاعتبار أيضا إلى مفردة الشعب السوري، صار لهذا الشعب صوت وحضور ورائحة وذاكرة ونبض، صار الشعب حقيقيا، حاضرا، يريد ويطالب ويصرخ ويهرب، ويطرح آراء وافكارا ويناقش ويختلف ويشتم بعضه بعضا، وينحاز ويصطف ويدعم ويساعد ويندفع. لم تعد صفة "الجماهير" تتناسب مع ما يفعله السوريون. يد الزعيم القائد لم تعد تلوح لتدل قطيع الجماهير على الاتجاه. صارت هناك اتجاهات أخرى معاكسة لجهة يد الزعيم، في هذه الأثناء وسلطته أيضا، بدأ اسم الوطن السوري يتقدّم إلى المقدمة، بقوة وسرعة، تشبه السرعة التي سقطت فيها يد الزعيم/ القائد وصورته، حين يصبح الوطن في المقدمة يكون هناك شعب حقيقي، متنوع ومختلف ومتعدّد، حين يجلس الوطن في الصفوف الخلفية، لن تكون هناك سوى قطعان الجماهير التي تميل في اتجاهٍ واحدٍ لا يحيد عنه أحد.
غير أن ثمن التحول السوري من جمهور إلى شعب كان داميا، دفعت مثله قلة من شعوب الأرض، عبر عقود طويلة. ليست السنوات السبع السورية الماضية سوى فصل قصير جدا مما حدث مع تلك الشعوب، لكنه لنا، نحن السوريين، هو فصل لا مثيل لقسوته وعنفه، فصل نسف حلما رائعا بالتغيير، إذ لم يبق من أولئك الحالمين الذين مالوا عكس اتجاه يد الزعيم سوى القلة، والوطن الذي تقدّم إلى الأمام تقدم على عربات الدم، صار وطنا قاتلا. وفي أحسن الأحوال، قبرا جاهزا للإغلاق، يمكنه أن ينغلق بسرعة مهولة على من بقي فيه، أو أن يصبح جدارا في وجه من خرجوا منه. أما الدم الذي حمل الوطن إلى المقدمة، فقد حول الشعب/ الحلم إلى مجموعة من الشعوب التي يفرّقها الكثير، بينما تقل المشتركات بينها يوما وراء يوم.
هل هذه الشعوب السورية (ليس على طريقة بوتين حتما) المختلفة، يمكنها أن تلتقي يوما؟ وهل الافتراقات بينها يمكنها أن تسمح بإعادة بناء وطنٍ لا يرفع على حاملة دم، ولا على اسم زعيم؟ بالتأكيد، لا يوجد شعبٌ في الأرض يتشابه أفراده، فحضارات الشعوب تبنى على المتناقضات والاختلافات التي تجمع أبناءها. التشابه والتماثل لا ينتجان حضارة، لا ينتجان سوى قطعان من الجماهير تميل مع يد الزعيم. لهذا تقتل المؤسسات الشمولية، السياسية والدينية، الخارجين عن القطيع، كي لا يصاب الآخرون بعدوى الخروج نفسها. لهذا غالبا ما تأخذ الثورات مسارا عنفيا دمويا، وغالبا ما تحتاج موجات طويلة الأجل، لكي تنجح أو تطبق بعض شعاراتها، فقمعها والسيطرة عليها ليس فقط شأن الاستبداد السياسي، بل شأن الاستبداد الديني أيضا. ما حصل في أوروبا في القرون الماضية مع الكنيسة دليل تاريخي، ما يحدث في بلادنا، في سورية تحديدا، دليل حاضر وصريح. لهذا أيضا، يرفض الاستبداديون دولة المواطنة، ويعملون على وأدها كلما ظهرت بوادر لها، فدولة المواطنة هي الوحيدة القادرة على جمع كل التناقضات في شعبٍ واحد، هي الوحيدة التي تحترم معنى أن يكون لديها "شعب" لا يتحرّك حسب حركة يد الزعيم القائد.. في دولة المواطنة أصلا لا يوجد زعيم قائد.
"باتت لدينا مجموعة من الأسلحة الجديدة، منها صاروخ يمكنه أن يصل إلى أي مكان في العالم. الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا وآسيا لا يمكنها إيقافه. لدينا نوعان من الأسلحة ذات القدرات النووية، صاروخ كروز وغواصة. تتمثل الرأس الحربية في صاروخ كروز، يحلّق على ارتفاع منخفض يصعب رصده، قادر على حمل مواد نووية غير محدود المدى، مع عدم توقع مساره، ويمكنه تجاوز خطوط الردع، وهو لا يُقهر أمام جميع الأنظمة الحالية والمستقبلية للدفاعات الصاروخية والجوية". .. هذا جزء من الخطاب السنوي للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للأمة أمام الجمعية الفيدرالية (تضم غرفتي البرلمان الروسي)، يوم الخميس الماضي، توعّد فيه بـ"الردّ القوي على أي اعتداء نووي على بلاده أو أي من حلفائها"، موضحاً أنه "سيعتبر عدواناً على روسيا".
هكذا بكل بساطة، وقبل نحو أسبوعين من الانتخابات الرئاسية الروسية، قرّر بوتين رفع سقف المواجهة مع الولايات المتحدة عبر الورقة العسكرية، وهي الورقة التي دشّن بها عهده الرئاسي الأول (2000- 2004)، حين أنهى المطالبة الشيشانية بالاستقلال عن روسيا في غروزني، ثم عاد واستخدمها عشية انتخابات 2014، والتي بكى فيها متأثراً بفوزه، إثر اجتياح قواته شبه جزيرة القرم الأوكرانية. هي الورقة نفسها التي ساعدته في عام 2008 في اجتياح جورجيا، وإنهاء طموحات رئيسها السابق، ميخائيل ساكاشفيلي، في جعلها موطئاً لقوات الحلف الأطلسي. وهي الورقة عينها التي استخدمها في عام 2015 بتدخله العسكري في سورية لنصرة النظام.
بوتين مغرم بالقدرات العسكرية لبلاده، وهو أصلاً ما كان أساس وصوله رئيساً: إعادة بناء القوة الروسية الاستراتيجية والنووية. ولكن للخطوة الجديدة تفسيرات عدة. يريد بوتين إعادة ردّ الاعتبار لروسيا، بعد الضربات الأميركية المتلاحقة، سواء بصواريخ الكروز الـ59 التي أطلقتها واشنطن في 7 أبريل/ نيسان الماضي على مطار الشعيرات التابع للنظام السوري في محافظة حمص، أو بالغارات الأميركية على دير الزور الشهر الماضي، وأوقعت عشرات القتلى التابعين لروسيا، جنوداً روساً كانوا أو مرتزقة. يريد بوتين "تجميد" التحرّك الأميركي العسكري غير المباشر من جهة، وتصوير بلاده قطباً عظمياً من جهة أخرى. غير أن ذلك دونه عقبات، ففي المرة الأخيرة التي تسابق فيها سلف روسيا، الاتحاد السوفييتي، عسكرياً مع الأميركيين، انتهى به الأمر بطلب وجبة سريعة من مطعم ماكدونالدز في موسكو، في 31 يناير/ كانون الثاني 1991.
وإذا كان بوتين قد رسم مساراً شبه عسكري في المراحل الماضية المفصلية، تحديداً في ذروة الدورات الانتخابية، الرئاسية أو التشريعية، إلا أن الإعلان عن التطور النووي، ليس سوى خطوة مواكبة للتغيير العالمي المرتقب اقتصادياً، في ظل بدء عهد العملات الرقمية التي من المفترض بعد وقتٍ ما، إنهاء التعاملات بالعملة الورقية. وعادة في التاريخ، تحصل الحروب، بعناوينها السياسية والدينية والقومية وغيرها، بفعل حراك اقتصادي مفصلي. دخل العالم عملياً هذا الحراك، لكن هذا لا يعني "حتمية" استخدام الأسلحة النووية، بل رفعها ورقة قوة في أي تشابك عسكري ناجم عن تصادم المصالح الاقتصادية. القوة في استعراض القوة لا في استخدامها. على أن ساحة الصراع ستكون أوروبا، تحديداً البلطيق، لوضعها الجيوبوليتكي، ولأساسها المالي، ولأنها المجال الأوسع لأي صدامٍ، باعتباره ساحة مشتركة بين الروس والأميركيين.
كان الردّ الأميركي تقليدياً "نراقب كل شيء، فإحدى التجارب الصاروخية سقطت في القطب الشمالي". استخدم الأميركيون لغة جوزف ستالين، حين قيل له إن "الولايات المتحدة أنتجت سلاحاً نووياً"، فقال "نعلم ذلك". ولم يتأخر ستالين في استعراض قوة بلاده نووياً، وربما هذا ما سيفعله الأميركيون قريباً. هل تصل الأمور إلى حرب نووية بين روسيا والولايات المتحدة؟ بالطبع لا، لكن الحرب الباردة عادت إلى الانطلاق من حيث توقفت في 1991.
سبعة أعوام عجاف مرّت من عمر الثورة السورية، لم يكن للسوريين البسطاء لحظة اندلاعها أي مؤنة سابقة من التجارب السّمان لتعينهم على اجتيازها بسلام وصد المشاريع الدخيلة، تعمّد خلالها بعض مدّعي الصداقة للثورة بالاشتراك مع أعداءها على إهدار طاقاتها، وأكلت سِباع المشاريع الخارجية المتوحشة جلّ حصادها، وتلاشت الحرية شيئاً فشيئاً أمام المطالبين بها، وتعسّر إسقاط نظام الأسد، وتبعثرت المحاولات في إقامة دولة العدل والحرية.
ما إن بدأ الربيع العربي حتى سارع السوريون بالانضمام إليه في آذار 2011م، ومع خروج الجماهير إلى الساحات للمطالبة بالحرية وإسقاط النظام، حدثت -بفضل الله- انشقاقات كبيرة في معظم مؤسسات النظام المدنية والعسكرية، والتحق العديد منهم للعمل في الثورة إلا أن التهميش الثوري أهدر طاقات المنشقين، ولم تستثمر كما يجب.
وغادر آخرون إلى البلدان المجاورة فراراً من التجنيد مع المليشيات الأجنبية التي بدأ النظام بإدخالها لتساند عصاباته، وبين الفارين والمهمشين لم تستطع الفعاليات والتنسيقيات ومؤسسات الثورة الوليدة احتضان الطاقات للاستعانة بهم بإنشاء كيان متكامل لتشكيل بادرة دولة كبديل عن النظام في المناطق المحررة.
إعلام الثورة وهتك الستر..
سبع أعوام مضت والسوريون يصدرون مأساتهم معلبة بتطبيقات التكنولوجيا الحديثة، موثقة بالصوت والصورة، حتى ملأت رفوف وسائل التواصل الاجتماعي وأصبحت المعلومات والأخبار مباحة للجميع، ولم تعد الحقيقة غائبة عن أحد إلا أن النتائج كانت سلبية ولم تأت بنتيجة تفيد السوريين في حربهم، سوى بعض السلل الإغاثية التي لا تقدّم حلاً ولا توقف قتلاً.
بل استخدمت تلك الصور للشحن الجماهيري وإماتة الحس لدى البعض بتحول مآسينا إلى أرقام تتزايد أو تتناقص يرتفع معها الشجب والاستنكار، أما الشباب المندفع المتأثر بتلك المشاهد فزجّ به في تنظيمات أعدت خصيصاً لإقحامها في بؤر الصراع وتحويل الربيع العربي لمناطق توحش ترعب العالم وتهدد أمن المجتمع الدولي.
رفعت تلك التنظيمات رايات وشعارات براقة وعناوين عريضة مثل "الموت لأمريكا" أو "تحرير القدس" ملتحفة ببركة أرض "الشام" لتغذية الشباب واستقطاب المقاتلين الراغبين في الجهاد من شتى الدول لخلط الأوراق ودس العملاء في صفوف المهاجرين.
لكن الكارثة الحقيقية التي واجهت الثورة أن المشاريع التي انبثقت عن المناهج، لم تكن تنتمي لمشرب واحد يجمع الشباب المتحرر من ظلم النظام، ويوجه له الضربة القاضية في ساعة الصفر التي طال انتظارها ولم تأت بعد!
بل كانت المناهج متقلبة متصارعة تعتمد وتدور في الغالب حول فكر شخص "الشرعي" الذي قد يختلف كثيراً مع رفاق دربه في النوازل وتحديد الأولويات، فتتفاوت في الطرح والحكم على الحوادث المتسارعة التي تحتاج لجمهور من العلماء للبتّ فيها، وبين أخذ ورد وجائز ومنهي عنه تجدها تفتك بشباب المنطقة المحررة تحت تهم منها الفساد والردة والتبعية والخيانة والبغي والغدر. والتي دفعت المُتَهم لدفع الموت أو الأسر عن نفسه بتوجيه تهماً مقنّعة لخصومه كالتطرف والإرهاب والعمالة مما يؤدي لغرق المنطقة بمستنقع من الدماء وحرب تقطف أزهار شبابها وتزيحهم من واجهة المقاومة الحقيقية، وتحيدهم عن الثورة الحقيقية، مما يسهل للعدو لتطبيق استراتيجياتها بسهولة ويمهد الطريق لدول معادية ذات مصالح للوصول إلى منابع الثروات من نفط وغاز وفوسفات. وتسلم المنطقة مؤقّتاً لإيران العدو القديم للمنطقة، فكانت إيران المستفيدة والمتمددة على حساب تلك الصراعات والانسحابات، التي كانت ولا تزال ترفع شعار "الموت لأمريكا" مع تنفيذ مصالحها لتلحق سوريا بأخواتها من أفغانستان والصومال والجزائر والعراق كأكثر الدول فشلاً في العالم وأكثر الدول استنزافاً للثروات.
تطبيق الحلول الخارجية التي تفرضها دول العالم الكبرى ذات المصالح المتعددة جاء بسبب وقوع البلاد تحت ظلام الجهل لقرون مضت لدولٍ تتغنى بالديمقراطية والحرية تحت حكم جبريِّ ولن يغير الصورة في المشهد سوى الوعي بتلك المشاريع وخطرها والحذر منها، والاستجابة لصوت العقل بالكف عن الانخراط الأعمى في تلك المشاريع، والالتفاف حول مشروع واحد يحافظ على ما تبقى لنا.
قال وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، إن بلاده كسرت الثورات في الشرق الأوسط وأفريقيا. وهو يعترف بأن وحشية روسيا في سورية هي التي كسرت الثورات العربية، ولا شك في أن سورية كانت المكان الذي كان يجب أن تُكسَر الثورات فيه، بعد أن فشلت السياسة الالتفافية الأميركية في وقف مدّ الثورة، كما لم يؤدِّ التدخل العسكري في ليبيا إلى وقفها. وكانت طبيعة النظام الوحشية مناسبةً لأن تكون سورية المكان الأفضل لذلك.
هذا ما أرادته أميركا التي قرَّرت تشويه الثورة، وإعطاء النظام مبرّرات اتهامها بالارتباط بالخارج. وهذا ما أرادته السعودية التي خشيت من امتداد الثورة إليها، فدعمت النظام سرّاً، ونفذت ما يفيد استراتيجيته في مواجهة الثورة (كما أشار بشار الأسد نفسه). وهذا كان موقف الرأسمال الإمبريالي بمجمله الذي عبّر عنه الإعلام التابع له، والذي عمل، منذ البدء، على تشويه الثورة باعتبار أنها حرب أهلية وصراع طائفي، ومن ثم إرهاب. وكانت إيران تريد السيطرة، وسحق الثورة، خشية أن تتكرّر فيها بعد الثورة الخضراء التي حدثت سنة 2009. وأيضاً كانت روسيا ترتعب من الثورات، وفي الوقت نفسه، تريد التدخل من أجل فرض وجودها الفعلي في "الشرق الأوسط".
لعب كلٌّ من هؤلاء دوراً ما للوصول إلى سحق الثورة، وإيقاف توسّع المدّ الثوري الذي بدأ من تونس، وقام بما يؤجج الصراع ويشوهه. لكن روسيا وحدها طرحت على نفسها مهمة سحق الثورة وكسر الثورات العربية. قامت نيابة عن كل هؤلاء بالدور الأخطر، والأكثر وحشية لسحق الثورة في سورية. عادت إلى تكرار دورها القيصري في أن تكون حصن الرجعية في أوروبا إبّان ثورات سنوات 1848/1851. هذا هو مختصر تصريح شويغو، فهو يلخّص موقف الرأسمالية بمجملها، ويوضح أن روسيا هي التي نفذت إرادة هذه الرأسمالية. إن روسيا هي، بالتالي، الأداة القذرة للطغم الرأسمالية، وهي تعي ذلك، وتعلم أنها تقوم بهذه المهمة.
يعيد التذكير بهذا التصريح، وبما يعنيه، القصف الوحشي الذي تقوم به الطائرات الروسية في الغوطة الشرقية، وبالقرار الروسي باستسلام "المسلحين"، وبتكرار ما جرى في حلب، حيث أدت الوحشية إلى تهجير الشعب، وترحيل المقاتلين. وهو يوضّح أن القرار العسكري الروسي يتلخص في سحق الثورة، وليس في تحقيق "سلام" عبر المفاوضات، وأن كل الأشكال التي تطرحها روسيا للتفاوض، من جنيف إلى أستانة إلى سوتشي، ليست سوى "كسب زمن" في سياسةٍ تقوم على تصفية مواقع الثورة، واحداً بعد الآخر.
هنا يظهر وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، راعياً لتحقيق السلام في سورية، لكنه يريد أن يفرض سلامه. لهذا يظهر شويغو محققاً لهذا "السلام" الذي لا يتحقق إلا بالإبادة. هذا ما مارسه الروس في الشيشان، ويدعمون من يمارسه في شرق أوكرانيا. فهم يعانون من عقدة نقص القدرة على الانتصار، لهذا يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم ينتصرون، حتى وإنْ على شعب محاصر وبسلاح خفيف، ومن دون دعم. ويريدون أن يفرضوا إرادتهم التي تقوم على أن قرارهم هو الذي يجب أن يُفرض، وهم يريدون حلاً يبقي بشار الأسد، بعد أن تُسحق الثورة، ومن ثم يمكن إشراك عملاء جدد لهم في حكومةٍ تحت سيطرتهم. لقد فرضوا بوجودهم العسكري توقيع اتفاقاتٍ تسمح لهم بإقامة قواعد عسكرية، وببقائها تسعاً وأربعين سنة إلى أربع وسبعين سنة.
أيُّ عنجهية هذه؟ وأي دموية يمارسونها؟ من دون أن ننسى أنهم يقومون بذلك كله نيابة عن الطغم الإمبريالية كلها، هذه الطغم التي تريد سحق الثورات، وارتكاب المجازر لتخويف الشعوب كي لا تفكّر في الثورة في أيّ وقت. وها أن الروس مستعدون لفعل ذلك، وهم يقومون بذلك بكل جدارة، لأنهم يمتلكون أحدث الأسلحة التي جرّبوا كثيراً منها لأول مرة على رأس الشعب السوري. هل من أفضل من ذلك للطغم الإمبريالية الأميركية والأوروبية، والصينية وغيرها؟ إن يد روسيا الإمبريالية هي التي تتلوث بكل هذا الدم في سورية، وتظهر في هذه الوحشية، وتغرق في مستنقعٍ يمكن صيدها فيه. حيث تتصارع الإمبرياليات على جثث شعوب "الشرق الأوسط"، وحيث يريد كل منها أن يحقق مصالحه، بغض النظر عن جثث السوريين ودمائهم.
شويغو هو رأس الهجوم الوحشي في سورية، وهو الذي رسم الخطط لـ "سحق الثورة"، وأراد "كسر الثورات العربية"، وهو الذي يعبّر بعمق عن سياسة فلاديمير بوتين، ويطبِّق ما يعبّر عن ميوله السادية، الميول التي تؤسس لفاشية جديدة، يفرضها مأزق الرأسمال الروسي الذي يريد أن يسيطر على أمم، ويستحوذ على أسواق، لكي ينهض، ويحتلّ محل الرأسمال الأميركي، فهو عكس الرأسمال الصيني، لا يستطيع المنافسة في سوق عالمي مفتوح. لهذا يختار أن يسيطر بالقوة، معتقداً أنه قادر على ذلك. ولهذا اعتقد أنه يقتنص الوضع في سورية، لكي يتقدم تحت مبرّرات "الشرعية الدولية"، و"السيادة الوطنية"، فيفرض احتلاله، ويمدّ سيطرته. من دون أن يلمس أنه ينفِّذ السياسة الإمبريالية بمجملها، وأنه، في الآن ذاته، ينجرف نحو "المصيدة". فما يريده أكبر من أن يستطيعه، وقدرته على سحق الثورة لا تؤهله لأن يقيم نظاماً يستطيع الوقوف على قدميه، أو الاستمرار في الوجود. بالضبط لأن ثورة تريد اقتلاعه، وأن كل مجريات الصراع فرضت ألا يكون ممكناً إعادة بناء النظام، حتى وإن انتصر بقوة الروس وإيران وكل المليشيات الطائفية التي تحشدها، وكل الشركات الأمنية التي تجلبها. فالنظام بات عاجزاً عن الاستمرار في كل الأحوال، وإذا ما قرَّرت روسيا استمرار وجودها العسكري، لكي توجد له أرجلاً يقف عليها فستقع في "أفغانستان جديدة"، أولاً نتيجة قدرة الشعب السوري على الاستمرار في الصراع ضد النظام وكل المحتلين. وثانياً لأن التنافس العالمي سوف يستغلّ هذا الوجود، لكي تُضعف روسيا، ويقودها إلى مستنقع يجبرها على تناسي الحلم بقيادة العالم.
روسيا إمبريالية غبية، فهي تنفّذ إرادة الرأسمال الإمبريالي، لكنها لا تستطيع أن تحصد النتائج لصالحها. تعمل على سحق الثورة، وكسر المسار الثوري العربي، لكنها لن تستطيع حصد ما يحقق مصالحها، وربما تغرق في مواجهةٍ تفرض انسحاقها. فلا إجرام شويغو يفيد، ولا عنجهية بوتين تنفع، ولا كل التطور التكنولوجي يسمح بسحق ثورة قررها شعب.
نتيجة فشل الروس في تحقيق اختراق سياسي في سوتشي، ونتيجة لفشل المحور الروسي في إجراء خرق في جدار "قوات سوريا الديمقراطية" المحمية أمريكيا، بدأ الروس إعادة ترتيب المشهد العسكري في مناطق خفض التوتر؛ بما يناسب المواجهة مع الولايات المتحدة التي تحمل عنوان الصراع في المرحلة المقبلة.
لم تعد مناطق خفض التوتر ذات أهمية كبيرة بالنسبة للروس بعد التغيرات التي طرأت في إدلب ودخول الأتراك معركة عفرين، وما فرضته من وقائع جديدة على الأرض، في حين تبدو منطقة خفض التوتر الثانية (الجنوب السوري) بعيدة عن الاهتمام بسبب ارتباطها بالأردن وإسرائيل. أما المنطقتان الثالثة والرابعة داخل العمق السوري (الغوطة الشرقية، ريف حمص الشمالي)، فيجب أن تخرجا من اتفاق خفض التصعيد ويجب إيجاد حل لهما، إما عن طريق الحل العسكري أو ما يسميه النظام المصالحة الوطنية (الاستسلام).
وبالتالي، لا يخرج استخدام النظام السوري وروسيا القوة العسكرية المفرطة في الغوطة الشرقية عن معادلة تثبيت مناطق النفوذ؛ ضمن الصراع المعلن بين المحورين الروسي- الأمريكي. كما لا تخرج العمليات العسكرية في الغوطة عن معادلة الصراع المضمر بين الحلفاء (روسيا، إيران).
المقاربة الروسية في إدلب والغوطة الشرقية يجب النظر إليها من زاوية الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
يبدو من الصعب الحديث عن عمليات عسكرية كبيرة في الغوطة الشرقية؛ تقارب في قوتها ما جرى في حلب أو حماة أو ريفي اللاذقية الشمالي والشرقي ودير الزور. بمعنى أن المعارك الجارية الآن ليست بهدف السيطرة على كامل الغوطة، فلا الزمن يسمح بذلك (خصوصا بعد صدور القرار الدولي 1401)، ولا التفاهمات الدولية تسمح بذلك.
المناطق المحيطة بدمشق لها خصوصيتها، ولذلك لم يقم النظام بعمليات عسكرية للنظام في كل البلدات المحيطة بدمشق خلال السنوات السابقة (الشمال الغربي: تل منين / بلدات وادي بردى، الغرب: المعضمية، الجنوب: داريا / مخيم اليرموك / التضامن / بيت سحم / ببيلا، الشرق: الغوطة الشرقية)، لأسباب عديدة:
- هي مناطق معزولة عن محيطها الخارجي، ويسهل حصارها كبديل عن العمليات العسكرية المباشرة.
- ذات ثقل سكاني كبير، ومن شأن العمليات العسكرية أن تهدم البنى التحتية، وتدفع الأهالي للنزوح نحو دمشق.
- يرغب النظام ببقاء هذه البلدات كحزام سكاني يحمي دمشق من أية تغيرات مستقبلية مفاجئة في الصراع السوري.
- يرغب النظام بإجراء تسويات تسمح له باستجلاب عناصر مقاتلة للقتال معه بعد تسوية أوضاعهم.
وفيما يتعلق بالغوطة الشرقية، فثمة نقطتان مهمتان تضافان إلى ذلك، أولهما أن الغوطة تشكل السلة الغذائية لدمشق، وبالتالي فإن العمليات العسكرية البرية ستؤدي إلى دمار الأراضي الزراعية أكثر مما هي مدمرة الآن بكثير. والثانية، أن الغوطة لها ثقل سكاني (400 ألف نسمة) مع تشابك المنازل والأحياء، ما يحول دون عمل الجيش النظامي ويفرض الانتقال إلى حرب العصابات، وهذا أمر صعب للغاية في ظل وجود فصائل عسكرية ذات وزن ولديها خبرات كبيرة في هذا النوع من القتال، وتمتلك أنفاقا وخنادق معقدة. و"غزوة دمشق" بداية العام الماضي ومعركة إدارة المركبات أواخر العام الماضي والعام الحالي؛ تدل على ذلك.
الهدف الأساسي من التصعيد العسكري الكبير هو إخراج الغوطة من معادلة الصراع، ولما كان هذا الأمر صعبا لأسباب عسكرية ولأسباب إقليمية ودولية، يعمد المحور الروسي على إضعاف قوة المعارضة العسكرية؛ عبر محاولة تقطيع الغوطة، والاستيلاء على بعض المناطق الحاكمة التي من شأنها أن تضع الفصائل تحت نيران النظام، تمهيدا لإجراء تسوية على غرار التسويات التي جرت في جميع البلدات المحيطة بدمشق. كما أن الروس يسعون إلى إبعاد الإيرانيين من الغوطة الشرقية التي تتوسط بين العاصمة وبادية حمص وبادية السويداء.
يبدو أن التركيز الروسي في مجلس الأمن على ضمان الآليات الكفيلة باستدامة وقف إطلاق النار؛ مؤشر على أن الروس يحاولون عبر البوابة الأممية فرض تسوية في الغوطة تسمح بنشر شرطة عسكرية روسية (شيشانية) فيها بحسب تفاهمات أستانا، وقطع الطريق على إيران في هذه المنطقة.
باختصار، يعمل الروس على تسوية المناطق القابلة للتصرف بمستويات مختلفة، كالغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، والقلمون الشرقي. ولعل إعلان موسكو قبل نحو أسبوعين أن مهلة الهدنة في ريف حمص الشمالي ستنتهي ولن تجدد؛ ليست سوى مقدمة لإجراء تسوية نهائية تشابه حي الوعر في حمص، كما أن تعزيز النظام لوجوده في مطار الضمير العسكري، يدل على أن استعداده فتح جبهة بلدتي الضمير/ الرحيبة لإجراء تسوية مشابهة.
إن إنهاء الجيوب الجغرافية في العمق السوري، إما بتسويات أو هدن أو إبادة عسكرية، هي مرحلة ضرورية للانتقال إلى المرحلة الثانية التي تتطلب تسخير كل الإمكانيات لمواجهة المشروع الأمريكي في الشمال والشمال الشرقي من سوريا.