سوتشي: من اللا ـ ورقة إلى اللا ـ مؤتمر
ابتكر المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا تعبير «اللا ـ ورقة» لوصف ورقة تقدم بها، في إحدى جولات مفاوضات جنيف، كانت عبارة عن مقترحات للنقاش الداخلي بين الطرفين السوريين المفترضين في المفاوضات، ولطالما كانت هذه، في حقيقتها، «لا ـ مفاوضات» على منهج الترمينولوجي الخاص بديمستورا. فالوفدان لا يلتقيان وجهاً لوجه، ويقوم الوسيط الأممي العجوز بدور المكوك النشط بين غرفتي الوفدين، ناقلاً الأفكار والمقترحات والردود المتقابلة بينهما. وتظهر «اللا ـ نتائج» التي انتهت إليها الجولات المتتابعة لمسار جنيف كم كان كل ذلك عبثياً وبلا طائل. ذلك لأن الوفد الممثل للنظام لم يكن يحضر عن قناعة بالبحث عن حل سياسي، بقدر ما كان يكرر «ثوابته» التي يمكن اختصارها في الشعار الشهير «الأسد أو لا أحد»، في الوقت الذي تواصل قواته المعززة بالميليشيات الإيرانية والطيران الروسي «حرق البلد» على ما ذهب إليه الشعار الثاني الملازم للأول.
برغم عبثية مسار جنيف، كان ما يميزه عن المسارات البديلة التي أخذ الروس يطرحونها منذ سقوط حلب، هو الدور المحوري للأمم المتحدة، والمظلة السياسية التي توفرها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وقرارات هذا المجلس التي تبقى، برغم كل ما يمكن أن يقال بحقها، مرجعية متعددة الضامنين، وتعكس موازين القوى الدولية القائمة. في حين أن مسارات آستانة وسوتشي تعبر، في أحسن الافتراضات، عن تحالف ثلاثي روسي ـ إيراني ـ تركي، وقائمة أساساً على الإرادة الروسية المنخرطة في الحرب لمصلحة النظام الكيماوي.
أطلق بوتين فكرة مؤتمر سوتشي، بدايةً، بعد إعلان انتصار قواته من قاعدة حميميم على شاطئ المتوسط، بحضور تابعه السوري بشار الأسد. «مؤتمر الشعوب السورية»، كما أطلق عليه في البداية، كان فكرة طموحة أراد منها بوتين تظهير انتصاره العسكري سياسياً، في وقت كانت فيه الإدارة الأمريكية غارقة في مشكلاتها الداخلية المتعلقة بشرعية سيد البيت الأبيض المتهم بالاستفادة من خدمات روسية في حملته الانتخابية ضد المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون. ثم غير الروس اسم المؤتمر بسبب اعتراضات كل من النظام والمعارضة اللذين لا يستسيغان تعبير الشعوب السورية المتعارض مع العقيدة الراسخة بصدد «الوحدة الوطنية». فأصبح «مؤتمر الحوار الوطني السوري» في استعادة لاسم اجتماع مماثل جرى، في صيف 2011 في دمشق، برئاسة فاروق الشرع.
في غضون ذلك أطلقت الإدارة الأمريكية رؤيتها الخاصة بشأن الصراع في سوريا، وعادت بزخم إلى الحضور في الميدان وفي أروقة الدبلوماسية. فأعلنت أن قواتها وقواعدها العسكرية القائمة شرقي نهر الفرات وشماله، باقية إلى أجل غير مسمى. وحددت أهدافها بمواصلة مكافحة الإرهاب حتى ضمان عدم عودة «الدولة الإسلامية»، ومواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، وضمان الوصول إلى حل سياسي مستدام، وفقاً للقرارات الأممية ذات الشأن، يتضمن، في نهاية المطاف، طي صفحة حكم عائلة الأسد. وخطت واشنطن بعض خطوات في اتجاه تطبيق رؤيتها هذه، منها الإعلان عن تشكيل جيش من 30 ألف مقاتل في منطقة نفوذها، وعقد اجتماع خماسي في واشنطن لمجموعة اتصال دولية جديدة بشأن سوريا، بموازاة الثالوث الروسي ـ الإيراني ـ التركي وفي مواجهته، وإعادة فتح ملف جرائم السلاح الكيماوي التي ارتكبها النظام منذ 2013 إلى اليوم.
هذه التطورات شجعت المعارضة السورية على اتخاذ قرارها، في اللحظات الأخيرة، بمقاطعة اجتماع سوتشي، مع مساندة فرنسية ـ أمريكية، إذ اقتصر حضور هاتين الدولتين على إيفاد مراقبين. وهكذا بدا أن اجتماع سوتشي تم إفشاله قبل انطلاقه، وبخاصة بعدما سبقه، بأيام، مؤتمر فيينا في إطار مسار جنيف، برعاية أممية ودولية. كان بوسع روسيا التغطية على هذا الفشل المبكر بتأجيل «سوتشي» مرة أخرى، بدعوى وجوب «الإعداد جيداً». لكنها لم تفعل، ربما بسبب اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي يريد بوتين دخولها بزخم تحقيق إنجاز سياسي يتوج «نصره» العسكري على سوريا، فلم يبق ما يكفي من الوقت لإنقاذ المؤتمر من الفشل، خاصةً بعد اتضاح نوايا واشنطن الجديدة. حتى اللحظات الأخيرة راهن الروس على كسر إرادة الهيئة العليا للمفاوضات، بالتهديد والوعيد، أو بإغراء وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية. وإذ أعلنت «الهيئة» المعارضة رفضها حضور اجتماع سوتشي، عادت حمم نيران النظام تصب على الغوطة المحاصرة. ومن جهة أخرى تمكن الروسي من إحضار بعض أعضاء الهيئة (منصة موسكو) المحسوبين عليها أصلاً.
لكن العقبات أمام لا ـ مؤتمر سوتشي لم تقتصر على الهيئة العليا والأميركيين والفرنسيين، فقد برزت مشكلات كبيرة من داخل جماعة سوتشي نفسها: تركيا التي اعترضت على وجود الإرهابي معراج أورال المتهم بتفجيرات مدينة الريحانية، في ربيع 2013، التي راح ضحيتها 52 قتيلاً من المدنيين، فضلاً عن مجازر بانياس الطائفية. ووفد الفصائل السورية التابعة لأنقرة الذي رفض مغادرة المطار وقاطع اللا ـ مؤتمر في آخر لحظة، في حين فوّض أحمد طعمة الوفد التركي أن يتكلم باسمه، على ما نقل عنه. (كان الرد الروسي على تلكؤ أنقرة فورياً وقاسياً: اعترضت نيران الطيران الروسي ومدفعية ميليشيات النظام الكيماوي، قافلة عسكرية تركية كبيرة متجهة من شمال محافظة إدلب إلى جنوب مدينة حلب. الحصيلة: قتيل وجريحان من القافلة التركية. وصلت الرسالة، فشارك الوفد التركي في اللا ـ مؤتمر).
كل هذه التفاصيل كانت كافية وتزيد ليعلن عن فشل موسكو المدوي فيما أرادته من هذا الاجتماع المصمم، أصلاً، للحصول على موافقة المجتمعين الـ1600 على مخرجات أعدت مسبقاً لتعويم «الحل» الروسي القائم على توثيق «النصر» العسكري. ولعل في تصريحات الناطق الروسي بشأن «تسليم السلطة لديمستورا» لإيجاد حل سياسي للصراع السوري في جنيف، ما يطابق إعلان الفشل بصورة مواربة. «لجنة تعديل الدستور» المنبثقة عن اللا – مؤتمر تتألف من 150 شخصاً «ستضم أيضاً معارضين قاطعوا سوتشي» على ما قال لافروف، سيرأسها ديمستورا في جنيف!
إن لم يكن هذا محاولة لإنقاذ ماء وجه موسكو، فماذا يكون؟