لحم سوري للبيع، صرخة ألم، صرخةٌ تختلف عن كل الصرخات؛ فلها وقعٌ خاص في الوجدان والضمير وتركت أثراً عميقاً في القلوب والعقول، صرخةٌ تدمي القلوب، وتجيشُ لها المشاعر، وتجري لها المآقي. لكن إذا كان الضمير ميت والوجدان غائب والمشاعرُ متبلدة والمآقي لا تجري إلا على من تشتهي فالوضع خطير ومقلق والبشرية وبقاؤها في خطر كبير.
لحم سوري للبيع، صرخاتٍ أطلقها ذاك الشاب السوري الملكوم على أملِ أن تقع في سمع من بقي لديه شيء يسير من ضمير وقليل من إنسانية في عالمٍ أصبح الإجرامُ والإرهابُ ديدنٌ لمن يحكمه ويُسَيِرَهُ في السر والعلن.
عن الصرخة أحدثكم، لكنها ليست الصرخة تلك مجموعة الأعمال للوحاتٍ تعبيرية التي قام بإنجازها الرسام النرويجي إدفارت مونك لتصوير شخصية معذبه أمام سماء حمراء قانية بلون الدم، كما أنها ليست فيلم الصرخة الشهير للكاتب كيفن ويليامسون الذي أخرجه ويس كرافن وقامه بدور بطولته نيف كامبل، كورتني كوكس أركيت وديفيد حيث تدور أحداثه حول قاتل يرتدي قناع مخيف يشبه الصرخة يقوم بقتل أصدقائه بالسكين وبدون رحمة وبأبشع الطرق.
يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ بدعوى محاربة الإرهاب! أي إرهاب هذا الذي يمارسه طفل أعزل لا يقوى إلا على حمل حقيبته المدرسية؟!
إنها صرخة من نوع اّخر، صرخة لم يشهد لها العالم مثيل، لا بل ولم نسمع بها من السلف ولا عبر مر السنين العابرة. صرخةُ ألم ألغت كل الصرخات حذفت كل البشاعات، مسحت من التاريخ أفظع الجرائم وقلة الإنسانية والحقد الأسود والكره الدفين، صرخةٌ تربعت على عرش الصرخات.
صرخة رجال الغوطة، صرخة أطفالهم ونساءهم وعويل شيوخهم، صرخة أطفالهم المسحوقين الملكومين التي لم تستطع الكاميرات رصدها ولا الكلمات وصفها ولم يستطع مونك رسمها ولا حتى ويس كرافن من تصويرها وإخراجها، صرخةٌ دونت على صفحات جدران منازلهم، مساجدهم، عانقت أبراج السماء ولم يرجعُ لها صدى؛ لربما ابتلعته شياطين الظلام.
صرخة كتبها حقد من لا يملك الحد الأدنى من الإنسانية على أطفال الغوطة ونسائهم ورجالهم وعلى أشجارهم وأحجارهم، صرخة أخرجها ورسمها نظام تحدى العالم أجمع بجميع مؤسساته ومنظماته وهيئاته ضارباً بعرض الحائط كل المواثيق والمعايير والاتفاقيات والمعاهدات الدولية والانسانية. نظام يقتل شعبه بدم بارد وكأنه يذبح شاة أو دجاجة! ولا من منقذ ولا من مجيب وكأن الشعب السوري ليس من هذا الكوكب.
والغريب أن جميع المؤسسات العالمة التي تعنى بالإنسان بجميع جوانبه آثروا الصمت على تلك الجرائم البشعة، واكتفوا بعبارات الاستنكار الخجولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع التي يطلقونها على استحياء من قاعات مؤتمراتهم الفخمة أو من الأفضل القول قاعات مؤامراتهم القذرة على الشعوب التي لم تر منهم خيراً، وكأن الإنسان إذا كان عربياً لا يعنيهم، فالطفل العربي دمه مباح، والمرأةُ العربية لا حقوق لها ولربما لو أن المقتول كان كلباً لقامت الدنيا وما قعدت.
صرخة قام بدور البطولة فيها جيوش الشرك وفرسان الظلام، صرخة كان يستجدي ضحاياها جلاديهم بأن يقتلوهم بلطف حتى يموتوا بأقل تكلفةٍ من الألم. يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ بدعوى محاربة الإرهاب! أي إرهاب هذا الذي يمارسه طفل أعزل لا يقوى إلا على حمل حقيبته المدرسية؟! أي إرهاب هذا الذي تمارسه نساء لا حول لهن ولا قوة؟! وأي إرهاب هذا الذي يمارسه شيوخٌ لا يقوون على حمل رغيف الخبز؟!
يا الله أكاد أسمع صرخات الأطفال المذبوحين تطرق وجداني، تهز ضميري، فلقد استنجدوا فلم يجدوا مجيب، ولقد هزموا فلم يجدو نصير، إلا وجوه جلاديهم البشعة القبيحة مرتدية قناع الحقد الذي تراكم علية غبار الكراهية، وتكدست عليه فتاوي المرجعيات بقتلهم، لا نقول إلا عذراً أطفال الغوطة، أطفال سوريا، عذراً حرائر الغوطة، عذراً عذراً، فعندما صرختم كنا نائمون!!
في الوقت الذي ما زال النظام الكيميائي فيه يشن حربه الدموية على الغوطة الشرقية بغية القضاء على آخر معاقل الثورة المسلحة لصق العاصمة دمشق، وإفراغ مدنها وبلداتها من السكان، بدأ فجأةً سلسلة من الغارات الجوية والقصف المدفعي على مدن وبلدات محافظة درعا المشمولة في إطار منطقة «خفض تصعيد» بضمانة روسية ـ أمريكية ـ أردنية.
فما معنى ذلك؟
لا يمكن تفسير الأمر ببعض الدعوات التي أطلقت لتحريك الجبهة الجنوبية، لتخفيف الضغط عن الغوطة الشرقية. فعلى رغم النوايا الطيبة لهذه الدعوات، فهي تغفل أن تلك الجبهة هي الأكثر انضباطاً بما يملى عليها من غرفة العمليات المعروفة باسم «موك». وحتى بعد بداية غارات النظام على المنطقة، دعا الأمريكيون الفصائل هناك إلى «ضبط النفس»، بالتوازي مع الدعوة إلى اجتماع عاجل في عمان لدراسة الوضع المستجد.
إذن النظام بدأ حربه الجديدة في الجنوب بمحض اختياره، ولم يصدر عن ردة فعل على هجمات من الثوار، أو عن ضرورات عسكرية متعلقة بحربه على الغوطة. ومن وجهة نظر روسيا ـ صاحبة القرار العسكري الفعلي على الأراضي السورية ـ لم يكن الأمر نتيجة انتهاء صلاحية تفاهماتها مع واشنطن حول منطقة وقف التصعيد في الجنوب. بل من الواضح أن الأمريكيين فوجئوا بتسخين هذه الجبهة، فنصحوا الفصائل بضبط النفس، لتفويت الفرصة على روسيا على تخريب التفاهمات المذكورة.
يتعلق الأمر إذن بضغط روسي على واشنطن بحثاً عن صفقة شاملة تضع نهاية للصراع وفقاً للتصور الروسي. فقد طلب الأمريكيون من الروس التفاهم على تعميم النموذج «الناجح» لمنطقة خفض التصعيد في الجنوب على المناطق الأخرى في سوريا، أساساً لحل سياسي مستدام. في حين حاول الروس أن يغيروا موازين القوى القائمة بهجومهم الفاشل قرب دير الزور.
من ناحية أخرى، أطلقت موسكو يد تركيا في منطقة عفرين ضد وحدات حماية الشعب المتحالفة مع الأمريكيين، كنوع من الضغط المعنوي الإضافي على واشنطن، من خلال إظهارها بمظهر المتخلي عن حليفه الكردي، العاجز عن حمايته. وهو ما أربك الأمريكيين فعلاً، ووضعهم مجدداً أمام الاختيار الصعب بين تركيا والكرد، في حين أنهم لا يريدون التخلي عن علاقتهم مع أي منهما.
روسيا بوتين تملك، إذن، الكثير من الأوراق لإرباك غريمتها الأمريكية في سوريا، حتى بعدما أعلنت واشنطن، قبل أشهر، استراتيجيتها بشأن الصراع في سوريا، وفي القلب منها إعلانها عن تمديد بقاء قواتها شرقي نهر الفرات وفي الجنوب إلى أجل غير مسمى. وإذا كانت موسكو قد قبلت هذا الوضع على مضض، فهي تريد مقابل ذلك تسهيلاً أمريكياً لاستراتيجية خروج من الصراع السوري، ما زالت واشنطن تضن به عليها. وقد رأينا كيف تعاملت موسكو مع قرار مجلس الأمن 2401 بشأن هدنة إنسانية لمدة ثلاثين يوماً على كافة الأراضي السورية. فكما لم تلتزم هي نفسها ـ ومعها تابعها السوري ـ بمتطلبات هذا القرار، فزادت من كثافة نيرانها القاتلة على الغوطة الشرقية، ولم تسمح بإدخال المساعدات الطبية، وعطلت التنفيذ حين سمحت بعبور بعض الشاحنات، كذلك أعطت الضوء الأخضر لتركيا كي لا تعتبر نفسها معنية بالهدنة وفقاً لقرار مجلس الأمن المذكور، فتواصل شن هجماتها على منطقة عفرين وصولاً إلى تطويق المدينة وفرض حصار تام عليها.
كان بإمكان روسيا أن تستخدم، كعادتها، حق النقض في مجلس الأمن، لإفشال مشروع القرار. لكنها امتنعت عن ذلك، فسمحت بتمرير القرار، لتقوم بخرقه فتلقي بقفاز التحدي في وجه الأمريكيين والعالم بأسره. وها هي، بعد كل التحرشات المذكورة، تصعّد في الجنوب الذي يعتبره الأمريكيون إنجازاً لهم يطمحون إلى تعميم نموذجه.
لن يهدأ بوتين قبل إرغام واشنطن على العودة إلى تفاهمات، بشأن الصراع في سوريا، تشبه التفاهمات التي كانت قائمة في ظل إدارة أوباما. وهو ما يبدو أن إدارة ترامب التي يوجهها البنتاغون إلى حد كبير، لن توافق عليه.
في هذا الوقت جاءت إقالة وزير الخارجية تليرسون لتطلق تكهنات كثيرة بشأن أسبابها. لكن خليفته بومبيو، المدير السابق للاستخبارات المركزية الأمريكية، معروف بمواقفه المتشددة تجاه إيران. وينسجم تعيينه مع الاستراتيجية الأمريكية المعلنة بصدد مواجهة النفوذ الإقليمي لإيران.
لا يمكن التكهن بما يمكن للإدارة الأمريكية أن تطور من مفردات الرد على التحرشات والإرباكات الروسية، سواء في مجلس الأمن حيث قدمت مشروع قرار جديد بشأن الهدنة التي لم تحترمها روسيا وفقاً للقرار السابق، أو في عفرين حيث لجمت روسيا حليفها الكيميائي من التدخل، أو في المنطقة الجنوبية رداً على خرق موسكو لاتفاق خفض التصعيد. قد تشهد الأيام القادمة تطورات مفاجئة في الصراع الروسي ـ الأمريكي على سوريا، بعد كل هذه التحرشات الروسية، سواء باتجاه مزيد من التصعيد أو باتجاه تفاهمات موضعية تنتج عنها تهدئة مؤقتة في الجنوب على الأقل.
ما هو مؤكد بالنسبة لنا هو أن النزيف السوري مستمر، قتلاً وتهجيراً وتغييراً ديموغرافياً مطرداً.
في الوقت الذي تعيش فيه الغوطة الشرقية أصعب أيامها منذ بداية الثورة السورية منذ سبع سنوات، تقف حوران ورجالها أمام ما يجري في الغوطة في ظل تخبط بالموقف وضياع للأفق، يساعده تراجع النفس الثوري بين الأهالي نتيجة ما مرت به المنطقة من اتفاقيات خلال الفترة الماضية وما حملته من هدوء.
لا يختلف المتابعين للوضع في الجنوب السوري أن ما ينتظره الجنوب لن يكون مختلف كثيرا عما يجري في الغوطة الشرقية الآن، او ما تعرضت له مدن وبلدات الريف الشرقي في محافظة إدلب منذ أسابيع، مما يضع الفصائل العسكرية الثورية في حوران على وجه الخصوص، وعموما أهالي حوران أمام خيارين لا ثالث لهما وهي أما المراقبة وانتظار المصير المحتوم، وأما التحرك السريع لتدراك الموقف واستغلال انشغال النظام وقواته بمعاركه في الغوطة الشرقية، التي حشد لها قواته وميليشياته من كافة الاراضي السورية، وحتى من درعا.
وهنا يظهر للعيان أن الفصائل العسكرية في حوران لا تزال تملك الفرصة لإعادة خلط الأوراق في المنطقة الجنوبية من خلال استغلالها لنقاط ضعف النظام وانشغاله في جبهات ثانية مما يسمح لها بالتقدم في أحد مفاصل النظام على الاستراد الدولي دمشق درعا، كالسيطرة على مدينة أزرع أو بلدة خربة غزالة، أو حتى العمل للتقدم في عمق النظام باتجاه شمالي المحافظة، والوصول إلى أطراف ريف دمشق من خلال هجمات مباغتة ومنظمة تتمكن الفصائل من خلالها من إعادة أحياء الثورة ودفع عجلتها المتوقفة منذ شهور.
ولكن هل تمتلك الفصائل العسكرية استقلالية القرار لفتح هكذا معارك، هنا يمكننا استحضار ما حصل خلال الأيام القليلة الماضية من غارات من الطيران التابع للأسد وروسيا بشن عدة غارات على ريف درعا الشرقي في خرق واضح لاتفاق خفض التصعيد، حيث سارعت الولايات المتحدة لعقد اجتماعات مع فصائل الجنوب في العاصمة الأردنية عمان سعت من خلالها لكبح جماح الفصائل ومنعها من تنفيذ أي عمل عسكري ضد قوات الأسد وميليشياته ومنعها من تنفيذ غارات للطيران الحربي على بلدات حوران، حيث أكدت على أن الاسد وروسيا قاموا بخرق غير مقبول لاتفاق خفض التصعيد حيث نقلت عربي 21 نص رسالة امريكية لفصائل الجنوب جاء فيها "وعليه إننا نحثكم على ضبط الأعصاب، والتفكير ملياً في أهلكم من المدنيين، وعدم إعطاء الذرائع للنظام لقصفهم والقضاء على آخر معقل للمعارضة المعتدلة في سوريا"، في اشارة لعملها لمنع أي عمل عسكري ضد قوات الأسد جنوب البلاد.
وأمام ما تمر به الفصائل من مفارقات الانتصار للوضع في الغوطة الشرقية ومنع الجنوب من الوقوع فريسة سهلة في قبضة الأسد وروسيا والاستماع لصوت الشارع من جهة، أو الرضوخ للإملاءات الخارجية والاستماع لطلبات الولايات المتحدة التي لم تتمكن من منع روسيا والأسد من حرق أكثر من 60 مدني في كفربطنا أمس في الغوطة الشرقية دفعة واحدة غالبيتهم من النساء والأطفال، ووقوفها موقف المتفرج أمام تجاوز الأسد لخطوطها الحمراء باستخدامه للسلاح الكيماوي ضد المدنيين العزل الذي لم يكن ذنبهم ألا مطالبتهم بالحرية والكرامة.
في ظل ما سبق تقف المعارضة السورية في الجنوب السوري وعلى رأسها الفصائل العسكرية وقياداتها موقف تاريخي لا يمكن أن يتكرر، لأنه لو تكرر ما كان أمام ألا خيار المواجهة والدفاع عن أنفسهم لأنه سيكون في مناطق وعلى بيوتهم وعلى نسائهم وأطفالهم وأهلهم، ولم تتمكن الفصائل عندها من تبرير مواقفها وخسارة مناطق الثوار ألا بالاستماع للإملاءات الخارجية التي لم تسمن أو تغني من جوع.
تقبع في زنازين نظام الأسد حاليًّا 6736 سيدة، بينهن 417 فتاة بشكل غير قانوني. هذا الرقم من الوقائع المعروفة فقط. ففي سوريا تستخدم الأبنية المهجورة والمعامل والمستودعات كسجون، ما يعني أن العدد أكبر بكثير من المعلن.
جميع السيدات من المعارضة، اعتقلن لمشاركتهن في المظاهرات السلمية قبل الحرب، أو للضغط على أزواجهن وآبائهن وإخوانهن الذين يقاتلون في صفوف المعارضة.
يستخدمهن النظام لتحطيم وتشتيت المعارضة من الناحية المعنوية. فهو يعتقلهن بشكل غير قانوني في زنازين ضيقة، ولا يلبي حاجاتهن الأساسية، ولا يوفر لهن النظافة، بل يمارس عليهن مختلف صنوف التعذيب الجسدي.
بحسب ما روته ناجيات بطريقة ما من السجون، فإن نظام الأسد يعلق النساء وهن عاريات تمامًا، ويصعقهن بالكهرباء، ويرشقهن بالماء البارد، ويضعهن في مياه مكهربة، ويلدع أجسادهن بقضبان معدنية ساخنة، يمارس عليهن أساليب من التعذيب لا تخطر على بال ولا يقبلها ضمير. لكن لعل أقسى ما في الأمر هو تعرضهن للاغتصاب.
تتعرض السيدات المعتقلات في سجون النظام للاغتصاب بشكل ممنهج. لا أتحدث هنا عن حوادث منفردة أو حالات غير معروفة، وإنما عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مستمرة منذ سبع سنوات عن قصد وبشكل ممنهج. النظام يعرف ذلك، لأنه يستخدم الاغتصاب سلاحًا ضد معارضيه. ولا بد لي من الاعتراف أنني سمعت أمورًا لا يمكنني كتابتها.
أطلقت آلاف السيدات من تركيا و55 بلدًا آخر "صرخة صامتة"، بتنسيق من الحقوقية التركية غولدن سونماز، في 8 مارس/ آذار، من أجل إنقاذ أخواتهن السوريات من سجون الأسد.
هذه الصرخة هامة للغاية لأن العالم مصر منذ سبع سنوات على عدم رؤية وسماع ومعرفة ما تعانيه المعتقلات في السجون السورية. وفي الحقيقة، فإنه يساعد في ارتكاب هذا الجرم لأنه لا يعمل على منعه.
"قافلة الضمير" ليست فعالية (لإراحة الضمير) انتهت. في الحقيقة، هي بدأت حديثًا. الخطوة الأولى كانت إظهار هذه الحقيقة القاسية التي يتعامى العالم عن رؤيتها، وإسماع "الصرخة الصامتة" للمجتمع الدولي بأسره. هذه الخطوة نجحت.
الخطوة التالية هي الإجراءات اللازمة من أجل إنقاذ الأسيرات من سجونهن. تجري حاليًّا كتابة رسائل إلى المنظمات الدولية، وزعماء البلدان، وصاحبات الضمير الحي من مشاهير العالم.
ستتم زيارة كل منهم، وبذلك تتشكل ضغوط دولية من أجل منع نظام الأسد من ارتكاب المزيد من جرائم الحرب هذه، ودفعه إلى إطلاق سراح المعتقلات.
بعد ذلك ستبدأ مرحلة تحريك محاكم جرائم الحرب الدولية من أجل مقاضاة المجرمين وإنزال العقوبات المستحقة بهم.
لكن الأمر لا ينتهي عند ذلك، فهناك حقيقة غير مرئية، وهي أنه حتى لو انتهى أسر هؤلاء المعتقلات، اللواتي عشن هذا الظلم، يتوجب تحريرهن مما خلفه الأسر والمعتقل من أحمال جاثمة على صدورهن.
منذ العام الثاني للثورة السورية، واليأس ينتاب ناشطيها وكتابها، أولئك الذين أتيحت لهم فرص التعبير عن رأيهم. منذ العام الثاني، والأوصاف السلبية تنهال عليها. مع كل محطة خاسرة، مع كل انتكاسة، وما أكثرها.. وها هي اليوم تُستعاد هذه الأوصاف مع الفظائع التي يرتكبها الأسد، وحلفاؤه من روس وإيرانيين، ضد أهالي الغوطة الشرقية: إنها ثورة "مستحيلة"، أو "مغدورة"، أو "مهزومة"، أو "محتضرة".. و"الطريق مسدود" دائماً بوجهها. وإنه حان أوان لمْلمة خسائرها الفادحة، على الأقل من منطلق إنقاذ من تبقى من مدنيين.
وإذا ما تفاءل صاحب الرأي مرة، يقول إن لا الثورة، ولا نظام الأسد، قد "ربحا"؛ فيروح ويعدّد خسارة النظام دوره الإقليمي، وخسارته قراره، وديونه على حُماته من إيرانيين وروس.. إلخ. فيما خسر السوريون حيواتهم ومستقرّهم وعمرانهم، ومزيداً من حرياتهم، القليلة أصلاً. بعض الصادقين من الداعمين للثورة منذ بدايتها يجتهدون في تفسير هذا الإخفاق، فيحصون عيوب المعارضة، بمجالسها وائتلافها وجبهاتها: لم يكونوا بمستوى رجال دولة، لم يتحّدوا، لم يتفاهموا، لم يصيغوا رؤية، لم يأخذوا القرارات الصحيحة، لم يبنوا تنسيقاً، أو علاقةً، مع المجموعات المسلحة على الأرض، ولا مع المدنيين القاطنين عليها، أو على الأراضي الواقعة تحت سيطرة الأسد وداعميه.. ولكثرة تكرارهم هذا النقد، كاد بعض منهم أن يتفوَّق على الذين تخصصوا منذ بداية الثورة بتصيّد عيوب المعارضة، من دون غيرها من الأطراف صاحبة الأدوار على الأرض السورية.
قلّة منهم حاولت أن ترسم ملامح المجموعات المسلحة العاملة على الأرض، على الفرز بين "اتجاهاتها"، ومنْبتها وممارساتها. علماً أن هذه المجموعات، بقتالها ضد الأسد وحلفائه، هي التي أفشلت حتى الآن محاولات استعادة سورية بكاملها تحت عرشه. أبقت الثورة حية، ولو بملامحها الضبابية.
يصعب تجنّب إغراء التكرار في الحالة السورية، فالوقائع تتشابه. لكن المشكلة أن هذا التكرار لا ينتج فهماً إضافياً للعمق السوري المعقّد. من بعيد، يبدو الوعي التكراري ضئيلاً أمام الحجم اللامتناهي من وقائع الميدان، الغامضة، الملتبسة، ذات السيولة العالية. لا يصمد أمام تعقّد الحرب في سورية. يبدو مفارقاً، غير منطقي. فيما هي، أي الوقائع، تستحق أن تكون موضع نظر، موضع إصرار على النظر. فمثلاً: بعد المواقف المتباينة عن جبهة النصرة، هل استقرت فكرة سديدة عنها، تصلح أن تفسر دورها في الثورة، أو على الأقل في استمرارها مقاتلةً نظام الأسد؟ ما هي فكرة المواطنين القاطنين تحت سيطرتها؟ هل هم متشبّثون بنصرها؟ أم موزّعون؟ أم غاضبون منها؟ بصفتهم "دروعاً بشرية"، ليس إلا؟ وينطبق السؤال نفسه على المجموعات المسلحة الأخرى المقاتلة للأسد، أو العاملة تحت القيادة التركية، أو الأميركية. أو المجموعات الأخرى الداعمة للأسد بقيادات سورية، إيرانية، روسية.. بمعنى آخر، ثمّة ميوعة معرفية تكمن في موقفٍ يصعب استيعابه: من جهة، تأييد للثورة، وحماسة للمجموعات المسلحة التي تتصدّى لقوات الأسد وأسياده. ومن جهة أخرى، غمْغمة، حول طبيعة الفصائل الخائضة غمارها على الأرض، حول أيديولوجيتها التي تتناقض تماماً مع أيديولوجية صاحب الموقف، غير الإسلامي. كأنه يتأرجح بين وضوح أهداف الثورة وألغاز مسارها، أو أدواتها، أو مادتها البشرية.
أمر آخر تصرّ عليه أدبياتٌ كثيرة للثوار السوريين: إن الثورة السورية ما كان عليها أن تندلع. يشهدون على أهوالها، يسردون فجائعها، يشتاقون إلى ما قبلها. ويندمون. يتوقفون هنا، لا يتابعون. ماذا يعني أن "ليْتها لم تنْدلع"؟ كيف كان يمكن تجنّبها؟ بأية طريقة؟ ألم يحاول بشار الجبار منعها، وبأساليب غير متخيّلة؟ وماذا كانت النتيجة؟ هل منعها؟ هل استطاع أن يمنعها؟
يحاول بعض "الإيجابيين" أن يقدموا حلولاً بمفعول رجعي: "كان علينا أن نعدّ أنفسنا أكثر من ذلك"، يقولون. كيف "الإعداد" يعني؟ حزب قائد وقيادة كاريزماتية وجماهير؟ أو واحد منهم؟ كل هذه الأحزاب التي لا تحصى، كل هذه الشخصيات الكاريزماتية، كل هذه الجماهير.. كما يصدح الشيوعيون الحزبيون من منابرهم المرتاحة. حسناً، ماذا لو كانت تلك الأحزاب التي تلبي الشروط الثلاثة، كما تتصوّر، ماذا لو كانت عازفةً عن الثورة، بل واقفة ضدها؟ هل المشكلة في الإعداد أم في شيء آخر؟ أين علّة الإعداد حقاً؟ في الفكرة الواقفة خلفه؟ أم في القانون الحاكم لتنظيمها؟ وهل يمكن أن تنتج الفكرة الثورية مواقف غير ثورية؟ أو، كيف تكون، أصلاً، الثورة على الثورة؟
العاطفيون يتشبثون بلحظات الحرية التي مسّتهم، حين أطلقت حناجرهم في الهواء الطلق، بدافعهم الشخصي، بعفويةٍ كانت خلاقة، فجّرت الطاقات والإبداع والشجاعة. يتخيّلون أن الإلحاح على استحضار هذه اللحظة ربما يأتيهم بما يماثلها. كلا أيها السادة. هذه القشْعريرة التي وضعتها الحرية، تلك الغبطة التي التمعت بها عيون أصحابها، هي مثل ومْضة تجلٍّ: تختزن الطاقة، لكنها لا تحدّد وجهتها. عليك أنتَ توليد ذخيرتها الحيّة.
إذا كانت كل هذه التعبيرات حيّةً في ضمائر السوريين من أصحاب الرأي، فهذا يعني أن الثورة ما زالت قائمة. ونقصانها لا يلغي روحها. فالثورة ليست كائناً مادياً. إنها فكرة. والأفكار لا تقتلها قنابل أو براميل. يمكن أن تخشى التعبير عنها، يمكن أن تندم أنكَ عبّرتَ عنها. لكنها موجودة، بُثّت في الهواء الطلق، ولن تعود إلى قمْقمها السابق، محبوسة مع العفاريت والشياطين. ما يضاعف زخمها أن خسائرها أسطورية، وملاحمها وافرة، زائدة ربما عن حدّها. الثورة السورية لم تدخل التاريخ فحسب، إنما دخلت الأسطورة، وباتت بلا ميعادٍ. آجالها بعيدة ربما، أو متوسطة. وألوانها هي ربما من النوع الذي لم نألفه بعد، لم نتعلم لغته، لم نجد له التسميات بعد.
استعمل ما شئت من أسلحة، وما ترغب به من طرق وأساليب عسكرية، كما يمكنك الاتكاء على ترسانتنا، قديمها وجديدها، ما تم تجريبه وما ينتظر، مئات من أنواع الأسلحة المخصصة لمجابهة أميركا وحلف الأطلسي، واطلب ما تريد من مليشيات وعناصر تأتيك من لبنان وإيران وباكستان، فضلا عن العراق، فلا شيء أهم من أن يتردد في هذا العالم صدى صوت الزعيم فلاديمير بوتين حين يقول انتصرنا.
لا تهتم كثيرا لاستراتيجيات المُقال، ريكس تيلرسون، فللاستراتيجيات الحقيقية طعم ولون لا يشبهان تلك التي ينفثها هذا الرجل، ولا تعطي أذنك لفذلكات نيكي هيلي، فهي ليست مادلين أولبرايت ولا حتى سوزان رايس، ولا تزعجك قفشات بوريس جونسون ومندوبه في مجلس الأمن، ولا تعطي التفاتة لعنتريات ماكرون الحماسية. دع جميع هؤلاء لسيرغي لافروف يساجلهم على المنابر، ويزوّده مركزنا في حميميم بمعطياتٍ، نحن نجهزها وعلى العالم تصديقنا، ما دمنا نقول إن المسلحين يرشقون دمشق بالهاون، فليس للغوطة من ينقذها من مخالبنا.
أما ملف الكيماوي الذي أصبح مثل لعبة حاوي الأرانب السمجة والمملة، فالغرب يعرف، قبل الجميع، أنها قضية منتهية الصلاحية منذ اليوم الذي وافق فيه باراك أوباما على إجراء تلك المقايضة المعلومة، وعلى أساسها تم شطب السجل الكيماوي من تاريخ الصراع في سورية، فعن أي كيماويٍّ يتحدثون؟ إذا كانت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية لا تدرج غاز الكلور وغيره ضمن قوائمها!
هذه الحرب حربُنا، ونحن قوّة صاعدة يحق لها مجالٌ من الأرض، وقطاعات من البشر، نجرّب عليهم طرائق إداراتنا ونختبر أسلحتنا ونظهر للعالم كم نحن نستحق مثل هذه المكانة التي يجب أن نكون عليها، ثم هذا عرف دولي لم نخترعه نحن، كل القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة تعلن عن نفسها من خلال مناسبات كهذه، ونحن، روسيا العظمى الصاعدة لسنا أقل من أحد.
لا تنتبه لهم، لو أرادوا مواجهتنا لما احتاجوا كل هذا الزعيق، ولا ذلك النحيب، كانت لديهم عشرات الكتائب والمليشيات، ولم يكن الأمر يحتاج سوى بعض الأسلحة. يومها لم تكن قواتنا قد تدخلت، وكانت تقديراتنا تذهب إلى أنهم سيفعلون، ولم تكن لنا الاستعدادات الكافية لمنعهم، لكن ماذا حصل؟
لقد فكّكوا تلك البنية التي كانت تشكّل الخطر الأكبر عليكم وعلينا، وراحوا يصنفون، هذا متشدد لا يمكن أن نمنحه أسلحة، وذاك متوسط يصعب أن نتعامل معه مباشرة، والأخر معتدل، لكنه قد يكون مخترقاً، لذا يمكن التعامل معه، من دون أن نسلمه أسلحة كاسرة للتوازن، على ذلك فقد قرّروا تأسيس لعبة طويلة الأمد لا أحد يقدر على فهم أهدافها ومآلاتها غير استراتيجييهم الكهلين.
لا تقلق، لدينا خبرة واسعة في إدارة الأزمات، نعرف كيف نقضم مواقف الآخرين بالتدريج ونميّعها، ونعرف كيف نُغرقهم بالهوامش والتفاصيل، ونبعدهم عن الجوهر، ونعرف أيضاً كيف نجعلهم ينسون ما بدأوا النقاش به، كما نعرف كل النخبة السياسة الحاكمة في الغرب، نعرف مفاتيحهم وأقفالهم وأسرارهم ونقاط ضعفهم.
اضرب، هذا العالم لا يحترم سوى القوي، ألم تر كيف تقاطرت الدول لشراء أسلحتنا التي عرفوها بفضل نتائجها الباهرة في سورية، طائراتنا الفاخرة، وصواريخنا الخارقة، باتت رمزاً للقوّة، فالسوخوي أصبحت صنواً للعاصفة، وقاذفات الصواريخ BM-30 أصبحت رمزاً للجحيم، حتى التي لم نستخدمها مرّة واحدة، منظومة الصواريخ إس 400، فإنتاجنا منها حتى عقود مقبلة مباع سلفاً.
انظر إليهم، يرسلون الرسائل إلينا لنضغط عليكم، ولكي نطالبكم بوقف إطلاق النار في الغوطة، وكأن ليس نحن من اشتغل على إنتاج قرار مكبل في مجلس الأمن يصلح لكل شيء عدا وقف إطلاق النار، وكأن ليس ضباطنا من يقودون المعارك؟ ويتوسلون إيران لتضغط عليكم، وكأن إيران المشغولة في ترتيب تفاصيل مشروعها الجيوسياسي ستكون على استعدادٍ لإطلاق الرصاص على أقدامها نزولاً عند توسلاتهم!
ما يجب أن تعرفه جيداً أنك محظوظ أكثر من اللزوم، لأنك تقوم بأعمالك، بزمن موت الضمير العالمي، وموت السياسة، وانبعاث منطق العصابة، انظر حولك ستجد السياسة، وقد تحولت، في جميع أنحاء العالم، إلى نمط من حكم العصابات والسباق على الثروات والمغانم، فلم يُسقط هذا العالم الأيديولوجيات فحسب، بل وكل المنظومة القيمية والأخلاقية، بذريعة أنها من بقايا الصراع الأيديولوجي، وأحل مكانها منطق السوق بذريعة أنها لغة العصر ومفاتيح الشطّار للحداثة.
إنها فرصتك لتقتل في وضح النهار ثورة الشعب ومطالبه، وفرصتنا لنجعل هذا الأمر مشروعاً، فوداعاً للثورات التي تجعل عامة الناس وحثالاتهم، باسم الحرية والديمقراطية، يتطاولون على سدنة الأنظمة، الذين لولاهم لم تكن هناك دول، ولا حياة منظمّة، ولا أجهزة تدير حياة البشر.
افعل كل ما تريد، أما نحن سنكون مرّة في خلفية المشهد، عندما نفاوض ونساجل ونتبجح بالقوانين وسيادة الدول، ومرّة في مقدمة المشهد، عندما نضرب بأسلحتنا الفتاكة، ونقود المعارك، ويستعرض زعيمنا على شاشات عملاقة أسلحتنا الفاخرة، مثل إعلان تجاري مبهر.
وغدا عندما ستسقط الغوطة، سيتصالحون مع أنفسهم ويخضغون للأمر الواقع، بل ربما سيتنفسون الصعداء، لأنهم ارتاحوا من هذا العذاب، لن يختلف الأمر عن حلب. في اليوم التالي لسقوطها، لم يعد أحد يأتي على ذكرها، فكلّما ابتعدت الأحداث وكلما تسرّبت من الذاكرة وأزاحتها الضمائر.. تقدّم.
منذ عدة أيام والرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوجه انتقادات شديدة اللهجة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي يضم تركيا في عضويته.
بيد أن أردوغان حوّل انتقاداته هذه، في خطاب قبل يومين، إلى نداء وجهه للحلف، حيث قال: "تركيا التي تملك حدودًا طولها 911 كم تتعرض لتهديدات حاليًّا، فلماذا لا تأتي وتقف إلى جانبها؟".
يجب التأكيد أولًا على أهمية هذا النداء. فتركيا تقول للناتو إن حدودها عرضة لتهديدات، وتدعوه إلى مساعدتها.
موقف الحلف من هذا الطلب سوف يحدد مستقبل العلاقات بين تركيا والناتو.
نعلم أن حلف الناتو يحمي البلدان الأعضاء فيه من التهديدات الناجمة عن التنظيمات الإرهابية، وليس فقط عن التهديدات القادمة من جيوش نظامية.
وللتذكير فقط، تحرك الناتو في مواجهة تنظيم القاعدة بناء على نداء وجهته الولايات المتحدة.
تركيا استجابت إلى كل النداءات التي وجهتها الولايات المتحدة وحلف الناتو إليها حتى اليوم، لكن هذه المرة جاء الطلب من أنقرة.
فهل سيستجيب الناتو هذه المرة إلى نداء الرئيس التركي الذي قال فيه إن بلاده معرضة للتهديد، داعيًّا الحلف إلى المسارعة لمساعدتها؟
من الذي يقرر في مسألة ما إذا كانت الدول الأعضاء تتعرض لتهديد أم لا؟ إذا كان هناك مساواة بين الأعضاء فمن الطبيعي أنه ينبغي على الحلف الاستجابة الفورية لندائها.
بموجب النظام الداخلي الحال للحلف، يجب على الناتو أن يستجيب لدعوة الرئيس التركي إلى تقديم الدعم لبلاده التي تتعرض حدودها للتهديد.
في الحقيقة، يتطابق مطلب أنقرة هذا مع النظام الداخلي للحلف على الورق، بيد أنه لا يتواءم مع واقع الحياة بنفس القدر. فالأمور تسير بشكل مختلف في العالم.
يدرك أردوغان هذه الحقيقة، ولهذا يدلي بالتصريح التالي: "لو كان في وسع أعضاء الناتو في سوريا لوقفوا في مواجهتنا بكل صراحة. لكنهم لا يجرؤون على ذلك لأنهم يرون كيف تقف تركيا بحزم هناك".
نعم، دعكم من مسارعة الناتو إلى نجدة تركيا، هذا الحلف في الحقيقة هو نفسه مصدر التهديد الذي تواجهه.
فالناتو والولايات المتحدة يقفان إلى جانب التنظيمات الإرهابية التي تهدد وحدة تراب تركيا وحقوقها السيادية. وهما من أوجد تنظيم داعش وحزب الاتحاد الديمقراطي، ويعملان على تغيير حدود الدول في الشرق الأوسط عبر هذين التنظيمين.
ندخل مرحلة تعيد فيها تركيا النظر في علاقاتها مع الناتو كما هو الحال بالنسبة لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. وعلى أي حال من غير الممكن أن تخرج تركيا منتصرة من هذه المعركة فائزة دون مراجعة علاقاتها مع الطرفين المذكورين.
مضى على انطلاق عملية غصن الزيتون أكثر من خمسين يومًا، ولم يبق إلا بضعة كيلومترات على مركز المدينة. لم تعد وحدات حماية الشعب قادرة على إبداء مقاومة كبيرة في محيط مركز المدينة.
تسقط القرى الواحدة تلو الأخرى تحت سيطرة القوات التركية والجيش السوري الحر، بينما تشارك القوات الخاصة من الشرطة والدرك التركية في القتال إلى جانب الجيش.
منذ انطلاق العملية في 20 يناير وحتى ما قبل أسبوع كانت الأحوال الجوية في غير صالح تركيا. لم يكن ممكنًا للطائرات المسيرة التقاط المشاهد من الجو أو للطائرات المسيرة المسلحة تنفيذ هجمات، جراء سوء أحوال الطقس.
لكن مع تحسن الجو اليوم، ارتفع نجاح الهجمات إلى أعلى مستوى. وبينما بدأت قيادات وحدات حماية الشعب بمغادرة عفرين، فرت الميليشيات الصغيرة التابعة للنظام السوري.
من جهة أخرى، يعمل عناصر وحدات حماية الشعب على قطع الطريق أمام المدنيين الراغبين بمغادرة مركز المدينة، ليستخدمونهم كدروع بشرية.
تم القضاء على أكثر من ثلاثة آلاف إرهابي حتى اليوم، بينما سقط 43 شهيدًا. أثبتت تركيا للصديق والعدو أن قوتها العسكرية ما زالت في أوج حيويتها خلال عملية درع الفرات، فيما برهنت أن جيشها هو الأكثر فعالية واستعدادًا للتضحية في الناتو.
من جهة أخرى، لم نرَ حتى اليوم ممن نسميها حليفنا في الناتو، الولايات المتحدة، أي خطوة من أجل الحيلولة دون انتقال الآلاف من عناصر وحدات حماية الشعب إلى عفرين.
كما أننا لم ننسَ تهديدات الجنرالات البنتاغون أمام الصحافة في منبج، بالقول إن تركيا قصفتهم، وإن ردهم سيكون أكثر عدوانية.
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أعلن عن توصل بلاده إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول وضع وحدات حماية الشعب في منبج وشرق الفرات.
قد يكون إعلان هذا الاتفاق تكتيكًا أمريكيًّا للمماطلة، لأن إدارة أوباما كانت قد وعدت بأن وحدات حماية الشعب لن تعبر إلى غرب الفرات.
من جهة أخرى، قد يكون هذا التوافق تكتيكًا تركيًّا للماطلة، لأن أنقرة تواصل توجيه رسائل بأنها "ستستمر في طريقها"، من خلال خطابات الرئيس رجب طيب أردوغان.
وعلى أي حال، يبدو أننا سنشهد أيامًا تاريخية في أبريل ومايو القادمين، من ناحية اتفاقنا مع الولايات المتحدة حول منبج.
الحرب السورية الوحشية التي شنّها بشار الأسد على شعبه منذ سبع سنوات تحت عنوان مكافحة الإرهاب أثبتت أن ثقافة الكذب تجمع بين الحلفاء الثلاثة روسيا وإيران والنظام السوري. والقصف العشوائي الذي تتعرض له الغوطة الشرقية من الطيران السوري مع استهداف المستشفيات وعدم إتاحة إدخال مواكب المساعدات الإنسانية، تؤكد ما يظهر للجميع وهو عدم التزام روسيا تنفيذ قرار مجلس الأمن الذي وافقت عليه بالنسبة إلى وقف القتال في الغوطة وإدخال المساعدات.
فروسيا، وتحت ضغط دولي هائل، وافقت على القرار ولكنها لم تلتزم به وهي تساعد النظام على الاستمرار في القصف. وعندما يعاتب وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان نظيره الروسي سيرغي لافروف على عدم وقف القصف والقتال في الغوطة يجيب لافروف أن «القصف يستهدف الإرهابيين في الغوطة وليس المدنيين». والنظام السوري ومخابراته تدربا على يد الاتحاد السوفياتي الذي ورثته روسيا بقيادة أشخاص مثل بوتين تعلموا وكبروا ضمن ديكتاتورية النظام السابق. فبوتين التزم مرة مع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لتدمير النظام السوري سلاحه الكيماوي. وها هو النظام يقصف الأطفال بالغازات والكلور القاتل.
وتقدم روسيا مسار آستانة بحجة تخفيض التصعيد في سورية ونرى العكس عبر المزيد من التصعيد. كما أن بوتين أعلن أكثر من مرة أن القوات الروسية ستنسحب من سورية وهي لم تفعل ذلك بل كثفت وجودها إضافة إلى أنها تستخدم مرتزقة شاركوا في حرب الشيشان وأفغانستان للقتال في سورية بدل قوات الجيش الروسي. ووفق الصحافية الروسية إيلينا فولوشين في صحيفة «ليبراسيون» فإن روسيا تستخدم شركة «فاغنر» العسكرية الخاصة لحماية المواقع النفطية السورية حيث لدى الشركتين الروسيتين «غازبروم» و «لوكاويل» مصانع فيما تزود وزارة الدفاع الروسية شركة «فاغنر» بالأسلحة والذخائر والتجهيزات.
وتعترف موسكو في بيان للخارجية الروسية في ٧ شباط (فبراير) أن عشرات المواطنين الروس قتلوا في دير الزور نتيجة قصف أميركي ويدّعي البيان أن هؤلاء ذهبوا إلى سورية بإرادتهم ولأهداف مختلفة. وروسيا لا تعتمد الكذب فقط في سورية بل أيضاً دولياً. ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي قالت إن الغالب على الظن أن روسيا بوتين وراء محاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق الذي عمل لبريطانيا وابنته بالغاز السام. والنفي الروسي المتوقع جاء على لسان لافروف، ثعلب روسيا. فلا يمكن ان يثق أي كان بما تقوله القيادة الروسية. وقد سبق للافروف أن قال للودريان إن إيران هي عامل استقرار في المنطقة كأن الوزير الفرنسي يجهل كل ما تقوم به ايران في سورية واليمن ولبنان والعراق.
والنظام الإيراني لا يقل عن حلفائه الأسد وبوتين في الكذب خصوصاً عندما ينفي أي تزويد للحوثيين وحزب الله بالصواريخ الباليستية. إن تدخّل إيران على الأرض في سورية بخبرائها العسكريين ومقاتلي حزب الله لحماية الأسد وبناءها ترسانة صواريخ وأسلحة بين لبنان وسورية يساهمان في زعزعة استقرار كل منطقة الشرق الأوسط بما فيها الدول الخليجية بأسرها. من يقول إن الحوار مع روسيا وإيران مفيد يخطئ التقدير لأنه لا يسفر إلا عن عدم التزامات والمشاركة في جرائم الأسد على شعبه والبقاء على أرض عربية استولوا عليها بتقدمة من ديكتاتور سوري خرب بلده ليبقى رئيساً على أجزاء محطمة منه. والأسرة الدولية تترك الشعب السوري يقتل والقصف الروسي السوري مستمر والكل يعلم أن بوتين وفريقه والقيادة الإيرانية يمارسون الكذب ويشاركون الأسد في جرائمه من دون أن يتحرك أحد لإيقافها ومعاقبة المجرمين.
يعرف الإرهاب في أكثر تعريفاته شيوعاً، بأنه عمليات دموية مسلحة وعشوائية، تقوم به قوى منظمة، هدفها إجراء تغييرات وخلق حقائق جديدة على الأرض خارج إطار السياسة، لإجبار الآخرين بمن فيهم المدنيون على إجراء تغييرات في سياساتهم ومواقفهم. ولا يقتصر العمل الإرهابي على نشاط الأفراد والجماعات، بل يشمل ما تقوم به الدول في البعض من ممارساتها ضد الآخرين من أفراد أو جماعات ودول.
وتمثل غوطة دمشق الشرقية اليوم مسرحاً نموذجياً لواحدة من أكبر الأعمال الإرهابية، التي عرفها العالم في العقود الأخيرة من تاريخه. ففي هذه البقعة الصغيرة من محيط دمشق، هناك نحو أربعمائة ألف من السكان، أكثر من نصفهم أطفال، عاش غالبيتهم تحت القصف المستمر منذ سبع سنوات، وأغلب هؤلاء ولدوا في ظل حصار شامل مستمر منذ خمس سنوات، منع فيها دخول وخروج الاحتياجات الإنسانية بما فيها الغذاء والدواء والتجهيزات الضرورية لاستمرار الحياة.
الذنب الأساسي لسكان الغوطة أنهم خرجوا متظاهرين سلميين من أجل مستقبل وحياة أفضل لأولادهم وبلدهم مثل حال أغلبية السوريين الذين تظاهروا من أجل الحرية والكرامة في مارس (آذار) 2011، ثم ذهبوا إلى احتجاجات أوسع بعد أن أغلق النظام بوابات الحل السياسي، وأصر على حل عسكري أمني قائم على الإكراه والإجبار بالقوة، وهي جوهر الأعمال الإرهابية، التي شكلت نمطاً في سلوك نظام الأسد ضد السوريين منذ تولي الأسد الأب السلطة في عام 1970، وتعبيرها الأبرز مذبحة حماة 1982، التي قام بها حافظ الأسد وجهازه الأمني - العسكري تحت شعار محاربة المسلحين واستعادة سيطرة الدولة على المدينة بتدمير المدينة المحاصرة، وقتل عشرات الألوف من سكانها باستثناء من زج بهم في السجون، ومن شردهم في أنحاء مختلفة من العالم.
نموذج حماة في إرهاب الدولة، كرره نظام الأسد عشرات المرات ضد مدن وقرى وأحياء في السنوات السبع الماضية، سواء بواسطة قواته وأجهزته الأمنية أو من خلال ميليشياته، التي لا وظيفة لها سوى القتل والاعتقال والتدمير والتعفيش، قبل أن يطور استراتيجيته في إرهاب الدولة بإقامة تحالف إرهابي من دول وميليشيات لها تاريخ أسود، فخلق حلفاً من الروس والإيرانيين، وضم إليه ميليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية، إضافة إلى شركات المرتزقة وأبرزها المرتزقة الروس.
فالروس لهم نموذجهم في غروزني بالشيشان، والإيرانيون يمارسون الإرهاب، سواء عبر ما قاموا به في إيران أو بدعمهم جماعات إرهابية معروفة ومصنفة عالمياً في قائمة الإرهاب مثل «حزب الله» اللبناني، وهو واحد من ميليشيات إيران، التي تمارس عملياتها في العديد من البلدان.
لقد حشد الحلف الثلاثي قوته في مواجهة غوطة دمشق، وبدأ عملية إبادة شاملة هناك منذ ثلاثة أسابيع، ما زالت متواصلة رغم اتخاذ مجلس الأمن الدولي المنوط به حماية الأمن والسلم الدوليين قراره رقم «2401» بإعلان الهدنة في الغوطة، دون أن تتوقف الحرب، ولا يبدو أنها ستتوقف، لأن سيناريو الحلف الثلاثي يقضي بتحويل الغوطة إلى مكان بلا سكان، ولا مصير لهم سوى واحد من خيارات: الموت، أو الاعتقال، أو الترحيل إلى الشمال باتجاه إدلب، التي لن يكون مصيرها وفق سيناريوهات الحلف الثلاثي مختلفاً عن سيناريو الغوطة إلا ببعض التفاصيل الناجمة عن تمايزات ليست لها أهمية تذكر.
إن المبرر الرئيسي لحرب إبادة الغوطة وسكانها، كما يطرحه الحلف الثلاثي، هو محاربة الإرهاب الذي يصفون به تشكيلات المعارضة المسلحة في الغوطة، وهي التشكيلات ذاتها التي انخرطت في العملية التفاوضية في جنيف وآستانة، وهي طرف في اتفاق خفض التصعيد بالغوطة الذي تم الوصول إليه بضمانة كل من روسيا وإيران وتركيا العام الماضي، وقد امتنعت روسيا وإيران عن مواجهة خروقات نظام الأسد للاتفاق، بل شاركتا فيها قبل أن تصطفا مع حليفهما في الحرب الراهنة على الغوطة، الأمر الذي يسقط بالمعنى السياسي وصف الإرهاب عن تشكيلات المعارضة المسلحة في الغوطة، ويجعل كل من يقف إلى جانب نظام الأسد، مثل إيران، توصف به.
والنقطة الثانية في دلالات انخراط الدول الثلاث في إرهاب الدولة، رفضها المضي في الحل السياسي للقضية السورية، وإغلاق آذانها عن الدعوات والمطالبات الدولية والإقليمية القاضية بوقف الحرب وإتاحة الفرصة أمام الجهود السياسية، وتحدي الإرادة الدولية المعبر عنها في قرار مجلس الأمن، والقول إن سيناريو الغوطة الذي يقارب سيناريو حلب أواخر عام 2016، سوف يتكرر لاحقاً في إدلب وكل منطقة خارجة عن سيطرة النظام في سوريا.
والنقطة الثالثة في حرب الحلف الثلاثي، يمثلها الاستخدام المفرط والكثيف للقوة في الغوطة، وتنوع الأسلحة المستخدمة. ففي الحرب، تتحشد وتتشارك غالبية القوة العسكرية لنظام الأسد وميليشياتها، وبعض القوات الإيرانية وميليشياتها، فيها يتشارك طيران الروس مع طيران النظام في القيام بالهجمات الجوية، وتتواصل العمليات الأرضية والجوية بكثافة ليل نهار، وسط عمليات رصد واستطلاع مرافقة، وإضافة إلى استخدام الأسلحة التقليدية من مدفعية ودبابات وراجمات صواريخ، فإنه يتم استخدام الأسلحة المحرمة دولياً من البراميل المتفجرة وقنابل النابالم والأسلحة الكيماوية ومنها غاز السارين، وتتحشد في سماء الغوطة الحوامات والقاذفات الروسية من كل الأنواع، إضافة إلى طائرة «سوخوي58» أحدث الطائرات الروسية، التي تستخدم لأول مرة في عمليات جوية.
لقد دمرت حرب الحلف الثلاثي وميليشياته المدن والقرى في غوطة دمشق في الأسابيع الثلاثة الماضية، وقتلت وجرحت آلافاً، وخلفت مفقودين تحت ركام المنازل وفي دور العبادة وفي المشافي البسيطة، وغالبيتهم من الأطفال والنساء الذين تحصن أغلبهم هرباً من الموت في ملاجئ لا تصلح للحياة، وبعضها تحول إلى مقابر للموجودين فيها.
وسط مقولة أطراف الحلف وأنصارهم أنهم يحاربون إرهاب جماعات التطرف، إنما يتجاهلون أن ما يقومون به هو الإرهاب الأشد وقعاً ونتائج، لأنه إرهاب مزدوج، يقوم على تشارك إرهاب الدولة مع إرهاب الميليشيات التابعة لها، وهذا لا يوقع أكثر الخسائر البشرية والمادية فقط، بل يعزز البيئة الحاضنة للإرهاب، ويولد جماعات أكثر تطرفاً وتشدداً.
يُقال أن أقصر قصة رعب في العالم هي للكاتب الأمريكي "فريدريك براون" ونصَّها: "آخر رجل على كوكب الأرض كان يجلس في غرفة وحده حين سمع طرقاً على الباب". يمكنك بالطبع أن تتخيل كل التفاصيل المرعبة والتوقعات المفزعة المحيطة بكل الكلمات في القصة. بينما برأيي ستكون أقصر قصة مضحكة هي قصة "المهرج الذي قتل الجميع" والتي يمكنك أيضاً أن تتخيل تفاصيلها بسهولة بالغة.
فالجميع التفوا في دوائر شبه كاملة حول حلقة السيرك، وشاهدوا العرض تلو الآخر حتى أتى دور المهرج الذي بدأ يؤدي العروض، وبين الواحد والآخر كان يلقي تهديداً قوياً على الجمهور فيدفعهم ذلك إلى الضحك بعمق، وكلما كانت قوة التهديد أكبر وأصدق كلما زاد الضحك شدة، بينما المهرج يبتسم فرِحَاً فرَحَاً صادقاً خلف قناعه الضاحك حتى جاء الوقت فنفذ تهديداً لأول مرة وألقى بالكرة في وجه أحد الحضور بقوة حتى سال الدم من أنفه فعمَّ صمتُ الصدمةِ على الجميع قبل أن يضحكوا كلهم كما لم يضحكوا من قبل.
تكرر الموقف فبدأ البعض يلاحظون أن شيئاً غريباً يحدث وبدأ الانزعاج يتسلل إليهم، بينما ضحك البعض الآخر أكثر من ذي قبل، وكلما تكرر كلما انزعجت الفئة التي لا يزيد عددها إلا ببطء بينما الفئة الأخرى غارقة في الضحك. وبعد وقت طويل بدأت الفئة المنزعجة بالاعتراض أخيراً وطلبت تغيير المهرج على سبيل التغيير ولم تذكر شيئاً عن تهديداته العجيبة ولا عن تصرفاته الغريبة التي يخططون إلى التحقيق معه بشأنها، فوجمت الفئة الأخرى وإن بقيت صامتة بينما ضحك المهرج لأول مرة وتجاهلهم حتى عادوا للجلوس فاستخدمهم في العرض بعد التالي، وتسلل إلى الجمهور فذبحهم بشراسة واستمتاع واضح بالقتل فتناثر الدم على وجوه الجميع قبل أن يغلبهم الضحك مجدداً حين انتهى.
البعض قد يقتلعون أعينهم تماماً إذا أصر أحد على أن يريهم عذاب الأطفال ولو حتى بصورة لفتاة تموت بينما تحتضن أختها التي تضع لها جهاز التنفس محاولة إنقاذها
حتى الأطفال تلطخوا بالدم مذعورين لكنهم لمَّا وجدوا آباءهم يضحكون اطمأنوا؛ فبالطبع لن يأتي بهم آباؤهم إلى مكان خطر عليهم وبالطبع لن يصمتوا إن لحقهم شيء. وعادت الدائرة إلى أصلها لوقت قبل أن يعود ظهور فئة أخرى منزعجة أكبر من الأولى ثم أخرى في جانب آخر ثم ثالثة فرابعة، وزاد ضحك الباقين عمقاً فعمقاً وتولَّهوا بالمهرج عشقاً. وفي الوقت نفسه بدأ المهرج يذبح بأعدادٍ أكبر بين كل عرضٍ وعرض، بل إنه أحياناً كان يؤدي عرضاً بينما يذبح.
ولمَّا زادت الأعداد عن الحد الذي يستطيع معه السيطرة على الأمر أخرج من جيبه الذي أدخل فيه الكرات الملونة قنابلاً يدوية وكيماوية وبدأ بإلقائها في كل اتجاه وبسرعة شديدة فتملك الذعر من الجميع حتى أولئك الذين يعشقونه وإن لم يظهروا ذلك. وبعدما كان بديعاً ساحراً تدمّر المكان تماماً، وبدأ الناس يزحفون بين الجثث والأشلاء للكبار والصغار باحثين عن ملاجئ يختبؤون خلفها بينما الصرخات تعلو من كل جانب ودموع الأطفال تحفر الأخاديد في وجوههم الناعمة وقلوبهم الملائكية. "أين الطرافة في ذلك والضحك؟" لعلك تسأل. بالطبع هناك طرافة كبيرة في كل لك؛ فوسط كل ذلك المشهد الكارثي فإن الزاحف هارباً من ذلك البطش يستطيع أن يسمع خلف الكراسي المدمرة والحواجز أحد الضاحكين يجيب أحد المعارضين حين يسأله عن موقفه من هذا الدمار وهذه الفوضى وهذا الرعب الذي يصيبهما، يجيبه بمنتهى الصدق: "نحن نستحق، فنحن الذين استفززناه، نحن الذين أنكرنا النعمة والضحك وركزنا على السواد والأخطاء...لذا عليه أن يعيد النظام ويعاقبنا كيفما شاء".
فأما إذا سأله: "ماذا عنك وأنت ستقتل مثلنا؟"، فيجيبه بينما هو مختبئ مرتعد "أنه بمأمن لأنه لم يخطئ، فالمهرج لا يقتل عبثاً، فالمهرج عادل...المهرج عادل". وإذا سأله: "ماذا عن القتلى والأطفال والدم؟"...يجيبه واضعاً يديه على عينيه (أنها أخطاء معدودة محدودة ولم يعد يرى مثلها فقد انتهت).
حتى أن البعض قد يقتلعون أعينهم تماماً إذا أصر أحد على أن يريهم عذاب الأطفال ولو حتى بصورة لفتاة تموت بينما تحتضن أختها التي تضع لها جهاز التنفس على وجهها محاولة إنقاذها...بالطبع ذلك لم يحدث فهم أدرى لأنهم اقتلعوا أعينهم. أليس ذلك مضحكاً؟
وإذا كنت ما تزال تبحث عن طرافة أكبر فانتظر حتى تعلم أن كل ما يحدث ينقل عبر الكاميرات إلى ملايين خيام السيرك حول العالم، هذه الخيمة الكبيرة، فيشاهد الناس وهم متأثرين ظانِّين أنهم على الأقل ليسوا هناك فالحمد لله، لكن الظن لا يعدو كونه ظناً والطمأنينة القائمة عليه زائفة وإن طال وجودها، ثم تجدهم ينقلون بصرهم على حلقة السيرك في خيمتهم ليتابعوا مهرجهم وليضحكوا بعمق وكأن ضحكهم سيدوم للأبد.
سأفترضُ الآن أن بشار الأسد وحلفاءه تمنكوا نهائياً من القضاء على كل المناطق الثائرة، وتمكنوا من تهجير أهل الغوطة الشرقية، وسأفترض أيضاً أن السيد بوتين الذي سيربح الانتخابات حتماً، سيبقى في سورية لمدة خمسين عاماً!
ونصر الأسد وحلفائه، إذا تحقق، وإذا بقيت الأمم المتحدة على عجزها وشللها التام تجاه كارثة القرن السورية، فهل سيدفع هذا الحال واشنطن ومعها الغرب إلى التساؤل الجدي عما إذا كانت هذه الأنظمة المارقة ستشجع بقية الأنظمة المارقة في العالم، وعلى رأسها نظام كوريا الشمالية، على متابعة السير في طريق التعنت والتسلح وتحدي الغرب؟
ألا يؤسس هذا الافتراض السيء (والذي يسير حتى الآن نحو التحقق) إلى التأسيس لحرب باردة جدية يقودها بوتين وخامنئي والأسد ضد كل العالم الغربي، وطبعاً ضد كل المؤسسات الدولية الأممية المعنية بعدم فلتان العالم بهذا الشكل الذي يريده الأسد وحلفاؤه!
من يتابع التطورات العسكرية على الأرض في الغوطة الشرقية، لا سيما بعد القرار الدولي 2401 والذي ولد ميتاً، يشعر بأن كامل الغرب ومعه واشنطن سعداء بما يحدث!
عطفاً على الافتراض الذي تصورناه: إذا انتصر الأسد (لا سمح الله) وحانت اللحظة التالية لكي يتعامل الأسد مع العالم أجمع، فهل يمكن مثلاً أن يبدأ بإعمار سورية منفرداً بمعونة حلفائه، وهل ستقبل واشنطن بالانسحاب من كل قواعدها العسكرية في سورية لصالح تمكين الأسد من كامل الجغرافية السورية؟
سؤال مستقبل سورية السياسي هل سيكون مؤجلاً إلى أن تصحو الإدارة الأميركية الحالية وترى بعين الشعب السوري المذبوح حجم الخراب والقتل والفضيحة التي تلف العالم أجمع؟
باختصار، إذا لم تتحرك واشنطن عسكرياً ضد الأسد فإن الأسد وحلفاءه سينتصرون عسكرياً على الشعب السوري، وآنئذ ستكون سورية السياسية مثل كتلة السرطان في قلب هذا العالم.
كأي سوري كاره للسياسة وعاشق للحياة والسلام والحرية، أرى أن ما يحصل يؤسس لحروب مقبلة ومروعة في سورية، وصمت واشنطن مرعب ومروع تماماً مثل كلور الأسد!
وإذا بقي الأسد، فلتحفر الأمم المتحدة ومعها كل مؤسساتها قبراً لنفسها وتقرأ على روحها الفاتحة، ولينعم العالم بالخراب.