الثورة الكاشفة
في ذكرى الثورة السورية السابعة، يروق لي أن أصفها بـ"الثورة الكاشفة" لأنّها كشفت عن مستويات وأنواع من الصراع في منطقتنا أشدّ عمقًا وأكثر تاريخية وحضورًا في ذات الوقت من الصراع الذي يشار إليه على الدوام، ويُتّخذ مفسرًا للأحداث والمتغيرات في المنطقة في السبعين سنة الأخيرة، أي الصراع العربي الإسرائيلي.
في تصوري، فإنّ الثورة السورية قد كشفت عن ثلاثة مستويات من الصراع الأكثر تأثيرًا من الصراع العربي الإسرائيلي في منطقتنا. المستوى الأول من الصراع الذي كشفت عنه وأظهرته الثورة السورية هو الصراع الأممي. وسأستخدم هنا مصطلح "الأممي" بدلاً عن "القومي" لكون الأخيرة مُشبَعة بالتصور الحديث للقومية؛ في حين أنّ وجود واختلاف الأمم "المتخالفة" والمتقاتلة في منطقتنا أبعد تاريخيًّا وأعمق من التصور الحديث.
في منطقتنا، يتجاور الفرس والترك والعرب والكرد، وكلٌّ منهم أمّة مستقلة لا يمكن أن تندمج في الأخرى، ولا يمكن أن تذوب إحداها في الأخرى. هكذا قال التاريخ، وهكذا يؤكد الواقع الذي نعيشه في هذه اللحظة عام 2018. هذه الأمم الأربعة تدين بدين الإسلام، ولكنّ التاريخ والواقع كذلك يؤكدان أنّ الدين لم يؤّدي إلى مزج هذه الأمم سويًّا. بل ظلّت على تمايزها، ونشب بينها وبين بعضها الصراع في أوقاتٍ كثيرة في التاريخ. وهو الأمر الذي يتكرر في هذه اللحظة.
بسبب عدم اهتمام الولايات المتحدة بسوريا واكتفائها بدعم فصائل الجيش الحر لفترة محدودة، فإنّ روسيا قد وجدت فرصة ذهبية لفرض سيادتها الجوية على سوريا ومدّ نفوذها غربًا لساحل البحر المتوسط
لقد كشفت الثورة السورية عمّا يمكن أن نسمّيه بالصراع العربي - الإيراني، والذي لا يدركه تمامًا كثيرٌ من العرب. وقد أشرت لهذا الصراع في تدوينة سابقة بعنوان "الثوة الإيرانية لا تزال مستمرة". لقد كانت إيران حاضرة بميليشياتها ونفوذها في سوريا منذ أوّل لحظة في الثورة، ولولا هذا النفوذ ما كان للثورة السورية أن تؤول لهذا المآل. وهذا النفوذ العسكري الإيراني هو ما حدا بالمملكة العربية السعودية تدعم الفصائل الثورية السورية لمجابهة هذا النفوذ.
كشفت الثورة السورية كذلك عن الصراع التركي - الكردي الذي يعود لعقود بطبيعة الحال، ولكن هذه المرة حضر إلى أراضينا وأثّر في مجريات الثورة السورية بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا في منتصف يوليو 2016 وهو ما جعل تركيا تقرّر التدخل العسكري التركي في شمال سوريا لصالح دفع الأكراد السوريين إلى شرق الفرات ومنع اتصالهم بساحل البحر المتوسط.
أمّا المستوى الثاني من الصراع فهو الصراع المذهبي، والذي يوظّف في خدمة السياسي ببراعة. والمذهبان اللذان يتصارعان بوضوح في المنطقة هما التشيع في مقابل السلفية أو الوهابية. وعلى رغم معقولية الادعاء أنّ الصراع المذهبي ليس الأساس، فلا يمكن إنكار كيف ساعد هذا الخلاف المذهبي الذي وصل حدّ الاقتتال في تأجيج الصراع عند الأتباع الشيعة الأقل حظًا من العلم والذين يشكلون وقود الحرب البرية في سوريا وخاصّة في محيط دمشق.
المستوى الثالث من الصراع الذي كشفت عنه الثورة السورية هو الصراع الدولي والذي استدعى التدخّل الروسي لصالح نظام الأسد في سبتمبر عام 2015. وبسبب عدم اهتمام الولايات المتحدة بسوريا واكتفائها بدعم فصائل الجيش الحر لفترة محدودة، فإنّ روسيا قد وجدت فرصة ذهبية لفرض سيادتها الجوية على سوريا ومدّ نفوذها غربًا لساحل البحر المتوسط، وهو ما يعني حضورها بقوة في أيّ مشروعات مستقبلية تخصّ منطقة الشرق الأوسط، خاصّة إذا تعلّق الأمر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة وعلى الأخص دولة إسرائيل. فلن نستغرب إذن إن أصبح للروس دور وتأثير في مستقبل القضية الفلسطينية.
هكذا، فبالكشف عن مستويات ومحاور أخرى للصراع بخلاف الصراع العربي الإسرائيلي، فإن الثورة السورية قد غيرت وجه مشرقنا العربي لعقود قادمة من الزمن، وهي لذلك تستحق لقب "الثورة الكاشفة".