مجنون وحقير كل من يريد أن يشعل حرباً طائفية مذهبية في المنطقة تحرق الأخضر واليابس. لا يشجع على الحروب المذهبية في بلادنا سوى الأعداء والمتربصين بها. ليس هناك شخص وطني سوّي يمكن أن يقبل بإشعال الفتن والصراعات الدينية في هذا الجزء المشتعل أصلاً من العالم. لكن بما أن إيران تعمل بشكل مفضوح على تشكيل تحالف شيعي على أساس مذهبي لا تخطئه عين، فلا بد للطرف الآخر أن يبادر فوراً إلى تجميع قواه أيضاً على أساس مذهبي، ليس للدخول في حرب مذهبية مع إيران وجماعتها، بل لمنع نشوب الصراع المذهبي. فكما نعلم، فإن امتلاك السلاح النووي لا يعني تدمير العالم أو الخصم، بل يخلق توازن الرعب الذي، في الحقيقة، يحمي العالم.
لم يعد الحديث عن الصراع المذهبي في المنطقة تحريضاً على الحروب الطائفية. لا أبداً. بل أصبح واقعاً يفقأ العيون، خاصة وأن الهلال الشيعي المنشود أصبح قمراً بعد أن راحت إيران تغلف مشروعها الامبراطوري الفارسي بغلاف مذهبي صارخ. ويذكر إعلامي عربي كبير زار طهران في عام 2009، أي قبل اندلاع الربيع العربي وظهور البوادر المذهبية بسنتين، أن مسؤولاً إيرانياً كبيراً سأله حرفياً: «لماذا لا تقدمون برامج عن الصراع المذهبي في المنطقة»، فأجاب الإعلامي: «وأين هو الصراع المذهبي في المنطقة؟ لا يوجد صراع كي نتناوله إعلاميا»، فرد المسؤول الإيراني: «هذا صحيح، لكن في المستقبل القريب أعتقد أنكم ستتناولون هذا الموضوع بكثرة». وكأنه بذلك كان يمهد لاندلاع الصراع الذي تريده، وتخطط له إيران في المنطقة.
ولو نظرنا إلى تطورات الأوضاع، سنرى كيف راحت إيران تتدخل في العراق وسوريا ولبنان واليمن على أساس مذهبي مفضوح، فدعمت الشيعة في العراق وكذلك في لبنان وسوريا والحوثيين في اليمن من منطلق طائفي واضح. صحيح أن إيران تطمح إلى قيام امبراطورية فارسية عاصمتها بغداد، كما صرح نائب الرئيس الإيراني، إلا أنها تحارب بشكل واضح بأشلاء الشيعة العرب. أي أنها تستغل العامل المذهبي لتحقيق حلمها الامبراطوري. وبما أن هذا الحلف أو الهلال أصبح واقعاً، فلا يمكن مواجهته إلا بحلف مضاد لا لخوض حرب مذهبية طاحنة، بل لخلق الردع المطلوب.
لقد أخطأت بعض الدول العربية خطأً فادحاً عندما راحت تحارب بعض الأحزاب والجماعات الإسلامية السنية، وتصنفها كحركات إرهابية، بينما كانت إيران تجمع كل الشراذم الطائفية في المنطقة تحت جناحها لتستخدمها كوقود في مشروعها الامبراطوري. وكانت النتيجة أن إيران أحرزت نقاطاً كثيرة على حساب الآخرين الذين بدوا وكأنهم يطلقون النار على أقدامهم. ألم يكن من الخطأ محاربة حركات إسلامية سنية راسخة الجذور ووضعها على قوائم الإرهاب، بينما كان من الممكن التحالف معها والاستفادة من قوتها على الأرض لمواجهة المد الإيراني؟ لقد استطاعت إيران بمخططاتها المذهبية الصارخة أن تصنع من الأقلية الشيعية قوة ضاربة غالبة، بينما صنع قادة الدول الإسلامية من الأكثرية السنية قوة هاربة. وقد آن الأوان الآن لتصحيح الأخطاء. فمهما بلغت الحركات والأحزاب والجماعات السنية من تطرف، فهي لن تكون أكثر خطراً من المشروع المذهبي الإيراني المعادي على دول المنطقة، خاصة بعد أن ترفع أمريكا العقوبات عن إيران، ويصبح لها ميزانية هائلة للإمعان في التمدد والتوسع. فإذا كانت إيران تتمدد وهي تحت العقوبات الغربية، فكيف ستكون عندما تتخلص من العقوبات الاقتصادية والعسكرية؟ لا شك أنها ستتغول أكثر، وستمعن في تعزيز حلفها المذهبي. وبالتالي، لا بد من التقارب، لا بل التحالف مع الجماعات الإسلامية التي تخشاها إيران. فكما هو معروف الآن، فإن تنظيم الدولة الإسلامية بات يشكل أكبر خطر على المشروع الإيراني في المنطقة، حسب القيادة الإيرانية نفسها، لهذا أوكلت إيران مهمة محاربة التنظيم في العراق وسوريا إلى أهم قادتها العسكريين قاسم سليماني الذي بات يعلن عن نفسه كقائد للحرب ضد تنظيم الدولة.
لا أحد يطلب من الدول العربية المعتدلة أن تتدعشن أو تتقاسم السلطة مع الدواعش، لكن لا بأس أن تستفيد من خطر الجماعات المتشددة، وتستغله كأداة ضاربة في مواجهة المشروع الإيراني. وعليها أن تتذكر أن أمريكا تحالفت، من أجل مصالحها، في الثمانينات مع تنظيم القاعدة ضد الروس في أفغانستان. وذلك على الرغم من الاختلاف الهائل في التوجهات بين أمريكا والتنظيمات الإسلامية المتشددة. وحتى رئيس التنظيم الشيخ أسامة بن لادن اعترف أن مصالح التنظيم تقاطعت في لحظة ما مع المصالح الأمريكية ضد السوفييت، فعملا على جبهة واحدة. والسؤال الآن: إذا كانت أمريكا تحالفت مع من تصفهم الآن بـ»الإرهابيين» من أجل مصالحها، فلماذا لا تتحالف الدول العربية التي تواجه الخطر الإيراني مع نفس الجماعات التي تشكل رعباً للمشروع الإيراني في المنطقة، وخاصة في العراق وسوريا؟
قد يتساءل البعض: وهل تريدون من الدول العربية أن تتحالف مع داعش والجماعات الإرهابية الأخرى لمواجهة إيران؟ فيرد البعض الآخر: ألا تتحالف إيران مع جماعات شيعية إرهابية كعصائب الباطل وفيلق غدر وحزب الله وغيره، وتستغلهم كأدوات من أجل مشروعها؟ أليست السياسة لعبة تخادم أصلاً؟ فلماذا حلال على إيران وحرام على الدول العربية؟ ثم هل الجماعات الإرهابية التي تتحالف معها إيران متخرجة من جامعة هارفارد والسوربون، بينما الجماعات السنية متخرجة من تورا بورا؟
أصلاً لا أخلاق ولا مبادئ في السياسة، والسياسة نجاسة. وإذا أردت أن تنتصر على خصمك، فلا بد أن تكون أنجس منه. وقد قال رئيس الوزراء البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل ذات يوم: «لو ساعدني الشيطان في الهجوم على العدو النازي، فسأذكره بالخير في مجلس العموم».
تعلموا من تشيرتشل أيها العرب قبل فوات الأوان.
أن يأخذ تحالف عربي-إقليمي، بقيادة المملكة العربية السعودية، على عاتقه إعادة اليمن إلى السلطة الشرعية، دليل على أن هناك من يفكّر فعلا في المستقبل. مثل هذا التحالف يركّز على حماية النظام الأمني في الإقليم من الميليشيات المذهبية. من هنا، يبدو القرار، الذي اتخذته القمة العربية التي انعقدت في شرم الشيخ، والذي يدعو إلى قيام قوّة عربية مشتركة، خطوة أولى في هذا الاتجاه. تبيّن أن هذه الخطوة ليست حبرا على ورق بعدما تلت القمة بداية عملية “عاصفة الحزم”، التي تعتبر الأولى من نوعها في التاريخ العربي الحديث. إنّها إحدى المرات القليلة التي يسبق فيها الفعل العربي البيان الصادر عن القمة. بكلام أوضح، إنّها المرّة الأولى التي يسبق الفعل الكلام العربي، الذي كان في الماضي يبقى كلاما.
تهدّد الميليشيات المذهبية أو الدينية معظم الدول العربية. تهدّد مصر التي تتعرّض لأعمال إرهابية كما تهدّد سوريا، حيث يراهن النظام الأقلّوي على الميليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية والدعم الإيراني والروسي للبقاء في السلطة.
تهدّد أيضا العراق الذي فتّتته الميليشيات المذهبية التي تدّعي أنّها تمثّل الدولة، وأنّها تقوم مقامها وتستطيع الحلول مكانها. كذلك، تهدّد الميليشيات المذهبية لبنان الذي بات تحت رحمة “حزب الله” الذي أقام دولته داخل الدويلة اللبنانية ويمنع، معتمدا على ميليشيا مسلّحة، انتخاب رئيس للجمهورية بطلب من إيران. صار في إمكان إيران اعتبار بيروت مدينة متوسّطية تقع في دائرة نفوذها.
باتت معظم الكيانات العربية مهدّدة بطريقة أو بأخرى. تونس مهدّدة. ليبيا مهدّدة. من لديه بعض من ذاكرة، يستطيع العودة إلى المرحلة الأخيرة من عهد حسني مبارك في مصر. وقتذاك، بدأ الإخوان المسلمون يظهرون في الجامعات، وفي أماكن أخرى في شكل ميليشيات مدرّبة، لم يكن ينقصها سوى حمل السلاح في العلن.
هذه الميليشيات الإخوانية خطفت “ثورة الـ25 من يناير” وأوصلت محمّد مرسي إلى الرئاسة، وذلك بدل أن ينشأ في مصر نظام ديمقراطي بالفعل. أي نظام يؤمن، أوّل ما يؤمن، بالتداول السلمي للسلطة، وليس بفرض مرشّح معيّن رئيسا على المصريين.
ليس بعيدا اليوم الذي سيتبيّن فيه أن الإخوان فرضوا مرسي، بدل أحمد شفيق، بقوة السلاح قبل أن يزيحه المصريون معتمدين على الشارع الذي نزلوا إليه بالملايين أوّلا. اعتمدوا بعد ذلك على المؤسسة العسكرية التي حافظت على هيبة الدولة. أنقذ المصريون “الدولة العميقة” من ميليشيا الإخوان. من ساعد مصر في ثورتها على الإخوان، هو الدعم العربي الذي تأمّن لـ“ثورة الـ30 من يونيو”.
ليس هناك أخطر من الميليشيات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة كما في لبنان، أو في إطار الدولة كما في سوريا والعراق. ولذلك، يمكن وصف ما تشهده المنطقة حاليا، انطلاقا من اليمن، بداية مرحلة جديدة. إنّها بداية العدّ العكسي لعهد الميليشيات المذهبية أو الدينية التي تؤمن بفوضى السلاح.
تكاد فوضى السلاح أن تقضي على القضية الفلسطينية بعدما طردت “حماس” السلطة الوطنية من قطاع غزّة منتصف العام 2007. بدل أن يؤدي الانسحاب الإسرائيلي من جانب واحد من القطاع إلى قيام نواة لدولة فلسطينية مسالمة تشكّل نموذجا لما يمكن أن يحقّقه الفلسطينيون في حال توافر السلام، كان إصرار حماس على فوضى السلاح بمثابة دعم للموقف الإسرائيلي الذي تختزله عبارة “إرهاب الدولة”.
سعت إسرائيل في موازاة انسحابها من كلّ غزّة، صيف العام 2005 إلى تكريس احتلالها للقدس الشرقية وقسم من الضفّة الغربية. كانت حجتها، ولا تزال، أن لا شريك فلسطينيا يمكن التفاوض معه بدليل ما يصدر عن ميليشيات حماس في غزّة.
المؤسف أن ما صدر عن حماس لم يخدم إسرائيل وسياستها التوسّعية فحسب، بل قضى على كلّ أمل في استعادة الوحدة الفلسطينية بغية العمل من أجل السير في مشروع وطني واقعي، إلى حدّ كبير، يستند إلى قرارات الشرعية الدولية.
حيث حلّت الميليشيات يحلّ الخراب. خراب دول ومجتمعات عربية. لذلك يمكن اعتبار تصدّي التحالف العربي للحوثيين في صنعاء تطورا في غاية الأهمّية، ودليلا على الحيوية التي تمتلكها قيادة سعودية شابة تعمل بإشراف الملك سلمان بن عبدالعزيز.
ما يفعله الحوثيون في اليمن يشكّل نموذجا لعملية تفكيك دولة في حاجة إلى إيجاد صيغة جديدة للبلد، تسمح بحماية الشعب اليمني من كوارث يبدو مقبلا عليها.
لا يمتلك الحوثيون، الذين باتوا يسمّون أنفسهم “أنصار الله”، أي مشروع سياسي أو اقتصادي باستثناء الشعارات التي رفعوها. لعلّ أخطر ما فعلوه، منذ بدأ زحفهم في اتجاه صنعاء في أواخر العام 2010، اعتبار أنفسهم ممثلين لشرعية ما. انقلب الحوثيون على كلّ الاتفاقات التي توصلوا إليها مع الأطراف اليمنية الأخرى. أدركوا أنّ هناك فراغا في البلد فعملوا على ملئه. أعلن زعيم أنصار الله عبدالملك الحوثي في مرحلة ما بعد السيطرة على صنعاء، أنّ نظاما جديدا قام في اليمن. يستند هذا النظام إلى “الشرعية الثورية” أي بشرعية لا علاقة لها سوى بما تفرضه قوّة السلاح غير الشرعي على الآخر.
جاءت عملية “عاصفة الحزم” لتضع حدّا لمثل هذه التصرفات التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما يطمح إليه اليمنيون، أكانوا في الشمال أو الجنوب أو الوسط. كيف يمكن لمجموعة مذهبية مسلّحة غيّرت طبيعة المجتمع الزيْدي في صعدة، وليس في كلّ اليمن، أن تجرّ اليمن إلى أن يتحوّل إلى مجرّد مستعمرة إيرانية؟
هناك أخيرا تحرّك عربي ذو طابع هجومي يؤكّد أن الشرعية هي الشرعية، حتّى لو كانت شرعية منصور هادي، الذي ليس سوى رئيس انتقالي، أجبره أنصار الله على الاستقالة ثمّ وضعوه في الإقامة الجبرية، وراحوا يوجّهون إليه كلّ نوع من التهم لمجرّد أنّه نجح في الفرار من صنعاء إلى عدن!
سيتوقف الكثير على نجاح عاصفة الحزم. في حال نجاح العملية وإسقاط الحوثيين سيتبيّن أنه لا يزال هناك وزن للعرب في المعادلة الإقليمية. سيتبيّن أنّه ليس صحيحا أن القوى التي تتحكّم بالمنطقة ومستقبلها هي قوى غير عربية لا مانع لديها في انتشار الميليشيات المذهبية. هذه القوى هي إيران وتركيا وإسرائيل، التي تتطلع إلى تقاسم النفوذ في المنطقة العربية، مستعينة بكلّ ما يمكن أن يثير الغرائز المذهبية حيث ينفع ذلك، وتشجيع التطرف الديني حيث لا مجال لاستثارة السنّة على الشيعة والشيعة على السنّة، كما الحال في ليبيا مثلا.
هل من مجال للتفاؤل، ولو قليلا، بإمكان انقضاء عهد الميليشيات في المنطقة العربية، بما في ذلك عهد الأنظمة التي تستعين بالميليشيات للبقاء في السلطة كما في سوريا؟
الميل إلى التفاؤل، خصوصا في ظل الإصرار الذي عبّر عنه العاهل السعودي على النجاح في اليمن. النجاح هناك ممكن، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار عدد الدول المشاركة في عاصفة الحزم، وقدرة هذه الدول، التي من بينها مصر، على الإحاطة بالأزمة اليمنية من كلّ جوانبها.
تؤكد التطورات، يوماً بعد يوم، أن "عاصفة الحزم" لن تكون هبّة سريعة، بل سوف تطول. وهناك من يرسم لها آفاقاً بعيدة، ويرى أنها جاءت بعد وصول الوضع العربي إلى القاع، حيث الانهيارات تعم العراق وسورية واليمن، والاستيطان يبتلع ما بقي من أرض فلسطين، في وقت باتت فيه الأطماع والتدخلات الخارجية في العالم العربي على أوجها، الأمر الذي قاد أجيالاً عربية بأكملها إلى اليأس والإحباط، وخلق بيئة خصبة للتطرف والإرهاب.
وبغض النظر عن تحفظات بعضهم على العملية، من منطلق أنها قد تؤدي إلى تدمير اليمن، فإنها تلقى صدى شعبياً واسعاً في العالم العربي. ولكي تأخذ "عاصفة الحزم" مشروعية أكثر، فإنها مطالبة بأن تراعي ضرورة إعادة ترتيب وضع المنطقة داخلياً، والأمر الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ضرورة أن يجري إيلاء الوضع اليمني عناية خاصة، ولا يتم الوقوف عند إعادة شرعية عبد ربه منصور هادي فقط، فالمطلوب من بلدان الخليج أن تراجع حساباتها في ما يتعلق بالعلاقات الراهنة والمستقبلية مع اليمن، لكي يصبح هذا البلد جزءاً من البيت الخليجي، وشريكاً كامل الشراكة في مجلس التعاون، وهكذا يمكن تجنيبه الخضات الداخلية والتدخلات الخارجية. وكان لافتاً قول الملك سلمان بن عبد العزيز إن السعودية مفتوحة لجميع اليمنيين للحوار، لكن الأمر يحتاج إلى توسيع الدائرة وعدم الوقوف عند شرعية هادي، فهناك أطراف كثيرة يجب إشراكها في تقرير مسار الوضع الحالي، وعدم انتظار نتائج الحرب، والملاحظ أن هادي لا يزال يعمل بالأسلوب القديم، حتى أنه لم يعد تنظيم وزارة الدفاع وترتيب الأوضاع وفق متطلبات الحرب. الأمر الثاني، إدخال مصر إلى المعادلة العربية، ولا يتم ذلك إلا من خلال إغلاق النوافذ التي فتحها انقلاب الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في مصر، ذلك أن مصر باتت معطلة ومشلولة منذ ذلك الحين، وصارت تقيس خطواتها على إيقاع الخلافات الداخلية.
وحتى تكون "عاصفة الحزم" ذات بعد عربي، لابد أن يجري النظر بعين أخرى للأوضاع في فلسطين وسورية والعراق ولبنان، فهذه البلدان، على اختلاف مشكلاتها، فإن قاسماً مشتركاً أعظم يجمع معاناتها، يتمثل في غياب الدور العربي. والمطلوب، على نحو عاجل، تكوين موقف عربي حازم تجاه احتلال فلسطين، واستمرار القتل في سورية على يد بشار الأسد ونظامه، وانهيار العراق وسقوطه تحت الاحتلال الإيراني، وبقاء حزب الله يتحكم بمصير لبنان. وإذا جرى إهمال وضع هذه المنطقة، فإن المردود السياسي والمعنوي الذي من المقرر أن توفره "عاصفة الحزم" مهدد بالتبعثر والتلاشي، الأمر الذي سيؤدي، بالنتيجة، إلى مزيد من الإحباط والتراجع والانهيار. وغني عن القول، هنا، إن ثلاثة بلدان، هي سورية والعراق ولبنان، لا تقل فيها التدخلات الإيرانية اليوم، والتهديدات التي تواجهها، عما كان عليه الوضع في اليمن، عشية انطلاق عملية الحزم.
وهناك مسألتان مهمتان، تستحقان شجاعة استثنائية في هذه اللحظة التي تشهد فيها المنطقة انعطافة تاريخية. تتعلق الأولى بعلاقة العرب مع تركيا. والثانية بالعلاقات العربية مع الولايات المتحدة الأميركية. فتركيا، كدولة ومشروع، على نقيض مع إيران وإسرائيل، لكن هوامش تحركها وحدها ليست واسعةً إلى حد يمكنها من مواجهة المشروعين. ومن هنا، هي شريك ضروري للعرب في المرحلة المقبلة. أما الولايات المتحدة فقد آن الأوان لإعادة النظر في مسألة التعويل عليها، وقد وفرت إدارة باراك أوباما أكثر من مناسبة للعرب، لكي يبتعدوا عنها، فهي سحبت يدها من العراق وسلمته لإيران، ولم تتدخل في اللحظات الحرجة، لتضغط على الحكومة الإسرائيلية في ما يخص عملية السلام.
توفر "عاصفة الحزم" فرصة لمراجعة عربية، ومن دون هذه المراجعة، ستبقى محصورة في شرعية هادي وتأمين حدود السعودية.
من غير المعقول أن تكون تصريحات الإيرانيين حيال العرب، على ألسنة أربعة منهم خلال أيام قليلة، مجرد مناورة تحسن موقف بلادهم التفاوضي حيال أميركا. ومن غير المقبول تحويل الانتباه عن موضوع التصريحات، المتصل بالهيمنة علينا، وليس له علاقة بأميركا، الطرف الآخر في مفاوضات برنامج طهران النووي، ليس فقط لأن ذلك يقلل من خطورة ما نتعرض له، بل لأنه يتعارض كذلك مع سياسات إيران ضدنا، القائمة على أسس استراتيجية ثابتة ومعلنة، أقدم من البرنامج النووي والتفاوض حوله، تتعلق بالصراع على منطقتنا، وبهويتها السياسية والمذهبية، وبموقعنا ودورنا كعرب منها، وبنمط النظام الذي تريد زرعه فيها، بقوة ما حققته في العراق وسورية ولبنان في المشرق، واليمن في جزيرة العرب، ورغبتها في إلحاق الكويت بها، وضم البحرين، وصولا إلى هدفها الأكبر: المملكة العربية السعودية التي تعهد أحد مسؤولي برلمان طهران أن تكون هدفها المقبل، بينما قال رئيس برلمانها، علي لاريجاني، إن بلاده تريد الكويت تعويضاً عن وجودها في سورية، لأنها كانت دوماً منطقة نفوذ إيرانية، وتفاخر رئيس مكتب الأمن القومي، علي شمخاني، بأن طهران تمسك بمضيق هرمز وباب المندب، مفتاحي النفط والتجارة الدولية عبر قناة السويس، مكررا كلاما أدلى به مرجع ديني شيعي، قارن موقعي الشيعة والسنة، وقال إن الشيعة يتحكمون بالمفاتيح الاستراتيجية للشرق الأوسط، وخصوصاً منها مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس، وإن مكانة أهل السنة تتراجع بصورة متسارعة وحثيثة في كل مكان، داخل بلدانهم وخارجها. أخيراً، قال علي يونسي، مستشار الرئيس "المعتدل"، حسن روحاني، إن بغداد كانت دوما عاصمة الإمبراطورية الفارسية.
هذه التصريحات المفعمة بالهلوسة المذهبية والسياسية، أنتجها شعور بالبطر، أملته إنجازات إيران الاستراتيجية في عالمنا العربي، والرغبة في إعلان أهداف وخطوات إيران القادمة عندنا، وليس لها علاقة بالمفاوضات النووية مع واشنطن، إلا إذا كان التفاوض حول دور إيران، المقبول أميركياً في منطقتنا العربية، قد بدأ فعلاً. هل هناك ما يشير إلى وصول المفاوضات إلى هذا الموضوع؟ لذلك، شرع الإيرانيون يقدمون مطالبهم، ويعلنون حدودها وسقوفها؟ أعتقد أن علينا التحسب لاحتمال كهذا، قد يفسر الحديث عنه ما جاء في تصريحات طهران الاستعمارية التي تنم عن استهانة شديدة بالعرب، تشبه استهانة كسرى بهم، حين تلقى رسالة من النبي (ص) تدعوه إلى الإسلام، فرد عليها ساخراً من "أكلة الضباب" الغارقين في الفوضى، ومهدداً بغزوهم ومعاقبتهم.
هل تريد أميركا التفاهم مع إيران على العرب، بعد استيلاء طهران على المشرق وانتقالها إلى اليمن؟ بصراحة، لا أعرف، لكنني أعتقد، جازماً، أن عدم ردنا سيجعلنا شركاء في تقويض بلداننا وتدمير مجتمعاتنا ودولنا.
يواجه العرب اليوم تحديين: الأول، أن يكون الخيار الإيراني، التزام أميركا للفترة المقبلة، إقرارا بما حققته طهران من نجاحات عربية، ورغبة من أميركا في استكمال تهميش الخليج الذي ستحدد نوعية رده ما إذا كان أهلا لتخطي ما يواجهه من خطر. الثاني، أن يأتي الرد، إن كان هناك رد، جزئياً ومحدوداً، يقتصر على اليمن، ليتحاشى التعقيدات الإقليمية والدولية الخطيرة التي ستلازم الرد في المشرق على إيران ومرتزقتها.
وتبقى الحقيقة: إذا لم يكور العرب قبضتهم، ويزجوا بقدراتهم الموحدة في المعركة الهائلة من أجل حريتهم وأمنهم، لن يبقى لهم استقلال وكرامة، ولن يخشاهم أو يحترمهم أحد، لأن من لا يكشر عن أنيابه دفاعاً عن نفسه، واحتراماً لنفسه، يفقد حقه في أن يخشاه ويحترمه الآخرون.
قد يمكن القول عن معركة إدلب التي حسمها «جيش الفتح» في بضعة أيام، وانتهت بطرد قوات النظام الكيماوي وميليشياته منها، إنها توجت مساراً متصاعداً من انتصارات المجموعات المعارضة على النظام، بالنظر إلى سيطرة مجموعات معارضة أخرى على بصرى الشام في الجبهة الجنوبية، والخسائر الكبيرة التي يتكبدها حزب الله اللبناني وميليشيات شيعية أخرى متعددة الجنسيات في جبهات القلمون وحوران وجبهات أخرى.
تشير هذه المعارك، عموماً، إلى تراجعات كبيرة لقوات النظام وحلفائه على الأرض، وإلى هزال مقاومته حين يتعرض لهجمات منسقة. وقد أثبتت معركة تحرير إدلب أن هزيمة النظام ليست بالأمر الصعب حين تتوفر غرفة عمليات منسجمة كحال «جيش الفتح» وبعض السلاح الثقيل والمتوسط.
لكن المدينة الصغيرة التي ظلت، طوال السنوات الأربع الماضية، تحت سيطرة النظام بخلاف ريفها الذي كان من أولى المناطق التي خرجت عن سيطرته، لم تهنأ بالتحرير أكثر من يومين. فكما هو متوقع بدأت غارات النظام الجوية التي استهدفت قبل كل شيء مبنى المشفى الوطني، واستخدمت البراميل القاتلة المزودة بغاز الكلور لإيقاع أكبر عدد من المدنيين انتقاماً لخسارته المدينة. ذلك أن المبدأ الرائز لحرب النظام لم يتغير منذ بداية الثورة: إذا خرجت منطقة عن سيطرته، فهي لا تستحق البقاء! بل تدميرها على رؤوس من فيها، كما ينقل على لسان رفيق الحريري في لقائه الأخير مع جزار دمشق الذي هدده حرفياً بـ»تكسير لبنان فوق رأسه». وإذا كان قرار مجلس الأمن رقم 1559 القاضي بخروج جيش النظام الكيماوي من لبنان قد حمى هذا البلد من «التكسير» (لكن الحريري نفسه، وساسة ومثقفين لبنانيين آخرين، دفعوا الثمن اغتيالاً) فالفيتو المزدوج الروسي ـ الصيني من جهة، ولامبالاة المجتمع الدولي من جهة أخرى، سمحا بتحطيم سوريا تماماً.
بهذا المعنى يصبح «تحرير» إدلب خسارة محضة لأهاليها ولسوريا عموماً، ما دام غير مندرج في إطار استراتيجية وطنية عامة للإطاحة بالنظام، في إطار زمني معقول. فكل منطقة يخسرها النظام معرضة للتحول إلى ركام فوق رؤوس من يتبقى من سكانها بعد نزوح معظمهم إلى مناطق أخرى، داخل سوريا أو خارجها، بحثاً عن الأمان.
الواقع أن عمليات النزوح الجماعية هذه تشير إلى مدى الانقلاب الذي يجري في أولويات السكان. فمقابل إرادة الحرية التي أخرجتهم إلى الشوارع وواجهوا رصاص قوات النظام وشبيحته بأيديهم العزلاء، نرى اليوم مجموعات خائفة هائمة على وجوهها من مكان إلى آخر طلباً للأمان الوجودي فقط. هذه هي الأرضية الخسيسة التي تنطلق منها دعوات ما يسمى بالتيار الثالث أو مبادرات «المجتمع المدني» الممولة دولياً أو، أخيراً، مبادرات سياسية عقيمة كمبادرة دي ميستورا التي وأدها النظام قبل أن ترى النور في أحد أحياء حلب المحطمة.
هذا ما يدفعنا إلى رسم ملامح من المشهد الاقليمي ـ الدولي الذي في إطاره جاءت معركة تحرير إدلب. ففي الوقت الذي يقترب فيه الموعد النهائي للمفاوضات النووية بين إيران ومجموعة 5+1 في لوزان، من غير مؤشرات مؤكدة إلى نتيجتها، سلباً أو إيجاباً، تتضارب الأنباء حول حسم معركة تكريت بعدما دخلت طائرات التحالف الدولي على خط المعركة مقابل انسحاب قوات الحشد الشعبي الشيعية المتهمة بارتكاب أعمال انتقامية ضد سكان المدينة من السنة، فيما تمكنت السعودية وحلفاؤها في عملية «عاصفة الحزم» من الحصول على دعم القمة العربية والجامعة العربية من غير اعتراضات ظاهرة، فضلاً عن دعم الدول الغربية الرئيسية بما في ذلك الولايات المتحدة.
للمقارنة، كانت الشروط الاقليمية والدولية مختلفة تماماً حين بدأت عملية تحرير حلب، صيف العام 2012، وكان النظام في إحدى أضعف لحظاته بعد تفجير خلية الأزمة وعدد من الانشقاقات المهمة في منظومته العسكرية والدبلوماسية، ولم يكن تنظيم الدولة (داعش) موجوداً. مع ذلك تحول تحرير نصف المدينة إلى كارثة عليها، سكاناً وعمراناً، فضلاً عن انتهاكات الجيش الحر بحق السكان. أما الآن، فنحن في زمن يتحدث فيه وزير الخارجية الأمريكية جون كيري عن ضرورة التفاوض مع الأسد، ويقوم برلمانيون فرنسيون وبلجيكيون بزيارات إلى سفاح دمشق، وفي ظل حرب تقودها واشنطن ضد «دولة الخلافة» في العراق وسوريا، من غير أي احتكاك مع طائرات النظام التي تلقي ببراميل الموت على المدنيين. وفي الوقت الذي أصبحت فيه معركة اليمن ضد الحوثيين على رأس جدول أعمال دول الخليج، ليتراجع الاهتمام بالمأساة السورية إلى الخلف عربياً ودولياً.
كل هذا ولم نتحدث عن طبيعة المجموعات المسلحة التي اجتمعت في غرفة عمليات «جيش الفتح». فالعمود الفقري لهذا الجيش إنما يتشكل من جبهة النصرة التابعة لمنظمة القاعدة، وأحرار الشام التي أدمجت في بنيتها مؤخراً صقور الشام، وهما منظمتان سلفيتان جهاديتان من بيئة القاعدة نفسها، إيديولوجياً على الأقل. وعلى رغم تصريحات الناطق باسم أحرار الشام «الدبلوماسية» حول تشجيع إدارة مدنية للمدينة «تقدم نموذجاً إيجابياً» فالواقع على الأرض يشير إلى تنازع الفصائل على الحصص في الإدارة المفترض أنها مدنية. وعلى رغم تطمينات الناطق باسم جبهة النصرة بشأن مصير العائلات المسيحية في المدينة، تتحدث أنباء عن إعدام رجل مسيحي وابنه بدعوى بيعهما للخمور، فضلاً عن أن التطمينات المذكورة لا تشمل أولئك الذين تعاونوا مع «العدو النصيري» حسب تعبير عبد الله المحيسني من شرعيي جبهة النصرة.
ولا تقتصر المشكلة مع المنظمات الجهادية على موضوع انتهاكاتها الفظيعة بحق السكان، أو قتالها ضد فصائل غير إسلامية أقرب إلى تعريف الجيش الحر، بل تتجاوز ذلك إلى كونها لا تعترف بسوريا الوطن والانتماء، مستبدلةً إياهما بمشروع الدولة الإسلامية، وموقفها الاستئصالي من الأقليات المذهبية غير السنية. كل ذلك يجعل من «ثورتها» غير ثورة سائر السوريين، ومن دولتها غير الدولة التي من أجلها خرج السوريون في مبدأ ثورتهم. بالمقابل، لا يخفي كثير من السوريين فرحتهم بأي هزيمة يتلقاها النظام وحلفاؤه، بصرف النظر عن الجهة التي ألحقتها به، خاصةً وقد بلغ التدخل الإيراني المباشر وغير المباشر، عبر الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، مبلغاً تحولت فيه الثورة ضد النظام القاتل إلى حرب تحرير وطني في نظر كثيرين.
شكلت انطلاقة “عاصفة الحزم”، رافعة هامة للعمل العربي المشترك، واستنهاض الشعور القومي بتضامن القوى الإقليمية في مواجهة التحديات المباشرة، عبر التطورات المتلاحقة، التي أرادت إيران من خلالها فرض السيطرة على المناطق الحيوية في الشرق الأوسط، المرتكزة إلى توسع نفوذها في المثلث الذي تتركز رؤوسه ما بين دمشق وطهران وعدن، بما في ذلك الهيمنة على الممرات المائية والبحار الإستراتيجية.
جاءت “عاصفة الحزم”، بمثابة بدء عملية واسعة لتقويض المشروع الإمبراطوري الساساني، عشية استحقاقات هامة، هي المفاوضات الدولية بشأن النووي الإيراني، والقمة العربية الدورية في شرم الشيخ، قمة العزم. فكانت انعكاساتها مباشرة على هذين الحدثين الهامين. فأربكت المفاوض الإيراني الذي اهتزت أوراقه، فيما رفع الاتحاد الأوروبي وواشنطن سقف الضغوطات على طهران، في الوقت الذي تراجعت فيه إمكانية عقد أي اتفاقات بشان برنامجها النووي، الذي يتصل بوقف تسارع التخصيب لعشر سنوات، مقابل إطلاق اليد الإيرانية في المنطقة، دون تهديد المصالح الغربية في حماية أمن إسرائيل. وهو مشروع الاتفاق الذي تم تسريب بعض بنوده، وإن كانت غير موضوعية، وتتعارض مع السياسة الأميركية، لكن الهدف من ذلك، هو إفشال جهود التوصل إلى اتفاق قد يكون لصالح إيران، لكنه يشرّع حقها في امتلاك القدرة النووية.
التأثير الآخر لـ”عاصفة الحزم”، انعكس بصورة دالة على قمة شرم الشيخ، وبدت علاقتها متصلة بما أطلق عليها “قمة العزم” بما يشكل دعما سياسيا عربيا لا لبس فيه لقرار السعودية، القيام بعمل عسكري مشترك، لدول مجلس التعاون الخليجي، لوقف التدهور المستمر للوضع الأمني والسياسي في اليمن، بكل المضامين والرسائل الاستراتيجية، التي ينطوي عليها “حزم” إقليميا و دوليا. وفي مقدمة ذلك إحياء التضامن العربي، وربط ذلك بالمصالح المشتركة للدول الأعضاء.
عكست نتائج القمة العربية، تطورات التنسيق المباشر لدول الخليج، مضافا إليها دولا عربية أخرى كمصر والمغرب، غير أن القوى الوازنة في الإطارين الدبلوماسي والميداني، لم تخرج عن الدول الخليجية، خاصة السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتي شكلت إطارا جامعا للعمل المشترك رفع من شأن الجامعة العربية كمؤسسة فقدت الكثير من مقدرتها العربية والدولية، بسبب عجزها عن التصدي للإشكاليات الكبرى في المنطقة، داخل الدول الأعضاء، وفيما بينها. وشكلت عملية حزم، إضافة إلى مشكلة استشراء الإرهاب، وتنامي الجماعات المتطرفة وتهديدها لدول وشعوب المنطقة، الاهتمام الرئيس للقادة العرب. وفي الواقع، تمددت القوى الإرهابية بصورة تستوجب عملا جادا لوقف انتشار الجرائم الكبرى، كما حدث في متحف باردو في تونس. ولا تكفي اليوم الإدانة بقدر ما يتوجب العمل على مكافحة الإرهاب، وهو ما أشارت إليه القمة العربية.
القضية السورية، لم تحظ بالاهتمام الذي يعادل حجم المأساة الحاصلة اليوم، في الحدّ الأدنى. ولم تكتف الأمانة العامة بعدم دعوة أي طرف يمثل المعارضة السورية، وبالطبع لم يتم تسليم مقعد سوريا للائتلاف الوطني، وقد أضحت الأسباب في مجملها معروفة للجميع، لا حاجة لتكرارها. ولكن غياب القضية السورية كان مؤشرا عميق الدلالة على تراجع الاهتمام بالثورة السورية، وهو انعكاس لعدة أمور أساسية، أولاها تراجع الاهتمام الدولي بما يحدث في سوريا، وقفزت قضية الإرهاب إلى المقدمة، وأضحت محور النشاط السياسي والأمني والعسكري، على المستويات الإقليمية والدولية، مع ملاحظة تراجع مكانة التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي يكاد أن يكون مماثلا في ضعف نتائجه، لوظيفة قوى وتيارات المعارضة.
البيان الختامي، تحدث عن دورة العنف في سوريا، دون أن يدين الجرائم اليومية البشعة أو يشير إلى مرتكبيها، ودعا إلى التسوية السياسية عبر الأمم المتحدة. وقد تزامنت “عاصفة الحزم”، مع العملية الواسعة للكتائب المسلحة تحت مسمى جيش الفتح، بالهجوم على مواقع نظام الأسد في إدلب، ردا على مجازر الكيمياوي المتكررة خلال الأسابيع الأخيرة ضد المدنيين، وتم تحرير إدلب، في الوقت الذي بدأت فيه اجتماعات القمة، دون أن يصل صوت السوريين إلى شرم الشيخ.
ثمة مآخذ كثيرة، تضعها الدول العربية، في مقدمتها الدول الداعمة للثورة السورية، على أداء القوى المسلحة، وتورطها في أعمال لا تخدم مصالح الثورة الرئيسية، ولا يمكن ضبط حركة أنشطتها وتسليحها وتمويلها، مع تمدد وانتشار كل من جبهة النصرة، وتنظيم “داعش”.
هذه المآخذ هي التي قادت إلى مثل هذا التراجع الكبير للقضية السورية، بل إن قمة شرم الشيخ، أشادت بلقاءات المعارضة في القاهرة وموسكو، ودعت لإحياء جنيف 1 و2. وهو ما يعكس انشغالا بإعادة التفكير السياسي والأمني في المنطقة، على ضوء النتائج التي سوف تتمخض عنها “عاصفة الحزم”، من حيث إعادة إحياء الحوار الوطني بين كل الأطراف، للانتقال إلى المستقبل برعاية عربية، بعيدا عن التدخل الإيراني الذي لا يزال يراهن على المزيد من ارتكاب المجازر وسفك الدماء في سوريا.
تأتي دعوة بشار الاسد لروسيا من أجل توسيع دائرة إنتشارها العسكري إلى السواحل السورية، ضمن سياق التغيرات التي بدأ يتلمسها الأسد في المنطقة؛ وخاصة على وقع (عاصفة الحزم) التي أطلقتها عشر دول عربية وإقليمية ضد واحدة من حلقات نفوذ إيران وأذرعها.
ومن مكر التاريخ أن تتزامن هذه العاصفة مع تطورات ميدانية في سورية على أكثر من جبهة، بعضها انتهى بحصائل دامية في جسد الأسد الممزق، كما في بصرى وإدلب، وبعضها الأخر ينذر بتطورات دراماتيكية خطيرة، كما في القلمون وريف حمص الشرقي وحلب، في مؤشر واضح على مدى انهيار بنية الأسد وحلفائه العسكرية، ونفاذ قدرتها على المواجهة جراء اهتراء مفاصلها واستنزافها المديد.
لكن دعوة الأسد لروسيا تنطوي على تقديرات بخصوص الدور الإيراني والتوجهات الجديدة في المنطقة، إذ ليس بخافيا نشوء توجه إقليمي لتعديل ميزان القوى في المنطقة، وهذا التوجه تقوده بعض المراكز الإقليمية الوازنة في مواجهة صريحة للنفوذ الإيراني، ومن المقدر ان تكون له ترجمات على الأرض، في محاولة استباقية من هذه القوى لتجريد التفاهم الإيراني الأمريكي من أية مضامين سياسية قد تنعكس على المنطقة، وهو ما فسره المراقبون على أنه مسعى لفرض معطيات إستراتيجية جديدة تعيد صياغة المشهد الإقليمي من جديد وتخلط الأوراق بشكل لا يمكن لإيران وأميركا توظيفه لصالحهما والاستفادة منه.
لقد أظهر هذا الحراك الإقليمي هشاشة النفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة عبر محاصرة أحد أذرعها وقطع أي إمكانية لتواصل لوجستي معه وعزل كل تأثير إيراني محتمل في اليمن، غير أنه أظهر بشكل أكبر أن إيران نفسها تنطوي على ضعف إستراتيجي خطير يتمثل بجغرافيتها الهشة والقابلة للحصار من ثلاثة إتجاهات، االشرق الباكستاني والغرب التركي والجنوب الخليجي، بما يلغي كل أوراق قوتها ويقيدها من الوصول إلى الميادين والبحار التي طالما ادعت وصول نفوذها اليها، حيث بلحظة تبخّر وجودها في (باب المندب) ولم تعد تملك غير مضيق هرمز الذي يقع بين كماشتي (عربستان) و(بلوشستان) اللتان بدأتا تشهدان نذر إنتفاضات أهلية.
لا شك أن الأسد الذي راقب كل هذه الوقائع، وكان قبلها يلمس حرارة النيران الأتية من جبهات الثوار وعجز قوة إيران عن وقف إندفاعة الثوار، لا شك أنه أيقن أن القوة الإيرانية لم تعد مضمونة وأن الإعتماد عليها وحدها في ظل هذه المتغيرات المتسارعة هو نوع من المقامرة، وعليه فقد سارع الاسد إلى دعوة الإعلام الروسي ليفجر هذه المفاجأة.
اعتمد الأسد في طرح دعوته تلك على تكنيك يقوم على تحميس الرأي العام الروسي عبر إغراء روسيا والتأكيد على حقها بأن يكون لها نفوذ على البحر المتوسط، وطرح نفسه كقائد له توجهات إستقلالية في محاكاة واضحة للبروبوغندا الرسمية الروسية عن توجهات قيادة الكرملين وشخصية فلاديمير بوتين، بل ذهب أبعد من ذلك عبر تصوير نفسه على أنه جزء من الثقافة الروسية والنزعة الوطنية التي تدعو لمواجهة الغرب والتعامل معه بشكل ندي، وفي كل ذلك كان يرمي الأسد إلى تحويل أزمته إلى جزء من المشكلة الروسية مع العالم والإندماج تاليا ضمن منظومة الأمن الروسية، وتحديدا في دائرة الأمن الحيوي منها، غير أن الهدف الأبعد كان إحراج الكرملين وتلزيمه أمن النظام فيما يبدو أنه إستشعار لمخاطر صفقة ربما تفكر روسيا في إنجازها على حسابه.
ليست خافية أهداف الأسد من وراء هذا الجهد، إذ بحساباته، فإن النفوذ الروسي واستدعاء حضوره العسكري، من شأنه أن يؤمن له مظلة حماية تقيه من أي تحالف إقليمي، ذلك أن الوجود الروسي سيزيد تعقيدات الحرب في سورية ويهدد بتحويلها الى أزمة عالمية كبرى ما يشكل رادعا أمام القوى الإقليمية من أي تحرك ضد نظام الأسد.
هل ستنجر روسيا إلى هذا الإغراء التكتيكي؟
الوقائع تشير إلى أن روسيا تركز بدرجة كبيرة على بعض المصالح الاقتصادية، مثل توقيعها على عقود للتنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري، مع ملاحظة أن هذه العقود لم يجرِ تفعيلها والعمل بها بعد، ربما أن روسيا تريد فقط تسجيل الاستثمار باسمها، بصرف النظر عن التحولات التي قد تطرأ على المشهد السوري، وربما لأن روسيا تواجه مشاكل إقتصادية، في ظل إنخفاض أسعار النفط والغاز، تجبرها على تأجيل العمل بمشاريع جديدة، لكن الأكيد أن روسيا الغارقة بمشاكل عديدة في غلاقها الجغرافي لن تكون متحمسة للحضور العسكري في سورية بالشكل الذي يريده الأسد، وهي لو أرادت ذلك لما انتظرت دعوتها من الأسد، أن تورّد روسيا سلاح تدفع ثمنه إيران من خزائن العراق شيئ وأن تتورط مباشرة بالحرب شيئ أخر، لكلا الامرين حساباتهما المختلفة، وصرخة الأسد ستضيع في بحر الإنشغال الروسي العميق وبالكاد يسمع صداها أحد خارج نطاق البعثة الإعلامية التي زارته في مخبأه.
مرة أخرى يبدو الملف السوري متعلقاً بالملف اليمني. في المرة الأولى كان الحل اليمني هو ما يُروّج له ضمناً عند الحديث عن حل سياسي في سوريا، وقد تنقّلَ تبني النموذج اليمني بين طرفي الصراع الإقليمي والدولي. ففي البداية كان مرفوضاً تماماً من قبل حلفاء النظام السوري، ثم عندما تبينت هشاشته وتقدّمَ الحوثيون لاحتلال اليمن أضحى الأخير نموذجهم المفضّل. بهذا المعنى، صار النموذج الحوثي أداة إيرانية في سوريا، ولغماً يوضع تحت الحل الذي تسوّق له بعض القوى الكبرى.
الآن، بينما يخوض التحالف العربي عملياته ضد الحوثيين، يتراجع الملف السوري إلى الوراء في انتظار ما ستسفر عنه المواجهة الخليجية الإيرانية في اليمن. الانتصار الإيراني في المواجهة غير مسموح به إقليمياً أو غربياً. الاحتمالات تتراوح بين انتصار التحالف أو التوصل إلى تسوية تُبقي بعض النفوذ الإيراني، أي تُضعف الحوثيين من دون القضاء عليهم نهائياً. الاحتمال الأخير قد يكون الأكثر انسجاماً مع سياسة إدارة أوباما، لجهة انعكاسه على مجمل الصراع الإقليمي، حيث تعمل الإدارة طوال مفاوضاتها النووية مع إيران على مستوى معين من إدارة الصراع، من دون العمل على إنهائه أو إرضاء أي طرف من أطرافه.
أيضاً، ليس محسوماً أن يؤدي الانتصار الخليجي في اليمن إلى قطف ثمار سوريّة له، لجهة إضعاف إيران في مجمل مناطق نفوذها الإقليمي. فاليمن لم يكن أصلاً من ضمن حسابات موازين القوى التقليدية في المنطقة، وكان هامشياً مع اعتباره منطقة حيوية لأمن الخليج. وربما في اليمن تحديداً، بعد العراق، برزت أهم أخطاء مجلس التعاون الخليجي الذي لم يقبل بعضوية اليمن فيه، فتُرك كبلد فقير هامشي يسهل اختراقه. على هذا الصعيد، لا يخلو من دلالة أن يتمدد النفوذ الإيراني في خاصرتي الخليج المتروكتين، حيث كان مخططاً لليمن أن يلتحق بالعراق. ومع أن دول الخليج انخرطت في الشأن العراقي منذ حرب تحرير الكويت وصولاً إلى إسقاط صدام حسين إلا أنها لم تحصد ثمار مجهودها ذاك، ولم تعمل على تثميره.
الاستفاقة الخليجية الحالية قد تكون فألاً حسناً على الصراع السوري، فقط إذا كانت بداية لإعادة التوازن إلى المنطقة بعد الترويج لوقوعها ضمن الدائرة الإيرانية. ومن المستحسن نزع الطابع المذهبي عن هذا الصراع، الطابع الذي فرضته إيران من جنوب لبنان وصولاً إلى اليمن. العبرة الأساسية ليست في الوصول إلى توازن بين مختلفين مذهبياً، بل هي في إقامة توازن إقليمي يلجم التطلعات وأوهام التوسع لدى مختلف الأطراف. فقط إذا تشكلت قناعة من هذا القبيل لدى القيادة الإيرانية فسيكون التحالف العربي ضد الحوثيين أدى خدمة للسوريين، أما إذا حاولت إيران التعويض في سوريا، وإذا سُمح لها بذلك أميركياً وإقليمياً فسيكون السوريون في موقع من يدفع الثمن مرة أخرى. ولا ننسى أن بعض الدول العربية المشاركة في الحلف له مواقف غير مشجعة إطلاقاً تجاه الموضوع السوري. فمصر السيسي مثلاً تكاد تجهر بتفضيلها بقاء النظام السوري، ومشاركتها في التحالف "كنوع من رد الجميل" لا يُبنى عليها توقعات أكبر فيما يخص ملفات أخرى، ولا يُبنى عليها توقعات تخصّ الانفراج تجاه المعارضة المصرية نفسها لينتظر السوريون منها دوراً إيجابياً.
هناك من يربط، طامحاً، بين خسارات النظام في درعا وإدلب وعمليات التحالف في اليمن، بخاصة مع الدعم التركي المعلن للتحالف. غير أن هذا الربط المتفائل بتنسيق إقليمي ودولي عالي المستوى لا يستند إلى معطيات جدية، باستثناء تراجع حدة الخلافات العربية التركية، وربما الأمل بأن تسمح إدارة أوباما للاعبين الإقليمين بالتدخل في سوريا على المنوال اليمني. الأقرب إلى الواقعية من تلك التمنيات أن موسم الغرور الإيراني أخذ بالتراجع منذ الفشل على جبهتي الشمال والجنوب في سوريا، ولا شك أنه يتلقى ضربة قاصمة في اليمن. لكن المعنويات المرتفعة وحدها لا تجلب النصر، وتجربة السوريين مُرّة مع خطوط الإمداد التي تنقطع فجأة، وهي لا تقل مرارة عندما تُفتح على الوجه الذي لا يتمنونه أو لفصائل لا تنسجم مع تطلعاتهم أصلاً.
في كل الأحوال، هناك صراع سوري داخلي أجّل حسمه منذ أربع سنوات الصراع على سوريا الذي يعلنه في كل يوم رعاة النظام، لكن لا يُنتظر من أي تطور إقليمي حسمُ هذا الصراع، إلا إذا أذِن بسقوط النظام أخيراً. بعبارة أخرى، إذا لم تكن عمليات التحالف في اليمن مفيدة فلن تكون مضرة بالسوريين. وحتى احتمال انضواء العمليات ضمن رؤية دولية لاقتسام مناطق النفوذ لا يعني أبداً النجاح في فرضها، مع ترجيح عدم وجود تلك الرؤية الصارمة فيما يخص الملف السوري. أما أن يتراجع الملف السوري لصالح الاهتمام بالملف اليمني فقد بات من المعتاد تراجعه لحساب الملفات الأخرى، ربما لأن العديد من القوى يودّ حسم المواضيع الإقليمية الأخرى قبل التقدم في الموضوع السوري، فحينها لن تكون هناك ملفات عالقة تحتذي به.
مع عاصفة الحزم في اليمن، بلغ النفاق الإيراني ذروته، وصار واضحاً أكثر من ذي قبل أن ملالي طهران يكيلون بمكيالين مع قضايا الشعوب والأمم، وأنهم ينطلقون في مواقفهم من طائفية واضحة، رغم أنهم يحاولون توزيع التهم على غيرهم.
الليبراليون والعلمانيون من العرب والفرس والغرب يتّهمون الدول السنّية وعلى رأسها السعودية بالطائفية، وأن ما يسمّونها بـ"الوهابية" هي سبب الحروب النجسة التي تشتعل بالمنطقة العربية، وأن العلماء الوهابيين -على حدّ تسميتهم- هم من ينشرون الإرهاب ويهدّدون استقرار الشعوب والأمم على وجه الأرض.
هذا يصبّ بامتياز في أقداح رجال الدين الصفويين المتخرّجين من حوزات قم والنجف المتطرّفة، وعلى غرار تهمة "معاداة السامية" التي يستغلها الصهاينة لحماية أنفسهم من الملاحقات الدولية على جرائمهم، يوزع الصفويون تهمة الطائفية، ومن خلالها يحصنون أنفسهم ويحاولون من خلالها منع العالم من معرفة حقيقة المعتقدات الشيعية التي يستغلونها، فيما يهدّد الإنسانية جمعاء، فهذه المعتقدات متطرّفة وتدعو لمحو الآخر وهو السنّي طبعاً من الوجود، وإنهاء العالم العربي وتمزيقه وفق منظور عرقي يستمد معانيه وغاياته من إمبراطورية فارسية بائدة.
عندما نكشف عن طائفية إيران ومخاطرها على الإنسان والإنسانية، نُتّهم بالطائفية من طرف أتباعها أو ممّن يحلبون في أوانيها أو حتى المخدوعين الذين لا يميزون بين التمر والجمر، رغم أن هذه الدولة العنصرية كل مكوناتها وغاياتها وحراكها السياسي ومشروعها القومي ينبني على معايير طائفية بحتة يجرّمها ويرفضها القانون الدولي وكل القيم الدينية.
ثورات كشفت عورات إيران
مع اندلاع ثورات "الربيع العربي"، تخلّت عن تقيتها لحد ما وبدأت تكشف إيران عن وجهها الحقيقي لكل المخدوعين بها، وطبعا لسنا منهم، فقد كنّا على مدار سنوات طويلة نؤكد على حقيقة الدولة الصفوية ومشروعها الهدام الذي يستعمل التشيّع لتحقيق مآربه التدميرية للعالم العربي والإسلامي.
بدأ تواجد إيران يتقوّى بالمغرب العربي الكبير مطلع التسعينات في الجزائر مع ثورة الجزائريين ضد النظام الفاسد والمستبد، وهو ما تحدثنا عنه في مقالنا الأسبق "هكذا ولغت إيران في دماء الجزائريين"، غير أن حضورها كان محدوداً في ثورة تونس رغم نشاطات التشيّع القائمة، أما في المغرب فهي تتحرك لتشييع المغاربة رغم بعض مواقف النظام الحاكم الإيجابية والمناوئة للدولة الإيرانية.
بالنسبة لمصر فقد ظلت إيران تتحرّك لما تمثّله هذه الدولة من ثقل استراتيجي سواء في العالم العربي أو بالنسبة لوجودها على حدود الكيان العبري المسمى "إسرائيل"، وهو الصراع الذي تستغلّه إيران في إطار صناعة نفوذها في الشرق الأوسط.
دعمت إيران ثورة المصريين ضد نظام حسني مبارك، الذي ظلت علاقته مع طهران سيئة للغاية، وآخر ما حدث بينه وبين حزبها في لبنان المسمّى "حزب الله"، توقيف خلية "سامي شهاب" الجاسوسية في مصر، والذي اتهمته السلطات المصرية بإجراء هجمات وأعمال تخريبية وحكم عليه بـ 15 عاماً ثم فرّ بعد أيام من سقوط نظام مبارك إلى بلده لبنان، وقدمه حسن نصرالله في احتفالية ما يسمى "قادة الأسير".
في ليبيا ساندت إيران ثورة الليبيين على نظام معمر القذافي، من أجل إشغال المجتمع الدولي بتلك الحرب وأيضاً بسبب ثأر قديم ومشبوه يتعلق باختفاء موسى الصدر الذي يتهم القذافي بتصفيته، ولذلك رأينا "حزب الله" وزعيمه يشيد كثيراً بثورة الليبيين. كما أن القذافي حاول إحياء مشروع الدولة الفاطمية في المغرب العربي والتي اعتبرت محاولة لضرب وصاية الدولة الفارسية على الشيعة العرب خاصة.
في البحرين لما تحرك شيعتها ضد النظام الحاكم، وجاء ذلك بإيعاز إيراني من أجل استغلال "الربيع العربي"، وقفت إيران بكل قوتها مع ما تسمّيها "ثورة الشعب البحريني" أو "ثورة البحرين"، ورافعت لصالح كل الشعارات التي رفعت عن الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والقوانين الدولية.
أما في اليمن فقد قدمت السلاح والعتاد والمال لمليشيات الحوثيين الشيعية التي تسمى "أنصار الله"، لأسباب طائفية طبعاً، حتى تمكّنت من السيطرة على العاصمة صنعاء بعد تحالفها مع قوات الثورة المضادة التي قادها الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، بعد سقوطه عبر ثورة شعبية عارمة، ومن خلال مبادرة خليجية أنقذت هذا الرئيس الذي رمّمت وجهه المملكة العربية السعودية بعد محاولة اغتياله، ولكنه للأسف غدر بها وتحالف مع ألدّ أعدائها.
لما اندلعت ثورة سورية اصطفّت إيران مع نظام بشار الأسد النصيري إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، وسرعان ما تحوّل الأمر إلى عسكري، حيث أدخلت مليشيات "حزب الله" وتنظيمات أخرى شيعية متطرفة من العراق وغيره، كما أنه يتواجد الحرس الثوري أيضاً وفيلق القدس بقيادة الجنرال الإيراني قاسم سليماني.
النفاق الإيراني العابر للقارات
قتل الكثير من السوريين في حرب طاحنة شنّها نظام الأسد وبدعم مليشيات إيرانية شيعية، وظل الخطاب الرسمي الإيراني يتحدّث عن مؤامرة دولية على محور "الممانعة والمقاومة" الذي هو في الأصل "مماتعة ومقاولة".
تتّهم إيران "إسرائيل" والولايات المتحدة وكل قوى الغرب بالوقوف خلف الأزمة السورية، وذلك لإسقاط نظام ممانع ومقاوم على حدّ زعمها، بالرغم أن هذه القوى الدولية المتّهمة لم تفعل شيئاً لإسقاط النظام، ولو قدمت بعض الأسلحة الخفيفة للمعارضة لانتهى الأسد في الأشهر الأولى من الثورة.
لم نسمع إيران تتحدث عن حقوق الإنسان ولا القانون الدولي ولا الجرائم ضد الإنسانية رغم كل ما حدث في سوريا، بل شاركت بكل قوتها في تنفيذ الكثير من المجازر الطائفية عبر مختلف المدن السورية.
كما لم نسمع إيران تتحدّث عن الديمقراطية وحكم الأغلبية، وهي التي طالما صدّعت رؤوسنا بالحديث عنها في العراق والبحرين لأنها ترى أن الأغلبية شيعية ومن حقها السلطة وفق اللعبة الديمقراطية المدعومة من الغرب. وهكذا حيث ترى إيران أن شيعتها أغلبية تتحدث عن الديمقراطية وحيثما يكونوا أقلية ترافع لصالح القوانين الدولية لحماية الأقليات.
لقد ظهر النفاق الإيراني وبلغ ذروته مع عاصفة الحزم التي قادتها السعودية بالتحالف مع عدة دول عربية وإسلامية من بينها قطر والإمارات والمغرب وباكستان وغيرهم.
تابعت الإعلام الصفوي الإيراني وسمعت العجب من الحديث عن جرائم ضد المدنيين والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان وسيادة اليمن وما إلى ذلك من الشعارات التي تحدث عنها السوريون أنفسهم على مدار أربع سنوات وهم تحت جحيم نظام الأسد الذي تدعمه طهران وتدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة.
تزعم إيران أن السعودية تقصف المدنيين وتبيدهم جماعياً، وهذا محرّم ومجرّم في القوانين الدولية، رغم أن ذلك لم يثبت والثابت لحد اللحظة أن الحوثيين يقصفون المدنيين ويستعملونهم كدروع بشرية من أجل تشويه عاصفة الحزم فقط. طبعاً تتجاهل ذلك إيران، والأدهى أن ما تنسبه زرواً للسعودية في اليمن هو ما يفعله نظام الأسد بطيرانه الحربي وصواريخه الباليستية وأسلحته الكيمياوية، حيث دمر المدن وقتل مئات الآلاف وهجّر الملايين من المدنيين السوريين على مدار أربع سنوات، وها هو يستقبل عامه الخامس بهجوم بالبراميل المتفجرة والغازات السامة على إدلب المحررة.
أما التعذيب الذي يحدث في سوريا فهو لا يخطر على ذهن بشر، فما سرّبت من صور لجثث المعتقلين الذين قضوا بسبب تعذيبهم البشع فلا يمكن وصف ما يجري سوى أنه محرقة القرن بامتياز.
تقول إيران: إن السعودية تعتدي على سيادة اليمن وإرادة الشعب اليمني، وهي قامت بالأمر نفسه في سوريا والعراق، حيث إن حرسها الثوري يصول ويجول ويقترف ما يندى له الجبين من قتل للسوريين، ولم تتحدث عن السيادة إلا عندما تلوح في الأفق معالم تدخل لصالح المعارضة.
أما في العراق، فقد دخل شيعتها على ظهر الدبابات الأمريكية التي دكت أشلاء المواطنين، وأفتى مرجعياتها بتحريم مواجهة الاحتلال الأمريكي، وطبعاً لم تتحدّث عن سيادة العراق ولا كرامة شعبه.
تدّعي إيران أن قوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية تستهدف ثورة اليمنيين على نظام الرئيس هادي، ولم تتحدث عن تحالف الحوثيين مع الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح الذي أسقطه الشعب اليمني في ثورة شعبية سلمية اعترف بها كل العالم.
لم تتحدث أيضاً عن ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد الذي تدافع عنه بمليشياتها الطائفية المسلّحة، ولا اهتمّت بثورة الشعب العراقي ضد المحتل الأمريكي من قبل، ولا من بعد لما ثار العراقيون ضد نظام الملالي بقيادة أزلامها من المالكي ومشتقاته.
تتوهّم إيران وتقول إن تدخل الدول العربية بقيادة السعودية في اليمن هو اعتداء سافر على دولة اليمن المستقلة وذات السيادة، رغم أن هذا التدخل جاء بطلب من رئيس شرعي منتخب.
كما أنها ظلت تصف تدخل قوات درع الجزيرة في البحرين بطلب من قيادتها هو "احتلال" سعودي، لأنه أنقذ البلاد من التحوّل من دولة مستقلة إلى محافظة إيرانية كما صرح في 2009 علي أكبر ناطق نوري، رئيس التفتيش العام بمكتب خامنئي، في كلمة له خلال الذكرى السنوية الثلاثين لانتصار ثورة الخميني، حيث قال إن البحرين كانت في الأساس المحافظة الإيرانية الرابعة عشرة، وكان يمثلها نائب في مجلس الشورى الوطني".
في المقابل تغضّ طرفها عن غزوها العسكري لسوريا بل ترى أن تدخل مليشيات "حزب الله" هو شرعي، لأنه جاء بطلب من بشار الأسد الذي ثار ضده أغلب الشعب السوري وفقد شرعيته حتى صار يغادر غرفة نومه نحو حمام سردابه تحت حماية من الحرس الثوري الإيراني.
أيضاً تتجاهل تدخّلها في العراق، حيث نرى قاسم سليمان بقواته يعتدي على العراقيين ويدمّر مدنهم وقراهم ويبيد المدنيين من أهل السنّة بحقد طائفي قلّ نظيره عبر التاريخ، وطبعاً تبرّر ذلك بأن هذا التدخل جاء بطلب من حكومة العراق الصفوية الموالية لخامنئي.
تزعم إيران أن التدخّل العربي في البحرين ثم اليمن هو "احتلال سعودي" ويتبجح أبواقها أن ثورة الخميني ترسي دعائم الحرية وتقرير مصير الشعوب في أي مكان، في حين تدخلها السافر في العراق ولبنان وسوريا ليس احتلالاً ولا هو يتنافى مع قيم خمينيتها.
قبل هذا نذكر أن إيران تحتل دولة الأحواز العربية منذ عام 1925، أي قبل احتلال فلسطين عام 1948، وكل الأدلة التاريخية والوثائق تثبت أن الأحواز أو عربستان كانت دولة مستقلة وتمّ احتلالها إيرانياً بدعم بريطاني، وهو الدعم نفسه الذي جاء لاحقاً لصالح الصهاينة في احتلال فلسطين.
منطق شيطاني مفضوح
المنطق الإيراني الطائفي صار مفضوحاً للعيان، فعندما يثور الشيعة في أيّ بلد لصالح خامنئي هم ثوّار وهم الشعب ومن حقّهم تقرير مصير وطنهم، أما عندما يثور السنّة فهم متآمرون وخونة وإرهابيون وتكفيريون ومتشدّدون يجب إبادتهم!
المنطق الإيراني العنصري صار واضحاً كالشمس في رابعة النهار، إن قتال المليشيات الشيعية جريمة ضد الإنسانية، في حين لما تبيد هذه المليشيات المدنيين من أهل السنّة فهي حرب على الإرهاب وحماية للأوطان من العملاء والصهاينة!
المنطق الإيراني الاستعماري يرى أنه لما تدخل مليشيات شيعية لحماية نظام يوالي طهران فإنه عمل مشروع ولا يتنافى مع القيم الأخلاقية والوطنية ولا القوانين الدولية، في حين لما تتدخّل دولة عربية في بلد عربي بطلب من حاكمها الشرعي فإن ذلك يعتبر اعتداء على سيادة دولة.
للأسف الشديد يوجد من بني جلدتنا من لا يزالون يخدعون بشعارات إيران التي تدعي فيها أنها ضد الطائفية وتناهض الغرب كما أنها مع ثورات الشعوب، ولكن في الواقع هي دولة طائفية وعنصرية للعرق الفارسي وحليفة استراتيجية للغرب عموماً والصهيونية بصفة أخص، وتناهض ثورات الشعوب لما تكون في غير صالحها ولا تؤمن إلا بثورات شيعتها التي تخدم مشروعها الصفوي الذي يريد الهيمنة ومحو الخريطة العربية من الوجود.
بلا شك أن عاصفة الحزم فضحت النفاق الإيراني الذي كان مفضوحاً إلى حدّ معين مع ثورة سورية، وأثبتت بالدليل القاطع أن هذه الدولة الفارسية تكيل بمكيالين ولا تهمّها قيم إنسانية ولا دينية ولا أخلاقية ولا قوانين دولية ولا أعراف ولا تقاليد، كل ما يشغل بالها هو مشروعها العنصري الطائفي الاحتلالي الإحلالي على حساب المنطقة العربية والأمة الإسلامية، وأتحدى من يثبت عكس ما قلته في هذا المقال.
ليس الأمر مفاجئاً عندما نقول إن مؤتمر المانحين 3 التي عقد في الكويت وجمع عدد من المليارات باسم إغاثة الشعب السوري، لن يكون مردوده للشعب السوري الذي يستحق كل قرش تم جمعه.
الشعب الذي ينتشر في عدة بلدان وفي عدد لا حصر له من المخيمات في الداخل، إضافة إلى المناطق المحررة وتلك المحاصرة، ذلك الشعب الذي تم إذاقته كل صنوف الحرمان والموت، لكن لن يحظى إلا بالجزء اليسير مما جُمع، ومما تم استغلاله باسمه.
فالثورة لم تستطع أن تنتج معارضة سياسية قادرة على الظهور بمظهر يمكن للدول والمنظمات الدولية أن تنظر إليه كممثل حقيقي وفاعل وحازم للشعب السوري، فكل ما تم الحصول عليه اعتراف سياسي، دون أي وجود قانوني له على الأرض، السفارات التي تم فتحها عبارة عن دكاكين سياسية أو إرضائية أو كنوع من زيادة التحدي لهذه الدولة أو تلك.
المبالغ التي جمعت في المؤتمر الذي استضافته الكويت سيتم تحويلها إلى الأمم المتحدة لكي تقوم بتوزيعه على منظماتها وهيئاتها بغية كما يقال "إغاثة الشعب" السوري، فهنا يبدأ التركيز الفعلي على الهيئة أو الجهة المتعمدة لدى الأمم المتحدة، وهي نظام الأسد فهو الوحيد المعترف به والممثل المتواجد في الأمم المتحدة، أي أن شيء سيتم من خلاله و بموافقته شئنا أم أبينا، و ستخضع عملية التوزيع لمزاجيته سيما في المناطق الداخلية المحررة و تلك المحاصرة، فلن يدخل ما قيمته دولار واحد، دون أن يقابله عشرات الدولارات لموالي الأسد.
القضية ليست قضية أمم متحدة أم دول عربية وإسلامية وأوربية وكل دول العالم، كما أنها ليست قضية معارضة ميؤوس منها، بل هي قضية الجميع مجتمعين، ولا نستثني منهم أحداً، وإن نركز على المعارضة التي لازالت وستبقى عاجزة فاشلة ومحبطة لحد الغثيان، كونها لم تستطع حتى اللحظة من إيجاد حتى جهة لتوزيع المواد الإغاثية ذات مصداقية واحترام دولي، ولازالت تجربة "وحدة تنسيق الدعم" شاخصة أمامنا، فلا هي تبعت للحكومة المؤقتة ولا انفردت بالعمل بشكل حظيت به باحترام حتى العاملين بها.
و يبقى أن نشير أن ما تم جمعه من مبالغ في مؤتمر الكويت لا يعتبر رقم ثابت، فالوعود شيء و المنح الفعلي شيء آخر، و حتى المبلغ النهائي المجموع سيكون هناك أعباء تثقله من مصاريف و رواتب موظفين و إجراءات و ما إلى ذلك، ولزيادة الإحباط هناك مبالغ كبيرة ستعود على الدول المستضيفة للاجئين السوريين كالأردن و لبنان، تحت مسمى " خطط الاستجابة لمواجهة اللجوء السوري" ستخصص لبنى تحتية و مساعدة المجتمعات المستضيفة و المتأثرة من تواجد اللاجئين، اقتصادياً و تعليمياً و اجتماعياً و ثقافياً و....و.... .
و لا يسعنا إلا القول: مانحين باسم الشعب السوري .. وليس له !!؟
يتساءل مراقبون كثرٌ هذه الأيّام عن هويّة الفئات التي يُخاطبها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في إطلالاته الإعلامية، وعن فريق العمل الذي يحضّر له كلماته أو ملفّاته في هذه الإطلالات.
ولعلّ كلمته الأخيرة التي خصّصها لتطوّرات الوضع اليمني كانت مناسبةً لتعاظم ترداد التساؤل المذكور، خاصة أنه في مقاربته "للقضية اليمنية" استند الى مبدأين، هو الأقلّ مناعةً ومشروعيةً لإثارتهما.
المبدأ الأول هو مبدأ "رفض التدخّل الخارجي والغزو العسكري". فأن يُكرّس السيّد نصرالله جزءاً من حديثه للتعقيب على هذا الأمر وتجريمه، ودعوة اليمنيّين الى التصدّي له ومقاومته، وهو الذي توجَز سيرةُ حزبه العسكرية منذ صيف العام 2012 ولغاية اليوم بكونها تدخّلاً خارجياً في الشأن السوري وغزواً حربياً للأراضي السورية، ففي الأمر مفارقة عجيبة، لا أصَحّ تجاهها من قول السيّد نفسه "إن الغُزاة سيُهزَمون".
المبدأ الثاني هو مبدأ "رفض العدوان لقمع الثورات". ونصرالله يعني بالطبع أن الحوثيّين في اليمن يمثّلون الثورة التي يُسعى الى قمعها. وهذا على تهافُتِه، إذ أن الحوثيّين تحالفوا مع الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح في ثورة مضادة وفي سعي للاستيلاء على السلطة وعلى كامل البلاد ومرافئها بعد الثورة، مستغرَبٌ ذِكرُه ممّن أرسل قواتِه بطلب إيراني لمحاولة قمع الثورة في سوريا والعدوان على أهلها، من القصير الى يبرود فالغوطة الشرقية ودرعا.
وإذا أضفنا الى المبدأين المذكورَين ما ردّده السيد نصرالله حول إيران وأدوارها الإقليمية وحول حزب الله واستقلالية قراراته، أدركنا أن الزعيم الشيعي اللبناني يخاطب فئاتٍ لا تعرف شيئاً عن كلّ ما ذَكر (أو لا تريد أن تعرف ويكفيها ولاؤها للخطيب)، وأنه وفريق عمله مضطرّون للتعليق السريع على التطوّرات بسبب خطورتها، ولَو من دون قدرة تأثيرٍ هذه المرّة على مجرياتها، لا شحذاً للهِمم الحوثية ولا وقفاً للغارات الجوية ولا تعديلاً في خريطة تحالفاتٍ قد يكون لِلغرور السياسي والعسكري الإيراني الفضل الأوّل في تركيبها.
يبقى أنّ كل تدخّل عسكري خارجي في أي مكان في العالم، وبمعزل عمّا قاله أمين عام حزب الله، يستحقّ أن يُشرّح ويُناقش في خلفيّاته ومبرّراته وتبعاته.
والأمر بالطبع يسري على العملّيات العسكرية السعودية في اليمن. فالأخيرة هي أوّلاً مواجهةٌ تخوضها الرياض مباشرةً مع طهران، الحاضرة من جهتها بالواسطة. وهي ثانياً استعراض قدرةٍ على حشد تأييد الدول الكبرى في العالم الإسلامي السنّي، من باكستان الى تركيا ومصر، لتذكير إدارة أوباما أن العديد من حلفاء واشنطن في المنطقة غير راضين عن الأولوية المعطاة في سياسته الشرق أوسطية للاتفاق مع الإيرانيين. وهي بهذا المعنى، غير معنيّة بمصلحة اليمن المتحوّل ساحةً تشهد بدء طورٍ جديد من الصراع في المنطقة دشّنه أول ردّ هجومي سعودي على إيران، المهاجِمة لوحدِها منذ سنوات، في العراق وسوريا ولبنان، واليمن.
وحزب الله في الصراع هذا طرف، لأسباب إيرانية ومذهبية. وكل حديث لأمينه العام حول الغزو والعدوان "لا يُصرف" جدّياً، لا في اليمن ولا في لبنان، ولا في القلمون وجوبر وبُصرى الشام.
ربما من المبكر أن نكتب ونتحدث عن النتائج، التي يمكن أن تحققها عاصفة الحزم التي بدأتها المملكة العربية السعودية، ومعها دول خليجية وعربية، بالإضافة إلى باكستان، لردع التغوّل الإيراني في المنطقة، وتحديداً في اليمن، عبر وكيلها الجديد، عبد الملك الحوثي وأتباعه، مدعومين بالرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، إلا أن ذلك لا يمنع، هنا، من الحديث عن نتائج سريعة، ربما تكون قد أفرزتها هذه العملية العسكرية، والتحالف النادر الذي يبدو أنه بُني وفقاً لرؤية ودراية واعية، ولم يكن تحالفاً مستعجلا.
وبعيداً عن مجريات الوقائع اليومية، وما تقوم به الضربات الجوية من تحجيم لقدرات الحوثيين، ومعهم القوات الموالية لصالح، فإن ما تحقق، حتى الآن، من هذه العاصفة الحازمة كثير وكثير جداً، ولعل من أهم هذه النتائج، التي ربما تعتبر مفاجأة لمراقبين كثيرين، أن عاصفة الحزم أظهرت اليد الإيرانية مشلولة، وغير قادرة على الحركة في المنطقة، التي كانت سابقاً تعتبر مستباحة لها ولمخططاتها.
"لم يشهد الخطاب السياسي الإيراني ترديداً لكلمة الدبلوماسية كما شهدته الأيام القليلة الماضية"
كان الدافع الأساسي لعملية عاصفة الحزم هو التمدد الإيراني الذي وصل إلى مناطق وجغرافيا لا يمكن احتمالها، فبعد العراق، ومن قبله لبنان، ومن بعدهما سورية، كانت حشود الحوثيين تقترب من عدن في جنوب اليمن، بعد أن أنهت مهمتها في شمال البلاد، وكانت تقترب أكثر من موانئ بحر العرب، تراقبها بوارج إيرانية حربية، كانت راسية على مقربة منها، للدفع بها في ساعة الحسم، التي ربما كان توقيتها فجر الجمعة، بحسب مصادر.
جاءت عاصفة الحزم حاسمة في التوقيت وفي الأهداف، فهي لم تمنع تقدم الحوثيين وحسب إلى عدن، وإنما أيضاً دفعت البوارج الإيرانية إلى الفرار من المنطقة، فالرد لم يكن متوقعاً، وكان مفاجئاً لسياسات طهران، التي اعتادت أن تضع الخطط وتنفذها، من دون وجود ما يعترضها.
وجدت إيران نفسها في لحظة فارقة من عمر المنطقة الأكثر توتراً في العالم، غير قادرة على الحركة والرد، فأين يمكن لها أن ترد؟ في العراق، حيث قواتها وجنرالها قاسم سليماني مرابطون منذ قرابة شهر عند تخوم مدينة تكريت، وعلى الرغم من كل نيرانهم وتسليحهم وعتادهم وبشرهم، فشلوا في اقتحام المدينة، فعادت حكومة بغداد إلى طلب المدد من أميركا، التي اشترطت انسحاب سليماني ومليشياته للمشاركة، وتم لها ذلك.
أين سترد إيران، إذن .. في سورية؟ كان متوقعا ذلك، غير أن عاصفة الحزم لم تكن مجرد ضربات جوية ضد تحالف حوثي إيراني في اليمن وحسب، وإنما كانت عاصفة عزيمة لم يسبق أن مرت بها الأمة العربية من قبل، فكان أن استأسدت الفصائل المسلحة السورية، وبدلاً من أن ترتد عليها غضبة إيران، ارتدت هي عليها، فحررت إدلب، وعيونها ترنو صوب مدن سورية أخرى، خصوصاً وأن عاصفة الحزم أعادت شيئاً من الثقة بالنظام العربي الذي ظل يتلقى الضربات تلو الضربات، طوال عقود خلت، ولم يمتلك زمام الفعل والمبادرة إلا عبر عاصفة الحزم التي قد يقول قائل إنها ما كان لها أن تكون لولا ضوء أخضر أميركي، ونقول، وليكن ذلك، المهم أن يكون هناك فعل يوازي حجم التدخل الإيراني في المنطقة، ولو كان بهذا الضوء الأخضر.
لسنا بعيدين عن الواقع، ولا نجمل الحقائق أو نغيرها، وإنما نقول إن أميركا ما كان لها أن تعطي مثل هذا الضوء الأخضر، لو لم تجد رغبة وعزيمة سعودية خليجية في تقزيم الدور الإيراني، رغبة ما كان لأميركا أن تقف ضدّها، فهي موجودة في منطقة تعاني من مشكلات كثيرة، ولا تريد أن تفتح على نفسها جبهة مشكلات أخرى، وهذه المرة مع حلفائها في الخليج.
انطلقت أبواق إيران محذرة من ردة فعل طهران حيال عاصفة الحزم، وقال بعضهم إن المنطقة الخليجية تحديداً ستدفع الثمن، وإن إيران ستحرك خلاياها النائمة التي ظلت طهران تخوف بها المنطقة، وها هي العملية، عاصفة الحزم، أكملت أيامها الستة، ولم نشهد أي فعل إيراني عبر تلك الخلايا النائمة، والتي إن فعلت شيئاً، فإنه حتماً لن يؤثر على أمن الخليج العربي واستقراره. الأكثر من ذلك، لم يشهد الخطاب السياسي الإيراني ترديداً لكلمة الدبلوماسية كما شهدته الأيام القليلة الماضية، في خضم حديث مسؤولي إيران عن معالجات لأزمة اليمن.
تدرك، وأنت تشاهد ما جرى للنمر الإيراني، أنه كان نمراً من ورق، لا يجيد سوى التهريج والتهويل لقوته، وحقيقة الأمر أنه أضعف من أن يكون نداً لأمة المليار، خصوصاً وأن ما لدى إيران من مشكلات، قابل أن يفككها إلى عدة بلدان متصارعة.
عاصفة الحزم درس لمن يريد أن يواصل مسيرة استعادة كرامة أمة ذبحتها، طوال عقود، سياسات حكومات خائرة خائفة، لا تفكر سوى بحماية كراسيها.
ليست المشكلة في إيران ومشاريعها التوسعية، وإنما فينا، نحن العرب، يوم أن ركنّا إلى الحالة الانهزامية، التي رسختها فينا أنظمة وإعلام طوال عقود، وأقنعَتْنا بأننا أمة مهزومة، ولا مجال للتململ.