صورة
صورة
● مقالات رأي ١٦ يناير ٢٠٢٥

من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد

تنقّل أحمد الشرع، الذي صعد اسمه عقب قيادته معركة إسقاط الأسد، بين تنظيماتٍ جهاديةٍ وتحوّلاتٍ فكريةٍ وجدت لها مساحة جغرافية تطبيقية في الشمال السوري.

أمامَ أريكةٍ خشبيّةٍ موشّاةٍ بالصَّدَف العتيق في قصر الشعب بدمشق، وقف قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع ببدلةٍ رسميةٍ فضفاضةٍ – ربّما لتخفي تحتها مسدّساً أو سترةً واقية – مصافحاً رئيس المخابرات العراقية حميد الشطري بعد حديثهما عن ضرورة التعاون لمنع عودة نشاط خلايا تنظيم الدولة الإسلامية، وحماية السجون التي زُجّ بها مقاتلو التنظيم في الأراضي السورية. حديثٌ بانت فيه لكنةُ الشرع الدمشقيّةُ بلا ريب. قد يبدو مشهداً عادياً في بلدٍ شبّ عن طوق آل الأسد أخيراً على يدِ شابٍّ جامحِ الطموح تتهافت الوفود العربية والغربية إلى القصر لرؤيته، ويتخبّط بعض روّاد فندق الشيراتون قربَ ساحة الأمويين في دمشق، يذمّونه ورجالَه سرّاً ويتماوتون أمام أعضاء هيئته في سبيل رؤيته، علّهم ينالون سبقاً بصورةٍ ينفردون بها على وسائل التواصل الاجتماعي – أو للتاريخ – أو بتصريحٍ جديد.

لكنّ اجتماع هذين الشتيتَيْن ليس مشهداً عاديّاً بل فتحاً يشتهيه الشعراء، إذ قلّما يجود الزمان بفرصةٍ لتقف منتصراً بعدَ معركةٍ تاريخية أمامَ خصمٍ خَدَعْتَه، أو خَدَعْتَ أسلافَه الإداريين يومَ اعتقلوك في مطلع الألفية. يومها جلس شابٌّ سوريٌّ عشرينيٌّ زحف من دمشق ليجاهد في العراق، حاملاً هويّةً عراقيةً مزيّفةً أمام المحققين الأمريكان والعراقيين، وخاطبهم بلهجةٍ لا شائبة فيها حتى ظنّوه عراقيّاً فسجنوه خمسةَ أعوام. ثمّ دار الزمن دورته وأتى العراقيّون ليصافحوا ذلك الشابَّ على أرضه وفي القصر الرئاسي ويطلبوا منه مساعدتهم في القضاء على حليفِه الأقدمِ تنظيم الدولة، في رحلةٍ ضاربة الجذور والفصول خاضها رجلٌ، غُيِّرت أسماؤه وألقابه وصفاته مراراً، وغُيِّر معها تنظيمه وهيئته والآن حكومته.

أحمد الشرع، بأحدث أسمائه، أو قائد الإدارة السورية الجديدة بآخِر أوصافه، سليلُ آل الشرع من وجهاء الجولان السوريّ، وبها تكنّى بِاسمِه الجهاديِّ ذائعِ الصيت: الفاتح أبو محمد الجولاني. يتطابق اسمُه مع أحدِ أعلام آل الشرع الذين قادوا ثورة الزويّة السورية "المنسيّة" على الفرنسيين، وربّما يُشابِه سَمِيَّه كذلك في أنّه "المتَّكَأ لآل الشرع، والمُحدِّث اللبق" كما وصفه حسين، والد أحمد الشرع، في كتابه "ثورة الزويّة السورية المنسية 1920 – 1927"، الصادر سنةَ 2022.

أحمد، الذي قاد معركةً أسقطت في أيّامٍ معدودةٍ وعلى نحوٍ مفاجئٍ بشار الأسد وأنهت تسلّط عائلته نحو ستّة عقودٍ على رقاب السوريين، بدا لغير المتبصّرين بالشأن السوريّ شخصاً مجهولاً، أو ربما داهيةً ينتمي إلى تنظيمٍ جهاديٍّ مسلّحٍ يهدّد بإغراق المنطقة في دوامةٍ جديدةٍ من التشدّد والعنف. لكن ما يحمله أحمد الشرع من إرثٍ عائليٍّ، وما تحمله سيرته من تحوّلاتٍ في الخطاب والأفكار والعمل، يَشِيان بصورةٍ أعمق. فمِن عائلةٍ ذات جذورٍ سوريّةٍ أصيلةٍ، وعُمرٍ قضاه متنقّلاً بين التنظيمات المسلّحة، وعينيه المسلّطتين على حُكم آل الأسد، وصولاً إلى إطاحته ببشار وإنهاء حُكمه، تتكشّف ملامح صورةٍ شديدة التعقيد لمَن سَمَّى نفسَه أخيراً أحمد الشرع.

يبرز لنا كتاب "ثورة الزويّة السورية المنسية 1920 – 1927"، الذي كتبه الدكتور حسين الشرع والدُ أحمد الشرع، وثيقةً نادرةً عن تاريخ العائلة ومسقط رأسها. يحدّثنا حسين، الاقتصاديّ المختصّ بالنفط، أن عائلة الشرع بالأصل من قرية جيبين التابعة لمدينة فيق عاصمة منطقة الزويّة، جنوبَ محافظة القنيطرة في الجولان السوريّ المحتلّ. وهُم من العوائل الأصيلة في المنطقة، ويدّعون أنهم من سلالةٍ تتّصل بآل البيت. ويمتلكون نحوَ 85 بالمئة من أراضي مدينة فيق، وزيتوناً في وادي مسعود على تخوم المدينة، ولهم فيها بيوتٌ تسمّى "بيوت الشرع"، طال أذى الفرنسيين سكّانَها نكايةً بآل الشرع الثائرين الذين ارتحلوا إلى الأردن عقبَ قتلِهم مديرَ ناحية المنطقة في عشرينيات القرن الماضي، وكلَّ القوى الجديدة التي جاءت لإدارة المنطقة تحت راية الفرنسيين. وقد كان آل الشرع من أصحاب الحلّ والعَقد في المنطقة حتى سُمّيت قرية جبين سابقاً "عاصمة القرار" لأهميّتهم فيها. 

بعدَ أيّامٍ قليلةٍ من سقوط نظام الأسد كان وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بمسمّاه الرسميّ وزعيمُ الطائفة الدرزية في لبنان بمسمّاه الأهمّ غير الرسميّ، من أوائل الشخصيّات التي التقاها أحمد الشرع في قصر الشعب بدمشق. تطرّق الشرع في لقائه إلى الحديث عن أسلافه، وتحديداً طالب الشرع وقاسم الشرع أصدقاء سلطان باشا الأطرش القائد العامّ للثورة السورية الكبرى سنة 1925 وأحد رؤوس الطائفة الدرزية. وتحدّث الشرع عن دورهما في مواجهة الفرنسيين وفي "ثورة الزويّة المنسية التي لم يعرفها التاريخ"، كما وصفها والده. انتهز الشرع الفرصةَ ليطرح تناصّاً تاريخياً بين الثورة المنسيّة على الفرنسيين والثورة السورية على نظام الأسد، مشيداً بدور أهل السويداء من الدروز الذين شاركوا بالثورة و"ساعدوا بتحرير منطقتهم وعملوا تحت إدارة العمليات العسكرية"، التي تزعّمها الشرع نفسه.

بسط حسين علي الشرع، والدُ أحمد، ذو التوجّه العروبيّ الناصريّ الحديثَ عن سيرته الذاتية في مؤلّفاته، ومنها نتعرّف على العوامل التي شكّلت أحمد الشرع نفسه في طفولته وصباه، إذ قضى أباه حياته كولده، جوّالاً بين مدنٍ عربيةٍ عدّةٍ يتلمّس طريقه ويحصد خبرةً غذَّت طموحه السياسي.

في كتابه "قراءة في القيامة الثورية" الصادر عن دار نقش للطباعة بإدلب – مقرّ نفوذ ولده وقت صدور الكتاب – سنة 2022، يتوقّف حسين الشرع عند انقلاب الثامن من آذار 1963 الذي أنهى أيّ نفوذٍ لمؤيّدي الوحدة بين سوريا والعراق ومصر، بعد انفصامِ عُراها قبل ذلك بعامين. عقب الانقلاب بشهرٍ، اندلعت بمسقط رأس حسين الشرع في فيق مظاهراتٌ طالَبَت بالوحدة مرّةً أُخرى، واحتجَّت على استئثار ضبّاط البعث بالسلطة. أجّج الطّلابُ ومنهم حسين الشرع هذا الحَراك، الذي جابهه الجيشُ يومئذٍ بالرصّاص. اعتُقل حسين ولمّا يبلغ تسعة عشر عاماً بعد احتجاجه على خطبة مدير المدرسة، وهرب لاحقاً من السجن وذهب إلى الأردن، حيث سُجن مرّةً أُخرى وخُيّر بين الذهابِ إلى السعودية أو العراق، فاختار العراق. هناك استقرَّ في بغداد وأكمل دراسة الثانوية فيها ثم التحق بالجامعة ودرس الاقتصاد والعلوم السياسية مع التخصّص في النفط، وتخرّج سنة 1969. وفي أثناء دراسته، مُنِيَ العربُ بالهزيمة التي راجت تسميتها بالنكسة في الخامس من يونيو سنةَ 1967، فرجع إلى الأردن وعمل مع الفدائيين الفلسطينيين زمناً قبل أن يعود لإنهاء دراسته.

في سنةِ 1971 عاد والدُ الجولاني إلى سوريا، وسُجن مرّةً ثالثة. آنذاك خرج من سجنه بتسويةٍ مع شعبة الأمن السياسيّ بالمخابرات، وعمل مدرّساً للغة الإنجليزية في درعا. كان والد الشرع أيضاً ذا طموحٍ سياسيٍّ، إذ ترشّح لمجلس النُوّاب لكنّه لم يفُز. وترشّح لعضوية مجلس محافظة القنيطرة ونجح سنة 1972. وعُرف عن حسين الشرع وَلَعُه في تأليف الكتب. فقد انبرى حينَها لتأليف عددٍ من الدراسات عن قطاع النفط في سوريا. فكتب عن النفط العربي كتابين، أوّلُهما "البترول العربي بين الإمبريالية والتنمية (الامتيازات التقليدية)" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت سنة 1973، والثاني "البترول والمال العربي في معركة التحرير والتنمية" الصادر عن الدار ذاتها سنة 1974. وأهمّ ما كتب كانت أطروحته "تخطيط الصناعات البتروكيميائية في سوريا" سنةَ 1975. 

مكث والد أحمد الشرع في السعودية منذ سنة 1979 حتى سنة 1988 حيث وُلِد ابنُه أحمد سنة 1982. عمل حسين في وزارة النفط (وزارة الصناعة والثروة المعدنية) باحثاً اقتصادياً عشر سنوات تقريباً وأصبح مديراً للشؤون الاقتصادية ومستشاراً في الوزارة. آنذاك كتب ستّة كتبٍ عن النفط والاقتصاد السعوديّ نُشرت ما بين دمشق والرياض. وكان له عشرات المقالات السياسية والاقتصادية المنشورة في صحيفتَي الرياض والجزيرة.

وفي سنة 1989 عاد والدُ الشرع مع أسرته إلى دمشق، وعمل مستشاراً لرئاسة مجلس الوزراء، ومديراً للعمليات في مكتب تسويق النفط التابع لرئيس المجلس وقتئذ محمود الزعبي. واستناداً إلى بعض المقابلات التي أجراها الباحثان حمزة المصطفى وحسام جزماتي وضمّناها تقريراً صحفياً نشرته "ميدل إيست آي" في يونيو 2021، انتهى المطاف بحسين الشرع ضحيّةً للظلم الإداريّ بعد رفضِه توقيعَ تحويلاتٍ اقتصاديةٍ غير قانونيةٍ طلبها مسؤولون في النظام السوري.

في دمشق حطّت عائلة حسين الشرع رحالَها جوارَ مسجد الشافعي في حيّ المَزّة، أحد الأحياء الراقية في العاصمة بمنطقة الفيلّات الشرقية. هناك عمل أحمد الشرع أثناء مراهقته في متجرٍ افتتحه والده للبقالة في دمشق بعد إنهاء عمله الحكومي، كما يَذكر في مقابلةٍ مطوّلةٍ أَجرَتها معه مجلة فرونتلاين ونُشرت في فبراير 2021. على أن هذه البيئة المكانية الأوسع التي نشأ بها الشرع، في حيّ المَزّة "غير المحافظ" – كما يصفُه في المقابلة – لم تدفعه نحو التيار الإسلامي. دفعته الانتفاضة الفلسطينية الثانية وهو في التاسعة عشرة من العمر ليفكّر "كيف يحقق واجب الدفاع عن الأمّة المضطهدة من المحتلّين والغزاة"، إلى أن نصحه أحدهم بالذهاب إلى المسجد والصلاة هناك، حيث وجد "معنىً آخَر مختلفاً عن المعنى الدنيويّ" دفعه للبحث عن الحقيقة التي وجدها بالقرآن، إذ درس تفسيرَه على يد شيخٍ فاضلٍ، فضّل عدمَ ذِكر اسمِه. 

آنذاك كان حسين الشرع من الناشطين السياسيين المدنيين المطالِبين بالتغيير الديمقراطي. فقد كان حاضراً في المحاضرة الافتتاحية لمنتدى الحوار الوطني في الثالث عشر من سبتمبر سنة 2000، في أثناء ما يُسمّى "ربيع دمشق"، وهو اسمٌ أُطلق على الشهور الأولى لبشار الأسد في السلطة، لِما شهدت سوريا من انفتاحٍ سياسيٍّ وفكريٍّ واجتماعيٍّ امتدَّ نحو سنة. ثمَّ كان من وجهاء المجتمع المدني الذين وقّعوا على "إعلان دمشق" سنة 2005، وهو إعلانٌ يدعو إلى إنهاء ما يزيد على ثلاثة عقودٍ من حكم آل الأسد والانتقال إلى نظامٍ ديموقراطيّ. ومنذ سنة 2020 عاد حسين إلى التأليف بغزارةٍ مرّةً أُخرى. لم تتوقف كتاباته هذه المرّة عند الاقتصاد والنفط، بل امتدّت لموضوعاتٍ أُخرى اقتصاديةٍ وأدبيةٍ واجتماعيةٍ، صدر أغلبها عن دار نقش للطباعة والنشر، مثل كتابه "القيامة السورية (في كيفية إعادة إعمار سوريا)" المنشور سنة 2022، وكتابه "الأحزاب السياسية في البلاد العربية" المنشور سنة 2023، عدا كتاب "ثورة الزويّة السورية المنسية" المذكور آنفاً. 

على التباين الفكريّ بين الأب والابن، أَقَرَّ أحمد في مقابلةٍ صحفيةٍ مبكرةٍ مع الصحفي الأمريكي مارتن سميث سنة 2021 أن تأثير والده عليه كبيرٌ، شخصياً وفكرياً في آن. إذ يقول إنَّ "القومية العربية تدفع الإنسان ليقاتل لحقوق المضطهَدين، وذاتُ طبيعةٍ ثورية". وأشار في المقابلة ذاتها إلى دور جَدّه الثوريّ ضدّ الفرنسيين، وإن كان "تركيزهما على الأمم العربية، بينما نوسّع نحن، كحركةٍ إسلاميةٍ، تركيزنا على كلّ الأمّة المسلمة"، إذ تختلف الأفكار بينما تتلاقى التأثيرات، كما في "الرغبة بالدفاع عن فلسطين والفلسطينيين المزروع في بيتنا طيلة الوقت" حسب قوله.

في أوائل سنوات الألفية، توالَت أحداثُ الانتفاضة الثانية ثم هجمات الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من "حرب أمريكية على الإرهاب" بلغت ذروتها بغزو العراق، لتضرب آلاف الشباب في صميمهم، فاختار بعضُهم التظاهراتِ الواسعةَ بينما بحث آخَرون عن مساراتٍ أخشن. كان أحمد الشرع من الشقّ الثاني، فتوجّه إلى بغداد قبل أسبوعين أو ثلاثةٍ من بدء حرب العراق، ثمّ ذهب إلى الرمادي، ومنها رجع إلى بغداد التي كان فيها حين اشتعلت الحرب. ثمّ عاد إلى سوريا زمناً قبل أن يرجع في رحلته الثانية الحاسمة بعد أعوامٍ قليلةٍ إلى الموصل ويقضي معظم وقته هناك، كما يفصّل شخصياً في مقابلته مع مارتن سميث لفرونتلاين.

وعدا تأكيده الشخصي في المقابلات الصحفية التي أجريت معه، تتضارب روايات الباحثين والكتّاب المتابعين لمرحلة العراق الغامضة، وأثرها في حياة الشرع. لكن تعاضد الروايات يخبرنا أنَّ رحلة الجولاني الثانية إلى العراق كانت صوب الموصل سنةَ 2005 تقريباً. ولم يُعرف كيف صار عضواً في "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" ولا الدور الذي لعبه الجولاني آنذاك في التنظيم، وما إذا كان التحاقُه بالقاعدة قد سبق على تلك الرحلة الثانية. لكن عند تلك النقطة صار الجولاني جزءاً من "مجلس شورى المجاهدين" المنبثق عن تنظيم القاعدة في العراق، والذي ضمّ غالبيّةَ فصائل المقاومة السُنّية حينَها. تقول محلّلة الاستخبارات المركزية الأمريكية ندى باكوس في الفيلم الوثائقي "الجهادي" الذي أخرجه مارتن سميث سنةَ 2021، إن الجولاني كان يترأس خليّةً فاعلةً هناك تحت إمرة أبو مصعب الزرقاوي، أمير تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي سينبثق عنه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي حافظ الشرع على عضويّته به. ومع ذلك، ينفي الشرع تماماً في مقابلته مع سميث أنه قد التقى الزرقاوي لتَباعُد الأماكن بينهما، ناهيك عن "البروتوكول الأمنيّ المشدّد" الذي أحاط به الزرقاوي نفسه والذي حال دون إتمام اللقاء.

على أيّ حالٍ، ومهما كان دور أحمد الشرع حينها، فقد قبضت القوّات الأمريكية سنةَ 2005 تقريباً على شابٍّ يحمل هويةً عراقيةً ويتحدث بلهجةٍ عراقيةٍ أقنعت المحقّقين وعملاءهم المحلّيين بأنّه عراقيّ. يقول باحثون مختصّون بشؤون الجماعات الإسلامية، منهم تشارلز ليستر في كتابه "الجهادية السورية" المنشور سنة 2015، إنه كان يُعرف بِاسم أوس الموصلي، ويقول الباحث الأردني المختص في شؤون الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية في تصريحٍ صحفيٍ نشره موقع درج في ديسمبر 2024 إنه عُرف باسم عدنان علي الحاج. ولكن في النهاية، لم يكن هذا الشخص سوى أحمد الشرع نفسه، مؤكِّداً أن قلّةً قليلةً فعلاً كانت تعرف أنه سوريٌّ عند اعتقاله أولاً في سجن أبو غريب، ثم معسكر بوكا، وهو معتقلٌ مخصّصٌ لسجناء الحرب العراقيين أنشأه البريطانيون سنةَ 2003 ثم سجن كروبر في مطار بغداد. بعد ذلك سلّمته القوّات الأمريكية إلى العراقيين الذين وضعوه في سجن التاجي حتى إطلاق سراحه بعد خمسة أعوامٍ من الترحّل بين السجون.

كان في سجن بوكا نحو عشرة آلاف معتقلٍ، منهم تسعةٌ من قادة القاعدة في العراق ومؤسّسي تنظيم الدولة لاحقاً. يقول أحمد الشرع في مقابلته مع فرونتلاين سنة 2021 إن دوره في السجن كان "إيصال الإيديولوجيا الصحيحة لمن حوله، فقد أدرك أن العديد حوله يحملون أفكاراً مغلوطةً حول الإسلام والدفاع والجهاد"، بلا صِدامٍ ولا خلافٍ وبمنهجيةٍ مختلفةٍ عن الآخَرين "الذين كان الكثير منهم ضبّاط شرطةٍ سابقين [يشير إلى الجذور البعثية العراقية لداعش] وحاول بعضهم جعل السجن إمارةً إسلاميةً حصل بها العديد من التجاوزات التي رفضتُها، ودفعت الكثيرين للانتقال إلى مهجعي من مهاجع أولئك القياديين"، كما يقول.

كان من بين هؤلاء قياديٌّ مهمٌّ تأثر بمواقف الجولاني في السجن. خرج قبله بأربعة شهورٍ وتولّى تنظيم "الولاية الشمالية للدولة الإسلامية في العراق"، أي نينوى غالباً وتشمل الموصلَ وما حولها، وتحدّث مع زعيم التنظيم حينها أبو بكر البغدادي عنه. لذا عند خروجه، كان البغدادي أوّلَ شخصٍ التقاه الشرع وأخبره عن نيّته العملَ في سوريا، إذ كان من القلّة القليلة التي تعلم أن الشرع من سوريا ولم يكن عراقياً. قبل توجّهه هناك، استفاد الجولاني من تجربة العراق والسجن، وبين عامَيْ 2010 و2011 كتب وثيقةً من خمسين صفحةً بعنوان "جبهة النصرة لأهل الشام من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد"، سرد بها تاريخ سوريا وجغرافيّتها وتنوّعها الطائفيّ وكيفية وصول عائلة الأسد إلى السلطة والفروق بين العراق وسوريا من حيث الأحزاب والإخوان والطائفية وغيرها، والعمل على تجنّب الأخطاء التي حصلت في العراق. إلّا أن نسختها ضاعت في دمشق.

أرسل الجولاني تلك الوثيقة مع والي الشمال إلى أبي بكر البغدادي، وطلبَ لقاءه للحديث عن ضرورة الذهاب إلى سوريا. يقول الجولاني، في لقائه مع مارتن سميث، إنه فوجئ بتهلهل كفاءة البغدادي التحليلية في قراءة الموقف، وبشخصيّته الضعيفة، وببُعده عن المشهد. ويزعم الشرع أن البغدادي – عقب خروجه من بوكا – قضى أعواماً في سوريا بعيداً عن المشهد العراقيّ، قبل أن يرجع حين التَقَيَا، ولذا لم يكن حتى معروفاً بين قياديّي تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية. 

وافق البغدادي فوراً، ومن هناك طلب الجولاني مئةَ مقاتلٍ لكن لم يرافقه إلّا ستّة مقاتلين، وطلبَ دعماً مادّياً فأعطاه البغدادي نحو خمسين إلى ستين ألف دولارٍ شهرياً لما يقارب سبعة أشهر، أنفقها في شراء عشرات البنادق، لم يستخدم معظمها بعد أن دُفنَت وصَدأَت، في رحلة عودة الشرع من العراق إلى سوريا أواخر 2011. رحلةٌ سيتغيّر معها الجولاني والبغدادي ويتغيّر انتماؤهما، وستُغيّر معهما الشرقَ الأوسطَ بأكمله موصلةً الشرع، بعد ثلاثة عشر عاماً حافلةً بالأحداث، إلى القصر الجمهوري السوري.

يوم الثلاثاء 10 ديسمبر 2024 بعد سقوط نظام الأسد، ومحاطاً بعناصر الأمن العامّ ومشايخ المسجد وطلّابه، دخل أحمد الشرع مسجدَ الشافعيّ في المَزّة – الحيِّ الذي نشأ فيه – مبتسماً حبوراً تلاحقه كاميرات الشبّان المذهولة من هذا الشابّ السوريّ الذي يبدو مثل أيّ سوريٍّ عائدٍ إلى حيّه وبيته. غير أنّه عاد منتصراً بعد أن قاد معركةً حقّقت أضخم إنجازٍ حلم به السوريّون طيلة 54 عاماً من حُكم عائلة الأسد، وهو إسقاط هذه العائلة.

متربّعاً في حارته ومسجده بين جيرانه وشيوخه، شرح الجولانيّ أهمّية المعركة، معركة تحرير سوريا من الأسد بأدواتٍ محلّيةٍ وداخليةٍ من غير دعمٍ خارجيٍّ. معركة لَم تُعِدْه إلى بيته فحسب، وإنما حالت دون تفكيك العربِ السنّةِ في سوريا، كما أشار إليهم في تلميحٍ واضحٍ إلى طائفية النظام السابق.

ما بيْن خطابِ الجولاني الأوّل المسجّل صوتيّاً من غير وجهٍ أو اسمٍ صريحٍ، الصادر عن "مؤسسة المنارة البيضاء" في الرابع والعشرين من يناير سنة 2012، وبيْن جلستِه شاهراً اسمَ أحمد الشرع متربّعاً على الأرض في مسجد طفولته وبين جيران حارته في الحادي عشر من ديسمبر سنةَ 2024، مرّ الرجل الذي يتصدّر واجهة سوريا وأخبارها الآن بتحوّلاتٍ وصراعاتٍ كثيرةٍ لم تقتصر رحلته فيها على دوائر الحرب والانتقال بين تنظيماتٍ عدّةٍ فقط، ولكنها كانت رحلة تجريبٍ وتعلُّمٍ طويلٍ. من أميرٍ في الظلّ داخل تنظيمٍ سلفيٍّ جهاديٍّ في بلدٍ مجاورٍ، إلى قائدٍ سياسيٍّ في العلن لا يُخفي طموحَه برئاسة سوريا القادمة.

يمكن رصد رحلة صعود الجولاني بدءاً من نهاية 2011 حين تأسيس تنظيم "جبهة النصرة لأهل الشام"، بعد أن قدّم مشروع الجبهة إيّاه إلى زعيم "دولة العراق الإسلامية" أبي بكر البغدادي، الذي كما أسلفنا وافق على رعاية المشروع وتمويله، وإضفاء الشرعية عليه بين الجهاديين السلفيين.

في سوريا أسّس الجولانيّ تنظيمَه مبتدياً بدائرةٍ ضيّقةٍ من الستّة الذين أتوا معه من العراق، مضيفاً إليهم الرفاقَ الذين عرفهم سابقاً وآخَرين انتقاهم وبايَعوه في سوريا، وهؤلاء أسّسوا مجموعاتٍ حولهم في شمال سوريا وجنوبها وشرقها عبر دائرة الثقة والانتقاء نفسها. وفي الرابع والعشرين من يناير سنةَ 2012، أعلن الجولاني عن التنظيم في خطابٍ نموذجيٍّ في انتمائه إلى السلفية الجهادية العالمية، تلقّفته المنتديات الجهادية ووسائل الإعلام، وزَخَرَ بمفردات الجهاد والشريعة والكفّار. هاجم الجولاني في خطابه العلمانيةَ وما أسماه "مشاريع الدول" بشأن سوريا، وخصّ بالذكر دولاً بينها تركيا، وحذّر من الانخداع بها. وقتئذٍ لم يعرف أحدٌ أن صاحب الصوت هو أحمد حسين الشرع، ابنُ حيِّ المَزّة في دمشق. وكلّ ما عرفه الناس أنه يلقِّب نفسَه "الفاتح" و"الجولاني". ولعلّ الجولاني عرف وقتها أنه يريد فتح دمشق بالذات، وليس روما أو كابل شأنَ الأدبيّات الجهادية.

حينئذٍ اختار معظمُ ناشطي الثورة السورية وسياسيّيها تكذيبَ هذا البيان واتّخاذَه صنيعةَ مخابرات الأسد، لنفي وجود جهاديين أو إرهابيين في صفوف الثورة السورية. واستمرّ هذا النفي وسردية المؤامرة واتهام النظام بالمسؤولية عن عمليات الجبهة اللاحقة للبيان، وخاصّةً التفجيرات الانتحارية التي راح مدنيّون بين ضحاياها كما في تفجير ساحة سعد الله الجابري بحلب في الثالث من أكتوبر عام 2012، وعملياتٍ أخرى قُتل فيها مدنيّون كثرٌ وتبنّتها الجبهة رسمياً، إلى أن اقتنع الجميع بأن الجبهة حقيقةٌ قائمةٌ وذهبوا باتجاه نفي صفة الإرهاب عنها حين صنّفتها الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب في الحادي عشر من ديسمبر 2012. وكان احتجاجهم مَرَدُّه إلى عدم تصنيف النظام في القائمة نفسها، أكثر ممّا هو حماسة للجبهة.

يرصد الباحث حمزة المصطفى في دراسته "جبهة النصرة لأهل الشام من التأسيس إلى الانقسام" الصادرة في نوفمبر 2013 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تجنّب الجولانيّ في تلك المرحلة تقديمَ جبهة النُصرة مشروعاً للحكم في سوريا، مخالفاً في ذلك الحركات الجهادية الشبيهة التي ظهرت في العراق ومالي، مكتفياً بترويجها جبهةً معنيّةً بالدفاع عن "أهل الشام". استخدم الجولاني في ذلك خطاباً استقطب به آلافَ السلفيّين الجهاديّين العرب والسوريين الذين يبحثون عن خطابٍ وتنظيمٍ أكثر صلابةً، مقارنةً بالشكل الشعبيّ وغير المؤدلَج أو البعيد عن الصلابة التنظيمية الذي وَسَمَ مجموعات الجيش الحُرّ. ولكن حتى في هذه المرحلة كان الجولاني يشعر بأهمّية عدم استعداء المجتمع أو ترهيبه، فقلّصت الجبهةُ عمليّاتِها الانتحاريةَ، وأكّدت في بعض البيانات أنها تحرّت خلوّ المدنيين قبل تنفيذها. ولكن استمرّ اتهام الجبهة بالمسؤولية عن عملياتٍ مثل تفجير مسجد الإيمان في مارس 2013 الذي قُتل فيه الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وهو من مشايخ سوريا المشهورين خارجها وصاحب المواقف العلنية المؤيدة لنظام بشار الأسد، إلا أن الجبهة نفت مسؤوليتها بسبب عدد المدنيين الكبير بين الضحايا.

كان الجولاني يرى نفسَه صاحبَ مشروعٍ كبيرٍ، وكان يتنقل داخل مناطق سيطرة النظام، ويعقد اجتماعاتٍ سرّيةً، مع قادة فصائل جهاديةٍ أخرى يسألُهم مبايَعتَه. وقتئذٍ كان نمط عمليات الجبهة أشبهَ بتدخلٍ جراحيٍّ مقصودٍ تجاه أهدافٍ محدّدةٍ، بينما كان النشاط العسكري في الثورة السورية في معظمه من عمل مجموعات الجيش الحرّ المحلّية، والتي يعود إليها الفضل بسيطرة الثوّار على مساحاتٍ واسعةٍ من سوريا في سنة 2012 وبدايات 2013.

كانت هذه المجموعات أكثر انتشاراً ومغامرةً، ولو كلّفها ذلك خسائرَ بشريّةً واستنزافاً عسكرياً طويلاً. وحتى في السنوات اللاحقة من تطوّر جبهة النصرة، ظَلَّ الجولاني مقتنعاً بعدم دخول حروب استنزافٍ أو تكليف نفسه بأعمال "الرباط"، أي حراسة جبهات التماسّ الطويلة التي تستلزم عدداً كبيراً من المقاتلين، أو الانتشار على مسافاتٍ واسعةٍ لحفظ حدود السيطرة، ونَدَرَ أن اختارت الجبهة البقاءَ في مناطق محاصَرة. ركّز الجولاني مذ ذاك على بناء قوّات نخبةٍ هجوميةٍ مضمونةِ الولاء والفاعلية قادرةٍ على التدخّل لتغيير واقع السيطرة على الأرض.

في أبريل 2013 دخل الجولاني في صراعه الأكبر حين قرّرت دولة العراق الإسلامية التوسّعَ استغلالاً لانهيار الدولة المركزية في سوريا وتمدّد النقمة الطائفية في العراق. علم البغدادي أن الجولاني أخذ مالَ العراق وبنى تنظيمَه وحدَه في الشام، فأعلن البغدادي دولته في العراق والشام وحَلَّ جبهة النصرة، ولكن الجولاني رفض ذلك وأعلن البيعة لتنظيم القاعدة الذي أقرّ الجولانيَّ أميراً لفرعه في الشام. غادَرَ حينها كثيرٌ من الجهاديين العرب والأجانب جبهةَ النصرة إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام التي عُرفت اختصاراً بِاسم "داعش"، بينما احتمى الجولاني بمظلّة تنظيم القاعدة في مواجهة تنظيم الدولة، وأصبح تابعاً رسمياً للظواهري بعدما كان محسوباً عليه بتأويل خطابه وسلوكه.

استفاد الجولاني من داعش في صورة التمويل والدعم الأوّلي من الزرقاوي، ثمّ انقلب عليها، وخسر مجموعاتٍ جهاديةً كثيرةً انفصلت عنه بعد أن استفاد منها أيضاً. ومن أبريل 2013 حتى يوليو 2014 تقريباً، اختار الجولانيُّ الكُمونَ وتعميقَ صِلاتِه بالفصائل السورية لتدعيم الولاءات محلّياً، مع تأكيد شرعيّته الجهادية المستمَدّة من تنظيم القاعدة والترويجَ لنفسِه بديلاً أكثرَ "اعتدالاً" في نظر الجهاديين الرافضين لداعش، مكثّفاً نشاطَه العسكريَّ ضدّ نظام الأسدِ فقط، دون طرح نفسِه مشروعَ حكمٍ أو منافسةٍ للفصائل الأخرى. أفرزت تحرّكاته حمايةَ تنظيمه في إدلب مستفيداً من تدخّل جبهة أحرار الشام لحمايته من تكرار انقضاض مقاتلي الدولة الإسلامية على مقارّ جبهة النصرة في الرقة وحلب، والتي آلَت إلى القضاء على وجود جبهة النصرة في المنطقتين، كما يرصد حمزة المصطفى في دراسته.

لاحقاً، التزم الجولاني الحيادَ حين قرّر الجيش الحُرُّ شَنَّ حربٍ واسعةٍ على تنظيم داعش في بداية 2014، واختار عدمَ التورّط في الحرب الدموية الطويلة في دير الزور التي خاضها فرع جبهة النصرة هناك بقيادة ميسر الجبوري (أبو مارية القحطاني) مع الفصائل الأخرى، من دون وصول مؤازراتٍ من الجولاني. وعلى عتابِ أتباع جبهته في الشرق لتخلّيه عنهم، كان الجولانيّ يدرك أنه لا يريد أن يستنزف تنظيمه ولو كلّفه ذلك موارد النفط التي كان يجنيها من المنطقة الشرقية.

بعد فترة الكُمون هذه واسترداد عافية الجبهة على مستوى المال والكوادر وإبعاد تهديد داعش، بدأ الجولاني بتقديم نفسه مشروعاً للحكم بثوبٍ جهاديٍّ سلفيٍّ. فانتشرت في 11 يوليو 2014 خطبةٌ نُسِبَت له، حملت تأكيد نيّة الجبهة إقامةَ "إمارة إسلامية" وتطبيقَ الشريعة الإسلامية عبر محاكم شرعية. عقب تسرّب الخطبة صدر بيانٌ عن الجبهة في اليوم التالي نفى إعلانَ إمارةٍ إسلاميةٍ، لكنّه أكّد السعيَ لإقامتها وإقامة محاكم شرعيةٍ. وبدأ الجولاني على الفور سلسلة معارك ضدّ فصائل الجيش الحُرّ وحتى الفصائل الإسلامية الأقرب فكرياً له، ومنها جبهة أحرار الشام التي انقلب عليها بعد أن سبق لها الدفاع عنه ودعمه في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية في إدلب، وذلك في معرض "حملة ردع المفسدين" التي أعلنتها جبهة النصرة في 21 يوليو 2014، وبدأها الجولاني بمعركةٍ ضدّ "جبهة ثوار سوريا" مستهدفاً إنشاء مناطق خاضعةٍ لحكم جبهة النصرة، والخلاص من المنافسين بالتدريج.

بدأ الجولاني تموضعَه المحلّي في جبل الزاوية في ريف إدلب بالقضاء على جبهة ثوّار سوريا التابعة للجيش السوري الحُرّ بقيادة جمال معروف. وخلال عامَيْ 2014 و2016 قضى تباعاً على فصائل أخرى من الجيش الحُرّ في ريف حلب وإدلب وحماة، بينما خاضت فروع الجبهة في درعا والغوطة الشرقية وريف حمص حروباً أمنيّةً حافلةً بالصدامات والاعتقالات والاغتيالات. كثّف التنظيم نشاطه القضائيّ عبر دور القضاء الشرعي، ولكن مركز التنظيم الأهمّ بقي في الشمال السوري، حيث يقيم الجولاني نفسه.

بعد وضع نواة سلطته الأولى في إدلب، أراد الجولاني الانتقال خطوةً أخرى نحو المحلّية ومشروعه الخاصّ غير التابع لتنظيمٍ أكبر، واستغلّ غيابَ الظواهري الطويلَ وعدمَ رَدِّه على الرسائل في سنة 2016، فأعلن فكَّ الارتباط عن تنظيم القاعدة وتأسيسَ "جبهة فتح الشام" في الثامن والعشرين من يوليو 2016، وظهر أوّلَ مرّةٍ بصورته ووجهه في إعلانها بعد تخفّيه الطويل.

بالطبع لم يكن هذا التحوّل مُرضياً للظواهري الذي شعر بالغدر عند عودته للتواصل مع جنوده وأتباعه، كما قال في رسالته "فلنقاتلهم بنياناً مرصوصاً" المنشورة في نوفمبر 2017. أدّى هذا التحوّل إلى انفصال القسم الموالي لتنظيم القاعدة عن الجولاني وتأسيسهم تنظيم حرّاس الدين في الثامن والعشرين من فبراير 2018، والذي ضمّ الشرعيّ العامّ السابق سامي العريدي والقائد العام السابق قسام الأردني وقائد فرع النصرة في الجنوب أبو جليبيب الأردني، وغيرهم.

بعد هذا الإعلان بأشهرٍ وتحت قصف الطيران الروسي خسر الثوّارُ الأحياءَ الشرقيةَ من مدينة حلب في نهاية 2016. لم يلبث الجولاني أن قام بتحوّلٍ آخَر نحو تثبيت المحلّية والاعتدال، فأعلن تأسيس "هيئة تحرير الشام" في الثامن والعشرين من يناير 2017 التي كانت عند تأسيسها اندماجاً بين عدّة فصائل، منها "جبهة فتح الشام"، ولم يكن الجولاني قائدَها الرسميَّ، ولكن بقي تنظيمه الكيان الحقيقي فيها. وأدرك الجولاني أن التنظيم الصلب هو الأهمّ، وهو ما يمكنه الهيمنة على أيّ تحالفٍ أوسع، ولو لم يكن قائدَه الرسميّ.

لم تلبث أن تفكّكت الفصائل التي انضمّت إلى الهيئة تباعاً، وحارَبَها الجولاني حتى قضى على معظمها، بالتزامن مع الحملات الإيرانية الروسية التي تسبّبت حتى نهاية 2018 بخسارة الثوّار كلَّ جيوبِهم خارج الشمال السوري، وهو ما زاد من جاذبية إدلب وريف حلب مركزاً للحكم بالنسبة للجولاني.

خاضت الجبهة صراعاتٍ ضدّ فصائل الثوّار في كلّ هذه الجيوب سابقاً في إطار صراعات السيطرة. تسبّبت هذه الصراعات في زيادة الهشاشة الدفاعية التي عجّلت سقوطَ فصائل الثوّار غير الجهاديين المعارضين للأسد. فقد سبق الاقتتالُ الداخليُّ سقوطَ الحيِّ الشرقيِّ في حلب في ديسمبر 2016 وسقوطَ الغوطة الشرقية في مارس 2018 وسقوطَ ريف إدلب الجنوبي وريفَ حماة الشمالي في الحملة الروسية 2019 - 2020، حيث شاركت الجبهة (ثمّ الهيئة) في الهجوم على تجمّع ألوية "فاستقم كما أُمرْت" – وهو فصيلٌ في الجيش الحُرّ في مدينة حلب – وسهّلت دخولَ داعش إلى مخيّم اليرموك في أبريل 2015 ما قالت ورقةٌ صادرةٌ عن معهد كارنيغي في الشهر نفسه أنه تحرّكٌ أفاد نظامَ الأسد لمَيلِ تنظيم الدولة الإسلامية لتجنّب محاربته. لاحقاً قالت مصادر بالجبهة لصحيفة الشرق الأوسط في تقريرٍ نُشر في أبريل 2016 أن الانسحاب كان تدعيماً لجبهة الشمال، ثمّ سحبت جبهة الجولاني قوّتها الرئيسة من الجنوب في نهاية 2015 عندما رأت أن المعركة ضد "الجبهة الجنوبية" ستكون محسومةً لصالح الأخيرة.

كان الصراع الرئيس للجولاني مع المنافس العسكري والشرعي الأكبر في إدلب، حركة أحرار الشام، التي خاضت تحوّلاتٍ حرجةً وخجولةً ومتردّدةً لحسم تموضعها إما مع قوى الثورة والجيش الحرّ أو مع القوى الجهادية. وحين حسمت الحركة في يوليو 2017 قرارها ورفعت علم الثورة وأعلنت تحالفها مع فصائل الجيش الحرّ في مشروع إدارة المناطق المحرّرة، شعر الجولاني بتهديد مشروعه فهاجم الحركة التي انهارت أمامه، حتى سيطر على معبر باب الهوى في الثالث والعشرين من يوليو 2017، موطّداً بذلك بداية حكمه في إدلب حيث أسّس بعدها حكومة الإنقاذ في الثاني من نوفمبر 2017.

استمرّت الصراعات بين الجولاني والفصائل الأخرى طويلاً خلال الأعوام ما بين 2017 و2019، وأعادت الفصائلُ مرّةً بعد مرّةٍ تشكيلَ نفسها في تحالفاتٍ جديدةٍ وخوض صراعات ضدّ الجولاني الذي عَدَّتْ مشروعَه غيرَ ثوريٍّ، بل معادياً للثورة وعَلَمِها وأهدافها. كما ظهر في بياناتٍ عديدةٍ للمجلس الإسلامي السوري وناشطين ثوريين، وفي هتافات المظاهرات ضدّ هيئة تحرير الشام في ريفي حلب وإدلب منذ عام 2017 حتى ما قبل معركة ردع العدوان في 27 نوفمبر 2024، وبادَرَ هو في أحيانٍ كثيرةٍ لهذه الصدامات لحسم سيطرته واستئصال المنافسين واغتنام أسلحتهم.

سنةَ 2018 خاضت "هيئة تحرير الشام" معاركها الأخيرة مع بقية الفصائل. أوّلاً مع "جبهة تحرير سوريا" التي جمعت حركة أحرار الشام وحركة نور الدين الزنكي، ثمّ معركتها الأخيرة ضد "الجبهة الوطنية للتحرير" التي جمعت الفصائل الثورية في إدلب. ودارت رحى المعارك شهوراً بين الهيئة وحركة الزنكي في ريف حلب الغربي، فكانت أكثرَ المعارك حصداً للأرواح من الجانبين. وتمكّن الجولاني عند حسم هذه المعركة في يناير 2019 من بسط سيطرته على إدلب، وتأكيد مرجعية حكومته "حكومة الإنقاذ" في حكم هذه المناطق.

إلّا أن حكم الجولاني لم يستقرّ طويلاً قبل أن تبدأ الحملة الروسية الإيرانية على إدلب وأرياف حلب وحماة، والتي خسرت فيها الفصائل نحو نصف مساحة سيطرتها، حتى جرى تثبيت خطوط وقف إطلاق النار باتفاق سوتشي بين الرئيسين أردوغان وبوتين في مارس 2020.

عقب اتفاق سوتشي، بدأ وعي أحمد الشرع بفكرة بناء الدولة، متّخذاً من إدلب نموذجاً مصغّراً أو معمل اختبارٍ لتطوير مهارات الحكم لديه. هذا التحوّل الذي يمكن أن نسميه "الطَوْر الحَوْكَمِيّ" تشبه فيه هيئةُ تحرير الشام بقيادة الجولاني منظمةَ التحرير الفلسطينية في سعيها إلى إقامة الدولة الفلسطينية، كما شرحه يزيد صايغ في كتابه "الكفاح المسلّح والبحث عن الدولة" المنشورِ سنة 1997. تصرّفت الهيئة حينها بمنطق بناء دولةٍ مصغّرةٍ في إدلب، ونموذجٍ لحكم الدولة في سوريا. وكما يقول صايغ فإن "السعي إلى الدولة يحدد عملية صوغ الأهداف ووضع الاستراتيجيات واختيار البنى التنظيمية وكيفية إدارة السياسة الداخلية في أثناء القسم الأعظم من النضال الذي يسبق إقامة الدولة. بدأت منظمة التحرير الفلسطينية بتقديم نفسها مؤسسةً 'دولانية' قبل أن تحوز على أرض". لكن كان للهيئة أرضٌ وقوّاتٌ مسلّحةٌ فعلاً، وبدا أن الشرع عَدَّ إدلب مرحلةَ تجريبٍ للانتقال من التنظيم إلى الدولة.

في هذا التحوّل الحَوْكَمِيّ والهدنة النسبية في إدلب، خرج الجولاني بين الناس وأصبح يظهر أكثر في الأسواق والاجتماعات مع الوجهاء المحلّيين والناشطين. كان الغطاء الشرعيّ للحكومة هو اختيارها من "المؤتمر السوري العام لتشكيل إدارة مدنية في المناطق المحررة"، الذي عُقد في سبتمبر 2017 بعد شهرين من هزيمة حركة أحرار الشام، وشارك فيه ناشطون وأكاديميون ووجهاء. اختار المؤتمر لجنة تأسيسية سمّت محمد الشيخ أول رئيس لحكومة الإنقاذ في نوفمبر 2017، مع أن نفوذ الجولاني بَقِيَ المتحكِّم بالحكومة.

كان ثمّة تحوّلٌ اجتماعيٌّ قاده أحمد الشرع لتدعيم صورة الهيئة وصورته. فقد أسّس شبكات علاقاتٍ بين الهيئة والمجتمع المحلّي، وترك الباب مفتوحاً لتأثير المجتمع المحلّي في تعديل سلوك الهيئة وخطابها نحو حالةٍ أكثر اعتدالاً ومحلّية. في هذه المرحلة ظهر طموحه السياسي والسعي إلى الاعتراف والشرعية الخارجية، ومحاولة توحيد الصفّ الداخليّ. فكان إقصاء الأجنحة الأكثر تشدّداً عمليةً مستمرّةً، مع تخفيف مظاهر "الحسبة" والرقابة على المجتمع دون إلغائها. وما عدا قمع مظاهرات حزب التحرير وأنصار تنظيم حرّاس الدين خلال الفترة ما بين 2020 و2024، فإنّ الهيئة تعاملت بنعومةٍ نسبيةٍ مع المظاهرات الشعبية التي سبقت معركةَ "ردع العدوان" التي قضت خلال أيّامٍ على حكم الأسد، وإن تخلّلت الفترةَ نفسَها حالاتُ قمعٍ أيضاً. وبلا شكٍّ فإن إغراء الاعتدال والاعتراف المحلّي والخارجيّ كان أكثر تأثيراً في تحوّل الجولاني إلى القائد أحمد الشرع، وهو ما لم يكن ليتحقق لو ظلّ خاضعاً لإغراء الشرعية السلفية الجهادية.

كثيراً ما واجَهَت تحوّلاتُ الخطاب لدى جبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام ثم هيئة تحرير الشام حالةً من الهجوم السلفيّ الجهاديّ. مع قدرةٍ عاليةٍ على تماسك الصفّ الداخليّ، سَبَقَ الجولانيُّ أيَّ تحوّلٍ في سياسة تنظيمه ببناء التحوّل الخطابيّ لدى القواعد، ثم التحوّل الخطابيّ المعلَن، ثم التحول على مستوى السلوك والممارسة. وقد سمح هذا بإمكانية الضبط العالية للعناصر في كلّ مرحلةٍ، والذي ظهر جليّاً في مرحلة التحوّل نحو الحكم الوطني بعد سقوط النظام والتعامل مع تنوّع المجتمع السوريّ في المناطق الجديدة.

على مستوى إدارة الأزمات والصراعات، يمكن من تتبّع أسلوب الجولاني في قتال الفصائل وتفكيكها، ثمّ التعامل مع المظاهرات الشعبية ضدّه، معرفة الكثير عن استراتيجية إدارة الصراعات التي طوّرها لاحقاً في معركته الأخيرة الكبرى ضدّ النظام.

لم يكن الجولاني دمويّاً ضدّ خصومه عادةً، وكان يفضّل دائماً حسم معاركه بتفاهماتٍ مع أطرافٍ وتحييد أطرافٍ أخرى، واستعمال التهديد بالقوّة أكثر من القوّة نفسها، إلا حين يشعر بتهديد سيطرته. كما فعل مع حركة الزنكي في ريف حلب الغربي، أو صقور الشام في جبل الزاوية، أو ضدّ المتظاهرين في مدينة معرّة النعمان. واستعمل الجولاني أسلوباً مشابهاً في معركة ردع العدوان التي بدأت في 27 نوفمبر 2024 وانتهت بسقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر، باستعمال القوّة المركَّز، وكسر صفوف النظام الأُولى والتسبّب بحالة صدمةٍ وشعورٍ بالعجز، ما أتاح سلسلةً من الصفقات والتحييد والتفاهمات التي أطاحت بالنظام بأقلّ قدرٍ من الدماء.

كذلك تمكّن الجولاني من إجراء تحوّلاتٍ كبيرةٍ، وببراغماتيةٍ عاليةٍ، دون خسارة صفّه الداخلي أو القسم الأكبر منه على الأقلّ. حتّى وإن حصلت انشقاقاتٌ كثيرةٌ إزاءه، كان أبرزها انشقاق النواة الصلبة لمؤيّدي تنظيم القاعدة الأجانب وتشكيلهم تنظيم حرّاس الدين، إلّا أنه تمكّن من حسمها دائماً. ومع ذلك فهذه البراغماتية واعتدال الخطاب السياسيّ الموجّه للآخَر الأبعد، تقابله نزعة الحسم ضدّ الأطراف الأقرب، والتي تُخشى منافستُها على الشرعية والكوادر.

وفي مرحلة التحوّل نحو الخطاب الثوريّ الوطنيّ يواجه الشرع اختبارَ السيطرة على نزوعِه نحو إقصاء الأطراف التي تتبنّى الخطابَ نفسَه الذي يتبنّاه في هذه المرحلة، وهي الآن الفصائل والمجموعات الثورية المدنية أو العسكرية الأُخرى التي تحاول منافستَه على الشرعية الثورية التي تبنّتها قَبْلَه وضِدَّه سابقاً، وإن كان الشرع يمتلك رصيداً لا يمكن إغفاله بقيادته معركة "ردع العدوان" التي قصمت ظهرَ نظام الأسد.


المصدر:  مجلّة الفِراتْس

الكاتب: أحمد أبازيد كاتب سوري
مشاركة: 
الكلمات الدليلية:

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ