أعاد رئيس الحكومة اللبنانية السابق، فؤاد السنيورة، تسليط الأضواء على مسار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، في جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبناني الأسبق، والشخصية الأهم في مرحلة ما بعد الحرب، رفيق الحريري، بتفجيره قنبلة من العيار الثقيل، عندما قال، في شهادته أمام القضاة في لاهاي، إن الحريري أخبره يوماً إن حزب الله حاول اغتياله مرات. وكشف أن الحريري بكى، مرة، على كتفه، في نهاية عام 2003، من شدة الإهانة التي تعرض لها في لقاء مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد.
يشكل كلام السنيورة حدثاً، وله أهمية خاصة، نظراً للصداقة العميقة التي كانت بين الرجلين. فقد ولدا وترعرعا في صيدا، والتقيا على مقاعد الدراسة، وجمعتهما في مرحلة النضال الشبابي خلية في حركة القوميين العرب التي نشأت، بداية الخمسينيات. وانتقلا، في بداية الستينيات، إلى الدراسة الجامعية في بيروت، ثم افترقا سنوات إثر سفر الحريري للعمل في السعودية. وفي بداية الثمانينيات، عاد الحريري رجل أعمال ناجحاً وطموحاً حالفه الحظ، ودفعه حبه لبنان إلى العودة، وركوب مغامرة إعادة إعمار ما دمرته الحرب التي اندلعت عام 1975، وما خلّفه الاحتلال الإسرائيلي عام 1982 أول عاصمة عربية في التاريخ الحديث.
وفي 1992 حمل اتفاق الطائف رفيق الحريري، من خارج الطبقة السياسية، إلى الحكم، في تكليفه تشكيل حكومة مواجهة تحديات مرحلة ما بعد الحرب. وكانت الأطراف المتحاربة قد وقعت، في خريف 1989، على الاتفاق، وكان للحريري دور فيه إلى جانب المملكة العربية السعودية. وطلب من صديقه، السنيورة، الذي كان يومها محاضراً في الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيساً للجنة الرقابة على المصارف، أن يشارك في الحكومة وزيراً للمالية. ليعود هكذا السنيورة إلى جانبه، طوال فترة حياته السياسية، رقما ثابتاً في الحكومات التي رأسها الحريري منذ 1992 إلى خريف 2004، قبل أن يتم اغتياله في 14 فبراير/شباط 2005.
وتشاء الظروف أن يخلف السنيورة في رئاسة الحكومة رفيق عمره، ليتصدر مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات والمخاطر، وليثبت أيضا جدارته، ويفاجئ الوسط السياسي واللبنانيين بقدراته رجل دولة بامتياز. فواجه بصموده الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو/تموز 2006، ولم يتوان، في الوقت نفسه، عن تحميل حزب الله مسؤولية "استجلاب" الحرب، بخطفه، من دون علم الحكومة، جنديين إسرائيليين خارج الخط الأزرق الحدودي، واللذان تبين لاحقاً أنهما خطفا ميتين.
وتابع السنيورة معركة إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والتي تم تبني المطالبة بها بعد ساعات من اغتيال الحريري، فيما رفض تشكيلها حزب الله والقوى التي تدين بالولاء للنظام السوري، وانسحب هؤلاء من الحكومة بهدف تعطيلها، وقطع الطريق على إمكانية اتخاذ قرار في هذا الخصوص. ولكن، استمر السنيورة رئيساً للحكومة، على الرغم من احتلال حزب الله وسط بيروت، ومحاولته تطويق القصر الحكومي ومحاصرته سنة ونصف السنة. وفي بداية عام 2007، أثمرت جهود رئيس الحكومة، آنذاك، صدور قرار الأمم المتحدة 1757 القاضي بإنشاء المحكمة، وتم تشكيلها وانطلاقها في مايو/أيار 2009 في لاهاي.
وواجهت حكومة السنيورة، أيضاً، أول ظاهرة إرهابية هي "فتح الإسلام" التي صدّرها النظام السوري إلى لبنان في مايو/أيار2007، أي بعد أشهر من تشكيل المحكمة. وخاض الجيش اللبناني مواجهة قاسية مع هذه المجموعة التي تحصنت في مخيم نهر البارد الفلسطيني، في شمال لبنان. واضطر حزب الله إلى التعايش مجددا مع السنيورة الذي عاد وشكل الحكومة مرة ثانية، إثر توقيع طرفي قوى 14 و8 آذار "اتفاق الدوحة" في مايو/أيار 2008 الذي يسّر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وانسحاب حزب الله من الوسط التجاري لبيروت. ولم يغفر حزب الله للسنيورة مواقفه وثباته في كل هذه المحطات المفصلية، وذهب إلى حد اتهامه في حرب تموز بالتواطؤ مع إسرائيل، ووصفه بشتى النعوت.
من هنا، إن ما كشفه أمام المحكمة الدولية يفسّر، على الأرجح، الحملة التي شنها عليه حزب الله، قبل أسبوع من سفره إلى لاهاي، للإدلاء بشهادته، لأنه تجرأ وحذر من "مشروع الإمبراطورية الفارسية" في اجتماع لقوى 14 آذار. وربما كان القصد من الحملة تحذيره وإرهابه، فلا يتجرأ على كشف ما لديه من معلومات ووقائع، بحكم أنه "كاتم أسرار" الحريري. وقد ذهب أحد الأبواق "الممانعة" في "8 آذار" إلى حد إلصاق تهمة به، هي الجاهزة التي يتم، عادة، قذف الخصوم بها، قائلا: "إنه جزء من المشروع الإسرائيلي". فيما يفاخر نائب أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، بأنهم بأمرة "ولاية الفقيه". وللمفارقة، هناك حوار يدور، منذ نحو ثلاثة أشهر، بين حزب الله وتيار المستقبل الذي يرأس السنيورة كتلته البرلمانية، بهدف تخفيف الاحتقان السني-الشيعي وبين الشارعين.
"في كل مرة، كان يقوم بزيارة عمل إلى الخارج، كان الحريري يقول للسنيورة في طريق العودة "الله يسترنا عندما نرجع إلى بيروت""
أسهب السنيورة، كعادته، في شرح مراحل العلاقة المريرة والضغوط التي تعرض لها الحريري من النظام السوري. فالمصاعب بدأت مع حافظ الأسد، منذ 1996، عندما فُرضت عليه ثاني حكومة شكلها من ثلاثين وزيراً، لم يكن محسوباً عليه منهم سوى أربعة. ثم اشتدت الضغوط وتدهورت العلاقة مع مجيء بشار إلى الحكم في دمشق عام 2000. فكان الحريري موضوعاً تحت المجهر من النظام الأمني السوري-اللبناني المشترك، وكان رئيس الجمهورية، آنذاك، إميل لحود، في المرصاد لمنع إقرار أي مشروع إصلاحي، أو تنموي، داخل مجلس الوزراء، "خوفاً من اتساع شعبيته". وفي كل مرة، كان يقوم بزيارة عمل إلى الخارج، كان الحريري يقول للسنيورة في طريق العودة "الله يسترنا عندما نرجع إلى بيروت".
ثم كان تهديد بشار الأسد الشهير له في صيف 2004 بأنه "سيكسر لبنان على رأسك إذا رفض التمديد للحود". وعلى الرغم من إصرار هيئة الادعاء والقضاة وإلحاحهم، إلا أن السنيورة رفض تسمية أركان النظام الأمني السوري واللبناني بالاسم (الجميع يعرفونهم)، ولا حتى أسماء الضباط الكبار الذين كانوا ممسكين تباعاً بالوضع في لبنان.
يسود اعتقاد بين المراقبين أن تعويم الليرة السورية لأسبوع واحد فقط سيدفع سعر الدولار إلى الارتفاع ليتجاوز ألف ليرة. وهنالك من يعتقد أن السعر الحقيقي يتجاوز ألفي ليرة للدولار. ويرى هؤلاء أن ذلك سيظهر خلال أيام فقط إذا ما سقط نظام بشار الأسد.
وتتفق تقديرات كثيرة على أن خسائر الاقتصاد السوري زادت على 300 مليار دولار، عدا تبديد احتياطي نقدي كان يفوق 18 مليار دولار، في بداية عام 2011، بالإضافة إلى 11 مليار دولار كمديونيات مركبة لكل من إيران والصين وروسيا، منها ما لا يقل عن 5 مليارات دولار بضمانات سيادية، ما يعني تقييد الاقتصاد السوري بشروط تفوق في شدتها شروط صندوق النقد والبنك الدولي.
ولابد من التطرق إلى الفرص الضائعة خلال 4 سنوات، بعد أن كان الاقتصاد السوري ينمو بمعدل 4 بالمئة سنويا خلال 10 سنوات سبقت الثورة.
وتشير التقارير إلى انهيار البنية التحتية، مثل انخفاض حجم الإضاءة، حسب صور الأقمار الصناعية بنسبة 83 بالمئة في عموم البلاد خلال 4 سنوات، ليصل الانخفاض في حلب إلى 98 بالمئة وفي دمشق إلى 35 بالمئة.
يقال الشيء ذاته بشأن المياه والطرق والاتصالات والإنترنت، رغم عدم دقة الإحصاءات، رغم أن خروج أكثر من 4 ملايين سوري من البلاد لجعل نقص الخدمات أقل وطأة على من تبقى في البلاد.
ورغم أن سوريا لم تكن منتجة كبيرة للنفط، فإن خروج الأراضي التي تضم الآبار المنتجة عن سيطرة النظام، اضطرته إلى الاتفاق مع داعش لتزويده بالنفط مقابل أتاوات، ما جعل النظام في ورطة، كون إنتاج الكهرباء في المناطق الخاضعة له يعتمد على النفط، وهذا ما جعله يعتمد على إيران لتزويده بالمشتقات النفطية مقابل تكبيل البلاد بقيود المديونية.
كما انحدرت الزراعة إلى أسوأ أوضاعها، وبما لا يقارن مع أشد السنين قحطاً. ففي دير الزور والرقة وحلب وإدلب وحماة وحمص لم تعد الزراعات الاستراتيجية ومنها الحبوب، تشكل ربع الناتج القومي للبلاد. فإنتاج القمح تراجع إلى حوالي 1.7 مليون طن في عام 2014، أي أقل بمليون طن من الاستهلاك السنوي، حسب منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو). ووفق مصادر رسمية في أكتوبر الماضي، فإن سوريا تخطط لاستيراد مليون طن من القمح، كون الكميات المخزنة من واردات سابقة، ومن المحصول المحلي، تكفي فقط لسد احتياجات الاستهلاك حتى منتصف العام الحالي.
وكانت سوريا تحتفظ قبل الحرب بمخزون استراتيجي سنوي يبلغ نحو 3 ملايين طن، حين كان معدل الإنتاج يبلغ 3.5 مليون طن سنويا على مدى أكثر من عقد. وكانت الحكومة تشتري من المزارعين حوالي 2.5 مليون طن، ويحتفظ المزارعون بالباقي للاستهلاك الخاص، وكبذار للموسم التالي.
وللمقارنة، مرت الليرة السورية بأزمات سياسة سابقة، منها ما جرى في النصف الثاني من الثمانينات ومنها ما حدث بعد اغتيال نظام بشار الأسد رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري عام 2005.
في الحالة الأولى، ارتفع الدولار في عام 1985 من 3.95 ليرة إلى حدود 18 ليرة للدولار، ثم جرى خفض سعر صرف الليرة مرات عدة من قبل الحكومة ليستقر في حدود 46 ليرة لكل دولار. وفي الحالة الثانية انحدرت إلى حوالي 75 ليرة.
بالمقارنة، نجد أن الليرة تتعرض لأكبر انخفاض منذ الاستقلال عن فرنسا عام 1946، ففي السنوات الأربع للثورة فقدت الليرة 80 بالمئة من قيمتها ليصل سعر الدولار حاليا إلى نحو 240 ليرة.
ويبدو السيناريو القادم هو الأسوأ، ولا يستبعد أن يصل السعر إلى ألف ليرة، أو ألفين، حين يهجم تجار الحروب للاستفادة من الفرصة، وليعمقوا جراح السوريين، ممن ثاروا على النظام وممن وقفوا معه، ليجد السوريون أنفسهم يواجهون شبح الجوع، بل الجوع نفسه
ليست جبهة النصرة من حرر إدلب ... و ليست حركة أحرار الشام من حررها ... ولا حتى جند الأقصى، و لا أي فصيل له الحق بالقول أو الحسم أنه من حرر أو طرد المحتل عن الأرض.. إنما من حرر هو " جيش الفتح".
و التسمية التي يجب أن تطلق، التي يجب ان يتم تردديها، التي يجب الإصغاء لها هي "جيش الفتح" .. فلا النصرة ولا الأحرار ولا بقية الفصائل قادرة على التحرك أو حسم الأمر وحدها، والنجاح جاء بفضل التوحد فقط ، والتوحد وحده من أفضى لهذه النتيجة.
فلا راية هذا أو ذلك ، ولا قوة سين او عين، وإنما القوة المشتركة، وهذا ما يجب أن نكون عليه لنقطع الطريق أمام الجميع، ونقصد الجميع بكل ما تحوي الكلمة من معنى وتوجهات واتجاهات، فلا تهليل لهذا الطرف أو لتلك الراية، بل التهليل بالاتحاد والتوحد والتنظيم والعمل المشترك، وكل من يركز على طرف بعيد عن الجسم الموحد ما هو إلا عابث أو باحث عن إعادة الفرقة وتعزيز التشتت.
ولا شك أن الرؤية الموحدة نحو هذا الأمر ستكون سداً منيعاً أما المحاولات التي تهدف إلى اصباغ العمل الثوري السوري بلون واحد، رؤية تدفع العالم للامتعاض من أي تقدم للثوار على الأرض أو أي نجاح لهم على المستوى السياسي أو أي مستوى آخر.
فالعيون فاحصة والأيادي تحاول العبث والتخريب بشكل حثيث وخبيث، ودنيء.
ولابد من الإشارة إلى أن من حق الجميع أن يطلقوا التسميات التي يشاؤون حول ما يجري الأرض، والتسميات لن تكون مثار خلاف حتماً، فالأسماء والتسميات في الإعلام تعكس رؤية هذه المؤسسة والرسالة التي تريد ايصالها لجمهورها.
ولكن نقع بالفخ أو تنكشف الحقيقة عندما نغيّب الأسماء جميعها ونقول إن سين من الناس فعل، فأكون هنا مشترك بشكل فاجر في الاساءة وإضاعة الجهود وافراغ الفرحة والإنجاز من مضمونه.
لا أقصد إنقاص الفرحة بعودة إدلب إلى حضن الأحرار، ولكن يجب أن نتوجس أمام من يسعى لدس السم في اللبن، وسعي بعض الجهات، التي تتبجح بالمعارضة، للقضاء على بقايا التأييد الشعبي العالمي للثورة، بنشرها خبر مفاده " جبهة النصرة فرع القاعدة في سوريا تسيطر على إدلب"، في حين أن النصرة ليست وحدها ولم تسيطر وحدها ولم تعمل لوحدها، وإنما كانت جزء داخل جيش الفتح الذي أعلن الفتح اليوم.
بينما استخدم السوفييت أسطورة الشيوعية لخلق قوة عالمية، ها هي إيران تستغل الأيديولوجية الدينية المذهبية للتمدد في أكثر من مكان في هذا العالم، فهي لا تكتفي بتطبيق نظرية ولاية الفقيه داخل البلاد والحكم بموجبها، بل تحاول تصدير ثورتها التي لطالما هددت الجيران بها، لكن هذه المرة بطرق جديدة تقوم على دعم المذهب الشيعي هنا وهناك واستخدام الشيعة خارج حدودها في معاركها وحروبها التوسعية، وإذا لزم الأمر لا بأس في تشييع الآخرين، تماماً كما كان يفعل السوفييت الذين جندوا ملايين الأشخاص في العالم تحت راية المطرقة والمنجل.
لو نظرنا إلى الاستراتيجية الإيرانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثلاً لوجدناها تقوم بشكل مفضوح، إما على دعم الشيعة في هذا البلد أو ذاك بهدف إيصالهم إلى سدة الحكم، حتى لو تطلب ذلك الانقلاب على الأنظمة الحاكمة، كما في العراق والبحرين ولبنان واليمن، أو العمل على نشر التشييع حتى لو كان في شمال إفريقيا كالمغرب وتونس ومصر والسودان والجزائر وبلدان أخرى.
لقد شكّل العراق على مدى فترة حكم الرئيس الراحل صدام حسين عقبة كأداء في وجه التمدد الإيراني وتصدير الثورة خارج الحدود، لكن المؤسسة الحاكمة في طهران لم تيأس من الاستيلاء على العراق، فقد تحالفت مع الأمريكيين عندما غزوا العراق بشهادة نائب الرئيس الإيراني علي أبطحي الذي قال حرفياً: «لولا إيران لما استطاعت أمريكا غزو العراق وأفغانستان». وبعد خروج الأمريكيين من العراق وقعت بلاد الرافدين كالثمرة الناضجة في الحضن الإيراني، كما كان يطمح ويخطط الإيرانيون منذ عقود. وبذلك أزاحوا كل ما يمت بصلة للنظام السابق، وعينوا مكانه أزلامهم. وقبل استيلاء الإيرانيين على العراق طبعاً، كانوا قد استولوا على سوريا خلسة من خلال معاهدات استراتيجية، ثم كشّروا عن أنيابهم بشكل صارخ في الآونة الأخيرة بعد أن راحت الميليشيات الإيرانية تقاتل إلى جانب النظام السوري علناً بقيادة قاسم سليماني، ناهيك عن أنهم ثبتوا أقدامهم في لبنان منذ السبعينيات. وقد ظهر نفوذهم في بلاد الأرز بشكل صارخ بعد أن أصبح حزب الله الحاكم الحقيقي للبنان بقوة السلاح.
وبعد أن استحوذوا على العراق وسوريا ولبنان، راح الإيرانيون يعزفون على الوتر القديم في البحرين من خلال مظلومية الشيعة وأحقيتهم في حكم البلاد، وذلك من خلال إثارة القلاقل ودفع أتباعهم للثورة على نظام الحكم. ففي الوقت الذي كانوا يعاونون النظام السوري لإخماد ثورة شعبية حقيقية، راحوا يساعدون شيعة البحرين للانقلاب على الدولة. ولولا الجهود الغربية والعربية لتمكن أتباعهم من الوضع في البحرين، كما تمكنوا في العراق ولبنان.
وكما فعلت في لبنان، ها هي إيران تقتحم اليمن بعد أن وفرت لأزلامها الحوثيين كل وسائل السيطرة على البلاد. وها هم الحوثيون وقد سيطروا مؤقتاً ليكتمل الهلال الشيعي الذي تحدث عنه العاهل الأردني عام 2004.
لكن رغم تشابه التجربتين السوفييتية والإيرانية في التمدد خارج البلاد عبر الأساطير الأيديولوجية والروحية، إلا أن التجربة الإيرانية تعتبر أكثر خطورة، فالانتماء العقائدي السياسي السوفييتي انتهى في كل أنحاء العالم تقريباً بسقوط الاتحاد السوفييتي، بينما الانتماء المذهبي والتشييع الذي تعتمد عليه إيران في المنطقة لتوطيد نفوذها سيكون شرارة قد تشعل حروباً مذهبية لا تبقي ولا تذر. وتتجلى ملامح هذه الحروب في رد الفعل العربي والإسلامي على التورط الإيراني الفاضح في سوريا والعراق ولبنان واليمن. ومن الواضح تماماً أن إيران تلعب لعبة خطيرة للغاية سيذهب جراءها ضحايا كثيرون من السنة والشيعة على حد سواء. فاليمن يشتعل على أساس مذهبي، وكذلك العراق وسوريا ولبنان. وإيران نفسها بدأت تدفع أثماناُ باهظة جداً لحروبها التوسعية، ليس فقط من ثرواتها، بل أيضاً من أشلاء أبنائها، خاصة بعد أن بدأت مئات الجثامين تصل طهران من ساحة الحرب السورية والعراقية واليمنية.
مع ذلك، شاهدنا في الآونة الأخيرة بعض الساسة الإيرانيين يتفاخرون بهيمنة إيران على أربع عواصم عربية، وبأن بغداد أصبحت عاصمة الامبراطورية الفارسية الجديدة. وهذا صحيح من حيث الشكل، لكن العنتريات الإيرانية حول انتصاراتها الخارجية تخفي وراءها خوفاً رهيباً من كوارث الداخل الإيراني. فمن عادة إيران تاريخياً أن تستعين على قضاء حاجاتها بالسر والكتمان والتقية، لكنها هذه المرة تبالغ في تبجحها بانتصاراتها وفتوحاتها الخارجية. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على خوفها من الداخل المتداعي. فهي تحاول أن تزيّن وضعها البائس داخلياً بنشوة النصر خارجياً. لكن الفتوحات الخارجية يقابلها داخل مترد واقتصاد منهار وشعب يتململ ضد السياسات الخارجية التي أفرغت الخزينة الإيرانية على مشاريع عسكرية وتوسع خارجي لم يجلب للإيرانيين سوى المصائب والفقر والجثامين المقتولة في سوريا والعراق واليمن ولبنان.
لقد كان الاتحاد السوفييتي قبل انهياره يمتلك ترسانة نووية قادرة على تدمير العالم ثلاثين مرة، لكنه انهار كبيت العنكبوت، لأنه كان خرباً من الداخل، فلا قيمة للفتوحات الخارجية إذا كان الشعب في الداخل يعاني الأمرّين اقتصادياً واجتماعياً. وهو حال إيران الآن، حيث يعيش أكثر من ستين بالمائة من الإيرانيين تحت خط الفقر، بينما تبذر القيادة أموال الشعب على تدعيم بشار الأسد في سوريا وشراذم الحوثيين في اليمن والميليشيات اللبنانية. ولولا أموال العراق لكن وضع إيران الداخلي أسوأ بكثير.
هل تعلم إيران أن القوى الكبرى سمحت لها أن تتمدد كي تتبدد؟
لماذا لا تتعلم إيران من الاتحاد السوفييتي الذي كان من الخارج رُخاماً، ومن الداخل سُخاماً؟
بعد أربعة أعوام من الثورة السورية، ينبغي استحضار حقائقها الكبرى، لفهمها وتفسير ملامحها.
مثل كل لحظات الانفجار الاجتماعي، مثلت الثورات العربية، في 2011، تكثيفاً لكوارث النظام السياسي، مشكلات الهوية الوطنية، أزمة النخبة العربية، والفشل التاريخي لدولة الاستقلال، وقد تمظهر هذا التكثيف في مفردات مختلفة، اجتمعت كلها، وتفجرت في سياق الثورة السورية، وبالتوازي مع هذا، توقد التضحيات الملحمية للسوريين قرائح المفكرين لمقاربات أكثر عمقاً لتفسيرها.
هناك نقاش مهم دار بين الأستاذين، سلامة كيلة وحسين عبدالعزيز، على صفحات "العربي الجديد" عن دور عوامل الاقتصاد والسياسة في تفجير الغضب الاجتماعي، متجليّاً في ثورة شعبية، والظواهر الاجتماعية عادة أكثر تعقيداً من إمكان تقرير العامل الأساسي لحدوثها، بله المسبب الحصري لها. ولكن، الممكن هو تبيين الناظم للعوامل المختلفة، وبالنسبة للثورة السورية، فإن ناظم عاملي الاقتصاد والسياسة، في رأينا، هو الوعي بالقيمة الأخلاقية.
سياسات التكديح والإفقار والفساد الممأسس، تسبب الجوع، لكن الجوع، بحد ذاته، ليس هو مفجر الغضب الاجتماعي، بل ربط الفرد بين الجوع وإهدار الآدمية. وحين يغيب هذا الربط، هناك أولويات أخرى في التسلسل القيمي عند الفرد، تمنعه من مجابهة الموت المرجح، فسياسات نظام بشار الأسد القمعية، وسياساته الاقتصادية في السنوات الخمس الأخيرة قبل اندلاع الثورة، بالتوازي مع سنوات الجفاف العجاف، كانت عابرة للمجتمع بأكمله، لكن النظام مؤيد بقواعد اجتماعية على الرغم من ذلك، لأن درجة الوعي بقيمة الكرامة الإنسانية لا تصل بها إلى التضحية، والتعرض لخطر الموت، فهناك عوامل عدة تشكل التسلسل القيمي للمواطن، مثل الوعي الطائفي، الخوف من القمع، أو غياب القيمة نفسها، بسبب سياسات القمع المشوهة للسايكولوجيا الجمعية، والتي رسخها نظام البعث طوال نصف قرن.
"غيرت ثورة السوريين تصوراتنا عن حدود الصمود الإنساني، وعلى الرغم من الآلام، وتحول الثورة إلى اقتتال أهلي طاحن، فإننا ندرك عظمة الشعب السوري وثورته ودورها في فكرنا المعاصر"
بدون تمثل هذه الفكرة، تصبح ثورة الشعب السوري، والشعوب العربية، غير مفهومة، فالمجتمع لا يضحي بالأرواح، ليتخلص من الفقر إلا إذا كان مجتمعاً عدميّاً!، والعدمية نزعة فردية، فلا يوجد مجتمع ذو وعي عدمي، ولكن، باستحضار فكرة التسلسل القيمي والربط بين آثار السياسات وجرح القيمة، تصبح التضحيات الأسطورية للشعب السوري قابلة للتفسير. وفي دولة مثل ألمانيا الشرقية، لعب الاقتصاد دوراً مهماً من زاويتنا المشروحة آنفا في تفجير الاحتجاجات في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، فرأسمالية الدولة كانت توفر له، إلى حد معقول، شروط الحياة من صحة وتغذية وتعليم وعمل، لكن شعور المواطن بـ"الإهانة" لغياب الفواكه والكماليات، أو عند الوقوف في طوابير لدخول مطعم، مع عقده المقارنات بين وضعه ووضع المجتمعات الغربية، لعب دوراً مهماً في تفجير الغضب الاجتماعي، بالتوازي مع عامل السياسات القمعية الشمولية للدولة.
تصبح الفكرة على صعيد السياسات الأمنية والقمع والتنكيل أكثر وضوحاً، ولا تحتاج لنقاش كثير، فتعمد إهدار آدمية المواطن، وتحويل الإهانة إلى أسلوب مكرس للضبط الاجتماعي، قد تخلق الوعي بالقيمة، حتى وإن لم تكن ظاهرة من قبل، بل وقد تقود، بعد ذلك، إلى انحرافات غير محمودة، رأيناها في الانتهاكات التي ارتكبتها مجاميع مسلحة مؤيدة للثورة، في بداية الكفاح المسلح.
من جانب آخر، بإمكاننا تقديم طرح نظري يحتاج إلى بحث وتأكيد، هو أن المسألة الطبقية تلعب دوراً في تمظهر الوعي بالقيمة الأخلاقية: فالطبقة الوسطى المتمركزة في المدينة تعبر عن وعيها بالمطلب السياسي، أي بالديمقراطية (الحرية)، والمواطنة والمؤسسات القانونية (العدالة)، خصوصاً في بلد مثل سورية، حيث الحواضر ذات تراكم تاريخي مهم، بالإضافة إلى وضعها الاقتصادي المعقول، على الرغم من إرهاقه المتواصل، في حين أن الوعي الريفي والفلاحين والطبقة الفقيرة يتمظهر فهمها القيمي بالمطلب الاقتصادي (خبز)، ومع عوامل التداخل الاجتماعي والهجرات الداخلية والتعليم، بالإمكان أن يستوعب الوعي الاجتماعي التمظهرات جميعها، وعابراً، إلى حد ما، لضغط الفهم الطبقي، وإحدى أشد نكبات الشعب السوري كانت في غياب النخبة السياسية القادرة على تحويل الوعي بالقيمة إلى مشروع وطني، ناظم للجهود في الميدان.
ومهما اختلفت التمظهرات، يبقى الوعي الأخلاقي مكوناً لبنيتها، وإلا فالسوريون كلهم، باستثناء الطبقات الطفيلية الفاسدة وأصحاب الرتب في مؤسسات العنف والقمع الدولوي، يعانون من سياسات الإفقار والقمع.
غيرت ثورة السوريين تصوراتنا عن حدود الصمود الإنساني، وعلى الرغم من الآلام، وتحول الثورة إلى اقتتال أهلي طاحن، فإننا ندرك عظمة الشعب السوري وثورته ودورها في فكرنا المعاصر. ومن بين مساهماتها الكثيرة مساهمتها في ميدان الأخلاق، فالأخلاق النظرية المعاصرة تعيش أزمة مستحكمة، ونحن ندعي أن الثورات العربية، وفي مقدمتها الثورة السورية، ستعين جزئياً على تقديم مساهمة كبرى، لحل هذه الأزمة، بالتأكيد على القيمة المرجعية للأخلاق، كما كرستها هذه الثورة بالدماء والتضحيات، وهي الكرامة الإنسانية.
الثورة لحظة احتجاج شامل استثنائية في تاريخ الشعوب والمجتمعات، لا تحصل إلا باجتماع انقلابين كبيرين وتضافرهما: انقلاب داخل المجتمع وبين قواه على نظام السيطرة وما تشمله من منظومات قيادة وتوجيه وتحكم وقمع، وانقلاب آخر أهم على الذات، من داخل ضمير الأفراد أنفسهم، يحرر المجتمعات الخانعة والمستسلمة من روح الشك وانعدام الثقة والانقسام التي لا يقوم استبداد، ولا يستقر ظلم على شعب، من دونها. يحصل الأول بسبب تبدلات مادية، تمس توازنات القوى وتحولات البيئة الاستراتيجية، وظروف معيشة الناس وحياتهم. ويحصل الثاني بسبب انكسار جدار الخوف، وانبعاث الأمل، وبزوغ طفرة أخلاقية، تنتج عن صحوة الإنسان في الإنسان، وارتفاعه على شرطه المادي المشتت، والارتقاء إلى مستوى حياة المبادئ والقيم المعنوية، وكل هذا مما يفجر طاقات العطاء والكرم الروحي عند الأفراد، وينذرهم لعظيم المآثر والمهام التاريخية.
فالحال أن مقاومة الشعوب واحتجاجاتها ضد الظلم والغبن والاحتقار لا تتوقف، وتتجسد في مظاهر مختلفة، وغالباً خفية والتفافية ومشتتة. ما ينتج الثورة صحوة الروح الأخلاقية التي تدفع إلى تجاوز التشتت إلى الوحدة، والاحتجاجات الخاصة إلى تطلعات مبدئية، من كرامة وحرية، تعني الجميع، وتذيب مطالب الفرد في مطلب واحد للتحرر السياسي والإنساني. في اللحظة الثورية هذه، تنتقل الشعوب فجأة إلى حياة أخرى، من نوع آخر، تزول فيها الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الأفراد، ويستوي فيها الموت والحياة من أجل المبادئ، وتحل الوحدة
"ما يطرحه نظام الاحتلال على السوريين ليس حتى العودة إلى شروط حياة ما قبل الثورة، وإنما تكريس نظام الاستعمار للدولة، والآن للبلاد، بمشاركة أجنبية، وتوسيع دائرة التمييز الطائفي والتغيير الديموغرافي والمذهبي"
والانسجام محل الانقسام والخلافات، ويتغلب الشعور بالأمان على الخوف من الآخر. وهذا هو النبع الذي لا ينضب للشعور بالقوة التي لا تقهر الذي يتملك جماعة الثائرين، ويجعلهم على قلب رجل واحد، يضحون بأنفسهم من دون سؤال ولا انتظار أي جزاء، وهو ما يجعلهم يوحدون مصائرهم، خارج الحسابات الجارية الأنانية التي تجعل الإنسان غريباً عن الإنسان. وهو الذي يزجهم في معركة التحرر الجماعي من قيود العبودية، من دون شبكة حماية ولا أمان.
في هذه اللحظة الاستثنائية من حياة الشعوب والمجتمعات، يتعلم الفرد التلاحم مع الآخر، والعيش على مستوى الحياة الأخلاقية، وانتزاع المبادرة التاريخية والحلم بالمشاركة في صنع التاريخ، وفي تغيير المصائر العالمية. وهذا ما يجعلها لحظة تأسيسية، أيضاً، ونبعاً لخبرة تاريخية لا تنسى، يستمد منها المجتمع القوة والمبادئ الضرورية لإعادة بناء نفسه، وتغيير النظم والمؤسسات والقوانين، وفي ما وراءها تجديد قيمه واكتشاف معنى انتمائه للإنسانية من جديد.
فالثورة تجربة فريدة وحاسمة في تاريخ الشعوب، والخبرة التي ترتبط بها تشكل لزمن طويل خزان الأفكار والقيم المحركة للمجتمعات، والموجه لسياسات ومشاريع التغيير التي تنبع منها نظم وحقوق وواجبات ومعاني جديدة لم تكن من قبل، وهي التي تطلق تيارات تبادل بين الأفراد والجماعات، مادية ومعنوية، لم تكن ممكنة في أي وقت، وتنتج تفاعلات كانت مستحيلة، في شروط التوازنات الاجتماعية السابقة، تقرب بين أفكار ومشاريع ورهانات وتطلعات جماعات بقيت طويلاً تنكر بعضها، أو تتجاهل وجود بعضها بعضاً، ومنها جميعاً تولد أشكال من التواصل والتثاقف والتعامل يطبع سلوك الأفراد، ويفتح آفاقاً جديدة للتجديد والإبداع الاجتماعيين.
مصير الثورات
بيد أن مصير الثورات ليس واحداً ولا مساراتها متماثلة، فقد حقق بعضها غاياتها، منذ المرحلة الأولى مع إسقاط النظام القائم. لكن ثورات كثيرة تواجه مصاعب كبيرة، قبل أن تحقق غاياتها، خصوصاً عندما تتعرض لتحالفات عدائية قوية، تزج في الصراع قوى تدخل خارجية، تفوق قدراتها على المواجهة. وقد تخسر بعضها جولتها الأولى لصالح عودة النظام القديم، لكن ثورات التحرر العظيمة لا تهزم أبداً. وقد يضطر بعضها إلى المساومة، وقبول الحلول الوسط، والمشاركة مع قوى النظام القديم في حكومة هجينة واحدة، لا تلبث حتى تفتح مجال الصراع مجدداً. وقد يعقبها انتصار لثورة مضادة، تستعيد آليات عمل النظام القديم، في صيغة أكثر عنفاً وتطرفاً. وقد تتحول هذه الثورات إلى حركات مقاومة منظمة، تحمل شعارات الثورة وأهدافها، وتتابع مسيرتها، لكن، بأشكال وصيغ مختلفة، من حرب المغاوير إلى حروب التحرير الطويلة التي عرفناها في القرنين الماضيين في الصين وبلدان عديدة في أفريقيا وآسيا.
ومهما كان الحال، سواء تحققت الأهداف من الجولة الأولى، وهو الأمر الأندر في التاريخ، أو سارت الأمور في الاتجاه المقابل، لن تتوقف روح الثورة التي انبثقت لدى الشعب عن العمل والدفع في اتجاه التغيير. فمنذ ولادتها في حضن الشعوب، تصبح روحاً فاعلة قوية، ووعياً قاهراً يقوض ما كان قبله من فكر ونظم، ويحرمها من أي أمل في البقاء، ويحول الخبرة التاريخية المستمدة من الانتفاضة الجماعية، والمرتبطة بتضحيات واستثماراتٍ، لا سابق ولا مثيل لها، إلى نار مشتعلة تحت الرماد، لا يمكن لنظام بعدها أن يحظى بالشرعية والاستقرار، ولا لسلطة أن تقوم قبل أن يصبح ممكناً تحقيق الأهداف التي دفع الشعب مسبقاً وغالياً ثمنها، وغالباً ما يكون من أغلى الأثمان.
ليس هناك شك في أن الثورة بالمعنى الأول، أي اللحظة الملحمية لاتحاد الجميع في شخص واحد، والانفصال عن عالم المصالح الخاصة، والارتقاء إلى مستوى الفعل الأخلاقي المؤسس لمفهوم جديد للحق والعدل والمواطنة والاجتماع البشري والإنسان، هذه اللحظة العظيمة التي وحدت الشعب وقوت عزيمته وتصميمه، ولا تزال تغذي بركان كفاحه الأسطوري حتى اليوم، على الرغم من كل العقبات والانزلاقات والاستخدامات، قد انتهت في بلدان الربيع العربي. وعاد قسم كبير من الأفراد الذين فجروها، أو شاركوا فيها، إلى واقعهم البسيط، واقع الصراع من أجل البقاء والحفاظ على الذات بانتظار فرصة قريبة.
من الانتفاضة العفوية إلى المقاومة المنظمة
لكن، في معظم بلاد الربيع العربي، وفي سورية خصوصاً، لا يترك النظام المهزوم الذي قام، منذ البداية، على مبدأ القوة والاحتلال، ولم يكن في أي يوم مستعداً لمناقشة إصلاح أو تسوية مع الشعب، وعاش نصف قرن بمبدأ القاتل أو المقتول، خوفاً من تقويض شرعيته كنظام احتلال، أي خيار آخر للشعب سوى الاستمرار في الثورة والمقاومة، والعمل من أجل الانتصار، مهما طال أمد الصراع.
"يشعر أغلب السوريين عن حق بأن القبول بوقف الثورة وإيقاف المقاومة لا يعني التنكر لتضحيات شهدائهم ومكابدتهم، في السنوات الطويلة للحرب التي أعلنها نظام الأسد عليهم فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، هزيمة كبرى لسورية نفسها ولجميع المبادئ التي قامت عليها وحدتها وسيادتها واستمرارها"
فما يطرحه نظام الاحتلال على السوريين ليس حتى العودة إلى شروط حياة ما قبل الثورة، وإنما تكريس نظام الاستعمار للدولة، والآن للبلاد، بمشاركة أجنبية، وتوسيع دائرة التمييز الطائفي والتغيير الديموغرافي والمذهبي، أي شرعنة نظام القتل المنظم، وتأبيد حياة المحنة والمعاناة في مخيمات اللجوء وبقاع التشرد وتعميم الحصار والجوع والموت المبرمج والمحتوم. وهو لا يتردد في سبيل القضاء على المقاومة وروح الثورة عن الذهاب إلى الدرجات الأقصى من العنف والعمل المنهجي المنظم لتدمير المجتمع، وملاحقته بالصواريخ الباليستية، وبالبراميل المتفجرة، لتهجير من لا يزال يقاوم فيه، وتشريده وتحويل الشعب إلى حطام، وتدمير مدنه وأحيائه، لكي لا يعود إليها، وتمزيقه وفرض الانقسام عليه إلى شيع وطوائف ومذاهب، وإغراق روح الثورة في بحر من الدماء والمعاناة المريرة، لإشغال السوريين بتأمين شروط بقائهم، وتضميد جراحهم، عن الاستمرار في المقاومة. في هذه الحالة، يشعر أغلب السوريين عن حق بأن القبول بوقف الثورة وإيقاف المقاومة لا يعني التنكر لتضحيات شهدائهم ومكابدتهم، في السنوات الطويلة للحرب التي أعلنها نظام الأسد عليهم فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، هزيمة كبرى لسورية نفسها ولجميع المبادئ التي قامت عليها وحدتها وسيادتها واستمرارها، وهي الهزيمة التي سوف يدفع ثمنها مئات آلاف الضحايا الجدد من الأجيال الراهنة والمقبلة. وهذا ما يفسر استمرار الثورة، على الرغم من كل المحن والكوارث، وترسخ الاعتقاد بأنها لا تزال الرد الوحيد على الحكم بالموت والإعدام على شعب كامل، بالمعنيين السياسي والمادي معا.
لكن، بعكس ما تجلت عليه في السابق، لم تعد الثورة تعني، اليوم، مشاركة في لحظة استثنائية في التاريخ، تجمع كثير الشعب في واحد، وتصل الحاضر بالمستقبل، وتوجه الكل نحو غاية عظمى واحدة، يبدو أن المقاومة الطويلة وحرب الاستنزاف هي الطريق الوحيدة التي بقيت للسوريين، كي يضمنوا الحد الأدنى من أهدافهم، ويحلوا المعادلة الصعبة التي واجهتها ثورتهم المجيدة، والتي تمثلت، ولا تزال، في وجود إرادة تحررية وتصميم عظيمين لدى الشعب السوري على متابعة الثوة حتى النصر، في مقابل تكالب وتحالف قوى خارجية وإقليمية قوية على تصفيتها، وضعف إرادة القوى الصديقة في الانخراط في المواجهة، وإفلاس منظومة الأمم المتحدة وتقويض سلطتها القانونية والأخلاقية. وهذا يعني ويستدعي مراجعة عميقة لخطط الثورة وتكتيكاتها واستراتيجيتها، والعمل على إعادة بناء قواها الذاتية، وتحويلها من هبة شعبية إلى فعل سياسي منظم وبعيد المدى، يهدف إلى تعبئة القوى وتوحيد الجهود والتخطيط للمقاومة الشعبية الطويلة التي تستطيع، وحدها، أن تبني التحالف الوطني والإقليمي الذي يمكن الشعب من هزيمة العدوان وانجاز مهام نزع الاحتلال وإزالة الظلم، وتنظيم وتدريب وتأهيل القوى الجديدة التي ستحمل على عاتقها إقامة النظام البديل وبناء الدولة الديمقراطية التي تمثل الشعب، وتضمن حقوقه وسيادته.
لم يعد التمسك بالثورة يعني الحلم بانتصار سريع وحاسم على عدو متعدد الأوجه والأطراف، وإنما تنظيم المقاومة الناجعة ضد أعمال الإبادة الجماعية والتدمير الشامل وتقسيم الشعب والمجتمع والوطن، تماماً كما يعني الاستسلام لأوهام التسوية التي يبشر بها مجتمع دولي، تخلى عن السوريين، وتركهم لمصيرهم يقتلون بالعشرات، كل يوم، بالبراميل المتفجرة، التفاهم مع القتلة، والتخلي عن الشعب والتنكر لحقوقه، والتضحية بمستقبله لصالح خونته وجلاديه.
سجّلت عملية «عاصفة الحزم» في اليمن موقفاً خليجياً، بمبارَكة أميركية، من التطاول الإيراني على الحدود السعودية عبر انقلاب الحوثيين على الحكومة الشرعية في اليمن. والسؤال هو: هل أتت هذه الغارات العسكرية لدول خليجية بقيادة سعودية، وبمشاركة مصر وباكستان بسفن حربية، كجزء من استراتيجية مكبّلة لوقف الزحف الإيراني في الدول العربية، أم أنها محطة يمنية فقط فرضها الاضطرار؟ أتى القرار بالرد العسكري استجابة لنداء الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الذي طوّقه الحوثيون لاستكمال انقلابهم في عدن وإيصال إيران إلى باب المندب الاستراتيجي. الأمن القومي السعودي كان أيضاً عنواناً بارزاً وراء القرار العسكري الخليجي والعربي لأن تطورات الساحة اليمنية وضعت الميليشيات الحوثية والإيرانية في موقع صنع القرار وتهديد الحدود السعودية – اليمنية. والسؤال هو هل «عاصفة الحزم» عازمة على المثابرة العسكرية إلى حين إلغاء الانقلاب الحوثي الذي مكّنه الرئيس السابق علي عبدالله صالح وابنه أحمد مع «الحرس الثوري» الإيراني – حتى وان تطلب ذلك تدخلاً عسكرياً ميدانياً برياً لا يقتصر على الغارات الجوية والعمليات البحرية؟ وهل اليقظة المفاجئة إلى استدراك حدث اليمن والتحرك عسكرياً هي جزء من الانجرار إلى الرد اضطراراً، أم أنها نواة لنقلة استراتيجية نوعية لإعادة فرز التوازنات الإقليمية وإبلاغ كل من واشنطن وطهران أن الاستفاقة العربية جدية لا سيما على عتبة الصفقة الأميركية – الإيرانية المنتظرة؟
عملية «عاصفة الحزم» سترفع المعنويات لدى الموالين للشرعية في اليمن ولدى كثيرين من الخليجيين الذين شعروا بالإهانة تلو الأخرى من المغامرات الحوثية داخل اليمن وعلى أيدي «الحرس الثوري» الإيراني في العراق وسورية واليمن.
إلا أن الغارات الجوية بمفردها لا تحسم حرباً ميدانية على رغم أهمية عنصر السيطرة على الأجواء. الولايات المتحدة اعتمدت سياسة محاربة «القاعدة» في اليمن عبر الطائرات بلا طيار – والـ «درونز» – ولم تنجح في القضاء على «القاعدة» ولا في التأثير ميدانياً في الساحة اليمنية. هذا لا ينفي أهمية تدمير القواعد العسكرية ومخازن الأسلحة والمطارات المهمة للحوثيين كما لقوات علي عبدالله صالح كما للإيرانيين في اليمن. ثم أن التمكّن من التخلص من القيادات المهمة، الحوثية بالذات، تطور له وطأته على المعنويات في ساحة القتال. فبالتأكيد هناك جدوى ونتيجة ملموسة للغارات الجوية والعمليات البحرية. لكن السيطرة البرية لها حساباتها الخاصة والمميزة.
برز كلام في اليومين الماضيين عن استعداد للتدخل البري في اليمن من قبل مصر والأردن والسودان. ورافقت هذا الكلام أنباء عن مشاركة 6 طائرات مغربية وأردنية و3 سودانية في «عاصفة الحزم» التي شاركت فيها السعودية بـ 100 طائرة ووحدات بحرية و150 ألف مقاتل، والإمارات بـ 30 طائرة، وكذلك شاركت فيها قطر والكويت والبحرين.
مشاركة 10 دول عربية في العملية العسكرية في اليمن أمر مهم دلالاته بعيدة المدى لا سيما إذا دخل الكلام عن التدخل البري خانة التنفيذ الفعلي. عندئذ، تدخل المسألة اليمنية منحى جديداً داخلياً وتسجّل تطوراً إقليمياً من نوع آخر.
يطيب للبعض الإسراع إلى القول إن مصر ستتدخل برياً في اليمن، ويؤكد البعض الآخر أن مصر ستنجرّ إلى التدخل ميدانياً في ليبيا. الأمران واردان، إنما مستبعدان. فمصر اليوم تدرك أنها غير جاهزة للتدخل العسكري في ليبيا ميدانياً لأن فيه توريط لها. ومصر اليوم تتذكر تجربتها السابقة في اليمن والتي لها طعم المرارة في حلقها.
بالطبع هناك اليوم جديد لجهة العلاقة الاستراتيجية الفائقة الأهمية بين مصر والسعودية والإمارات. هذه العلاقة تدخل في خانة الالتزام بالدفاع عن الآخر لا سيما عندما يتطرق الأمر إلى الأمن القومي لإحدى هذه الدول. وتطورات اليمن دقّت باب الأمن القومي السعودي مما استدعى العلمية العسكرية.
أهم حلقة في مستقبل وإفرازات وتداعيات «عاصفة الحزم» هي ما إذا كانت ذات بعد إقليمي استراتيجي ينحصر في اليمن أو يتعداه. بكلام آخر، لا بد أن أصحاب هذا القرار المهم تدارسوا كيفية الرد على الرد الإيراني داخل اليمن في إطار استراتيجية عسكرية وسياسية على السواء. لا بد أن البحث تطرق إلى الناحية الزمنية لـ «عاصفة الحزم» وإلى متطلبات ما بعد العاصفة إزاء إيران والحوثيين وعلي عبدالله صالح. هذا أضعف الإيمان. إنما المهم أيضاً أن يكون لدى قيادات «عاصفة الحزم» تصور يتعدى اليمن من ناحية الإفرازات والتداعيات الإقليمية في وجه الردود الإيرانية في العراق وسورية ولبنان وليس فقط اليمن.
العملية العسكرية العربية في اليمن ليس لها بعد دولي أو شراكة دولية على نسق «التحالف ضد داعش» الذي يضم معظم الدول العربية التي تشارك في التحالف تحت قيادة الولايات المتحدة. فواشنطن لا تشارك في «عاصفة الحزم» وهي باركتها مضطرة بعدما كاد الحوثيون يستولون على السلطة في عدن بعد صنعاء.
واشنطن انساقت إلى عدم الاعتراض على «عاصفة الحزم» بعدما غضت النظر عمداً عن أحداث اليمن وكأنها ترى في الحوثيين وحليفهم الإيراني وسيلة للقضاء على «القاعدة» وقطع الطريق على محاولة «داعش» دخول اليمن. وللتأكيد، ليست الولايات المتحدة وحدها من غاب وتغيب عن أحداث اليمن في سياسة بائسة قوامها الاستنزاف. فدول خليجية أيضاً رأت في سياسة الاستنزاف فائدة لها من هلاك متبادل بين الحوثيين وعلي عبدالله صالح من جهة وبين «القاعدة» وقبائل غاضبة من جهة أخرى. هذا الخطأ الاستراتيجي ضاعفه الاعتقاد أن فشل الحوثيين في الحكم بمفردهم في اليمن يشكل سياسة، أو أن شراء القبائل والعشائر بين الحين والآخر سياسة.
طهران أوضحت في أول رد فعل لها على «عاصفة الحزم» أنها لن تتقوقع. انتقدت العملية العسكرية وقالت إن الضربات العسكرية السعودية ستعرقل الحل السلمي في اليمن – أي أن طهران لن تريح الرياض ولن تسهّل لها الانتصار في اليمن، بل ستسعى وراء توريطها وتوريط مصر معها لو تدخلت ميدانياً.
إذا كان لـ «عاصفة الحزم» استراتيجية خروج – كما لكل عملية عسكرية مدروسة – لا مناص من سكة سياسية موازية للسكة العسكرية تتناول المعالجة السياسية للأزمة اليمنية على أسس جديدة. أما إذا كان الهدف عسكرياً حصراً لتحقيق توازنات جديدة على الأرض، فإن للعنصر الزمني لـ «عاصفة الحزم» استراتيجية بقاء لأن المعالجة العسكرية وحدها ستستغرق وقتاً وقد تقود إلى مستنقع.
المشكلة اليوم هي أن المعالجة السياسية تتطلب تنازلات باتت أصعب بعد العملية العسكرية. المعالجة السياسية تتطلب تفاهمات مرفوضة مع الرئيس الناقم المنتقم علي عبدالله صالح الذي ساهم جذرياً في قيادة اليمن إلى شفير الحرب الأهلية هذه. فتجاهله يؤدي إلى المزيد من الانجرار إلى الحرب الدموية، والتفاهم معه يتطلب تنازلاً يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً على صنّاع القرار العسكري. أما مع الحوثيين، فمن المستحيل إلغاؤهم حتى وان كانت الرغبة عارمة للانتقام منهم بعد أن تحدّوا دولاً كبرى في الخليج. ثم هناك عنصر «القاعدة» الذي يجب التنبه جداً إلى عدم تشجيعه، حكومياً أو انفرادياً، لأن في ذلك إنماء آخر لوحش آخر سيرتد على السعودية والمنطقة. وبالتالي، مهما بدت «القاعدة» عنصراً ضرورياً لإلحاق الهزيمة بالحوثيين أو بالإيرانيين وراءهم، إن هذا انتحار آخر.
هناك إذن حاجة إلى استراتيجية متكاملة تتعدى نمط شراء الولاءات التقليدي وتتعدى الإنجازات العسكرية لـ «عاصفة الحزم» مهما كانت كبيرة أو ضرورية. لهذه الاستراتيجية شق أميركي وشق يتعلق بالزحف الإيراني والتوازنات العربية.
حدث اليمن شكّل أهم تحدّ لدول مجلس التعاون الخليجي التي سعت وراء إيجاد حل سياسي لليمن في مطلع التغيير فيه قبل 5 سنوات. فساعدت علي عبدالله صالح على مغادرة صنعاء وساهمت في الحوار الذي أوشك أن يدفع اليمن إلى فيديرالية تلبي الجميع. إيران دخلت على الخط في اليمن بعدما سجّلت طهران انتصاراتها في سورية والعراق. ازدادت طهران ثقة بالنفس نتيجة غزلها مع الإدارة الأميركية واستقتال الرئيس باراك أوباما على إبرام اتفاق نووي وصفقة ثنائية معها، فاستعجلت إلى توطيد سيطرتها في اليمن بجوار السعودية – متحدية بصورة جدية الأمن القومي السعودي.
«عاصفة الحزم» استدعاها الرئيس اليمني مستنجداً الإغاثة لكن الذي جعل منها حاجة استراتيجية هو التقارب الأميركي – الإيراني لدرجة الاستهتار بالأمن القومي العربي برمته. فواشنطن بقيت صامتة إزاء التجاوزات الإيرانية في سورية، وباتت شريكة «جوية» للميليشيات التي تديرها إيران في العراق بحجة انهما معاً ضد «داعش»، وتعمدت غض النظر عن التوغل الإيراني عبر الحوثيين ومباشرة في اليمن في الجوار السعودي.
إذن، ما من شأنه أن يعطي «عاصفة الحزم» جدّية سياسية وعسكرية وقيادية هو إيضاح نسيجها الاستراتيجي ببعده الإقليمي وليس فقط ببعده اليمني. هذا يتطلب حديثاً بلغة جديدة بين الدول العربية لا سيما الخليجية ومصر لجهة واقعية الأدوار الميدانية عسكرياً لهذه الدول وكيفية الرد على الردود الإيرانية الممتدة من اليمن إلى العراق إلى سورية. وهذا يتطلب بالتأكيد الجلوس إلى طاولة رسم السياسات البعيدة المدى المتعددة المواقع وليس الاكتفاء بإصدار بيانات عن قمم عربية. هوذا الجديد المترتب على «عاصفة الحزم» لتكون هذه العملية نوعية ضمن استراتيجية مكبّلة وليس مجرد عاصفة غضب ضمن تكتيك الردود العابرة التي تعزز الاعتقاد بأن السياسة السعودية مبعثرة تفتقد التهيؤ وتكتفي بالانسياق إلى الرد.
ما تحتاجه «عاصفة الحزم» أيضاً هو البعد السياسي الضروري والعاقل لأن مصلحة الشرق الأوسط والخليج ليست في مواجهة عسكرية واسعة النطاق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على رغم أنها مستبعدة. فإذا كان الحزم جدياً، لعله يفتح الباب أمام التفاهمات بعدما فشلت الحروب بالنيابة في سورية واليمن ولبنان والعراق ودمرتها. فمن قُتِلوا هم أبناء سورية واليمن والعراق ولبنان وليس أبناء الدول التي ترعى الحروب بالنيابة.
أما على صعيد الحديث العربي – الأميركي، إن «عاصفة الحزم» تشكل نقطة جديدة لكنها لن تتحول إلى نواة علاقة أميركية – عربية أو أميركية – خليجية من نوع آخر ما لم يكن الحزم حقاً لإيقاف الزحف الإيراني على الدول العربية ولإيقاف الاستهتار الأميركي بالمصالح والمواقف العربية.
كان يمكن للملكة العربية السعودية إعلان أن هدف عملية "عاصفة الحزم" التي تقودها في اليمن هو حماية مقامات الصحابة هناك أو مرقد سيدنا صالح أو سيدنا هود عليهما السلام، وهو ما يتطابق مع ما استخدمته إيران وميليشياتها الشيعية من ذرائع بحماية "مقامات شيعية وهمية" قتلت من خلالها الشعب السوري ومنعته من حقه في الوصول لحريته المنشودة عبر إسقاط الحكم الديكتاتوري متمثلاً بالمجرم بشار الأسد..
كان يمكن للسعودية فعل ذلك، لكنها كانت لتسقط في ثقافة الموت التي أرادت إيران إشاعتها في المنطقة، فآلت – السعودية – على نفسها إلا أن تعلن بوضوح عبر بيان مشترك مع الدول الخليجية المشاركة بالعملية أن "عاصفة الحزم" جاءت لـ"حماية اليمن وشعبه العزيز من عدوان الميليشيات الحوثية التي كانت ولا تزال أداة في يد قوى خارجية لم تكف عن العبث بأمن واستقرار اليمن الشقيق".. وفي هذا الإعلان بالتحديد يكمن الفرق بين ثقافة الموت الإيرانية في المنطقة وإرادة الحياة العربية التي يبدو أنها لن تتوقف قبل وضع حدٍّ للتمدد الإيراني الذي أوشك أن يسيطر على البوابات الاستراتيجية في المنطقة وفي مقدمها "باب المندب".
المواجهة اليوم المتمثلة بـ"عاصفة الحزم" تتجاوز "جماعة الحوثي" الخارجة عن الشرعية في اليمن، وتمتد لتشمل مواجهةً مفتوحة بين مشروع الموت الإيراني الرامي إلى ابتلاع المنطقة العربية بالاستناد إلى أحلام إمبراطورية عفنة تتوكأ على عكازٍ طائفي بغيض وبين مشروع عربي طال انتظاره يرمي إلى الحفاظ على حق العرب - بكامل طوائفهم – بالحياة على أرضهم دون تدخلاتٍ خارجية تثير الشقاق بين أبناء الشعب والعرق الواحد.. إنها المواجهة بين الحق والباطل.
وبكل تأكيد فإن صراخ إيران واستنكارها للعملية يعتبر أمراً مفهوماً إلى حد بعيد، فطهران التي تخوض مفاوضات نووية مع مجموعة (5 + 1) كانت تأمل أن تخرج منها دولةً إمبراطورية مسيطرة على مفاصل المنطقة، والعملية بهذا السياق تأتي "ضربةً قاسمة" سواء للمفاوضات النووية أو للأحلام الإمبراطورية.
فهي إن جاءت بتنسيق وموافقة أمريكية فهذا يشي بوضوح إلى تعثر المفاوضات النووية مع إيران، وبالتالي فطهران لا بد وأن تُقدم على تنازلات في ملفها التفاوضي لا سيما في الشق السوري.
أما إن لم تكن بضوء أخضر ورضا أمريكي، وهذا ما نتمناه، فإن عملية "عاصفة الحزم" تحمل في طياتها رسائل هامة أولها لواشنطن فحواها أن أي اتفاق نووي يمس بأمن واستقرار الخليج والمنطقة لن يمر بالسهولة التي تظنها الولايات المتحدة، وثانيها لطهران بأن التمدد الإيراني له حدود، وأن الدول العربية قادرة على وضع حد له بالوقت الذي تختاره.
قد يكون من المبكر وضع معالم إستراتيجية واضحة لعملية "عاصفة الحزم" التي لم يمض على انطلاقتها سوى ساعات قليلة، لكن الواضح من حجم المشاركة والزخم العسكري الذي رصد لها أنها معركة مفتوحة على كل الاحتمالات والتطورات، وأنها لن تتوقف قبل كسر الناب الإيراني في المنطقة العربية.
في تاريخ الشعوب التي تعرضت لاحتلال او اجتياح او "ردع" من قبل جيش اجنبي صفحات سوداء مشينة تحرص على محوها من ذاكرتها، او اخفائها من وثائقها، وشخصيات فظة ومحرجة يشطب اسمها حتى من المدونات والمرويات.
في التاريخ اللبناني الحديث نقيض تام لهذه النظرية، ومثال معيب يختزله الاهتمام الشديد بضابط سوري تحول في الاونة الاخيرة الى خبر رئيسي في وسائل الاعلام وفي الصالونات السياسية، وبات مصيره، موته او نجاته من الضرب المبرح على يد احد زملائه، الشغل الشاغل للبنانيين جميعا، مع ان دوره السابق في لبنان كان بمثابة إهانة موصوفة، ومتعمدة طبعا، لخصوم سوريا كما لحلفائها من مختلف الطوائف اللبنانية.
والغريب ان ذلك الضابط الذي تحول الى رمز فعلي للحقبة الاخيرة من الهيمنة السورية على لبنان وكان شاهداً على نهايتها، العسكرية على الاقل، ينظر اليه في سوريا نفسها وفي مراكز صنع القرار في دمشق بتواضع شديد، إن لم يكن باستخفاف بدوره، وحتى إستهزاء بدوره، الذي ارتقى بالصدفة ونتيجة عناد القيادة وضيق أفقها، اكثر مما تطور بفعل ثقافته او خبرته او نجاحاته وإنجازاته.. وهو في المستشفى الان نتيجة فشل ذريع في منع انهيار الجبهة الجنوبية للنظام امام تقدم قوات المعارضة الاخير، وإنشقاق أحد ضباطه الكبار الذي صار اسمه معروفاً.
مع ذلك فان أسطورته ما زالت تكبر في بيروت، اكثر من دمشق طبعا، وما زالت أدواره الاستخباراتية والمالية والسياسية تتردد على كل لسان لبناني، من الخصم الى الصديق، حيث يجري التباهي إما بنهاية الحاكم الاخير للبنان، وقرب نهاية النظام الذي كلفه بتلك المهمة القذرة، او بالحضور الفريد الذي كان يمثله في الغرف المغلقة للسياستين اللبنانية والسورية..او حتى بالفضائح التي تورط بها، وكانت ذروة سلوك سوري ثابت في استباحة لبنان ومؤسساته ومرافقه ومقدراته ونسائه أمتد منذ العام 1976 وحتى العام 2005.
لم يكن حاكما فعليا. كان مجرد نموذج أخير على انحطاط الادارة السورية للبنان التي بدأت قبل نحو اربعين عاما باشكال وادوات سياسية مناسبة للظرف اللبناني في ذلك الحين، لكنها تراجعت تدريجيا لتصبح في عهدة كبار ضباط الجيش والامن، قبل ان تستقر عند ذلك الضابط الفضيحة، الذي تعامل مع لبنان مثلما يتعامل اي مسؤول أمني مع اي من المحافظات السورية ال14 الباقية، اي بمزيج من الترغيب والترهيب والفساد والافساد، وبما يعبر بصدق عن تحلل النظام ويفسر قيام الثورة..
لكن المحير هو ان المسؤولين والسياسيين اللبنانيين الذين خاصموه او حالفوه، كانوا على دراية مسبقة بموقعه ومكانته وكفاءته، لكنهم لم يترددوا في نسج اوثق العلاقات معه، بدلا من ان يتوصلوا الى الاستنتاج ان الادارة السورية هزلت، وآن الاوان للتخلي عن الخصومة او عن التحالف مع دمشق او حتى للهجرة من لبنان كله.. طالما ان قرار النظام هو الاصرار على إبقاء ذلك الضابط في مهمته اللبنانية الجليلة، برغم الاساءات التي يمثلها لذلك النظام بالذات.
ما زال الجمهور اللبناني يتسقط اخبار ذلك الضابط، اكثر من اي خبر آخر، اما بدافع الحنين او الحقد، مع ان الشعورين لا يجوزان فيه، ولا يعبران سوى عن خلل نفسي في تكوين ذلك الجمهور وفي توصيف علاقته مع "حاكمه" السابق،الذي لم يكن ذلك الضابط بالتحديد، وفي الشفاء من متلازمة استوكهولم الشهيرة عن الصلة المرضية التي تقوم في بعض الاحيان بين السجان والسجين.. والتي تصح في تحديد طبيعة العلاقة بين اللبنانيين وبين جميع من حكمهم من الخارج.
الصحة العقلية للبنانيين جميعا، الحلفاء قبل الاعداء لنظام دمشق تستدعي شعورهم بالعار- لا بالاثارة- من مجرد سماع إسم: رستم غزالة.
حاولت جامعة الدول العربية احتواء الأزمة السورية، منذ بدايتها، بدفعها النظام إلى القيام بخطوات سياسية جادة، تلبي المطالب الشعبية، وتمنع البلاد من الانجرار نحو الهاوية، وتكرار النموذج الليبي، بشكل أو بآخر، في بلد له تأثير كبير على محيطه العربي والإقليمي، لكن إصرار النظام على خياره الأمني، دفع الجامعة إلى ممارسة ضغوط على دمشق، على أمل حصر الأزمة داخل المنظومة العربية، والحيلولة دون انتقالها إلى المستوى الدولي، متبعة في ذلك أسلوب الترغيب والترهيب معاً، فلم تغلق الباب العربي نهائيا بوجه النظام، ولم تتركه مفتوحا.
وكان من أبرز الخطوات التي بادرت إليها جامعة الدول العربية دعوة الأمانة العامة بداية أغسطس/آب 2011 النظام السوري إلى البدء بمرحلة الإصلاحات السياسية، وإيقاف القتل للحيلولة دون تدويل الأزمة، وفي الشهر التالي، في منتصف سبتمبر/أيلول، جاءت المبادرة العربية الأولى التي دعت إلى سحب الجيش من المدن ووقف العنف وإجراء حوار مع المعارضة، ثم جاء قرار الجامعة في 12 نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، ليقضي بتعليق عضوية سورية في الجامعة، وسحب السفراء العرب من دمشق، وفرض عقوبات اقتصادية على النظام. ثم خطت المنظومة العربية خطوة إلى الأمام، حين أصدر وزراء الخارجية العرب في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2011، قرارا بإرسال بعثة مراقبين عربية، من أجل تقصي الحقائق، لكن البعثة فشلت فشلاً ذريعاً، نتيجة أساليب النظام، وإثر ذلك، اقترحت الجامعة مبادرة ثانية، للحل في سورية، تدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتفويض الرئيس بشار الأسد نائبه فاروق الشرع صلاحيات كاملة.
غير أن دور جامعة الدول العربية وتأثيرها في الأزمة السورية بدأ بالتراجع، منذ منتصف 2012، لحظة تحول الأزمة من مسارها المحلي إلى مساريها، الإقليمي والدولي. ومنذ ذلك الوقت، تحولت مقررات الجامعة إلى مجرد بيانات تعكس حالة الضعف والخلافات البينية داخل المنظومة العربية، في وقت تُرك فيه مصير الأزمة السورية إلى قدرة الفاعلين العرب والإقليميين، وبلغ الأمر أن شدة الموقف العربي من الأزمة السورية، أو ليونته، لم تعد مرتبطة بإجماع عربي، بقدر ما أصبحت متعلقة بالبلد المضيف للقمة العربية، وسياسة المحاور داخل البنيان العربي.
هكذا كانت قمة الدوحة عام 2013 التي شكلت خطوة جديدة، بمنح المقعد السوري الشاغر للائتلاف الوطني المعارض، أما الكويت التي احتضنت القمة السابقة فآثرت ترك المقعد السوري شاغرا، فيما تتجه مصر في قمة شرم الشيخ السادسة والعشرين المقبلة إلى تبني
"دور جامعة الدول العربية وتأثيرها في الأزمة السورية بدأ بالتراجع، منذ منتصف 2012، لحظة تحول الأزمة من مسارها المحلي إلى مساريها، الإقليمي والدولي"
الموقف الكويتي، لكي لا تكون القمة منحازة لهذا الطرف أو ذاك، وتوصل رسائل سياسية، لا تعكس طبيعة الموقف العربي الذي يتبنى الحل السياسي، حسب ما أعلنت السلطات المصرية، فضلا عن أن انقسام المعارضة أعطى فرصة قوية لهذا التيار للتمسك بموقفه الرافض. ولكن حقيقة الموقف المصري تتعدى ذلك، فالقاهرة، منذ تسلم عبد الفتاح السيسي الحكم، تجد نفسها أقرب إلى النظام السوري من المعارضة، لكنها لا تستطيع الخروج عن الإجماع العربي، لا سيما الخليجي. ولذلك، تسعى إلى تعويم وجهة نظر هيئة التنسيق بدلاً من "الائتلاف" المدعوم من أنقرة والدوحة، الخصمين اللدودين للسيسي، وكانت الهيئة قد أعلنت على لسان منسقها العام، حسن عبد العظيم، رفضها إعطاء المقعد السوري إلا للدولة، وممثلي الشعب السوري المنتخبين.
تحاول القاهرة استعادة دورها العربي، وهذا مطلوب ومرغوب عربياً، بيد أنها، اليوم، غير القاهرة الأمس، إنها اليوم تسعى إلى نقل الثورة المضادة في الداخل المصري إلى الإطار المحلي، فهي تفضل بقاء الحكم في سورية بأيدي النظام، على أن تراه بأيدي الائتلاف والإخوان المسلمين المدعومين من الدوحة وأنقرة، لكنها بحكم علاقاتها مع الرياض من جهة، ولإدراكها أن دعم النظام صراحة مستحيل من جهة ثانية، تعمل على تبني خيار سياسي وسطي، يرضى بقبول عربي ويعتمد على: أولوية محاربة الإرهاب، وهذا هو السبب الذي دفع القاهرة إلى اقتراح إنشاء قوة عربية مشتركة. اعتماد الحل السياسي في سورية خياراً وحيداً لإنهاء الأزمة، عبر عملية يشارك فيها طرفا الأزمة معا. دعم القوى المعارضة السورية التي تتبنى مواقف معتدلة، مثل هيئة التنسيق الوطنية، وقد بلغ التعاون بين الطرفين مبلغاً كبيراً، وانعكس ذلك في النقاط العشر الصادرة عن اجتماع للمعارضة السورية في القاهرة في يناير/كانون الثاني الماضي. العمل على إبعاد "الإخوان المسلمين" من الساحات السياسية العربية، خصوصاً السورية.
هناك أخيرا شخصية أميركية تعرف شيئا عن الشرق الأوسط وتفضّل عدم اختزال مشاكل المنطقة بالملفّ النووي الإيراني. افتقدت واشنطن إلى مثل هذه الشخصية التي تجمع بين الجانبين العسكري والسياسي منذ ما يزيد على عشرين عاما، حين لمع نجم الجنرال نورمان شوارزكوف الذي قاد التحالف الدولي في عملية تحرير الكويت في شباط – فبراير من العام 1991.
هناك الآن الجنرال المتقاعد ديفيد بتريوس الذي يمتلك في الوقت ذاته وعيا سياسيا ومعرفة بالشرق الأوسط قلّ مثيلهما. إنّه يحمل، إضافة إلى خبرته العسكرية على الأرض، شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية، حصل عليها بامتياز، من جامعة برنستون، إحدى أرقى الجامعات في الولايات المتحدة.
جاء انتهاء دور بتريوس، الذي أمضى سنوات عدّة قائدا للقوات الأميركية في العراق، ثم قائدا للقيادة المركزية، قبل أن يصبح مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إي) إثر فضيحة ذات طابع نسائي مع امرأة من أصل لبناني. حدث ذلك، في وقت تبدو إدارة باراك أوباما في حاجة أكثر من أي وقت إلى معرفة، ولو قليلة، في إيران والعراق والمنطقة عموما.
عاد بتريوس إلى الواجهة أخيرا عبر الحديث الذي أدلى به إلى صحيفة “واشنطن بوست”. كشف الحديث أن كل كلام عن غياب الخبراء الأميركيين في الشأن الشرق أوسطي ليس صحيحا. هناك شخصيات أميركية لا تزال تعرف، تماما، ما يدور في المنطقة وما على المحكّ فيها. تعرف هذه الشخصيات، من بينها بتريوس، أنّ هناك رغبة متعمّدة، لدى إدارة أوباما في الظهور في مظهر العاجز أمام السياسة الإيرانية على وجه التحديد.
كانت كلّ كلمة في الحديث مدروسة بدقة. كشف الحديث كم يعرف بتريوس إيران. إنّه يعرف، تماما، اللعبة الإيرانية في المنطقة والأساليب التي تمارسها طهران، بما في ذلك استخدام التطرّف السنّي والاستثمار فيه لتبرير التطرّف الشيعي والممارسات الميليشيوية.
كان الحديث عبارة عن أجوبة خطية على خمسة أسئلة وجّهتها الصحيفة إلى بتريوس في أثناء وجوده في كردستان العراق لحضور ندوة موسعة تستضيفها، سنويا، الجامعة الأميركية في السليمانية، التي يرأسها سياسي عراقي كردي مميّز بالفعل هو الدكتور برهم صالح.
ما لفت الإعلام العربي في الحديث كان تركيز المدير السابق لـ“السي. آي. إي” على خطر الميليشيات الإيرانية العاملة في العراق واعتباره “التهديد”، الذي تشكلّه الميليشيات الشيعية، “أكبر بكثير” من ذلك الذي يشكّله “داعش”.
هذا دليل على أن بتريوس يعرف في العمق الموضوع الذي يتحدث عنه، خصوصا أنّه يدرك أن “داعش” ظاهرة عابرة لا يمكن للتحالف الدولي إلا أن ينتصر عليها. يدرك، أيضا، أن الميليشيات المذهبية المحلية العاملة في العراق، أو تلك التي تدور في فلك إيران هي الخطر الحقيقي على الاستقرار الإقليمي في المدى الطويل.
لفتت الإعلام العربي أيضا طريقة تعاطي بتريوس مع وجود قاسم سليماني قائد لواء القدس في “الحرس الثوري” الإيراني في العراق، والصور التي تنشر والتي يظهر فيها سليماني. قال مدير الـ“سي. آي. إي” إنّه لا يريد أن يقول عن صور الضابط الإيراني كلاما لا يليق بصحيفة مثل “واشنطن بوست” تدخل منازل فيها عائلات.
كذلك، لفت الإعلام العربي استخفاف بتريوس بتهديد مبطّن وجّهه إليه في الماضي سليماني عندما كان على رأس القوّات الأميركية في العراق. وقتذاك نقل إليه ضابط عراقي رسالة من الضابط الإيراني يصف فيها نفسه بأنّه “المسؤول عن العراق وسوريا ولبنان وغزّة وأفغانستان”، كان ردّ بتريوس، عبر الوسيط الذي نقل الرسالة، ما معناه أن كلام سليماني لا ينطلي علي وأنّ عليه الانصراف إلى الاهتمام بشؤونه، أي “اذهب إلى الجحيم”.
يبدو بتريوس من خلال نص الحديث، أنّه ما زال يحتفظ بذهن صاف على الرغم من كلّ ما مرّ عليه من صعوبات، ومن احتمال مثوله أمام المحكمة في قضية مرتبطة باتهامه بكشف ملفات، يُفترض أن تكون سرّية، أمام الامرأة المكلّفة بكتابة مذكراته.
كذلك، يظهر الصفاء الذهني للرجل عندما يتحدّث عن شؤون المنطقة ككل، خصوصا عن “إشعاعات تشرنوبيل السوري”. بالنسبة إليه، ما يجري في سوريا حدث في غاية الأهمّية على الصعيد الإقليمي، خلافا لما تعتقده الإدارة الأميركية التي تقف موقف المتفرّج من الحدث السوري. يرى بتريوس أنّه لا تجوز مقارنة الحدث السوري سوى بخطورة حادث المفاعل النووي السوفياتي في تشرنوبيل في العام 1986. ساهم حادث تسرّب إشعاعات من المفاعل في انهيار الاتحاد السوفياتي. كان ذلك من أول المؤشرات إلى الانهيار الذي طاول أوروبا الشرقية. لذلك، يبدي بتريوس تخوّفه من تأثير “انتشار إشعاعات تشرنوبيل السوري” على المنطقة كلّها.
هناك فوق ذلك كلّه كلام عميق صدر عن بتريوس من نوع أنّ الانسحاب الأميركي من العراق في العام 2011، ولّد انطباعا لدى حلفائنا بأننا ننسحب من الشرق الأوسط، وقد أثّر ذلك في قدرتنا على التأثير في الأحداث، وفي نظرة الحلفاء إلى الدور الأميركي في المنطقة.
ليست لدى المدير السابق لـ“السي. آي . إي” أي أوهام في شـأن إيـران التي هـي “جزء من المشكلة (في الشرق الأوسط وسوريا والعراق) بدل أن تكون جزءا من الحل”.
هناك ملاحظات في غاية الدقة في الحديث. من بينها أنّ “تصرفات إيران وراء صعود التطرّف السنّي” و“خلق أرضية خصبة نمت فيها داعش”. كذلك، لديه وصف حقيقي وموضوعي، إلى حدّ كبير، لممارسات حكومة نوري المالكي في العراق. يشير هنا إلى “الفساد والتسلط والتصرّفات ذات الطابع المذهبي” التي أدت إلى “المأساة” العراقية.
هل فات أوان إنقاذ العراق؟ هل فات أوان إنقاذ الشرق الأوسط؟ ما لم يقله بتريوس أن الإدارة الأميركية أسيرة الملف النووي الإيـراني لا أكثر. ما لـم يقله، أيضا، أن العـرب، الـذين يمتلكـون وعيا، كـانوا على حقّ عندما اتخذوا باكرا قرارا بدعم مصر بغـض النظـر عن كـلّ ما تفكّر فيه إدارة أوباما المستعدة للاستسلام للإخوان المسلمين.
شكرا لديفيد بتريوس على حديثه الذي وضّح فيه ما لم يكن في حاجة إلى توضيح، خصوصا في ما يخصّ تخلي الولايات المتحدة عن دورها في الشرق الأوسط لمصلحة إيران…
ضجيج رقصة النار التي يقوم بها المسؤولون الإيرانيون احتفالا بالاستحواذ على العواصم العربية الأربع: بيروت، ودمشق، وبغداد، وصنعاء.. ضجيج قد لا يستمر طويلا ففاتورة الاحتفاظ بالموقع أكبر بمرات من فاتورة الحصول عليه.
الفخ الذي وقعت فيه الجماعات التي تعتمد على إيران اعتمادا كليا في حراكها، سواء ميليشيات الحشد الشيعي في العراق، أو «حزب الله» في سوريا ولبنان، أو الحوثيين في اليمن، هو فخ كبير استدرجت فيه مجموعات شيعية لخدمة مشروع إيراني توسعي يعتمد اعتمادا كليا في بقائه على الدعم الخارجي، لا على حاضنة طبيعية اجتماعية موجودة على الأرض، فنسبة الشيعة في العالم الإسلامي كله لا تتجاوز في أفضل الأحوال 12 في المائة من مجموع المسلمين، ضخ الدماء في عروق تلك الميليشيات الشيعية العربية يعتمد اعتمادا كليا على الدعم الإيراني بالمال والسلاح والأفراد، وفي بعض الأحيان يعتمد على القيادة الإيرانية بشكل مباشر، فذلك هو السبيل الوحيد للاحتفاظ ببعض المواقع التي سيطرت تلك الميليشيات عليها، فكم جبهة تستطيع إيران أن تبقي على صنبورها المغذي مفتوحا لها؟ وإلى متى؟
قتلى الميليشيات العربية الشيعية المسلحة من اللبنانيين والعراقيين واليمنيين في معارك الاحتفاظ بتلك المواقع التي وصلوا إليها، في تصاعد، مما اضطر إيران إلى أن تمدهم بالأفغان والباكستانيين المرتزقة، كما فعلت في سوريا، فهل تستطيع أن تواصل هذه التغذية؟
ففي 8 يونيو (حزيران) 2014 عرضت قناة «فرانس 24»، تقريرا أكدت فيه مسؤولية إيران عن إرسال مقاتلين أفغان لسوريا، ففي التقرير المصور يقول أحمد، وهو واحد من الذين رفضوا الإغراءات المادية، إنه تم إرسال فردين من عائلته إلى سوريا، وهم على تواصل معهما بشكل متقطع. يقول أحمد: «هاجر قريباي إلى إيران منذ سنوات بسبب الفقر والبطالة المتفشية في بلادهما. ومنذ 11 شهرا وبعد أن عرضت عليهما أموال، سافرا إلى سوريا من أجل الدفاع عن (مقام السيدة زينب) (قرب دمشق). الحرس الثوري عرض عليهما مبلغ 1.5 مليون تومان (ما يعادل 430 يورو شهريا) ورخصة إقامة لمدة ستة أشهر لكل أفراد عائلتهما، الذين يريدون الذهاب للعيش في إيران. وهذا يمكنهم من الحصول على وثائق إقامة طويلة الأجل. أما إذا قتلا في سوريا، فسوف يتحصلان على مبلغ 15 مليون تومان (ما يعادل 4300 يورو) ويمكن لعائلاتهما البقاء للإقامة بشكل دائم في إيران.
هذه التصاريح بالإقامة كانت سببا أساسيا في اتخاذهما هذا القرار. وعندما حاولت ردعهما عن الذهاب، أجابا بأن هدفهما نبيل، وأنني لست مؤمنا». انتهى.
أما النشرة الأميركية للدراسات للشؤون الاستراتيجية والحربية «strategy page» الصادرة في 16 يناير (كانون الثاني) الماضي، فقد أكدت أن «الساحة السورية باتت ساحة كبيرة للنفقات الإيرانية، حيث تنفق الحكومة الإيرانية أكثر من مليار دولار شهريا من أجل الإبقاء على الأسد المؤيد لإيران في السلطة، وكان أحد العوامل المحورية في قدرة الحكومة على استعادة مكاسب الثوار خلال العام الماضي، هو ظهور الآلاف من مسلحي (حزب الله) اللبنانيين، وفي الثمانينات، ساعدت إيران في خلق (حزب الله)، كما قامت بتمويل بقاء ونمو (حزب الله) منذ تلك اللحظة، وعلاوة على المال والأسلحة، وفرت إيران التدريب العسكري أيضا، ومعظم التدريبات كانت متعلقة بأساسيات العمل العسكري، إلا أنه كان هناك الكثير من التكوينات المتخصصة، ولذلك فإنه على الرغم من أن (جيش حزب الله) يتشكل فقط من نحو 2000 جندي بدوام كامل و10 آلاف بدوام جزئي، هناك قوة كبيرة أكبر بكثير من الاحتياطيين المدربين (وهم جنود مدربون لم يعودوا ضمن قائمة المأجورين). وقد تم استدعاء الكثير من هؤلاء الاحتياطيين لـ(التطوع) لقضاء 3 إلى 6 أشهر في القتال في سوريا، وشكل ذلك خطرا كبيرا، إذ إن 2000 من رجال (حزب الله) الذين عملوا في سوريا خلال الشهور الـ18 الماضية، إما قُتلوا أو جرحوا في القتال، وظلت التمويلات الإيرانية وغيرها من الموارد تأتي بكميات كافية إلى هنا، بالنظر إلى أن (حزب الله) استطاع منح تعويضات وفاة للذين قتلوا في سوريا ورعاية صحية (مكثفة) للجرحى». انتهى.
أما الجبهة العراقية، فقد فتحت على مصراعيها الآن والوعود بنصر إلهي وقريب تبخرت، حتى بعد أن دخلت إيران بشكل مباشر للقتال على الأراضي العراقية، ولم يعد خافيا في الحرب على تنظيم داعش أن لإيران دورا أساسيا، بعد أن اتضح أن ما يسمى «الحشد الشعبي» أو حتى الجيش النظامي العراقي غير قادر على صد تمدد «داعش» في الأراضي العراقية من دون مساعدة إيرانية، الذي دفع بإيران أن تدخل بقواتها وتتوغل حتى وصلت إلى حدود تكريت والموصل والمناطق الكردية، وها هي تحاول منذ أكثر من 10 أيام إحداث اختراق في مدينة صغيرة كتكريت، وتفشل، مما يوحي بأن الاحتفاظ بالأرض ليس كالوصول إليها عسكريا وكذلك ماديا، ويؤكد بأن القوات الإيرانية تبدو وكأنها استدرجت لفخ أكبر ممن حسبت حسابه. كما تكشف صعوبة اختراق تكريت أن الموصل قصة أخرى تحتاج من قاسم سليماني غطاء جويا وربما للواء من المدرعات تمكنه من استعادتها، فكيف إذن بالاحتفاظ بها وهي تقع وسط كتلة بشرية معادية لم تنجح 10 سنوات في ترويضها.
أما في اليمن، فنشوة النصر السريع تحطمت على أثر تمكن الرئيس هادي من الهروب من حصاره في صنعاء ليجد الحوثيون أنفسهم، بعد أن دانت لهم اليمن بجبالها ووديانها، أنهم مجموعة مسلحة محاصرة في صنعاء، ويقف المجتمع الدولي ضد ممارساتها، لا اليمنيون فحسب، لتتكرر القصة ذاتها: الاحتفاظ بالأرض ليس كالحصول عليها، وبدأ الحوثيون يطالبون بالدعم الإيراني المباشر (عسكريا وماليا) للاحتفاظ بما حصلوا عليه أو بما تبقى منه.
التكلفة عالية في كل هذه الجبهات والميليشيات الشيعية بدأت تعاني من شحّ الدعم نتيجة العقوبات الاقتصادية، وتطالب بالمزيد، فقد كشف تقرير لصحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» أن لـ«حزب الله» عدوا جديدا، وهو «سياسة التقشف» المالي. فقد تأثر الحزب بالأزمة التي يعاني منها راعيه الإيراني، جراء تراجع في أسعار النفط العالمي، ومن آثار العقوبات المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي.
وفي الوقت الذي تلتزم فيه إيران بسياسة شدّ الأحزمة، يقوم «حزب الله» بخفض رواتب منتسبيه، وتأجيل دفع الفواتير للموردين، وتخفيض المعاشات الممنوحة للحلفاء السياسيين، وذلك نقلا عن مصادر سياسية ودبلوماسية في بيروت، منهم أعداء وأصدقاء للحزب.
وترى إيران في دعمها للأسد حماية لمصالحها في المنطقة، ويقدر دبلوماسي في بيروت ما ترسله طهران شهريا إلى سوريا، ما بين مليار أو ملياري دولار منها 500 مليون تنفق على الجيش، وخصوصا قوات الدفاع الشعبي التي تضم 70 ألف مسلح.
ويُنقل عن كريم سجادبور، من مشروع الشرق الأوسط في مركز كارنيجي، قوله: «قدموا (الإيرانيون) نحو 5 مليارات دينا، وعندما تأخذ بعين الاعتبار الدعم المالي العسكري والنفط بأسعار مخفضة ووقت الحرس الثوري الإيراني، فالرقم يصل إلى 10 مليارات، ومن دون الدعم الإيراني ما كان للأسد سيولة مالية». انتهى.
إنما السؤال: إلى متى؟ إذ حتى لو كانت إيران تمني النفس بعودة قدراتها التصديرية النفطية بعد إزالة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، إلا أن ذلك لا يغير من كون تكلفة الاحتفاظ بالمواقع التي تبجحت إيران في خضوعها لنفوذها ستكون أضعاف تكلفة الحصول عليها.