لا يمكن الاستهانة بالتأييد الشعبي الذي حازه الفعل العسكري العربي الأخير في اليمن، فلقد انتظرنا طويلا كي يتحرك العقل السياسي العربي، وينظر إلى مصالح الامة، من نفس الزاوية التي ينظر فيها الآخرون إلى مصالح شعوبهم.
كثيرة هي القوى الدولية والإقليمية التي تتحرك في ساحات بعيدة كل البعد عن حدود أمنها القومي، كي تصنع أوراق ضغط لها، بينما بقي النظام الرسمي العربي، خاصة خلال العقدين الأخيرين مجرد متفرج كسول على ما يحدث حتى في عقر داره، بل شارك مرات عدة في صنع خيباته بأموال الامة وثرواتها وجهدها السياسي والعسكري. وإذا كان الفعل العربي قد تأخر كثيرا، فإن يأتي متأخرا أفضل من أن لا يأتي مطلقا، شرط أن يكون في صيغة استراتيجية عربية شاملة مدروسة وممنهجه، تبغي تثوير الطاقات العربية واستخدامها في إطارها الصحيح، وليس رد فعل مؤقتا قائما على حسابات قطرية ضيقة، لأن حجم الاختراقات الاجنبية في أمننا القومي، جعلت عمليات التجميل والترقيع على الجسد العربي غير ذات قيمة. وحده الفعل الجمعي للامة هو من ينهض بها، ويعيد اليها كرامتها.
وإذا كانت القضايا الفلسطينية واللبنانية والسورية والليبية والعراقية، كل منها تحتاج إلى عاصفة حزم تعيد الامور فيها إلى نصابها، فإن عاصفة اليمن قادرة على إعادة صياغة مسارات الأمور في الاقطار المذكورة، لأن السهم الذي يبتر ذراع الطرف المضاد ويبعد خنجره عن خاصرة الامة، سوف يدميه ويجعله يعيد حساباته في الساحات الاخرى، خاصة أن اليمن نقطة استراتيجية بالغة الاهمية في شبه الجزيرة العربية، حيث تتقاطع مصالح شتى الدول الاقليمية والدولية فيها، وسقف الرهان فيها عال جدا، إلى درجة تجعل من السيطرة الاستراتيجية على هذه المنطقة ورقة رابحة في استراتيجية الاخرين.
لذلك أوعزت إيران إلى الحوثيين وحليفهم علي عبدالله صالح بالسيطرة على كل اليمن، عندها ستكون المقايضة متوازنة تماما بين إيران من جهة والحوثيين وحلفائهم من جهة أخرى. فالحوثيون في أمّس الحاجة إلى إيران كحاضن وداعم إقليمي لاستكمال إخضاع اليمن، والإيرانيون في حاجة إلى مضيق باب المندب، كي يكون هو ومضيق هرمز في رحلهم، وبهما يحكمون السيطرة التامة على الملاحة الدولية، ويلوون عنق الدول الخليجية ومصر كذلك، لأن قناة السويس تعتمد اعتمادا مباشرا على الحركة البحرية في مضيق باب المندب، لذلك كانت الاندفاعة الحوثية كبيرة وسريعة نتيجة عامل الدعم الإيراني اللامحدود، كي يشكل تحركهم عامل ضغط فاعلا في مفاوضات الملف النووي، وقد تبين ذلك من الأجندة الانتقامية للحوثيين لكل الأطراف اليمنية، ومن شكل الخريطة السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية التي تحركوا فيها، حتى الرئيس هادي الذي حاول أن يستجيب لكل مطالبهم، ووصل إلى الحد الذي يكون مجرد دمية بيدهم، باءت كل محاولاته بالفشل أمام أجندتهم التي كانت أكبر من كل تنازلاته، والتي كانت الصفحة الأخيرة فيها هو محاولة التخلص منه بقصف مقره، كي ينتهوا من غطاء شرعيته، الذي بات يضغط عليهم، دوليا وعربيا ومحليا. فقد كانوا يخططون لفعل سياسي في الساحة اليمنية يستنسخ تجربة حزب الله في الساحة اللبنانية تماما، ويعيدون تكرار ما يجري في البرلمان اللبناني، من انعقاد متكرر بدون القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية بفعل حزب الله. وإذا كانت عملية الحزم قد شكلت ضربة كبرى لهذا المشروع وللحاضنة الاقليمية له، فإنه لا يمكن القول بأن النفوذ الإيراني في المنطقة قد بات في حالة تراجع، لأن أجندتهم قائمة على أسس عقائدية، والعقيدة تتراجع وقد تختفي آنيا، لكنها تبقى حية في العقول التي استحكمت بها، عليه قد نشهد تغولا لهذه العقيدة في أقطار عربية أخرى فيها سيطرة إيرانية مُعلنة، للتعويض عن الخسارة ورفع المعنويات نتيجة الضربة المفاجئة، لذلك لا أحد يستطيع القول بأن العملية سوف تبقى محصورة في شبه جزيرة العرب، خاصة أن الانفلات الميليشياوي هو الذي يتحكم اليوم في ساحات كبيرة ومهمة في الوطن العربي. فمن يضمن ألا تنطلق صواريخ الميليشيات على هذا القطر أو ذاك ردا على العملية؟ ومن يضمن ألا يجري تسويقها إلى العامة على أنها حرب طائفية، في ضوء تصريحات رد الفعل لمحور إيران عليها، شبه المستنسخة من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت؟ لقد تفاجأ الحلف الإيراني بالعملية، لأنها حوت عناصر المفاجأة والاسلحة النوعية والقرار الجماعي، ولانه يعاني من مشاكل داخلية في العراق وسورية، وعينه على مفاوضات الملف النووي، والاهتمام منصب على تحقيق نصر عسكري فيهما وسياسي في الملف النووي، كما أن عدم الرد العربي على اختراقات إيرانية كبرى في المنطقة، أعطى انطباعا لصانع القرار في هذه الدولة أن يخلد إلى السكينة والاطمئنان إلى أن العواصم العربية سيتوالى سقوطها في أحضانه، لذلك لا بد للعملية العسكرية العربية أن تكون إعادة شرعية لرسم خريطة جيوسياسية للمنطقة، كانت متوقفة ومعطلة لفترة طويلة من الزمن، وأن اليمن يقع في قلب هذه الخريطة بريا وبحريا وجويا. المصالح المشتركة في هذه الخريطة يجب ألا تبقى هي نفسها ما قبل العملية، والحروب بالوكالة لم تعد مجدية مع الطرف الآخر، بل أنها تضر كثيرا بالساحات التي تتم فيها المنازلة، كما أن التوازن السياسي في اليمن لابد أن يعاد رسمه في ضوء هذه العملية، فليس من المعقول أن يستأثر الحوثيون بكل اليمن، إلى الحد الذي يفرضون فيه من يريدون في كل المؤسسات اليمنية مدنية وعسكرية، وينصبون أتباعهم من المدارس الابتدائية إلى قمة السلطات السيادية، فهم يمنيون لهم ما لغيرهم وعليهم ما على الاخرين ضمن حدود المواطنة، وليس لهم من ميزة على الاخرين، كما أن الاهم في هذا الموضوع هو الاعتماد على أهل اليمن في إعادة الاوضاع إلى سياقها الطبيعي، ومساعدتهم في تحقيق تنمية بشرية تنهض بالبلاد اقتصاديا، والابتعاد عن سياسة شراء الذمم والولاءات القبلية والطائفية والعسكرية التي اتبعت في هذا البلد، ولقد اثبت علي عبدالله صالح وغيره ممن باعوا ذممهم، على أن هذه السياسة لا تجدي نفعا، وأن من لديه الاستعداد لذلك على استعداد تام لبيعها مرة أخرى إلى من يدفع أكثر، حتى لو كانت إيران. لقد قطعت «عاصفة الحزم» ذراعا ممتدة على الأمة، وحان وقت قطع كل الاذرع الأجنبية الممتدة في بلادنا.
بعيد تحرير مدينة إدلب، تقف جبهة "النُصرة" أمام اختبار مهم لمدى صدقية دعوى رموزها، بأنها قامت لـ "نُصرة أهل الشام" بما
يخدم مصلحة أهل هذا البلد، حتى لو على حساب التنظيم الذي تنتمي إليه، تنظيم "القاعدة"، كما صرح أبو ماريا القحطاني، أحد أبرز قادة "النُصرة"، وذلك في تغريدات له على "تويتر"، مطلع الشهر الجاري.
هذا الاختبار لا يعني فريقاً من السوريين، سبق أن وضع "النُصرة" في سلّة "داعش"، معتبراً أن المَعين الآيديولوجي المشترك الذي يرتوي منه رموز التنظيمين كفيل بجعل "النُصرة" وجهاً آخر لـ "داعش"، ينتظر اللحظة التاريخية المناسبة ليكشف عن وجهه الحقيقي، كما فعل "داعش" سابقاً في الرقة.
ويستعين هذا الفريق من السوريين بتجربة الرقة المريرة، إذ تبدو معركة تحرير إدلب، للوهلة الأولى، تكراراً نوعياً لتجربة تحرير مدينة الرقة، في آذار من العام 2013، لتكون الرقة أول مركز محافظة يتم تحريره بالكامل من سيطرة النظام. وخلال سنة شهدت الكثير من الفوضى والتنافس بين الفصائل التي سيطرت على المدينة، تحولت حياة "الرقاويين" إلى جحيم زاد قصف طائرات النظام من ويلاته.
لكن، قبل أن تُنهي السنة الأولى من "تحرير الرقة" فصولها، تغيّر المشهد بصورة درامية، واستطاع تنظيم "الدولة الإسلامية" إحكام السيطرة على المدينة بعد حرب شرسة مع حلفاء الأمس، "النُصرة" و"أحرار الشام" و"الجبهة الإسلامية".
اليوم، يدخل جيش "الفتح" إدلب، والعارفون يعلمون أنه مكون من قوتين رئيسيتين، "النُصرة" و"أحرار الشام"، فيما يبدو أن الفصائل الأخرى أقل وزناً وقوة، الأمر الذي أعاد لأذهان البعض كابوس تجربة الرقة، وسط توقعات بتكرار المشهد في إدلب قريباً.
وربما كانت خيبة بعض السوريين جراء رفض "النُصرة" التخلي عن تبعيتها لتنظيم "القاعدة"، منذ أسابيع، أحد العوامل الذي عزز قوة أصحاب الرأي الذي يجزم بأن "النُصرة" هي الوجه الآخر لـ "داعش"، وأنه يجب عدم الركون إليها، والتحالف معها.
لكن في مقابل ما سبق، لا يبدو أن أحداً من الفاعلين على الأرض السورية، في ضفة المناوئين للأسد و"داعش"، في وارد الصدام مع "النُصرة"، بل على العكس. ولا يبدو أن هناك أية مبررات موضوعية تدفع باتجاه الصدام مع الجبهة بعد، نظراً لكون الأخيرة لم تعلن، حتى الآن، إمارتها الإسلامية التي ترقبها الكثيرون. والأهم، أنها ضبطت نفسها وتجنبت الصدام مع باقي الفصائل الجهادية الكبرى في شمال سوريا، "أحرار الشام"، و"الجبهة الشامية"، حتى بعد دور الفصيلين الأخيرين في حماية "حركة حزم"، التي كانت "النُصرة" بصدد الإجهاز عليها منذ أسابيع.
وهكذا يبدو أن الفريق الأكبر من السوريين ما يزال يراهن على إمكانية استيعاب "النُصرة" في مشروع وطني يؤسس لسوريا جديدة تكون بديلة عن "سوريا الأسد". يضم هذا الفريق الكثير من المتعاطفين مع نهج "النُصرة" الذي أظهر مرونة كبيرة في التعامل مع السكان المحليين، ومع الفصائل المناطقية، في مساحات سيطرته. كما يضم هذا الفريق فصائل "السلفية الوطنية السورية"، بما فيها "أحرار الشام" و"جيش الإسلام"، ناهيك عن الفصائل المحسوبة على الأخوان المسلمين. بل ويضم هذا الفريق الكثير من المنظّرين، سواء من الإسلاميين المعتدلين، أو حتى من العلمانيين، ممن ينشطون في الخارج.
لا داعي، في نظر هذا الفريق الكبير من السوريين، للصدام مع "النُصرة"، حتى الآن. وكما كان موقف معظم السوريين من تنظيم "الدولة الإسلامية" في بدايات تأسيسه، مرتبكاً ومنقسماً وميالاً أكثر للمصالحة والصبر، حتى عِيل الصبر مع التنظيم، لا يبدو أن موقف معظم السوريين، سواء من الفاعلين على الأرض، أو من المؤثرين إعلامياً وسياسياً ومالياً، سيكون مختلفاً تجاه "النُصرة".
وفيما يرى البعض أن رمي الكرة في ملعب التنظيمات الجهادية، خاصة ذات البعد غير الوطني، كان من نتاجها أن نرى "داعش" تسرح وتمرح اليوم في ثلث سوريا، يرى آخرون أن ما يعتبره البعض سلبية، ما هو إلا نتاج الحالة الاستثنائية التي تعيشها الثورة السورية، والتي لا تملك حاضنتها الاجتماعية رفاهية تصفية التنظيمات التي لا تأتي على هوى مشروعها المثالي المُتخيل عن سوريا الجديدة في بدايات الحراك الثوري.
وهكذا، يرمي السوريون الكرة في ملعب "النُصرة"، على أمل أن تزيل الجبهة مخاوف الكثير منهم حيال تأسيس مشروع إقصائي خاص بها من قبيل "إمارة إسلامية". ويبدو أن "النُصرة" حتى الآن واعية لذلك، لكن اختبار إدلب سيؤكد أكثر ما إذا كانت "النُصرة" ستبقى على خريطة القوى المقبولة من غالبية السوريين، كفصيل مناصر للثورة السورية ضد بشار الأسد، أم ستنضم إلى خانة داعش تماماً، كفصيل إقصائي سلطوي لا يقل خطورة عن نظام الأسد نفسه.
لماذا تعد إدلب اختباراً؟، ربما لأن تجارب "التحرير" السابقة أثبتت أنه كلما سيطرت الفصائل المناوئة لنظام الأسد على مساحات جغرافية جديدة، كلما ازداد إغراء الإقصاء والتفرد لدى قياداتها، على حساب المشروع الجامع لها، وهو قتال الأسد وحلفائه في سوريا.
فهل تنجح "النُصرة" في هذا الاختبار؟، أم ستنقلب فرحة تحرير إدلب إلى نكبة على السوريين تكرر تجربة الرقة المريرة؟...
يبدو أن الكرة ما تزال في ملعب "النُصرة"، ويصعب حتى الساعة، الجزم، في أي اتجاه سترمي "النُصرة" كرتها للسوريين. لكن مؤشرات عديدة، بعضها نابع عن حسن الظن بالجبهة، تُوحي بأن قياداتها التي يغلب عليهم العنصر السوري، أكثر حكمة من تكرار تجربة داعش، وأكثر قدرة على استيعاب عقلية السوريين ومتطلبات المرحلة الراهنة في مواجهة نظام الأسد والظهير الإيراني الداعم له.
لم يعد يفصلنا عن إطلاق المؤتمر الثالث للمانحين الدوليين للشعب السوري سوى ساعات قليلة، ليعلن الانطلاق في الكويت، الانطلاقة التي تستوجب أن يكون هناك عدد لابأس من المليارات لكي تسد جزء من الكارثة الكبيرة التي تشهدها سوريا منذ أن أعلن الأسد حملة القتل و التدمير و التشريد بحق الشعب.
فيكفي أن تقوم بجولة بسيطة على التصريحات الأخيرة حول سوريا ، لتجد البروز و التنافس الحاصل بين الجميع ليحصل على جزء من هذه الأموال التي من المقرر جمعها لإغاثة الشعب السوري.
الأرقام كبيرة وتحت مسميات عديدة، منها خطط الاستجابة لـ لبنان والأردن لمواجهة اللجوء السوري وتصل لقرابة الـ5 مليارات دولار، ومليارات أخرى تطالب بها منظمات الأغذية و الصحة و التعليم و الطفولة و .... و .... العالميون طبعاً، و سيل الأرقام التي تعبر عن حجم الكارثة ، 18 مليون محتاج ، تتنوع الاحتياجات و تتلون لتشمل كل شيء ابتداءً من الماء و حتى تأمين قطعة أرض للدفن.
ولا شك أن المساعي لتلبية المطلوب و لو بجزء منه، شيء يُشكر عليه الجميع ابتداءً من الدعوة للمؤتمر و انتهاءً بتنفيذ الوعود بالتبرع، التي تصب في اطار السعي لرأب الصدع الحاصل نتيجة الحرب التي يخوضها الأسد و ميلشياته طوال السنوات الأربع الماضية ، والتي أحدثت من الأضرار ما يفوق حجم العقل البشري بكامل هيئاته و منظماته و مؤسساته التي بقيت عاجزة حتى الآن عن اصدار إحصائية لأي جزء من جبال الخسائر التي تعرضت لها سوريا و شعبها ، فالأرقام كتوقعات دوماً ، في أحسن الأحوال تقريبية.
و لكن هل ما تحتاجه سوريا و شعبها هو المعونات و التبرعات..!؟
مع يقيننا بأن الحاجة للإغاثة شيء لا مفر منه و لكن الإغاثة وحدها لا تكفي و لاتسمن و لا تغني عن جوع ، وإنما سوريا بحاجة لحل و حل حاسم و نهائي لمعضلة أربكت العالم بأسره، عالمٌ قرر جعلها ساحة تستقبل مفاوضاته و تكسير عظام بعضه البعض ، و يبدو أن لا يرغب بتسكيرها.
فسوريا التي لازالت و ستبقى معتمدة على ذاتها في كل المجالات ، مادياً و بشرياً ، تحتاج إلى الحرية فقط ، تحتاج لإزالة الدكتاتور ، تحتاج لتحريرها من الاحتلال الإيراني، تحتاج لأن تكف يد المتدخلين و العابثين، تحتاج لأن يترك الشعب يحكم نفسه، تحتاج لأن تُنهى الحرب، و أن نبدأ بالعودة من جديد، تحتاج لكل المخلصين، تحتاج لأن تعيش.
الإغاثة مهمة و لكن دون الحرية ، تكون بمثابة إطالة أمد الألم ، و تجديد التشرد و القتل و التدمير فترة إضافية.
سوريا بحاجة لإنهاء حاسم و حازم و سريع .. نفس المصطلحات التي يستخدمها الباحثون عن الدعم في مؤتمر المانحين3 .... والإنهاء المطلوب أن يكون حقيقي و ليس مجرد تصريحات و قرارات مكتوبة .. وإن كان الرغبة بأن يكون الدعم حالياً للإغاثة فنأمل أن يكون حقيقياً و ليس مجرد وعود كما حدث في المؤتمرات السابقة التي جمعت ورقياً المليارات و لم يتم دفعها على أرض الواقع.
في السابق لم يكن العربي مضطراً إلى متابعة سير القمة العربية. كان يعتقد أن الغرض منها لا يتجاوز إظهار القدرة على الاجتماع تحت سقف واحد. وأن المقررات هي في النهاية عبارات عمومية ستبقى حبراً على ورق. وأن القمة المقبلة ستعيد إنتاج قرارات القمة المنصرمة وتمنياتها. وكان مرد هذا الشعور لدى العربي إحساسه بأن الأمة سلمت بعجزها وتنازلت عن حقها في التأثير في مصيرها ومصير المنطقة التي تنتمي إليها.
أعطت قمة شرم الشيخ انطباعاً مختلفاً. أوحت أن الأمة التي شعرت بحجم التهديدات المحدقة بها وخطورة الحرائق المندلعة بين ضلوعها قررت استجماع إرادتها لتفادي إكمال رحلتها نحو الهاوية. والحقيقة أن لا مفاجأة في التئام شمل القمة. ولا في القرارات التي صدرت عنها. كان متوقعاً أن تعطي القمة شرعية عربية كاملة لـ «عاصفة الحزم» وأن تظهر العزلة العربية الكاملة لمنفذي «الانقلاب» في اليمن وداعميهم. وكان متوقعاً أيضاً أن تقر مبدأ تشكيل «قوة عربية مشتركة».
المتابع لأعمال قمة شرم الشيخ استوقفته ثلاث محطات وبضع جمل. إعراب الملك سلمان بن عبدالعزيز عن الأمل في «أن يعود مَنْ تمرد على الشرعية لصوت العقل، والكف عن الاستقواء بالقوى الخارجية والعبث بأمن الشعب اليمني العزيز، والتوقف عن الترويج للطائفية وزرع بذور الإرهاب». المحطة الثانية تمثلت في الهجوم العنيف الذي شنه الرئيس عبدالفتاح السيسي على إيران وإن من دون تسميتها. قال أن «الظروف أغرت أطرافاً في الإقليم وفي ما وراءه ، وأثارت مطامعها إزاء دول عربية بعينها، فاستباحت سيادتها واستحلت مواردها واستهدفت شعوبها...». ولم يسبق لمصر السيسي أن وجهت مثل هذه الانتقادات إلى ايران. والمحطة الثالثة كانت مداخلة الأمير سعود الفيصل رداً على رسالة الرئيس فلاديمير بوتين والانتقادات الصارمة التي وجهها إلى سياسة روسيا في سورية.
يمكن تفسير مناخات قمة شرم الشيخ بالالتفات إلى ثلاثة أخطاء كبرى ارتكبت في اليمن. الأول ارتكبته مجموعة «أنصار الله» حين اعتبرت أن من حقها قلب الطاولة اليمنية على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي ومخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية. وأي قراءة هادئة للتركيبة اليمنية وتعقيداتها ولموقع اليمن وحساسيته تظهر أن الحوثيين ارتكبوا مجازفة بالغة الخطورة.
الخطأ الثاني ارتكبه يمني طالما اشتهر بالبراعة واستعذب ممارسة السلطة على قاعدة «الرقص على رؤوس الثعابين». مشاعر الثأر تغتال التحفظ والكيدية تعطل البراعة. قد يكون علي عبدالله صالح استمتع برؤية غريمه هادي محاصراً في منزله يرسل كتاب استقالته. وقد يكون سخر من اضطراره إلى الفرار إلى عدن. لكن البراعة جانبته حين سهّل للحوثيين الاستيلاء على صنعاء وأسلحة الجيش وحين زايد عليهم في الرغبة في طرد الرئيس من عدن. ارتكب علي صالح مجازفة كبرى.
يمكن القول أيضاً أن إيران التي كانت منخرطة في المفاوضات النووية ارتكبت في اليمن خطأ يمكن اعتباره مجازفة خطرة. وقد تكون استندت إلى نجاحها سابقاً في انتهاك الخطوط الحمر في أكثر من مكان من دون التعرض لهجوم مضاد. لا إسقاط صنعاء بسيط ولا مهاجمة عدن ولا وضع اليد على باب المندب. وتناقض الغلطة الإيرانية في اليمن تاريخاً من البراعة أظهرته السياسات الإيرانية في التقدم والتمكن في أنحاء أخرى من الإقليم.
القاسم المشترك بين مرتكبي الأخطاء الثلاثة هو سوء تقديرهم لرد فعل السعودية المجاورة. أغلب الظن أنهم اعتقدوا أن السعودية لا تملك غير سياسات الصبر، وأن الحكمة ستدفعها إلى قبول الأمر الواقع المفروض حتى ولو كان يشكل أخطاراً على أمنها واستقرارها. لم يتخيل مرتكبو الأخطاء الثلاثة أن السعودية وفي ضوء محاولة تطويقها وتحجيم ثقلها ودورها ستتخذ قراراً استراتيجياً مخالفاً لتحفظها التقليدي. والقرار هو توظيف قدراتها العسكرية وثقلها العربي والإسلامي وترسانتها من العلاقات الدولية في خدمة سياسة رادعة في الإقليم المضطرب. ولعل مرتكبي الأخطاء الثلاثة اعتقدوا أن مصر الحالية المنشغلة بأمنها وجوارها واقتصادها لن تتخلى عن سياسة مهادنة إيران أملاً في لعب دور الوسيط في الأزمة السورية. إنه سوء تقدير مكلف.
أدت الأخطاء الثلاثة، إضافة إلى الأوضاع السورية والعراقية والليبية، إلى تغيير في المقاربة السعودية وكذلك في مقاربة الدول المشاركة في «عاصفة الحزم» وبينها مصر. تساعد الأخطاء الثلاثة في فهم مناخات قمة شرم الشيخ وأبرز المواقف التي أطلقت خلالها. الأكيد أنه لولا الحدث اليمني وما شهده من أخطاء لما كانت قمة شرم الشيخ مختلفة.
كان خطابه الأخير المخصّص في معظمه لليمن محاولة لتحسين صورة إيران أمام العرب في حين لا وجود، بين معظم المسؤولين الإيرانيين، من يسعى إلى ذلك. لذلك، يبدو أفضل ردّ على نصرالله ما يقوله المسؤولون الإيرانيون أنفسهم. ما لا يقلّ عن عشرة من هؤلاء يتبجّحون منذ ما يزيد على سنة بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
مشكلة الأمين العام للحزب الذي يعترف بأنّه تابع لإيران، بصفة كونه على رأس حزب يؤمن بولاية الفقيه، تتلخص بأنّه يقول الشيء وعكسه في الوقت ذاته من دون أن يرفّ له جفن.
إنّه يعتبـر العرب عموما، واللبنانيين خصوصا، مـن السذج الذين تمرّ عليهم طـروحاته، بمـا في ذلـك تلـك المتـعلّقة باليمن أو لبنـان أو سوريـا أو العـراق… أو بالسيـاسة التي تتبعها المملكة العربية السعـودية التي تقود حاليا “عملية الحزم” التي تستهدف منع إيران من الاستيلاء على اليمن لا أكثر، وتحويله مستعمرة أو قاعدة انطلاق لتهديد المملكة ودول الخليج العربي والبحر الأحمر الذي يعني الكثير لمصر.
من أبرز المغالطات في خطاب الأمين العام لـ“حزب الله” اعتباره أن “أنصار الله” في اليمن على رأس “ثورة شعبية”. أخطر من ذلك، رفضه الاعتراف بأنّ الحوثيين في اليمن تابعون لإيران. يقول إن العلاقة بينهم وبين إيران لم تبدأ إلا بعد الحرب السادسة التي خاضوها مع الجيش اليمني في العامين 2009 و2010. هذا الكلام ينفيه الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي كان أدلى بحديث في خريف العام 2004 أشار فيه إلى العلاقة العميقة بين الحوثيين وإيران (يمكن العودة إلى عدد جريدة “المستقبل” الذي نُشر فيه الحديث وقتذاك).
كان ذلك بعد الحرب الأولى التي خاضتها السلطات اليمنية مع الحوثيين. فبعض زعماء الحوثيين كان يمضي منذ السنة 2000 وقتا طويلا في إيران وفي قم تحديدا. كذلك، كان هناك في بيروت من يطبع كتبا ومناشير للحوثيين!
لا حاجة إلى إعادة التذكير بدور علي عبدالله صالح في تشجيع الحوثيين على تشكيل تيّار سياسي، سُمّي “الشباب المؤمن” في وقت كانت لديه دائما حساسية زائدة تجاه العائلات الزيدية الكبيرة، المعروفة بالعائلات الهاشمية. تنتمي هذه العائلات إلى محافظة حجّة. من بين أبرزها آل حميد الدين الذين كان منهم الإمام، أو آل المتوكّل الذين كانت المملكة تُكنّى بهم. كان اليمن في عهد الإمامة معروفا بتسمية “المملكة اليمنية المتوكّلية”.
من الضروري العودة إلى الخلف قليلا ولو من أجل التذكير بأنّ الحوثيين ارتبطوا بإيران باكرا، وبأنّ المواجهة الأولى بينهم وبين الدولة كانت عائدة إلى “الصرخة” التي أطلقها أحدهم في وجه علي عبدالله صالح أثناء وجوده في العام 2003 في أحد المساجد المعروفة في صعدة.
كان علي عبدالله صالح في طريقه برّا إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج. فوجئ الرئيس اليمني، وقتذاك، بمن يطلق “الصرخة” وهي شعار الحوثيين، وذلك بعد صلاة الجمعة. أدرك متأخرا مدى عمق التحوّل الذي طرأ على الظاهرة الحوثية التي استطاعت إيران استيعابها من منطلق مذهبي قبل أي شيء آخر. ارتدّت الظاهرة على من حاول الاستثمار فيها بكلّ الوسائل، بما في ذلك إيصال الحوثيين إلى مجلس النواب وتوفير موازنة لهم…
“الصرخة” التي باتت شعار الحوثيين الذين أصبحوا يُعرفون لاحقا بتسمية “أنصار الله” هي “الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”. بدا من تلك “الصرخة” مدى ارتباط الحوثيين بإيران، وذلك منذ إثني عشر عاما!
كان حادث صعدة أوّل تنبيه للرئيس السابق الذي ما لبث أن خاض مع الحوثيين ست حروب آخرها في العامين 2009 و2010، وذلك قبل أن ينزل شبان يمنيون ابتداء من بداية السنة 2011 إلى شوارع تعز وصنعاء ويطالبون باستقالته. وقد استغلّ الإخوان المسلمون تلك التظاهرات لإجبار الرئيس اليمني على الاستقالة، خصوصا بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال في مسجد النهدين المقام في دار الرئاسة في صنعاء. استغلّ “أنصار الله”، إلى أبعد حدود، الفراغ الذي نشأ في صنعاء جراء الحملة التي شنّها الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح، وذلك في وقت كان هناك خلاف في العمق بين الحوثيين والإخوان المسلمين والسلفيين الذين أقاموا مراكز دينية في مناطقهم.
لعب خروج علي عبدالله صالح من الرئاسة، إثر توقيعه المبادرة الخليجية في الرياض، دورا في جعل المواجهة تتحوّل، شيئا فشيئا، إلى مواجهة مباشرة بين الحوثيين والإخوان المسلمين.
جاء انهيار تركيبة السلطة القائمة لينطلق الحوثيون من صعدة في اتجاه صنعاء، مرورا بعمران التي كانت معقل آل الأحمر زعماء حاشد. تُوّج تمدّد الحوثيين بوضع يدهم على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول ـ سبتمبر الماضي واستيلائهم على مؤسسات الدولة وفرضهم “اتفاق السلم والشراكة” بقوة السلاح. نسفوا بذلك المبادرة الخليجية من أساسها معتمدين على لغة السلاح بدل لغة الحوار. إنّهم تلامذة نجباء لـ”حزب الله” في لبنان الذي يحاول، كلّ يوم، وضع يده على كلّ مفاصل الدولة اللبنانية، كما يمنع مجلس النوّاب من انتخاب رئيس للجمهورية، خلفا للرئيس ميشال سليمان الذي انتهت ولايته في الخامس والعشرين من أيار ـ مايو الماضي.
تمدّد “أنصار الله” في كلّ الاتجاهات. لا شكّ، أن علي عبدالله صالح سهّل لهم الوصول إلى عدن بعد التفافهم على تعز. لم يكن ممكنا قبول الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي تسليم اليمن لإيران. لم يكن ممكنا اعترافهم بالانقلاب الحوثي الذي يكرّس واقعا جديدا في منطقة الخليج، وعلى صعيد التوازن الإقليمي.
فاليمن جزء لا يتجزّأ من الأمن الخليجي. وإذا كان حسن نصرالله تذرّع بأنّ الحوثيين كانوا يسعون إلى علاقات طيبة مع المملكة العربية السعودية، فإنّ سيرة “أنصار الله” تشير إلى أنّه لم يتسّع لهم بعد الوقت الكافي لتهديد السعودية. كان عليهم السيطرة على اليمن كلّه قبل الانطلاق في اتجاه الخليج وتهديد أمنه.
يعرف كلّ يمني مدى شهية الحوثيين إلى السلطة، ومدى رغبتهم في التمدّد داخل اليمن وخارجه. إنّهم جزء من المنظومة الإيرانية في المنطقة التي تقاتل العرب بعرب آخرين.
هذه المنظومة أنتجت “داعش” السنّية لتبرير الدواعش الشيعية في سوريا والعراق ولبنان. كلّ ما تبقّى تفاصيل ومحاولة لتسويق سياسة إيرانية غير قابلة للتسويق، عن طريق الخطب الرنّانة. أخطر ما في هذه الخطب، لبنانيا، أنّها لا تأخذ في الاعتبار مصالح عشرات الآلاف من العائلات التي تبحث عن لقمة العيش في دول الخليج العربي، بعدما سدّ “حزب الله” كل أبواب الرزق أمام اللبنانيين في لبنان!
الخطاب المجنون، الذي ألقاه أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، ضد السعودية وعمليتها “عاصفة الحزم”، ليس مستغربا، فالأبواق الإيرانية الممانعة فقدت اتزانها تماما بعد التحرك السعودي المدعوم عربيا وإقليميا ودوليا من هول الصدمة، وهي بالمناسبة صدمة غير مبررة إلا بسوء التقدير وخطأ الحسابات. وغير ذلك، فإن السيد تلقّى نبأ مقتل ثلاثة عناصر من حزبه – على الأقل- في الغارات على الحوثيين.
السيد يعترض، ويقول إن عاصفة الحزم لو هبّت ضد إسرائيل لكان جنديا فيها، وأعتقد أن كلامه سليم، فالحزب الإلهي يشن حربا عاتية ضد إسرائيل، والغريب أنها حرب لم يمت فيها إسرائيلي واحد، بل آلاف السوريين ومئات العراقيين وعشرات اليمنيين.
يقول السيد إن المملكة وإسرائيل في معسكر واحد، لقد أصاب كبد الحقيقة، والدليل ما نراه في لبنان، فحلفاء المملكة المؤمنون بالاستقلال اللبناني والمناوؤون لمحور الممانعة والجمهورية الإسلامية والحزب الإلهي تغتالهم إسرائيل فورا. سبحان الله!
على ذكر الاغتيالات، السعودية متهمة من السيد بتدبير عمليات انتحارية في العراق، إنني مستعد أن أقبل هذا الاتهام كليا في حالة واحدة: أن يسلم السيد المطلوبين من حزبه إلى المحكمة الدولية، ويسلم المطلوب في محاولة اغتيال بطرس حرب إلى القضاء اللبناني، ويسلم إلى الأجهزة الأمنية قتلة الزيادين اللاجئين في أوكار حزب الله، ويكشف عن مصير المختطف جوزيف صادر المخطوف إلى الضاحية، إذا فعل حزب الله ذلك ربما تدان المملكة في تفجيرات لبنان فنتأكد قطعا بأنها خلف تفجيرات العراق. عفوا، بتصريح نوري المالكي نفسه، قال إن التكفيريين دخلوا إلى العراق من سوريا، وهذا الحديث سابق للثورة، فهل يمكن أن يشرح لنا السيد كيف نسق بندر بن سلطان مع خصمه بشار الأسد ﻹدخال الإرهابيين إلى العراق؟
يتحفنا السيد، بأن طلب الشرعية اليمنية من دول الخليج دعم الدولة اليمنية مبرر واه، لم يخطئ السيد أيضا، لذلك فنحن أمام خيارين: الأول، أن نعتبر استغاثة بشار الأسد بحزب الله وإيران ضد شعبه مبررا واهيا وبالتالي ينسحب الحزب الإلهي والحرس الثوري من سوريا فورا، ونعتبر استغاثة حيدر العبادي بالأميركيين لمحاربة الإرهاب في العراق مبررا واهيا هو الآخر ونترك الحكومة العراقية لمصيرها. الثاني، أن نطلب من بشار الأسد وحيدر العبادي أن يستغيثا بدول الخليج لنصرة الدولة في اليمن حتى لا يكون المبرر واهيا.
السيد يحب السعودية، نعم، فلم أجد عاطفة صادقة نحونا إلا منه، فقد وصف عاصفة الحزم بالعدوان الذي لا مصير له إلا الهزيمة
السيد يقول بأن سقوط اليمن في يد إيران والحوثيين لن يهدد أمن المملكة والخليج، حسنا، أعتقد أن هذه النقطة جديرة بالتأمل، وربما تعكس غياب الكوادر الخبيرة أمنيا وسياسيا في الخليج، لذلك فأنا أستسمح السيد بأن يطلب توظيفه في مجلس الشؤون الأمنية والسياسية السعودي أو مجلس الأمن الوطني الإماراتي، وأعتقد بأن معارفي في السعودية والإمارات ستسهل قبول الطلب، وإذا أحب العمل مع قطر فما عليه إلا أن يطلب وساطة صديقه القديم عزمي بشارة.
السيد يفضحنا، يتهمنا باختلاق داعش لضرب بشار الأسد ونوري المالكي، وأعتقد أن كلامه صحيح، بدليل العمليات الحدودية التي نفذتها داعش ضد المملكة، وبدليل الحملات الأمنية التي نفذتها وزارة الداخلية ضد الدواعش السعوديين، والدليل الثالث هو تصنيف المملكة -رسميا- لداعش كجماعة إرهابية، وليس هناك دليل أوضح من مشاركة المملكة في التحالف الدولي العسكري ضد الدواعش.
وبالمناسبة، هنا لدينا أسئلة، لماذا اعتبرت داعش عاصفة الحزم ضربا للمشروع الجهادي في المنطقة؟ أين هي المعارك الطاحنة التي تدور بين بشار وبين داعش؟ حزب الله أعلن دخول سوريا لقتال التكفيريين، فكيف تأسست داعش بعد دخوله؟ وإذا كان حزب الله حقا يقاتل الدواعش فما علاقة الجيش الحر بهم؟ ولماذا حين اختطف التكفيريون جنودا لبنانيين تملص حزب الله من حربه ملقيا الكرة في ملعب الدولة اللبنانية؟
السيد يعلنها مدوية، فالسعودية تعطل الحل السياسي في سوريا، يا للعار، السعودية فعلا تعطل مقررات جنيف 1 التي تتحدث عن تسليم النظام البعثي حكم سوريا إلى هيئة حكم انتقالي، لماذا يا سيد تعطل السعودية هكذا حلا مع أنه سيزيح خصمها وخصم السوريين بشار الأسد؟ وهل الميليشيات في سوريا تقيم ندوات حوارية –مثلا- بين مختلف أطياف الشعب السوري؟
لقد فاجأنا السيد، المملكة تضع فيتو على وصول ميشيل عون، مرشح حزب الله والحوثيين والحرس الثوري وكتائب أبو الفضل العباس وقوات الباسيج والمرشد الأعلى وإيران وبشار الأسد والشبيحة وفلاديمير بوتين وفنزويلا وكوبا، إلى رئاسة لبنان، والدليل ناصع جدا، قيام السعودية بمنع نواب حزب الله وحلفائه من النزول إلى البرلمان. مهلا يا سيد، لماذا لا تذهبون إلى البرلمان؟ وألا تضع إيران فيتو على أيّ مستقبل سوري من دون بشار الأسد وطغمته؟
الأبواق الإيرانية الممانعة فقدت اتزانها تماما بعد التحرك السعودي المدعوم عربيا وإقليميا ودوليا
يزعم السيد، أن السعودية دعمت جورج دبليو بوش في إسقاط نظام صدام حسين، يا لبعد نظر السيد، فالسعودية دعمت إسقاط نظام صدام حتى يخلفه نظام إيراني يستبيح عروبة العراق وسنته، وربما أرسلت السعودية مندوبا ساميا اسمه “قاسم سليمان” لينفذ المهمة ويهيئ الأجواء لقاسم سليماني الإيراني، لكنك يا سيد لم تبلغنا، إذا كانت المملكة سلّمت العراق ﻹيران، فلماذا وقفت مع صدام في حربه ضد الإيرانيين كما قلت أنت بنفسك؟ ولماذا حين تحدثت عن مساندة الخليج لصدام ضد الخميني نسيت مبدأ “تصدير الثورة الإيرانية”؟
السيد يحب السعودية، نعم، فلم أجد عاطفة صادقة نحونا إلا منه، فقد وصف عاصفة الحزم بالعدوان الذي لا مصير له إلا الهزيمة، وخوفا علينا دعا إلى الحوار السياسي في اليمن حتى يجنبنا الخسارة. شكرا يا سيد، لكنك جئت متأخرا جدا، فبعد أن فشل الحوار بسبب محاولات عصاباتكم فرض أمر واقع، وبعد أن تعالى الحوثيون على المواثيق والحوار بقرار من إيران وبقوة السلاح، كان لا بد من الحزم.
السيد يعتبر كل من يؤيد العدوان على اليمن آثما، إن الحوثيين ليسوا شعب اليمن بل أقلية فيه، وعاصفة الحزم هي لنصرة الشعب اليمني والدولة ضد المارقين. السيد يتحدث عن الإثم؟ لن أذكّره بإثم الدماء التي في رقبته من السوريين والعراقيين وخصومه اللبنانيين، بل عليه أن لا ينسى إثم عناصره الذين أزهق أرواحهم حين أرسلهم غزاة في أوطان الآخرين أو قتلة ﻷشقاء الوطن.
الحوثيون أقلية مسلحة مدعومة من إيران، وبالتالي، أمام هذه الحقيقة يسقط اتهام السيد للمملكة بأنها تسعى للعبث بالتركيبة المذهبية في اليمن، ونلفت نظر السيد إلى أن المملكة لا صلة لها بحملات التبشير الشيعي في مصر والأردن ولبنان وسوريا والمغرب العربي.
السيد يقول إن إيران تقدم المال والسلاح له من دون أن تملي عليه الأوامر والقرارات كما تفعل السعودية مع حلفائها وأصدقائها. لقد شعرت بالحزن حين سمعت السيد يردد هذا الكلام، فقد خشيت أن تكون هذه من أعراض الزهايمر، فالسيد قال في خطاب تلفزيوني عام 2008 متوفر في اليوتيوب “أنا أنتمي إلى حزب ولاية الفقيه”، ونائبه نعيم قاسم في كتابه (حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل) قال نصا “حزب الله هو وكيل الثورة الإسلامية في لبنان”، ومساعده إبراهيم الأمين السيد قال في صحيفة النهار بتاريخ 5 مارس 1987 “نحن لا نقول إننا جزء من إيران، نحن إيران في لبنان، ولبنان في إيران”. أي تبعية بعد هذه يا سيد؟ لقد فهمتك، أنت لا تعتبر نفسك حليفا أو صديقا ﻹيران، أنت تعتبر نفسك إيرانيا تماما، وفي هذا السياق أنت على حق.
يشكر حسن نصرالله إيران، ﻷنها وقفت مع فلسطين بعد تخلي العرب عنها، وأنا أيضا أشكر إيران معه، فمنذ تطفلت الجمهورية الإسلامية على القضية الفلسطينية انصرف الفلسطينيون إلى الاقتتال الأهلي والتهام السلطة بدلا من محاربة المحتل أو التفاوض من أجل الدولة. إنني أشكر إيران حقا، فقد تخلى العرب عن الفلسطينيين بالفعل، حاولت السعودية المصالحة بين إخوة الدم في اتفاق مكة لكن عملاء إيران أجهضوه، ومصر لا تيأس ومحاولاتها من أجل توحيد الفلسطينيين بلا جدوى، والغريب أن إيران لم تسع ولو لمرة واحدة للمصالحة بين فتح وحماس، ومع ذلك نشكرها أيضا.
شاهدت خطاب السيد حسن، وأنا فعلا أشعر بالشفقة عليه، فمن كان يسمى بـ “صاحب الوعد الصادق” أصبح يلقب بـ “حسن زميرة”، و”سماحة السيد” انتهت إلى: “سماحة القاتل”، “سماحة الكاذب”، “سماحة الخائن”.
إن التعريف العلمي لجنون العظمة، هو حالة من الهذيان المستمر المرتبط بمعتقدات ثابتة فيدّعي الإنسان امتلاك قابليات استثنائية لا صلة لها بالواقع. تذكرت هذا التعريف وأنا أشاهد السيد يهاجم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ويتوعد المملكة ودول الخليج وحلفاءها، كان بودّي لو نبهه أحد إلى حجمه الطبيعي والحقيقي، فتلك دول راسخة أو زعامات محترمة بينما حسن نصرالله مجرد قناع لميليشيا إرهابية مجرمة وحزب عنصري شمولي، وهو وأتباعه من دون أموال إيران وسلاحها، لا حجم لهم ولا وزن، وبالتالي فإن قيمتهم الصافية لا شيء تماما.
كان لا بد من الحسم مع من لا يفهم سوى القوة، ولا يحترم عهودا ومواثيق، ولا يرى الحوار سوى غلالة رقيقة الغاية منها المناورة بهدف كسب الوقت.
لقد جعل الحوثيون، ومَن يحركهم من الخارج ويحالفهم ويتستر بهم في الداخل، من عبارة «مُخرجات الحوار الوطني»، نكتة سمجة.. عند كثرة من إخوتنا في اليمن، ومعظم المهتمين بالشأن اليمني على امتداد الوطن العربي الكبير.
وبمرور الوقت، ومع حرص دول مجلس التعاون الخليجي على إعطاء التسويات السلمية الفرصة تلو الفرصة، ولدى النظر إلى حالتي الانقسام والعجز العربي إزاء محنة سوريا، تولّد عند الحوثيين وأصحاب المخطط الإقليمي الذي يخدمه الحوثيون، صلفٌ فظيعٌ انعكس في تصريحات إيرانية لا يمكن أن تصدر عن ساسة عقلاء.
وكما هو معروف، تجلى هذا الصلف الإيراني بالتباهي صراحة بالهيمنة على أربع عواصم عربية، وتجوال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» علانية بين جبهات الأنبار ونينوى وصلاح الدين بغرب العراق وجبهات القتال السورية وكأنه في بيته وبين جنوده... ثم قول علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني، إن بغداد عادت عاصمة للإمبراطورية الإيرانية العائدة والمتمددة. وكان طبيعيا أن ينحدر هذا الصلف نزولا إلى أن يغدو جزءا من خُطب كل أتباع طهران وممارساتهم في كل الأقطار العربية الساقطة، أو المهددة بالسقوط، تحت هيمنتها.
في العراق، أخذت تتكشف ليس فقط حقيقة ممارسات «فيلق بدر» وقائده هادي العامري.. بل أيضا ممارسات «الحشد الشعبي» الذي يظهر الآن على حقيقته أي «ميليشيا مذهبية» لا تصلح في الظروف الراهنة نواة لـ«حرس وطني» يُعيد اللحمة الوطنية إلى العراق. وللعلم، إعادة اللحمة الوطنية هي الخطوة الضرورية لنهوض العراق وعودته وطنا سليما لجميع مكوناته، ومن ثَم، كسب الحرب على الإرهاب بعد إزالة مرارة الغبن والتهميش في جانب، وإنهاء الغطرسة والتبعية للخارج في الجانب المقابل.
وفي اليمن، غدت إطلالات عبد الملك الحوثي نسخا طبق الأصل لإطلالات السيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله» في لبنان شكلا ومضمونا. وتبَيّن تماما كيف طبّق الفريقان التابعان لمرجعية واحدة «السيناريو» نفسه، ولا سيما ادعاء الحرص على الحوار والتعايش، مقابل الاستقواء بالسلاح تحت ذريعة التصدّي لـ«التكفيريين»: «حزب الله»، و«القاعدة» (الحوثي)، وهي الذريعة المركزية في استراتيجية طهران في استدراج عروض التطبيع الإقليمي مع واشنطن. والملاحظ أن هذا «السيناريو» يطبّق بصورة مماثلة في الساحتين العراقية والسورية.
غير أن العنصر الذي عجّل باتخاذ قرار «عاصفة الحزم» هو انفضاح الدور الخطير للرئيس السابق علي عبد الله صالح المنخرط في لعبة تدمير كاملة لليمن تقوم على تحالفات تكتيكية وتبادل منافع ولو على حساب وحدة البلاد واستعادة استقرارها. وهنا كان الهجوم على تعز، بالذات، مؤشرا خطيرا للغاية، ناهيك من القصف الجوي لمقر الرئيس عبد ربه منصور هادي في مدينة عدن والزحف على لحج والضالع والسيطرة على قاعدة العند القريبة من عدن. ولقد زاد من خطورة «انقلاب» صالح تلاقيه – ولو بصورة غير مباشرة – مع «استثمارات» طهران المُزمنة في قوى جنوبية عائلية تقليدية وحزبية راديكالية.. مما وفّر للتحالف التكتيكي بين الحوثيين وصالح امتدادا مفيدا و«قنبلة موقوتة» في الجنوب، كان من الممكن تفجيرها فيما لو سقطت عدن وشبوة.
في ضوء هذا الواقع، كان من شأن السماح بإسقاط الرئيس هادي، الرئيس الشرعي الضامن لتطبيق «المبادرة الخليجية» المدعومة دوليا، والسكوت عن قيام كيان إيراني الولاء يسيطر على عدن ومضيق باب المندب وجزيرة سقطرى، إحداث تغيير استراتيجي ضخم في جنوب شبه الجزيرة العربية له تداعيات مستقبلية غير مسبوقة وغير محسوبة.
وهكذا، لم يترك «التحالف» بين عسكريي علي عبد الله صالح ومشروع التوسّع الإيراني – ممثّلا بالحوثيين ومتذرّعا بمواجهة «القاعدة» – أي خيارات للأسرة الخليجية، بل كل عربي يقف مذهولا إزاء تدهور أوضاع المنطقة، سوى التحرّك بسرعة وحزم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
الموقف الإيراني الفوري كان متوقعا يلخَّص باستنكار «التدخل»، والحرص على «سيادة» اليمن، والدعوة إلى «الحوار»، ومكافحة «التطرف».
متوقع، لأنه يكرّر «لازمة» طهران المألوفة لتبرير تدخلها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بل والبحرين وكل مكان تصل إليه. والطريف أنها لا ترى أن «تدخلها» الحربي المباشر عبر ظهور سليماني العلني، ومشاركة الفصائل التابعة له في معارك سوريا والعراق، يلغيان «السيادة» المتباكى عليها. أما عن دعوات طهران للعودة إلى «الحوار» ومكافحة «التطرّف»، فإن مواطني المنطقة يعرفون جيدا هوية الجهات التي رفضت الحوار في العراق وسوريا، وأيضا في لبنان واليمن، وما زالت ترفضه.
وهم يعرفون كذلك أي سياسة طائفية تمييزية تهميشية أسهمت في نشوء بيئات يائسة تسلل إليها التطرّف الإرهابي، بل ومَن شجّع هذا التسلل، وفي أحيان كثيرة مَن رعاه وأمدّه بأسباب الحياة، لكي يستثمره لاحقا بابتزاز العالم بتطرفه وفظائعه.. وعند حكومة نوري المالكي وأجهزة نظام بشار الأسد الخبر اليقين.
عود على بدء..
بالأمس اتخذ القرار الشجاع بإنقاذ اليمن من المصير المظلم الذي كان يُقاد إليه. وهو خطوة لا بد منها لإعادة وضع قطار الحوار الحقيقي – لا حوار استسلامي أمام فوهات البنادق – على السكة الصحيحة. وهو أيضا خطوة يتوجّب على المجتمع الدولي دعمها بقوة لكي تتوقّف مسيرة الهيمنة العرقية والطائفية الإقليمية المتسبّبة بإنتاج التطرّف واستيلاد الإرهاب.
لقد دفعت منطقة المشرق العربي ثمنا باهظا من أمنها وكرامتها القومية والوطنية، ثمنا لاسترضاء إيران وإقناعها بالتفاهم على ملفها النووي، واستغلال حكام طهران محاولات الاسترضاء لفرض حقائق احتلالية - تفجيرية على الأرض فوق أنقاض التعايش والتسامح والتفاهم بين مختلف شعوبها.
آن الأوان لإدراك أهمية التعامل مع ملفات المنطقة الشائكة بصورة مختلفة، فالإرهاب والتطرّف اللذان يشغلان المجتمع لا يواجهان إلا ضمن استراتيجية سياسية أمنية مكتملة، وجاء أول الغيث من «عاصفة الحزم».
يتحدثون، في لغتنا العامية، عن "خيار وفقوس"، عندما يستنكرون التعامل التمييزي بين بشر يجب أن يكونوا متساوين في حقوقهم وواجباتهم.
يمارس الأميركيون سياسة الخيار والفقوس التمييزية في الصراع ضد "داعش"، فيذهب الغُنم إلى قوات البيشمركه في صورة إشادة بجهودها في الحرب ضد التنظيم الإرهابي، والغُرم إلى الجيش السوري الحر الذي يتم تجاهل إنجازاته الكبيرة جداً، ولا يقارن بها أي شيء آخر، في محاربة الإرهاب التي كان قد بدأها بمفرده، أواسط العام الماضي، وطرد "داعش" خلالها من قرابة 80% من الأراضي التي كانت تحتلها بين الرقة والساحل السوري، من دون أن يتلقى أي دعم جوي من أي طرف، وأية مساندة بالسلاح والأموال، أو أن يرافقه آلاف الخبراء الأميركيين، ومئات الجنرالات الإيرانيين وعشرات آلاف الجنود ومقاتلي المليشيات، المزودين بأحدث الأسلحة، وأكثر أجهزة الاتصال والسيطرة تطوراً في العالم.
اللهم لا اعتراض. لكن واشنطن بادرت، منذ اليوم الأول إلى إدخال القوات الكردية في التحالف، واعتمدتها جيشاً برياً زودته بالأسلحة والخبرات اللازمة لاستخدامها في أرض المعركة. وأعلنت القوات الكردية حليفاً لا تجوز هزيمته، لذلك، شن طيرانها غارات مكثفة على التنظيم الإرهابي ورده عن مشارف أربيل، في حين وضع جنرالاتها خططاً نفذها جيش الكرد، بعد تجميع وحداته المشتتة وإعادة هيكلتها، وأشرفوا على معاركها التي تمت جميعها تحت غطاء جوي، مكنها من مقاتلة الإرهابيين بنجاح نسبي. لم يترك سلاح الجو الأميركي والحليف موقعة من مواقع القتال، إلا وقدم فيها دعماً نارياً كاسحاً لحليفه الكردي، حتى ليصح القول إن العبء الأكبر من محاربة التنظيم تحمله طيران أميركا، الذي فتح الطرق أمام القوات الكردية ونظف الأرض من "داعش"، وجعلها تكسب معاركها بحد أدنى من القتال.
في المقابل، تبحث أميركا عن معتدلين سوريين، كي تدربهم، فلا تجد إلا أعدادا قليلة جداً منهم في المخيمات، ولا تعتبر الجيش الحر حليفاً يستحق دعماً جوياً أو برياً، ومن غير الجائز قطع الإمداد والدعم عنه، لأنه كان سباقاً إلى خوض معارك ناجحة ضد "داعش"، استمرت أشهرا عديدة، بعد أن خصه التنظيم بإرهابه، طوال عام ونيف، وقتل آلافاً من قادته ومنتسبيه ومناصريه، وطرده من معظم المناطق التي كان قد حررها شمالي سورية ووسطها، وأجبره على خوض حرب غير متكافئة على جبهتين: جبهته وجبهة النظام، واتبع، في قتاله، أساليب أدت إلى اختراق واحتلال بعض مكوناته من الداخل، وإفراغها من مقاتليها والاستيلاء على أسلحتها، بالتخويف والإفساد المادي والايديولوجي تارة، وقطع الرؤوس والذبح غالباً. في هذه الفترة التي امتدت قرابة عام ونصف عام، لم تلاحظ أميركا وجود معركة بين الجيش الحر و"داعش"، ولم ترغب في مد يد العون إلى من كانوا يخوضونها من المعتدلين، ولم تشن غارات لدعمهم وتمنع طيران النظام من قصفهم، ولم تلق إليهم بالسلاح من الجو، كما فعلت في عين العرب التي كان التنظيم الارهابي يحتل معظمها، بل زادت في الطنبور نغماً عندما بدأت تحتسب التطرف على الثورة، وتعتبره جزءاً منها، أو تتهمها بالتقصير في قتاله وبالانحياز إليه.
في نهاية المطاف، تذرع البيت الأبيض بالخوف من وقوع بعض أسلحته في يد الإرهابيين، كي يوقف دعمه "المعتدلين"، بدل أن يزيده، كي يمكنهم من استكمال معركته ضد الإرهاب وقصم ظهره كعدو مشترك قيد الجيش الحر انتشاره في شمال سورية، وكبح تمدده إلى وسطها وجنوبها. خيار وفقوس، بممارسات ونتائج يثير ظاهرها أخطر الشكوك، وباطنها أعظم المخاوف.
بعد يوم كامل على تحرير مدينة ادلب على يد جيش الفتح ، لم يستطع نظام الأسد امتصاص الصدمة إلا من خلال التوّعد بأن ما حدث ما هو إلا كبوة و سيعاود احتلال ادلب من جديد ، مستخدماً أساطيره الخادعة تجعل من مناصريه يدخلون مرحلة الانتظار المعتاد و ينسون الانكسار الكبير الذي حصل.
الآن تدور الأحاديث عن إيلاء مهمة إعادة الاحتلال لـ"سهيل الحسن" الذي يعرف بالنمر، أو أن صح التعبير بالجوكر الذي يظهر وراء كل انتصار، كخطة لصناعة اسطورة، مع أحاديث عن إمكانية استخدام كل ما هو متاح لتنفيذ هذه الغاية و الكلور طبعاً خياراً طبيعياً.
لكن هل ستنجح هذه اللعبة في ادلب ..؟
الغريب اليوم هو التركيز على العودة لاحتلال إدلب بعد تحريرها يأخذ حيزاً من اعلام الأسد ومواليه.
فإدلب تعني الكثير جغرافياً واستراتيجياً، والأهم الأفكار التي يحملها جيش الفتح تختلف تماماً عن التجارب السابقة، من حيث الإدارة وكيفية تسير أمور المواطنين و الخدمات و القضاء و الأمن، الأمر الذي يجعل من تحرير إدلب حالة مشجعة و دافعة لمزيد من التقدم اذا ما كتب لها النجاح.
وجيش الفتح كما نعلم ليس حالة مؤقتة تنتهي بانتهاء المهمة التي شُكل لأجلها، بل إن الأمور والمعطيات والتصريحات تؤكد أن حالة مستمرة، أو كما شبهه عبد الله المحيسني بـ"الزلزال المستمر"، الزلزال الذي يسير وفق خطة مدروسة بشكل جيد.
ومن باب التطمين بالنسبة لعمليات النظام اتجاه ادلب لا أظن أنها تتجاوز حد التصريحات و الوعود كذر الرماد والتخفيف من حجم الخسارة لا أكثر، فلدى جيش الفتح خطط و وسائل ضغط قد تجعل من اقدام النظام على أي تصرف مجنون أو مضر بالمدنيين هو بمثابة انتحار و قتل موالين له في "كفريا و الفرعة"، و إن أردنا التخصيص أكثر هو كسر لإيران التي ادعت و تدعي أنها تحارب في سوريا حمايةً للمراقد الشيعية و الشيعة من الهجمة "التكفيرية"، و هذا الأمر كان مُدرك تماماً من قبل قيادة "الفتح" التي عمدت على حصار القريتين حصاراً تاماً دون اقتحامهما.
هذا كلها من جهة و من جهة أخرى هو أن جيش الفتح مازال يخوض المعارك و يكمل المشوار في طريق تحرير أراضي إدلب من رجس الأسد و ميلشياته وخصوصاً في المسطومة و القرميد، و قائمة الخطط التي يحملها هي طويلة و طويلة جداً.
لذا فالجواب الأفضل " ادلب بـ"جيش الفتح" .. لا يهددها "نمر من ورق".
مثلما خرج النظام من لبنان، سيخرج من سوريا، لا لشيء سوى لأنّه لم يتصور يوما أن الجريمة ستكشف.
معروف أنّ الرئيس فواد السنيورة كان صديقا للرئيس الشهيد رفيق الحريري. هناك علاقة عمر بينهما عائدة إلى أنّهما من صيدا وأنّهما يعرفان يعضهما بعضا منذ الصغر، إضافة إلى أنهما تشاركا في الانتماء إلى حركة القوميين العرب في مرحلة معيّنة.
الأهمّ من ذلك كله أن السنيورة، مع الوزير السابق باسم السبع والنائب الحالي غازي يوسف، وهما من المقربين من رفيق الحريري أيضا، رسموا، من خلال معرفتهم بالرئيس الشهيد، الإطار الذي اغتيل فيه الرجل مع رفاقه، قبل عشر سنوات، في الرابع عشر من فبراير 2005 والظروف التي رافقت الجريمة.
من خلال متابعة التطورات، بما في ذلك ملء إيران للفراغ الأمني الذي خلّفه الانسحاب العسكري السوري من لبنان نتيجة اغتيال رفيق الحريري، كشفت الشهادات التي أدلى بها فؤاد السنيورة وباسم السبع وغازي يوسف، وقبلهم مروان حمادة، أمام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تفاصيل دقيقة تتعلّق بالمرحلة التي مهّدت لعملية الاغتيال.
لم يكشف الأربعة العلاقة بين النظام السوري والاغتيال، أو على الأصحّ العلاقة بين “ولد” اسمه بشّار الأسد والجريمة فحسب، بل كشفوا أيضا حقيقة النظام السوري والخطر الذي شكلّه على سوريا والسوريين قبل لبنان واللبنانيين.
وعبارتا “ولد سيحكم سوريا” و”الله يساعدنا” وردتا في الشهادة القيّمة لباسم السبع، وذلك نقلا عن رفيق الحريري، بعد اللقاء الأوّل الذي عقده رئيس الوزراء اللبناني وقتذاك مع بشّار الأسد الذي كان يعدّ نفسه لخلافة والده الذي توفّي في العام 2000.
ما يربط بين شهادات الشخصيات اللبنانية الأربع، إضافة إلى شهادات لشخصيات أخرى مثلت أمام المحكمة الدولية التي تشكّلت بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، هو إصرار النظام السوري على تعطيل أيّ تقدّم في لبنان. لم يكن من همّ لدى النظام السوري سوى الاستثمار في عملية العرقلة، كي لا يتمكّن لبنان من استعادة عافيته.
لم تكشف المحاكمة التي تجري في لاهاي الظروف التي مهّدت لاغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما والسياق الذي وقعت فيه الجريمة فقط. كشفت خصوصا طبيعة النظام السوري وتكوينه والأسباب التي أدّت إلى وصوله إلى ما وصل إليه الآن. النظام انتهى ولم يعد أمامه سوى تسليم كلّ سوريا لإيران في مقابل عدم تحرير دمشق..
تساهم المحاكمة في فهم أمور كثيرة، خصوصا لدى من يحاول فهم عقلية النظام الذي دمّر سوريا كلّيا بعدما فشل إلى حدّ ما في تدمير لبنان. من بين هذه الأمور لماذا “انتحر” غازي كنعان ولماذا فُجّر آصف شوكت مع آخرين ولماذا “استشهد” جامع جامع ولماذا انتهى رستم غزالي بالطريقة التي انتهى بها في ظلّ إشاعات متناقضة لا هدف لها سوى تغطية الجانب الأهمّ في القضية المرتبطة بضابط فاسد، من سقط المتاع، كان ينفّذ أوامر بشّار الأسد في لبنان.
نظام الأسد انتهى ولم يعد أمامه سوى تسليم كل سوريا لإيران في مقابل عدم تحرير دمشق…
يتمثّل الجانب الأهمّ في موضوع رستم غزالي، في نهاية المطاف، في الانتهاء من رجل يعرف الكثير عن لبنان من جهة وكيفية اكتمال السيطرة الإيرانية على سوريا، خصوصا على دمشق ومحيطها والمنطقة المحاذية لخط وقف النار مع إسرائيل من جهة أخرى.
بعد الذي رواه الشهود بالتفاصيل أمام المحكمة، وبعد نقل فؤاد السنيورة عن الرئيس رفيق الحريري قوله له في السيارة التي كان يقودها “أبو بهاء” أنه كُشفت محاولات عدّة لاغتياله “خطّط لها حزب الله”، بدأت تكتمل الصورة لبنانيا وسوريا. بدأ يتكشّف الخوف لدى النظام من أي نجاح يتحقّق في لبنان. لذلك كان لا بدّ من التخلّص من رفيق الحريري الذي يظلّ في النهاية رمزا للنجاح. هل كان مطلوبا أن يبقى شبح الموت والدمار مخيّما على بيروت كي يبقى رفيق الحريري حيّا؟
لم تعد المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مجرّد محكمة تستهدف كشف الحقيقة تمهيدا للاقتصاص من القتلة. فمن خلال شهادات الشهود، بدأت ترتسم صورة كاملة لنظام عمل منذ ما يزيد على خمسة وأربعين عاما على تخريب لبنان ونشر البؤس فيه وإرهاب السوريين. إنّه نظام لم يؤمن يوما سوى بمقولة واحدة هي أن الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على إسرائيل. فمنذ كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع بين 1966 و1970، لم يكن لديه من همّ سوى إغراق لبنان بالسلاح. أراد دائما الانتقام من لبنان كي لا تنتقل عدوى قصة النجاح اللبناني إلى سوريا والسوريين.
لا توجد جريمة أكبر من جريمة دفع الفلسطينيين إلى حمل السلاح في لبنان وخوضهم حروبا مع المسيحيين أوّلا. لا توجد جريمة أكبر من جعل “جيش التحرير الفلسطيني”، بألويته الموالية للنظام السوري، يرابط على طول ما كان يسمّى “الخط الأخضر” الفاصل بين المسيحيين والمسلمين في وسط بيروت المدمّر.
يخشى النظام من أيّ نجاح لبناني، كما يخشى من أيّ نجاح سوري. مطلوب في كلّ وقت نشر البؤس في لبنان كي لا تنتقل عدوى الازدهار إلى سوريا. فالازدهار يعني مطالبة المواطن بالمزيد، خصوصا بالحد الأدنى من الحياة الكريمة والكرامة والمزيد من الحرّية والاحترام. كان همّ حافظ الأسد، وبعده بشّار الأسد، منصبّا على إفقار المواطن وتيئيسه وتذكيره بأنّ تمرّده سيعني بالنسبة إليه العيش في بلد تسوده شريعة الغاب، كما كانت عليه الحال في لبنان بين العامين 1975 و1990 من القرن الماضي.
تمرّد اللبنانيون فدفعوا الثمن غاليا. اغتيل رفيق الحريري. لم يدر النظام السوري أن الجريمة سترتد عليه، تماما كما ارتدّت جريمة غزو الكويت على صدّام حسين. لم يدرك يوما بشّار الأسد أن ثمن دم رفيق الحريري سيكون في هذا الحجم. لم يدرك أوّلا أنّه سيخرج من لبنان. لم يدرك أنّه سيتحّول شيئا فشيئا إلى تابع لإيران.. في لبنان أوّلا وفي سوريا لاحقا. مثلما خرج النظام من لبنان، سيخرج من سوريا، لا لشيء سوى لأنّه لم يتصوّر يوما أن الجريمة ستُكشف وأنّها ليست مجرّد “رذالة” على حد تعبير إميل لحود الذي اعتقد أنّ رفيق الحريري ذهب ضحيّة حادث سير.
هل يخرج بشّار الأسد من سوريا لتحلّ مكانه إيران؟ هل هذا ممكن؟ هل هذا منطقي؟ هذا هو السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا في ظلّ استمرار الثورة السورية وجلسات المحكمة الدولية..
سحين يفتح القادة العرب، في شرم الشيخ اليوم، خريطة العالم الذي ينتمون إليه ستفوح رائحة الدم. الدم السوري. والعراقي. واليمني. والليبي. والصومالي. فضلاً عن دم القضية المركزية أو التي كانت تحظى بهذا الوصف.
وإذا أمعنوا النظر استقبلتهم الأهوال. خرائط ممزقة. وشعوب تائهة. ودول مفككة. وحدود منتهكة. وجيوش متهالكة. وأسراب من الظلاميين. وميليشيات عابرة للحدود. وسكاكين مذهبية. وحدها مصانع الجثث والأرامل والأيتام تعمل بكامل طاقتها. لم يعد حديث «الربيع» مطروحاً لا من الخائفين منه ولا من الخائفين عليه. القصة أكبر وأخطر.
وحين تضرب رياح الظلم والظلام مواقع أساسية في الجسد العربي وتوقع المنطقة بأسرها في دوامة الخوف أو التشدد لا يفاجأ المراقب بما حل بالعرب. خسروا دور اللاعب وتحولت ديارهم ملاعب. ضرب الإعصار استقرارهم. واستنزف اقتصاداتهم. وها هم شعوب كاملة من اللاجئين والعاطلين من العمل واليائسين.
الدول المجاورة ليست جمعيات خيرية. تزداد الصعوبة حين تكون هذه الدول وافدة من ركام امبراطوريات. ومن ذاكرة مجروحة تهجس باستعادة مجد ضاع. والفراغ يستدرج الجيران ويشجعهم على ارتكاب التدخلات ومحاولات تغيير الموازين والملامح.
ليس كثيراً أن يطالب العربي العادي قمة شرم الشيخ أن تكون قمة الهجوم المضاد. قمة تبدأ بوقف الانحدار العربي وتنطلق لاستعادة أبسط حقوق العرب في الإقليم. حقهم في الإمساك بمصيرهم. ووضع اليد على ملفاتهم. وحقهم في استرجاع استقرارهم. واسترداد الشعوب من الحروب الأهلية والمغامرات المكلفة وردع المتعصبين والذباحين الذين خرجوا من كهوفهم لاقتياد الأمة إليها.
ليس كثيراً أن يطالب العربي القلق بإيقاظ العروبة التي سقطت تحت ضربات التعصب والتربص وتسديد الحسابات القديمة. إيقاظ عروبة حضارية تسمح بالاختلاف والاعتراف المتبادل والإنصاف وتعيد اجتذاب من سرقتهم عقدة الهويات المسورة بالدم. عروبة تتسع للأعراق والأديان والمذاهب. تتسع للأكثريات والأقليات تحت سقف الدولة والمؤسسات.
قتلنا سقوط العروبة. أعادنا جزراً متكارهة ومكونات متحاربة ومناطق متربصة. ثوب العروبة أكثر رحمة من الملابس الضيقة المحروسة بالخطافات والخناجر. عروبة حضارية ومتسامحة. ودول طبيعية يذهب فيها الأولاد إلى المدارس لا إلى ثكن الميليشيات.
إنه حق العرب في أن يكونوا أمة حرة وطبيعية. وأن يدافعوا عن وجودهم ومصالحهم. وأن يتعايشوا مع الآخرين ويتاجروا معهم. وأن تكون الحدود فرص تعاون وتبادل لا كمائن للتسلل وفرصاً للاشتباك. لهذا ليس المطلوب استحضار جروح التاريخ وفواتيره. ليس مطلوباً إيقاظ العروبة لا ضد الفرس ولا ضد العثمانيين. المطلوب إيقاظها من أجل أن يكون للعرب في هذا الشرق الأوسط الرهيب بيت يعيشون فيه حاضرهم ويبنون مستقبلهم.
انطلاقاً من عروبة من هذا النوع يمكن أن يبدأ الهجوم المضاد. استجماع طاقات الدول العربية الأساسية والانطلاق لتوظيف الثقل هذا في وقف المذابح العربية وعلى قاعدة البحث عن حلول سياسية واقعية. لن يشعر العالم العربي بالاستقرار ما دامت النار مندلعة داخل ضلوعه. إن مهمة إخماد النار ملحة حتى ولو استلزمت أحياناً بفعل موازين القوى تجرّع كاسات من السم أو قطرات منه.
ليس صحيحاً أن العالم العربي سقط إلى غير رجعة. وأن دوله الأساسية مشلولة أو مكبلة. وأنه لم يعد قادراً على التذكير بمستلزمات أمنه القومي وحقوقه ودوره. والدليل أن تطورات اليمن وباب المندب أدت إلى قيام تحالف مؤثر أطلق عملية «عاصفة الحزم» وهي عاصفة لم يتوقع كثيرون إمكان هبوبها. وبكلام أوضح شكل التحالف الجديد، المنطلق من تحالف سعودي-مصري، أول محاولة عربية جدية لتعويض غياب الدورين العراقي والسوري معاً. الملفت مسارعة أردوغان إلى تأييد العاصفة واتهام إيران بمحاولة الهيمنة على المنطقة.
لا شك أن ولادة نواة عربية مؤثرة ستمكن العرب من التحدث إلى القوى الإقليمية والدولية من موقع آخر. ستعطيهم أيضاً حق التقدم لمعالجة الملفات العربية الساخنة أو على الأقل حق الحضور في هذه المعالجات. إن إعادة بناء الدور العربي على قواعد منطقية ستعيد اجتذاب من اجتذبتهم خيارات أخرى في مرحلة غيبوبة الدور العربي. شرط نجاح الهجوم المضاد هو امتلاك رؤية واقعية للأمن والاستقرار والأدوار والعلاقات داخل الإقليم وخارجه. وحين يسترجع العرب قدرتهم على تقديم أنفسهم لاعباً مقنعاً على أرض المنطقة ستتراجع شهية الآخرين في تسجيل الاختراقات داخل الملعب العربي.
الملاحظ أن وكلاء إيران الإقليميين، من النظام السوري إلى نوري المالكي وحزب الله، رفعوا التهديدات لأنهم يخشون بدء انتكاسة المشروع الإيراني الإقليمي.
“ الحزم أبو العزم أبو الظفرات والترك (أي المغادرة أو التخلي) أبو الفرك أبو الحسرات". إنها مقولة للملك عبدالعزيز مؤسس المملكة العربية السعودية، ولهذا جرى إطلاق اسم “عاصفة الحزم” على عملية التحالف العشري في اليمن استنادا إلى بيت من الشعر يجمع الحكمة والتصميم، واعتمدها الملك سلمان، استلهاما من الملك المؤسس، كي يحمي الأمن الوطني السعودي والعربي المهدد من الانهيار اليمني، واستخدام اليمن كرأس حربة لتطويق السعودية وتكريس غلبة المشروع الإمبراطوري الإيراني.
منذ سقوط صنعاء بيد الحوثيين (أنصار الله) في سبتمبر 2014 وإسقاط المبادرة الخليجية، دخل اليمن في منعطف جديد ورفض الجانب الحوثي أي حل سياسي واقعي ومتوازن مع الإصرار على استكمال الانقلاب والإمساك بمفاصل الدولة، وأدى التحالف التكتيكي مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي جعل من الانتقام لترحيله عن السلطة منهج عمل لتخريب كل العملية السياسية. ولم يكن كل هذا التحول ليحصل لولا التورط الإيراني كما يدلل على ذلك تصريح علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الإيراني الأسبق، وأبرز مستشاري المرشد الأعلى عن “امتداد نفوذ إيران من اليمن إلى لبنان” وعن “دعم إيران حركة الحوثيين، إحدى الحركات الناجحة للصحوة الإسلامية”.
ومن المفارقات أن يأتي اجتياح صنعاء بعد أيام على اعتبار الرئيس باراك أوباما لليمن كمثل ونموذج في مكافحة الإرهاب. وللتذكير فإنه منذ العام 2000، وجه تنظيم القاعدة أول ضربة ضد مدمرة أميركية في خليج عدن. بينما اعتمدت واشنطن ضربات الطائرات دون طيار من أجل إزالة رموز القاعدة (من الحارثي في 2002 إلى العولقي في 2011) ولذا بالرغم من شعار الحوثي الدعائي “الموت لأميركا والموت لإسرائيل”، اعتبرت واشنطن أن القاعدة في شبه الجزيرة العربية عدوها الأول وتغاضت بذلك عن التوسع الحوثي المدعوم إيرانيا.
إزاء هذا الواقع تعنت الحوثيون ورفضوا العودة إلى طاولة الحوار في الرياض أو الدوحة، وأصروا على أن تنعقد في صنعاء تحت أسنة الرماح. وزيادة على ذلك استمرت الاندفاعة الحوثية، بالتعاون مع القوات الموالية للرئيس السابق، في قضم المناطق وقصف القصر الرئاسي في عدن، والسعي لإزالة رمز الشرعية الرئيس عبدربه منصورهادي. وهنا بعد فشل المطالبات الدولية والإقليمية، وكذلك بعد عدم الإنصات للتحذير السعودي المباشر من السعي لاحتلال عدن، والذي وجهه علنا عميد الدبلوماسية السعودية والعربية الأمير سعود الفيصل، وبعد المكالمة الهاتفية، التي تضمنت إنذارا، بين وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان واللواء السابق أحمد علي صالح نجل الرئيس السابق، تسارعت الأحداث وصدر قرار الحزم وانطلقت العشرات من المقاتلات السعودية لضرب أهدافها المرسومة بدقة، وتعطلت قدرات الحوثيين والقوات الموالية لهم وأخذت المعادلة تنقلب في اليمن بعد أن كادت القوات المعتدية تسيطر على عدن.
في ليل الأربعاء – الخميس 25 – 26 مارس شكل عنصر المفاجأة وانتزاع المبادرة عاملين يحفزان النجاح، وكان للتحالف المرتكز على دول خليجية وعربية ودعم باكستاني وتركي، نقلة نوعية نحو بلورة مشهد إقليمي جديد وتصحيح الخلل في موازين القوى.
كانت الرياض مركز الثقل في حرب تحرير الكويت وتكوين أكبر تحالف دولي، وعندما داهم الخطر البحرين تحركت قوات درع الجزيرة دون انتظار ضوء أخضر أميركي، وهذا الأسبوع أثبتت الرياض أنها لا تتهاون في مس أمنها القومي ومحيطها الجيوسياسي المباشر. وبدت القوة الوحيدة المؤهلة في تجميع قوى عربية وإسلامية وازنة مثل تركيا وباكستان ومصر في آن معا.
ليست عملية “عاصفة الحزم” في اليمن من الرهانات السهلة نظرا لتعقيد الوضع اليمني وتشابكاته الإقليمية، لكنها مؤشر واضح لقدرة القوى العربية على الانتقال إلى دائرة الفعل وعدم التسليم بالتمدّد الإيراني على حساب المصالح العربية العليا واستقرار الدول العربية. وتمثل هذه العملية رسالة إلى واشنطن، المترددة، وإلى القوى العالمية الأخرى مفادها أن الصفقة النووية المنتظرة أو الترتيب الأميركي – الإيراني لن تهمش الوزن العربي في الإقليم.
ستتوقف تتمة الأحداث على قبول الحوثيين أو عدم قبولهم إزالة مفاعيل انقلابهم، وكذلك على ردة فعل طهران التي برعت في الحروب بالواسطة على حساب العرب والدول العربية وعلى الأراضي العربية، والملاحظ أن وكلاء إيران الإقليميين، من النظام السوري إلى نوري المالكي وحزب الله في لبنان، رفعوا الصوت والتهديدات لأنهم يخشون انعكاسات التحالف الجديد وبدء انتكاسة المشروع الإيراني الإقليمي.
والأرجح أن تدخل اليمن في مرحلة تغيير تدريجي لميزان القوى يحجم السيطرة الحوثية. لكن احتمال نقل المعركة إلى الحدود السعودية – اليمنية يمكن أن يجر المنطقة إلى مواجهة إقليمية حادة. ومن المنطقي الاعتقاد أن مصالح واشنطن والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي تتقاطع في منع الانفجار الواسع في منطقة مضيق هرمز وباب المندب، وأن زمن التسويات يمكن أن يأتي بعد تعديل ميزان القوى.