في تحول مفاجئ مثير للريبة، زعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا أنه قلق بشأن مصير ملايين اللاجئين الذين فروا من المذبحة في سوريا. وفي اجتماع عقد مؤخراً مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أعرب بوتين عن أمله في أن يساعد الاتحاد الأوروبي في إعادة بناء سوريا حتى يتمكن النازحون من العودة إلى ديارهم. وفي الأسابيع الأخيرة، حمل الدبلوماسيون الروس نفس الرسالة عبر العواصم الأوروبية.
من المؤكد أنه بعد أن استعاد نظام بشار الأسد معظم أراضي البلاد، بدأت الحرب الأهلية في سوريا تنحسر. لكن هذه النتيجة ليست حتمية. على العكس، كان الجيش السوري قريبًا جدًا من الانهيار في وقتٍ سابق. فقط بمساعدة حاسمة من الميليشيات المدعومة إيرانيا والدعم الجوي الروسي تمكن الأسد من قلب الأمور.
في هذه الأثناء، لم تحقق الجهود الأمريكية لإنشاء معارضة مسلحة "معتدلة" سوى القليل، باستثناء قيام وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، فرع من حزب العمال الكردستاني (PKK) - بالسيطرة على قطاع شمال سوريا المتاخم للحدود التركية. الشيء الوحيد المتبقي الآن هو تدمير جيب جبهة النصرة المتبقي في إدلب والتوسط في نوع من التسوية بين وحدات حماية الشعب والأسد.
لقد نجا الأسد بتكلفة باهظة. ونزح أكثر من نصف السكان السوريين داخلياً أو أجبروا على الفرار إلى البلدان المجاورة أو إلى أوروبا. جزء كبير من البنية التحتية السورية - من المجمعات السكنية إلى المستشفيات - يكمن في الأنقاض. وغني عن القول إن اقتصاد البلد قد تم تدميره، بسبب الآثار المباشرة للصراع والعقوبات التي فرضت كجزء من الجهود الفاشلة لإجبار الأسد على التوصل إلى تسوية سياسية.
لم يعان أي بلد آخر في نصف القرن الماضي من خسائر فادحة في الأرواح البشرية والدمار المادي. لا شك أن المسؤولية عن هذه المأساة تقع على عاتق نظام الأسد ومن يؤيده من الروس والإيرانيين. وبالطبع سيقولون إنهم يحاربون الإرهاب، كما لو كان ذلك يعفيهم من أساليبهم العشوائية والاستهتار المتهور بأرواح المدنيين. لكن الأجيال القادمة سوف تتذكر المصدر الحقيقي للإرهاب الذي تم فرضه على المشرق خلال السنوات السبع الماضية.
التكلفة المقدرة لإعادة بناء سوريا تختلف على نطاق واسع. في حين وضعت دراسة للبنك الدولي في عام 2017 مقدار 225 مليار دولار، تشير التقييمات الأخيرة إلى إجمالي ما يقرب من 400 مليار دولار. ويتوقع آخرون أن يصل المبلغ إلى تريليون دولار. وذلك دون احتساب التكاليف البشرية للحرب.
من الواضح من هجوم بوتين الأوروبي الساحر أن روسيا لا تنوي تحمل أي جزء صغير من الفاتورة. على ما يبدو، لا يشعر الكرملين وكأنه واجب عليه إعادة بناء المدن واستعادة سبل العيش التي دمرتها قنابلها.
كما أن الولايات المتحدة غير متحمسة بشكل خاص للمساعدة. في الأسبوع الماضي، ألغت إدارة ترامب 230 مليون دولار لتمويل إعادة إعمار الرقة ومناطق أخرى محررة من داعش. وتأمل الآن أن تدفع السعودية الفاتورة بدلاً من ذلك. يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الخطوة حكيمة.
مع تراجع الولايات المتحدة، من الواضح لماذا يريد بوتين فجأة التحدث إلى الأوروبيين حول محنة اللاجئين السوريين. لم يهتم بهم عندما كانت قنابله تسقط على أحيائهم مجبرة إياهم على الفرار. لكنه الآن يريد أن تنقذ أوروبا الأسد، وقد يجد بعض التعاطف.
لكن ليس من الواضح أن الأسد يريد حتى عودة النازحين السوريين. إذا كان هناك أي شيء، يبدو أنه مستعد لاستغلال الوضع لإعادة تشكيل التركيبة العرقية والسياسية للبلد، مما سيجعلها أكثر أمانا لطائفة الأقلية الخاصة به، العلويين. ومن ثم، يمنح قانون جديد اللاجئين سنة واحدة فقط لاستعادة ممتلكاتهم قبل أن تضبطها الحكومة؛ ويبدو أن المتطلبات البيروقراطية الأخرى مصممة للسماح للسلطات السورية برفض الدخول إلى أي شخص لا يعجبهم.
علاوة على ذلك، فقد صرح الأسد صراحة أن الشركات الأوروبية غير مرحب بها للمساعدة في إعادة الإعمار، وأنه ينبغي إعطاء الأفضلية للشركات الروسية. من الواضح أن النظام يستعد للاستفادة من أي مساعدة لإعادة البناء تأتي في طريقه. لكل هذه الأسباب، فإن آخر ما ينبغي على الأوروبيين فعله هو إرسال الأموال مباشرة إلى الأسد. الخيار أفضل بكثير هو تقديم الدعم المالي المباشر للأفراد والأسر المستعدة والقادرة على العودة إلى بلدهم.
في الوقت نفسه، لا ينبغي للاتحاد الأوروبي رفع العقوبات حتى يتم التوصل إلى تسوية سياسية ذات مصداقية بين النظام وقوات المعارضة. السؤال المطروح هو هل هذه التسوية ممكنة. حتى الآن، تم إفشال كل اقتراح واقعي من خلال إصرار الأسد على بقائه في السلطة.
من الجيد أن يتذكر الأسد أنه الآن يحكم على حطام بلده. حتى عندما تسكت المدافع، ولن يكون نظامه آمنًا. إن عدم قدرته على إحياء وإعادة بناء سوريا سيتركه عرضة للخطر بنفس الطريقة التي رفض من خلالها إجراء الإصلاحات السياسية قبل ثماني سنوات. ليس لأوروبا مصلحة في إنقاذ الأسد من هذه الورطة. لمساعدة سوريا ينبغي إيجاد حل سياسي حقيقي. بعد الدمار الذي أحدثه نظام الأسد، لا يوجد طريق آخر إلى الأمام.
يوزّع بشار الأسد هداياه الاستثمارية الجزيلة بكرم سخي على أصدقائه هنا وهناك، فلروسيا يعطي استثمار بناء الشقق والفنادق الفخمة، ويمنح إيران مشاريع البنية التحتية، شبكات الكهرباء والطرق والجسور، أما الصين فلها حصة بناء (وصيانة) المرافق الكبرى من مطارات ومدن رياضية.
ولا ينسى الأسد إغراء لبنان والأردن بتجارة مزدهرة، وليالي فرح عامرة ينسى فيها اللبنانيون والأردنيون غلاء أسعار بيروت وعمّان، ويهربون من أجوائهما الرتيبة إلى حضن دمشق الحالم، والقادر في الوقت نفسه، على الاحتفال بحب الحياة والوفاء للمقاومة وشعارات تحرير فلسطين، وذلك في مطاعم دمشق القديمة، حيث الأصالة والتاريخ وأمجاد بني أمية ومراقد آل البيت.
لكن من أين سيموّل الأسد هذا النهوض العمراني الذي تتجاوز تكاليفة مبلغ الأربعمئة مليار دولار، ومن أين له تحقيق هذا الزخم الترفيهي لأصدقاء أجهزته المخابراتية، في بيروت وعمّان، في بلدٍ يصنّف أكثر من ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر، وأكثر من ثمانين بالمئة من عائلاته، الموالية والمعارضة، فقدت أبناءها في الحرب، أو أصيب أحد أفرادها بإعاقة دائمة؟.
لا يوجد أدنى شك أن الأسد محظوظ، إلى درجةٍ يمكن وصفه بأكبر المحظوظين في هذا الكون، فهو يجد دائماً من يصدّقه، فقد صدّقوه حين وصف الحراك بأنه مؤامرة خارجية من دون أن يكلفوه باستحضار دليلٍ يثبت صحة الاتهام، في حين أرهقوا الشعب السوري بالأسئلة عن سبب ثورتهم، ما دامت الجامعات بالمجان، وما دامت سورية البلد الوحيد غير المدين في المنطقة، من دون أن ينتبهوا إلى أن العائلة السورية تنفق على أولادها في الخدمة العسكرية، سنتين ونصف السنة، ما تنفقه أي عائلة في المنطقة على تدريس أبنائها في الجامعات الخاصة، بالطبع من دون احتساب السنوات التي تضيع من عمر الشباب، في جيشٍ غرضه تدجين الشباب، وإخضاعهم لسلطة الأسد، ومن دون الانتباه إلى حقيقة أن عدم وجود ديْن خارجي على سورية أمر لا ينعكس على حياة الناس، وليست له تأثيرات حقيقية على معاشهم، بدليل أن مئات آلاف العمال السوريين كانوا يبيعون أنفسهم في أسواق العمل الرخيصة في الأردن ولبنان.
أكثر من ذلك، صدّقته شريحة واسعة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بأنه سيحرّر لهم فلسطينهم، مع أن الأب والابن حكما سورية حوالي نصف قرن، من دون أن يطلقا طلقة واحدة على الجولان، وبشهادة الإسرائيلين أنفسهم الذين أبدوا سعادتهم لعودة الأسد للسيطرة على جنوب سورية، إلى درجة أن إحدى شركات السياحة الإسرائيلية سيّرت مركباتٍ وضعت عليها ميكروفونات تنادي في شوارع تل أبيب "أيها السائحون، عودوا إلى الإستجمام في الجولان، فالأسد انتصر". وكان إسحق رابين، في آخر لقاء معه على حاجز إيريز، لخص هذه الحقيقة مؤنباً ياسر عرفات "لو كنت أعرف أنك لن تلتزم ما اتفقنا عليه، لما وقعت معك اتفاق أوسلو، حافظ الأسد أفضل منك، يلتزم حرفياً بكل التفاهمات بيننا"، علماً أن أجهزة الأسد الإعلامية والمخابراتية كانت إذا أرادت وصف أحد بالعمالة والخيانة تشتمه بـأنه عرفاتي.
ولكن، لن يكون في وسع هذا الأسد المحظوظ، مع تلك الفئات من دون عناء، تسويق أوهامه تلك بالسهولة نفسها، فإذا وجد كثيرون في المنطقة يشترون تلك الأوهام، وهي ما زالت مخططات وخرائط في الأذهان، وليست على الورق، فالمؤكّد أنه لن يجد من يدفع أي مبلغ لوضع ركائز وقواعد لمشاريعه المكلفة، إلا في حال قام أعضاء مليشيات التعفيش وشبيحة الأردن ولبنان وفلسطين بعمل جمعيةٍ، يقبضها بشار أولاً، لإطلاق مشاريعه الإعمارية باهظة التكلفة، أو يقوم تجار عمان وبغداد، الذين يطمحون بربح وافر من عوائد استيراد البضائع الرخيصة من مصانع هرب عمالها إلى الخارج، وصدئت خطوط إنتاجها، ولا تتوفر لديها مواد خام لإنتاج البضائع، بتمويل مشاريع البنية التحتية السورية، ليصبح لافتتاح معبر نصيب معنى حقيقي؟
يبيع بشار الأسد الوهم، وهو يتكئ على وسادة مريحة في قصر الشعب، وإذا سأله مستشاروه، إن كانت لديهم الجرأة على فعل ذلك، عن مصدر هذه الأموال التي ستأتي إليه لتمويل هذه المشاريع، سيجيبهم، بثقة وابتسامة ماكرة: سندفّع الخليجيين والأوروبيين والاميركيين ثمن ذلك، وما عليكم سوى إعداد قوائم بكل حجر تهدّم، وكل حفرة على طريق قرية نائية في سورية، ولن نسمح لشركاتهم بالاستفادة من عوائد الإعمار هذه التي ستموّل حكوماتهم مشاريعها.. لن يتسنّى للمستشارين سؤاله عن حل لغز هذه المعادلة، لأن شاشة هاتفه المحمول ستنبّهه إلى أن صديقه، رجل الأعمال اللبناني، يريد أن يطمئن عن موعد انطلاق المشاريع الطموحة، حينها سيشير بإصبعه للمستشارين، الذين ما زالوا يشبكون أيديهم على بطونهم، أن ينصرفوا ويدعوه وحيداً، وأخر كلمة سيسمعونها وهم يغلقون الباب خلفهم... أهلا أهلا أبو فلان.
لا يشكل حجم التكاليف الكبيرة أدنى مشكلة لبشار الأسد، ولا يعنيه كيف ستتدبّر دول الخليج وأوروبا تأمين هذه المبالغ الفلكية، في وقت تضطر هذه البلدان للاستدانة من القطاع الخاص والبنك الدولي لدعم ميزانياتها السنوية، ويتظاهر كل يوم آلاف العاطلين في شوارع مدنها، مطالبين بأي فرص عمل. ليست مشكلته، ما دام يضع في جيبه بطاقةً اسمها فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، اللذان سيتحوّل تراب سورية بأيديهما إلى ذهب، وبمجرد إشارة من أصابعهما ستتقاطر دول العالم للوقوف في الطابور لتقديم الأموال لمشاريع الأسد.
واهمٌ من يعتقد أن تغير المعادلة في سورية لصالح الأسد سيشفيه من حالة الانفصال عن الواقع. العكس هو الصحيح، حيث لم يتحمل عقله هذا الانقلاب الميداني، وأدى إلى وصول حالة الانفصال إلى مرحلةٍ ميئوس من علاجها، لكن بوتين سيكون أكثر منه انفصالاً عن الواقع، لو أجل بيعه ثمناً لتورّط الدول الأوروبية وأميركا، ووعدها بأنها ستساهم في إعادة الإعمار، شرط حصول تغيير سياسي في سورية. وعليه، أي بوتين، استغلال لحظة حماوة الرأس الأوروبية، لأنه إن لم يفعل ذلك، وتنبهت الدول الغربية للثمن الباهظ الذي ستدفعه في مقابل شراء جثة هامدة، لن يجد بوتين من يشتري الأسد في مقابل إصلاح جارور صرف صحي في عشوائيةٍ مهملة.
بعدما أدرك السوريون أن تمثيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية لهم لم يوفر لهم القيادة الثورية المطلوبة، واكتشفوا، بعد تسليم حلب، أن فصائل العسكرة والمذهبية أوصلتهم إلى نقيض ما وعدتهم به، فتح كثيرون منهم حواراتٍ يومية عن ضرورة تدارك ما افتقرت ثورتهم إليه من خطط وبرامج ومرجعية قيادية. وجريا على مألوفهم خلال أعوام تمرّدهم الماضية، فقد انخرطوا في جهود كلامية، تخلو من التنسيق والتعاون، بدوا خلالها كأنهم يتنافسون على بناء مرجعيةٍ، يؤكد كلام كل طرف منهم أنها التي ستقودُهم إلى عاصمة العدالة والمساواة: دمشق الحرّة.
يقول المثل "كثرة الطباخين تحرق الطبخة"، والطباخون اليوم أكثر من أن يُعدّوا، ولا شك في نياتهم الوطنية، لكنهم يتحدّثون جميعهم لغة واحدة، تقدّم وعودا متماثلة، ويفوتهم أن بناء مرجعية موحّدة تنال ثقة السوريين لا يتحقق بالارتجال الذي لطالما أهلك العمل الثوري، وأن شرط قيام المرجعية يتطلب وضع برنامج مشترك لبنائها، خطوة بعد أخرى، بصفتها خيارا شعبيا ووطنيا، وليست مجرد رغبةٍ لدى نخبٍ تتسابق عليها، لن يكون ما تقيمه بمفردها مرجعية، لافتقاره إلى هوية جامعة يعترف بها، وينضوي تحتها كل من يريد تجديد المشروع الثوري، وإزالة نواقصه البنيوية، فالمرجعية إما أن تستمد قيمتها من اعتراف وطني بها، تغدو معه واحدة وموحّدة، أو أن جهود العاملين اليوم لبنائها ستكون السبب في عدم قيامها، وتفويت فرصة بناء قيادة ثورية تخرجنا من عسكرة المذهبية، قيامها تحول نوعي في الصراع ضد الأسدية لن يبقى بعده ما كانت أوضاعنا عليه من ارتجال وتخبّط، حالا دون وجود مرجعية تقود أطيافا مجتمعية، تمثل أغلبية شعبنا، أسهم غيابها في استبدال مشروع الحرية بثورة مضادة، ارتدت لبوسا مذهبيا، عجز نمطها الفصائلي المتخلف والتفتيتي عن حماية السوريين، وأحدث فوضى خياراتٍ ومواقف نقلت ثقل الصراع ضد النظام إلى داخل الصف الشعبي والمعارض.
يعي الوطنيون اليوم ضرورة المرجعية، بيد أنهم يعملون لها بطرق تتسم بالاستعجال، وغياب التنسيق الضروري لإقامتها جهة موحدة وفاعلة، وسيكون من الصعب تداركه فيما بعد، إذا ما تنوعت المحاولات، واختلفت رهانات القائمين بها، وتباين ما سيترتب عليها من نتائج، من غير الجائز أن تكون متباينة.
عندما توجد جهات عديدة تعمل لبناء قيادة موحدة، يغدو نجاحها رهنا بما تتوافق عليه وتقرّه من أسس لبلوغ هدف مشترك، وتكمله من عمل إلى لجنة تحضيرية منتخبة تتواصل مع أطراف الساحة أينما كانت، لاختيار عدد من السوريين المؤهلين للمشاركة في "لقاء وطني"، يجرّد الواقع القائم، ثم ينتخب "هيئة مؤقتة" ذات مهام مرجعية، تؤسّس دوائر إعلامية وقانونية ومالية ودائرة تواصل دولي، يكون لكل منها تنظيمٌ يفيد من قدرات السوريين داخل سورية وخارجها، وخطة عمل تحدّد بوضوح هدفها وطرق بلوغه، تعلن للرأي العام، وتسمح بمشاركة مفتوحة، تفيد من الخبرات والتجارب المتوفرة في جميع مجالات العمل الوطني والعام. وتلاحق المجرمين ونظامهم في أصعدة الدوائر الأربع، وخصوصا القانونية منها، وصولا إلى عقد محكمة شعبية دولية للأسدية، إن استحال إرساله ومن معه من القتلة إلى محكمة الجنايات الدولية، والعمل لاستصدار قراراتٍ عن برلمانات الدول المختلفة، وفي مقدمها الكونغرس الأميركي، تمنع حكومات بلدانها من استعادة علاقاتها مع الأسدية ونظامها، ومن رفع العقوبات عن أشخاصها، وتؤيد حلا يطبق القرارات الدولية بحذافيرها، لتلبية تطلعات الشعب السوري إلى الحرية، ورفع تهمة الإرهاب عن ثورته، وإلصاقها بالأسدية: الطرف الذي يقف وراء الإرهاب، واستعان به لقتل السوريين.
لن تكون هناك مرجعية وقيادة من دون جهد وطني شامل، يبنيها خطوة خطوة، هو اليوم شرط خروجنا من الهاوية.
انتقل النظام الإيراني من توجيه التهديد إلى الولايات المتحدة و«لا تلعبوا بذنب الأسد»، الذي ردّ عليه دونالد ترمب بتهديد أقوى، إلى توجيه التهديد إلى أوروبا، عندما استغلّ محمد جواد ظريف، قبل أيام، الذكرى الـ65 لسقوط حكومة محمد مصدق لتخويف الإيرانيين، بالقول إن أميركا تريد أن تُخضِعكم، كما حصل في 19 أغسطس (آب) 1953، بإسقاط حكومة مصدق، ولترهيب الأوروبيين من عدم دفعهم ثمن أمنهم أمام الولايات المتحدة!
ولكن ما علاقة أمن أوروبا ودفع ثمن هذا الأمن بالعقوبات الأميركية على إيران؟
يرد ظريف بالقول، ويا للسخرية: «لأن الأوروبيين يقولون إن الاتفاق النووي إنجاز أمني مهم بالنسبة إليهم. وبطبيعة الحال، على كل بلد الاستثمار ودفع ثمن أمنه، ونحن نعتقد أن أوروبا ما زالت غير مستعدة لدفع هذا الثمن، ويجب أن نراها تدفعه خلال الشهور المقبلة»!
غريب، لاحظ كلمات «إنجاز أمني»، ودفع «ثمن هذا الإنجاز»، وتعال لنتذكر، كما يتذكّر الأوروبيون والعالم، كل ما سبق أن أعلنته إيران - وتعلنه - من أن برنامجها النووي هو للأغراض السلمية، فمن أين إذن يأتي موضوع ثمن أمن أوروبا، والفواتير التي يجب أن تدفعها للأميركيين أو لغيرهم، لتأمَن التهديد النووي الإيراني، ثم من قال إنها لو دفعت فعلاً هذا الثمن، سيلتزم النظام الإيراني الذي يتحدث بهذا الأسلوب الواضح من التحدي حدوده، ويتوقف عن العربدة في الداخل والخارج؟
الغريب أن ظريف يتناسى ما كان قد أعلنه في 23 يونيو (حزيران) الماضي، من أن الدول الأوروبية لا تستطيع فعل الكثير من أجل إنقاذ الاتفاق النووي، رغم كل الوعود التي تقدمها بمواصلة العلاقات التجارية مع طهران، من خلال الشركات المتوسطة والصغيرة، وأن الولايات المتحدة أحكمت قبضتها على الشريان الاقتصادي لإيران.
لكن كل ذلك التهويل والتصعيد لا يخفي استمرار المؤشرات على مدى الضيق الإيراني المتصاعد من العقوبات المستجدة، ولا يموّه الرغبة في العودة إلى سياق الدبلوماسية السرية، التي سبق أن جرت في عُمان بين عامي (2013 - 2015)، في عهد إدارة باراك أوباما، وانتهت كما هو معروف بالاتفاق النووي، الذي انسحب منه دونالد ترمب معتبراً أنه كارثة، وأعاد فرض مروحة متدرّجة من العقوبات على إيران، التي تعاني أصلاً من اقتصاد متهالك يثير اضطرابات داخلية متصاعدة!
الجواب الأميركي على مؤشرات ورسائل هذه الرغبة الإيرانية في العودة إلى الحوار لم يتأخر. فمنذ اللحظة الأولى، وقبل الانسحاب من الاتفاق والعودة إلى العقوبات، قال الرئيس الأميركي إن المطلوب من إيران هو تغيير سياستها في الداخل والخارج، خصوصاً تدخلاتها التخريبية في المنطقة!
نهاية الأسبوع الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو تشكيل «مجموعة العمل الإيرانية»، برئاسة براين هوك، وقد كلفت تنسيق سياسة واشنطن إزاء طهران لتشديد العقوبات التي يفترض، وفق إعلانات واشنطن، أن تصل في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل إلى وقف استيراد النفط الإيراني حتى الصفر. وقال بومبيو إن النظام الإيراني مسؤول منذ 40 عاماً عن سيل من العنف وسلوك مزعزع للاستقرار ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وأيضاً ضد الشعب الإيراني، وإن هذا الشعب - كما العالم - يطالبان بأن تتصرف إيران كبلدٍ طبيعي، وإن واشنطن تأمل التوصل قريباً إلى اتفاق جديد معها «لكن علينا أن نرى أولاً تغييرات أساسية في سلوك النظام، داخل حدوده وخارجها»!
يوم الأربعاء الماضي، تكررت التطمينات الأميركية، عندما قال مستشار الأمن القومي جون بولتون، من إسرائيل، بالحرف: «لنكن واضحين، إن السياسة الأميركية لا تقضي بتغيير النظام، بل ما نريده هو تغيير جذري في سلوكه». وأعاد بولتون التأكيد أن الولايات المتحدة على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع النظام، محذراً من أن عدم الامتثال للمطالب الأميركية سيجعلها تمارس ضغوطاً قصوى على إيران، لتفهم بوضوح أنها لن تحصل يوماً على أسلحة نووية قابلة للاستخدام!
«لنكن واضحين، لا نريد تغيير النظام الإيراني»، هذه الكلمات التي جاءت بعدما كان ترمب قد فاجأ العالم في 29 يوليو (تموز) الماضي بإعلانه أنه مستعد للقاء القادة الإيرانيين من دون شروط مسبقة، وفي أي وقت يريدون، بدت للمراقبين بمثابة رسالة دعم للدبلوماسية السرية العمانية، التي يبدو أنها عادت إلى التحرك، في محاولة لإحياء «قناة مسقط» للتفاوض بين واشنطن وطهران، ولكن في ظل دفتر شروط جديد وضعه ترمب، يهدف إلى إحداث تغيير جذري ملموس في سلوكيات النظام الإيراني، في الداخل والخارج!
ولكن هل يمكن للنظام الإيراني، الذي قام على العربدة الإقليمية منذ أربعين عاماً، والذي لا يتوانى عن الإعلان والمفاخرة بأنه يسيطر على أربع عواصم عربية، ويقول إنه قوة محورية مسيطرة في المنطقة، أن يغيّر سلوكه الداخلي والخارجي، وأن يهتم بأموره الداخلية فحسب، وهل هناك من يصدّق أن هذا النظام يمكن أن يبقى إذا غيّر من سلوكه في الداخل والخارج؟!
من المؤكد أنه لن يتمكن من البقاء طويلاً، في ظلّ أوضاعه الداخلية المأزومة اقتصادياً، وعلى صعيد الحريات، وبعد علاقاته المتوترة مع دول الإقليم وتدخلاته، وفي ضوء اتهامه من قبل واشنطن بدعم عمليات الإرهاب الدولي.
بالعودة إلى التحرّك العماني في إطار من الدبلوماسية السرية، كان لافتاً أن إعلان ترمب استعداده للقاء القادة الإيرانيين في 29 يوليو جاء بعد يومين فقط من اللقاء المفاجئ بين وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي ووزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في واشنطن، ومن اللافت جداً أن زيارة بن علوي إلى أميركا جاءت مباشرة بعد زيارة قام بها نده محمد جواد ظريف إلى مسقط، ثم كان لافتاً أيضاً أن وكالة «تابناك»، التابعة لسكرتير تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، نشرت خبراً عن أن بن علوي سيصل إلى طهران، في حين سارعت أوساط دبلوماسية في واشنطن إلى ربط تحرّك بن علوي بمساعٍ للتهدئة، وإعادة فتح القناة السرية للتواصل بين واشنطن وطهران، التي نفت أنها تنتظر زيارة بن علوي، في حين قال بهرام قاسمي: «نحن على اتصال دائم مع عمان»!
عندما يعلن علي خامنئي أن لا حرب ولا تفاوض مع الولايات المتحدة، فإنه يحاذر حتى الآن استجابة الشروط الأميركية الخانقة للعودة إلى الاتفاق؛ أي وقف سياسة التضييق داخلياً، ووقف النشاط الصاروخي الباليستي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية، والانسحاب من سوريا، ووقف دعم النشاطات الإرهابية على المستوى الدولي، لأن تخلّي النظام الإيراني عن هذه السياسات يعني بالتالي انهيار آيديولوجيا النظام، ثم النظام عينه!
لكن هذا لم يمنع طهران، المحاصرة بالعقوبات، من محاولة إرسال مؤشرات معينة. فبعد ساعات من إعلان ترمب استعداده لمفاوضتها، رفع المجلس الأعلى للأمن القومي الإقامة الجبرية عن مسؤولي المعارضة مير حسن موسوي ومهدي كروبي، وكذلك قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه إن مفاوضة أميركا ليست من المحرمات، وإنه يجب إنشاء خط أحمر ساخن بين البلدين، لكن الأهم يبقى في السؤال: هل يقدر النظام الإيراني إن غيّر سلوكه أن يبقى؟
لا يزال النظام في سورية والمعارضة ينظران إلى تطورات المشهد السوري من منظار الفوز والهزيمة: يعتقد النظام أنه انتصر، ومنع المعارضين والإرهابيين من السيطرة على الدولة، وأنه يحظى برضى دولي، وإن لم يظهر ذلك على المستوى الرسمي، في حين تعتقد المعارضة الرسمية والشعبية أن المجتمع الدولي غدر بالثورة المسلحة، لكنه لن يتخلّى عن الثورة السياسية ومطالبها، وإن بدا متراخيا على المستوى الرسمي حيال هذه المطالب.
هذه الرؤية هي التي تجعل الطرفين يرفضان أنصاف الحلول، ويتمسّكان بمواقفهما الحدّية، ولم يدركا أن مطالب كل منهما لن تتحقق كاملة، وإنما سيتم تحقيق جزءٍ منها: تتعامل المعارضة مع الثورة السورية من منطلق قيمي أخلاقي، فتطلق أحكاما وجوبية ـ معيارية، وفق ما ينبغي أن يكون، أما النظام فينطلق من واقعية مفرطة، خالية من أي محتوى أخلاقي، فيطلق أحكاما وجودية، وفق ما هو قائم، بناء على موازين القوى، مفتقدا، في قاموسه، فكرة الحقوق والعدالة وسيادة القانون.
منذ بداية عام 2013 إلى نهاية عام 2015، كانت الساحة العسكرية تموج بالتقلبات المتناقضة، فثمة أشهر تظهر فيها غلبة المعارضة، ثم لا يلبث أن يحدث العكس، فيقوى النظام وتضعف الفصائل المسلحة، إلى أن يحدث العكس ثانية، وظل هذا الوضع على ما هو عليه، إلى أن حدث التدخل العسكري الروسي بتفاهم أو برضى أميركي في سبتمبر/ أيلول 2015.
بدا منذ ذلك الحين، أن ثمّة حقائق واضحة، لم تنتبه إليها المعارضة، أو أنها انتبهت إليها، لكن زمام الأمر فلت من يدها، وأصبح بيد الدول الخارجية: أولاها أنه لن يسمح بإسقاط النظام عسكريا، على غرار ما جرى في ليبيا. وثانيتها أن المعارك بين الطرفين يجب أن تستمر إلى مرحلةٍ تصبح فيها البلاد مدمرة عن بكرة أبيها، وأن سورية ذات الثقل الاستراتيجي لن تكون موجودةً على الخارطة الإقليمية. وثالث الحقائق أن الولايات المتحدة غضّت الطرف عن التثوير الطائفي والقومي المسلح، فسمحت للتيار السني الجهادي والسلفي بالامتداد داخل سورية، في وقتٍ غضت الطرف عن تمدد التيار الشيعي، بكل حمولاته العسكرية والأيديولوجية.
تمّت تغذية النزعات القومية والطائفية بين أطياف المجتمع السوري، ومورست سياسات أميركية ساهمت بنشوء وعي سني سياسي/ عسكري زائف ومخالف للواقع، وبنشوء فورة قومية لدى الأكراد مخالفة أيضا لمقتضيات الجغرافيا المحلية والإقليمية.
انتقال الولايات المتحدة من مرحلة توازن الصراع بين الطرفين السوريين إلى مرحلة تغليب طرف على طرف عسكريا، لم يكن بسبب قناعات سياسية بهذا الطرف (النظام)، وإنما لأن الأمور وصلت إلى حدٍّ لم يعد يُسمح الاستمرار به، فالمطلوب تفتيت الدولة السورية، ونشوء شبه كيانات فيها، ولكن ضمن إطار الوحدة الجغرافية السورية.
وأية محاولة لدفع "سايكس بيكو" جديد إلى الأمام ستؤدي إلى ارتدادات عكسية، ذلك أن "سايكس بيكو" الحالي حقق دوره في تفتيت الدول العربية، من دون أن يحدث انفجارات طائفية أو قومية أو إثنية، في حين أن أية محاولة جديدة للتقسيم ستؤدي إلى انفجار طائفي ـ قومي، غير مقبول دوليا. ومن هنا، كان لا بد من انتصار النظام عسكريا، من دون أن تكون لديه القدرة على الاستحواذ بالجغرافيا السورية، على الأقل في هذه المرحلة، كما لن يكون مسموحا له الاستحواذ على المقدّرات الاقتصادية للبلاد، بحيث يبقى في عجز وأزمة اقتصادية.
ليس هدف الولايات المتحدة نشر الديمقراطية، وتحقيق دولة القانون والعدالة الاجتماعية، ولم تكن تلك القيم هدفا سياسيا أو أيديولوجيا للولايات المتحدة، بقدر ما هي أداة للتدخل الخارجي، أو سلطة خطاب موجهة للداخل الأميركي. الهدف الأميركي هو القضاء على مكانة سورية الإقليمية التي شكلت معبرا جيواستراتيجيا في المنطقة. وبعدما تحقق هذا الغرض، لا بد من استمرار سورية ضعيفة، وهذا لا يكون بقيام نظام ديمقراطي يعيد إنتاج الدولة والمجتمع، وإنما باستمرار السلطة الشمولية وفق أشكال جديدة. ولذلك على المعارضة أن تهيئ نفسها لمزيد من التنازلات الأميركية على المستوى السياسي، كما فعلت على المستوى العسكري.
من موقع روسيّا الجديد في سوريّة يتمدّد الوعي الروسيّ إلى لبنان. إنّه وعي لا يملك أشكالاً تنظيميّة محدّدة لكنّه يخاطب أشكالاً كثيرة من الوعي ومن التنظيم. فسلحفاة موسكو الدؤوب والمواظبة تستفيد إلى أقصى الحدود من نوم أرنب واشنطن التافه. إنّها تملأ الفراغات بالعمل والجدّ تاركةً للمنافس السابق أوهامه وهذياناته. هي تلمّ الأجزاء الصغيرة من أملاكها القليلة لتخلق منها نفوذاً صاعداً، أمّا هو فيبدّد الأجزاء الكبيرة من أملاكه الكثيرة التي سبق أن شكّلت نفوذاً ضخماً.
والحال أنّ نقاط تماسٍّ عدّة ومتفاوتة تجمع موسكو بعديدين متفاوتين:
خرّيجو الاتّحاد السوفياتيّ السابق آلافٌ لا ينبغي التفريط بهم. إنّهم شركاء الماضي القريب وحَمَلة الدعوة «الحضاريّة». أعيان طائفة الروم الأرثوذكس أيضاً مهمّون. إنّهم شركاء الماضي الأبعد حين كان القيصر هو الحامي والراعي الصالح. رجال أعمال من الحقبتين الشيوعيّة، والتي تلتها تقودهم جيوبهم التي تضخّمت بسرعة نسبيّة إلى موسكو. مُعادون للولايات المتّحدة ومحبّون لبشّار الأسد يتباهون بشَعر روسيّ تشتهيه صلعتهم. شيوعيّون ما زالوا يعثرون على أطياف للينين وستالين وورثَتهما تتجوّل في أنحاء الكرملين. قوميّون سوريّون يستهويهم الزعيم، كلّ زعيم، خصوصاً متى كان أرثوذكسيّ المذهب. مسلمون سنّة يحبّون تركيّا ويظنّون أنّ بوتين استقرّت أموره على مصادقة أخيه أردوغان، وأرمن يكرهون تركيّا ويظنّون أنّ قوّة بوتين حدٌّ على قوّة أردوغان. راغبون في محاربة إسرائيل يتذكّرون صواريخ سام وينتظرون، للمرّة الألف، نجدة موسكو التي لا تصل. راغبون في الصلح مع إسرائيل متيقّنون من أنّ الروس مؤهّلون لنجاح لا يملك الأميركيّون شروطه. جنبلاطيّون يستعيدون، حسب الطلب، علاقات كمال جنبلاط بموسكو و «القارّات الثلاث» و «حركات التحرّر الوطنيّ». عونيّون يعوّلون على مسيحيّة روسيا التي تقيهم شيعيّة إيران من دون أن تخلّ بتحالفهم معها، فيما يراهنون على يد موسكو الطويلة في إعادة اللاجئين السوريّين، وربّما في فرض سلام مع إسرائيل لا يستطيع الحلفاء في طهران و «حزب الله» أن يرفضوه أو يخرّبوه. المولعون بالأقوياء، وفي عدادهم الجيوش والمخابرات، يخاطبهم بوتين بوصفه ذاك السوبرمان الناهد إلى المجد والعلى، وكذلك المولعون بالضعفاء ممّن يرون أنّ ما من قويّ أو إمبرياليّ سوى الولايات المتّحدة، وأن من حقّ الآخرين أن يقووا كي ينتزعوا منها حصريّة القوّة. «المشرقيّة» الأركيولوجيّة التي تكره اليهود، ومثلها الأقلّيّاتيّة التي تكره المسلمين السنّة، تنتهي بهما الدروب إلى موسكو... هذا جميعاً يحصل عند مفرق الزمن الموقّت أو المعلّق.
مع ذلك، يبقى الطيران الحربيّ والشرطة العسكريّة السلعتين الروسيّتين الوحيدتين القابلتين للتصدير. وهذا ما يقول عن تفاهة المستورد – حتّى لو كان في أهميّة السيّدين جبران باسيل وطلال أرسلان – بقدر ما يقول عن طبيعة المصدّر. فالمستورد، في آخر المطاف، قوى نافقة وأفكار نافقة يراد لها أن تفرش السجّادة الحمراء لبشّار الأسد ولانتصار الثورة المضادّة في سوريّة. بل هو مشاعر نافقة تعوّل على إمبراطوريّة لا بدّ أنّها، في وقت يطول أو يقصر، نافقة. والشيوعيّون والقوميّون السوريّون تحديداً ينبغي أن يكونوا أعرف العارفين بانهيار الأحزاب التي تستمدّ قوّتها من إمبراطوريّات نافقة، روسيّة كانت أم ألمانيّة.
لم يبق الكثير من قمة هلسنكي بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب بعد تصريحات مستشار الأخير جون بولتون عن بقاء القوات الأميركية في سورية.
وإذا لم تحصل مفاجأة من النوع الذي اعتاد ترامب أن يتحفنا به، بأن يصدر قراراً بسحب قواته من بلاد الشام من دون سابق إنذار، فإن الإعلان الأميركي عن بقاء هذه القوات يشكل انقلاباً على تأكيده قبل أشهر أنه يريد انسحاباً في أسرع وقت، وعلى تحضيرات طلبها لتنفيذ وعده هذا في موعد قيل إنه في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل كحد أقصى.
وإذا كان بولتون ربط الانسحاب الأميركي بهدفَي الحؤول دون استعادة "داعش" زمام المبادرة، والعودة إلى السيطرة على بعض المناطق، وضمان الانسحاب الإيراني من سورية، فإن موسكو احتاطت لما بعد تفاهمات هلسنكي بأن الدعوة إلى الخروج الإيراني يفترض أن تصدر عن النظام السوري، وأن القيادة الروسية ليست قادرة على إجبار إيران على الانسحاب. فُهم من هذا الموقف في حينها أنه عندما يطلب القيصر من بشار الأسد إصدار بيان يطلب فيه انسحاب القوات الأجنبية، ومنها الإيرانية، لن يتردد في ذلك.
حين مهد بوتين لهذا الاحتمال في محادثاته مع الجانب الإيراني، بحجة الموافقة الأميركية على بقاء الأسد في السلطة مقابل انسحاب طهران، يبدو أنه لم يهمل نصيحة مستشار المرشد علي أكبر ولايتي بأن يستخدم ورقة الانسحاب الإيراني من أجل الحصول على انسحاب أميركي وتركي أيضاً.
وبمقدار سعي موسكو إلى الإفادة من تسليم ترامب بأن لها اليد العليا في سورية، وأنه مستعد لعقد صفقة معها، ففي واشنطن ما زال رجال البنتاغون وبعض الخارجية والاستخبارات عند قناعتهم بأن روسيا "عالقة" في سورية، وهي العبارة التي رددها بولتون أول من أمس. هؤلاء يدعون إلى الإفادة بدورهم من حاجة الكرملين إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، لأنه مقتنع بأن ولوج الحلول للأزمة السورية وإعادة النازحين وإعادة الإعمار... غير ممكنة من دون هذا الاتفاق. واشنطن باتت تأخذ بنصيحة بعض خبرائها في المنطقة حول ذلك مستعينين بالمثل القائل: أنت حطّمتها. أنت أصلحها وخذها... وروسيا ليست في وارد تحمل كلفة "إصلاحها"، بل تريد إغراء دول الغرب كي تنفق الأموال على إعادة الإعمار عبر خطتها لإعادة النازحين، فيما هذه الدول تشترط حلاً سياسياً وفق القرار 2254.
على صحة القول إن سورية ليست أولوية عند ترامب، لا تقل صحة القناعة بأن الوجود الإيراني في سورية أولوية لإدارته من باب ضمان أمن إسرائيل، وفي ظل العقوبات ضدها للحد من نفوذها الإقليمي، فضلاً عن استمرار وجود "داعش" في بعض مناطقها. والقوات الأميركية ترصد منذ أشهر، وبعد الإعلان الروسي والعراقي الانتصار على تنظيم "الدولة الإسلامية" وجود مقاتليه في مناطق البادية وغيرها، والمعلومات الاستخبارية الأميركية تتحدث منذ مدة عن استعادة التنظيم مناطق كان خرج منها. حجة "داعش" ما زالت قابلة للاستخدام لدى كل الأطراف للبقاء على استنفارها الأمني والعسكري. فلماذا لا يستخدمها الأميركيون مجدداً إذا كان الروس والنظام والإيرانيون والأتراك يستخدمونها لمواصلة العمليات العسكرية على الأرض السورية؟ ما حصل في محافظة السويداء مثل على استثمار مجازر "داعش" من قبل النظام والروس، لجلب مناطق إلى بيت الطاعة.
وإذا كان الجانب الروسي يرصد وجود نحو 20 قاعدة عسكرية أميركية لما يقارب 2500 جندي من القوات الخاصة، في مناطق التواجد الكردي وخارجها، أبرزها التنف على الحدود مع العراق، ، فإن هذه القوات قابلة للتخفيض، على نمط التخفيض الذي سبق لبوتين أن أعلنه بعد تأكيده النصر على "داعش" مطلع هذا العام، لتعود الشرطة الروسية فتتكاثر على الأرض والطائرات في الجو بعد أسابيع قليلة.
مع أن بولتون أكد عدم الاتفاق مع روسيا على طريقة استعادة إدلب من المعارضة وإخراج "النصرة" منها، فإنه عارض استخدام السلاح الكيماوي فيها ولم يرفض العمل العسكري. بقاء القوات الأميركية مؤشر إلى أسلوب أميركي جديد بعدم تكرار تجربة الانسحاب الأميركي من العراق بلا نتائج سياسية، ومن دون التورط على الأرض أكثر وخوض المزيد من الحروب، بل على العكس، التمهيد لصفقة مع موسكو، حتى المتشدد بولتون يريدها. والتوصل إليها يتطلب الاحتفاظ بمناطق النفوذ في شمال شرقي سورية، وتأمين الحماية للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمساعدة على إعادة الإعمار فيها، وتأمين صمود مواردها المالية... بموازاة "التعايش" مع بقاء الأسد، إلى حين نضوج أي اتفاق بين الدولتين الكبريين، ليتبادلا التنازلات.
يحمل تحذير زعيم هيئة تحرير الشام، المدعو أبو محمد الجولاني، الأهالي في الشمال السوري من عدم الاعتماد على "نقاط المراقبة التركية إبّان استعداد النظام لاجتياح إدلب"، كثيرا من دلالات التوتر مع تركيا، مدّعيّاً أنهم الآن "يمدّون يدهم إلى جميع الفصائل ضد النظام وحلفائه" فهل بات تنظيمه الذي بدأ جبهة النصرة ثم فتح الشام والآن هيئة تحرير الشام سيصل إلى نهايته، بعد حروب ابتلاع فصائل المعارضة منذ أشهر، تلك التي يدعوها إلى التعاون الآن؟ فيما تشنّ أجهزته الأمنية في إدلب وريفها حملة لتصفية "الخصوم والمطالبين بالمصالحات" كما يشاع، ومع ذلك بدأت الفصائل المعارضة أخذ مواضعها مجدّداً لحسابات الشمال السوري الدولية المقبلة.
إذ بدأ "جيش الإسلام" بإنشاء معسكراته التدريبة، في عفرين تحت الوصاية التركية، كما اندمجت كبرى الفصائل، بداية من حركة أحرار الشام الإسلامية، ونور الدين زنكي، وجيش الأحرار الفاعل في منطقة إدلب، وكان في السابق متحالفاً مع هيئة تحرير الشام، وألوية صقور الشام وتجمع دمشق، ضمن تشكيل عسكري جديد، حمل اسم "الجبهة الوطنية للتحرير"، والذي يقال إنه تشكل بتوجيه تركي. ناهيك عن المواقع التي كان قد احتلها "فيلق الرحمن"، بعد طرده من الغوطة الشرقية إلى عفرين وبعض ريف حلب أخيرا، ذلك كله وهيئة تحرير الشام تراقب، وتصرّح إن "تركيا لا تضغط على الفصائل، إنما تأمر"، في إشارة إلى اندماج قوات المعارضة المتبقية شمالاً خارج مناطق "درع الفرات".
إذاً نحن أمام مستويات متفاوتة من الأهمية الجغرافية التي تتحكّم بمستقبلها تركيا، بالتنسيق مع "الدول الضامنة"، وهي: مناطق درع الفرات (جرابلس- أعزاز- الباب)، مناطق غصن الزيتون (عفرين وريفها)، وجميعها مدن واقعة في الريف الحلبي، إضافة إلى بعض القطاعات من ريف إدلب وريف حماة وأطراف إدلب التي تنشط فيها "الجبهة الوطنية للتحرير"، وأخيراً إدلب وريف الساحل والشق الأكبر من ريف إدلب جميعها تحت إدارة "تحرير الشام" التي رفضت حلّ قواتها والاندماج حسب التوجيه التركي. بالتالي، يعتقد أن هناك سيناريوهات محتملة، سوف يكون أمام تركيا وقت قصير لدراستها.
والملاحظ أن تركيا تعمل بنحو كبير على توطين قوتها العسكرية إلى جانب مجالسها المدنية في مناطق "درع الفرات"، ولعل قرار البطاقات الشخصية الممغنطة التي أطلقت في مدينة الباب أخيرا هو أول ملامح التوطين التركي للسوريين في تلك المناطق، إذ تتصل جميع شبكات السجل المدني للمجلس المحلي لمدينة الباب مع شبكات معلوماتٍ في الداخل التركي، إضافة إلى حملة الترويج الكبيرة أخيرا لافتتاح جامعات تركية باختصاصات مختلفة، ضمن مناطق "درع الفرات"، كما أن زيادة فرص الاستقرار الأمني سوف يجعل مسألة توترها مجدّداً بعيداً على المدى المنظور، وكذلك الأمر في عفرين، قد لا تشهد صدامات مباشرة مع قوات النظام، أو حلفائه، حالياً. يدفعنا ذلك كله إلى القول إن مشروع "درع الفرات" الذي يحاول أن يمتدّ أيضاً إلى مدينتي منبج وتل رفعت شمال سورية، هو النموذج المشابه "لدولة شمال قبرص" التي تسعى تركيا إلى إقامتها بالتعاون مع المنظمات السياسية والهيئات العسكرية الحاصلة في أغلب قياداتها على الجنسية التركية، أو لديها ميزات الإقامة التركية، وبالتالي سنتجه نحو زوال مشروع التحرّر من طغيان النظام السوري إلى إحلال الحلفاء في موقع الخصوم، على الأقل في مثلث درع الفرات. ولكنْ ثمّة أوراق يجب حرقها لتستقر تلك المناطق، في مقدمتها "تحرير الشام" التي تتابع تركيا إعلامياً ردّات فعلها. وفي الوقت نفسه، تجري معها في الظل لقاءات مشتركة بين قادة وأمنيين! شهدنا على نتائجها مع انتشار نقاط المراقبة العسكرية للجيش التركي في مواقع تحت يد الهيئة في معظم ريف إدلب وريف حلب من جهة الجنوب، من دون عراقيل، علماً أن "الهيئة" كانت تلاحق كل عناصر المعارضة الذين شاركوا في عملية درع الفرات لمحاسبتهم، كي تظهر أمام الرأي العام رفضها الوصاية التركية!
وكان شرعيو "الهيئة" يدعون، قبل أيام، إلى الاعتماد على الفصائل، لا على الدعم التركي لها، إلا أن أمر التقارب بين "الدول الضامنة" لحسم مشهد هذه "الهيئة" بات وشيكاً. وبعد تصنيف الولايات المتحدة لها منظمة إرهابية، برّر ذلك بقوة لروسيا وتركيا التداول لتفكيكها بأي وسيلة، ويعتقد أن تركيا توّلت الأمر، إذ لا بد أن لها مصلحة في حملة الاغتيالات الكبيرة التي تستهدف قيادة الصف الأول في "الهيئة"، واستهداف مخازن الأسلحة في إدلب التابعة للهيئة، ومحاولات اغتيال الشرعيين المستمرّة حتى منذ أيام كان آخرها للمدعو أبو يقظان المصري، قائد قطاع البادية في الهيئة، وشرعي الجناح العسكري الذي تمت محاولة استهدافه الثلاثاء في قرية برنة في ريف حلب الجنوبي.
في المقابل، حرّكت الهيئة حملاتها بحثاً عن تلك الخلايا النائمة، ما أثار حفيظة الأهالي، والتصادم المستمر معهم. ومع تراجع قوة المعارضة المسلحة على الأرض، تلقت الهيئة ضربة بوفود فصائل تعاني معها الندية المزعومة "بالمنهج والتوجه والتمويل"، مثل جيش الإسلام وفيلق الرحمن، لنعتبر أن هذا مربط الفرس، حيث يرجّح أن الفصائل المندمجة سوف تبدأ ابتلاع مواقع للهيئة، بدعم تركي لرفض الهيئة، بشكل جازم، أن تحلّ نفسها، كما سوف تطلق تركيا يد الفصائل المتخاصمة مع "تحرير الشام"، لتجنيدها ضدها، وما إنشاء معسكراتٍ لجيش الإسلام في عفرين إلا رسالة عسكرية واضحة للهيئة التي ستواجه مصير التفكيك بقوة سلاح "إخوة المنهج"! أو أن تتحول إدلب إلى "محجّ" للمتطرّفين من كل بقاع العالم، مع ظهور بوادر توجيه دعوة مزعومة إلى الجهاد ضد "بغي الهيئة على اخوتها في تنظيم داعش". وقد يتم استخدم تلك الحجة وتمويلها، حتى دوليّاً ،لاستمرار النزاع، وكسب أوراق إقليمية في الحرب السورية. وبالتالي، سيكون أمام تركيا خيار التدخل لرفع منسوب الاغتيالات، وإضعاف الهيئة بالتوتر الأمني، بذريعة حماية حدودها ستتدخل عسكرياً بشكل محدود، وتدفع القاعدة الشعبية للهيئة (المتهاوية أصلاً) إلى مطالبة فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" بالتدخل أيضاً، ولكن كل تلك الاحتمالات مبنيةٌ على التداعيات التي تزيد من حدّة التوتر في لعبة استغلال تشتت فصائل الشمال السوري، على اختلاف ولائها وتخبط قرارها وفصامها الثوري البعيد عن الشارع.
لم يكن عبثاً أو تجنياً تحميل السلطة السورية مسؤولية المجزرة الرهيبة التي ارتكبها تنظيم داعش منذ أسابيع، في مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية، وذهب ضحيتها مئات القتلى والجرحى، إلى جانب عشرات الرهائن من النساء والأطفال لا يزال مصيرهم معلقاً، ليس فقط بسبب الباع الطويل للسلطة وحليفتها إيران في قيام تنظيم داعش، وتمكينه في الأرض، واستغلاله لتخويف المجتمعات الغربية والأقليات الدينية والقومية، أو التسوية التي مُررت منذ شهور في مخيم اليرموك قرب دمشق، ونقل بموجبها مئات المقاتلين من «داعش» إلى البادية السورية المحاذية لمدينة السويداء، أو ما أثير عن تواطؤ النظام مع تنظيم داعش، وسحب كتائبه والسلاح الثقيل قبل يوم من المجزرة، وإنما الأهم لأن المجزرة حصلت في الوقت الذي وصلت فيه المفاوضات إلى طريق مسدودة، بين قيادات عسكرية روسية وزعماء مدينة، رفض أهلها منطق العنف السلطوي المنفلت، وآثروا الحياد تجاه الصراع الدامي في البلاد، وشجعوا شبابها على الفرار من التجنيد وعدم الالتحاق بالجيش، حين وظفته النخبة الحاكمة لمواجهة الشعب وتطلعاته المشروعة. ولا يضعف هذه الحقيقة القصف السلطوي الخجول الذي طال مواقع تنظيم داعش بعد المجزرة، أو العمليات العسكرية التي تشنها قوات النظام اليوم ضده.
هذه المجزرة وتداعيات مصير المخطوفين، ليست سوى الأسلوب الأبشع من أساليب متنوعة اعتمدها نظام استبدادي يدعي حماية الأقليات؛ لكن لترويعها وإخضاعها، وربط مصيرها بمصيره، وتبدأ بمسارعته، مع بدء ثورة السوريين، إلى إطلاق سراح مئات المتطرفين، وتسعير الاستفزازات المذهبية، بتسريب صور ذات بعد طائفي عن عمليات القتل والتعذيب والترويع؛ لاستجرار ردود أفعال من الطبيعة ذاتها، تنقل الصراع السوري من بعده السياسي إلى بعد طائفي ومذهبي بغيض. والهدف تشويه ثورة السوريين، وتغذية حضور العنف الإسلاموي شعبياً وعسكرياً، ما يعمق الشروخ والاحتقانات الاجتماعية، ويخفف الضغوط الخارجية عليه، وتعاطف الرأي العام مع معاناة السوريين ومطالبهم المشروعة، ويضمن ولاء أو صمت قطاعات كبيرة من الأقليات، قومية كانت أم دينية، مستثمراً مخاوفها من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، والخشية من مظاهر التضييق والتنميط المرافقة لهذا النوع من الحكومات، التي تحاول فرض أسلوب حياتها وثقافتها على المجتمع، وتهديد هوية هذه الأقليات وحقوقها وطرق عيشها، فكيف الحال حين يجري تحميل الجماعات الإرهابية المتطرفة مسؤولية هجمات مباغتة غامضة، وقذائف هاون كان يتواتر سقوطها على مناطق وأحياء الأقليات، ما أودى بحياة العشرات من أبنائها في مدينتي جرمانا وصحنايا مثلاً؛ حيث تسكن غالبية درزية، أو في حي القصاع الدمشقي ذي الأكثرية المسيحية، بينما انكشف للعيان أن بعض هذه القذائف أطلق من جبل قاسيون؛ حيث تتمركز قوات النظام، عند ضغط حاجته لإثارة مخاوف الشارعين المسيحي والدرزي وتعميقها؟ وكيف الحال مع زج شخصيات عسكرية وأمنية تنتمي لهذه الأقليات، كي تنفذ أشنع وسائل الفتك والتنكيل في مناطق تحسب على الأكثرية السنية؟ وكيف الحال مع تخصيص جهود دؤوبة لاعتقال ومحاصرة وتهجير العشرات من أبناء الأقليات الذين وقفوا مع الثورة، كان أوضحها النيل من شيوخ الكرامة الذين رفضوا وقاوموا الأساليب الأمنية، ووصل الأمر إلى حد الاغتيال الصريح والسافر للشيخ وحيد بلعوس، أحد أبرز زعمائها، بينما لا يعرف إلى اليوم مصير المطرانين المخطوفين منذ سنوات، واللذين كانت لهما تصريحات لافتة تدين العنف السلطوي المنفلت وتدعو للمصالحة والإصلاح؟ وكيف الحال مع دأب النظام على إشاعته المخاوف من القادم الإسلاموي الانتقامي، بحجة أنه سيقتص من الطائفة العلوية بأشنع الوسائل، ويتركها أسيرة القهر والإذلال، ولا خيار لها بالتالي سوى مزيد من الالتفاف حول النظام؟ وأيضاً كيف الحال مع تسليط النظام شبيحته في تجمعات الأقليات، وإطلاق يدهم لترويع الناس بصورة شبه يومية، تنكيلاً وابتزازاً وخطفاً، وساد هذا النهج بصورة خاصة في مدينة سلمية التي تقطنها غالبية من أبناء الطائفة الإسماعيلية، وخرج من صلبها مئات المعارضين؟!
تشكل الأقليات الإثنية والدينية في سوريا نسبة تقارب 40 في المائة من عدد السكان، وتتألف من شتى مذاهب المسلمين والمسيحيين، وقوميات تتباين ثقافاتها مع العرب، كالأكراد والشركس والتركمان والأرمن والآشوريين، وقد تعرضت جميعها وإن بنسب متفاوتة لمختلف أصناف القمع والاضطهاد من النظام الحاكم، بغية تطويعها وتسخيرها لخدمة مصالحه، ولتوسيع قاعدته الاجتماعية. وإذ لازمت في غالبيتها الصمت والخضوع لإملاءات السلطة خلال عقود طويلة تحت هواجس شتى؛ لكن تاريخها شهد حركات ونشاطات مناهضة لسياسات الاستبداد، من خلال أحزاب وشخصيات معارضة، من الأكراد والإسماعيليين والدروز والعلويين والمسيحيين، عانوا من السجون والإفقار والمنافي، لقاء رفضهم نظام القهر والفساد والتهميش، ودعوتهم لبناء سوريا مدنية تعددية وديمقراطية.
وطبعاً ما كان لينتشر في سوريا مصطلح أقليات وأكثرية، لولا تواتر حالات التمييز السلطوي، القومي أو الطائفي، لضمان الولاء على حساب الرابطة الوطنية والسياسية، وعلى حساب معايير الكفاءة والنزاهة، ولولا استجرار وتشجيع ردود أفعال وولاءات من الطبيعة ذاتها لدى تلك الكتل الاجتماعية، ازدادت وضوحاً وحدّة خلال سنوات الصراع الدامية، معرّية هشاشة وزيف ادعاء النظام حماية الأقليات، وكيف تقصّد، حفاظاً على تسلطه وامتيازاته، صب الزيت على نار الفتن المذهبية والطائفية، وتفتيت النسيج الوطني المتعايش منذ مئات السنين.
وإذ نعترف أن مسألة الأقليات ومخاوفها هي شماعة يستخدمها المتمسكون بمصالحهم وفسادهم ليبرروا صمتهم، ويستخدمها المجتمع الدولي ليبرر سلبيته وتخاذله، لا بد أن نعترف أن جماعات الإسلام السياسي فشلت في نيل ثقة مجتمع تعددي ومتنوع، حين فرضت في مناطق سيطرتها مشروعها الأحادي المنفر، وأكدت الصورة النمطية عن نكثها بوعودها والانقلاب، ما إن تتمكن، ضد الحريات وتداول السلطة، لنخلص إلى أنه ليس من حامٍ للأقليات ولوحدة النسيج الوطني، سوى عقد اجتماعي يزيل، مرة وإلى الأبد، منطق العنف والقهر والتمييز، ويصون حقوق الناس على قدم المساواة كأفراد مواطنين، متجاوزاً نظرية الأغلبية والأقليات الدينية والإثنية، وفاسحاً في المجال أمام الجميع، للمشاركة في تقرير مستقبل البلاد، على قاعدة مقارعة الآخر المختلف في مناخات الحرية، وعبر المؤسسات السياسية والدستورية.
يعيد النظام السوري إحياء أدوات هيمنته المادية والرمزية كعلامة على انتصاره على «المؤامرة الكونية» التي هدفت إلى إسقاطه، فيرفع تمثال مؤسس النظام، حافظ الأسد في حمص التي اعتبرت لفترة عاصمة الثورة على حكم آل الأسد، في إشارة إلى استئناف «الأبد» السوري وعودته إلى الحياة.
يصر النظام على الإبقاء على صورته الأصلية السابقة على اندلاع مظاهرات مارس (آذار) 2011. فلا شيء تغير في ممارسات الأجهزة الأمنية ولا في الفساد الشامل ولا المضمون الطائفي للدولة، ناهيك عن مسائل لم يطرحها النظام أصلا للنقاش على نفسه، ولم يقبل من المواطنين السوريين إخراجها إلى الحيز العام، من نوع الديمقراطية والعدالة والشرعية.
الحفاظ على أداء السلطة وعلى عسفها وبطشها السابقين للثورة وعلى اعتماد سياسة الإنكار واللامبالاة حيال مآسي ملايين السوريين على غرار إرسال شهادات وفاة الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين قتلوا تحت التعذيب في زنازين النظام وأقبية أجهزته، يشكل تحديا صريحا لمشاعر أهالي الضحايا الذين كان بعضهم يعلق الآمال على عودة أبنائه، من جهة، وللمجتمع الدولي العاجز والمتواطئ من جهة ثانية. وهو تحدّ ضمن النظام سلفا الفوز فيه بعد أعوام من الإمعان في قتل المدنيين بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة وإطلاق العنان للرعاع يعملون ذبحاً بالسكاكين في رقاب أهالي القرى والمناطق المنتفضة، من دون ظهور رد فعل دولي جدي على هذه الإبادة المدروسة والمنظمة للسكان المعارضين.
منذ صوغ «فلسفة» السلطة في سوريا أواخر سبعينات القرن الماضي، زرع النظام قناعة في نفسه وفي نفوس مواطنيه أنه غير قابل لا للتغيير ولا للتعديل ناهيك عن السقوط بفعل ثورة أو تمرد. كانت كل محنة أو أزمة يتعرض لها النظام، من الصراع مع «الإخوان المسلمين» إلى فرض انسحاب قواته من لبنان في 2005، بمثابة الفرصة التي يؤكد فيها البقاء «إلى الأبد» في ظل مؤسسه حافظ ووريثه بشار الأسد. لا شيء يتغير إلا بإذن النظام ولا شيء يهدد النظام، بل إن كل التهديدات هي فرص لتشديد القبضة على سوريا (وعلى لبنان). عليه، يسعى الحكم إلى نفي قابليته وبالتالي قابلية «أبده» للموت (على عكس عنوان كتاب الروائي والصحافي محمد أبي سمرا «موت الأبد السوري»).
بديهي أن النظام يبذل جهودا هائلة لتجاوز آثار الثورة واستئناف سيرته الأولى. وعلى الرغم من خروج الكثير من روافع السياسة والأمن والاقتصاد من يده واستقرارها في أيدي الراعيين الروسي والإيراني وما يرافق ذلك من تخليه عن مناطق واسعة من البلاد التي باتت عمليا تحت إمرة الضباط الروس والإيرانيين، فإن المجال ما زال مفتوحا أمامه على ساحات أخرى حيث يفرض قواعده على قضايا حيوية مثل عودة اللاجئين.
هذه المسألة التي تثير ضجة كبيرة في لبنان المجاور وتعتبر مع التطبيع مع النظام السوري من العقبات أمام تشكيل حكومة سعد الحريري، لم يناقش المسؤولون اللبنانيون جديا موقف النظام السوري منها. بل تحولت إلى موضوع للتراشق الإعلامي وتبادل الاتهامات السياسية، على جاري العادة اللبنانية. غني عن البيان أن دمشق لا ترحب بعودة اللاجئين الذين بذلت، بالتكافل والتضامن مع الميليشيات الإيرانية، جهودا كبيرة لطردهم من بيوتهم وقراهم. ومحاولات العودة المحدودة من لبنان اصطدمت بجملة من الشروط الأمنية التي تقسم طالبي العودة بين مجندين في قوات الأسد ونزلاء في المعتقلات وغذاء لآلة القمع الحاكمة. وباستثناء بعض الكلمات الفاترة لممثلي النظام السوري في لبنان عن المسؤولية عن المواطنين السوريين، لم تجر أي محاولة تذكر لإعادة اللاجئين إلى بلدهم، وهم الذين أخرجوا ضمن عملية هندسة ديموغرافية أشاد بها بشار الأسد في تأكيده على أهمية «تجانس» الشعب السوري بعد الحرب.
كل نقاش حول عودة اللاجئين يجب أن يجري مع من يستطيع إقناع النظام بتغيير قراره بإنزال العقاب بالراغبين في العودة «إلى حضن الوطن»، لذلك ثمة من استوعب هذه الحقيقة وتوجه إلى موسكو بحثا عن صيغة لحل أزمة اللاجئين وفتح الطريق أمامهم من لبنان إلى سوريا. ولا تزيد قيمة الكلام عن إمكان العودة الآمنة للاجئين التي تصرّ عليها الهيئات الدولية، إلى مناطق سيطرة النظام السوري عن قيمة أي كلام دعائي مجاني، حيث يعرف أصحاب هذه الأقوال قبل غيرهم أن العودة غير آمنة وأن اللاجئين معرضون للملاحقة والاعتقال والإعدام فور وصولهم إلى أماكن سكنهم الأصلية.
قضية اللاجئين هذه محورية في عملية إحياء «الأبد» السوري التي يقوم جانب منها على تمرير كل مواطن في مصفاة الأجهزة الأمنية كمعبر ضروري لإخضاعه وكسر ما تراكم أثناء أعوام الثورة من اعتراض أو رغبة في الخروج على ضوابط الهيمنة الأبدية.
وليست التجربة السورية هي الأولى التي يستأنف فيها نظام استبدادي طرقه القديمة، بعد محنة كادت تطيح به. فبعد الحرب العالمية الثانية التي وصلت فيها القوات الألمانية إلى بوابات موسكو، عاد ستالين إلى أعمال القمع والقتل والنفي التي كانت تستهدف أفرادا قبل الهجوم الألماني لتتحول إلى عقاب جماعي يشمل شعوبا بأسرها. ولم تتوقف المذبحة الستالينية إلا بموته وبصعود قيادة جديدة في الكرملين. لا يملك دعاة استئناف «الأبد» السوري قدرات الدولة السوفياتية بطبيعة الحال، لكنهم يصرون على السير في هذه الطريق مهما كلفهم الأمر، ومهما كان الثمن الذي يدفعه السوريون.
"الرجل الذي لم يوقّع" سلسلة وثائقية تبثّها قناة الميادين، عن حافظ الأسد، وكيف أنه لم يوقع على "اتفاق سلام" مع الدولة الصهيونية، لتهدف إلى إظهار "الوجه الناصع" له. العنوان لافت، حيث أظهر أن حافظ الأسد قد أُدرج في صفوف الممانعة. لكن الأمر يتعلق كذلك بـ "لغز" يخصّ جملة "لم يوقّع" في وضع يظهر فيه أن هناك من سيوقّع. وبالتالي يظهر وكأنه استعادة أيديولوجية لموقفٍ جرى اتخاذه منذ عقود. حيث يظهر واضحاً أن "اتفاق سلام" بات "ممكناً"، بل مفروضاً الآن. وربما يكون ذلك هو الأساس الذي يمكن أن يحقّق استقرار النظام، بعد أن تهالك.
طبعاً سأقول إن حافظ الأسد هو "الرجل الذي لم يوقّع"، لكنه حمى حدود الدولة الصهيونية أكثر من أي رئيس آخر. هذا يعيدنا إلى اتفاق فصل القوات الذي جرى توقيعه سنة 1974 مع الدولة الصهيونية، والذي كان في خطورته أسبق على اتفاق كامب ديفيد. بني على توافقاتٍ تزيل كل تهديد للدولة الصهيونية من جبهة الجولان، فقد ظلت القوات الصهيونية تسيطر على كل المنطقة الجبلية المرتفعة، وبالتالي كانت تتحكّم في كل جنوب سورية حتى دمشق. وفرضت ابتعاد الجيش السوري مسافة كبيرة عن المنطقة المحتلة من الجولان، ومنعت دخول أي سلاح سوى السلاح الخفيف. ومن ثم فرضت وجود قواتٍ دوليةٍ للفصل بين القوات الصهيونية والجيش السوري. وسنلمس كيف أن حافظ الأسد التزم بذلك كله إلى آخر لحظةٍ في حياته، وجدّد بشار الأسد الالتزام به.
هل هذا اتفاق سلام؟ لا بالتأكيد، لكنه اتفاق يضمن "السلام الدائم"، حيث لم يعد مطروحاً من الجانب السوري خوض حربٍ، ولا كانت القوات الموجودة أو طبيعة المساحة التي تفصل بين وجود القوات السورية والجولان، تسمح بتقدّم عسكري سوري. وذلك كله ضمِن للدولة الصهيونية الاستقرار طويل الأمد، وعدم الخشية من نشوب حربٍ على جبهة الجولان، وبالتالي تصرّفت كأنها تعتبر الجولان جزءا من "أرض إسرائيل"، لهذا ضمّته من دون خشية أو تردّد. في المقابل، ضمنت لحافظ الأسد انتفاء احتمالات حربٍ مع الدولة الصهيونية فترة طويلة الأمد كذلك. وهذا ما كان يريده، لكي يضمن سيطرة مطلقة على الدولة السورية. حيث أعاد بناء الجيش والأجهزة الأمنية، ليس انطلاقاً من وجود عدو صهيوني، بل انطلاقاً من كيفية أن تبقى خاضعةً لسلطته، وعاجزةً عن التغيير والانقلاب. وبهذا ضمِن سلطة "إلى الأبد" وراثية. كما ضمن دوراً إقليمياً يتحقّق بالتوافق مع أميركا (كما جرى في لبنان)، ومع الدولة الصهيونية. وذلك كله من دون أن يكون هناك توقيع اتفاقات، ومن دون أن يحتاج إلى ذلك كله. وقد كان يتجنّب ذلك في كل اللحظات التي جرت فيها مفاوضات.
إذن، كان ذلك يريح الدولة الصهيونية، حيث استفردت في كل الجبهات الأخرى، وحقّقت اتفاقات فيها، وأنجزت السيطرة الاستيطانية على معظم الضفة الغربية، من دون خوفٍ من تهديد أمني على جبهة الجولان. هل كان أفضل لها من ذلك؟ لا، لهذا ما زالت متمسّكة باتفاق فصل القوات. أما النظام، فقد فرض سلطته الاستبدادية عقودا خمسة تقريباً، وأنجزت الطبقة المسيطرة عملية نهبها سورية من دون خشيةٍ من "قلاقل". وفي الوقت ذاته، ظل النظام يزاود بأنه لم يوقّع أي اتفاقٍ مع الدولة الصهيونية، على الرغم من أنه وقّع أخطر اتفاق. إذن حافظ الأسد هو الرجل الذي وقّع أخطر اتفاق، وأكثرها حنكةً، وظل متمسكاً بأنه لم يوقّع. لم يوقع على اتفاق سلام رسمي، لكنه وقّع على اتفاقٍ يضمن حماية الدولة الصهيونية بالتأكيد. وظلّ قادراً على المزاودة بلا تردّد.
بذل القيادي الكردي في حزب الاتحاد الديموقراطي، صالح مسلم، جهودا كي يكون من ضمن وفد المعارضة السورية في جولات جنيف منذ البداية. وحين رفضت المعارضة طلبه، ووقفت ضد رغبته، ذهب أكثر من مرة إلى هناك، ليواكب المفاوضات من خلال الكواليس. وفي أكثر من مرة، حاول الروس أن يضموه إلى المعارضة، مثلما فرضوا قدري جميل، لكن جواب المعارضة كان دائما بالرفض، وهناك من اعتبر مكانه الطبيعي داخل وفد النظام.
في ذلك الوقت، وتحديدا في اكتوبر/تشرين الأول 2015، تم تأسيس "قوات سورية الديموقراطية"، وعرّفت عن نفسها بأنها "تحالف كردي وعربي وسرياني وأرمني وتركماني، يسعى إلى طرد تنظيم الدولة الإسلامية، وإنشاء سوريا ديمقراطية علمانية"، وبعد فترة قصيرة، تبيّنت "تبعيتها" لحزب الاتحاد الديموقراطي الذي يعتبر الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، وغلبة العنصر الكردي على بقية المكونات في العدد وسلطة القرار، وكانت القوة العربية الوحيدة من حيث العدد هي "قوات الصناديد" التي يقودها حميدي دهام الجربا من قبيلة شمّر الذي تولى منصبا اعتباريا (الرئاسة المشتركة لمشروع الإدارة الذاتية)، وصدر عنه تصريح لافت في أحد المؤتمرات، يدعو رأس النظام السوري بشار الأسد إلى زيارة الحسكة حتى "يرى ما تم تحقيقه من إنجازات"، وفق تعبيره، مخاطبا إياه بـ"السيد الرئيس".
يبدو أن الجربا استبق الأحداث لعدة سنوات، وربما كان مطّلعا على ما يدور في الخفاء من ترتيبات، بعيدة كل البعد عما جرى في العلن، وتؤكّد كل المؤشرات أن أسرارا كثيرة سوف تتكشف، بعد أن صارت المفاوضات والزيارات تتم بصورة علنية، لوفود "قوات سورية الديموقراطية" إلى دمشق، وجاء الحديث، قبل أيام قليلة، عن إمكان انضمامها للجيش السوري، حسب تصريح لرئيسة الهيئة التنفيذية لـ"مجلس سوريا الديموقراطية"، إلهام أحمد، رجّحت فيه انضمام هذه القوات إلى الجيش السوري النظامي.
وفي الوقت الذي شدّدت مصادر كردية على أن انضمام هذه القوات إلى الجيش النظامي مرهون بالتسوية النهائية، والمفاوضات الجارية بين الطرفين، فإن هذه الخطوة سوف تشكّل سابقةً في حال حصولها، لأنها ستكون القوة الوحيدة التي يقبل جيش النظام السوري انضمامها إليه. وعلى الرغم من أن النظام أجرى، على مدى الأعوام الماضية، مصالحاتٍ كثيرة، فإنه لم يضم أي قوة إلى صفوف الجيش الرسمي، لتصبح جزءا منه، بل استخدم "المتصالحين"، ليقاتلوا رفاقهم القدامى.
يثير التفاهم بين النظام السوري وقوات سورية الديموقراطية (قسد) وجناحها السياسي (مسد) ملاحظات كثيرة، ويطرح أسئلة بشأن مستقبل منطقة الجزيرة السورية التي تشكل أكثر من ثلث مساحة سورية، وتسيطر عليها "قسد"، بدعم مباشر من الولايات المتحدة، تحت لواء محاربة "داعش". ويحيل التفاهم الجديد بين "قسد" والنظام السوري إلى بدايات الثورة السورية، حين سلّم النظام بعض المناطق الحساسة إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، خصوصا مواقع النفط في رميلان، ومنذ ذلك الحين لم تحصل بين الطرفين سوى بعض المناوشات.
ولم يكن للتفاهم بين حزب الاتحاد الديموقراطي والنظام أن يسير على نحو تام، لو لم يكن قرار "سوريا الديموقراطية" يأتي من جبال قنديل، مقر قيادة حزب العمال الكردستاني، فليس من السهولة أن يتنازل هذا الحزب عن المكاسب التي حققها على الأرض، وقدّم تضحيات كبيرة من أجلها، لا سيما وأن الدعم الأميركي لا يزال يتدفق، وجديد ذلك تم قبل أيام، وهناك معلومات عن إنشاء مطار عسكري أميركي جديد في منطقة الشدادي.
وليس سرّا أن علاقة قيادة العمال الكردستاني مع إيران على أحسن ما يرام، ومن المرجّح فإن طهران هي التي تولت ترتيب التفاهمات وأشرفت عليها، بما في ذلك مفاوضات "قسد" الجارية للعودة إلى حضن النظام السوري.