سورية والحاجة إلى تعلّم السؤال
يحتاج التحوّل في الوعي المجتمعي الذي بات أكثر ما نحتاجه في سورية إلى بعد زمني لإنجازه، فيما لو توفرت إمكانات إنجازه، وهو طريق وعر، فيه عثرات ومعوقات ومبرّرات لليأس والتراجع كثيرة، خصوصا في بداياته، حيث الوعي مضلل بالشعارات والخطابات الحماسية العاطفية الانفعالية. والصدور، بسبب حجم العنف والظلم الممارس عليها، مليئة بالغلّ والضغينة والرغبة في الانتقام. وكلما طال أمد العنف والتنكيل وتهديد الوجود، زاد معه تمكين الوعي الزائف في العقول، بل ازداد تعطيل التفكير المنطقي والرفض للاحتكام إلى العقل أو تحليل الأدوات التي يمدّ الواقع بها.
سورية الحالية شبيهة بلعبة الـ "بازل"، تغييب قطعة أو أكثر في أثناء تركيب المشهد لن يظهر المشهد كما هو في الواقع، كما أن وضع قطعةٍ مكان قطعةٍ يستوعبها الفراغ نفسه سيزيد في تشويه الصورة وغموضها. وما يحصل اليوم هو لعبة البازل بهذه الطريقة التي لا يمكن أن تساهم في صناعة الوعي العام، بل ستزيدُه تأزمًا وارتباكًا، ما سيولّد توترًا وغضبًا وانفعالاً إضافيًا، وبالتالي سيزداد الانزلاق نحو ممارساتٍ لا تخدم هدف الثورة أو الغاية منها.
لا يمكن إنكار ما جرى للحراك السوري من تشويش، وانتزاع لهويته وحرفٍ لمساره حرفًا دراماتيكيًا، ما أدّى إلى زيادة الشرخ بين مكونات الشعب، وخسارة الثورة المرجوة قسمًا من مؤيديها، بدلاً من زيادة القاعدة الشعبية وعدد الملتحقين بركب الحراك ونشدان الانقلاب على الواقع.
صار الحديث عن طغيان النظام مكررًا من دون طائل، سنوات أوشكت أن تكمل الثماني، كافية لتشكيل جيلٍ بوعي مغاير، وبهموم واهتمامات أخرى، جيل أنضجته نيران الحرب قبل أوانه، من حقّه أن يطرح أسئلته الوجودية، وقد صار مرتهنًا للسلاح على مساحة أرض سورية، متنازلاً طوعًا أو إكراهًا عن أحلامه وطموحاته، فهل يمكن أن يُبنى وطن المستقبل بخبرات السلاح والمعارك والحروب فقط؟
نقد الأداء السياسي والعسكري والتفاوضي للجماعات المعارضة، كما نقد إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرة أطراف معارضة للنظام، وقد تكون معارضة لبعضها بعضا، لا يعني الوقوف إلى جانب النظام، أو تأييد طرف دون آخر من المتنازعين، بل هو أمر صحي بالنسبة لحركات التغيير والحركات الثورية، وهذا جدير بالوقوف عنده، فالنظام الذي انتفض الشعب في وجهه صادر الماضي، وصار مقروءًا بدقة، أما التعويل فهو على من يصنع المستقبل، يحقّ لهذا الجيل الذي خسر الكثير في هذه الحرب، وتعطلت سنوات عمره المنتج، أن يسأل عن مستقبله، وأن ينتقد أداء وممارسات الجهات التي تصادر مجاله الحيوي، وتمارس دورها القيادي، بل تحتكره وفق أجنداتٍ قد لا تكون مقروءة أو واضحةً بما يكفي، فالشفافية مطلوبة، والإعلان وكشف الأخطاء التي تصل، في بعض منها، إلى درجة الارتكابات، أمر يخدم الثورة ولا يدينها، فالثورة، وإن اتسمت بالفوضى والغوغائية وعدم اتضاح الرؤية أو المنهج، بالنتيجة هي مفهوم مبنيّ على قيم أخلاقية، فالعدالة والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص واحترام الواجبات وصون الحقوق والعيش المشترك والأفكار والمعتقدات، وأمور كثيرة غيرها، هي في المحصلة منظومة أخلاقية وقيمية، ومؤسِّسة لبناء مستقبلي متين. وهي بحسب المفكر عزمي بشارة: "الثورة.. فضيلة الانحياز والخطيئة"، انتفاضة المظلومين ضد نظام قائم، وليست صراعًا بين الأخيار والأشرار. لكن يجب ألاّ يُترك الحراك رهنًا للصراعات والأجندات والمصالح، حتى لا يفقد قيمته وزخمه، ويضيع بوصلته، ويتحوّل إلى صراع بالفعل بين أخيار وأشرار، مع التحفظ على القيمة الدلالية التي يحملها مفهوم الخير والشر، فقد تغيّرت دلالات المعاني في كثير منها بعد أكثر من سبع سنوات على النزيف السوري، وصارت تحمل الضّدين، بعدما انقسم الشعب بين مؤيد للحراك ومؤيد للنظام، وأصبحت الأخلاق مفهومًا مطواعًا يأخذ شكل القالب الذي يحتويه، والكل يربطها بالوطنية التي يفصّلها أيضًا على مقاس عقيدته، ويقصي الآخر خارجها.
عندما نرى أن انتفاضة المظلومين ضد نظام ظالم قد فتكت بها أنظمةٌ بديلةٌ واعدة، ومارست كثيرا من سلوك الطغيان الذي مارسه النظام القمعي الشمولي عقودا، فلا بد من النقد، والنقد المؤسس لوعي، وليس النقد من أجل التشهير والتجريح. وإذا لم يُفهم النقد المؤسّس للوعي على أنه من ضرورات الثورات أو حركات التغيير، وأن اللازمة في أي مدونة أو خطاب نقدي ليس بالضرورة أن تكون افتتاحيتها بتعداد جرائم النظام وشتمه ولعنه، حتى تحظى بالمصداقية، وتكون مقبولةً، كما أنها ليست ضرورة تاريخية لضمان زخم الثورة، فإن الثورة ستبقى في أزمةٍ، وستفقد وهجها ومناصريها. هذا منطق الأشياء، فهناك جيل سوري يتشكّل، جيل يولد من رحم الآلام والتصدّعات الروحية والنفسية والمجتمعية، جيل تغيّرت مفرداته ومنظومات وعيه ومفاهيمه، سوف يبحث عن مساره الخاص، وهذا من حقه. ومن واجبنا أن ننفتح عليه، ونفهم ما يريد، وهل كان فعلاً ملّ من الكلام المكرور واللغة الخشبية، ومن طغيانٍ يعيد تشكيل نفسه، أو يتناسخ من الصورة الأولية، لتذهب دماء هذا الشعب هباء؟
عندما قال جيفارا: يجب تحويل المجتمع بكامله إلى مدرسة عملاقة، أظنه كان يقصد أن عملية الوعي يجب أن يُؤسس لها، ويتشارك الجميع في العملية التربوية والمعرفية المنشودة، وإذا لم يكن أساس التربية هو تعليم التفكير النقدي، ومهارات طرح الأسئلة، فإن التغير المنشود سيبقى بعيد المنال في سورية، بكل مناطقها، بعدما آلت بنا التجارب المريرة إلى أن نحكي عن سورية بأجزائها، وليس بكليتها، ولا ضير من الإقرار بهذا الواقع، بل الإقرار به ضروري، من أجل أن تمتدّ تلك المدرسة العملاقة على مساحات الأجزاء كلها، وأن يكون السوريون جميعهم، في كل أنحاء سورية، ممن بقوا وممن هجروا، الهدف المنشود لتلك المدرسة العملاقة. نعم، السوريون كلهم، فهم ليسوا معارضة وموالاة، بل هم شعب كامل تعرّض لأبشع عملية انتهاكٍ لمقومات أمته المنشودة، من حقه أن يعيش ويصنع حياته، وكي يصنعها لا بد من أن يفهم.