ما يريده الروس من تطميناتهم المتواصلة للأمريكيين، بإبعاد الإيرانيين من سوريا، هو في الحقيقة محاولة لمواصلة الاستفراد بالساحة السورية، بعيدا عن الأمريكيين مقابل تطمين واشنطن، بأن موسكو تراعي مخاوفها و»سنعمل على تبديدها، ولكن إبقوا بعيدين».
بلا شك تدرك واشنطن أن روسيا تراوغ، لكن الحفاظ على شعرة معاوية مع بوتين، في بلد يتقلص نفوذ واشنطن فيه يوما بعد يوم، ليس بالفكرة السيئة، خصوصا أن الولايات المتحدة الأمريكية مارست هذه السياسة نفسها في العراق سابقا، بقبولها ومجاراتها لهيمنة إيران المتغلغلة شعبيا وسياسيا، فلم يكن حينها أمام المسؤولين الأمريكيين من خيارات عديدة، وجيشهم يتعرض لحرب من قبل فصائل التمرد السني، كما أوضح الحاكم الأمريكي بول بريمر، لاحقا في مذكراته، لذلك إن كانت أمريكا عجزت عن منع نفوذ ايران في بلد كانت تتمتع فيه بسيطرة كبيرة، وبوجود قوتها العسكرية كالعراق، فكيف يمكن لها منع هذا النفوذ في سوريا، حيث لا تجد موطئ قدم إلا شمالا، وهي في طريقها للانسحاب أيضا؟ وكيف تطلب من الروس ما عجزت عنه الولايات المتحدة في العراق قبل ذلك؟ قراءة تقرير بيكر هاملتون الذي تحدث فيه الأمريكييون عن أخطاء سياساتهم في العراق، قد يعطينا جزءا من الإجابة في سوريا. من الواضح أن الهدف الروسي المتمثل باستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي خلال حقبة الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، يتحقق شيئا فشيئا، وسوريا أحد أهم مراحله، لكنه يتحقق الآن بوتيرة متصاعدة في الشرق الاوسط، من دون مقاومة كبيرة من الولايات المتحدة، بسبب تراجع القوة الأمريكية الملحوظ يوما بعد يوم في المنطقة، فهم يتجهون لتحقيق ما قاله برنارد لويس عن ضرورة البحث عن «خروج مشرف» من المنطقة إذا واصلت واشنطن إخفاقاتها.
الساسة الأمريكيون يعرفون أيضا ان موسكو تخادعهم وتبيعهم بضاعة هي لا تملكها أولا، وهي مجرد تحصيل حاصل في سوريا الأسدية ثانيا، فمن ناحية النقطة الاولى، تحدث كثير من المسؤولين الأمريكيين والسفراء السابقين في عدة مقالات في الأشهر الماضية، ولم تلق رواجا لدى القراء العرب، المقبلون كالعادة على انتقائية تناسب رغبويتهم، تحدثوا بشكل صريح عن أن روسيا لا تملك قدرة أو هيمنة على القرار الإيراني في سوريا، وأن دور موسكو هو شراكة مكملة وليس مهيمنة. وناقش محللون آخرون تفاصيل ذلك في مفاصل الدولة السورية عسكريا وأمنيا، لذلك لا تملك روسيا هذا الترف السلطوي لتعد الامريكيين بما لا تملك. أما النقطة الثانية، فهي أكثر مفارقة، فالخروج المادي لبعض المستشارين الإيرانيين في سوريا والميليشيات الموالية لهم، هو اصلا تحصيل حاصل بعد إنجاز مهمتهم التي دخلوا لأجلها، وهي استعادة مناطق المعارضة وتثبيت حكم الاسد، فلا وجود عسكري رسمي ايراني، إلا من خلال ضباط يقودون غرف عمليات عسكرية وأمنية، وميليشيات شيعية معظم افرادها ليسوا إيرانيين، مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، كل هؤلاء لن تكون حاجة لوجودهم بعد استعادة أدلب المفترضة نهاية العام الجاري، لكن النفوذ الإيراني الاكبر سيبقى في سوريا، وهو بشار الأسد، فما دام الاسد باقيا في دمشق فإن ايران باقية وبقوة في سوريا، فهو حليف طهران الذي قاتلت لسنوات من أجله، ودفعت بكل حلفائها لمؤازرته من العراق ولبنان، وهو ثمرة تماسك التحالف الايراني الشيعي الأقلوي في المشرق، وعلينا أن لا ننسى أن سوريا اصبحت اكثر قوة في لبنان بعد خروج جيشها، وليس خلال تواجد قواتها هناك، من خلال تنامي قوة حزب الله في لبنان، وكذلك إيران هي اكثر قوة في لبنان، من دون أن يكون لديها جندي ايراني واحد، لذلك فإن الحديث عن خروج لقوات أو شخصيات عسكرية نظامية ايرانية من بلدان كسوريا ولبنان، لا قيمة له في منطقة لا تعترف بالمقاييس التقليدية، حيث تحول مفاتيح الجنة على صدور الملايين من أتباع آيات الله في العراق ولبنان وشرق السعودية والبحرين واليمن، تحولهم إلى جنود مجندة لإيران غير مسجلين رسميا في القوات الإيرانية.
على الرغم من المشهد المأساوي الذي وصلت إليه الأزمة السورية بعد سبع سنوات من الثورة، ما يزال النظام والمعارضة ينظران إلى تطورات المشهد السوري من منظار الفوز والهزيمة: النظام يعتقد أنه انتصر ومنع المعارضين والإرهابين من السيطرة على الدولة، وأنه يحظى برضى دولي وإن لم يظهر ذلك على المستوى الرسمي، في حين تعتقد المعارضة الرسمية والشعبية أن المجتمع الدولي غدر بالثورة المسلحة، لكنه لن يتخلى عن الثورة السياسية ومطالبها وإن بدا متراخيا على المستوى الرسمي حيال هذه المطالب.
هذه الرؤية هي التي تجعل كلا الطرفين يرفضان أنصاف الحلول، ويتمسكان بمواقفهما الحدية، ولم يدركا أن مطالب كل واحد منهما لن تتحقق كاملة، وإنما سيتم تحقيق جزءا منها: المعارضة تتعامل مع الثورة السورية من منطلق قيمي أخلاقي، فتطلق أحكاما وجوبية ـ معيارية وفق ما ينبغي أن يكون، أما النظام فينطلق من واقعية مفرطة خالية من أي محتوى أخلاقي، فيطلق أحكاما وجودية وفق ما هو قائم بناء على موازين القوى، مفتقدا في قاموسه فكرة الحقوق والعدالة وسيادة القانون.
منذ بداية عام 2013 إلى نهاية عام 2015 كانت الساحة العسكرية تموج بالتقلبات المتناقضة، فثمة أشهر تظهر فيها غلبة المعارضة، ثم لا يلبث أن يحدث العكس فيقوى النظام وتضعف الفصائل المسلحة، إلى أن يحدث العكس مرة ثانية، وظل هذا الوضع على ما هو عليه إلى أن حدث التدخل العسكري الروسي بتفاهم أو برضى أمريكي في سبتمبر/ أيلول 2015.
بدا منذ ذلك الحين، أن ثمة حقائق واضحة لم تنتبه لها المعارضة، أو أنها انتبهت إليها ولكن زمام الأمر فلت من يدها وأصبح بيد الدول الخارجية: أولى هذه الحقائق أنه لن يسمح بإسقاط النظام عسكريا على غرار ما جرى في ليبيا، وثاني الحقائق أن المعارك بين الطرفين يجب أن تستمر إلى مرحلة تصبح فيها البلاد مدمرة عن بكرة أبيها، وأن سوريا ذات الثقل الاستراتيجي لن تكون موجودة على الخارطة الإقليمية، وثالث الحقائق أن الولايات المتحدة غضت الطرف عن التثوير الطائفي والقومي المسلح، فسمحت للتيار السني الجهادي والسلفي بالامتداد داخل سوريا، في وقت غضت الطرف عن تمدد التيار الشيعي بكل حمولاته العسكرية والأيديولوجية.
تمت تغذية النزعات القومية والطائفية بين أطياف المجتمع السوري، ومورست سياسات أمريكية ساهمت بنشوء وعي سني سياسي/ عسكري زائف ومخالف للواقع، وبنشوء فورة قومية لدى الأكراد مخالفة أيضا لمقتضيات الجغرافية المحلية والإقليمية.
إن انتقال الولايات المتحدة من مرحلة توازن الصراع بين الطرفين السوريين، إلى مرحلة تغليب طرف على طرف عسكريا، لم يكن بسبب قناعات سياسية بهذا الطرف (النظام)، وإنما لأن الأمور وصلت إلى حد لم يعد يُسمح الاستمرار به، فالمطلوب تفتيت الدولة السورية ونشوء شبه كيانات فيها، ولكن ضمن إطار الوحدة الجغرافية السورية.
وأية محاولة لدفع سايكس بيكو جديد إلى الأمام سيؤدي إلى ارتدادات عكسية، ذلك أن سايكس بيكو الحالي حقق دوره في تفتيت الدول العربية من دون أن يحدث انفجارات طائفية أو قومية أو إثنية، في حين أن أية محاولة جديدة للتقسيم ستؤدي إلى انفجار طائفي ـ قومي غير مقبول دوليا، ومن هنا كان لا بد من انتصار النظام عسكريا، من دون أن تكون لديه القدرة على الاستحواذ بالجغرافية السورية على الأقل في هذه المرحلة، كما لن يكون مسموحا له الاستحواذ على مقدرات البلاد الاقتصادية، بحيث يبقى في عجز وأزمة اقتصادية.
ليس هدف الولايات المتحدة نشر الديمقراطية وتحقيق دولة القانون والعدالة الاجتماعية، ولم تكن تلك القيم هدفا سياسيا أو أيديولوجيا للولايات المتحدة، بقدر ما هي إما أداة للتدخل الخارجي، أو سلطة خطاب موجهة للداخل الأمريكي.
الهدف الأمريكي هو القضاء على مكانة سوريا الإقليمية التي شكلت معبرا جيواستراتيجيا في المنطقة، وبعدما تحقق هذا الهدف لا بد من استمرار سورية ضعيفة، وهذا لا يكون بقيام نظام ديمقراطي يعيد إنتاج الدولة والمجتمع، وإنما باستمرار السلطة الشمولية وفق أشكال جديدة، ولذلك يجب على المعارضة أن تهيئ نفسها لمزيد من التنازلات الأمريكية على المستوى السياسي كما فعلت على المستوى العسكري.
تنتظر زيمبابوي، خلال أيام، الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية التي أجريت في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وهي أول انتخابات حرّة تجرى بعد الانتهاء من حكم الدكتاتور روبرت موغابي الذي استمر 37 عاماً.
منذ حصولها على استقلالها عن بريطانيا في عام 1980، تمكّن بطل الاستقلال موغابي، من حكمها، حتى عام 2017 عندما تمكّن الحزب الحاكم والجيش من إطاحته في انقلاب أبيض، حينها فوجئ ليس العالم فقط، وإنما المواطنون الزيمبابويون أيضاً، فتشبث موغابي بالسلطة، وهو الذي تجاوزت شهرته أحد أهم دكتاتوريي أفريقيا في القرن الواحد والعشرين الآفاق، حيث كلفت الكثير من الأرواح والأموال.
تسلم موغابي السلطة في عام 1980 في البداية رئيسا للحكومة، ثم رئيساً، حيث كان قيادياً من أجل النضال لاستقلال زيمبابوي عن بريطانيا ضمن حزب الاتحاد الوطني الأفريقي الزيمبابوي في زيمبابوي (ZANU) ، وبدعم نشط من القوى الشيوعية في تلك الفترة ودول أفريقية مجاورة، وتراوح النشاط بين العمل السياسي السلمي والعسكري، حيث بدأ الحزب بالقيام بعمليات حرب العصابات ضد حكومة روديسيا (الاسم السابق لزيمبابوي قبل الاستقلال) ذات الأغلبية البيضاء.
استند موغابي إلى تاريخه في النضال ضد الاستعمار مبرّرا للاستبداد بالسلطة المطلقة، وحصر السلطة والثروة بيده، ومع تزايد الاحتجاجات ضده، التي كان يقمعها بقوة، وكانت الأوضاع الاقتصادية والصحية تتدهور بشكلٍ لا مثيل له، حتى بالمقارنة مع دول الجوار الأفريقية الأخرى، فبحلول عام 1997 كان ما يقدر بنحو 25٪ من السكان قد أصيبوا بفيروس نقص المناعة البشرية في وباءٍ كان يؤثّر على معظم جنوب أفريقيا.
وكي يحول الانتباه عن فشل سياسته الاقتصادية، لجأ إلى السياسات الشعبوية في قضية إعادة توزيع الأراضي التي جعلها قضية رئيسية عام 1997، حيث تملك الأقلية البيضاء الذي لا يتجاوز عددها 0.6٪ أكثر من 70٪ من الأراضي الزراعية الخصبة. وفي العام 2000، أقرّ قانون الإصلاح الزراعي، وتم تطبيقه بالقوة، وقد أدت مصادرة الأراضي الزراعية، وعدم تمكّن الملاكين السود الجدد من زراعتها من انتشار الجفاف وانخفاضٍ خطير في التمويل الخارجي، وغيره من أشكال الدعم، وهو ما أدّى إلى انخفاض حاد في الصادرات الزراعية التي كانت تقليديا القطاع الرائد في التصدير. ووجد الرئيس موغابي وقيادة حزب زانو- بي إف أنفسهم محاصرين بمجموعة كبيرة من العقوبات الدولية، رداً على مصادرة الأراضي في عام 2002، حيث تم تعليق عضوية زيمبابوي في كومنولث الأمم بسبب هذا القانون وتزوير الانتخابات. وفي أواخر عام 2008 ، وصلت المشكلات في زيمبابوي إلى مستويات الأزمة الإنسانية الكبرى في مجالات مستويات المعيشة والصحة العامة (مع تفشّي الكوليرا في هذا العام) وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية، وهو ما يسميه الخبراء "التضخم الصارخ"، حيث لم يعد للقيمة المحلية أي قيمة حقيقية، أو قدرة على الشراء، إلى درجة أن هناك ورقة من العملة المحلية من فئة مائة مليار، لكنها لم تكن تعادل في تلك الفترة أكثر من عشرة دولارات. وفي سبتمبر/ أيلول 2008، وتحت الضغوط الدولية، تم التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين تسفانغيراي المعارض الرئيسي، والذي ترشح في انتخابات عام 2008 ضد الرئيس موغابي، ما سمح للأول بتولي منصب رئيس الوزراء، وبسبب الخلافات الوزارية لم يتم تنفيذ الاتفاقية بالكامل حتى 13 فبراير/ شباط 2009.
أعيد انتخاب موغابي رئيسًا في الانتخابات العامة في يوليو/ تموز 2013، والتي وصفها المراقبون الدوليون أنها غير ذات صدقية، وتضمّنت كثيرا من التلاعب والغشّ والتزوير. وأعاد موغابي فرض حكم الحزب الواحد، فبدأت الاحتجاجات على مستوى البلاد بخصوص الانهيار الاقتصادي في البلاد، واعترف وزير المالية في ذلك الوقت "لا نملك أي شيء بالمعنى الحرفي للكلمة". وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، قاد الجيش انقلابًا عقب إقالة نائب الرئيس إيمرسون منانغاغوا، ووضع موغابي قيد الإقامة الجبرية. نفى الجيش أن يكون ما قام به يعد انقلاباً وأجبر موغابي على الاستقالة، بعد أن قاد البلاد 37 عامًا. وذكرت حينها مجلة الإيكونومست أن حكومة موغابي تسبّبت، بشكل مباشر أو غير مباشر، في وفاة ثلاثة ملايين زيمبابوي على الأقل خلال 37 عامًا.
قال المراقبون الدوليون الذين حضروا لمراقبة الانتخابات إنها اتصفت بالنزاهة والشفافية، حيث كان السباق بين حزب زانو- بي إف من مانغاغوا وحزب حركة التغيير الديمقراطي في تشاميزا، والفرق بين المرشحيْن كان ضيقاً للغاية. وعلى الرغم من اتهامات المعارضة الحزب الحاكم، وهو حزب موغابي، حزب زانو- بي إف الحاكم، بأنه يحاول التلاعب بالأصوات للسماح للرئيس إيمرسون مانغاغوا بالفوز، فذلك لا يلغي تنافسية هذه الانتخابات، ودورها المهم في تحديد مصير زيمبابوي للسنوات المقبلة.
تعد زيمبابوي أكثر الدول فقراً على الإطلاق، وفق بيانات البنك الدولي، حيث يعيش كثيرون من سكانها بأقل من دولار في اليوم، وهي الدولة ألأولى التي تشهد ما يسمّى التضخم الصارخ، (دخلته فنزويلا أخيرا). وعلى الرغم من ذلك كله، نجحت في تأمين انتقال سلمي للسلطة، وعبر انتخابات نزيهة، خضعت للمراقبة الدولية، لكي تنهي 37 عاماً من حكم الدكتاتور موغابي، وذلك في الوقت الذي لدى سورية طبقة وسطى أوسع بكثير، وطبقة رجال أعمال لديها علاقاتها التجارية الكبرى مع دول الجوار وأوروبا، كما أن سورية دولة ذات حضارة عمرها أكثر من عشرة آلاف عام، فحلب أقدم مدينة مأهولة، تليها دمشق، بينما لا تتجاوز حضارة زيمبابوي ما بعد القبلية الخمسين عاماً، ويعود الفضل فيها إلى الاستعمار البريطاني.. السؤال المحيّر: كيف نجحت زيمبابوي، بمثل هذه المؤشرات، وفشلت سورية كلياً في تحقيق مثل هذا الانتقال، بل دخلت في أسوأ مرحلة من تاريخها في عمليات القتل والإبادة الجماعية، تحت أعين العالم، وبرعاية بشار الأسد.
تفشل النظرية التي تربط التحول الديمقراطي بنمو الطبقة الوسطى في إعطائنا تفسيراً مقنعاً هنا، والأكثر إقناعاً أن الحضارة والثقافة والاقتصاد كلها لن تنفعك، إذا كانت القيادة، كقيادة الأسد وأعوانه، مسكونة بهاجس الطائفية، ووجودها وتدفع بلداً بأكمله إلى التدمير من أجل بقائها في السلطة، وهو ما يلخص ما نقل على لسان مدير المخابرات الجوية، جميل الحسن، أن أكثر من ثلاثة ملايين ملف لمطلوبين سوريين داخليا وخارجيا جاهزة، مضيفا أن "العدد الهائل للمطلوبين لن يشكل صعوبةً في إتمام الخطة؛ فسورية بـعشرة ملايين صادق مطيع للقيادة أفضل من سورية بـ 30 مليون مخرّب"، حسب وصفه.
يتصرف الموالون للنظام السوري في لبنان بما يوحي أن الوصاية السورية عائدة إلى البلد. تتناغم مع الدعوة جماعات من أركان النظام، في شكل واثق من العودة. ليس خافياً أن محصلة سيطرة النظام على معظم الأراضي السورية، واعتبار نفسه منتصراً على الانتفاضة المسلحة، يضاف إليها ما استطاع مناصروه في لبنان تحقيقه من نجاحات، خصوصاً في الانتخابات النيابية الأخيرة، كلها عوامل تجعل من طموح النظام السوري عودة هيمنة ما على الساحة اللبنانية، أمراً في متناول اليد.
في المقابل، تبدو الهواجس من احتمالات عودة الوصاية وأخطارها هواجس مشروعة، بالنظر إلى ما عاناه اللبنانيون على امتداد ثلاثة عقود منها ومن نتائجها الكارثية على لبنان. أين يكمن الخطر الحقيقي من هذه العودة، وأين يقع في باب المستحيل؟
تشكل العلاقات اللبنانية السورية مدخلاً للبحث في الوصاية وطبيعتها في المحطة الراهنة بين البلدين. لا شك في أن هذه العلاقة تعيش توتراً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري واتهام النظام السوري بالضلوع فيه، بشكل مباشر ام غير مباشر. ازداد توتر العلاقات مع الانتفاضة السورية ودخول قوى لبنانية في الصراع ضد النظام. يستحيل أن تبقى العلاقات بين البلدين على الحال التي هي عليه راهنا. فقسم من لبنان الرسمي يقيم هذه العلاقة من دون موافقة الحكومة اللبنانية، فيما قسم آخر يرفض التطبيع مع النظام.
إن عودة العلاقة بين البلدين أمر حيوي لما فيه مصلحة مشتركة، لكن شرط عودتها يجب ان يقوم على قاعدة الاستقلالية ومنع السيطرة أو التدخل في شؤون أي بلد تجاه الآخر، ما يعني استحالة الوضع الراهن في المستقبل.
يملك النظام السوري ورقة النازحين السوريين إلى لبنان، وهو موضوع يضغط به على الحكم اللبناني من اجل إعادة العلاقة. حتى الآن، يرفض النظام عودة النازحين إلا من خلال التنسيق الرسمي مع الحكومة اللبنانية، ويضع هذا الشرط في طليعة أهدافه التي يتوخى من خلالها فرض شروط يرى انها ستشكل مفتاح عودة شيء من سلطته على الحكم اللبناني. يستفيد النظام من المطالبات اللبنانية بضرورة التنسيق من اجل التشدد في مطالبه. في المقابل، يدرك النظام أن لبنان يحتاج إلى هذه العلاقة في جانبها الاقتصادي. فسورية تشكل المعبر الوحيد البري للصادرات اللبنانية إلى الدول العربية وبعض الدول الإقليمية. معروف حجم الخسائر الكبير الذي تكبده الاقتصاد اللبناني بعد إقفال المعابر السورية مع لبنان والأردن والعراق. هذه الحاجة اللبنانية تشكل ضغطا فعليا على الحكم اللبناني، يمارسه رجال أعمال لبنانيون لهم مصلحة في إعادة فتح المعابر.
لم يكن التدخل السوري في أي يوم من الأيام تدخلاً خارجياً فقط، بل كانت له ممرات لبنانية داخلية شكلت دوما غطاء لهذا التدخل، أعطته شرعية كاملة. خلافاً لنظرية حروب الآخرين، كان التدخل السوري في الحرب الأهلية يستند إلى قوى داخلية لجأت اليه للحماية ولدعمها في الصراع ضد قوى لبنانية. الأمر نفسه يكاد يتجدد اليوم، فالطموح السوري في العودة يستند إلى قوى سياسية واسعة. أول هذه القوى يتمثل في العهد القائم والتيار السياسي الذي يمثله، حيث يدين العهد إلى النظام في تبوئه رئاسة الجمهورية، وحيث أيضا يمهد رئيس تيار العهد إلى الوصول للرئاسة لاحقا، مما يجعله يقدم أوراق اعتماده منذ اليوم إلى الرئاسة السورية، باعتبار انها ستكون أحد الناخبين المقررين في رئاسة الجمهورية. إضافة إلى هذه القوة المسيحية الأساسية، يملك النظام السوري موقعا مهما لدى سائر القوى الممثلة للطائفة المسيحية. اما في الجانب الشيعي، فإن القوى السياسية الممثلة للطائفة يصب ولاؤها بالكامل إلى جانب النظام، وهي قوى ذات نفوذ مقرر اليوم على الساحة اللبنانية، سواء من خلال نفوذها الشعبي، أو الأهم عبر وجود قوة مسلحة لدى أحد أطرافها، بما يجعل الطائفة مرتكزاً لهذه الهيمنة، وعنصراً حاسماً في ردع قوى الاعتراض بشتى الوسائل. في الطائفة السنية، حيث يرفع بعض قادتها الأساسيين لواء رفض التطبيع، فإن الانتخابات النيابية الأخيرة أفرزت قوى غير قليلة في حجمها النيابي والشعبي، وهي من الداعين إلى العلاقة المتينة مع النظام، بل ان بعضها يغالي في ولائه وانتمائه ودعوته إلى عودة الوصاية. في الجانب الدرزي، يسود الانقسام بين رافض للعلاقة وبين داع لها بقوة، ما يجعل الطائفة في حال من الاضطراب الذي برز في شكل واسع في الأسابيع الماضية بعد المجزرة التي ارتكبها تنظيم «داعش» المتهم فيها النظام السوري.
على رغم كل ما اشير اليه، فان الوصاية السورية في شكلها الذي عرفه لبنان سابقاً تبدو غير ممكنة. فهذه الوصاية استندت إلى الجيش السوري المتواجد في لبنان، الذي استخدم هراوة في قمع كل معارض، والذي اجبر قوى سياسية على الولاء. كما ان هذه الوصاية كانت مشرعة إقليمياً ودولياً، فهي أتت لضرب قوى الاعتراض اللبناني والفلسطيني، واستخدمت في إدارة الحرب الأهلية اللبنانية. هذه الشرعية غير متوفرة الآن، ناهيك بأن البلد لا يعيش حرباً أهلية ساخنة كما كان عليه الأمر سابقاً. من حق اللبنانيين التوجس من عودة الوصاية، فقد شكلت عائقاً في وجه تطور لبنان الديموقراطي، ومانعاً للتسوية الحقيقية بين اللبنانيين، وساهمت في نهب ثروات البلد. فهل يعي اللبنانيون أخطارهذه العودة؟
من سردابه السري المجهول، وبطريقة الصراخ نفسها، خرج حسن نصر الله من جديد. هاجم، وضلل، وزوّر، وخوّن. ولأنه يفهم في كل شيء، لم يترك قضية لم يدس أنفه فيها، كما دس أنف لبنان الذي يقول إنه يتخذ سياسة النأي عن النفس. من سوريا إلى كندا، مروراً بقطر، واليمن، والعراق، ومجلس التعاون، وتركيا، وماليزيا، والولايات المتحدة، وبالطبع إيران، متمنياً أن «الرهان على إسقاط النظام في إيران أو تغيير وجهته عبر الحصار والعقوبات لن يتحقق»، ومدافعاً بالطبع عن إيران بأنها «هي أقوى من أي زمن مضى، وهي الأقوى في المنطقة، ونظامها قوي ومستحكم وثابت». نعم، هكذا إيران هي الأقوى في تمنيات نصر الله. اللغة نفسها التي يتحدث بها خامنئي، المنطق ذاته، الأكاذيب نفسها. والخصوم أنفسهم، وبالطبع النتيجة نفسها.
يعدد نصر الله، كعادته في خطاباته، التي لا يستطيع أحد أن يعدها، انتصاراته، لكنه لا يتوقف ويشرح أينها. يفاخر بمرور 12 سنة على حرب دمر فيها لبنان، وينسى كبير المتناقضين أنه قال يوماً: لو كنت أعرف أن كل هذا الدمار سوف يحل بلبنان لما بدأت الحرب، وفي الوقت نفسه يزعم أن «(حزب الله) أقوى من الجيش الإسرائيلي». يواصل تدمير لبنان بتخريب علاقاته مع جيرانه وأصدقائه، غير حافل بأي ضرر يقع من تدخلاته في شؤون دول صديقة للبنان. يذرف دموع التماسيح على السوريين، ناسياً أن نائب حزبه في البرلمان اللبناني، محمد رعد، هو من قال عن اللاجئين السوريين في بلاده، إن مخيماتهم «قنبلة موقوتة». يمارس ما يدينه بنفسه؛ فهو من جهة يزعم أن «الصراعات السياسية والشتائم والاتهامات لا تحقق الإنماء والخدمات في لبنان»، لكن نصر الله لا يتغير، فهو المتناقض الكبير الذي يدخل بلاده في صراعات سياسية هي في غنى عنها، شاتماً ومتهماً ومتطاولاً، فهل ما قاله يحقق الإنماء والخدمات في لبنان؟!
خطابات نصر الله أصبح لا طعم ولا لون لها حتى عند جمهوره الذي يتابعه فقط من خلف الشاشات، يكرر العبارات والمصطلحات نفسها، والهجوم ذاته على أصدقاء لبنان، والدفاع نفسه عن مصالح طهران، وإلا مَن المستفيد من تكرار أكذوبة التدخل السعودي في لبنان سوى النظام الإيراني؟! أليس نصر الله نفسه من اعترف بأن إيران هي من ينفق على «حزب الله»؟! بل إن طهران نفسها تقدم الأدلة على تدخلها، كما جاء على لسان الرئيس الإيراني حسن روحاني حين قال في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، إنه لا يمكن في الوقت الحاضر اتخاذ ما اعتبره إجراءً حاسماً في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج، دون إيران؛ وهو ما استدعى رد سعد الحريري عليه حينها في تغريدة جاء فيها: «قول روحاني أن لا قرار يتخذ في لبنان دون إيران قول مرفوض ومردود لأصحابه»، ولم يستطع نصر الله وقتها تكذيب مرجعه السياسي والروحي، حيث اكتفى «حزب الله» بتضليل الرأي العام والقول إن التصريحات «أسيء فهمها».
شيئاً فشيئاً تحولت خطابات حسن نصر الله إلى دراما من الدرجة العاشرة، لا يهتم بها أحد، ولا تؤثر في أحد. لبنان الجريح وحده الذي يعاني من جراء تبعات التدخلات السافرة، ويحسب على الدولة أن هناك من ينخر لمنع استقرارها وبقاء جروحها مفتوحة، أما نصر الله وحزبه فلا يهمهما سوى تسويق النموذج الإيراني الذي غدا تحت العزلة أكثر من أي وقت آخر، وبالتأكيد «حزب الله» ونصر الله يدوران في فلك المعاناة الإيرانية المتزايدة ذاتها.
أن تكون سوريّاً يعني أنَّك ذاك الإنسان الَّذي يقف على ناصية الهموم راجياً منها أن تكون حُلماً، ذاك الإنسان الَّذي يبحث عن قنديل ونجمة كي يوقد عتمته الَّتي أهلكتهُ، ذاك الإنسان الّذي أبحر في سفينته فخرقتها صَّخرة فتحطمت وغرقت في بحرِ الأسى. معنى أن تكون سوريّاً؟ جرّب قليلاً، جرّب أن تضيع، جرّب أن تموت آمالك أمامك وتُنحر طموحاتك أمامك كما تُنحر الإبل، جرّب أن تكون لعبةً بيد أحدهم جرّب أن تكون (كركوز وعيواظ)
أن تكون سوريّاً أي أن الشَّوارع والأزفة الَّتي كنت تسير فيها منذُ طُّفولتك للذهاب إلى مدرستك أو مكان عملك تراها اليوم مهدَّمة، تقفُ على أطلالها كأنَّك امرؤ القيس حين أنشد: قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ. أن تكون سوريًّا يعني أن تاريخ أرضك العريق المتجذر في كل الحضارات الإنسانيّة لا ينفعك قيده أنملة، ما قدمته بلادك عبر التاريخ لكل العالم لا ينفعك ولو قليلًا. تخور قواك بينما كُنت في الأمسِ القريب سنداً وظلَّاً ومنارةً يلجأُ إليك الحيارى من كلَّ صوب، تتشرد فلا شبر أرض يستقبلك وحزنك، تموت فلا قبر يضمك. أن تكون سوريّاً يعني أنك في وسط صَّحراء مقفرة تحيط بك الوحوش تنتظر اللَّحظة المواتية لتنقض عليك وتشرب من دمِك.
تذهب للجامعة أو المدرسة فيقول لك الأستاذ أن ملامحك سوريّة فتبتسم وتقول له نعم، كيف عرفت؟ من تلك الحرب التي في عينيك من لهيب المدفع وصوت الرصاص.
في عرض البحر يضيعُ قاربك ويضل الطريق فتتجمع من حولك أنواع الأسماك علها تظفر بقطعة لحم من جسدك المثقل بالجراح. أن تكون سوريًّا يعني ملكك لأصدقاء هم أول من يتخلى عنك وأول من ينهش منك، وأول من تسبب فيما أنت عليه، وأول من خان وآخر من أعان. أن تكون سوريّاً يعني أنَّك مغمض العينين تسير وتدور حول السّاقية فلا تستطيع أن تبلغها فتسكت الظمأ الَّذي أنهكك، أن تكون سوريّاً يعني أنَّك عندما قررت أن ترفع رأسك ذات رَّبيع جلبوا لك الشذاذ والرّعاع كي يسحقوا جمجمتك و يدوسكَ حتى تموت، يعني أن تكون في المعتقلاتِ كأنَّك غير موجود على هذه الأرض لا ترى النّور بل الظلام، حتى تتعود فتصبح كأنَّك خُفاشاً يمارس ضدك أشدّ أنواع التعذيب قساوةً فإما أن تموت وإما أن تعود لأهلك بعد أن تفقد كلّ مقومات الحياة.
أن تكون سوريّاً كأنك فأرَ تجارب، ينعم النَّاس بزخاتِ المطر بينما أنت الوحيد الَّذي يسقط عليك بدل المطر أنواع لا تُحصى ولا تُعد من الصواريخ و القذائف و البراميل المتفجّرة. ثم ماذا هل هكذا يعيش الإنسان؟ نعم هكذا يعيش السوريّ، إن كان في أرضه نهشت الحرب جسده وإن كان خارجها أحرقه الشوق ولفحه لظى الحنين. جرب أن تسير في شوارع مدينة غير مدينتك والكل ينظر إليّك إلى تلك الملامح العربيّة والسمرة والدعج في العينين والأهم ذاك العبوس والقهر والبؤس، ترى الناس حولك يضحكون وأنت تعقد الخيط تحاول أن تفكه فلا تستطيع، وأنت تذهب لبائع الخبر في دولةٍ عربيّةٍ فيعرف أنّك سوريًّا فيبدأ بتفتيح الجروح يذكرك بالخبز الطري المرقوق ورائحته الشهية بينما أنت تحاول ألا تتذكر فيرغمك الحنين على ذلك.
جرب أن تذهب للجامعة أو المدرسة فيقول لك الأستاذ أن ملامحك سوريّة فتبتسم وتقول له نعم، كيف عرفت؟ من تلك الحرب التي في عينيك من لهيب المدفع وصوت الرصاص. هنا يا صديقي تشعر وكأنك في وسط معمعة الحرب تحاول الهروب فلا ملجأ ولا منفذ، فتخور دموعك تحاول أن تحبسها فكأنك تحاول أن توقف الحرب فلا جدوى من ذلك. إن الشوق قد أدمن أضلعي وكان الفراق شيء فوق طاقتي، ضعفت روحي وسلكت طريق العبور إلى الفلاء لعلي أكون تائهاً لا يذَكرني أحد بسوريتي، لعلي أموت غريباً، يبعث الله لي غرابًا يدفنني أو سيلًا يطمر جثتي، أريد ألا أتذكر لعل الزهايمر يُصيبني فتمحى ذاكرتي كأني ولدت من جديد. أن تكون سوريّاً، فكل ما عليك أن تحمل جواز السفر وحقيبتك المملوءة بالذكريات الخالية من كل مقومات الحياة تبحث عن مكان يسدي لك خدمةً ألاّ وهي الإيواء.
تجتهد أوساط "حزب الله" في تعليق على التأخير في تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري، في رفع مسؤولية التأخير عنها بشكل كامل، وإذا كان ذلك من حقها لان المترتبات على التأخير كبيرة، فإن الباقي يبقى مثل حلّ مسألة من الكلمات المتقاطعة. وفي كل تقاطعات العرض تبقى سوريا عقدة القطع والوصل، سواء ما يرتبط منها بعودة العلاقات معها، أو ما يتعلّق بشروط هذه العودة، أو لماذا العودة والحرب لم تنته ولماذا هذا الاستعجال؟.
تقول الأوساط نفسها "إن الرئيس الحريري أكد مراراً في معرض نفي التأخير بسبب عقدة خارجية بأن السعودية لا تتدخل. ونحن بدورنا نؤكد اننا لسنا بوارد الربط بين التشكيل وقضية عودة العلاقات مع سوريا". لكن عدم الربط لا يحول دون الكلام عن سوريا ولماذا يجب ان تعود العلاقات. "مشكلة "عودة النازحين السوريين مسألة وقت. وهذه العودة ضرورية ومنتجة للبنان. سوريا تبقى الى الابد ممراً إجبارياً للبضائع والمنتجات الزراعية وغيرها، ولذلك فإن فتح معبر "نصيب" والتفاهم حوله ضروري عاجلاً أو آجلاً. كذلك وهو الأهم ان عودة النازحين تخفّف كثيراً من الضغوط اليومية على البنى التحتية في كل أنواعها وأشكالها الحياتية"، وإذا كان اللواء عباس ابراهيم يلعب دوراً هاماً وفاعلاً حالياً في هذا الملف فإن معالجته كاملاً تتطلّب خطوات أكبر وأشمل .
وحول تشكيل الحكومة والعقبات التي تحول دون إتمامها ، تضيف الأوساط الحزبية نفسها: "نحن لم نضع حجراً كبيراً عندما طلبنا ما طلبناه. قلنا إننا والرئيس بري نريد ستة وزراء وهو حقنا المشروع وإذا كنّا نطالب بمقعد وزاري لسليمان فرنجية ومقعد للسنة المعارضين فليس لنصبح سبعة وزراء أو ثمانية". وفي محاولة جادة للتأكيد بان هذا الموقف جزء من استراتيجة او خريطة عمل مستقبلية، تؤكد هذه الأوساط، أن الالتزام كامل وهو يقوم على ثلاث لاءات، وأن المطلوب مقابلها ألا ننظر الى الخارج:
• لا سحب للتكليف.
• لا استخدام للشارع.
• لا إسقاط للحكومة.
الكلام عن سوريا يفرض حكماً الكلام عن تطوراتها، إذ كيف يجري الحديث عن عودة النازحين والحرب لم تنته؟ تبدو إدلب في "عين الإعصار"، ويبدو الكلام عن معركتها وكأنها أمر لا بد منه، والسؤال هو كيف يمكن القضاء على المجموعات المتطرفة التي لا يريدها احد، ولا يبدو ان اي احد، بما في ذلك تركيا، مستعد لاستقبال اي عدد منها، دون الانزلاق نحو بحر من دماء المدنيين؟
لم يعد ممكناً الفصل بين الحديث عن سوريا وروسيا الحاضرة في كل التفاصيل. من ذلك ان روسيا تريد تحقيق الهدوء والسيطرة النهائية شرط اعادة الإعمار السياسي، وهذا يتم عبر اعادة هيكلة الجيش والاجهزة الأمنية على قاعدة الدستور الجديد...وهنا تبدأ عملية اعادة الإعمار، الذي من دون تحقيقه على قاعدة الممكن بسرعة والضروري أولاً والملحّ والممكن لاحقاً، لن تتم عملية اعادة النازحين ضمن خطة شاملة ومبرمجة تقوم بها روسيا...
يبقى، وهو ما يعني لبنان واللبنانيين أساساً، استمرار وجود الحزب وقواته في سوريا الى متى؟. تقول الأوساط نفسها: "ان الحاجة للحزب وقواته تتضاءل في سوريا حالياً. واستعجال معركة إدلب هو لرفع منسوب التخفيف من الحاجة لقوات الحزب ... لكن هذا لا يجب أن يعني أن الانسحاب من سوريا هو اليوم أو غداً. ذلك ان الحاجة إلى تواجده مرتبطة بإعادة تأهيل الجيش السوري بحيث تنتفي الحاجة كلياً إليه".
من الطبيعي القول ان إعادة بناء الجيش السوري ولو تحت إشراف روسيا ودعمها مهمة طويلة، اذاً إن استمرار وجود قوات الحزب في سوريا طويل...
ثمة شعور عميق بالمظلومية عند سكان محافظة إدلب، فقد حرمت هذه المحافظة التي تزيد مساحتها على 6 آلاف كم مربع، من التنمية على مدى القرن العشرين، وهي البوابة الكبرى في الشمال إلى تركيا وأوروبا، ورغم انصراف السكان فيها إلى الزراعة واشتهارها بشجرة الزيتون المباركة فإن أجيال الشباب المتدفقة التي انصرفت إلى الجامعات، وشكلت ثروة من الكوادر البشرية لم تجد مستقبلاً رغداً في بلدها، ولم تستطع الحكومات المتلاحقة منذ الستينيات أن تنجز مشاريع تواكب حراك الشباب، وتستوعب طاقاتهم، وكثير منهم أشاح بوجهه عن الحزب الحاكم، كما أن الشعب في إدلب عامة لم يتفاعل مع عهود «البعث» مما جعل قادة النظام يكنون كراهية غير معلنة لإدلب التي بقيت مهمشة، وقد تمكن عقلاؤها من تجنيبها اقتحام النظام لها في مأساة الثمانينيات، لكن النظام اقتحم جسر الشغور وارتكب فيها مجزرة مشهودة.
ومن المحتمل أن يصر النظام اليوم على استرداد جسر الشغور بالقوة، لأن هذه المدينة العريقة مجاورة لجبال اللاذقية التي تعتبر معقل قادة النظام، وتسيطر عليها (هيئة تحرير الشام - النصرة ) وربما تتمكن تركيا عبر تنسيق مع روسيا من أن تجد حلاً غير دموي لإخراج الفصائل الموسومة بالإرهاب من محافظة إدلب كلها، وأن تشكل حالة إدارية مؤقتة ريثما ينضج حل سياسي نهائي للقضية السورية.
وعلى الرغم من الاستنكار الشعبي الواسع في صفوف المعارضة والرفض الثوري الشعبي للحلول السياسية المؤقتة التي تم التوصل إليها في حوران، فإنها جنبت الجنوب دماراً مريعاً كان لا مهرب منه، ولو أن النظام التزم بالعهود لكانت منطقة الجنوب أكثر أمناً الآن، إلا أن النظام خرق الاتفاق في كثير من مناطق حوران، واعتبر المصالحات غنيمة له، فجاءت الاعتقالات المتلاحقة للناشطين المسالمين المصالحين عبر المبادرة الروسية لتفقد الناس أملهم بالأمن والاستقرار، كما أنها أجهضت أمل اللاجئين بالعودة.
وإذا كانت تقارير الأمم المتحدة تشير إلى احتمال أن يصل عدد الهاربين من الجحيم المرتقب في إدلب إلى سبعمئة ألف إنسان، فإن المتوقع حقاً أن يصل عدد النازحين إلى الحدود التركية باتجاه أوروبا إلى أكثر من مليوني إنسان باحثين عن ملجأ وأمان من حرب وحشية يستعد لها النظام ويهدد الشعب بها، ولاسيما أنه حشد أعداءه المهجرين قسرياً في إدلب منذ سنوات، ليكونوا وليمته الأخيرة.
ولقد كان من سوء حظ إدلب أن الذين ادعوا تحريرها قدموا أسوأ تجربة لحلم الناس بالحرية والكرامة، وجعلوا الشعب يحن للنباش الأول (كما يقول أهل إدلب) فانتشرت في عهد من ادعوا الإسلام حالة من الفوضى المريعة، وارتكبت جرائم فظيعة وساد فساد كبير، وصارت جرائم السرقة والخطف والقتل العشوائي مرعبة لأهل محافظة إدلب، الذين يعيشون اليوم بين نارين، فهم يخشون عودة النظام إلى حكمهم، ويدركون أنه قادم لينتقم شر انتقام ممن خرجوا ثائرين ضد ظلم أجهزة الأمن التي استبدت بهم، واعتقلت الآلاف من أبنائهم، وقتلت الآلاف منهم، ولا أمل عند أحد منهم بأن النظام قادر على تغيير سلوكه، فهو يمضي بروح العصبية الطائفية الهائجة، وليس بعقل الدولة الرصينة الباحثة عن الأمن والاستقرار، وإطفاء النار، وهم في الوقت ذاته يكرهون أولئك الغرباء الذين تدفقوا بالآلاف أيضاً حاملين شعارات القاعدة، يرتدون عباءة الإسلام وهو منهم براء، وكانت مهمتهم الوحيدة إبادة الجيش الحر، وخطف شعارات الثورة، وتقديم خطاب ديني متطرف لا يقبله العقل، فهم لم يهتموا بقيم الإسلام العظيمة في الحرية والكرامة الإنسانية، وفي بناء مجتمع السلم والتسامح، وإن انصب اهتمامهم على إطالة اللحية وارتداء عباءة أفغانية، وفرض النقاب على النساء، وصاروا أمراء حروب. وخلال هذا العام 2018 قتلوا أعداداً من الأطباء في إدلب وسرقوا البيوت وخطفوا الرجال مطالبين بالفدية، وكل ذلك يجعل أهل إدلب ينتظرون اليوم الذي تخرج فيه هذه العصابات من محافظتهم، وهم يدركون أن غالبية قادتها هم مافيات دولية، تنفذ مهمة القضاء على ثورة الشعب باسم مذاهب أهل السُنة، وتقودها إيران بشكل مفضوح، وكثير من الشباب المحليين الذين انتموا إليها بدوافع الحاجة المادية القاسية، أو بفهم بريء ساذج للدين، سينفضون عنها حين يجدون الملاذ الآمن.
ويبدو مؤلماً ألا نجد جهداً عربياً رسمياً تقوده الجامعة العربية في الحلول المقترحة لتجنيب إدلب كارثة مرتقبة، بحيث تخرج الفصائل الإرهابية منها، وتسترد كل دولة عناصرها، ويبقى «الجيش الحر» والفصائل الوطنية السورية ضامنة للأمن مع شرطة عسكرية روسية وتركية وعربية، للحفاظ على دماء ثلاثة ملايين إنسان.
مرّت السياسة الروسية "المسلحة" في سورية بمحطات كثيرة، منذ بدء التدخل العسكري الجوي خريف عام 2015، وكان عليها أن تُرضي أو تُنافس أو تُزيح مختلف القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في القضية السورية التي خرجت من أيدي السوريين على نحوٍ شبه نهائي. في ذلك، لم تكن روسيا مطلقة الحرية، ولا مقيَّدة، وكان عليها المرور عبر مطبّات دبلوماسية وعسكرية، لم تخلُ من أحداثٍ حرجة، مثل إسقاط تركيا الطائرة الحربية الروسية نهاية عام 2015، والضربة العسكرية الأميركية لقوات روسية شبه نظامية في مدينة دير الزور في فبراير/ شباط 2018.
بدخولها إلى سورية، استهدفت روسيا أساسًا المعارضة السورية المسلحة، و"الخلطة" الجهادية المرافقة، إلى جانب الضغط على الدول الإقليمية الداعمة، بخاصةً تركيا. ومثّل ذلك نقلًا لمركز التحكّم بالملفّ السوري من المستوى الإقليمي إلى المستوى الدولي، خطوة متقدّمة لإخراج سورية من التجاذبات الإقليمية المذهبية، السنية – الشيعية. لكن أهم ما حقّقته السياسة الروسية النشطة هو جمع الدولتين المتنافستين الرئيستين في سورية، تركيا وإيران، في مؤتمرات تحالف "أستانة" ومن ثم "سوتشي"، مستغلّةً العلاقات الصعبة لهاتين الدولتين مع الولايات المتحدة، ثم تحوّلت روسيا، بمساعدة إسرائيل، إلى الضغط على حليفتها إيران، وإزاحتها إلى خلفية المشهد.
وإلى جانب التدخل في كل شاردة وواردة في سورية، وتوقيع اتفاقياتٍ عديدة تغطي حيزًا واسعًا من الأنشطة الاقتصادية، تابعت روسيا ملفات الوجود المسلّح المعارض والقوى المصنَّفة إرهابيةً، وتوقّفت حاليًا على حدود إدلب، المحطة الأخيرة في هذا الصدد، وأمهلت تركيا حتى السابع من سبتمبر/ أيلول المقبل، موعد انعقاد القمة الرباعية، الروسية – الفرنسية – الألمانية – التركية، لمعالجة موضوع المسلحين والسلاح في هذه المحافظة.
لا يمكن لتركيا الإفلات من القبضة الروسية بسهولة، وعليها تنفيذ التزاماتها المُتَّفق عليها في مؤتمرات أستانة، وقد باشرت العمل بالفعل على تنظيم العمل المسلح، من خلال توحيد معظم الفصائل، واستقدام قوات عسكرية جديدة، لفرض إجراءاتها هذه إن اقتضى الأمر، وبقي عليها معالجة موضوع جبهة النصرة، العقدة الشائكة في هذا المجال. يحدث ذلك في وقتٍ تمرّ فيه العلاقات الأميركية - التركية بمنعطفٍ حرجٍ آخر، بعد العقوبات الأميركية الأخيرة بحق وزيري العدل والداخلية التركيين، بسبب استمرار السلطات التركية باعتقال القس الأميركي، أندرو برونسون، أعقب ذلك حدوث انهيار جديد في قيمة العملة التركية.
من ناحيةٍ أخرى، نشطت الدبلوماسية الروسية في موضوع إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، واقترحت على الولايات المتحدة التعاون في هذا الشأن، وفي إعادة إعمار سورية، وذلك بُعيد انتهاء القمة الروسية – الأميركية في هلسنكي أواسط الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، في محاولة منها لاستغلال أجواء الانفراج التي رافقت انعقاد القمة. في هذا الصّدد، أعلنت روسيا عن افتتاح عشرة مراكز لاستقبال اللاجئين العائدين، وتقديم المساعدات لهم وضمان عدم ملاحقة السلطات الأمنية السورية لهم.
كما وصل الدور الروسي إلى حدود الجولان، حيث تساعد الشرطة العسكرية الروسية قوات الأمم المتحدة على استعادة مهامها على خط الهدنة، فضلًا عن إجراء مفاوضات مع قوات سورية الديمقراطية (قسد)، ما يوحي بتسلُّم هذا الملفّ من الولايات المتحدة بعد قمة هلسنكي. من جانبٍ آخر، ووفقًا لمرجع ديني درزي، تتفاوض روسيا مع "داعش" لإطلاق سراح مخطوفات السويداء.
يمكن القول إن روسيا تحاول تدشين "عصر روسي" جديد في سورية، يتجاوز، إلى حدّ كبير، المستوى الذي وصلت إليه العلاقات في العهد السوفييتي، وإقناع الأوروبيين والأميركيين بأنها انتصرت في سورية، وعليهم التعاون معها، في حين يصرّ الغرب على ضرورة البدء بعملية الانتقال السياسية، قبل البحث في موضوعي عودة اللاجئين وإعادة الإعمار.
مهما يكن، لم يكن ليصل الدور الروسي إلى هذا المستوى من الهيمنة في سورية، لولا الضوء الأخضر المُعطى من القوى الفاعلة، في مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل، وسيسحب هذا التفويض، جزئيًا على الأقل، ما إن تنتهي مرحلة تنظيم السلاح المليشياوي واستيعاب المجموعات المسلحة، الموالية والمعارضة، باستثناء ما انضوى منها تحت الهيمنة الروسية المباشرة، وساهم في مشروعها الخاصّ لإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية على طريقتها.
وحتى لو لم يكن ثمة اتفاق بشأن هذه المهمة الروسية، فإنّ الرغبة الروسية الجامحة لبسط النفوذ في شرق المتوسط تساوقت مع الرغبة الأميركية في عدم الغرق في المستنقع السوري، والاكتفاء بإدارة الأزمة عبر وسطاء آخرين، فيما كانت إسرائيل ممتنّة لحليفها الروسي الذي لم تختلف معه يومًا طوال هذه السنوات السورية العِجاف، وتحبّ أن ترى سورية في أضعف صورة ممكنة، بحيث تصبح المطالبة بعودة الجولان يومًا ما نسيًا منسيًّا.
واضح أنّ هدف السياسة الروسية على المدى القريب إعادة إنتاج النظام وتحديثه بصورة ما، من خلال بعض التعديلات الدستورية التي لا بدّ أن تتمخّض عن درجة محدّدة من الحوكمة وإعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية. ومن نافل القول بأن عودة النظام إلى صورته السابقة باتت شبه مستحيلة بفعل حركيات التغيير التاريخية المستمرة في سورية والمنطقة ككل.
وربما تجد روسيا نفسها في مأزقٍ حقيقي بعد انتهاء العمليات العسكرية، فلا هي قادرة على استكمال عملية ديمقراطية حقيقية لا تمتلك مفاتيحها أصلًا، ولا هي قادرة على دفع التكاليف الهائلة لإعادة الإعمار. العامل الغائب هنا هو العامل الداخلي، الذي قد يظهر فجأةً وبقوة بعد انتهاء الحرب، ويجبر الجميع على إعادة حساباتهم، مدفوعًا بمجمل الأوضاع البائسة وخيبات الأمل في المناطق جميعها، ما قد يفجِّر احتجاجاتٍ يصعب التنبؤ بمداها وعمقها.
تبدو الصورة في محافظة إدلب (في سورية) ومحيطها معقدة للغاية، سواء على مستوى العلاقة التي تحكم فصائل المعارضة السورية "والحركات المصنفة بالإرهابية" والنظام من جهة أو على مستوى العلاقة الإقليمية الدولية التي تحكم الثلاثي التركي ـ الإيراني ـ الروسي من جهة ثانية.
من الناحية الاستراتيجية، اتُّخذ القرار الدولي، أو على الأقل الروسي، بحسم مصير المحافظة لصالح النظام السوري، لكن عملية التنفيذ ليست بالأمر اليسير، على خلاف الجنوب السوري، بسبب وجود أنقرة، الشريك الإقليمي المهم جدا لموسكو في هذه المرحلة، وفي المرحلة المقبلة، لاعتباراتٍ بعضها مرتبط بالملف السوري، وبعضها الآخر مرتبط بالواقع الدولي والعلاقة بين الشرق والغرب.
من هنا تعمل روسيا على إدارة أزمة إدلب وتمرير الحل العسكري / السياسي في آن واحد، لاجمةً الاندفاعة العسكرية لإيران والنظام السوري لإطلاق عملية عسكرية واسعة في إدلب، مع السماح لهما بممارسة ضغوط عسكرية، والاستيلاء على بعض المناطق، بما يدفع الأتراك إلى الإسراع في حل أزمة المحافظة.
لا تريد موسكو عملية عسكرية موسعة، تشكل ضغطا على تركيا، وتدفع مئات الآلاف من النازحين نحو أراضيها، في وقت تشهد الليرة التركية تراجعا حادّا واقتصادا لا يسمح بفتح باب اللجوء مجدّدا، فضلا عن أن هذا الأمر يتعارض مع السياسة الروسية الجديدة حيال اللاجئين.
يبدو صنّاع القرار في الكرملين حريصين على العلاقة مع تركيا، من أجل تحديد مستقبل عموم الشمال الغربي لسورية، ومن أجل الملفات الإنسانية والسياسية التي تعمل موسكو على ترتيبها برويّة خلال الفترة المقبلة. في المقابل، لن يسمح النظام السوري، ولا روسيا، بإبقاء الوضع على ما هو عليه في محافظة إدلب ومحيطها في اللاذقية وحلب وحماة، ولا بد من إنهاء سيطرة الفصائل الوطنية و"هيئة تحرير الشام" على كامل المحافظة أو على الجزء الأكبر منها.
وإذا كان المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرينييف قد أعلن عدم وجود عملية شاملة قي إدلب في الوقت الحاضر، فإن وزارة الدفاع أشارت إلى ضرورة تطهير منطقة إدلب ومحيطها من الإرهابيين. ووفقا لموسكو، فإن فصائل المعارضة وتركيا حصلتا على حصةٍ جغرافية وازنة (درع الفرات وعفرين)، وهما منطقتان يجب أن تكونا بمثابة المكان الوحيد لفصائل المعارضة، بحسب التفاهمات المضمرة بين أنقرة وموسكو.
المشكلة التي تواجه إدلب تكمن في داخلها، أي في طبيعة العلاقة التي تربط فصائل المعارضة مع "هيئة تحرير الشام"، ففي حين تأمل المعارضة أن تفكّك الهيئة نفسها وتدمج جزءها السوري مع باقي الفصائل، ترفض الهيئة إلى الآن هذا الخيار، لأسباب عقائدية استراتيجية أو لأسباب تكتيكية قابلة للتغيير. كما أنها تدخل بعلاقات متوترة مع قوى أخرى مثل "حراس الدين" الذين يعملون على توفير شروط المعركة مع النظام، من خلال شن هجمات على مواقع تابعة له.
ولا يعرف إلى الآن في أي اتجاه تسير العلاقة بين القوى داخل المحافظة، لكن الأكيد من تطورات الأمور أن ثمّة عملية عسكرية للنظام السوري، ستكون محصورة بأطر جغرافية محدّدة، بحيث تشمل ما تبقى من جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي، وبعض المناطق في ريف حماة الشمالي، والمنطقة الجنوبية من محافظة إدلب.
ولا تشكل هذه المنطقة تهديدا إستراتيجيا لتركيا، ولا يمكن أن تؤدي إلى أزمة لاجئين، ولذلك فإنها ستكون هدف النظام في هذه المرحلة. ومن شأن السيطرة على هذه المناطق أن تمنح النظام والروس عمقا استراتيجيا لمناطق سيطرتهما في اللاذقية وحماة، كما أنها تضيّق الخناق على فصائل المعارضة وعلى "هيئة تحرير الشام"، وبالتالي على تركيا التي ستجد نفسها مضطرّة إلى التحرّك.
السيطرة على المنطقة الجنوبية من إدلب ستضع النظام في وضعٍ مريح، بما يسمح له الانتظار، والاستجابة للمطالب الروسية بتمرير الوقت لتركيا من أجل إيجاد حل للمحافظة، في وقتٍ لا يوجد أي تحرك تركي على الأرض، باستثناء توحيد فصائل المعارضة ضمن تشكيل موحد، أطلق عليه اسم "الجبهة الوطنية للتحرير"، وليس معروفا إلى الآن ما إذا كان هدف الجبهة مواجهة النظام أم محاربة الحركات الإرهابية.
يسعى المحور الإيراني- السوري إلى الإفادة المبكرة من قدرته على الصمود في وجه الضغوط عليه، انطلاقاً من النتيجة التي بلغتها الحرب في سورية وقضت بثبات نظام الرئيس بشار الأسد في الحكم، من أجل الإيحاء بأنه حقق الانتصار المؤكد في معركته مع المحور العربي- الغربي الآخر.
لكن أرباب هذا المحور ينسون أنهم منذ العام 2011 يدعون الآخرين إلى التسليم بانتصاره. هذه هي حال نظام دمشق وطهران و «حزب الله» على مر السنوات الأربع الماضية... في كل مرة يضربون موعداً لانتهاء الحرب في سورية، ولانتصار مشروع الحوثيين في اليمن، ثم لا يلبث الصراع أن يتجدد ويتصاعد سياسياً وعسكرياً.
ولعل الحاجة إلى رفع معنويات جمهور هذا المحور عبر دعوة الآخرين إلى التسليم بانتصاره هي أحد العوامل التي تتحكم بخطابه، فهذا الجمهور تعب من المعارك التي يفرض «حزب الله» عليه تحمل تبعاتها في الإقليم. وكلام الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله قبل 3 أيام واحد من الأدلة على تلك الحاجة في وجه «ما هو قائم وما هو آت»، قاصداً بذلك العقوبات الاقتصادية والضغوط المتصاعدة على إيران وسورية وعلى الحزب نفسه، إذ إن الأخير يدرك أن عقوبات جديدة آتية ضده في الخريف عبر مشروع قانون يبحثه الكونغرس الأميركي تحت عنوان «نزع سلاح حزب الله»، بالإضافة إلى المرحلة الثانية من العقوبات القاسية على طهران نفسها. جزء كبير من كلامه خاطب فيه جمهوره، حتى حين توجه إلى الخصوم البعيدين والقريبين بالتهديد. مرة أخرى يطلب نصر الله من جمهوره الصمود في وجه الضغوط، والصمود يستبطن القول إن المعركة لم تنته.
قبل أسبوعين كانت الحال السياسية والنفسية لقادة هذا المحور تتعاطى بليونة مع نتائج تفاهمات قمة هلسنكي، التي قضت بحفظ أمن إسرائيل مقابل تسليمها ببقاء الأسد في الحكم والتحضير للتواصل مع نظامه في إطار اتفاق فك الاشتباك في الجولان، والبحث عن طريقة للتكيف مع مطلب انسحاب إيران من سورية، عبر دعوة موسكو إلى الإفادة من ورقة الانسحاب الإيراني من أجل الضغط لانسحاب القوات الأميركية والتركية من بلاد الشام.
لكن قبل أيام قليلة عاد محور إيران وسورية و «حزب الله» يستفيد من سياسة دونالد ترامب وعقوباته على تركيا، ومن العقوبات الإضافية على روسيا، ما دفع أنقرة إلى الاقتراب أكثر من طهران، وموسكو إلى العودة لتأكيد تحالفها مع إيران، والتلويح بالتحلل من التزامات هلسنكي تجاهها. هذا ما بنى عليه نصر الله خطابه، مسقطاً اللحظة الإقليمية الدولية الشديدة التعقيد على الوضع اللبناني الداخلي وعلى تشكيل الحكومة الجديدة، ومطلقاً التهديدات للرئيس المكلف تأليفها سعد الحريري برفع سقف مطالبه، والقابلة للتغيير مثلما تغيرت أخيراً.
منذ أن بدأ تأليف الحكومة اللبنانية الجديدة قبل أسابيع، والتكهنات تروح وتجيء عن العقد التي تعترض ولادتها إذا كانت محلية أو خارجية، في ظل وضوح لونها الداخلي المتعلق بالحصص والأحجام وبحسابات الزعامة، خصوصاً عند المسيحيين.
كبار القادة والمسؤولين نفوا وجود الأسباب الخارجية للعرقلة، بمن فيهم الحريري. حتى نصر الله قال إن العقد داخلية على رغم أن قادة حزبه رددوا العكس. لكنه عاد فقال في كلامه الأخير: «الآن نحن محورنا هو الذي ينتصر في المنطقة»... وعلى ذلك برر نيته رفع السقف إذا ثبت أن غيره يراهن على متغيرات إقليمية، لكنه أثبت في الوقت ذاته أن فريقه يبني حساباته في مطالبه الحكومية على الوضع الإقليمي.
يدرك أرباب المحور الممانع على رغم التقدم الذي أحرزوه، لا سيما في سورية بمساعدة روسية، أن اضطرار الدول الأخرى للتعايش مع بقاء الأسد في السلطة لا يعني التسليم منها بشرعيته، على رغم اتصالات بعضها الأمنية معه، وعدم استجابتها لدعوة موسكو لتمويل عودة النازحين هو أحد الأدلة على ذلك. ويسعى هذا المحور إلى «استعارة» شرعيته السياسية من البوابة اللبنانية، بالمراهنة على أن يدفع نفوذ «حزب الله» على الدولة إلى التطبيع معه. ما زال عقل حكام دمشق يؤمن بأن ترسيخ سطوته فيها مرتبط بمقدار نفوذه في لبنان.
الحرب السورية اخترعت تعبيراً لعمليات السبي ومصادرة الأملاك ونهب منازل المواطنين على أيدي «القوات الرديفة» للنظام (الميليشيات) حين تظفر بطرد قوات المعارضة من إحدى المناطق، هو «التعفيش». وفي لبنان، يتم «التعفيش السياسي» على القوى الرافضة التطبيع مع النظام لانتزاع الاعتراف به منها بالضغط، بعدما كان الحريري تلقف المبادرة الروسية لإعادة النازحين لتجنب التطبيع مع النظام. كل فريق يسعى لاقتناص اللحظة، و «حزب الله» ودمشق يسعيان لاقتناص اللحظة الجديدة للحصول على التطبيع.
دمار كبير أصاب سورية خلال السنوات الخمس الأخيرة نتيجة وحشية الحرب. الآن، وبعد أن اعتبر الروس أن الحرب تحطّ أوزارها، بات همّهم "إعادة الإعمار"، بعد أن تحصلوا من النظام على الحق الكامل بها. مَنْ يدقق في الأمر يلاحظ أن الشّره الذي يظهره هؤلاء يوازي الوحشية التي مارسوها وهم يقومون بتدمير الأسواق والمدارس والمشافي والمؤسسات وغيرها. لكن مَنْ سيموّل إعادة الإعمار؟
تطرح روسيا مسألة إعادة اللاجئين بشكل مستعجل، وملحّ، وكأنها غير التي قتلت ودمّرت. فـ "الحرص" كبير على هؤلاء اللاجئين، والاهتمام بهم يفوق التصوّر من دولةٍ على مستوىً عالٍ من "الإنسانية". ولا شكّ في أن طرح مسألة عودة اللاجئين وثيقة الصلة بإعادة الإعمار، حيث إنه لكي تتحقّق العودة لا بدّ من إعادة بناء البنية التحتية والبيوت والمؤسسات والمشافي. وهنا تُطرح مسألة التمويل: من عليه أن يموّل إعادة إعمار قدّرت اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا (الإسكوا) أنها تكلف 400 مليار دولار؟ على الرغم من أن هذا المبلغ يمكن أن يكون "سخيفاً" أمام هول التدمير الذي أصاب سورية.
ما تسعى إليه روسيا هو دفع "الدول الغربية" ودول الخليج إلى تمويل إعادة الإعمار هذه. وتبذل دبلوماسيتها مجهوداتٍ كبيرةً لترتيب الأمور مع أوروبا وأميركا ودول الخليج. وهي تعتقد أن نجاح إعادة الإعمار يعتمد على موافقة هذه الدول التي يساوم بعضها، مثل أميركا وأوروبا، على الأمر بحيث يكون جزءاً من الحلّ النهائي لـ "الأزمة السورية". والنقطة الوحيدة المطروحة "عدم بقاء بشار الأسد في السلطة". في هذه المسألة، نحن إزاء جملة إشكاليات، حيث تحاول روسيا، من خلال القبض على إعادة الإعمار، ودفع الدول الغربية والخليج كلفته، أن تعيد توزيع الثروة عالمياً بما يحقق لها حصةً أكبر، وهي تجهد من أجل ذلك، لكي تحسّن موقعها الاقتصادي العالمي. لكن ليست "الدول الغربية" بهذا الغباء الذي يجعلها تدفع لكي تعزّز من القوة الاقتصادية لروسيا. لهذا، هي تضع الشرط الذي يُربك العملية كلها. وهي بالأساس، كما دول الخليج، لم تعد قادرةً على "تبذير" الأموال بلا مقابل كبير. ومن ثم هي أصلاً ليست معنيةً بإعادة الإعمار، بل هي معنيةٌ بالنهب، وروسيا هي التي استولت على مفتاح إعادة الإعمار. لقد طرحت الأمر في العراق، ولا يزال العراق بلا إعادة إعمار، على الرغم من نهب مئات مليارات الدولارات. وسورية أضعف في هذا المجال، لأنها ليست بلداً نفطياً، بالتالي لتتورّط روسيا التي لن تستطيع تقديم نتائج لتدخلها واحتلالها سورية، من دون أن يتحوّل ذلك إلى سيولة نقدية بيد الشركات الروسية. وفي الواقع، الشعب السوري غير قادر على دفع أي ثمن، بعد كل المآسي التي عاشها.
ولا شك في أن صراعاً يدور بين كل من إيران وروسيا بشأن الاستفادة من إعادة الإعمار، على الرغم من أن روسيا حسمت الأمر بسيطرتها التامة عليها. وكذلك، فإن مافيا النظام تنتظر حصّتها، ولقد دفعت لتدمير مناطق، لكي تسيطر عليها، وتقيم مشاريعها عليها. لكن ما يمكن قوله إن كل هذا الشره بلا أساس، نتيجة غياب الممول. بالتالي، سوف تنهب روسيا الثروة الموجودة في سورية (النفط والغاز والفوسفات، والقمح والقطن، وغيرها) من دون أن تتقدم في إعادة الإعمار. .. لكن، يبقى السؤال: مَنْ سيموّل إعادة الإعمار؟
ما يجب أن يكون واضحاً أن كلا من إيران وروسيا، ودولا خليجية، هي التي يجب أن تموّل، نتيجة أنها التي دمّرت أو أسهمت في التدمير. قام النظام بتدميرٍ محدودٍ إلى نهاية سنة 2012، لكن دخول حزب الله وإيران، وكل المليشيات التابعة لها، وسّع من آليات تدمير النظام، بعد أن منعت هي سقوطه (وهذا ما صرّح به أكثر من مسؤول إيراني). وبات التدمير بالتالي تتحمّل كلفته إيران. ثم جاء دور الروس الذين أسهموا في التدمير المباشر من أحدث الأسلحة، وبالتالي يجب أن تدفع روسيا كلفة إعادة الإعمار. طبعاً إضافة إلى مافيات النظام التي يجب أن تجرّد من كل أموالها. ولا شك في أن كلفة تدمير الرّقة، وبعض مناطق الجزيرة السورية يجب أن تتحملها أميركا (مع قوات سورية الديمقراطية)، فهي التي قامت بعملية تدمير ممنهجة.
يجب أن يسجّل الشعب السوري مدينا، لكي يسعى إلى أن يفرض على هذه الدول السداد.