إدلب هي إحدى المدن السورية النادرة التي لم يتوضّح مصيرها إلى الآن، وكانت ضمن أهداف النظام السوري وروسيا وإيران منذ البداية، لكن تم تأجيل المسألة أو إيجاد حلول بديلة في كل مرة، وكان النظام السوري المدعوم من قبل روسيا والذي وصل إلى مدينة حلب مسبقاً يؤجل مسألة إدلب إلى أجل غير مسمى بسبب انتهاء طاقته عند اقترابه من إدلب.
لاحقاً تدخلّت تركيا في مجرى الأحداث وساهمت في إخلاء حلب من المدنيين، إضافةً إلى تهدئة الأمور من خلال تأسيس نقاط عسكرية في إدلب، لكن كان وجود العامل التركي وتأسيس نقاط عسكرية تركية في إدلب يتسبب بالإزعاج لإيران ونظام الأسد، في حين أن روسيا دعمت الوجود التركي في المنطقة لأنها تشاهد الأمور من منظور السياسة الواقعية، لكن لطالما كان الجانب الروسي يسعى لدفع تركيا إلى مكافحة بعض التنظيمات مثل جبهة النصرة.
من المؤكد أن تركيا تستطيع مواجهة جميع التنظيمات المتطرفة في الساحة السورية، لكن الوقت ليس مناسباً لذلك، إذ كان موقف تركيا تجاه مدينة إدلب منذ بداية الأمر يهدف إلى تطهير المنطقة من المجموعات الراديكالية، ويجدر بالذكر أن تركيا اتّخذت خطوات عديدة في الصدد ذاته، لكن لكي تتمكّن من القيام بذلك كان يتوجّب عليها فتح المجال التقدّم أمام المجموعات المعتدلة، وكانت روسيا تتقبّل هذا الواقع حتى وإن كان الأمر صعباً عليها، لكن حاول نظام الأسد وإيران الضغط على تركيا بسبب موقفهم القاسي تجاه المسألة المذكورة.
بطبيعة الحال لم يكن موقف النظام السوري وإيران هاماً كثيراً، بل كان الموقف الروسي الأمر الأهم في هذه النقطة، ولذلك ما تزال تركيا تجري معظم مباحثاتها ومفاوضاتها مع روسيا ضمن إطار دبلوماسي، وخصوصاً أن روسيا عقب عملية عفرين أصبحت تنتظر من تركيا أن تتّخذ خطوات أسرع من السابق في الساحة السورية.
من جهة أخرى يجب أن لا ننسى أن تل رفعت ما زال تحت سيطرة روسيا إلى الآن، إذ تستغل روسيا هذه المنطقة كورقة رابحة لكونها هامّة في خصوص أمان مدينة حلب وكذلك أهميّتها بالنسبة إلى المفاوضات الروسية-التركية، في حين أن تركيا تهدف إلى تداول مسألة تل رفعت بعد الانتهاء من قضية منبج أولاً، لكن روسيا تستعجل المسألة لأنها تسعى لزيادة امتدادها في الساحة السورية والسيطرة على تل رفعت بما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجية في هذا الصدد.
في هذا السياق ليس من الصعب أن نتوقّع جريان مفاوضات صارمة جداً حول مسألة تل رفعت، إذ أجرى رئيس منظمة الاستخبارات الوطنية "هاكان فيدان" ووزير الدفاع القومي "خلوصي أكار" اجتماعين خلال أسبوع واحد مع نظرائهم حول هذه المسألة، لا نعلم مضمون الاجتماعات لكن يمكننا توقّع البعض منه، بشير المظهر الخارجي للاجتماعات إلى أن روسيا مصرّة على موقفها، في حين أن تركيا لا ترغب بتنفيذ عملية عسكرية بطرف واحد فقط، عند ذكر مسألة إدلب يذهب الجميع إلى التفكير بقدوم موجة جديدة من اللاجئين السوريين إلى تركيا، لكن أعتقد أن أهمية المسألة لا تقتصر على اللاجئين فقط، إذ يمكن لموجة لجوء واردة من مدينة إدلب التي يقطن فيها مليون ونص مواطن سوري أن تتسبب ببعض المشاكل لتركيا، لكن إن الأزمات الأمنية التي قد يؤدي إليها وفود مثل هذا العدد الكبير من اللاجئين ستكون أكبر بكثير من المشاكل التي سنواجهها بسبب حجم اللجوء.
عند النظر إلى احتمال دخول المجموعات الراديكالية إلى تركيا أو تنمية شعور عداوة تركيا لدى هذه المجموعات، وسيطرة قوات النظام السوري لوحده على منطقة واسعة بهذا القدر، نرى أنه يتوجّب على تركيا إيجاد حلول بديلة في مثل هذه الظروف، ولذلك يجب على تركيا أن تكون يقظةً إلى أكبر درجة ممكنة نظراً إلى وجود احتمال تنفيذ روسيا لعملية عسكرية في المنطقة، خصوصاً أن الظروف الراهنة مناسبة جداً لعملية عسكرية روسية، لا يمكن لتركيا أن تكتفي بمحاولة منع روسيا من تنفيذ عملية عسكرية في إدلب، إذ يمكن لتركيا اتخاذ بعض الخطوات الهامّة وأخذ الاحتياطات اللازمة في حال لم تتمكّن من إيقاف العملية بشكل مباشر، وإن لم تتمكّن تركيا من السيطرة على المنطقة لوحدها يمكنها منع سيطرة النظام السوري لوحده على إدلب أيضاً، أي إنه يمكن لتركيا أن تأسس منطقة آمنة في شمال إدلب على الأقل.
لو أردنا أن نعرف التكيف الاجتماعي، لأمكننا الايجاز بأنه "عملية اجتماعية، تتضمن نشاط الأفراد أو الجماعات وسلوكهم، الذي يرمي إلى التلاؤم والانسجام، بين الفرد وغيره، أو بين جملة أفراد وبيئتهم، أو بين الجماعات المختلفة".
ولو نظرنا إلى الوضع السوري في الداخل، سنجد أن السوريين، تجرعوا مرارة التغيير القسري في حياتهم اليومية، ساعة فساعة، وأزمة تلو ازمة، إلى أن وصلوا إلى حالة هي أقرب ما تكون، إلى التشوه في آليات التكيف والاعتياد، هذه الحالة تفرضها نزعة أصيلة لدى الانسان، في الحفاظ على الحياة، والاستمرار في المقاومة.
فالقتل اليومي وتحول الأحياء المدنية إلى ساحات حرب لا تتوقف، وصور الجثث الملقاة في قارعة الطريق، وروائح الأحياء المشبعة بالدم والموت، والبارود والحرائق التي لا تكاد تنطفئ، وطغيان صوت البراميل المتفجرة، وصوت الرصاص الذي لا يتوقف. كل هذا هشم النمط المعتاد للحياة القديمة، التي كان يعيشها الانسان السوري، قبل الحرب شر تهشيم، واحالها إلى أنماط متوحشة من الحياة، والقفز المستمر على حسك الموت، واحتمالات لا تنتهي لمزيد من التردي نحو الأسوأ.
بالطبع المشهد من الخارج أشد وضوحا، وأنقى انفعالا، فالمنغمس في هذه الدوامة إنما تجرعها عقدة إثر عقدة، وانكساراً تلو انكسار، وبالتالي تكيفت مشاعره ومنعكساته النفسية والعصبية وتطوعت درجة إثر درجة، إلى أن اضحى كل ما دون الموت أمر يمكن التعاطي معه.
هذا بالضبط ما حدث معنا، في الحياة الطويلة في سجن تدمر، ففي المرة الأولى التي سمعنا بها، أن هناك عملية إعدام لعدد غير قليل من المعتقلين، وكان ذلك في الشهر العاشر من عام 1980، حيث دوى صوت الضابط، رئيس المحكمة الميدانية في الساحة السادسة كنعيب الغراب، آمرا عناصر السجن أن خذوهم للإعدام، وما هي إلا دقائق، حتى سمعنا صوت أقدامهم، تعبر الساحة السادسة جريا، تلاها صوت تكبير وحشرجة على أعواد المشانق، ثم صوت الدعامات الخشبية، تهوي أرضا بمن علقوا عليها، ثم صمت طويل، كان خلالها ضابط كبير يشرف على تصوير الضحايا، كيما يتمتع بها سيده القابع في قصر قاسيون.
يومها جلسنا منكمشين على أنفسنا، لا نغادر أماكننا في المهجع، ولم ينتبه أحد إلى دخول الطعام، وبقائه بعيدا لا تمسه الايدي، فمن ذا الذي يملك أدنى رغبة بطعام بعد هذه الفاجعة، أعدموا يومها ما يزيد عن ثمانين شابا، وتدور الأيام وتستمر عمليات الإعدام، كل أسبوع تقريبا لكن تتبدل وتنخفض سويات الانفعال، مع كل مرة جديدة، إلى أن أتى يوم بعد قرابة العامين، حيث كنا نجلس إلى قصعة الإفطار، فنودي على اسم حسن بركات ليتجهز للإعدام، فانتصب واقفا وكان يجلس إلى يميني، وما هي إلا دقائق ثلاثة، حتى كان مقيدا معصوب العينين يساق إلى المشنقة التي تنتظره، وكنا نعاود الجلوس بذات اللحظة، إلى قصعة الإفطار لنكمل ما بدأناه من وجبتنا، ونحن نهمهم بصوت منخفض رحمه الله.
هذا التحول الكارثي في تكيفنا مع المأساة المستمرة، عزز من قدرتنا على الاستمرار في الحياة، وربما كان سببا مهما لبقائنا أسوياء، لكنه بذات الوقت شوه جملة كبيرة من المنعكسات الطبيعية، التي تتمظهر بالحزن على الضحايا، أو بمنح هذا الحزن مساحة من الزمن في دقائقنا اليومية.
وهذا شبيه إلى أقصى درجات التشابه، ببعض التفاصيل اليومية التي يعيشها السوريون، في الداخل السوري، سواء في مناطق سيطرة النظام، أو خارجها، فجميع المناطق تستقبل القتلى المحمولين، من مواقع القصف أو القتال، وجميعها تستمر فيها أشكال الحياة، بآليات متنوعة من التكيف المعزز للبقاء، والذي يجعل من المأساة الطويلة، حالة طبيعية في سيرورة الحياة اليومية، إلى زمن غير معلوم، كنا نكرر في تدمر كل يوم، أن أكبر مشكلة، هي أننا لم نعد مشكلة لأحد.
ومن مرارة الشأن السوري اليوم، أننا والعالم من حولنا، نتكيف تدريجيا، بحيث أن القضية السورية، لم تعد مشكلة لأحد، وأن مجزرة ارتكبها الطيران الروسي بالأمس القريب، باتت أمرا عاديا، لم تعلق عليه معظم وكالات الأنباء. وربما من المهم أن نلاحظ، أن التكيف ليس بقيمة إيجابية، إلا بمعنى البقاء، وأن البطولة التي نعتز بها، في مقاومة شطر كبير من أبناء فلسطين، لفكرة الاحتلال والتطبيع معه، إنما هي رفض للتكيف والانصياع للظرف الراهن.
من هنا سيكون من المهم والمهم جدا، مراقبة البوصلة والاتجاهات التي تملى علينا كسوريين، والتي نقبل بعضها رغبة بوقف المقتلة، لكنها بذات الوقت هي تطوعنا وتكيفنا وفق مقتضياتها، فبئسا لهذا التكيف.
لم يكن كوفي أنان، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، الذي توفي مؤخراً، مثل غيره ممن تسلموا المنصب الأول في المنظمة الأممية منذ تأسيسها في العام 1945، رغم السمات العامة التي تجمعه معهم، والحكم في ذلك يستند إلى وقائع وظروف عايشها الرجل في منصبه طوال ثماني سنوات، وفي المهمات التي تابعها لاحقاً، وبينها مهمة المبعوث المشترك للأمم المتحدة ولجامعة الدول العربية في سوريا.
جاء الرجل من داخل البنية الوظيفية للمنظمة الدولية، وقد عمل في العديد من أجهزتها موظفاً ومديراً ومنظماً لسنوات طويلة، مما جعله عارفاً ومحيطاً، لا بعمل الأجهزة وبنيتها، إنما أيضاً بطبيعة وظائفها واحتياجاتها، ولأنه جاء من غانا من قلب القارة السمراء، فقد كان يحمل همومها، التي تمثل القلب في هموم الدول الأقل تطوراً، وسط عالم تؤثر في رسم سياساته ومستقبله قلة من الدول الأكثر نمواً وفاعلية، وكان في الوقت ذاته مدركاً الروابط المشتركة لكل الدول الأعضاء، وضرورة توافقها، دون أن يتجاهل حقيقة أن الأمم المتحدة، لا تعنى بشؤون الدول وعلاقاتها فحسب، وإنما تهتم أيضاً بمصالح الشعوب، وسعيها من أجل مستقبل أفضل، وهو ما يمثل مصلحة مشتركة للجميع.
لقد أدار أنان عمل الأمم المتحدة طوال ثمان سنوات بهذه الخلفية الوظيفية، مستنداً إلى فهم عميق لدور الأمم المتحدة وقدراتها في معالجة القضايا والتوترات الدولية، وفقاً لقاعدة أساسية، يقوم عليها عمل الأمم المتحدة في أنها «قوية حين يعيرها الكبار من قوتهم عبر توافقهم». وأنها «مشلولة حين يتحول مجلس الأمن حلبة لتسديد الحسابات وتحريك سيف الفيتو لقطع أعناق مشاريع القرارات»، ومدركاً «أن لا قدرة للمنظمة الدولية على فرض تطبيق قراراتها إلا بقوة الكبار وأحياناً جيوشهم. وأن الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية، وأن بوصلتها تعمل وفق شبكة المصالح لا نصوص المبادئ». وقد عمل الرجل بجهد ودأب من أجل تحقيق أهداف المنظمة الدولية وسط عواصف دولية وإقليمية، أحاطت بعهد أنان في الأمم المتحدة، دون أن تفقده اتجاهه في البحث عن «عالم أكثر إنسانية أو أقل وحشية».
لم يكن تعيين كوفي أنان مبعوثاً للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سوريا في فبراير (شباط) 2012 مستنداً إلى مسيرته العميقة في المنظمة الدولية فحسب، إنما كان يستند إلى ما اكتسبه من خبرات في التعامل مع أزمات سابقة، شهدها عهده في رواندا وسريبرينيتسا والعراق وغيرها، تقارب ما كان يحدث في سوريا، ولعل ذلك في مقدمة أسباب جعلته يقبل دوره الجديد في معالجة القضية السورية، وقد رسمه مع فريقه في ثلاث خطوات عملية، أولها متابعة الواقع الميداني بما فيه من تطورات سياسية وعسكرية، والثاني إجراء لقاءات ومشاورات مع الأطراف السورية، بما فيها لقاءات مع مسؤولي نظام الأسد، وأخرى مع ممثلي الفعاليات الاجتماعية وقادة المعارضة في داخل سوريا وخارجها، إضافة إلى لقاءات مع ممثلي الأطراف الدولية والإقليمية ذات العلاقة والدول المهتمة بالقضية السورية، والثالث وضع خطة لحل سياسي للقضية، تتضمن المشتركات من جهة وتحقق المصالح المتقاطعة لمختلف الأطراف، فأعلن خطته في أبريل (نيسان) 2012، وتضمنت وقف إطلاق النار وإرسال بعثة من مراقبين دوليين لتثبيتها، والسماح بوصول المنظمات الإنسانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وإطلاق سراح المعتقلين، والبدء في حوار سياسي مفتوح لا
يستثنى منه أي طرف، وهي الخطة، التي وافقت عليها المجموعة الدولية، وأعلنتها بموجب بيان جنيف في يونيو (حزيران) 2012 باعتبارها الطريق لحل القضية السورية.
وسط مسار الأحداث والتطورات السورية، اكتشف أنان وفريقه الأممي مراوغة نظام الأسد، وإصراره على الحل الأمني العسكري ودعم حلفائه الروس والإيرانيين له، مما عطل الإرادة الدولية، التي بدت مرتبكة وغير حاسمة إزاء التطورات السورية، ولا سيما حيال مجازر النظام المتكررة، فشدد مرات على خروقات النظام لخطته، وأعاد النقاش فيها مرات مع ممثلي نظام الأسد، دون الوصول إلى تغييرات عملية وإجرائية في سياسات النظام في الأحداث السورية.
أذكر أني كنت مع زميلين آخرين بين آخر من التقاهم كوفي أنان بدمشق في زيارته الأخيرة، وقتها حضر للموعد متأخراً بعض الوقت، لأنه كان في لقائه الأخير مع الأسد، وجاء محبطاً من نتيجة اللقاء لإصرار الأسد على القمع بما فيه قمع المظاهرات السلمية، لأن من شأن المظاهرات أن تملأ الساحات والشوارع، وتؤدي إلى إسقاط النظام، كما نقل أنان عن الأسد، وبعد تلك الزيارة بقليل في أغسطس (آب) 2012 أعلن أنان اعتزاله من مهمته، نتيجة «استخفاف» نظام الأسد بقرارات الأمم المتحدة، وبسبب «التصعيد العسكري والانقسام في مجلس الأمن»، وأكد أن العملية الانتقالية تعني تنحي بشار الأسد «عاجلاً أم أجلاً».
بعد أنان تقلب على المهمة اثنان من مبعوثي الأمم المتحدة، أولهما الأخضر الإبراهيمي الذي توصل إلى نتيجة مشابهة، فأنهى مهمته، وستيفان دي مستورا الذي تحول إلى مدير لـ«الأزمة»، وجرت تطورات كثيرة بما فيها محاولات المجموعة الدولية الخروج عن خطة أنان وبيان جنيف بعد مؤتمر جنيف 1 وسلسلته، كما جرب الروس وحلفاؤهم بالتزامن مع استمرار الحل الأمني العسكري جهودهم لحل في آستانة وسوتشي دون الوصول إلى نتيجة، الأمر الذي يفسر طلب كثير من الأطراف العودة إلى جنيف من أجل حل للقضية السورية.
لقد دفع السوريون والعالم أيضاً أثماناً باهظة من أجل حل ما في سوريا، لكن دون جدوى. فليس من حل خارج حل سياسي، يأخذ بعين الاعتبار مصالح السوريين أصحاب القضية، وأساسه الخطة التي كان أنان قد وضعها نهاية العام الأول لثورة السوريين.
بسرعة كبيرة مرت عيني على الكلمات، عدت مرة أخرى لأقرأ ما كتب ذلك الطبيب في شهادته على ذلك اليوم.
روى كيف هبط صاروخان، فأسرع هو وزميله للمستشفى، خصوصا مع توقف سيارة ونزول بعض المصابين. بداية ربما تبدو عادية لمن خبروا الوضع في سوريا، وإن كانت على المستوى الإنساني مفزعة.
مفزع أن ترى تلك الحالة من الجزع الإنساني لأم تحمل صغيرها وتنظر لإنسان ما، متتبعة حركات أصابعه لحظة بلحظة، ولسانها يلهج بالدعاء، وقلبها يكاد يقفز من مكانه، ودموع متحجرة في عينيها، وهي تتابع تحركات صدر صغيرها، تنتظر أن يفتح عينيه أو أن يبتسم. تنتظر منه هو أن يمنحها الأمل. إنها بلا شك لحظات مزلزلة.
شهادة الطبيب التي نقلتها إحدى صفحات الثورة السورية، تنقل لك بالتفاصيل، مشهدا يبدو أنه وباقي الأطباء السوريين كانوا قد تعودوا عليه، حتى ذلك الوقت من عام 2013، أي بعد عامين من اندلاع الثورة السورية.
كلمات الطبيب عن هبوط الصاروخين وتحركه مع زميله للمستشفى، وسرعة اتخاذهما للاستعدادات تُشعرك بخبرتهما التي اكتسباها من شهور من المجازر الوحشية والقصف الجوي الذي كان يرتكبه نظام بشار حتى ذلك الوقت. الجديد في شهادة الطبيب هو ما جاء بعد ذلك.
كلمات الطبيب أصابتني بالقشعريرة. الطبيب ذلك الإنسان القادر على التعامل مع إصابات نتجت عن قصف جوي، ذلك الذي يسرع في حرفية ليخيط جرحا أو يوقف نزيفا أو يسعف مصابا، ذلك الشخص الذي يتحرك في سرعة وهو يجر نقالة تقل جريحا ينزف، بينما يلقي هو مجموعة من الأوامر في سرعة وآلية.
ذلك الشخص القادر على التصرف بهذه الطريقة، بينما تدوي الصرخات حوله، يصف أعداد المصابين بأنها مخيفة!!
الوصف نفسه أصابني بالقشعريرة. الطبيب نفسه كان يتوقع نوبة من تلك النوبات التي اعتادها، حين تهاجمهم طائرات النظام، فيتعامل مع أعداد الجرحى التي ألفها. كلمات الطبيب تُشعرك بتلك الأجواء المخيفة التي تتحول فيها أعداد الجرحى من خانة العشرات إلى خانة المئات، ثم يفقد المتابع بعدها القدرة على العد.
المفزع في الأمر، وما لا أستطيع أنا شخصيا نسيانه، هو صورة الأطفال المتراصين بجانب بعضهم البعض، الذين يظنهم من يراهم لأول وهلة في غفوة، بينما هم قد فارقوا الحياة وعلى وجوهم ترتسم براءة الطفولة، وغفلة نوم لم يصحوا منه.
المبكي، أن تتصور أن هؤلاء الأطفال لم يشعروا حتى بتأثير الغازات السامة التي قصفها بهم نظام بشار. هؤلاء أطفال، ماتوا قبل أن يدركوا أنهم ماتوا.
أتذكر هذا المشهد الذي يأبى مفارقة ذاكرتي الآن بتفاصيله، وأتصور كيف يمكن لإنسان أن يصمد في مواجهة مشهد كهذا.
لا ريب أن ذلك الطبيب الذي روى في شهادته كيف نقلته إحدى السيارات إلى منازل مصابين، قد بذل مجهودا يفوق التصور، ليستطيع التجلد وهو يرى تلك المشاهد بينما يسرع لإسعافهم.
الحقيقة، أن هذه المشاهد في سوريا لم تكن ممكنة لولا مشاهد أخرى وقعت قبلها بأيام في رابعة.
إن قراءة شهادات الأطباء في كتاب مجزرة رابعة بين الرواية والتوثيق، التي تحدثت عن حرق المستشفى الميداني، ومقارنتها بالمشاهد التي ينقلها لنا طبيب الغوطة في شهادته، تبين أن ما يحدث في المنطقة أمر يفوق قدرة العقل على التصور.
لم تكن مجزرة الكيماوي في سوريا ممكنة دون مجازر ارتكبها الانقلاب في مصر، مجزرة رابعة والنهضة ومجزرة رمسيس ومجزرة عربة الترحيلات، ولم تكن هذه المجازر الكبرى ممكنة لولا مجازر أخرى سبقتها ومهدت كل واحدة منها الطريق إلى أختها.
رحم الله شهداء مجزرة الكيماوي في سوريا، وإخوانهم شهداء مجازر الانقلاب في مصر.
رد الجيش الأميركي على الرسالة التي نُسبت إلى أبو بكر البغدادي وطلب من أنصاره فيها الصبر ووعدهم بـ «فتوحات» قريبة، بأن الرجل لم يعد مهماً وأن تنظيمه صار في المراحل الأخيرة من هزيمته، وأن تصريحاته لم تعد تلقى الاهتمام في الدوائر الأمنية الغربية. والرد هذا على ما فيه من تجاهل لحقائق «النصر على داعش»، يملك مقداراً من الواقعية يمكن للمرء أن يوافق واشنطن عليه، مع تحفظٍ عن المبالغة في الاطمئنان، لا سيما أن «داعش» كان جزءاً من حرب أهلية طُوب فيها منتصر مذهبي على مهزومٍ مذهبي، وهذا بدوره مولدٌ لاحتمالات موازية لـ «داعش».
لكن وفي موازاة الرد الأميركي على البغدادي ما زال «داعش» حاجة لأنظمة الحروب الأهلية لكي تُصّرِف عبره أزماتها. في سورية كشفت الوقائع الدامية التي شهدتها محافظة السويداء الشهر الفائت عن هذه الحاجة، فإخضاع الجماعات المحلية ما زال يتطلب لعب النظام على الوتر المذهبي، ومن أقدر من «داعش» على تلبية هذه المهمة. ما جرى في السويداء هو تطبيق حرفي ومبتذل ومكشوف لهذه الحقيقة. لكن ليست هذه حال سورية فحسب، فالطبقة الحاكمة في العراق تعيش حالاً من الاختناق وتتخبط في فسادها وارتهانها وهو ما يستوجب عدواً تعيد عبره إنتاج نفسها. «داعش ما زال يعيش بيننا»، هذا ما يُردده الكثير من المسؤولين العراقيين. وبين الحين والآخر يُستدعى صحافيون لتصوير حروبٍ في الصحراء مهمتها تسجيل مزيدٍ من الانتصارات لا يعرف المرء شروطها ولا ظروفها ولا وقائعها. يقول الجيش مثلاً إنه داهم «مضافات» للتنظيم الإرهابي، وأن عناصر التنظيم الذين كانوا يشغلونها هربوا إلى سورية.
الحرب على التنظيم في سورية تدفع بعناصره إلى العراق، والحرب عليهم في العراق تدفعهم إلى سورية. بيانات جيوش «مكافحة الإرهاب» على طرفي الحدود تكشف هذه المعادلة على نحوٍ مذهل. والحقيقة أن ما تبقى من «داعش» يعيش آمناً خارج هذه البيانات، ومهمة المرحلة الأخيرة من الحرب على التنظيم هي تثبيت أنظمة الجريمة والفساد والمذهبية في هلال الحرب الأهلية المشرقي.
لبنان بدوره انضم إلى الراغبين في حصة من جبنة المنتصرين على «داعش»، وها هي أجهزته الأمنية تذيع كل أسبوع تقريباً بياناً عن نصرٍ أمني جديد على التنظيم، وهذه البيانات تُصور لبنان بصفته هدفاً يحلم أمراء التنظيم في مخابئهم في أن ينجحوا في الوصول إليه. لا بل أن «العدو التكفيري» صار صنواً لـ «العدو الصهيوني» في خطاب النصر اللبناني الذي يُضلل نظام الفساد والفشل والارتهان.
والحال أن نظرة من مسافة على حال الأنظمة الحاكمة الثلاثة في العراق وسورية ولبنان تكشف تشابهاً مخيفاً في أساليب حكمها جماعاتها، من دون أن يعني ذلك إغفال التفاوتات. المذهبية عصب الأنظمة الثلاثة، والفساد الهائل والوقح، والارتهان لدولة أو لدول خارجية، وهيمنة خطاب نصرٍ كاذب إلا أنه مدوٍ وهائل وفاعل. واليوم يمكن أن نضيف «داعش» إلى عناصر التشابه هذه، فالتنظيم صار جزءاً من هوية هذه الأنظمة وعنصراً في سعيها إلى التماسك.
كل هذا لا يعني أن «داعش» صار وهماً، وأن عملية دحره أنجزت، لا بل يعني العكس تماماً، فالتنظيم لطالما شكل حاجة في ظل الحروب الأهلية التي تعيشها المنطقة، وهذه الحاجة التقت مع شروط أخرى انعقدت جميعها في لحظة ولادته وتدفقه على المدن والمناطق. شرط الحروب الأهلية ما زال قائماً، لا بل تعزز بانتصار جماعات على جماعات، ومذاهب على مذاهب، وأنظمة مستبدة على شعوبها. أما الشروط الأخرى فهي تماماً ما فشل فيها التنظيم، ذاك أنه تحول عدواً للبيئة المتضررة من الأنظمة، وهو ما أدى إلى تسهيل دحره في مدنها ومناطقها.
واليوم يعيش هؤلاء الناس هزيمة مضاعفة، فقد هزمتهم أنظمة «الحرب على داعش» وهزمهم «داعش»، والمنطق يقول إن حال الهزيمة هذه لن تدوم طويلاً وسيأتي من يستثمر فيها.
في تحول مفاجئ مثير للريبة، زعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا أنه قلق بشأن مصير ملايين اللاجئين الذين فروا من المذبحة في سوريا. وفي اجتماع عقد مؤخراً مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أعرب بوتين عن أمله في أن يساعد الاتحاد الأوروبي في إعادة بناء سوريا حتى يتمكن النازحون من العودة إلى ديارهم. وفي الأسابيع الأخيرة، حمل الدبلوماسيون الروس نفس الرسالة عبر العواصم الأوروبية.
من المؤكد أنه بعد أن استعاد نظام بشار الأسد معظم أراضي البلاد، بدأت الحرب الأهلية في سوريا تنحسر. لكن هذه النتيجة ليست حتمية. على العكس، كان الجيش السوري قريبًا جدًا من الانهيار في وقتٍ سابق. فقط بمساعدة حاسمة من الميليشيات المدعومة إيرانيا والدعم الجوي الروسي تمكن الأسد من قلب الأمور.
في هذه الأثناء، لم تحقق الجهود الأمريكية لإنشاء معارضة مسلحة "معتدلة" سوى القليل، باستثناء قيام وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، فرع من حزب العمال الكردستاني (PKK) - بالسيطرة على قطاع شمال سوريا المتاخم للحدود التركية. الشيء الوحيد المتبقي الآن هو تدمير جيب جبهة النصرة المتبقي في إدلب والتوسط في نوع من التسوية بين وحدات حماية الشعب والأسد.
لقد نجا الأسد بتكلفة باهظة. ونزح أكثر من نصف السكان السوريين داخلياً أو أجبروا على الفرار إلى البلدان المجاورة أو إلى أوروبا. جزء كبير من البنية التحتية السورية - من المجمعات السكنية إلى المستشفيات - يكمن في الأنقاض. وغني عن القول إن اقتصاد البلد قد تم تدميره، بسبب الآثار المباشرة للصراع والعقوبات التي فرضت كجزء من الجهود الفاشلة لإجبار الأسد على التوصل إلى تسوية سياسية.
لم يعان أي بلد آخر في نصف القرن الماضي من خسائر فادحة في الأرواح البشرية والدمار المادي. لا شك أن المسؤولية عن هذه المأساة تقع على عاتق نظام الأسد ومن يؤيده من الروس والإيرانيين. وبالطبع سيقولون إنهم يحاربون الإرهاب، كما لو كان ذلك يعفيهم من أساليبهم العشوائية والاستهتار المتهور بأرواح المدنيين. لكن الأجيال القادمة سوف تتذكر المصدر الحقيقي للإرهاب الذي تم فرضه على المشرق خلال السنوات السبع الماضية.
التكلفة المقدرة لإعادة بناء سوريا تختلف على نطاق واسع. في حين وضعت دراسة للبنك الدولي في عام 2017 مقدار 225 مليار دولار، تشير التقييمات الأخيرة إلى إجمالي ما يقرب من 400 مليار دولار. ويتوقع آخرون أن يصل المبلغ إلى تريليون دولار. وذلك دون احتساب التكاليف البشرية للحرب.
من الواضح من هجوم بوتين الأوروبي الساحر أن روسيا لا تنوي تحمل أي جزء صغير من الفاتورة. على ما يبدو، لا يشعر الكرملين وكأنه واجب عليه إعادة بناء المدن واستعادة سبل العيش التي دمرتها قنابلها.
كما أن الولايات المتحدة غير متحمسة بشكل خاص للمساعدة. في الأسبوع الماضي، ألغت إدارة ترامب 230 مليون دولار لتمويل إعادة إعمار الرقة ومناطق أخرى محررة من داعش. وتأمل الآن أن تدفع السعودية الفاتورة بدلاً من ذلك. يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الخطوة حكيمة.
مع تراجع الولايات المتحدة، من الواضح لماذا يريد بوتين فجأة التحدث إلى الأوروبيين حول محنة اللاجئين السوريين. لم يهتم بهم عندما كانت قنابله تسقط على أحيائهم مجبرة إياهم على الفرار. لكنه الآن يريد أن تنقذ أوروبا الأسد، وقد يجد بعض التعاطف.
لكن ليس من الواضح أن الأسد يريد حتى عودة النازحين السوريين. إذا كان هناك أي شيء، يبدو أنه مستعد لاستغلال الوضع لإعادة تشكيل التركيبة العرقية والسياسية للبلد، مما سيجعلها أكثر أمانا لطائفة الأقلية الخاصة به، العلويين. ومن ثم، يمنح قانون جديد اللاجئين سنة واحدة فقط لاستعادة ممتلكاتهم قبل أن تضبطها الحكومة؛ ويبدو أن المتطلبات البيروقراطية الأخرى مصممة للسماح للسلطات السورية برفض الدخول إلى أي شخص لا يعجبهم.
علاوة على ذلك، فقد صرح الأسد صراحة أن الشركات الأوروبية غير مرحب بها للمساعدة في إعادة الإعمار، وأنه ينبغي إعطاء الأفضلية للشركات الروسية. من الواضح أن النظام يستعد للاستفادة من أي مساعدة لإعادة البناء تأتي في طريقه. لكل هذه الأسباب، فإن آخر ما ينبغي على الأوروبيين فعله هو إرسال الأموال مباشرة إلى الأسد. الخيار أفضل بكثير هو تقديم الدعم المالي المباشر للأفراد والأسر المستعدة والقادرة على العودة إلى بلدهم.
في الوقت نفسه، لا ينبغي للاتحاد الأوروبي رفع العقوبات حتى يتم التوصل إلى تسوية سياسية ذات مصداقية بين النظام وقوات المعارضة. السؤال المطروح هو هل هذه التسوية ممكنة. حتى الآن، تم إفشال كل اقتراح واقعي من خلال إصرار الأسد على بقائه في السلطة.
من الجيد أن يتذكر الأسد أنه الآن يحكم على حطام بلده. حتى عندما تسكت المدافع، ولن يكون نظامه آمنًا. إن عدم قدرته على إحياء وإعادة بناء سوريا سيتركه عرضة للخطر بنفس الطريقة التي رفض من خلالها إجراء الإصلاحات السياسية قبل ثماني سنوات. ليس لأوروبا مصلحة في إنقاذ الأسد من هذه الورطة. لمساعدة سوريا ينبغي إيجاد حل سياسي حقيقي. بعد الدمار الذي أحدثه نظام الأسد، لا يوجد طريق آخر إلى الأمام.
يوزّع بشار الأسد هداياه الاستثمارية الجزيلة بكرم سخي على أصدقائه هنا وهناك، فلروسيا يعطي استثمار بناء الشقق والفنادق الفخمة، ويمنح إيران مشاريع البنية التحتية، شبكات الكهرباء والطرق والجسور، أما الصين فلها حصة بناء (وصيانة) المرافق الكبرى من مطارات ومدن رياضية.
ولا ينسى الأسد إغراء لبنان والأردن بتجارة مزدهرة، وليالي فرح عامرة ينسى فيها اللبنانيون والأردنيون غلاء أسعار بيروت وعمّان، ويهربون من أجوائهما الرتيبة إلى حضن دمشق الحالم، والقادر في الوقت نفسه، على الاحتفال بحب الحياة والوفاء للمقاومة وشعارات تحرير فلسطين، وذلك في مطاعم دمشق القديمة، حيث الأصالة والتاريخ وأمجاد بني أمية ومراقد آل البيت.
لكن من أين سيموّل الأسد هذا النهوض العمراني الذي تتجاوز تكاليفة مبلغ الأربعمئة مليار دولار، ومن أين له تحقيق هذا الزخم الترفيهي لأصدقاء أجهزته المخابراتية، في بيروت وعمّان، في بلدٍ يصنّف أكثر من ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر، وأكثر من ثمانين بالمئة من عائلاته، الموالية والمعارضة، فقدت أبناءها في الحرب، أو أصيب أحد أفرادها بإعاقة دائمة؟.
لا يوجد أدنى شك أن الأسد محظوظ، إلى درجةٍ يمكن وصفه بأكبر المحظوظين في هذا الكون، فهو يجد دائماً من يصدّقه، فقد صدّقوه حين وصف الحراك بأنه مؤامرة خارجية من دون أن يكلفوه باستحضار دليلٍ يثبت صحة الاتهام، في حين أرهقوا الشعب السوري بالأسئلة عن سبب ثورتهم، ما دامت الجامعات بالمجان، وما دامت سورية البلد الوحيد غير المدين في المنطقة، من دون أن ينتبهوا إلى أن العائلة السورية تنفق على أولادها في الخدمة العسكرية، سنتين ونصف السنة، ما تنفقه أي عائلة في المنطقة على تدريس أبنائها في الجامعات الخاصة، بالطبع من دون احتساب السنوات التي تضيع من عمر الشباب، في جيشٍ غرضه تدجين الشباب، وإخضاعهم لسلطة الأسد، ومن دون الانتباه إلى حقيقة أن عدم وجود ديْن خارجي على سورية أمر لا ينعكس على حياة الناس، وليست له تأثيرات حقيقية على معاشهم، بدليل أن مئات آلاف العمال السوريين كانوا يبيعون أنفسهم في أسواق العمل الرخيصة في الأردن ولبنان.
أكثر من ذلك، صدّقته شريحة واسعة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، بأنه سيحرّر لهم فلسطينهم، مع أن الأب والابن حكما سورية حوالي نصف قرن، من دون أن يطلقا طلقة واحدة على الجولان، وبشهادة الإسرائيلين أنفسهم الذين أبدوا سعادتهم لعودة الأسد للسيطرة على جنوب سورية، إلى درجة أن إحدى شركات السياحة الإسرائيلية سيّرت مركباتٍ وضعت عليها ميكروفونات تنادي في شوارع تل أبيب "أيها السائحون، عودوا إلى الإستجمام في الجولان، فالأسد انتصر". وكان إسحق رابين، في آخر لقاء معه على حاجز إيريز، لخص هذه الحقيقة مؤنباً ياسر عرفات "لو كنت أعرف أنك لن تلتزم ما اتفقنا عليه، لما وقعت معك اتفاق أوسلو، حافظ الأسد أفضل منك، يلتزم حرفياً بكل التفاهمات بيننا"، علماً أن أجهزة الأسد الإعلامية والمخابراتية كانت إذا أرادت وصف أحد بالعمالة والخيانة تشتمه بـأنه عرفاتي.
ولكن، لن يكون في وسع هذا الأسد المحظوظ، مع تلك الفئات من دون عناء، تسويق أوهامه تلك بالسهولة نفسها، فإذا وجد كثيرون في المنطقة يشترون تلك الأوهام، وهي ما زالت مخططات وخرائط في الأذهان، وليست على الورق، فالمؤكّد أنه لن يجد من يدفع أي مبلغ لوضع ركائز وقواعد لمشاريعه المكلفة، إلا في حال قام أعضاء مليشيات التعفيش وشبيحة الأردن ولبنان وفلسطين بعمل جمعيةٍ، يقبضها بشار أولاً، لإطلاق مشاريعه الإعمارية باهظة التكلفة، أو يقوم تجار عمان وبغداد، الذين يطمحون بربح وافر من عوائد استيراد البضائع الرخيصة من مصانع هرب عمالها إلى الخارج، وصدئت خطوط إنتاجها، ولا تتوفر لديها مواد خام لإنتاج البضائع، بتمويل مشاريع البنية التحتية السورية، ليصبح لافتتاح معبر نصيب معنى حقيقي؟
يبيع بشار الأسد الوهم، وهو يتكئ على وسادة مريحة في قصر الشعب، وإذا سأله مستشاروه، إن كانت لديهم الجرأة على فعل ذلك، عن مصدر هذه الأموال التي ستأتي إليه لتمويل هذه المشاريع، سيجيبهم، بثقة وابتسامة ماكرة: سندفّع الخليجيين والأوروبيين والاميركيين ثمن ذلك، وما عليكم سوى إعداد قوائم بكل حجر تهدّم، وكل حفرة على طريق قرية نائية في سورية، ولن نسمح لشركاتهم بالاستفادة من عوائد الإعمار هذه التي ستموّل حكوماتهم مشاريعها.. لن يتسنّى للمستشارين سؤاله عن حل لغز هذه المعادلة، لأن شاشة هاتفه المحمول ستنبّهه إلى أن صديقه، رجل الأعمال اللبناني، يريد أن يطمئن عن موعد انطلاق المشاريع الطموحة، حينها سيشير بإصبعه للمستشارين، الذين ما زالوا يشبكون أيديهم على بطونهم، أن ينصرفوا ويدعوه وحيداً، وأخر كلمة سيسمعونها وهم يغلقون الباب خلفهم... أهلا أهلا أبو فلان.
لا يشكل حجم التكاليف الكبيرة أدنى مشكلة لبشار الأسد، ولا يعنيه كيف ستتدبّر دول الخليج وأوروبا تأمين هذه المبالغ الفلكية، في وقت تضطر هذه البلدان للاستدانة من القطاع الخاص والبنك الدولي لدعم ميزانياتها السنوية، ويتظاهر كل يوم آلاف العاطلين في شوارع مدنها، مطالبين بأي فرص عمل. ليست مشكلته، ما دام يضع في جيبه بطاقةً اسمها فلاديمير بوتين وسيرغي لافروف، اللذان سيتحوّل تراب سورية بأيديهما إلى ذهب، وبمجرد إشارة من أصابعهما ستتقاطر دول العالم للوقوف في الطابور لتقديم الأموال لمشاريع الأسد.
واهمٌ من يعتقد أن تغير المعادلة في سورية لصالح الأسد سيشفيه من حالة الانفصال عن الواقع. العكس هو الصحيح، حيث لم يتحمل عقله هذا الانقلاب الميداني، وأدى إلى وصول حالة الانفصال إلى مرحلةٍ ميئوس من علاجها، لكن بوتين سيكون أكثر منه انفصالاً عن الواقع، لو أجل بيعه ثمناً لتورّط الدول الأوروبية وأميركا، ووعدها بأنها ستساهم في إعادة الإعمار، شرط حصول تغيير سياسي في سورية. وعليه، أي بوتين، استغلال لحظة حماوة الرأس الأوروبية، لأنه إن لم يفعل ذلك، وتنبهت الدول الغربية للثمن الباهظ الذي ستدفعه في مقابل شراء جثة هامدة، لن يجد بوتين من يشتري الأسد في مقابل إصلاح جارور صرف صحي في عشوائيةٍ مهملة.
بعدما أدرك السوريون أن تمثيل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية لهم لم يوفر لهم القيادة الثورية المطلوبة، واكتشفوا، بعد تسليم حلب، أن فصائل العسكرة والمذهبية أوصلتهم إلى نقيض ما وعدتهم به، فتح كثيرون منهم حواراتٍ يومية عن ضرورة تدارك ما افتقرت ثورتهم إليه من خطط وبرامج ومرجعية قيادية. وجريا على مألوفهم خلال أعوام تمرّدهم الماضية، فقد انخرطوا في جهود كلامية، تخلو من التنسيق والتعاون، بدوا خلالها كأنهم يتنافسون على بناء مرجعيةٍ، يؤكد كلام كل طرف منهم أنها التي ستقودُهم إلى عاصمة العدالة والمساواة: دمشق الحرّة.
يقول المثل "كثرة الطباخين تحرق الطبخة"، والطباخون اليوم أكثر من أن يُعدّوا، ولا شك في نياتهم الوطنية، لكنهم يتحدّثون جميعهم لغة واحدة، تقدّم وعودا متماثلة، ويفوتهم أن بناء مرجعية موحّدة تنال ثقة السوريين لا يتحقق بالارتجال الذي لطالما أهلك العمل الثوري، وأن شرط قيام المرجعية يتطلب وضع برنامج مشترك لبنائها، خطوة بعد أخرى، بصفتها خيارا شعبيا ووطنيا، وليست مجرد رغبةٍ لدى نخبٍ تتسابق عليها، لن يكون ما تقيمه بمفردها مرجعية، لافتقاره إلى هوية جامعة يعترف بها، وينضوي تحتها كل من يريد تجديد المشروع الثوري، وإزالة نواقصه البنيوية، فالمرجعية إما أن تستمد قيمتها من اعتراف وطني بها، تغدو معه واحدة وموحّدة، أو أن جهود العاملين اليوم لبنائها ستكون السبب في عدم قيامها، وتفويت فرصة بناء قيادة ثورية تخرجنا من عسكرة المذهبية، قيامها تحول نوعي في الصراع ضد الأسدية لن يبقى بعده ما كانت أوضاعنا عليه من ارتجال وتخبّط، حالا دون وجود مرجعية تقود أطيافا مجتمعية، تمثل أغلبية شعبنا، أسهم غيابها في استبدال مشروع الحرية بثورة مضادة، ارتدت لبوسا مذهبيا، عجز نمطها الفصائلي المتخلف والتفتيتي عن حماية السوريين، وأحدث فوضى خياراتٍ ومواقف نقلت ثقل الصراع ضد النظام إلى داخل الصف الشعبي والمعارض.
يعي الوطنيون اليوم ضرورة المرجعية، بيد أنهم يعملون لها بطرق تتسم بالاستعجال، وغياب التنسيق الضروري لإقامتها جهة موحدة وفاعلة، وسيكون من الصعب تداركه فيما بعد، إذا ما تنوعت المحاولات، واختلفت رهانات القائمين بها، وتباين ما سيترتب عليها من نتائج، من غير الجائز أن تكون متباينة.
عندما توجد جهات عديدة تعمل لبناء قيادة موحدة، يغدو نجاحها رهنا بما تتوافق عليه وتقرّه من أسس لبلوغ هدف مشترك، وتكمله من عمل إلى لجنة تحضيرية منتخبة تتواصل مع أطراف الساحة أينما كانت، لاختيار عدد من السوريين المؤهلين للمشاركة في "لقاء وطني"، يجرّد الواقع القائم، ثم ينتخب "هيئة مؤقتة" ذات مهام مرجعية، تؤسّس دوائر إعلامية وقانونية ومالية ودائرة تواصل دولي، يكون لكل منها تنظيمٌ يفيد من قدرات السوريين داخل سورية وخارجها، وخطة عمل تحدّد بوضوح هدفها وطرق بلوغه، تعلن للرأي العام، وتسمح بمشاركة مفتوحة، تفيد من الخبرات والتجارب المتوفرة في جميع مجالات العمل الوطني والعام. وتلاحق المجرمين ونظامهم في أصعدة الدوائر الأربع، وخصوصا القانونية منها، وصولا إلى عقد محكمة شعبية دولية للأسدية، إن استحال إرساله ومن معه من القتلة إلى محكمة الجنايات الدولية، والعمل لاستصدار قراراتٍ عن برلمانات الدول المختلفة، وفي مقدمها الكونغرس الأميركي، تمنع حكومات بلدانها من استعادة علاقاتها مع الأسدية ونظامها، ومن رفع العقوبات عن أشخاصها، وتؤيد حلا يطبق القرارات الدولية بحذافيرها، لتلبية تطلعات الشعب السوري إلى الحرية، ورفع تهمة الإرهاب عن ثورته، وإلصاقها بالأسدية: الطرف الذي يقف وراء الإرهاب، واستعان به لقتل السوريين.
لن تكون هناك مرجعية وقيادة من دون جهد وطني شامل، يبنيها خطوة خطوة، هو اليوم شرط خروجنا من الهاوية.
انتقل النظام الإيراني من توجيه التهديد إلى الولايات المتحدة و«لا تلعبوا بذنب الأسد»، الذي ردّ عليه دونالد ترمب بتهديد أقوى، إلى توجيه التهديد إلى أوروبا، عندما استغلّ محمد جواد ظريف، قبل أيام، الذكرى الـ65 لسقوط حكومة محمد مصدق لتخويف الإيرانيين، بالقول إن أميركا تريد أن تُخضِعكم، كما حصل في 19 أغسطس (آب) 1953، بإسقاط حكومة مصدق، ولترهيب الأوروبيين من عدم دفعهم ثمن أمنهم أمام الولايات المتحدة!
ولكن ما علاقة أمن أوروبا ودفع ثمن هذا الأمن بالعقوبات الأميركية على إيران؟
يرد ظريف بالقول، ويا للسخرية: «لأن الأوروبيين يقولون إن الاتفاق النووي إنجاز أمني مهم بالنسبة إليهم. وبطبيعة الحال، على كل بلد الاستثمار ودفع ثمن أمنه، ونحن نعتقد أن أوروبا ما زالت غير مستعدة لدفع هذا الثمن، ويجب أن نراها تدفعه خلال الشهور المقبلة»!
غريب، لاحظ كلمات «إنجاز أمني»، ودفع «ثمن هذا الإنجاز»، وتعال لنتذكر، كما يتذكّر الأوروبيون والعالم، كل ما سبق أن أعلنته إيران - وتعلنه - من أن برنامجها النووي هو للأغراض السلمية، فمن أين إذن يأتي موضوع ثمن أمن أوروبا، والفواتير التي يجب أن تدفعها للأميركيين أو لغيرهم، لتأمَن التهديد النووي الإيراني، ثم من قال إنها لو دفعت فعلاً هذا الثمن، سيلتزم النظام الإيراني الذي يتحدث بهذا الأسلوب الواضح من التحدي حدوده، ويتوقف عن العربدة في الداخل والخارج؟
الغريب أن ظريف يتناسى ما كان قد أعلنه في 23 يونيو (حزيران) الماضي، من أن الدول الأوروبية لا تستطيع فعل الكثير من أجل إنقاذ الاتفاق النووي، رغم كل الوعود التي تقدمها بمواصلة العلاقات التجارية مع طهران، من خلال الشركات المتوسطة والصغيرة، وأن الولايات المتحدة أحكمت قبضتها على الشريان الاقتصادي لإيران.
لكن كل ذلك التهويل والتصعيد لا يخفي استمرار المؤشرات على مدى الضيق الإيراني المتصاعد من العقوبات المستجدة، ولا يموّه الرغبة في العودة إلى سياق الدبلوماسية السرية، التي سبق أن جرت في عُمان بين عامي (2013 - 2015)، في عهد إدارة باراك أوباما، وانتهت كما هو معروف بالاتفاق النووي، الذي انسحب منه دونالد ترمب معتبراً أنه كارثة، وأعاد فرض مروحة متدرّجة من العقوبات على إيران، التي تعاني أصلاً من اقتصاد متهالك يثير اضطرابات داخلية متصاعدة!
الجواب الأميركي على مؤشرات ورسائل هذه الرغبة الإيرانية في العودة إلى الحوار لم يتأخر. فمنذ اللحظة الأولى، وقبل الانسحاب من الاتفاق والعودة إلى العقوبات، قال الرئيس الأميركي إن المطلوب من إيران هو تغيير سياستها في الداخل والخارج، خصوصاً تدخلاتها التخريبية في المنطقة!
نهاية الأسبوع الماضي، أعلن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو تشكيل «مجموعة العمل الإيرانية»، برئاسة براين هوك، وقد كلفت تنسيق سياسة واشنطن إزاء طهران لتشديد العقوبات التي يفترض، وفق إعلانات واشنطن، أن تصل في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل إلى وقف استيراد النفط الإيراني حتى الصفر. وقال بومبيو إن النظام الإيراني مسؤول منذ 40 عاماً عن سيل من العنف وسلوك مزعزع للاستقرار ضد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وأيضاً ضد الشعب الإيراني، وإن هذا الشعب - كما العالم - يطالبان بأن تتصرف إيران كبلدٍ طبيعي، وإن واشنطن تأمل التوصل قريباً إلى اتفاق جديد معها «لكن علينا أن نرى أولاً تغييرات أساسية في سلوك النظام، داخل حدوده وخارجها»!
يوم الأربعاء الماضي، تكررت التطمينات الأميركية، عندما قال مستشار الأمن القومي جون بولتون، من إسرائيل، بالحرف: «لنكن واضحين، إن السياسة الأميركية لا تقضي بتغيير النظام، بل ما نريده هو تغيير جذري في سلوكه». وأعاد بولتون التأكيد أن الولايات المتحدة على استعداد للتوصل إلى اتفاق مع النظام، محذراً من أن عدم الامتثال للمطالب الأميركية سيجعلها تمارس ضغوطاً قصوى على إيران، لتفهم بوضوح أنها لن تحصل يوماً على أسلحة نووية قابلة للاستخدام!
«لنكن واضحين، لا نريد تغيير النظام الإيراني»، هذه الكلمات التي جاءت بعدما كان ترمب قد فاجأ العالم في 29 يوليو (تموز) الماضي بإعلانه أنه مستعد للقاء القادة الإيرانيين من دون شروط مسبقة، وفي أي وقت يريدون، بدت للمراقبين بمثابة رسالة دعم للدبلوماسية السرية العمانية، التي يبدو أنها عادت إلى التحرك، في محاولة لإحياء «قناة مسقط» للتفاوض بين واشنطن وطهران، ولكن في ظل دفتر شروط جديد وضعه ترمب، يهدف إلى إحداث تغيير جذري ملموس في سلوكيات النظام الإيراني، في الداخل والخارج!
ولكن هل يمكن للنظام الإيراني، الذي قام على العربدة الإقليمية منذ أربعين عاماً، والذي لا يتوانى عن الإعلان والمفاخرة بأنه يسيطر على أربع عواصم عربية، ويقول إنه قوة محورية مسيطرة في المنطقة، أن يغيّر سلوكه الداخلي والخارجي، وأن يهتم بأموره الداخلية فحسب، وهل هناك من يصدّق أن هذا النظام يمكن أن يبقى إذا غيّر من سلوكه في الداخل والخارج؟!
من المؤكد أنه لن يتمكن من البقاء طويلاً، في ظلّ أوضاعه الداخلية المأزومة اقتصادياً، وعلى صعيد الحريات، وبعد علاقاته المتوترة مع دول الإقليم وتدخلاته، وفي ضوء اتهامه من قبل واشنطن بدعم عمليات الإرهاب الدولي.
بالعودة إلى التحرّك العماني في إطار من الدبلوماسية السرية، كان لافتاً أن إعلان ترمب استعداده للقاء القادة الإيرانيين في 29 يوليو جاء بعد يومين فقط من اللقاء المفاجئ بين وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي ووزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في واشنطن، ومن اللافت جداً أن زيارة بن علوي إلى أميركا جاءت مباشرة بعد زيارة قام بها نده محمد جواد ظريف إلى مسقط، ثم كان لافتاً أيضاً أن وكالة «تابناك»، التابعة لسكرتير تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، نشرت خبراً عن أن بن علوي سيصل إلى طهران، في حين سارعت أوساط دبلوماسية في واشنطن إلى ربط تحرّك بن علوي بمساعٍ للتهدئة، وإعادة فتح القناة السرية للتواصل بين واشنطن وطهران، التي نفت أنها تنتظر زيارة بن علوي، في حين قال بهرام قاسمي: «نحن على اتصال دائم مع عمان»!
عندما يعلن علي خامنئي أن لا حرب ولا تفاوض مع الولايات المتحدة، فإنه يحاذر حتى الآن استجابة الشروط الأميركية الخانقة للعودة إلى الاتفاق؛ أي وقف سياسة التضييق داخلياً، ووقف النشاط الصاروخي الباليستي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإقليمية، والانسحاب من سوريا، ووقف دعم النشاطات الإرهابية على المستوى الدولي، لأن تخلّي النظام الإيراني عن هذه السياسات يعني بالتالي انهيار آيديولوجيا النظام، ثم النظام عينه!
لكن هذا لم يمنع طهران، المحاصرة بالعقوبات، من محاولة إرسال مؤشرات معينة. فبعد ساعات من إعلان ترمب استعداده لمفاوضتها، رفع المجلس الأعلى للأمن القومي الإقامة الجبرية عن مسؤولي المعارضة مير حسن موسوي ومهدي كروبي، وكذلك قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه إن مفاوضة أميركا ليست من المحرمات، وإنه يجب إنشاء خط أحمر ساخن بين البلدين، لكن الأهم يبقى في السؤال: هل يقدر النظام الإيراني إن غيّر سلوكه أن يبقى؟
لا يزال النظام في سورية والمعارضة ينظران إلى تطورات المشهد السوري من منظار الفوز والهزيمة: يعتقد النظام أنه انتصر، ومنع المعارضين والإرهابيين من السيطرة على الدولة، وأنه يحظى برضى دولي، وإن لم يظهر ذلك على المستوى الرسمي، في حين تعتقد المعارضة الرسمية والشعبية أن المجتمع الدولي غدر بالثورة المسلحة، لكنه لن يتخلّى عن الثورة السياسية ومطالبها، وإن بدا متراخيا على المستوى الرسمي حيال هذه المطالب.
هذه الرؤية هي التي تجعل الطرفين يرفضان أنصاف الحلول، ويتمسّكان بمواقفهما الحدّية، ولم يدركا أن مطالب كل منهما لن تتحقق كاملة، وإنما سيتم تحقيق جزءٍ منها: تتعامل المعارضة مع الثورة السورية من منطلق قيمي أخلاقي، فتطلق أحكاما وجوبية ـ معيارية، وفق ما ينبغي أن يكون، أما النظام فينطلق من واقعية مفرطة، خالية من أي محتوى أخلاقي، فيطلق أحكاما وجودية، وفق ما هو قائم، بناء على موازين القوى، مفتقدا، في قاموسه، فكرة الحقوق والعدالة وسيادة القانون.
منذ بداية عام 2013 إلى نهاية عام 2015، كانت الساحة العسكرية تموج بالتقلبات المتناقضة، فثمة أشهر تظهر فيها غلبة المعارضة، ثم لا يلبث أن يحدث العكس، فيقوى النظام وتضعف الفصائل المسلحة، إلى أن يحدث العكس ثانية، وظل هذا الوضع على ما هو عليه، إلى أن حدث التدخل العسكري الروسي بتفاهم أو برضى أميركي في سبتمبر/ أيلول 2015.
بدا منذ ذلك الحين، أن ثمّة حقائق واضحة، لم تنتبه إليها المعارضة، أو أنها انتبهت إليها، لكن زمام الأمر فلت من يدها، وأصبح بيد الدول الخارجية: أولاها أنه لن يسمح بإسقاط النظام عسكريا، على غرار ما جرى في ليبيا. وثانيتها أن المعارك بين الطرفين يجب أن تستمر إلى مرحلةٍ تصبح فيها البلاد مدمرة عن بكرة أبيها، وأن سورية ذات الثقل الاستراتيجي لن تكون موجودةً على الخارطة الإقليمية. وثالث الحقائق أن الولايات المتحدة غضّت الطرف عن التثوير الطائفي والقومي المسلح، فسمحت للتيار السني الجهادي والسلفي بالامتداد داخل سورية، في وقتٍ غضت الطرف عن تمدد التيار الشيعي، بكل حمولاته العسكرية والأيديولوجية.
تمّت تغذية النزعات القومية والطائفية بين أطياف المجتمع السوري، ومورست سياسات أميركية ساهمت بنشوء وعي سني سياسي/ عسكري زائف ومخالف للواقع، وبنشوء فورة قومية لدى الأكراد مخالفة أيضا لمقتضيات الجغرافيا المحلية والإقليمية.
انتقال الولايات المتحدة من مرحلة توازن الصراع بين الطرفين السوريين إلى مرحلة تغليب طرف على طرف عسكريا، لم يكن بسبب قناعات سياسية بهذا الطرف (النظام)، وإنما لأن الأمور وصلت إلى حدٍّ لم يعد يُسمح الاستمرار به، فالمطلوب تفتيت الدولة السورية، ونشوء شبه كيانات فيها، ولكن ضمن إطار الوحدة الجغرافية السورية.
وأية محاولة لدفع "سايكس بيكو" جديد إلى الأمام ستؤدي إلى ارتدادات عكسية، ذلك أن "سايكس بيكو" الحالي حقق دوره في تفتيت الدول العربية، من دون أن يحدث انفجارات طائفية أو قومية أو إثنية، في حين أن أية محاولة جديدة للتقسيم ستؤدي إلى انفجار طائفي ـ قومي، غير مقبول دوليا. ومن هنا، كان لا بد من انتصار النظام عسكريا، من دون أن تكون لديه القدرة على الاستحواذ بالجغرافيا السورية، على الأقل في هذه المرحلة، كما لن يكون مسموحا له الاستحواذ على المقدّرات الاقتصادية للبلاد، بحيث يبقى في عجز وأزمة اقتصادية.
ليس هدف الولايات المتحدة نشر الديمقراطية، وتحقيق دولة القانون والعدالة الاجتماعية، ولم تكن تلك القيم هدفا سياسيا أو أيديولوجيا للولايات المتحدة، بقدر ما هي أداة للتدخل الخارجي، أو سلطة خطاب موجهة للداخل الأميركي. الهدف الأميركي هو القضاء على مكانة سورية الإقليمية التي شكلت معبرا جيواستراتيجيا في المنطقة. وبعدما تحقق هذا الغرض، لا بد من استمرار سورية ضعيفة، وهذا لا يكون بقيام نظام ديمقراطي يعيد إنتاج الدولة والمجتمع، وإنما باستمرار السلطة الشمولية وفق أشكال جديدة. ولذلك على المعارضة أن تهيئ نفسها لمزيد من التنازلات الأميركية على المستوى السياسي، كما فعلت على المستوى العسكري.
من موقع روسيّا الجديد في سوريّة يتمدّد الوعي الروسيّ إلى لبنان. إنّه وعي لا يملك أشكالاً تنظيميّة محدّدة لكنّه يخاطب أشكالاً كثيرة من الوعي ومن التنظيم. فسلحفاة موسكو الدؤوب والمواظبة تستفيد إلى أقصى الحدود من نوم أرنب واشنطن التافه. إنّها تملأ الفراغات بالعمل والجدّ تاركةً للمنافس السابق أوهامه وهذياناته. هي تلمّ الأجزاء الصغيرة من أملاكها القليلة لتخلق منها نفوذاً صاعداً، أمّا هو فيبدّد الأجزاء الكبيرة من أملاكه الكثيرة التي سبق أن شكّلت نفوذاً ضخماً.
والحال أنّ نقاط تماسٍّ عدّة ومتفاوتة تجمع موسكو بعديدين متفاوتين:
خرّيجو الاتّحاد السوفياتيّ السابق آلافٌ لا ينبغي التفريط بهم. إنّهم شركاء الماضي القريب وحَمَلة الدعوة «الحضاريّة». أعيان طائفة الروم الأرثوذكس أيضاً مهمّون. إنّهم شركاء الماضي الأبعد حين كان القيصر هو الحامي والراعي الصالح. رجال أعمال من الحقبتين الشيوعيّة، والتي تلتها تقودهم جيوبهم التي تضخّمت بسرعة نسبيّة إلى موسكو. مُعادون للولايات المتّحدة ومحبّون لبشّار الأسد يتباهون بشَعر روسيّ تشتهيه صلعتهم. شيوعيّون ما زالوا يعثرون على أطياف للينين وستالين وورثَتهما تتجوّل في أنحاء الكرملين. قوميّون سوريّون يستهويهم الزعيم، كلّ زعيم، خصوصاً متى كان أرثوذكسيّ المذهب. مسلمون سنّة يحبّون تركيّا ويظنّون أنّ بوتين استقرّت أموره على مصادقة أخيه أردوغان، وأرمن يكرهون تركيّا ويظنّون أنّ قوّة بوتين حدٌّ على قوّة أردوغان. راغبون في محاربة إسرائيل يتذكّرون صواريخ سام وينتظرون، للمرّة الألف، نجدة موسكو التي لا تصل. راغبون في الصلح مع إسرائيل متيقّنون من أنّ الروس مؤهّلون لنجاح لا يملك الأميركيّون شروطه. جنبلاطيّون يستعيدون، حسب الطلب، علاقات كمال جنبلاط بموسكو و «القارّات الثلاث» و «حركات التحرّر الوطنيّ». عونيّون يعوّلون على مسيحيّة روسيا التي تقيهم شيعيّة إيران من دون أن تخلّ بتحالفهم معها، فيما يراهنون على يد موسكو الطويلة في إعادة اللاجئين السوريّين، وربّما في فرض سلام مع إسرائيل لا يستطيع الحلفاء في طهران و «حزب الله» أن يرفضوه أو يخرّبوه. المولعون بالأقوياء، وفي عدادهم الجيوش والمخابرات، يخاطبهم بوتين بوصفه ذاك السوبرمان الناهد إلى المجد والعلى، وكذلك المولعون بالضعفاء ممّن يرون أنّ ما من قويّ أو إمبرياليّ سوى الولايات المتّحدة، وأن من حقّ الآخرين أن يقووا كي ينتزعوا منها حصريّة القوّة. «المشرقيّة» الأركيولوجيّة التي تكره اليهود، ومثلها الأقلّيّاتيّة التي تكره المسلمين السنّة، تنتهي بهما الدروب إلى موسكو... هذا جميعاً يحصل عند مفرق الزمن الموقّت أو المعلّق.
مع ذلك، يبقى الطيران الحربيّ والشرطة العسكريّة السلعتين الروسيّتين الوحيدتين القابلتين للتصدير. وهذا ما يقول عن تفاهة المستورد – حتّى لو كان في أهميّة السيّدين جبران باسيل وطلال أرسلان – بقدر ما يقول عن طبيعة المصدّر. فالمستورد، في آخر المطاف، قوى نافقة وأفكار نافقة يراد لها أن تفرش السجّادة الحمراء لبشّار الأسد ولانتصار الثورة المضادّة في سوريّة. بل هو مشاعر نافقة تعوّل على إمبراطوريّة لا بدّ أنّها، في وقت يطول أو يقصر، نافقة. والشيوعيّون والقوميّون السوريّون تحديداً ينبغي أن يكونوا أعرف العارفين بانهيار الأحزاب التي تستمدّ قوّتها من إمبراطوريّات نافقة، روسيّة كانت أم ألمانيّة.
لم يبق الكثير من قمة هلسنكي بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب بعد تصريحات مستشار الأخير جون بولتون عن بقاء القوات الأميركية في سورية.
وإذا لم تحصل مفاجأة من النوع الذي اعتاد ترامب أن يتحفنا به، بأن يصدر قراراً بسحب قواته من بلاد الشام من دون سابق إنذار، فإن الإعلان الأميركي عن بقاء هذه القوات يشكل انقلاباً على تأكيده قبل أشهر أنه يريد انسحاباً في أسرع وقت، وعلى تحضيرات طلبها لتنفيذ وعده هذا في موعد قيل إنه في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل كحد أقصى.
وإذا كان بولتون ربط الانسحاب الأميركي بهدفَي الحؤول دون استعادة "داعش" زمام المبادرة، والعودة إلى السيطرة على بعض المناطق، وضمان الانسحاب الإيراني من سورية، فإن موسكو احتاطت لما بعد تفاهمات هلسنكي بأن الدعوة إلى الخروج الإيراني يفترض أن تصدر عن النظام السوري، وأن القيادة الروسية ليست قادرة على إجبار إيران على الانسحاب. فُهم من هذا الموقف في حينها أنه عندما يطلب القيصر من بشار الأسد إصدار بيان يطلب فيه انسحاب القوات الأجنبية، ومنها الإيرانية، لن يتردد في ذلك.
حين مهد بوتين لهذا الاحتمال في محادثاته مع الجانب الإيراني، بحجة الموافقة الأميركية على بقاء الأسد في السلطة مقابل انسحاب طهران، يبدو أنه لم يهمل نصيحة مستشار المرشد علي أكبر ولايتي بأن يستخدم ورقة الانسحاب الإيراني من أجل الحصول على انسحاب أميركي وتركي أيضاً.
وبمقدار سعي موسكو إلى الإفادة من تسليم ترامب بأن لها اليد العليا في سورية، وأنه مستعد لعقد صفقة معها، ففي واشنطن ما زال رجال البنتاغون وبعض الخارجية والاستخبارات عند قناعتهم بأن روسيا "عالقة" في سورية، وهي العبارة التي رددها بولتون أول من أمس. هؤلاء يدعون إلى الإفادة بدورهم من حاجة الكرملين إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، لأنه مقتنع بأن ولوج الحلول للأزمة السورية وإعادة النازحين وإعادة الإعمار... غير ممكنة من دون هذا الاتفاق. واشنطن باتت تأخذ بنصيحة بعض خبرائها في المنطقة حول ذلك مستعينين بالمثل القائل: أنت حطّمتها. أنت أصلحها وخذها... وروسيا ليست في وارد تحمل كلفة "إصلاحها"، بل تريد إغراء دول الغرب كي تنفق الأموال على إعادة الإعمار عبر خطتها لإعادة النازحين، فيما هذه الدول تشترط حلاً سياسياً وفق القرار 2254.
على صحة القول إن سورية ليست أولوية عند ترامب، لا تقل صحة القناعة بأن الوجود الإيراني في سورية أولوية لإدارته من باب ضمان أمن إسرائيل، وفي ظل العقوبات ضدها للحد من نفوذها الإقليمي، فضلاً عن استمرار وجود "داعش" في بعض مناطقها. والقوات الأميركية ترصد منذ أشهر، وبعد الإعلان الروسي والعراقي الانتصار على تنظيم "الدولة الإسلامية" وجود مقاتليه في مناطق البادية وغيرها، والمعلومات الاستخبارية الأميركية تتحدث منذ مدة عن استعادة التنظيم مناطق كان خرج منها. حجة "داعش" ما زالت قابلة للاستخدام لدى كل الأطراف للبقاء على استنفارها الأمني والعسكري. فلماذا لا يستخدمها الأميركيون مجدداً إذا كان الروس والنظام والإيرانيون والأتراك يستخدمونها لمواصلة العمليات العسكرية على الأرض السورية؟ ما حصل في محافظة السويداء مثل على استثمار مجازر "داعش" من قبل النظام والروس، لجلب مناطق إلى بيت الطاعة.
وإذا كان الجانب الروسي يرصد وجود نحو 20 قاعدة عسكرية أميركية لما يقارب 2500 جندي من القوات الخاصة، في مناطق التواجد الكردي وخارجها، أبرزها التنف على الحدود مع العراق، ، فإن هذه القوات قابلة للتخفيض، على نمط التخفيض الذي سبق لبوتين أن أعلنه بعد تأكيده النصر على "داعش" مطلع هذا العام، لتعود الشرطة الروسية فتتكاثر على الأرض والطائرات في الجو بعد أسابيع قليلة.
مع أن بولتون أكد عدم الاتفاق مع روسيا على طريقة استعادة إدلب من المعارضة وإخراج "النصرة" منها، فإنه عارض استخدام السلاح الكيماوي فيها ولم يرفض العمل العسكري. بقاء القوات الأميركية مؤشر إلى أسلوب أميركي جديد بعدم تكرار تجربة الانسحاب الأميركي من العراق بلا نتائج سياسية، ومن دون التورط على الأرض أكثر وخوض المزيد من الحروب، بل على العكس، التمهيد لصفقة مع موسكو، حتى المتشدد بولتون يريدها. والتوصل إليها يتطلب الاحتفاظ بمناطق النفوذ في شمال شرقي سورية، وتأمين الحماية للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والمساعدة على إعادة الإعمار فيها، وتأمين صمود مواردها المالية... بموازاة "التعايش" مع بقاء الأسد، إلى حين نضوج أي اتفاق بين الدولتين الكبريين، ليتبادلا التنازلات.