مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٥ مارس ٢٠١٨
ما الفرق بين من يذل المدنيين لأجل عبوة ماء .... أو جرة غاز ...!؟

مقال: ضجت مواقع التواصل الاجتماعي منذ أيام بالمشهد المذل الذي يمارسه عضو مجلس الشعب في نظام الأسد "محمد قبنض" وهو يوزع الماء على العائلات الهاربة من جحيم الموت في الغوطة الشرقية، مشترطاً عليه بطريقة مهينة ومذلة الهتاف لمن قتل أبنائهم وهجرهم مقابل الحصول على عبوة ماء صغيرة.

بالمقال وفي الشمال السوري هناك من استخدم جرة الغاز والمحروقات لإذلال المدنيين و تركيعهم في المناطق الخارجة عن سيطرته، كما فعل مسؤولي هيئة تحرير الشام من خلال منع وصول الوقود والغاز للمناطق الخارجة عن سيطرتهم في الاقتتال الأخير الحاصل، بعد احتكار المحروقات والغاز لأكثر من شهرين عبر شركة وتد.

ولعل الشروط المذلة التي فرضتها تحرير الشام عبر مسؤوليها في وتد وحكومة الإنقاذ على المدنيين والمجالس المحلية في المناطق المحررة لاتختلف عما قام به عضو مجلس الشعب في حكومة الأسد إلا أن الأخير عدو يتعامل مع مدنيين هتفوا لإسقاط نظامه وتحددوه لسنوات وجاءته الفرصة للانتقام، أما المدنيين في المناطق المحررة فليس ذنبهم شيء إلا أن الفصائل تصارعت على حكمهم والتحكم بمقدرات أرضهم والادعاء بنصرتهم وهم لاحول ولاقوة.

ليس حال أم الشهيد أو المعتقل أو العائلة الفقيرة وشعورها بالخذلان والعجز أمام حالة الذل التي تواجهها في سبيل الحصول على جرة الغاز التي تطهوا فيها الطعام لأبنائها وسط تحكم فصيل في توزيعها وتحديد من هم مستحقوها، بأفضل من تلك الأم أو الطفل الذي قبل الهتاف للأسد أو حرك بشفاه متظاهراً بذلك للحصول على عبوة ماء يروي بها ظمأه بعد خروجه من الموت الذي لاحقه لسنوات مكسوراً خائباً.

اقرأ المزيد
٢٤ مارس ٢٠١٨
من المنتصر في سوريا؟

تحول المطالبون بالحرية والكرامة في سوريا إلى ضحايا، وتحولت سوريا إلى ساحة صراعات دولية، بدأتها إيران حين خشيت أن تفلت سوريا ولبنان من يدها إذا وصل الشعب السوري إلى السلطة، لذلك سارعت بإرسال ميليشيات «حزب الله»، ثم تدخلت بكل قواها العسكرية، لتدافع عن مشروعها الفارسي الذي يتستر بعباءة الممانعة والمقاومة وتحرير فلسطين، وهو متجه إلى حلب وإدلب وسواهما من محافظات سوريا، وتزامن العدوان الإيراني الطائفي مع الدعم العسكري الروسي، ولم تستطع تلك القوى من كسر إرادة السوريين، فدخلت روسيا ساحة المعركة عام 2015 بكل ما تملك من قوى، وهي في الحقيقة وجدت في سوريا فرصتها لإعلان عودتها بقوة إلى الساحة الدولية، وبدأت تدق بعنف على الطاولة الأوروبية التي اتخذت مع أميركا قرارات بمعاقبة روسيا بعد استيلائها على القرم، ولكن سيمفروبل (المسجد الأبيض)، باتت مقر أسطول روسيا على شاطىء البحر الأسود رغماً عن أوروبا وأميركا، ثم وجدت روسيا الفرصة في سوريا لمزيد من التحدي لتفاجئ العالم بمقر آخر لأسطولها في طرطوس على شاطئ المتوسط، واتخذت من مطارات سوريا، وأبرزها (حميميم) قواعد عسكرية لأسطولها الجوي، وبشكل علمي استولت روسيا مع إيران على سوريا كلها، ما فتح شهية الآخرين للإسراع بالاستيلاء على حصص أو قواعد كي لا يخرجوا من الساحة.

لم تكن أوروبا قادرة على مواجهة التحدي الروسي، ولم تستطع الخروج من العباءة الأميركية الفضفاضة، ولم تستطع الصمت أمام شعوبها، لكن جل ما فعلته بعض دولها كان في استقبال أفواج اللاجئين والهاربين، لكن أوروبا بقيت تدور في الفلك الأميركي، وتعيش موقفاً مضطرباً كالذي حدث حين أعلنت فرنسا وبريطانيا وأميركا شن حرب على النظام السوري إثر استخدامه الأسلحة الكيميائية في الغوطة في شهر أغسطس عام 2013 ولكن روسيا وإسرائيل تمكنتا من إيجاد مخرج هو الاكتفاء بتسليم السلاح الكيماوي وإعفاء القاتل من المحاسبة، واتجهت أوروبا وأميركا لمحاربة الإرهاب وتغيرت مواقفها المعادية للنظام، وأيدت الحل السياسي معه وفرضته على المعارضة في القرار 2254 بقرار من مجلس الأمن، ولكنها عجزت عن مواجهة سلسة «الفيتو» الروسي الذي عطل مجلس الأمن رغم أن الروس هم من صاغوا القرار، وقد وصل ضعف مجلس الأمن إلى أدنى مستوياته حين عجز عن إيقاف الهجوم الوحشي على سكان الغوطة، واستمر النظام في القصف والتدمير غير عابىء بالمواقف الدولية.

النظام ملأه شعور بالنصر، حين تمكن من تدمير الغوطة كما دمر ريف دمشق، وحمص ودرعا وريف إدلب وحماه، ثم حلب التي اعتبر تدميرها انتصاراً ساحقاً على شعبه، والمعارضة العسكرية لم تنتصر أيضاً، فقد تمزقت بتمزق ولاءاتها وداعميها، وكثير منها وقع في فخ خطير حين رفع شعارات الخلافة الإسلامية واستجاب للاستفزاز الشيعي والفارسي، وبدأ يحلم بدولة دينية سنية، ما جعل الرأي العام الدولي مضطرباً في اتخاذ موقف رغم معرفته بأن الجيش الحر المنادي بالديموقراطية هو أول من حارب «داعش»، وأن تنظيم «النصرة»، هو أول من قاتل «الجيش الحر» بعد أن تمكن من ثلتي مساحة سوريا.

لم ينتصر أحد في سوريا، فقد خسر النظام شعبه ومدن سوريا وحولها دماراً، ولن يستطيع الاستمرار في حكم الجثث والموتى بلا قبور، وخسر الشعب أبناءه وأسره على الضفتين، وبات جله مشرداً في أصقاع الأرض، وليس سهلاً أن تستعاد اللحمة الوطنية السورية، وخسرت روسيا مكانتها، وخسرت إيران الأمتين العربية والإسلامية معاً، ونبذها المجتمع الدولي كله، واعتبرها مصدر الشر في البشرية، وخسرت الولايات المتحدة كونها قطباً قادراً على قيادة العالم، وخسرت أوروبا حضورها التقليدي في الشرق الأوسط.. وخسر مجلس الأمن مصداقيته، وللأسف حتى الآن يبدو أن الرابح الوحيد هو التوحش الذي تقوده مافيات تسيطر على مقدرات الشعوب، وتدعي الشرعية للتغطية على كونها مارقة.

اقرأ المزيد
٢٤ مارس ٢٠١٨
إسرائيل والأحجية السورية

تعترف إسرائيل رسمياً بأنها قصفت مفاعل الكبر السوري في دير الزور عام 2007، ويتحول الأمر إلى خبر عاجل، وبينما يبحث المرء عن أي مكان سوريٍ غير مقصوف، يمسي المشهد كوميدياً، لا غرابة في أن يتم تناوله من باب تزجية الوقت، والترفيه عن النفس.

باتت محاولات حل الأحجية السورية شائعة بين طالبي التسلية، لا لأنها معقدة، أو مبهمة كطلاسم المغاور التي يتم اكتشافها بين حين وآخر في مجاهل العالم، بل لأن البداية فيها واضحة، والنهاية فيها أوضح من بدايتها، واللعبة والإثارة إنما تقومان في الطريق بينهما. فهناك فاعل يريد أن يحصل على غرض يطلبه، وهناك عناصر ملهمة له، هي قيم العالم المتحضر في بدايات الألفية الجديدة، وهناك قوى مساعدة! وفي المقابل، ثمة مناعة لدى الغرض، بسبب أن من يحوز عليه حالياً سيحاول الدفاع عنه، مستعيناً بقوى تدعمه!

هل هناك أوضح من هذه السردية البسيطة؟ تقوم كل الحكايات الشعبية في العالم على هذه الترسيمة، وكذلك فإن الأحجيات تتبعها في تكوينها، فيصبح البحث عن الحل هو تتبع مسار الفاعلين والمستفيدين مع الداعمين والمعارضين. وتبعاً لهذا، يبدأ الغرق في الأحجية السورية من مرحلة ما بعد التوصيف الأولي الذي يعرفه العالم كله، لقد طلب السوريون حريتهم، ومضوا صوبها، لكن الدوائر المغلقة المعقدة المغرقة لم تفتح، بل زادت عليهم إغلاقاً وتعقيداً وإغراقاً، فباتوا، بعد سبع سنوات من ثورتهم، أشبه بالبدو الرحل، الضائعين في المتاهة الرملية، يستنزفهم الطريق، ويتشذرون، مع مرور الوقت، فيصبحون كتلة مفككة هائمة ومبعثرة!

محاولات حل الأحجية لا تبدأ فقط من الإقرار بمشروعية وعدالة مطالب الشعب السوري برحيل نظام الأسد الديكتاتوري القاتل، بل إنها تتوالد بكثافة ملفتة، حينما تصبح هذه المطالب معترفاً بها من العالم كله، وحتى تلك القوى والدول التي تدعم النظام، فإنها تفعل ذلك، وهي نظرياً تقر للسوريين الثائرين بعدالة مطالبهم بالتغيير، وتداول السلطة، والحريات، وغير ذلك من عبارات عمومية، لكنها في المقابل، تعيد إنتاج الحلول وفق نسخ معقدة، وغير قابلة للفهم، فبدلاً من أن تتم مساعدة السوريين على نيل المطالب واستخلاصها من يد النظام الذي ربط وجوده بها، يتم تحويل الجهد كله صوب دعمه، وإضعاف السوريين وتدميرهم بالمقابل.

إسرائيل التي تعترف اليوم بأنها قصفت مفاعلاً نووياً سورياً لم يعرف السوريين بوجوده أصلاً، وبأن النظام الذي يحكمهم يقوم بتطويره، إلا بعد أن قامت هي بفعلتها، تشارك اليوم في الأحجية السورية، فتكشف حصتها من ورق "الكوتشينة" على الطاولة، مثل غيرها من اللاعبين، فهي تريد للنظام أن يبقى على قيد الحياة، ولكن على طريقتها ومذهبها؛ عميلٌ ذليلٌ يحرس حدودها من المجانين الذين مازالت تعيش في رؤوسهم أحلام العصور البائدة عن العدالة وإعادة الحقوق المسلوبة لأصحابها!

ولكن لماذا يعترف الإسرائيليون الآن بما فعلوه قبل 11 سنة، على الرغم من أن العالم كله كان يعرف منذ البداية أنهم هم الفاعلون؟ هل لأنهم كانوا خائفين من رد النظام المقصوف؟ أم لأنهم كانوا مرتعدين من الإحالة إلى محكمة العدل الدولية؟ أم لشعورهم بالندم؟ حكماً الإجابة لا هذا ولا ذاك ولا ذاك، الإجابة أنهم يقولون للنظام الذي ما زال يدّعي أنه عدوهم، ويبني أسطورته البلهاء أمام مؤيديه السوريين والعرب من هذا الادعاء؛ إنه وعلى الرغم من كل انتصاراته على شعبه، ليس سوى إمعة، تم دهسه في السابق في عام 2007، ويمكن أن يتم ذلك مراراً وتكراراً، طالما أن مصيره وأمره بين أيديهم.

لا يمكن لتحليل ورق اللعب الإسرائيلي، بأي حال، أن يوصف الدور الإسرائيلي بغير المؤديات التي ينتهي إليها، فالإبقاء على الأسد ونظامه كان استراتيجية واضحة اعترف بها مسؤولو تل أبيب غير مرة، والتحذير من خطورة التحول الديموقراطي في سورية، وفي دول المنطقة، كان وما زال أمراً رائجاً في دهاليز السياسة الإسرائيلية، طالما أن عدوانية الدولة الصهيونية وتسلطيتها، تبقى وتزداد، من خلال وجود أنظمة مسخ، تدّعي ممانعتها، وتهديدها للديموقراطية الإسرائيلية، من مثل نظام الأسد.

وهكذا يتم الكشف عن جزء من الورق، ليكتشف المتفرج الجالس على طرف طاولة اللاعبين أن دور إسرائيل يتماهى مع دور نظام الأسد ذاته، ولعل قراءة حركية تبادل الأدوار توضح كيف أن ثورة تريد إطاحة نظام مستبد لن تحصل مطلقاً على دعم أهم المستفيدين من وجوده، لا بل إن العداء لهذه الثورة سيأتي من هذا المستفيد الأكبر، ومن المستفيدين الآخرين الذين يتعيشون على هامش هذه العلاقة بين الديكتاتوريات والدول "الديموقراطية" التي تنتهك حقوق الشعوب وتسلبها.

اقرأ المزيد
٢٤ مارس ٢٠١٨
رسائل الإعلان الإسرائيلي عن قصف النووي السوري

لم يكن سراً ما كشفته إسرائيل عن أنها الجهة التي دمرت مفاعل «الكِبَر» النووي السوري في 6 سبتمبر (أيلول) 2007 في عمق صحراء دير الزور.

السر المعلن كان فقط ينقصه التوقيع الكامل، بعد التوقيع الإسرائيلي الأمني بالأحرف الأولى قبل 11 عاماً عبر غارة جوية محترفة ومعقدة، نفذتها ثماني طائرات إف - 16 وإف - 15، ما كان ممكناً الافتراض خلاف أنها إسرائيلية الهوية.
اللافت هو التوقيت في إعلان المعلن، وفي رسائل التوقيت الموزعة باتجاه الحلفاء والأعداء.

فقد لاحظت صحيفة «جيروزاليم بوست» أن إعلان إسرائيل مسؤوليتها عن عملية دير الزور، كقرار سياسي وأمني كبير، يتزامن مع الدعوات المتكررة التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأميركا وبقية أطراف المجتمع الدولي، خلال الأشهر القليلة الفائتة، لاتخاذ مواقف وسياسات أكثر تشدداً تجاه طهران. فليس خافياً أن إسرائيل لا ترى على الأرض سياسات أميركية محددة حيال النفوذ الإيراني في المنطقة، تسند أو تترجم الموقف السياسي عالي السقف الذي تعبر عنه إدارة الرئيس دونالد ترمب.

في تفاصيل التسريب الإسرائيلي، إشارة إلى أن رئيس الوزراء حينها، إيهود أولمرت، طلب من إدارة الرئيس جورج بوش أن تقوم أميركا بالضربة لكن طلبه رفض، فاختار أن يمضي في خيار القصف وحيداً، مستفيداً مما اعتبرته حكومته يومها عدم ممانعة أميركية للعملية في حال اتخذت إسرائيل هذا القرار.

الرسالة واضحة: أمن إسرائيل الاستراتيجي تقرره إسرائيل. وقد سبق أن اختلفت إسرائيل مع الولايات المتحدة خلافات عميقة وجدية حيال مسائل مشابهة، لعل أكثرها علنية الخلاف بين الراحلين رئيس الوزراء مناحيم بيغن والرئيس رونالد ريغان إبان حرب لبنان 1982، حيث ظنت الإدارة الأميركية أن بوسعها الوثوق بالضوابط التي التزم بها بيغن بشأن حدود عمليته البرية، قبل أن تكتشف أنه ذاهب باتجاه احتلال العاصمة اللبنانية بيروت لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية منها. شهد الاشتباك الإسرائيلي الأميركي يومها تدنياً حتى في مستوى التعاطي الشخصي بين الرجلين، إذ أقفل بيغن هاتفه في وجه ريغان في منتصف إحدى المكالمات الساخنة بينهما، والتي وصف ريغان في إحداها ما يحصل من جراء الحرب الإسرائيلية بـ«الهولوكوست»!!

الرسالة الثانية هي لإيران وميليشياتها، أن إسرائيل لن تتسامح مع بناء قاعدة صاروخية ثابتة على حدودها، مدعمة بمعامل صواريخ أكان في لبنان أم في سوريا، وأنها تمتلك القدرة التقنية لحماية أمنها الاستراتيجي، والإرادة السياسية لاتخاذ القرارات اللازمة في هذا المجال.

اللافت أن الإعلان الإسرائيلي لم يقابل بالكثير من الاستنكار في العالم العربي، ولا سيما شعبياً، وهذا معطى مريح لإسرائيل، يؤكد لها أنها تواجه عدواً عديم الشعبية فيما يفترض أن يكون محيطه وبيئته بين الأقرب نظرياً إليه. والواقع أن تاريخ إيران لا يسمح لها باستدراج أي تعاطف معها في حال كانت هي موضوع الرسالة الإسرائيلية، لا سيما أنها سبقت إسرائيل بنحو سنة، وحاولت قصف المفاعل النووي العراقي، في سبتمبر (أيلول) 1980 من خلال عملية نفذها سلاح الجو التابع للجمهورية الإسلامية، لكن العملية باءت بالفشل. ثم جاءت العملية «التصحيحية» الإسرائيلية لتكمل ما بدأته إيران وتدمر المفاعل النووي العراقي في 7 يونيو (حزيران) 1981.

أما الرسالة الاستراتيجية الثالثة فوجهتها كل القوى التي ركبت موجة القدس لبناء ترسانات من أسلحة الدمار الشامل ولم تستخدمها في الواقع إلا ضد شعوبها وخراب بلادها. ليس تفصيلاً أن نظامين بعثيين هما الأعلى صوتاً بشأن القدس والمقاومة، أي عراق صدام وسوريا الأسد، استخدما الكيماوي ضد شعبيهما، ثم ابتلعا الإهانة الإسرائيلية المتأتية عن ضربهما، من دون رد فعل يذكر، بل من دون رد فعلٍ على الإطلاق!

اليوم تبني إيران باسم القدس والدفاع عنها وتحريرها ترسانات صاروخية، وبنية ميليشياوية معقدة على حدود إسرائيل، لا لمحاربة إسرائيل، بل لاستخدامها كمادة ابتزاز للمجتمع الدولي، والحصول منه على اعتراف بأدوارها الإقليمية وما تعتقد أنه حق لها في الإقليم. ولاستخدامها أيضاً كرافعة عقائدية ودعائية تعبر إيران من خلالها إلى عقول وقلوب بيئات اجتماعية في العالم العربي، توظفها في مشروع الهيمنة حيث تستطيع التخريب حيث لا تستطيع الهيمنة!

صواريخ إيران وميليشياتها، تماماً كما مفاعل الكِبَر السوري أو تموز العراقي، ليس موجهاً ضد إسرائيل من وجهة نظر الكثيرين في المنطقة، ولا علاقة له بالقدس، وإن كانت إسرائيل لا تستطيع إلا أن تتصرف على قاعدة أنها معنية بما يشكله هذا السلاح من تهديد محتمل لها.

فمفاعل تموز ما كان له أن يرد القدس، ولا مفاعل الكِبَر، ولا فعل ذلك كيماوي صدام ولا كيماوي الأسد، ولن تفعله صواريخ ولاية الفقيه وميليشياتها.

في لحظة الدفع الجدي نحو سلام عادل وشامل، مبني على عقد جديد للمصالح في المنطقة، ثمة ضرورة لإسقاط كذبة القدس من خطاب أعداء السلام، وكشف زيفهم.

لكن هذا يتطلب شريكاً للمنطقة في إسرائيل يرى السلام كخطوة استراتيجية لبناء شرق أوسط جديد بكل المقاييس لا فرصة لتجديد الضحوية الإسرائيلية والابتزاز الدائم للمنطقة والعالم.

اقرأ المزيد
٢٤ مارس ٢٠١٨
المُسحجون والشبيحة.. ظواهر لـ "فساد" الأنظمة

من قال إن الشعوب العربية لا تفتح فمها إلا عند طبيب الأسنان أو لحظة إدخال الطعام في فيها، قد ظلمها كثيرًا.. فقد امتهنت شريحة لا بأس بها من الشعوب، ظاهرة باتت مقيتة جدًا، يُطلق عليها اسم أو صفة "التسحيج"؛ والتي باتت براءة اختراع خالصة لا يُتقنها إلا فئة من الشعوب التي ولّت أمورها لمن بات الحليم في عصر حكمه حيرانًا، وقَلَبَتْ زمرته الآية وحاربت لأجل عبودية مستدامة.

فقد دبّت كالنار في الهشيم تلك الظاهرة، (التسحيج)، بالأوساط الشعبية العربية، وبدأ الناس أفرادًا وجماعات بممارسة تلك العادة السيئة ليلًا نهارًا، وجهارًا، كلما وقع مسؤول في حفرة أو زارته وعكة صحية لكي تُزيل عنه بعضًا من السيئات التي اكتسبها بسبب سوء إدارته لمصالح شعبه "المُسحج" ثُلثه أو ما يزيد، أو لأمر يُراد منه منفعة أو حاجة هنا أو هناك.

لا أدري إن ظلمت شعوبنا العربية في إلصاق صفة "التسحيج" لها، إلا من رحم ربي وهم قلة يومئذ، ولكن بالنظر في وإلى تاريخ تلك الظاهرة فسنجد أنها ظهرت على الساحة العربية عقب الثورات المُضادة لثورات "الربيع العربي"، التي بدأت (ثورات الربيع) من تونس ولم تنتهِ في سورية، "والمسحجون"؛ هم ذاتهم "الشبيحة" الذين دافعوا ويدافعون عن الأنظمة ظالمة وظالمة (لا يوجد نظام مظلوم)، وكانوا في الساحات يخرجون مؤيدين للأنظمة، التي انقلبت على كل معاني وقيم الحرية وحقوق الرأي وصادرت كل ما يمكن أن يخلخل عروش طغيانها..

وفي المعاجم اللغوية فإن الشبّيحة، مفردها شبِّيح؛ وهو مصطلح عامي يُطلق على الأفراد الذين يستخدمون العنف والتهديد باستخدام القوة لخدمة شخص نافذ (رجال النظام) وذلك لابتزاز وإرهاب الناس (الشعوب)، والعمل الذي يقومون به "التشبيح"، وأصل الكلمة عربي فصيح هو الشَبْح أي ربط الإنسان بين وتدين لجلده، أي أن الشبيح هو الجلاد الذي يقوم بالعمل الجسدي تنفيذًا لأمر.. ولكنه في عصر التكنولوجيا يجلد فكر وأفكار الناس ويبث سمومه عبر إعلام موجه لأغراض أريد بها باطل.

ومصطلح الشبيحة أطلق على المجموعات التي انتشرت في نهاية الثمانينات، وكانوا وقتها يُسمون بـ "ظاهرة المدن الحدودية"، والتي كانت تُؤدي أعمال تهريب وتتبع عصابات انخرطت في مهنة غير قانونية، وفي منتصف التسعينات ولاحقًا أصبح مصطلح التشبيح يطلق على كل عمليات التهريب أو البلطجة.

وارتبط المصطلح أكثر وأتيح استخدامه بعد الثورة السورية المستمرة منذ 7 سنوات، بينما تقول مجموعات المعارضة بعد بدئها بمشروع إسقاط النظام إنه مصطلح محلي يطلقه أهل المنطقة الساحلية في سورية، على مجموعة من القوات المسلحة غير النظامية (أنصار النظام ومؤيدوه).

عُمومًا، يُعتبر هذا المصطلح في سورية، كما في عديد الدول العربية، مشابهًا لكلمة "بلطجية"؛ التي استخدمت لوصف جماعات موالية للنظام في مصر، لكن الطبيعة التنظيميّة والتعبويّة والعملياتيّة للشبّيحة وما يُعتقد أنهم نفّذوه من أعمال دمويّة ضدّ المتظاهرين في سورية عام 2011، تجعل البعض يُطلقون عليهم "فرق المَوت".

ولكن مع تطور وسائل التكنولوجيا وظهور مواقع التواصل الاجتماعي ذهب الشبيحة والمسحجون وبدأوا مرحلة جديدة لا تخلو من خبث زلمهم في الأنظمة، وشرعوا ببث سمومهم بين الشعوب يمنة ويسرة، وأصبحوا في كل وادٍ يهيمون، (...)، ينشرون تصريحات وبوستات ومشاركات يُمجدون فيها النظام القائم بالدم والقمع على حساب الحريات والحقوق المشروعة دوليًا ومحليًا، ويضعون ذلك في سياق أكذوبة العصر؛ "محاربة الإرهاب"، وشمّاعة الجميع؛ "نظرية المؤامرة"، اللواتي أطحن بالكثير من الثورات وأزهقن الأرواح والدماء حتى يبقى النظام قائمًا.

ولكن المحزن المبكي في هذه المرحلة أن تشاهد "رجلًا" ألهمه الله طريق الصواب ويتبع شيطانه إلى طريق آخر و"يُصَلِّي" على بلاط الأمراء؛ نعم هم بعض الشيوخ (علماء دين) وعلماء السلاطين، الذين ما أن يعتلوا منبرًا إلا وهللوا لـ "القائد العظيم" وكأن النساء لم يلدن له نظيرًا أو شبيهًا؛ وهو كذلك ولكن في الظلم وقتل الحريات وخلق الفئات عديمة الفكر والفائدة.

وفي تقسيم المسحجون ينطبق قولُ الخليل بن أحمد: "الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه (هذا ليس مُسحج أو شبيح ولكنه من عامة الشعب مغلوب على أمره أو مُغيب في السجون وربما تحت التراب)، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه".

الحديث عن ظواهر فساد النظام؛ والتي لا تقتصر على ظاهرتي "التسحيج" و"التشبيح"، يقودنا إلى تقرير أعدته مؤسسة "فريدوم هاوس" (أميركية ترصد واقع الديمقراطية والحريات في جميع دول العالم)، والذي عكس أوضاع الحريات والحقوق السياسية والمدنية في العالم العربي، وخلص إلى أنها تُعاني من "حالة النكوص" انتشرت في بلدانه بعد عامين تقريبًا على اندلاع ثورات "الربيع العربي"، وأشار إلى بدء تبخر الآمال في حصول انتقال سياسي سلس، يحقق العدالة الاجتماعية ويؤسس لديمقراطية ناشئة عبر هذه الدول.

اقرأ المزيد
٢٣ مارس ٢٠١٨
الغوطة - على الرغم منها - في «الحرب الباردة» المتجدّدة

قد تكون الغوطة الشرقية الموقعة الأولى في الحرب السورية التي يمكن إدراجها في «الحرب الباردة» بنمطها البوتيني المحدث، والمعلن. كثيرون في المعارضة، كما في النظام، توقعوا ما يحصل في الغوطة وما قد يحصل في إدلب، لكن المقاتلين والمدنيين في ما غدا «الجحيم على الأرض»، لا يعلمون أنهم في حرب باردة متجدّدة، يمكن أن يُقتل فيها ألوف البشر ويُهجّروا ويُذلّوا تحت بصر العالم وسمعه، كما كان مصير آخرين كالفيتناميين والكمبوديين والأفغان قبلهم، وكما يحصل للأوكرانيين الآن. قاتل الغوطيّون حاكماً مستبداً ومجرماً، ثم حليفاً لهذا الحاكم، ثم حليفاً آخر، ولو لم يكن الاثنان أكثر إجراماً لما انبريا لإنقاذه وحمايته ثم جعله دمية لهما في خضم «لعبة أمم» توظَّف فيها كل الصراعات على النفوذ والمصالح.

لم يخطر شيء من ذلك في بال مقاتلي الغوطة، فهم لم يقاتلوا من أجل أميركا والمعسكر الغربي، ولا في بال المدنيين وهم يحاولون الخروج من جحيم إلى جحيم. هؤلاء لم يكونوا ليطمعوا أخيراً بأكثر من أن يتاح لهم البقاء في أرضهم وموطنهم. تحمّلوا كل الويلات من أجل ذلك. قاوموا النزوح بكل ما أوتوا من قدرة. اعتقدوا أن العالم الذي لا يريدهم لاجئين إضافيين يمكن أن يغيثهم فصمدوا واعتادوا مشاهد الدمار وعاشوا لأعوام تحت الأرض وكظموا الحزن على الضحايا حتى صار عزاؤهم الوحيد أن لا يقضي أحباؤهم تحت الركام وأن يتمكّنوا من دفنهم. واعتقد العالم معهم أن فلاديمير بوتين ليس بشار الأسد، وأن روسيا «دولة» وليست نظاماً أو مجرّد آلة قتل، غير أن الاثنين كانا متماهيين دائماً لا يجمعهما مع إيران سوى الوحشية ونزعة المافيات وعصابات القتلة.

كان تدمير حلب لإسقاطها عُدَّ في سياق الصراع السوري الداخلي، على رغم أنه شكّل خطوةً أولى في الصراع الدولي، وقد حُسم في لحظة «الوفاق الافتراضي» بين بوتين ودونالد ترامب، وبعد إحاطة الأخير علماً بما سيحصل. وعلى الرغم من التوتّر الشديد الذي شاب علاقة واشنطن وموسكو أواخر 2016 ونهاية عهد باراك اوباما، إلّا أن الدولتين لم تبلغا حدّ المواجهة، فالولايات المتحدة لم يكن لها نفوذٌ على الأرض كي تدافع عنه، لكنهما ساهمتا في خفض فاعلية النظام الدولي وتعجيزه. تغيّرت الظروف بالنسبة إلى الأميركيين، إذ ساءت علاقتهم مع الروس لكن أصبحت لديهم قواعد في الشمال والجنوب، صاروا أكثر إصراراً على الحدّ من التوسّع الإيراني وترفدهم في ذلك إسرائيل كرأس حربة. ضاعف بوتين تصعيد التوتّر في شرق أوكرانيا، وانتهز حملته الانتخابية لاستعراض أسلحته الجديدة متوعّداً بسباق نووي، ورفع سخونة الحرب الاستخبارية بإرسال عملاء لقتل أحد جواسيسه المنشقّين في بريطانيا... وفي غضون ذلك كان يُشرف شخصياً على حرب الإبادة في الغوطة الشرقية، يأمر بشنّ الهجمات لتنفيذ خطط عسكرييه ويطلب هدنات قصيرة تخديراً للاعتراضات الدولية.

ولا مرّة مسّت فيها الحاجة إلى حزم النظام الدولي، كان هذا النظام جاهزاً لإعمال القوانين والمبادئ التي يدّعيها. أدرك السوريون ذلك بعدما أصبحوا، شعباً وأرضاً، وقوداً لصراعات دولية لا تنفكّ تتعقّد فيتراجع الاهتمام بقضيتهم، فيما استمر النظام يبحث عن مزيد من تلك الصراعات لاعباً فيها وآملاً بأن تستعر أكثر لتزيد من رصيد بقائه، فقد توقّعها بشار الأسد بل توعّد بها وبات الآن يرى نفسه «محظوظاً» بأنها تتفاعل لمصلحته - حتى الآن - أكثر مما كان يطمح، وبأن الظروف جاءته بحليف مثل بوتين كرّر في حلب والغوطة ما سبق أن فعله في الشيشان وكشف شخصياً أنه أمر عام 2014 بإسقاط طائرة على متنها مئة وعشرة ركاب لإقصاء «تهديد» للألعاب الأولمبية الشتائية في سوتشي، وبحليف آخر كإيران سعى إلى أن تلقى مناطق واسعة في العراق واليمن مصيراً مشابهاً لحلب والغوطة، بل ساهم في خرابها.

لم تكن سورية بالنسبة إلى بوتين الساحة التي يجرّب فيها أحدث أسلحته الفتاكة فحسب، كانت أيضاً الساحة التي مكّنته من الذهاب أبعد من الاتحاد السوفياتي الذي حاول ولم ينجح في تطويع القانون الدولي لئلا يبقى غربياً ولئلا يُنفّذه الغرب بمفاهيمه فتسود قيمه، أما بوتين فقد مزّق «كتاب القواعد الدولية»، وفقاً لتعبير وزير الدفاع البريطاني غافن ويليامسون. ولا يتعلّق الأمر فقط بالسعي إلى قتل الجاسوس السابق سيرغي سكريبال وابنته «عقاباً على خيانته»، بل خصوصاً باستخدام غاز الأعصاب «نوفيتشوك»، فإذا رُبطت هذه الواقعة بالدفاع الروسي الشرس عن استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي والإصرار على عدم إدانته أو محاسبته، تتأكد نية روسيا «شرعنة» هذا السلاح خصوصاً أنه يُستخدم تحت إشرافها في سورية. أما التجارب الأخرى التي أنجزها بوتين، اعتماداً على الأزمة السورية، فتمثّلت في تمارين متواصلة على إشهار «الفيتو» لتعطيل مجلس الأمن، بالتالي إغلاق النظام الدولي لتغييره. وفي المرّات النادرة التي وافقت فيها موسكو على إصدار قرار دولي كانت تضمن مسبقاً أنه لن يُحتَرَم ولن ينفّذ، والقراران 2254 (ترتيبات الحل السياسي) و2401 (وقف إطلاق النار في الغوطة) مثالان واضحان. في المقابل، لا تطلب موسكو أي قرار لأنها تنفّذ إرادتها مباشرةً وبالقوة وبأوامر الرئيس لا بموجب القانون ولا تتورّع عن ارتكاب إجرام الدولة.

مع بوتين في ولايته الرابعة المديدة، حتى عام 2024، لا بدّ من توقع نماذج مشابهة من السياسة المتشدّدة وقد يجد العالم أنه لم يرَ شيئاً بعد من مفاجآت الرئيس الروسي. ومن أبلغ العبارات ما آل إليه النظام الدولي الراهن أنه بات مُتَنَازعاً «بين جنون ترامب وإجرام بوتين». فبعد استعراض الأخير أسلحته خلال حملته الانتخابية، والتطويرات التي أشار إليها «البنتاغون» كترجمة لاستراتيجية ترامب الدفاعية، والتقارير المتزايدة عن الاستعدادات العسكرية الصينية، ينبغي التهيّؤ لنمط آخر من الحروب التي قد لا تبقى «باردة» كما هي حتى الآن طالما أن ترامب دشّن عهد «حروب التجارة». وفي هذا المشهد الشامل، تبدو سورية والعراق الميدان المفضّل لخوض المواجهات بلحم الشعوب المنكوبة ودمها. لم يكن أي تفصيل في الغوطة أو عفرين غائباً عن عيون الدول المتدخّلة، إذ تقول أوساط النظام السوري أن روسيا وظّفت كل دهائها لإحباط أي فرصة لضربة أميركية أو غربية على خلفية معارك الغوطة، ولئلا تجد نفسها مضطرّة للردّ بادرت إلى نشر مزيد من العناصر على الأرض لإيهام الأميركيين بأن الوجود الإيراني محدود في الغوطة. ومع ذلك، أنذرت بأنها ستردّ في حال تعرّض جنودها لأي خطر.

لم تتوقّع روسيا قبل عامين ونيّف أن يسفر تدخّلها المباشر في سورية عن المشهد الحالي، فلا شك في أن احتكارها الجو كان ميزة وقد لا يستمرّ كذلك، أما الانتشار البرّي المحدود لعناصرها فبيّنت المتغيّرات الميدانية أنه: 1) أضطرّها للاعتماد على إيران وميليشياتها وبالتالي تحمّل أعباء مشروعها وممارساتها الطائفية، و2) دفعها إلى دعم تشكيل ميليشيات محلية أنشأها ضباط تحوّلوا «أمراء حرب»، و3) حال دون تنفيذ بعض برامجها لإعادة ترتيب أوضاع الجيش السوري وتهيئته لدور جديد بعد انتهاء الصراع الداخلي، و4) حال كذلك دون سيطرتها على مجرى الحوادث في أكثر من موقع... وبعد قتل عدد من ضباطها، وتعرّض مرتزقتها التابعين لشركة «فاغنر» لمذبحة أميركية موصوفة في دير الزور، بدا أن ثمة ثغرةً في القدرة العسكرية الروسية ما لبثت معارك الغوطة أن ساهمت في كشفها. من الواضح أن الأميركيين أخذوا هذه المتغيّرات في الاعتبار وعرفوا مبكراً أن روسيا تريد تجنّب أي تكرار لتجربتها الأفغانية، لكن هذه التجربة غدت نموذجاً إذا تعذّر تكراره يمكن تكييفه مع أي وضع مستجدّ.

اقرأ المزيد
٢٣ مارس ٢٠١٨
الإحلال السكاني في دمشق وأكنافها.. حقيقة أم أوهام؟

يعود مشهد الباصات الخضراء من جديد ولكن في الغوطة الشرقية من دمشق هذه المرة، الباصات التي عبَّرت عن ظاهرة نزوح جماعي "قسري" لأهالي المدن والبلدات من وسط سورية إلى شمالها. سياسة لم تعد خافيةً على أحد، ضمن استراتيجية إسكان واسعة في الأرض وترحيل أهلها عنها دون رضاهم.  

فمع استمرار آلام الحرب في سورية، تستمر حكومة النظام السوري في خططها لإجراء التغيير السكاني على المساحة الجغرافية سيما مع دخول إيران وروسيا في موجة الصراع، فأدَّى التدخل إلى توسيع أحزمة النفوذ الإيراني في المنطقة التي تعتبرها طهران مقدسة، بل بوابة للخير ومفتاحًا للشرق في آن واحد.

لقد قدر عدد سكان سورية عام 2010 نحو 21.79 مليون نسمة، إلا أن العدد انخفض إلى 20.21 مليون نسمة نهاية عام 2015 وقد أشارت الأرقام التقديرية للتهجير واللجوء داخل البلاد إلى نحو ستة ملايين نسمة، أما أرقام النزوح واللجوء خارج البلاد تجاوزت عتبة ثلاثة ملايين آخرين. فكانت المدن الأكثر تضررًا هي حمص وحلب ودرعا ودير الزور وضواحي دمشق، أما النطاقات الريفية الأكثر تضررًا فهي ريف دمشق وريف حمص وريف حماه وريف درعا وريف الحسكة وريف دير الزور. وتدل هذه البانوراما الإحصائية على استهداف طال الأكثرية السكانية من العرب السنة ومراكزها العمرانية الأساسية.


شرارة الإحلال السكاني في دمشق زمن الأسد الأب
الرئيس السوري حافظ الأسد ومع استلامه سدّة الحكم، عام 1970، بدأ بسياسة تغييرٍ ديموغرافيٍّ وجغرافيٍّ بطيء، لضمان سيطرته بشكلٍ كاملٍ على دمشق، وربَطها بمنظومةٍ أمنيةٍ مضادّةٍ لأيّ عملٍ عسكريٍّ قد ينقلب عليه. فعمل على استجلاب عشرات آلاف الشباب من الساحل السوريّ ومناطق ريفية أخرى، وطوّعهم في الأجهزة الأمنية والجيش. كما أنشأ أحياء خاصة أسكنهم فيها على أطراف العاصمة دمشق؛ عش الورور المطلة على حيّ برزة، والمزة 86 (نسبةً إلى الكتيبة 86 التي سكن عناصرها بجوارها). كما أنشأ شقيقه رفعت حيّ السومرية المقابل لمنطقة معضمية الشام، وسمّاه باسم ابنه "سومر". وفي عام 1981 أنشأ جميل الأسد جمعيّة المرتضى الّتي عملت على نشر المذهب العلوي في مناطق واسعة من سورية، وحتّى ببعض أحياء مدينة دمشق ومناطق ريفها الكبيرة.

مع هذا كله لم يستطع الأسد الأب إحداث تغيير ديمغرافي حقيقي في دمشق وريفها لأنه أدرك صعوبة ذلك، بل لجأ إلى إدارة الديمغرافيا بسياسات توازن حرجة لإضعاف الأكثرية السنية بالشكل الذي يرسخ قوة سلطته أكثر فأكثر.


دمشق "الفيحاء" جوهرة العقد في مشروع التغيير الديموغرافي
شكلت دمشق الفيحاء جوهرة عقد المشروع بنظر إيران على الأقل، نظرًا للمكانة الدينية والسياسية التي تنطوي عليها، فهي تشكّل بلد العتبات المقدسة ومحركًا لجذب المقاتلين الشيعة من مختلف الأصقاع، وغدت مركزًا حيويًا لما أسماه المهندسون الروس والإيرانيون بـ "سورية المفيدة". فمنذ وقت مبكر أدركت إيران أنه من دون دمشق سيظهر مشروعها بأنه مشروع إمبريالي هزيل في زمن غاب عنه هذا المنطق.

تبدو أشهر الأمثلة على استراتيجية الإحلال الاجتماعي بدمشق هو المرسوم التشريعي رقم 66 بتاريخ 19 سبتمبر 2012 القاضي باعتبار منطقة بساتين المزّة ومناطق أخرى بدمشق، مناطق سكنٍ عشوائيٍّ يجب إعادة تنظيمها. ويقسم المشروع إلى منطقتين، الأولى بمساحة 9214 هكتاراً جنوب شرقيّ منطقة المزة، والثانية بمساحة 880 هكتاراً جنوبيّ منطقة المتحلق الجنوبيّ. وقد برّر مدير دائرة التنظيم بمحافظة دمشق، المسؤول عن المشروع، المهندس جمال اليوسف، في تصريحاتٍ صحفيةٍ، المشروعَ الجديد بأنه عمرانيٌّ تنظيميٌّ يهدف إلى إعادة تنظيم وتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائيّ.

ليس هذا فقط، بل رصدت تحركات إيرانية في دمشق لتغيير البنية السكانية للأحياء الدمشقية عبر تعزيز نفوذها بإنشاء الحسينيات، وبيع العقارات إلى عائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين، وتم رصد أنشطة لشركات إيرانية وسماسرة سوريين يحاولون السيطرة على أكبر قدر ممكن من المنازل في دمشق.

وفي دمشق، اكتظت أحياء بالمجموعات الشيعية أكثر من ذي قبل كـ (حي الأمين، وحي الجورة "حي زين العابدين حاليًا"، وأحياء في دمشق القديمة، ومنطقة السيدة زينب والسبينة). ويتحدث سكان العاصمة عن أن دمشق بات يكسوها السواد بشكل لافت خلال العامين الأخيرين، حيث تنتشر الأعلام السوداء التي تُعد رمزًا للانتشار الشيعي، إضافة إلى انتشار اللّطميات في أسواق دمشق كسوق الحميدية. قرب الجامع الأموي.

كما اهتمت إيران بمنطقة المزّة كونها منطقةٌ حيويةٌ، فيها السفارة الإيرانية ومقرّات السلطة السورية الأمنية، إضافةً إلى القصر الجمهوريّ، لهذا رأى المستشارون الأمنيون الإيرانيون أن حماية هذه المنطقة يوجب هدمها وتهجير سكانها، وإحلال وجوهٍ جديدةٍ مناصرةٍ مكانهم.

وتشير التقارير إلى أن اللجان الشعبية المتعاملة مع الميليشيات الإيرانية استولت على عدد من البيوت الفارغة في حيّ الأتراك بحيّ الشيخ محيي الدين على سفح جبل قاسيون. ودهمت البيوت الخالية من سكانها التي سافر أصحابها نتيجة الوضع الاقتصاديّ المتردّي أو الخطورة الأمنية بعد الاتهامات التي طالت سكان الحيّ بالتعامل مع الحكومة التركية، فيقومون بتغيير أقفال البيوت وينقلون محتوياتها إلى جهةٍ مجهولة.

وفي ذات الإطار، استمر النظام في عملية الاستيطان بريف دمشق، فأزال أكثر من 600 منزل في مدينة داريا بالغوطة الغربية في ريف دمشق بمحاذاة مطار المزة العسكري. هذا وقد شهدت أحياء من العاصمة دمشق إخلاء من سكانها منذ عام تقريبًا، ليتملكها إيرانيون وعراقيون وأفغان موالون لإيران بشكل حصري.

وأصبح يمثل ما بات يعرف بمشروع "مدينة الأقحوان" في دمشق خطرًا إيرانيًا حقيقيًا على تركيبة السكان في العاصمة، إذ من المقرر أن تُهدم آلاف المنازل في المزة وكفرسوسة وغرب الميدان والمتحلق الجنوبي.

في غضون سبع سنوات من الحرب وحصار المدن والبلدات السورية، وقَّع النظام السوري اتفاقات إخلاء لمدن بعينها لتسلمها من مقاتلي المعارضة، ربما كان آخرها اتفاقات تسليم حلب وداريا، والتفاوض لتسليم معضمية الشام وحي الوعر، وقبلها اتفاقات الزبداني مقابل تهجير أهالي الفوعة وكفريا الشيعيتين من إدلب.

ولتوسيع دائرة المشروع لريف دمشق الغربي، أدارت إيران المفاوضات التي جرت حول الزبداني، حيث اتفق على جلب سكان "كفريا والفوعة" من إدلب إلى الزبداني لسببين، الأول تحقيق التغيير الديموغرافي، والثاني الاستفادة من مقاتلي القريتين الشيعيتين الذين يقدر عددهم بما لا يقل عن 3 آلاف مقاتل، وزجهم في معارك الغوطة الشرقية التي ربما تنهي وجود المعارضة فيها بما يحقق الحلم الإيراني في إيجاد نفوذ لها.

إذًا تكشفت خطة الإحلال السكاني، بمطلب إيراني أثناء المفاوضات وهو "مبادلة السكان"، بمعنى السماح لأهالي الزبداني والمقاتلين بالمغادرة مقابل السماح لأهل الفوعة وكفريا بالخروج سالمين، مما يعني إفراغ الزبداني من سكانها.

ورصد موقع "ميدل ايست بريفينغ" (MEB) الأمريكي المختص بالأبحاث وتقييم المخاطر إلى أن التحالف الثلاثي الذي يجمع الأسد وإيران وميليشيا "حزب الله" قيد نفسه بإطار زمني معين لتأمين المناطق الحيوية للوصول إلى أهدافهم الاستراتيجية المستقبلية، حيث تركز هذه الأطراف على مناطق معينة مثل غوطة دمشق بشكل عام ومدينة دوما بشكل خاص – التي تضم أحد أهم معاقل المعارضة في سورية – هذا بالإضافة إلى منطقة القلمون، وسهل الغاب بريف حماه.

وهو ما دلت عليه أيضًا أمواج المهاجرين من الأرياف الدمشقية إلى شمال سورية كما جرى مع أهالي حي القدم الذين وصلوا إلى إدلب مؤخرًا، الذين فروا من ويلات القصف العشوائي وعمليات الحصار والتجويع والارهاب عبر قاعدة حميميم الروسية وفق نظام التسويات الجماعية، وتسلم المناطق من سكانها.


2. آليات الإحلال الاجتماعي القائمة في دمشق وأكنافها
أربع أطراف فاعلة في هذا المسار، الإيرانيون والنظام السوري والروس والأمم المتحدة، لكن يبدو أن لكلّ طرف أهدافًا وتطلّعات تتباين مع أهداف وتطلّعات الآخرين؛ ففي حين تتطلّع إيران إلى بسط سيطرتها على هذا الجزء من سورية (سورية المفيدة) للحفاظ على خطّ تواصلها مع لبنان، والوصول إلى البحر المتوسط؛ في حين أن أكثر ما يهمّ نظام الرئيس الأسد، هو تأمين الحزام المحيط بالعاصمة لحماية قلعته الأمنية، فضلًا عن أن تغيير النسيج المجتمعي في هذا الجزء من سورية يُسهّل عليه بسط سيطرته في حال اضطرته تطورات الحوادث إلى الانكفاء إليه. وأما الروس الذين تبنّوا خطّة النظام في "المصالحات"، فإن همّهم بالإضافة إلى تأمين العاصمة دمشق، هو إطفاء البؤر الساخنة، لضمان عدم سقوط النظام، ولتغيير الأوضاع الميدانية لجعلها في خدمة الحلّ السياسي الذي يتطلّعون إلى فرضه. وهم يعلنون كلّ يوم من قاعدتهم العسكرية في "حميميم" عن هدن جديدة يتبعها تهجير بالباصات الخضراء، أو "تسويات" جديدة يضعونها تحت رعايتهم ورعاية الأمم المتحدة التي تهدف لإنقاذ أولئك السكان من حالاتهم الإنسانية الخطيرة.

إذن هناك أسباب عديدة أجبرت الناس على الخروج إلى مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا لهم، أهمها:

- أعمال القصف الجوي المكثف والحصار الخانق.

- منع وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين في المناطق المحاصرة.

- انعدام الأمن وشيوع النزعة الميليشياوية لدى القوى المحلية.

- سياسية الاعتقال والتجنيد للشباب، وتدمير المصالح العقارية والغرامات السكنية التي تُفرض بعد دخول قوات النظام وميليشيات إيران لأي منطقة جديدة.

- سعي النظام السوري وحلفائه لإطالة أمد الحرب وتعقيد الحل السياسي.

مع كل هذا، لن تجدي مسيرة الباصات الخضراء نفعًا، فرغم الهندسة السكانية و الإحلال الاجتماعي الجديدة التي ينشط بها النظام وحلفاؤه خاصة في دمشق وريفها، ستنهار تلك المشاريع أمام الحشود السكانية العربية السُنية التي يشكلها الأهالي المهادنين بأرياف دمشق، أو العائلات القاطنة داخلها منذ بدء الأزمة، فلن تتمكن أقلية عددية حشدتها إيران في مناطق محددة أن تغير الهوية الاجتماعية والثقافية لدمشق رغم تأثيرها المرحلي المؤقت، مما سيجعل الباصات الخضراء جزءاً من أضغاث أحلام قومية إيرانية لا أقل ولا أكثر.

اقرأ المزيد
٢٣ مارس ٢٠١٨
ليست حربا باردة وبوتين حليف قتلة وليس صديقا للشعوب

عاد شبح اندلاع حرب باردة جديدة، ليسكن الجدل حول علاقات روسيا بالغرب ودورها في العالم.

المناسبة هذه المرة تتعلق بمحاولة اغتيال العميل الروسي المزدوج، سيرغي سكريبال، وابنته، في مدينة سالزبوري البريطانية الصغيرة.

كل الأدلة الظرفية التي تحيط بمحاولة الاغتيال تشير إلى مسؤولية روسية.
 
الاستخبارات الروسية فعلتها من قبل، وعلى الأرض البريطانية بالذات؛ كما أن الغاز المستخدم في تسميم سكريبال وابنته طور كسلاح في روسيا، ويكاد من المستحيل أن يتاح لجهات غير رسمية، أو أن تتمكن هكذا جهات من التعامل معه.

لم تتردد رئيسة الحكومة البريطانية، تيريزا ماي، في توجيه الاتهام للدولة الروسية؛ بل أن وزير خارجيتها لم يستبعد مسؤولية بوتين شخصيا عن محاولة الاغتيال.

والواضح بالنظر إلى تكرار هذا السلوك الروسي، ووجود شبهات متزايدة حول وفاة معارضين آخرين لنظام بوتين في لندن، أن الحكومة البريطانية أخذت الأمر بجدية كاملة.

هذه ليست انتهاكات لسيادة وأمن دولة أخرى، وحسب، بل وانتهاكات تهدد حياة مواطنين هذه الدولة.

لإيضاح موقفها من الحادثة، قررت لندن طرد 23 من الدبلوماسيين الروس، تعتقد حكومة ماي أنهم جميعا من الجواسيس غير المعلنين، وأعلنت عزمها اتخاذ إجراءات تقيد حركة المشبوهين الروس وأموالهم في بريطانيا.

ويشير طلب بريطانيا الدعم والتأييد من حلفائها الغربيين إلى الدرجة التي ترى فيها فداحة السلوك الروسي.

روسيا، التي رفضت كلية الاتهامات الموجهة لها، سارعت إلى الرد بطرد عدد مساو من الدبلوماسيين البريطانيين، وإغلاق قنصلية بريطانيا في سان بيتسبرغ، ومعها المركز الثقافي البريطاني.

لو أن الأمر اقتصر على اغتيال معارضين وجواسيس مزدوجين ما كان ليثير الكثير من الجدل.

لا يقود بوتين نظاما ديمقراطيا، حرا؛ ويظهر، والمحيطون به، قدرا قليلا من الاحترام للقانون.

كما أن الرئيس الروسي عرف باحتقاره للجواسيس المزدوجين، "الذين يخونون رفاقهم ووطنهم"، كما أفصح مرة، تماما كما عرف بفقدان الصبر على التعددية السياسية ومعارضي نظام حكمه.

ولكن التأزم في العلاقات البريطانية- الروسية يقع في سياق أكبر وأوسع، سياق من تصاعد العداء والخصومة بين روسيا والغرب، وارتفاع حدة اللغة التي يستخدمها مسؤولو الجانبين في وصف علاقات دولهم.

يتهم الغرب روسيا باستخدام أدوات إلكترونية ووسائل الاتصال الاجتماعي لتقويض الديمقراطيات الغربية والعبث بنتائج الانتخابات، وبوتين بتغذية مناخ قومي روسي معاد للغرب.

في الوقت ذاته، لم تضم روسيا شبه جزيرة القرم بصورة غير شرعية وحسب، بل وتدفع نحو حرب أهلية مديدة في أوكرانيا.

وإلى جانب الحرب الوحشية التي تعهدها بوتين لحماية نظام الأسد في سوريا، يتهم الغرب روسيا بتهديد دول البلطيق.

قبل أسابيع قليلة، وفي ذروة حملته الانتخابية لفترة رئاسية رابعة، ألقى بوتين خطابا مدويا في موسكو، تحدث فيه باستفاضة عن تطوير روسيا أسلحة نووية متفوقة.

وبالرغم من أن الأمريكيين ادعوا أنهم لم يفاجأوا بإعلانات الرئيس الروسي، إلا أن انتقال المناكفات الروسية- الغربية إلى ميدان سباق التسلح، أعاد التذكير بواحد من أبرز وجوه الحرب الباردة وأكثرها كلفة.

ثمة تمرد روسي على الغرب، تمرد يشي بالتهديد، ويفوق حتى التحدي الذي يراه الغرب في صعود الصين، بالرغم من أن الصين في وضع أفضل بكثير من وضع روسيا، اقتصادياً وبشريا.

وليس هناك شك في أن الجدل حول العودة إلى الحرب الباردة يجد صداه في أوساط عربية محددة، أوساط المحتفلين بالمجزرة التي يخوضها نظام الأسد وحلفاؤه ضد الشعب السوري. بصورة أو أخرى، يحيي بوتين لهؤلاء ذكرى الأيام السعيدة، عندما كان الاتحاد السوفياتي، "نصير قوى التحرر والعالم الثالث"، يخوض صراعا كونيا ضد الإمبريالية الغربية، من جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط، ومن إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية.

هذه ليست حربا باردة، ولا علاقة لها باستعادة الاستقطاب العالمي بين الاتحاد السوفياتي والغرب خلال معظم نصف القرن العشرين الثاني.

كانت الحرب الباردة حربا فعلية، دارت رحاها في مستويات متعددة، داخل أوروبا، ميدانها المركزي، وخارجها، على السواء.

خاض الاتحاد السوفياتي، المؤيد من كتلة شيوعية- جيوسياسية هائلة، صراعا ضد الغرب الأطلسي وحلفائه في العالم، فكريا وثقافيا، اقتصاديا وتقنيا، وفي سباق تسلح لم يعرف له التاريخ مثيلا.

وخاض الاتحاد السوفياتي الصراع بالسلاح المجرد، في معارك دموية ومدمرة.

خلال السنوات بعد الانهيار، كشف الكثير عن الجحيم الذي عاشته الشعوب السوفياتية وشعوب أوروبا الشرقية تحت الحكم الشيوعي، وكتب ما هو أكثر عن الانحراف الماركسي النظري الذي أسس للنظام السوفياتي الشمولي.

ولكن أحدا لا يمكنه تجاهل سحر النموذج الاشتراكي السوفياتي، وخيالات اليوتوبيا التي سقط في مطاردتها ملايين الضحايا في كوريا وفيتنام ولاوس والقرن الإفريقي وأنغولا وموزمبيق وعدد من دول الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.

أحدا لا يمكنه مقارنة مقدرات روسيا بوتين بتلك التي وفرت للاتحاد السوفياتي فرصة الانتصار على الآلة العسكرية الألمانية في الحرب الثانية وخوض صراع كوني ضد الكتلة الغربية طوال عدة عقود.

روسيا اليوم، بعد أن كانت حدودها الجيوسياسية في قلب برلين، تترقب نصب صواريخ الناتو على حدودها مع أوكرانيا، التي كانت جزءا من الإمبراطورية الروسية طوال قرون.

عجز روسيا عن الحفاظ على نفوذها وأمنها الحيوي في جوارها القريب هو الذي دفع بها إلى حرب لا ناقة جيوسياسية لها فيها ولا جمل مثل حرب نظام الأسد على شعبه، في مسعى للحصول على أوراق لمساومة التوسع الغربي الحثيث في أوروبا والبلقان وجنوب القوقاز.

ما لم يلحظه المصفقون العرب لجرائم روسيا في سورية أن الغرب لم ينظر مطلقا إلى سوريا باعتبارها رقما حيويا في حساباته الاستراتيجية.

ليس ذلك فقط، بل إن واشنطن لم تخف ترحيبها بالتدخل الروسي في سوريا، واستعدادها للتعاون مع موسكو في حربها ضد الإرهاب، التي ضحي بالشعب السوري وثورته على مذبحها.

وعندما تجاوز الروس الحد، كما حدث قبل أسابيع في جوار الرقة، لم يتردد الأمريكيون في إرسال العشرات من المرتزقة الروس إلى حتفهم، بدون أن ينبس بوتين ببنت شفة.

لا تنتج روسيا اليوم ما يثير اهتمام أحد في العالم. وبدون حصتها في تجارة السلاح، التي لم تعد بحجم حصة الاتحاد السوفياتي، على أية حال، تبدو روسيا ليس أكثر من دولة نفطية.

خلال الأعوام القليلة الماضية، عندما هبطت أسعار النفط دون التوقعات، استهلكت روسيا معظم رصيدها النقدي، الذي راكمته خلال سنوات ارتفاع الأسعار، وعجزت حكومات محلية روسية عن دفع رواتب موظفيها بصورة منتظمة. وليس ثمة نموذج يقيمه بوتين ليخوض به الحرب الباردة المتوهمة.

شيد بوتين نظاما "تسلطيا محافظا"، كما كتب جيرمي كوربن، زعيم المعارضة البريطانية، في غارديان 16 آذار/ مارس، يقوده عدد من المفسدين، ماليا وسياسيا، بما في ذلك الرئيس نفسه، ويقيم تحالفات مع أنظمة فاشية مثل نظام الأسد وأسوأ أحزاب اليمين العنصري الأوروبي.

صحيح أن سقوط الاتحاد السوفياتي لم يرافقه هدير أفواج الدبابات الأمريكية في شوارع موسكو، كما كانت هزيمة ألمانيا النازية، وأن روسيا لم تزل تمتلك ترسانة نووية هائلة.

ولكن الترسانة النووية لا تكفي وحدها لخوض صراع كوني آخر من طراز الحرب الباردة، إلا إن كانت لدى بوتين دوافع انتحار قهرية.

لأسباب تاريخية وجيوسياسية ستظل روسيا مشكلة للغرب، بالتأكيد؛ ولكن هذا شيء وتعهد حرب باردة جديدة شيء آخر تماما.

اقرأ المزيد
٢٣ مارس ٢٠١٨
غصن الزيتون.. تحررت عفرين والقادم أعظم

وتحررت عفرين كما وعدت تركيا والرئيس أردوغان وأوفت بوعدها، عندما أعلن الرئيس بعبارات واضحة يوم الأحد الماضي أن الجيش التركي والجيش السوري الحر قد قاما بتحرير عفرين ودخول مركز المدينة ضمن عملية "غصن الزيتون" الذي تحول إلى سيف حاد يجتث بلا هوادة جذور الميليشيات الإرهابية.

تحررت عفرين بعد أن قام الجيش التركي والجيش السوري الحر بتقديم درس وافي وملهم للجميع بأن تحرير الأراضي والمدن والقرى ممكن ومستطاع بدون دكها بمختلف أنواع الأسلحة وإحراق الأخضر واليابس وهدم المنازل فوق رؤوس أهلها كما تفعل كل القوى الأخرى المتصارعة على الأراضي السورية.

تحررت عفرين بعد أن تعاملت القوات المسلحة التركية بمختلف أفرعها مع العملية العسكرية في عفرين بمشرط جراح ماهر قام باستئصال الورم الخبيث مع المحافظة على باقي الجسد سليماً معافى، فها هي عفرين ما تزال مبانيها قائمة وبأهلها عامرة ولم يتم تسويتها بالأرض ولاهدم منازلها كما حاولت الترويج لهذا الميليشيات الإرهابية والمتواطئين معها والداعمين لها، وباءت جميع محاولاتها بالفشل.

تحررت عفرين وأثبتت تركيا للجميع أن العالم أكبر من خمسة وأنه من غير المنطقي ولا المقبول أن تتم الأمور وتجري الأحداث كما يريدها أولئك الخمسة متجاهلين متطلبات وتطلعات الشعوب المقهورة والمتطلعة للحرية والتمتع بأبسط مقومات الحياة الإنسانية.

تحررت عفرين ووجهت تركيا رسالة واضحة وقاطعة للداخل والخارج في آن واحد أنه لا تهاون مع كل ما يهدد وحدة واستقرار وحدود تركيا، وسيتم التعامل بكل حزم وقوة وجدية مع تلك التهديدات بغض النظر عن من يطلق تلك التهديدات ومن يقف وراءه ويدعمه.

تحررت عفرين والقادم أعظم، لقد نجحت تركيا ومعها المخلصين من العرب وكرد المنطقة من نزع الإسفين التي سعت الدول الغربية لزرعه لتفتيت المنطقة وعزل الدولة التركية عن إخوانها العرب والأكراد وعمقها العربي والإسلامي، عبر كيان يدعي زوراً وبهتاناً أنه يمثل إخواننا الكرد ولكنه في الحقيقة تنظيم إرهابي مأجور وممول من دول أصبح يعرفها القاصي والداني بالإسم سائها وأرقها وأقض مضاجع حكامها أن ترى الدولة التركية تتقدم في شتى المجالات بمساهمة كافة أطياف الشعب التركي لافرق بين تركي وكردي وعربي في ظل قانون يساوي بين الجميع في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات.

تحررت عفرين ليعرف الجميع أنه لا طائل من محاولة تطويق الحدود الجنوبية لتركيا بتنظيمات إرهابية لا تهمها لا حقوق الكرد ولا العرب كما تدعي، بل لتكون مخلب قط للقوى الإستعمارية التي ما تزال تحاول بشتى الطرق دق أسافين الفتنة والفرقة بين شعوب المنطقة وتصوير تركيا كقوة إحتلال لا تحرير وهو ما تنفيه تركيا على الدوام وعبر كافة منصاته الحكومية والإعلامية، وأثبتت الأحداث أن ما يحرك تركيا هو الحفاظ على حدودها وأمنها القومي ومساعدة شعوب المنطقة والتي أصم الشرق والغرب مسامعه عن مطالبها وأغلق في وجهها أبوابه، ففتحت تركيا لها الأبواب وأنصتت لمطالبها بكل إصغاء وعملت على تلبيتها قدر المستطاع في ظل وضع دولي معقد ومستنقع يحيط تركيا بسيل من المؤامرات التي لا تنتهي.

تحررت عفرين وأثبتت العملية الناجحة بكافة المقاييس العسكرية والجيوسياسية أن الجمهورية التركية وبكافة مؤسساتها تسير على الطريق الصحيح في تنقية صفوفها من أتباع وعملاء تنظيم "غولن" الإرهابي ومن يقفون وراءه ويبذلون جل جهدهم وأموالهم لإيقاف المارد التركي الذي ينطلق بسرعة الصاروخ لتحتل تركيا المكانة التي تستحقها وتليق بها بين مصاف الدول المتقدمة وهو ما لا يعجب الغرب وحلفاءه وأذنابه في منطقة الشرق الأوسط.

تحررت عفرين لتقدم تركيا الدليل على أن تحركاتها وقراراتها وعملياتها العسكرية تهدف لحماية حدودها وأمنها مما يؤهلها لتقديم المأمول منها تجاه شعوب المنطقة التي باتت تنظر لتركيا لتمد لها يد المساعدة كلما ألمت بها كارثة، ولم تتأخر تركيا يوماً عن فعل هذا دون أي تمييز عرقي أو طائفي عبر مؤسساتها الطبية والإغاثية وجمعياتها الخيرية.

تحررت عفرين ولكن تبقى هناك عدة اسئلة مشروعة يجب طرحها والبحث عن إجابات لها وكشفها للشعب التركي وشعوب المنطقة لتدرك أن المؤامرة لم تكن تستهدف تركيا وحدها بل مؤامرة واسعة النطاق متعددة الأطراف تهدف لتفتيت المنطقة وزرع الخلافات والإنشقاقات بين دولها وشعوبها، عن كميات الأسلحة النوعية والثقيلة التي تركتها عناصر تنظيم "البي كي كي" الإرهابي وامتدادته في سوريا ورائها وعن مصادرها وكيف وصلت إلى هناك، وعن التجهيزات الكثيرة من ملاجيء وأنفاق ودشم ذات تقنية هندسة متقدمة مما يؤكد ضلوع أطراف دولية في هذا العمل وتمويله، وهل ستستمر العمليات العسكرية للقوات المسلحة التركية لتطهير باقي المنطقة من الميليشيات الإرهابية والتي لها امتدادات في سوريا وشمال العراق، عموماً سننتظر ونرى ما ستسفر عنه الفترة القادمة.

وختامًا، ما أشبه الليلة بالبارحة، أعلن الرئيس أردوغان عن تحرير عفرين بالتزامن مع الذكرى السنوية لمعركة "جناق قلعة" عندما هزم الجيش العثماني الجيوش الغربية المتحالفة من إنجلترا وفرنسا التي كانت تحاول الإستيلاء على عاصمة الخلافة "اسطنبول"، يومها تصدى جيش الخلافة والذي كان يضم بين صفوفه أتراك وعرب وأكراد ومن كافة شعوب المنطقة ودولة الخلافة قاتلوا جنباً إلى جنب وأمتزجت دماء الشهداء بعضها ببعض مبرهنة على أن مصير شعوب المنطقة واحد وعدوها واحد، قد تختلف أساليبه وأدواته وتتعدد أقنعته ولكن يبقى واضحاً ظاهراً لكل ذي عقل وبصيرة.

اقرأ المزيد
٢٢ مارس ٢٠١٨
حروب سورية بالواسطة وما بعد الغوطة

بإمكان فلاديمير بوتين أن يتخفف من وعده للرأي العام الروسي بأنه سيسحب الجزء الأكبر من قواته من سورية الذي قطعه لهم في كانون الأول (ديسمبر) الماضي قبل الانتخابات الرئاسية بعد أن ضمن المنصب لست سنوات أخرى.

إلا أن وظيفة الخديعة هذه لم تكن فقط انتخابية بل ميدانية. سبق لبوتين أن بشر بسحب قواته في آذار ( مارس) 2016. ثم تمكنت المعارضة من تنفيذ هجمات مدعومة في عدد من المناطق شملت ريف اللاذقية وريف حماة. بعد الخديعة بأشهر بدأ الهجوم والحصار الطويل على شرق حلب لتسقط في يد النظام والروس والإيرانيين أواخر العام نفسه. ثم بدأ مسار آستانة مطلع 2017، والذي أرادته موسكو بديلاً من مسار التفاوض على الحل السياسي في جنيف، معتمدة على التباعد بين واشنطن وأنقرة نتيجة دعم الأولى للقوات الكردية. تخلى المجتمع الدولي عن حلب وبادلت تركيا سقوط المدينة بإطلاق يدها في مدينة الباب.

السيناريو نفسه تكرر في محطات عدة من الحروب السورية المتنقلة، وصولاً إلى الغوطة الشرقية، فمقابل تخلي أنقرة عن دورها الشريك في رعاية اتفاق خفض التصعيد في أيار (مايو) الماضي، في 4 مناطق بينها الغوطة، أُطلقت يدها في عفرين.

وفيما أخضعت مناطق خفض التصعيد خريطة تواجد فصائل المعارضة إلى توزيع جديد لمناطق النفوذ بين موسكو وواشنطن وتركيا وإيران ومعها الوجود الروسي، تحول الميدان السوري تدريجاً إلى حرب بالواسطة زادت من استعارها عوامل عدة: امتناع واشنطن عن تخفيف العقوبات على موسكو بسبب سلخها القرم عن أوكرانيا، التنازع على التحكم بالمناطق الغنية بالنفط والغاز في سورية والمنطقة، طموحات إيران بتوسيع نفوذها نحو الحدود السورية- الإسرائيلية، بالتزامن مع الملاحقة الإسرائيلية المدعومة أميركياً والمجازة روسياً، لهذا التوسع بالغارات والقصف، وأخيرا الانكفاء العربي عن سورية ما ترك فصائل مقاتلة فريسة لقوات النظام وحلفائه.

لكن التنازع على النفوذ بين الدولتين الكبريين خلق دينامية عسكرية جديدة جعلت مصلحة السوريين بالحل السياسي في آخر الاهتمامات، وحولت دماءهم إلى وقود الفصول الجديدة من الصراع. كلاهما استخدم غطاء محاربة «داعش» و «النصرة» (هيئة تحرير الشام)، من أجل التقدم، حتى بعد التنافس على إعلان الانتصار على الإرهاب الذي كان يفترض أن يسهل الولوج إلى الحل السياسي.

كادت المواجهة بالواسطة تخرج عن السيطرة مرات عدة لا تلبث الدولتان والقوى الإقليمية أن تلجمها: مقابل قصف لقاعدة حميميم مطلع كانون الثاني (يناير) الماضي ردت عليه الطائرات الروسية بغارات وحشية على إدلب والغوطة. إسقاط طائرة سوخوي مطلع شباط (فبراير) بالتزامن مع دخول قوات سورية الديموقراطية دير الزور، قابله إسقاط طائرة «أف 16» إسرائيلية. مقتل زهاء 200 من المرتزقة الروس العاملين بإمرة الجيش الروسي في 7 شباط عند محاولتهم اقتحام شرق الفرات مع تشكيلات تابعة للنظام من أجل التقدم نحو أحد آبار النفط، قابله الهجوم المحضر على الغوطة ورفع حدة القصف الهستيري ضد المدنيين في قراها. وفي الفصل الأخير من حرب الغوطة لم تلبث التهديدات الغربية بتوجيه ضربة لقوات النظام بحجة استخدامها السلاح الكيماوي أن تلاشت للإبقاء على الحرب بالواسطة، إفساحاً في المجال أمام التحضير للقاء بوتين ودونالد ترامب.

يستفيد نظام الأسد من تنامي هذا الصراع الدولي الذي بات أداة فيه أكثر من أي وقت من أجل إطالة أمد بقائه، فهو يتنقل في خدمة أجندة الحليفين الروسي والإيراني، أو خدمة أحدهما حين يتعارض هدفه الظرفي مع هدف الآخر. هذا سلوكه حين تجيز موسكو لإسرائيل أن تقصف الانتشار الإيراني في سورية ومحيط دمشق فلا يرف له جفن. وهذا شأنه حين يتخطى الحرس الثوري الحدود على رغم تذمر قادة جيشه، إذا فتحت موسكو نافذة على الحل السياسي لعلها تتفاهم مع دول الغرب. لكنه في كل الأحوال يستخدم حروب الدول على أرضه من أجل مزيد من البطش، فالاتفاقات التي تعقدها موسكو مع مقاتلي الفصائل في الغوطة من أجل إخراجهم منها مع المدنيين يتحين تنفيذها من أجل تشريد هؤلاء مرة أخرى فتعتقل قواته المئات ليختفوا لاحقاً كغيرهم ممن دخلوا سجونه وقضوا، لينضموا إلى من سقطوا بالقصف الأعمى.

وحجة الإرهاب قابلة للاستحضار في أي وقت، آخرها تمكن «داعش» من الانتقال إلى حي القدم جنوب دمشق بتسهيلات من النظام، للتغطية على جرائمه في الغوطة.

لكن السؤال عما بعد الغوطة بات ملحاً في ضوء التحرش الدائم من الميليشيات الإيرانية بمنطقة درعا التي تشترك واشنطن برعاية وقف النار فيها.

اقرأ المزيد
٢٢ مارس ٢٠١٨
كيف تخلى العالم عن الغوطة

شكلت الغوطة الشرقية دوماً صداعاً دائماً للأسد، فهي لا تبعد سوى كيلومترات معدودة عن العاصمة دمشق، وبقيت على الدوام، ومنذ بدء الانتفاضة السورية، معقلاً رئيسياً للمعارضة، وذكرى دائمة للأسد أن حلمه في استعادة السيطرة على سورية، كما كانت قبل عام 2011 صعب المنال. ولذلك كانت عرضة لاستخدام الأسلحة الثقيلة والقصف العشوائي لطيران الأسد، واستهتار كامل بحياة المدنيين هناك، عقاباً لهم على قبولهم بخروج مناطقهم خارج سيطرة الأسد، ولا أدل على حقد الأسد في استهداف الغوطة الشرقية من تقرير تقصّي الحقائق الصادر عن الأمم المتحدة، بعد استخدام السلاح الكيميائي في أغسطس/ آب 2013، إذ يصف التقرير، وبدقة، طريقة استخدام هذه الأسلحة بإطلاق أربعة صواريخ في الساعة الثانية صباحاً، حيث الهدوء الكامل، من أجل تجنب تأثير الرياح، ومضاعفة عدد القتلى المدنيين إلى الحد الأقصى، كما أن كثافة غاز السارين المستخدمة تكشف أيضاً، وفقاً للتقرير عن القرار، النية المبيتة لأصحاب قرار إطلاق هذه الصواريخ بمضاعفة عدد القتلى المدنيين إلى الحد الأقصى، وكما أن المنطقة كلها كانت تحت الحصار، فليس هناك أي نوع من التدريب، أو المعدات الطبية التي تجنب أو تقي الإصابة بأعراض السلاح الكيميائي. ولذلك ولما كان سكان المنطقة نياماً في الصباح، أطلقت الصواريخ المحملة بالسلاح الكيميائي، وما ضاعف من عدد القتلى هو انعدام التدريب، لتجنب استخدام هذه الأسلحة، حيث بدلاً من الخروج أو الصعود إلى الأعلى هرب الأهالي إلى الملاجئ، ما ضاعف من عدد القتلى، بسبب كثافة الغاز المستخدم. ولذلك وجدنا عائلات بأكملها منها عائلة مؤلفة من 16 فرداً فقدت حياتها بأكملها، بسبب استنشاقها غاز السارين في قبو أحد المنازل في الغوطة.

وعلى الرغم من الضجة الدولية التي أعقبت استخدام السلاح الكيميائي، وتمنّع الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عن الوفاء بوعده، بسبب تجاوز الخط الأحمر، على الرغم من تهديده بقصف النظام السوري، بسبب استخدامه هذه الأسلحة، فإن الغوطة بقيت تحت الحصار القاتل، وفشلت الأمم المتحدة في إيصال المساعدات الغذائية، أو الدوائية، إلى تلك المناطق، ولم يتغير شيء من حياة المواطنين المدنيين هناك، سوى الألم اليومي والمعاناة المستمرة التي كانت دوماً تعني أحد الخيارين، الموت البطيء أو الموت السريع بسبب القصف أو القنابل الساقطة من السماء.

وعلى الرغم من محاولات نظام الأسد اقتحام الغوطة براً، والسيطرة عليها عسكرياً، إلا أنه فشل بشكل دائم، ولم تستطع المليشيات التابعة له في اقتحام الغوطة، على الرغم من المحاولات المتكرّرة، وهو ما زاد من حقد الأسد عليها الذي حاول الاستعاضة عن هذا الخيار بخيار شمشون، في تدمير المناطق أو مدن الغوطة بأكملها على ساكنيها، وتحويلها إلى أنقاض وجثث لا تجد من يرفعها، كما فعل الأسد سابقاً في داريا وحلب وحمص، وغيرها من المناطق التي خرجت من تحت سيطرته.

لا يمكن تفسير التصعيد العسكري الروسي في إدلب والغوطة، إلا رداً على فشل مؤتمر سوتشي ورفض المعارضة، بشكل مطلق، المشاركة فيه أو القبول بمخرجاته. ولذلك، جاء الرد الروسي سريعاً من دون احترام لما تسمى مناطق خفض التصعيد التي يفترض أن تكون روسيا طرفاً ضامناً فيها، لكنها، بكل واستخفاف، تجاهلت الدعوات الدولية والأممية إلى وقف التصعيد في الغوطة الشرقية، وبدأت بدعم قوات نظام الأسد في أسوأ حملةٍ عسكريةٍ، تهدف إلى إخضاع الغوطة، وتدمير ما تبقى فيها على من تبقى فيها، وهو ما دفع الأطراف الدولية إلى تصعيد حدة الانتقادات الدولية لروسيا ولنظام الأسد، بل وتحول مجلس الأمن الدولي إلى جلسة ردح جماعي لمناقشة قرار سلبي "يطالب الأطراف في النزاع السوري المستمر منذ سبعة أعوام بوقف الأعمال القتالية من دون تأخير مدة 30 يوماً على الاقل"، مع ضمان "وقف إنساني دائم، يسمح بتسليم المساعدات الإنسانية أسبوعياً وعمليات الإجلاء الطبي والمرضى الحرجة حالاتهم والجرحى".

وعلى الرغم من صدور القرار 2401 بالإجماع، والمطالبة بالرفع الفوري عن الحصار عن المناطق المأهولة بالسكان، بما في ذلك الغوطة الشرقية، وأن تتوقف الأطراف عن حرمان المدنيين من الأغذية والأدوية الأساسية، وتمكين منظمات الإغاثة من "الإجلاء السريع والآمن ومن دون عوائق لجميع المدنيين الذين يرغبون في المغادرة"، ووقف إطلاق النار في جميع أنحاء سورية. إلا أن النظام السوري رد، في اليوم التالي لصدور القرار، باستخدام غاز الكلور في الغوطة، مخلفاً أكثر من 23 قتيلاً في مدن الغوطة المختلفة، كما أن روسيا، وعلى لسان وزير الخارجية، سيرغي لافروف، أعلن أن وقف إطلاق النار لا يشمل الجماعات الإرهابية الموجودة في الغوطة، في مبرّر صريح لاستكمال روسيا عملياتها العسكرية في الغوطة، وأن الهدنة ستشمل ساعات محدودة من كل يوم فقط، وطالب المدنيين بالخروج من الغوطة لتكرار سيناريو حلب ذاته.

لقد استطاعت روسيا، بعد أيام من المفاوضات في مجلس الأمن، من تأخير صدور القرار، وتعديل لغته لمنع إدانة نظام الأسد، فبدلاً من الصيغة المقدمة من السويد والكويت، والتي تحدثت عن Immediate تم تعديل مشروع القرار كي يتحدث عن without delay، وفق الرغبة الروسية، بغرض كسب الوقت، كما رفضت روسيا تضمين القرار أي عبارات تدين نظام الأسد بشكل مباشر، وتحمله مسؤولية قتل المدنيين في الغوطة.

لكن وحتى مع خفة حدة القرار، لا شيء يضمن أبداً تنفيذ القرار، ولا يبدو أن النظام السوري الذي يجد حماية دائمة له في مجلس الأمن من روسيا سيلتزم بتنفيذ بنود القرار، كما لم يفعل مع عدة قراراتٍ سابقة، وبمجرد هدوء الضغط الدولي، سيعود نظام الأسد مدعوماً من القوات الروسية في تحقيق حلمه في السيطرة عسكرياً على الغوطة، وكل المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام.

والسبب الوحيد الذي يدفع روسيا إلى استكمال حملتها في الغوطة هو سلبية الموقف الأميركي الذي تحول إلى مجرد مراقب في مجلس الأمن، مع حذف كل الخيارات الأخرى، وخصوصاً الخيار العسكري في منع استخدام الطيران السوري من استهداف المدنيين في الغوطة. وبالتالي، فإن النظام الذي لم يرتدع عن استخدام كل الأسلحة المحرمة الدولية ضد شعبه لن يجد نفسه في أي موقف حرج، يمنعه من تجاوز كل قوانين الحرب، لضمان بقائه وسيطرته. وبالتالي، فإن قراراً جديداً من مجلس الأمن لن يعني له شيئاً، ولن يضع حداً لشهوة السلطة لدى كل من بوتين والأسد.

اقرأ المزيد
٢٢ مارس ٢٠١٨
«ما بدي أكون بنت بشار»

عمرها من عمر الثورة السورية تقريبا أو أقل.. قالتها بكل قوة وأنفة وعناد.. «ما بدي أكون بنت بشار الأسد»… قالتها في وجه أبيها الذي طلب منها أن تردد أنها بنت الرئيس السوري… حدث ذلك في بث مباشر لقناة «الإخبارية» السورية الخميس الماضي عندما كانت الكاميرا تستقبل جموع الناس المنهكين وهي تغادر الغوطة الشرقية عبر ممر حمورية.

بين سؤال المذيع أحدَ المواطنين عما يقال من أنهم كانوا «معهم» أي «الإرهابـــيين»، ورد الرجل الأشعث الأغبر بأنهم إنما كانوا «مغلوبا على أمرهم»، بدا في الخلفية رجل يحث طفلته بصوت مرتفع: «قولي لهم يا بابا.. أنا حبيبة.. ابنة بشار الأسد!»، فتنتفض الفتاة لترد بكل إصرار وتحد «لا، لا أريد أن أكون بنت بشار الأسد»، فيعيد الأب التأكيد عليها «مبلى (بالتأكيد) يا بابا.. بنت بشار الأسد».

هنا يقترب منهما أحد عناصر الجيش النظامي قبل أن يسحب الأب ابنته من أمام كاميرا التصوير و يتوارى عن الأنظار.

لقطة معبرة إلى أبعد الحدود عن هذا الجيل الجديد في سوريا الذي ولد زمن القصف والقتل والتشريد والبراميل المتفجرة، جيل لم يعرف سوى هذه الأجواء ولم يسمع من والديه ومحيطه سوى دعوات اللعنة تلاحق من أوصل البلد إلى كل هذا الخراب وأوصلهم إلى كل هذا الذل والتشرد في وطنهم وخارجه.

كيف لطفلة لم تشاهد سوى ما شاهدته ولم تسمع سوى ما سمعته أن تقول فجأة وبدون مقدمات أنها «بنت بشار الأسد»؟؟!! لو كان لنا أن نصطحب الأب وأطفاله إلى ملجئهم الجديد لسمعنا الأب وقد قرّع ابنته على ما فعلته به أمام الكاميرا لسمعناها تجيبه فورا أنها ما سمعت منه ومن أمها ومن جيرانها وأترابها سوى اللعنات والشتائم تصحب كل ذكر لبشار طوال سنوات حصار الغوطة الشرقية منذ أربع سنوات… فكيف يريدها أن تتحول فجأة إلى بنت له؟!!

الأطفال لا يكذبون… وهذه البنت صُدمت بالتأكيد من والدها إذ هو يطلب منها ما لم يكن يخطر على بالها وما يناقض تماما ما كانت تراه وتسمعه قبل الفطام وبعده.

أما الأب المسكين فهو ينتمي إلى جيل آخر، عاش ذل الاستبداد وسطوة المخابرات وفسادها ولما حلم بالتغيير وبيوم تنعم فيه بلاده بنسائم الحرية أصابه وأهله ما أصابه فلم يعد لديه من مانع أن يعود مرة أخرى إلى ما كان يعيشه لسنوات من طأطأة الرأس وإظهار الولاء الكاذب والهتاف بحياة الرئيس ووالده وأنجاله إن لزم الأمر ضمانا للسلامة وإنقاذا لعائلته من التهلكة.

لا أخال هذا الوالد المنكسر إلا رجلا استمتع لسنوات قليلة بكسر قيود الاستكانة والخوف، رغم شلال الدم، ليجد نفسه فجأة يعود إليه من جديد. لم يكن يتخيل ذلك لكنه جاهز للتأقلم معه من جديد بفعل الظروف القاهرة. و بين البنت الصادقة التي ولدت ونشأت متمردة، ورضعت ذلك من ثدي أمها، إن ظلت موجودة أصل، وبين والدها المجبر على إعادة ارتداء ثوب النفاق من جديد… يوجد قطاع آخر لا بأس به لم يستطع أن يكون لا هذا و لا ذاك، قطاع ظل عاشقا للنظام صادقا أو منافقا، صامتا أو متحمسا، مسايرا أو مزايدا.

قبل أربع سنوات ونصف تحدثت مي سكاف، الفنانة اليسارية السورية التي اعتقلت في مظاهرة الفنانين السوريين في دمشق واعتبرت في وقتها إحدى أيقونات الثورة السورية الصامدة في العاصمة، في مقابلة ممتعة نشرت في «القدس العربي» فقالت «سألني مدون التحقيق: شوبدك إنت، بدك حرية؟ كان الضابط يسأل والمدون يسجل أقوالي في دفتره، وكان الضابط جادا في سؤاله فهو يريد حقا أن يعرف جوابا حقيقيا مني».

تواصل كساب كلامها: قلت: ما بدي ابني يكون رئيسه حافظ بشار الأسد. توقف المدون عن التدوين ونظر في وجه المحقق خائفا من تلك الجملة. وفي نظرته سؤال حائر معناه: هل أكتب هذا؟ إذ ذاك أعدت عليه الجملة باللغة الفصحى ورجوته أن يكتبها في التحقيق باللغة الفصحى حرفيا: لا أريد لابني أن يرأسه ابن بشار الأسد. نظر مرة أخرى نحو معلمه فقال له الضابط: اكتبها…تخيل لم يجرؤ على كتابة ما قلت، صار يرتجف ونظر في وفي المحقق وكأن نظرته كانت تقول: أكتب أم أضرب؟».

صحيح أن بشار الأسد لم يرحل بعد وقد تكون مي أو غيرها ولدن أبناء لم يردن لهم أن يولدوا ويترعرعوا و الرجل لم يفارق سدة الحكم بعد، لكن الأكيد اليوم أنه في هذه السنوات السبع المريرة التي حول فيها بشار الأسد ثورة سلمية إلى بركة من الدماء وحولت فيها تنظيمات إسلامية متطرفة ثورة مدنية تطالب بالحرية والكرامة إلى كابوس تقاتل بين فرقاء لا علاقة لهم بما كان يطمح إليه السوريون من انعتاق، في هذه السنوات نشأ جيل جديد لا يمكن لبشار الأسد أن يحكمه أبدا كما حكم آباءَهم أو كما حكم أبوه أجدادَهم. هذا كل شيء.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
دور تمكين المرأة في مواجهة العنف الجنسي في مناطق النزاع: تحديات وحلول
أ. عبد الله العلو 
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
صمود المرأة ودورها القيادي في مواجهة التحديات
فرح الابراهيم
● مقالات رأي
١٩ يونيو ٢٠٢٤
العنف الجنسي في حالات النزاع: تحديات وآثار وحلول ودور المرأة في هذه الظروف
أحمد غزال