شكرا للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي دعا يوم 17 /3/ 2018 مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء المأساة السورية على وجه السرعة. وكذلك للمتحدث باسمه، فرحان حق، الذي أكد أن "الواقع على الأرض في سورية بات يتطلب إجراءاتٍ سريعةً لحماية المدنيين، وتخفيف المعاناة، ومنع مزيد من عدم الاستقرار، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، وإيجاد حل سياسي دائم يتماشى مع قرار مجلس الأمن 2254".
ونحن إذ نحيي هذه الصحوة الميمونة، نطلب من الأمم المتحدة، تماما كما ذكر فرحان حق، "أن تجمع بين طرفي الأزمة للدخول في مفاوضات رسمية، وإجراء انتخاباتٍ حرة ونزيهة، تحت إشراف أممي، بهدف إجراء تحول سياسي في البلاد".
لكن من هما طرفا الأزمة بالفعل؟ هل هما الرئيس السفاح ونصر الحريري رئيس ائتلاف المعارضة؟
الطرفان الرئيسيان المسؤولان عن استمرار الحرب اليوم ودمار سورية هما واشنطن وموسكو وحلفاؤهما. وما دامت الأمم المتحدة وأمينها العام ومبعوثها للمفاوضات السورية يتجاهلون ذلك، ويرمون الكرة في ملعب السوريين، موالين ومعارضين، سوف تبقى الأمور على حالها، وتستمر الحرب إلى أجل غير مسمى. فكما أن الروس والإيرانيين يستغلون تشبث الأسد بالسلطة، إن لم يدفعوه إلى المبالغة به، من أجل فرض وجودهم وحضورهم العسكري والسياسي والاقتصادي الأول أمرا واقعا، في مواجهة القوى الدولية والإقليمية الأخرى، فإن الأسد يستفيد من تمسكهم بتحقيق أغراضهم ومشاريعهم الاستعمارية، من أجل تحقيق مشروعه الذي لم يعد يخفى على أحد، وهو التهجير القسري للسكان، وإبادة الحاضنة الاجتماعية لقوى الشعب المعارض، وإفراغ المناطق والمدن الاستراتيجية من سكانها، حتى يمكنه البقاء أطول ما يمكن، وقطع الطريق على أي انتقالٍ للسلطة، أو تغيير في بنيتها السياسية والاجتماعية والطائفية.
لا تستطيع الأمم المتحدة أن تخفي إلى الأبد سكوتها على ما يجري من انتهاكاتٍ غير مسبوقة، لحقوق الإنسان، واستقالتها السياسية والأخلاقية وراء مفاوضات عقيمة.
من واجب الأمم المتحدة ومسؤولية أمينها العام أن تعترف، حتى لا تكون متواطئةً مع جرائم الحرب المرتكبة في سورية منذ سنوات، بأن المفاوضات التي أطلقت تحت رعاية الأمم المتحدة، في يونيو/ حزيران 2012، على إثر المبادرة العربية التي تحولت مبادرة عربية دولية، قد أخفقت تماما، وأنها دخلت في رمال متحركة، ولن يخرج منها شيء. بالعكس، تحولت إلى خدعة، وظيفتها الوحيدة التغطية على استمرار الحرب. وعليها أن تعيد الكرة إلى الدول الرئيسية التي رعتها، وتدعوها إلى أن تتحمل مسؤولياتها تجاه ما يجري في سورية من أعمال الإبادة، وما يجري في سجونها من التعذيب حتى الموت، في ما وصفه مسؤولون دوليون ومنظمات إنسانية كبرى بالجحيم السوري وبالمسالخ البشرية.
وينبغي كذلك التوجه إلى حكومات المجتمع الدولي الذي دعم المفاوضات، وراهن عليها، لوقف سفك الدماء ووضع حد للكارثة الإنسانية الأعظم في هذا القرن، أن تعترف أيضا أن تنازلها عن دورها في قيادة هذه المفاوضات، وإعطاءها ما يشبه الوكالة الحصرية لموسكو في إدارتها، بدل أن يسهل عملية التوصل إلى حل، قد أدخلا المفاوضات، ومعها الأزمة السورية، في نفقٍ مظلم، مليء بالفخاخ والمفاجآت غير السارة. فعوض أن تستخدم موسكو نفوذها لدى النظام، لتشجيعه على وضع حد للحرب، كما كان منتظرا منه، أساءت استعمال الثقة التي محضتها إياها المجموعة الدولية، واستخدمت المفاوضات السورية ومصيرها ورقة ابتزازٍ لتحسين موقفها في الصراع مع الغرب، ومن أجل دفعه إلى فتح مفاوضات جدية معها، لا يزال يتجاهل الدعوة إليها، ويرفض الخوض فيها. وكانت النتيجة أن موسكو، بدل أن تمارس الضغط على النظام للتخفيف من تعنته، قدمت له طيرانها ذراعا ضاربة، وأصبحت شريكته الرئيسية وحليفه المعلن في متابعة استراتيجية الأرض المحروقة وتدمير ما تبقى من المدن والمجتمعات المحلية السورية.
وبالمثل، على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين جعلوا من الحرب ضد الإرهاب أولوية مطلقة، وتحالفوا من أجل الفوز فيها مع جميع الأطراف الضالعة ضد الشعب السوري، أن تعترف أيضا بأن سياستها الأحادية الجانب، والتي أدت إلى قطع المعونة عن قوى المعارضة السورية، حتى لو نجحت في قصقصة أجنحة المنظمات الإرهابية والقضاء على دويلتها المسخ، التي كانت، على أي حال، صناعة مخابراتية، قد ساهمت هي نفسها في دفع الأمور في اتجاه النفق المظلم نفسه، بمقدار ما استخدمتها أطراف عديدة، بما فيهم حلفاء واشنطن التابعون لقوات الحماية الشعبية، لكن بشكل أكبر من طهران الخامنئية، وموسكو بوتين، قناعا وذريعة لتبرير الحرب ضد فصائل المعارضة السورية، كما عزّزت لديهم، ولدى المليشيات التابعة للأسد، الاقتناع بأن الفرصة أصبحت سانحة لحسم الصراع عسكريا، وعدم الاكتراث بقرارات الأمم المتحدة وسماع دعواتها للتوصل إلى حلول سلمية. لقد صبت سياسة الفصل الخاطئ بين مكافحة الإرهاب والحرب، أو الحروب السورية، الماء كله في طاحونة التحالف الروسي الإيراني، وتبنت مخططاته كما لم يكن يحلم به في أي وقت، وتحولت بسرعة، ومن دون جهد، إلى عامل إضافي، في تقويض عملية مفاوضات التسوية السياسية وقضت عليها.
لا أعتقد أن من الممكن بعد الآن المراهنة على إحياء مفاوضات جنيف للحل السياسي في سورية، ولن يكون مصير جلساتها المقبلة لو عقدت أفضل من مثيلاتها السابقات. والإصرار على الضرب في جثة متفسخة لن يحييها. ودعوات أمين عام الأمم المتحدة المتكرّرة أطراف النزاع إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة، ومنها قرار 2254، لن تزيد إلا في تعميق اليأس في قلوب السوريين الذين فقدوا الثقة بالجميع، ويريدون أفعالا تخرجهم من تحت القنابل الفوسفورية والعنقودية والأسلحة الكيماوية، وترفع عنهم أنقاض المدن والقرى المدمرة. والاستمرار في إطلاق النداءات التي تعكس يأس الأمين العام نفسه، ولا تلقى صدى يضاعف من حالة الإحباط وانعدام الثقة عند السوريين، ويقضي على ما تبقى من رصيد عند المنظمة الدولية ومسؤوليها.
ليس أمام الروس والإيرانيين الذين تورّطوا حتى رأسهم في الحرب مخرج آخر سوى الهرب إلى الأمام، ودفع بشار الأسد إلى المرابطة في موقف الرفض والعنت والمقامرة حتى الانتحار. ولن يتحرك الأميركيون وحدهم، على الرغم من تهديداتهم، للضغط على أحد. فهم واثقون من إخفاق موسكو السياسي، وطامعون في استنزاف طهران حتى الرمق الأخير، لتوفير الحرب القاسية ضدها، وسوف ينتظرون حتى تسقط الثمرة الناضجة في سلتهم، ويحققوا أهدافهم الخاصة في استعادة المبادرة الاستراتيجية الإقليمية التي لا علاقة لها بمصير السوريين، ولا بتوسيع دائرة اختيارات الضحايا وفرص خلاصهم.
لم يبق للسوريين، إلى جانب تصميمهم واستعدادهم غير المحدود للتضحية في سبيل حريتهم وكرامتهم، جدار آخر يمكنهم أن يسندوا ظهرهم إليه سوى الأمم المتحدة. وعلى الرغم مما أصابها على وقع الأزمة السورية من الفشل، وانحسار الصدقية، نتيجة العجز عن تنفيذ قراراتها، لا تزال المصدر الأول للشرعية الدولية، وهي تستطيع دائما، بما تملكه من قوة دبلوماسية ومعنوية، أن تمارس تأثيرا كبيرا على الأحداث، إذا قرّرت أن ترفع صوتها ضد استهتار الحكومات بالمطالب المحقة للشعوب، واستخدمت رصيدها المعنوي الكبير، لفرض احترام القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية التي كانت وراء تأسيسها.
لن يستطيع السوريون وحدهم أن يخرجوا من النفق الذي أدخلوا فيه، ولا أن يتوصلوا بأنفسهم إلى تسوية، وهم، أو معظم قواهم المتنازعة، أصبحت رهينة الإرادات الأجنبية. ولن تستطيع الدول المتنازعة أيضا، مهما كانت قوتها، لا منفردة ولا مجتمعة، فرض الحل على السوريين. وليس لديها مصلحة في العمل على التوصل إلى تسوية تنهي النزاع من دون السوريين ومشاركتهم وضغطهم.
أدعو الأمم المتحدة وأمينها العام، باسم الشعب المنكوب في سورية، إلى وضع حد لمهزلة المفاوضات السورية الراهنة، واستبدالها بمفاوضاتٍ تجمع على مائدة واحدة، وحتى التوصل إلى حل، الأطراف الدولية والإقليمية المتنازعة على الأرض السورية، إلى جانب ممثلين لجميع الأطراف السورية، والأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن، في إطار مؤتمر دولي، وظيفته الوحيدة التفاوض، بين جميع الأطراف، على نقل السلطة في سورية إلى حكومةٍ تمثيلية، لا طائفية، تضع، تحت إشراف دولي، حداً لأعمال القتل والتهجير والتغيير الديمغرافي، وتضمن حقوق السوريين المهجّرين، وعودتهم الطبيعية إلى وطنهم، وتوقف علمية التقويض الممنهج للدولة السورية، وتفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، تعيد إلى سورية وشعبها المستباح الأمل بالحياة، وتنهي الحقبة السوداء التي شهدت دمارها ومحنة أبنائها.
يحار البعض في سر الالتقاء بين روسيا وإيران ونظام الأسد. وأساس الحيرة وجود تباينات آيديولوجية وسياسية، إن لم تشكل عوامل صراع وتناقض بين الأطراف الثلاثة فهي على الأقل تمنع قيام مثل هذا الالتقاء فيما بينها بخلاف ما هو قائم واقعياً في سوريا، التي أصبحت ميداناً يجسد هذا الالتقاء في صراع على سوريا، ويجسد في مستوى آخر تحدياً ظاهراً للمجتمع الدولي بمؤسساته وقيمه المشتركة.
بالنسبة لإيران فقد شهدت ثورة شعبية واسعة على نظام الشاه محمد رضا بهلوي في عام 1979، ما لبث الملالي أن استفردوا بالسلطة فيها بعد تصفية حلفائهم في تلك الثورة، قبل أن ينتقلوا إلى صراعاتهم الداخلية، فيقوم التيار الأكثر تطرفاً بتصفية شركائه من رجال البازار بالقتل أو الإبعاد أو التهميش، أو بفرض الإقامات الجبرية، والشواهد في ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، وقد جرت فصول التصفيات في ظل أمرين اثنين؛ العمل على تصدير الثورة الإيرانية بهدف تشييع المحيط من جهة، وحروب وتدخلات خارجية في مستوى الإقليم، تم خلالها بناء أدوات عسكرية/ أمنية وميليشيات، ترتبط مباشرة بمركز السلطة في الدولة ممثلاً بالمرشد الذي يتمتع بسلطة مطلقة، تتجاوز الهياكل المؤسسية للدولة الإيرانية بما فيها الدستور والسلطة التنفيذية القائمة حسب المعلن على أساس الانتخابات.
وبالتوازي مع خط الانتقال نحو تضييق طيف السلطة الحاكمة في طهران، تواصلت تنمية أدوات السيطرة العسكرية/ الأمنية، وجرى توسيع طيف الميليشيات التابعة في الخارج، للسهر على مهمتين أساسيتين؛ أولهما القمع الوحشي لأي حراك سياسي أو اجتماعي/ ثقافي في إيران، يمكن أن يؤدي إلى تغيير النظام أو إحداث إصلاحات فيه على نحو ما حصل في ثورة عام 2009 أو في انتفاضة المدن الإيرانية 2008 اللتين تم سحقهما بمنتهى التشدد والوحشية، وهو السلوك ذاته الذي مارسته الميليشيات التابعة لإيران في البلدان الموجودة فيها من العراق وميليشياته كما في مثال «الحشد الشعبي»، إلى لبنان ومثاله «حزب الله» اللبناني، وصولاً إلى اليمن وميليشيات الحوثي، وقد تكرس حضورها ودورها الإجرامي مع ميليشيات أخرى في سوريا بالقتال، إلى جانب نظام الأسد طوال سنوات ماضية.
ولم تكن روسيا الاتحادية بعيدة عن نسق التطور الإيراني؛ لقد استغلت أقلية السلطة الصاعدة على الجثة السوفياتية ارتكابات الأخيرة وحاجة الروس إلى نظام وحياة جديدة، لتفرض هيمنتها وفق شعارات آيديولوجية/ دعاوية، ثم سلمت البلاد إلى أقلية أكثر قدرة وتنظيماً، تستمد تجربتها من جهاز الأمن وعلاقاته، وكان بوتين على رأس الأقلية الجديدة، وعزز بوتين سلطته بتقوية دور الجيش والأمن والشركات الأمنية في الحياة الروسية، وفرض سيطرته المطلقة على الإعلام، وكثف الجهود في تطوير الصناعات العسكرية، أما بالنسبة لنظام الأسد الذي يمكن اعتباره النموذج الأبرز في التوحش، لما كرسه طوال نحو أربعين عاماً من حكم أقلي استبدادي، قام على الوحشية في تفكيره وسياساته وأساليبه وأدواته، وقد استخدمها جميعاً على نطاق واسع في المستويين الداخلي والخارجي، ضارباً عرض الحائط بكل ما بنى السوريون من ملامح الدولة ومؤسساتها، واستبدل بها بنية عصابة النهب المنظم، التي تحكم مجتمعاً مهمشاً بالقوة العسكرية/ الأمنية، ومسيطراً عليه بآيديولوجيا/ دعاوية لا مصداقية لها.
لقد كرس نظام الأسد من الأب إلى الابن الوحشية في علاقته مع السوريين وفي حياتهم من تهميش وإقصاء وملاحقة وسجن وقتل لمعارضيه، إضافة إلى مذابح تكررت على مدى عقود حكم طويلة، آخرها ما يحصل متواصلاً ومتصاعداً منذ سبع سنوات، استدعى خلالها من يشاركه فيها من دول وميليشيات مسار توحش ليس له ما يماثله في التاريخ، ولم يقتصر المسار في تطبيقاته على السوريين، بل امتد إلى حيث استطاعت يد النظام الوصول إليه من بلدان وساحات أخرى.
وهكذا أصبحت سوريا ساحة وبخاصة للنظام الإيراني الذي يسعى للهيمنة على الدول العربية، وقد مهد له النظام السوري هذا الأمر، فها هو ذا يفتك بسوريا ويتخذها معقلا له.
في العالم الذي تملؤه القوانين الدولية، يُستخدم الكيماوي من جديد، ليس في الغوطة هذه المرة، ولا في خان العسل، ولا فوق أي من الأراضي السورية، إنما في الجنة الأوروبية، وفي جزيرتها العظمى بريطانيا، يُستخدم السلاح الكيماوي هناك، وهناك أيضاً، كما هو الحال في سورية، تبدو الأيدي مشلولةً وغير قادرة على فعل شيء.
يكاد فعل استخدام الكيماوي أن يكون يقينياً، وتقول التقارير إن غاز الأعصاب هو ما استخدم لمحاولة قتل رجلٍ وابنته كانا يتجولان في شوارع المملكة العظمى، تحتار رئيسة الحكومة، تيريزا ماي، ماذا تفعل، وهي المكلفة سياسياً وأخلاقياً بالرد على هذا الهجوم، فلا تجد إلا عقوبة هزيلة، تشبه رفع الأيدي بالاستسلام، وكل ما استطاعت أن تفعله هو إبعاد ثلاثة وعشرين جاسوساً "مرخّصين" بصفتهم دبلوماسيين يعملون في لندن، من دون أن يكون هذا الإبعاد قادراً على التأثير في عمل الجاسوسية العميقة، والتي تجند روسيا لأجلها الآلاف، وتدسّهم خلسة في المجتمع البريطاني.. ولكن العقوبة شُددت إلى حد امتناع العائلة المالكة، ووزراء الحكومة البريطانية، عن حضور مباريات كأس العالم المقرّرة إقامتها في روسيا هذا العام.
يبدو البيان الرباعي الذي صدر بشكل مشترك عن المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وأميركا تضامنياً بالدرجة الأولى، ويعكس تكتلاً بطريقةٍ ما في وجه الدولة التي تستخدم سلاحاً محرّماً، ولكن مفعوله موضعي، ذو نصف قطر ضئيل، وقد يجد طريقه بسرعة إلى الأرشيف.
الإجراء الدبلوماسي البريطاني المحدود، والذي قابلته روسيا برد فعل مشابه، ضعيفُ التأثير، ولا يعكس فداحة استخدام السلاح الذي حرّمته المواثيق الدولية، والإنكار الذي تبناه الروس في امتلاك سلاح مماثل، وهو السلوك نفسه الذي يتبناه حليفهم في دمشق، يدل على أن الإنكار يفيد أحياناً في محو ارتدادات الجريمة.
في الوقت الذي يتحضر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للفوز مرة أخرى بكرسي الرئاسة، يحدث الرد البريطاني الذي لن يؤثر بالطبع على الحملة الهادئة الواثقة التي يقودها بوتين للبقاء في الكرملين. على العكس فقد يستثمر بوتين مثل هذه الحوادث على طريقة زعماء دول العالم الثالث الذين يفاخرون بالعداء لأميركا وبريطانيا، ويتخذون من مثل هذه المواقف دلائل على أنهم يقفون في الجانب الصحيح، فقد قال المتحدثون باسم روسيا وبوتين في بياناتهم للشعب الروسي إن هذه الاتهامات تعتبر هجوماً خطيراً على روسيا، ومن المؤكد أن الرد المبين على مثل هذه الهجومات هو التصويت بكثافة لمن يقف في وجه هذا الهجوم، وهو السيد بوتين بالطبع!
يتقوى الموقف الروسي في مواجهة موقف أوروبي متردّد، فعلى الرغم من التضامن الرباعي، إلا أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يجعل الجسد الأوروبي المنفصل عن بريطانيا بطيء التفاعل، ما يقوض أي أمل في جعل هذا الهجوم مَدخلاً لتشكيل جبهة أوروبية موحدة وقوية ضد روسيا.
يمكن أن تنضم هذه الحادثة للسجل السيئ لتيريزا ماي من حزب المحافظين، فمنذ وصولها إلى السلطة، وحزبها في تراجع، وأداؤها السياسي يزداد اضطراباً، ومؤشرات الاقتصاد تستمر في الهبوط. قد يصطف مجلس العموم وراءها في هذه اللحظة السياسية، كي تبدو البلاد موحدة في وجه هجوم كيماوي شن عليها، لكن الاختلاف سيأتي فيما بعد، حين يوضع الرد موضع التنفيذ، وبعد استيعاب الرد المعاكس الروسي، عندها قد ينفرط هذا التجمع بالسرعة التي بدأ بها، خصوصا بعد أن تعجز رئيسة الوزراء عن حشد تجمع معقول لمواجهة الروس، وتظهر وحيدة من دون أن يبقى في يدها سوى بيان التعاطف الرباعي، أما الخاسر الأكبر وقتئذ فهو العائلة المالكة البريطانية التي سيكتفي أعضاؤها بمشاهدة مباريات فريقهم الوطني عبر خدمة "بي إن" التي تمتلك حصرياً حق نقل مباريات كأس العالم.
شهدت عملية عفرين تكتيكًا غريبًا. عندما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "يمكن أن نهاجم ليلًا على حين غرة"، صدرت تعليقات تقول "هل تُنفذ عملية عسكرية مع التلميح إليها؟". هذا ما حصل، جرت العملية على وقع ضجة سبقتها.
بينما كان الجيشان التركي والسوري الحر يقاتلان في الميدان، شن أردوغان حربًّا نفسية، وسقطت عفرين خلال 8 ساعات.
لو أن أردوغان أعلن، مثل زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال قلجدار أورغلو، أن قوات "غصن الزيتون" لن تدخل عفرين، هل كان حزب العمال الكردستاني سيفر منها؟ لو بقي الحزب في مركز المدينة هل كان من السهل الاحتفاظ بريفها البالغة مساحته 30 كم مربع؟ ألم يكن باستطاعته إلحاق خسائر بقواتنا من خلال عمليات كر وفر؟
خسر الحزب الحرب النفسية أولًا، وبعد ذلك هزم في ميدان المعركة، وفر مسلحوه بلا قتال. تبين أن عناصر الحزب بدأوا بمغادرة المدينة جماعات قبل 3 أيام من تاريخ 18 مارس.
ظنوا أن الولايات المتحدة ستحميهم، وأن روسيا ستغلق المجال الجوي في مرحلة معينة، وأن النظام سيرفع أعلامه في عفرين، لكن المحصلة كانت خيبة الأمل، وغادروا المدينة رغم تعليمات قياداتهم في قنديل بالبقاء والصمود.
أين ذهبوا؟ تبين أن 90 في المئة منهم توجه إلى منبج الخاضعة للسيطرة الأمريكية عبر تل رفعت، في حين غادر الآخرون إلى شمال حلب، ومن هناك يُنتظر أن يتجمعوا في منبج. ولهذا فإن العملية ضد منبج تتمتع بأهمية كبيرة.
أما تل رفعت، فلن تُنفذ عملية ضدها لوجود قاعدة عسكرية روسية وقوات للنظام، لكن ستُقام نقاط مراقبة للحيلولة دون عبور الإرهابين منها.
تفخيخ موجودات المقرات في عفرين
يجري العمل بعد تحرير عفرين على مسارين من أجل الحل السياسي والعسكري.
1- تشكيل مجلس للمدينة، حيث انعقد الاجتماع الأول في مدينة غازي عنتاب يوم سقوط عفرين، وجرى خلاله انتخاب 30 عضوًا للمجلس. وسيتم تشكيل مجالس محلية.
2- على الصعيد العسكري، سيتم تشكيل وحدات شرطية وعسكرية من عناصر الجيش الحر. هناك أنباء عن وجود خلايا نائمة لحزب العمال في عفرين. سيتم إنشاء مخافر لضبط الخلايا المذكورة والقضاء عليها.
3- عندما غادر الإرهابيون المقرات السياسية ومباني الإدارة ونقاط المراقبة العسكرية فخخوا الوثائق الرسمية والحواسيب والموجودات فيها. يقوم عناصر الجيش الحر بتفكيك المتفجرات بدعم من القوات التركية. من المنتظر أن يتم تطهير عفرين من الإرهاب في ظرف 10 أيام.
4- العمل جارٍ على تأمين عودة 60 ألف شخص غادروا عفرين في الفترة الأولى من حصار المدينة، إلى ديارهم. والهدف في المرحلة التالية عودة 500 ألف عفريني إلى مدينتهم.
وضع أردوغان استراتيجية جديدة بعد عفرين، مكونة من مرحلتين: الأولى سنجار، والثانية منبج وشرق الفرات.
عفرين انتهت، الدور على من الآن؟
لم يتأخر الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في الرد على قرار القضاء الإيراني اعتقال اثنين من كبار مساعديه: نائبه أسفنديار رحيم مشائي، ومساعده للشؤون التنفيذية حميد بقائي، فقد اتهم نجاد المرشد السيد علي خامنئي بالاستحواذ على نحو 190 مليار دولار بطريقة غير مشروعة لا تخضع لأي رقابة مالية. فجرأة أحمدي نجاد في التصويب على مالية المرشد لا تستند إلى قوة استثنائية يتمتع بها نجاد، بقدر ما هي انعكاس لحالة التشرذم التي تعصف بين أركان النظام الذي بات عاجزاً عن إخفاء عيوبه، التي تحولت إلى أورام خبيثة يصعب علاجها، فهي تعود لأربعة عقود تراكمت خلالها الأمراض التي يمكن توصيفها الآن بالمستعصية. طبياً يلجأ الأطباء بعد استسلامهم أمام صعوبة الحالة إلى خيار العلاج بالصدمة التي تعتمد على جرعة كبيرة من الكورتيزون، أو الأدوية الكيماوية، كفرصة أخيرة أمام المريض بهدف الحفاظ على حياته، ولكن الصدمة قد تتسبب في أعراض جانبية كبيرة للمريض. وكما في الطب كذلك في السياسة، وفي لحظة استعصاء إنقاذ النظام يصبح العلاج بالكورتيزون السياسي الخيار الوحيد أمام أصحاب السلطة، فيصبح الانقلاب احتمالاً قوياً أو خياراً حتمياً، فهل يلجأ أركان النظام الإيراني ومُلاكه إلى القيام بانقلاب سياسي من أجل الحفاظ على نظام ولاية الفقيه، كخيار أخير، قبل أن تستحكم الأمراض المستعصية بجسده، وتخرجه من الحياة السياسية؟
في السياسة، فشل النظام الإيراني في معالجة ظواهر التمرد على سلطته، وباعتراف أجهزته الأمنية فإن حركة الاحتجاجات اندلعت في أكثر من مائة مدينة وناحية من إيران، وبلغ عدد الموقوفين منذ بداية السنة 8 آلاف؛ حيث أكدت التقارير الأمنية أن 85 في المائة من الموقوفين هم ما دون الـ35 عاماً، وأغلبهم ليست لديه أي سوابق سياسية أو أمنية. وقد علّق معاون وزارة الداخلية للشؤون الأمنية حسين ذو الفقاري على التحقيقات التي أجرتها وزارته مع الموقوفين بالقول: «إن مطالب المتظاهرين اجتازت جميع الخطوط المرسومة والسائدة لكل التيارات السياسية في البلاد»، وهو اعتراف ضمني منه بأن المحتجين على الأوضاع المعيشية تجاوزت مطالبهم كل الخطوط الحمر التي اعتادت التيارات السياسية أن تلتزم بها سابقاً؛ خصوصاً أنهم طالبوا علانية بإسقاط النظام، وبرحيل خامنئي، الذي حذره الرئيس حسن روحاني من ملاقاة مصير الشاه إذا لم يصغِ لمطالب الشعب.
ومع تردي الأوضاع المعيشية وعجز الدولة عن تلبية مطالب المواطنين، ولجوئها إلى ممارسة العنف المفرط في قمع حركة الاحتجاجات، حذّر حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني، السيد حسن الخميني، من سقوط النظام إذا لم يُصغ إلى مطالب الشعب، مبدياً تخوفه من سيطرة حكومة استبدادية قمعية تستخدم العنف المفرط؛ لكنها لن تستطيع الصمود طويلاً.
كلام حسن الخميني هو أول تلميح مباشر عن مخاوف النخب الإيرانية من لجوء أركان النظام إلى القيام بانقلاب سياسي، يمنحهم وقتاً إضافياً من أجل إعادة ترتيب صفوفهم، والقضاء على المعارضة، وإقصاء الأصوات المطالبة بالإصلاح.
خيار الانقلاب غير مستبعد في حال احتدم الصراع بين مراكز القوة المتنافسة على وراثة المرشد، أو على امتلاك نسبة عالية من الأسهم في اختيار خلفه، إضافة إلى تخوف الحرس الثوري من ضيق هامش المناورة مع واشنطن في كثير من الملفات الإقليمية الحساسة، وفي مرحلة «الكباش» المتصاعد بين روحاني والحرس، يستعد الأخير لاتهام روحاني بالفشل في حماية الاتفاق النووي مع الدول الكبرى، في حال قرر الرئيس ترمب الانسحاب من الاتفاق في منتصف مايو (أيار) المقبل، وهي الخطوة التي سيستغلها الحرس الثوري في الرد على ما سيعتبره فشل خيارات روحاني التفاوضية مع الغرب، وسيتعامل معها كفرصة استثنائية تساعده على طرح إقصائه عن السلطة، وذلك بسبب القلق الكبير الذي بات يشكله نفوذه داخل مؤسسات الدولة وفي الشارع، وضرورة قطع الطريق عليه، قبل أن يتحول إلى الرجل الأقوى في تركيبة الدولة والثورة في حالة الغياب المفاجئ للمرشد، حيث لن يتمكن أي مرشد جديد من منافسته.
في 19 أغسطس (آب) 1991، اعتقد نائب رئيس الاتحاد السوفياتي غينادي يانييف، مع أعضاء من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي الحاكم آنذاك، أن بإمكانهم إيقاف عجلة التحولات، فأعلنوا عن سيطرتهم على السلطة في موسكو، وإقصاء الرئيس ميخائيل غورباتشوف، ولكن الانقلاب الذي صمد بوجه حركة الاحتجاجات الشعبية 3 أيام فقط، عُجِّل فشله بانهيار الاتحاد السوفياتي، وإقصاء غورباتشوف عن السلطة، وسقوط المعسكر الاشتراكي، لذلك ليس من المستعبد أن تداعيات أي انقلاب سياسي في إيران قد تسرع في سقوط النظام وتغير وجه إيران.
تواردت أنباء خلال الأيام الماضية، حول ضربة عسكرية أمريكية ضد نظام الأسد، وبالرغم من عدم تبلور هذه الفكرة وعدم تنفيذها واتخاذها طابعاً اعلانياً واعلامياً فقط، جاء خبر اليوم حول استهداف الطيران الاسرائيلي لمفاعل نووي "الكبر" تابع لنظام الأسد منذ حوالي 11 سنة، كإتمام لرسالة امريكية-اسرائيلية لايران لضبط توسعها في سوريا.
يبدو أن اسرائيل والولايات المتحدة لم يعد لديهما متسع من الوقت للمماطلة فيما يخص الوجود الايراني في سوريا، ولم يعد هناك وقت للتحذيرات والتصريحات التهديدية من قبل مسؤولين أمريكين واسرائيليين لطهران، وبات التدخل الطويل المدى للولايات المتحدة داخل سوريا قاب قوسين أو أدنى، لوقف التمدد الايراني في المنطقة والذي يهدد بتوسع ايراني شيعي ملحوظ لاسيما في السنوات الأربعة الأخيرة مع احتدام الحرب في سوريا.
ومع زيادة رقعة سيطرة نظام الأسد على سوريا بدعم ايراني، أدركت اسرائيل والولايات المتحدة تماماً، أنها لا تستطيع أن تؤثر بشكل حاسم على حصيلة الحرب والتوسع الايراني، لذا لجأت بعد أسلوب الردع واستهداف قواعد ايرانية ومراكز أسلحة تابعة لحزب الله، للاعلان عن قدرتها على استهداف أي قاعدة عسكرية ايرانية تهدد أمن حدودها في أقل من 24 ساعة، بعد كشفها اليوم عن هدم المفاعل النووي لنظام الأسد في دير الزور.
ويأتي تخوف اسرائيل من التمدد الايراني الذي لم تتمكن أن توقفه، بعد أن فهمت أن نظام الاسد غير قادر على الوقوف في وجه هذا التمدد لأن انتصاراته جاءت بدعم ايران وميليشياتها، ولم ولن يستطيع الوقوف في وجهها فهي المعلم وهو الطالب النجيب.
وبالمقابل، فإن المساعدة الإيرانية لنظام الأسد لن تكون دون مقابل، إذ أن مساعي ايران لمد خط امداد بري بين العراق وسوريا ولبنان لم يعد بالأمر البعيد، ما أثار زيادة مخاوف اسرائيل على حدودها من جهة، ومخاوف امريكا على بناء امبراطورية ايرانية في الشرق الأوسط من جهة أخرى، سواء من خلال خط امداد السلاح في تلك المنطقة أو من خلال المفاعل النووي الايراني اللذان سيجعلان من ايران تشكل خطر على عظمة الولايات المتحدة.
أما عن السبب الثاني الذي دفع باسرائيل لرسالتها، اليوم حول تدميرها المفاعل النووي، فقد تكون تلك الرسالة جاءت لتحجيم الدور الروسي في سوريا، خاصة بعد تدشين الرئيس الروسي، "فلاديمير بوتين"، محطة للطاقة النووية في منطقة روستوف على نهر الدون الشهر الماضي، ومزاعمه حول تطوير بلاده لأسلحة نووية جديدة في الآونة الأاخيرة.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل تستطيع اسرائيل بالفعل أن توقف التمدد الايراني في سوريا بعد هذه الرسالة؟ وهل يستطيع نظام الأسد أن يضع خطوطاً حمراء للميليشيات الشيعية في سوريا؟ وهل هذه الرسالة الاسرائيلية ستخلق عدوان بين تل أبيب وموسكو، مايدفع بموسكو أن تتعاون مع العفريت الأزرق حتى لو كانت طهران؟
في الحملة الانتخابية النيابية التي يروّج لها حزب الله في لبنان اليوم، يشكّل خطر قيام حرب إسرائيلية قريبة منه، أحد أبرز عناوين حملته الانتخابية.
حزب الله الذي كان له الدور الأبرز في إنجاز قانون انتخاب يتيح له اختراق التمثيل النيابي في الطوائف اللبنانية الأخرى، ويوفر له السيطرة على التمثيل الشيعي، بدأ قبل أكثر من شهر ونصف الشهر من موعد الانتخابات في السادس من مايو المقبل، أمام معضلة مع جمهوره.
وتتصل هذه المعضلة في البعدين الاقتصادي والإنمائي، وفي تنامي الانتقادات لأداء نوابه في السنوات التسع الماضية على هذا الصعيد، حيث تشهد منطقة بعلبك الهرمل، المنطقة التي حضنت تأسيس حزب الله في العام 1982، أسوأ ظروف الحياة الاقتصادية في لبنان، وعلى الرغم من تمثيل حزب الله لها في مجلس النواب منذ أكثر من ربع قرن، فإنها تشكّل المنطقة الأكثر إهمالا، وتعاني من أوضاع اجتماعية واقتصادية سيئة، وتشهد أكثر نسبة من الانفلات الأمني وانتشار العصابات الإجرامية ولمظاهر الخروج على القانون.
لم يجد حزب الله وسيلة لمواجهة حال التململ والاعتراض في بيئته، إلا لغة التخويف عبر استحضار عنوان الحرب الإسرائيلية، كخطر داهم، من دون أن ينسى في السياق نفسه ما يسميه خطر تنظيم داعش، متناسيا إعلان أمينه العام، حسن نصرالله، النصر على هذا التنظيم قبل أشهر.
فأمام عجزه عن تقديم إجابات موضوعية لجمهوره عن سبب تقصير ممثليه في البرلمان في تحسين أحوال منطقة البقاع وأهلها، وإزاء إصراره على ترشيح نفس النواب المتهمين بالتقصير والفساد مجددا إلى الندوة البرلمانية، في خطوة هي أقرب إلى تحدي جمهوره، كانت حالة الاعتراض والتململ تمتد وتعبر عن نفسها بوسائل مختلفة، وهذا ما دفع أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، إلى إطلاق تحذير من خطر وصول نواب إلى البرلمان ممن يدعمهم تنظيم داعش أو مموليه، ولم يكتفِ بذلك بل قال “إذا اقتضى الأمر أن أزور هذه المنطقة قرية قرية من أجل دعم لائحة الحزب فسأقوم بذلك”، وهي إشارة واضحة إلى شعوره بأنّ أهالي البقاع لم يعودوا كما كانوا سابقا ملتزمين بتوجيهات حزب الله وأمينه العام، أي أن حالة التململ تهدد فعليا وصول كامل مرشحي حزب الله إلى الندوة البرلمانية في كل الدورات الانتخابية منذ العام 1992 حتى آخر انتخابات نيابية جرت في العام 2009.
سلاح التخويف والتهديد الوجودي رفعه حزب الله في مواجهة بيئته الشيعية، بالقول إن الحرب ستحصل قريبا، فانتبهوا من عودة ممكنة لتنظيم داعش، وما إلى ذلك من ضخ تقارير صحيحة وأخرى مفبركة عبر العشرات من المنابر الإعلامية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي التي تشكّل القناة السرية التي يوجه حزب الله من خلالها جمهوره بشكل غير رسمي.
والملفت في الأيام الماضية بث هذه المنابر حجما هائلا من الأخبار والتقارير التي تتحدث عن حرب إسرائيلية وشيكة على حزب الله، لكن أي متابع ومدقق للمواقف الإسرائيلية، سيجد أن لا تغييرا حدث في المواقف الإسرائيلية يبرر هذا الحجم المتداول من التقارير والأخبار عن حرب وشيكة على لبنان تحرص وسائل حزب الله الإعلامية المباشرة وغير المباشرة على بثها.
إذاً ليس لدى حزب الله ما يعطيه لجمهوره سوى بضاعة الخوف والتخويف، لمواجهة أسئلة الحياة اليومية في العيش وفي العمل وفي الحقوق التي لا ينالها المواطن.
وعلى الرغم من أن سمة الاستعلاء والاستقواء هي الأبرز في خطاب حزب الله تجاه مطالب اللبنانيين في تثبيت دور الدولة ومرجعيتها أمام تغوّل مشروع الدويلة، فإنّ نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، أعلن صراحة أنّ حزب الله المطمئن إلى فوز لوائحه لا سيما في المناطق الشيعية، يعمل على إيصال حلفائه إلى الندوة البرلمانية، أي أنّ حزب الله يريد أن يضمن لنفسه كتلة نيابية تستند إلى قاعدة شيعية صلبة، وتستكمل بنواب متنوعين من الطوائف المختلفة، بغاية أن تتحول هذه الكتلة إلى قوة نيابية يستخدمها الحزب في مواجهة أي مخاطر دستورية أو قانونية تتصل بدوره الاستراتيجي والعسكري.
على أن ذلك لا يعني أن حزب الله يولي اعتبارا أساسيا للعملية الدستورية، فهو الذي هُزم وحلفاؤه في الانتخابات النيابية عام 2009 نجح بسطوة سلاحه في إلغاء هذا الفوز، وحول الأكثرية النيابية إلى جانبه، بل نجح في إبعاد زعيم الأكثرية النيابية بعد الانتخابات، في ذلك التاريخ، سعد الحريري من رئاسة الحكومة، والإتيان بالرئيس نجيب ميقاتي بديلا منه، أي أنّ السلاح كفيل بأن يقلب المعادلات الدستورية لصالحه مهما كانت موازين مجلس النواب.
لكن ذلك لا يلغي اهتمام حزب الله بالانتخابات النيابية منذ إعداد قانونها وإقراره، وصولا إلى التحالفات ثم إجراء الانتخابات، بغاية إظهار أن وجوده لا يزال يحظى بشرعية شعبية، فالانتخابات اللبنانية رغم ما فيها من شوائب تخلّ بمصداقيتها، لا سيما في ظل استخدام سطوة السلاح والقدرة على تزوير النتائج في بعض الدوائر الخاضعة لسلطة حزب الله كما هو الحال في البقاع والجنوب، إلا أنّها تظهر إلى حد ما مؤشرات واتجاهات الرأي والتمثيل السياسي لدى الشعب اللبناني، ودلالات التغييرات الجزئية المتوقعة في هذه الانتخابات، ومنها ما هو داخل بيئة حزب الله.
من هنا فإن حزب الله يستخدم كل ما لديه من سطوة لترتيب النتائج الانتخابية في مناطق نفوذه ليس عبر تشكيل لائحته فحسب، بل هو متفرغ هذه الأيام لتشكيل لوائح خصومه، ويستخدم كل ما لديه من تأثير سياسي ومالي وأمني في تفتيت وتشتيت لوائح الخصم، والعمل على اختراقها سياسيا.
إذ أن حزب الله بحسب بعض المصادر المتابعة للانتخابات في بعلبك، نجح نسبيا في تعميق الشرخ بين القوات اللبنانية وتيار المستقبل في هذه المنطقة، بما أربك حلفاءهم المفترضين في البيئة الشيعية، وساهم هذا الشرخ في إنعاش آمال حزب الله بمنع حصول خروقات كبيرة في لائحته.
وقد ذهب أحد الناشطين في تشكيل لائحة معارضة لحزب الله تضم كل القوى المتضررة والمعارضة، إلى القول إنّ “حزب الله ليس موجودا في لائحته الانتخابية فقط، بل إنه يدير لائحة معارضته”، ملمحا إلى “صفقة غير مستبعدة بين جهات رسمية وحزب الله من أجل منع خرق تمثيله النيابي في البقاع الشمالي، مقابل ثمن سياسي يقدّمه الحزب لهذه الجهة لاحقاً”.
وأكد الناشط المعارض لحزب الله أن الحزب مستعد لأن يدفع الكثير لمنع إحراجه في الانتخابات النيابية القادمة، وهناك من هو قابل من الذين يشاركونه في الحكم لبيع الفوز بثمن بخس، أي بمحاولة تصديع مختلف القوى المعارضة لحزب الله أو تشتيتها في لوائح انتخابية متعددة خاصة في منطقة البقاع الشمالي، وهي الهدية التي يشتهيها حزب الله اليوم في الانتخابات.
استعاد نظام بشار الأسد، ذكرى انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية السلميّة ضدّه في آذار/مارس من عام 2011 بمنهجيته المعتادة: تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بوقف فوري لإطلاق النار عبر اجتياح الغوطة الشرقية لدمشق، وكانت آخر أفعاله قصف سوق شعبي في الغوطة الشرقية المحاصرة والمجوّعة والمتعرضة للاجتياح حالياً، مما خلّف عددا كبيراً من جثامين الأبرياء المحترقة، وإعدامات ميدانية لمئة شخص في بلدة حموريّة التي احتلها قبل أيام، ثم استخدم أهاليها دروعاً بشريّة لصدّ هجوم معاكس للمعارضة، فيما تعرض وسائل إعلامه صور آلاف المدنيين الجوعى يخرجون من أراضيهم وبيوتهم مهزومين، في متابعة حثيثة لمقتلته الكبرى التي بدأها في درعا وانتقلت إلى بانياس وحماه وحمص، ثم تمدّدت إلى كافّة أنحاء سوريا.
الأمم المتحدة، التي تراقب، عبر مبعوثيها ومنظماتها والناطقين باسمها، تفاصيل الكارثة السورية، تابعت بدورها تقاريرها المخيفة عن أحوال تلك البلاد: قوات «الحكومة» السورية والميليشيات المتحالفة معها تستخدم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على النساء والفتيات والرجال لمعاقبة المناطق المعارضة، والأطفال خصوصاً هم ضحايا «جرائم حرب»، وأن البلاد صارت كلها «غرفة تعذيب ومكانا للرعب الوحشي والظلم المطلق»، وأن النظام السوري يخطط لما يشبه «نهاية العالم»، وتنهي كل ذلك بتبشير السوريين بأن المحنة السورية في عامها الثامن ستشهد «معارك طاحنة».
لكن باستثناء هذه التصريحات المرعبة للمنظمات التي تمثل الشرعية الدولية فإن العالم، وأدواته الفاعلة، كمجلس الأمن الدولي، والمنظومة الدولية عموما، مستنكف تماماً عن أي محاولة للتدخّل لوقف المجازر، فيما يطلق أقطابه كل فترة تحذيرات للنظام من استخدام النظام للأسلحة الكيميائية (التي لم يكفّ طبعا عن استخدامها) في خذلان عجيب لملايين السوريين الذين تُركوا ليواجهوا نظاماً وحشيّاً، مدعوماً بآلة القتل الروسية التي جعلت سوريا ميدانا لتجريب أسلحتها والتفاخر بفاعليتها وتسويقها تجارياً، وبميليشيات إيران المتعددة الجنسيات، التي تعتبر ما يحصل تكريساً لنفوذها الكبير في المنطقة العربية.
استدعت هذه المحنة المستمرة أسئلة ممضّة للسوريين، وخصوصاً بعد انتشارهم الكبير في المنافي وتنامي التيارات العنصرية الكارهة للمهاجرين والمسلمين منهم خصوصا، عن سبب تكاثر السكاكين عليهم، وإذا غضضنا طرفاً عن الموالين الذين نزعوا عن المدنيين إنسانيتهم ورحّبوا بأعمال الإبادة، لوجدنا حلفاً عجيباً يجمع بين أيديولوجيات متخاصمة نظريا، فيجتمع في تأييد نظام الأسد وإبادة شعبه بعض مدّعي المقاومة والممانعة العرب، مع ميليشيات تابعة لإيران، مع تيارات العنصريّة الفاشية الغربية الكارهة للإسلام، مع اليسار الستاليني.
بعض أنصار الثورة أعادوا، في هذه المناسبة، تأكيد وفائهم لفكرة الثورة رغم الكارثة المديدة على الجغرافيا السورية، والهزائم الكبيرة التي تعرّضت لها، وتحوّل بلادهم إلى مركز صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وتراجع التيارات الديمقراطية والمدنية أمام مدّ السلفيّة والجهادية المسلّحة، التي ضيّقت بدورها على سكان المناطق المحررة من النظام، وكثيرون منهم انهمكوا في لوم العالم، والعرب، وبعضهم البعض، فانهمر اللوم على التيارات الإسلامية، وعلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة وعلى المثقفين، بل إن البعض انشغلوا بلوم الشعب نفسه، وذمّ هويتهم العربية والإسلامية وثقافتهم ودينهم، في حالة تدمير ذاتي ناتج عن الإحباط أو الألم والمرارة.
البعض الآخر طالب بمراجعة لمفاهيم متجذّرة، كالوطنيّة السورية نفسها، التي انقسمت شر انقسام على أسس طائفية وإثنية، بعد أن امتهنها النظام شرّ امتهان، بتحوّله إلى مطيّة للقوى الأجنبية ضد شعبه، وهو ما حوّله، بالنسبة للسكان أنفسهم، وللعالم، إلى جيش احتلال أجنبيّ وحشيّ يدافع عن طغمة كاسرة دمّرت البلاد وباعت مستقبل الشعب وأراضيه للحفاظ على السلطة.
لقد فتحت المحنة أبواب الجحيم على السوريين، لكنّها فتحت أيضاً نافذة الوعي الحادّ بإشكاليات العالم كله، والوعي هو جزء من حلّ المشكلة.
ربما لم تكن مصادفة أن تشتعل أغصان سورية بأزهار الثورة السورية في آذار، فأي زمنٍ آخر لم يكن ليكون أنسب منه للبدايات.. كل البدايات، تلك التي لا تكاد تنطفئ وتتعرّى لنظنّها قد جفت، حتى تطلق النسغ كل آذار من جديد.
في عيد ميلادها السابع، تئن الثورة السورية تحت أنقاض بيوت الغوطة الشرقية، ليخرجها رجالها جريحة مدماة، لكنها حيّة.
في عيد ميلاها السابع، تصيح الثورة السورية من داخل معتقلات نظام الأسد، تكزّ على أسنانها الغضة بعد كل اغتصاب، لكنها تمزّق ليل المعتقل بصراخها، لتقول لنا إنها لم تزل حيّة.
في عيد ميلادها السابع، تمسكنا من أنفاسنا، وتشد شعر أحلامنا وتهزّنا بكل قوّتها لنُسقط عن ذاكرتنا الغبار، ونُعيد النظر مرات ومرات قبل أن يتجرأ أحدنا، ويعلّق على روحه، أو حتى على جداره الافتراضي، ورقة نعوتها.
ما يحييه السوريون في آذار منذ 2011 ليس عيداً للثورة بمفهومها الواقعي، حراكا شعبيا جامحا فقط، بل هو عيد لاستعادة تفاصيل أعمق لامستها الثورة، فأعادت صياغتها وخلقها. حيث لم يكن لآذار في "سوريا الأسد" ما قبل الثورة نكهة الحياة، ولا طعم تجددها، بعد أن غيّب النظام الدكتاتوري كل أعياده، وشوّهها عن قصد.
لم يكن يوم الثامن من آذار عيدا للمرأة السورية المسلوبة الحقوق والمهمّشة، كما الرجل السوري، بل كان يوم احتفال بفرض سيطرة الأسد الأب علينا في "ثورة الثامن من آذار"، يتكفّل خلاله "الاتحاد النسائي" بتمزيق مفهوم المرأة الحرة والمستقلة، وترسيخ النموذج الممسوخ والمستلب والمنافق منها.
لم يكن يوم الحادي والعشرين من آذار ليتجرأ على إعلان نفسه عيدا للخصب، أو نيروزا كامل الاشتعال، حيث ينشغل إعلام النظام وأبواقه بحصر الحدث في عيد الأم العربي، ليس رفعا لقيمة الأم، أو اهتماما بها، بل لحصر الاحتفال بحدث واحد، لا يُسمح لأحد بالاحتفال بغيره.
لم يكن يوم السادس والعشرين من آذار قادرا على الاستمرار بإحياء ذكرى وفاة سلطان باشا الأطرش، قائد الثوة السورية الكبرى عام 1925 والرمز الممثل للوحدة الوطنية والإرادة الشعبية المقاومة للاحتلال، حيث قام نظام الأسد، ضمن سياسته الممنهجة في طمس وتغييب كل الأسماء الوطنية، بل ومحوها من الذاكرة الشعبية، بمنع الاحتفال بهذه المناسبة تحت قوة الرصاص.
لم يصبح لآذار نبض حياة قبل 2011، ولم نعرف، نحن السوريين، معنى الولادة والانبثاق والحقوق والحرية قبل هذا التاريخ.
بعد انطلاق ثورة الحرية في آذار 2011، احتفلنا بها في 15 أو 18 من هذا الشهر، صار لعيد المرأة وقع آخر، أدركته النساء السوريات، عندما أدركن أن لهن أصواتا لم يسمعنها من قبل، وعندما عرفن أنهن قادرات، على الرغم من حجم الموت الهائل الذي يحيط بهن اليوم، على منح الحياة لكل من حولهن في أصعب الظروف، وأشدها تعقيدا.
بعد الثورة، وعلى الرغم من كل اليأس الذي أحدثه، وما يزال، إنكار العالم إبادة الحياة التي يتعرّض لها السوري اليوم، صار الربيع يتفجّر في الواحد والعشرين من آذار، ويتدفق من قلوب السوريين وأغنياتهم علانية، ومن دون أي قيود، وعاد نيروز ليشتعل على قمم أرواحنا التي طاولت السماء، فيطلق للعالم شارة البدء من جديد. وعاد الكردي ليصدح على أنغام بزقه، وبقصائد ترتدي كلماته وتزهو بها.
بعد آذار الثورة، استعاد السوريون تاريخهم، ونفضوا عن أسماء رجالاتهم رماد سنين الأسد، ليستعيدوا وجوههم القديمة الجميلة، ويلقوا عنهم تلك الأقنعة التي يصرّ العالم أن يُلبسهم إياها اليوم، ليراهم شعبا كاملا من الإرهابيين والقتلة، فيبرر لنفسه السماح للأسد بقتلهم جميعا.
لم تكن الثورة وحدها من وُلد في آذار، فقد وُلدنا جميعا من جديد، حين سمعنا أول مرة صراخنا، ونحن نستنشق أنفاس الحرية الأولى.
اليوم، وعناداً بالموت والدمار والمجازر.. وعلى الرغم من سقوط كل شعارات العالم الإنسانية الجوفاء، نحتفل مع الثورة بعيدنا السابع، نحتفل بأنفسنا، بسوريتنا، بانتصارنا على هذا العالم، فقط بأننا لم نمت بعد كما يشتهي. نحتفل بتجدد النسغ فينا، وإطلاقنا عصيانا مفتوحا ضد الظلم والاستبداد.
هذا الـ "آذار" وكل آذار.. سنحتفل بأننا وثورتنا.. أحياء.
قبل الثورة السورية كنت– وعلى مدى عامين– أكتب في جريدة «الثورة» مقالاً في الأسبوع، وكنت أتناول مواضيع اجتماعية، خصوصاً تلك المتعلقة بالتخلف والفساد، أو عرضاً لكتب استوقفتني بأهميتها. كنت أحب أن يكون لي منبر في إحدى صحف وطني الحبيب سورية وأن يقرأ الناس ما أكتب. وبعد اندلاع الثورة السورية رفضت جريدة «الثورة» نشر مقال لي كنت أتحدث فيه عن العار في إقامة احتفالات وتشييد خيم احتفالية في مركز اللاذقية، وإحضار مكبرات صوت عملاقة تبث أغاني بصوت كالجعير يسبب الطرش، أغانٍ لم تعد تحرك في النفوس شيئاً مثل «سوريا يا حبيبتي»، ولافتات تحمل شعارات كاذبة وأهمها «خلصت، خلصت، خلصت» والمقصود الثورة التي اعتبرها النظام من اليوم الأول مؤامرة كونية. ولافتة مثل «مهما ارتقى أعداؤك سيدي الرئيس، فإن رؤوسهم لن تلامس نعل حذائك»، في الوقت الذي كان الدم السوري بدأ يسيل بغزارة في شارع الصليبة والطابيات وغيرها. اتجهت للكتابة في جريدتي «السفير» و «الحياة» فكتبت مقالات عدة تسببت لي باستدعاء جهاز أمن الدولة مراراً. ولا أنسى قول ضابط أمن الدولة لي بعد أن احتجزني ساعتين عنده، إنني يجب أن أكون كاتبة وطنية (دوماً يعمد النظام إلى سياسة التخوين وتشكيك الناس بوطنيتهم) وبأنه من المعيب أن أكتب مقالات أشبه بنشر الغسيل الوسخ. فقلت له يومها إن الكتابة تعني لي تحديداً نشر الغسيل الوسخ.
أحب أن أستعيد بعض المقالات التي رفضت جريدة «الثورة» نشرها لي (طبعاً قبل بداية الثورة). فمرة كتبت عن فساد الجهاز الطبي، خصوصاً التابع للجيش (أي أطباء متعاقدين مع الجيش) وكيف كان العديد منهم يتقاضى رشاوى ضخمة من الشبان الذين يريدون الإعفاء من خدمة الجندية وهم في كامل صحتهم، وكنت أعرف طبيب العيون الذي كان يقبض مليون ليرة من الشاب الذي يتهرب من الخدمة العسكرية مقابل أن يكتب له تقريراً بأن لديه درجات حسر بصر وانحراف عالية تُعفيه من خدمة الجيش. وأعرف طبيباً متعاقداً مع الجيش مختصاً في أمراض الهضم، كان يُحضر صوراً شعاعية وتقارير تشريح لمرضى ويُرفقها بإضبارة الشاب الذي يدفع له مبلغاً ضخماً كي يُعفى من العسكرية. فاحت رائحة الفساد في أطباء الجيش، وصار الناس يتناقلون تلك الفضائح، فكتبت عنهم مقالاً رُفض نشره، فالجيش «خط أحمر وكل ما يتعلق به ممنوع التطرق إليه».
ومن جريدة «الثورة» انتقلت إلى وزارة الإعلام، فتطرقت لسوء معاملة مدربات الفتوة للطالبات في المرحلة الإعدادية والثانوية، وكتبت عنهن مقطعاً في روايتي «امرأة من طابقين»، وكيف كن يصرخن بنا حين نردد تحية العلم كببغاوات: أقوى يا حيوانة. ثم نجعر بالروح بالدم نفديك يا رئيس، ونتلقى وابلاً من الشتائم لأن حبال حناجرنا لم تتمزق ونحن نجعر. وكن يعاقبن الطالبات بالزحف مهما كان البرد شديداً والأرض مُبللة بالمطر. فحين فعلت رُفضت روايتي مرتين من قبل لجنه القراءة في اتحاد الكتاب العرب ووزارة الإعلام. واعتقدت أن الرفض سوف يكون لسببين، أولهما أنني تطرقت لانتقاد المؤسسة الدينية التي تزرع فينا أفكاراً رافضة للآخر ومعادية له، والثاني أن ثمة صفحات في الرواية جريئة وتصف العلاقة الجنسية بين الشابة الطموحة التي تريد أن تكون كاتبة وبين كاتب البلاد العجوز المُكرس من قبل النظام، والذي تُقام على شرفه حفلات التكريم، هو الذي كتب عدة روايات في مديح النظام ورأس النظام. ثم تبين لي عن طريق صديقة مخلصة تمكنت من قراءة التقرير حول رفض روايتي، بأنني تعرضت لمدربات الفتوة اللواتي يمثلن حزب البعث، وممنوع المساس بحزب البعث فهو خط أحمر أيضاً. واضطررت بأسى وألم أن أحذف الصفحات المُتعلقة بمدربات الفتوة حتى طُبعت الرواية في سورية. بعدها لم أعد أطبع في سورية مُطلقاً بل في لبنان. ومن حسن حظي أن مجموعتي القصصية «الساقطة» رفض اتحاد الكتاب العرب طباعتها بحجة أنها جريئة جداً، وكان لي الحظ أن أتقدم بتلك المجموعة إلى جائزة أبي القاسم الشابي في تونس وأحصل على الجائزة، من بين 150 مخطوطاً، في 2003.
حرية التعبير عن الرأي الحر معدومة في سورية. فاتحاد الكتاب العرب تحسه فرعاً من فروع الأمن، وقد ظل علي عقلة عرسان يترأسه ربع قرن، وكان أشبه بالبطل الوحيد في المسرحيات التي يقوم ببطولتها ممثل واحد. فكل بداية عام كان يُقام الاجتماع السنوي للكتاب العرب، ويتوافد الكتاب من كل أنحاء سورية ليستمعوا إلى كلامه المنمق لمدة ساعة، ثم ينضم إليه أحد المسؤولين في القيادة القطرية. وينتهي الاجتماع بأن يُصرف لكل كاتب مبلغ تافه بالكاد يكفي أجرة السفر، وكانت أسئلة الكتاب في شكل عام حين يُفتح باب المناقشة تدور حول: تأمين المازوت لهم وضرورة رفع المبلغ المُخصص للضمان الصحي وضرورة رفع التقاعد ومعونة الوفاة. ولم يكن كاتب واحد يمتلك الجرأة ليسأل أسئلة عن حرية التعبير ورفض كل كتاب يحمل فكراً حراً أو منتقداً لنظام القمع. وأذكر أن أحد الكتاب السوريين تحدث بفخر، في عشاء أقامه اتحاد الكتاب على شرف زيارة بعض الكتاب الأردنيين إلى سورية، فقال إنه رأى الرئيس حافظ الأسد في منامه يقول له اكتب، فكتب.
وأنا التي اخترت أن أرجع إلى وطني الحبيب وإلى اللاذقية المُنتهكة كي أكون أقرب إلى شعبي وأكون صوته وضميره وشاهدة عصر، أجد نفس المظاهر تتكرر، وأتأمل الجرائد الرسمية السورية كيف تنشر كل أسبوع صفحة كاملة تضم أكثر من أربعين صورة لشبان استشهدوا، أحس بالاختناق ونظري يزوغ في تأمل تلك الوجوه النضرة الشابة المُبتسمة، وكيف زُج بها إلى موت عبثي ومعركة قذرة، ثم هناك الأسطر القليلة المكتوبة تحت كل وجه عن فرح واعتزاز الأهل أو الزوجة أو الأخ بموت أولاده. صفحات من مسرح اللامعقول ومن العطب الفكري، والأهم من الخوف المتشرش في قلوب السوريين.
وأخيراً، لا بد من ذكر تلك الحادثة التي انطبعت كالوشم في ذاكرتي، فحين صُعقت بأنني ممنوعة من السفر إلى البحرين بدعوة من وزيرة الثقافة البحرينية، وقدم لي ضابط الأمن على حدود العريضة السورية قُصاصة مجعدة من ورق بضرورة مراجعة فرع أمن الدولة في دمشق، اتصلت بسيدة تحتل منصباً رفيعاً جداً في النظام وكانت بمثابة أم لي ومن الطائفة المسيحية، لأنها كانت تعتز بأنها مسيحية وابنة عائلة عريقة، ورجوتها أن تتدخل بنفوذها وتلغي منع السفر، لكنها أجابتني بفظاظة: «ليش عم تطولي لسانك وتكتبي مقالات تسيئ للوطن خارج سورية؟»، وقالت لي: «تعالي إلى دمشق، سأرسل شخصاً من مكتبي ليصحبك إلى فرع أمن الدولة في كفرسوسة»، ثم أغلقت السماعة بوجهي. وعدت إلى اللاذقية مذهولة. نصحني أحد الأصدقاء أن أتصل بسيدة أخرى تحتل منصباً رفيعاً في النظام (وليست مسيحية) إذ الكثيرون من الناس يعتقدون بأن كل مسؤول يساعد أبناء طائفته ويدافع عنهم، وعلى رغم أنني لم ألتق بها أبداً في شكل شخصي فقد استمعت إلي بكل احترام واعتذرت نيابة عن تصرفات أجهزة الأمن بحق المثقفين، وألغت لي قرار منع السفر وسافرت إلى البحرين. ولم تقبل تلك السيدة الراقية أن أشكرها حتى، وقالت لي: هذا واجبي، مهمتي حماية المثقفين.
أتمنى لو أستطيع نشر مقالات لي في جرائد وطني سورية، لكن النظام لا يزال كقبضة حديد تخنق كل صوت حر، بينما إعلام النظام يتبجح بضرورة عودة المعارضين الشرفاء إلى سورية (وطبعاً وحدة قياس الشرف لدى النظام هو النظام نفسه) وبضرورة الحوار وأهمية الحل السياسي. والكل يعلم أن هذه التصريحات نفاق بنفاق. ترى أي عار ألاّ يتمكن كتّاب سورية الشرفاء وأصحاب كلمة الحق الشجاعة من نشر مقالاتهم في صحف سورية؟
متى سيحررنا الحق، والحق، كما قال السيد المسيح، يحرركم.
بعد فوز "فلاديمير بوتين" في الانتاخبات الرئاسية في 18 من شهر آذار/مارس الجاري، تلك النتيجة التي كانت معروفة قبل الاعلان عنها، باتت الساحة السورية أرض خصبة لن تتنازل عنها موسكو مدى الحياة، لاسيما بعد أن دخلت روسيا في استثمارات كبيرة مع نظام الأسد، الأمر الذي يضمن لها أن تحصي خسارتها المادية في المجال العسكري.
فبالرغم من أن بوتين خصص مبلغ 324 مليار دولار لبرنامج تسليح "وزارة الدفاع" للفترة 2018-2027، إلا أن قراره لم يكن إلا بعد ان اضطلعت روسيا باستثمارات كبيرة في البنية التحتية للطاقة والموارد الطبيعية في سوريا عام 2017.
فقد وقعت شركة "إيفرو بوليس" اتفاقاً في مجال الطاقة مع نظام الأسد، بينما عقدت "سترويترانسغاز" صفقة حول التنقيب عن الفوسفات، اضافة الى توقيع موسكو لاتفاقية مع نظام الأسد حول التعاون في مجال الطاقة في سوريا في شهر أيلول/ سبتمبر لماضي، ناهيك عن دخولها في اعادة إنشاء البنية التحتية للاتصالات في سوريا.
وفي خضم تلك الاتفاقيات الى جانب الأهمية الجيوستراتيجية، فقد تعامل بوتين مع الأزمة الاقتصادية لبلاده بسبب التدخل العسكري في سوريا بذكاء، بعد أن وجد موارد بديلة لتغطية التراجع الاقتصادي لبلاده، فلم تضع ثلث موار موسكو التي خصصها لوزارة الدفاع التي تورطت في الحرب السورية، وبات ذاك التدخل العسكري مكسباً طويل المدى بدل أن يكون خسارة على موسكو.
موسكو التي ادعت خروج قواتها العسكرية من سوريا في منتصف العام الماضي، لم تفي بأي من تلك التصريحات الكاذبة، وأصبح لوجودها العسكري في سوريا دور كبير في استعادة ما خسرته من أموال، ناهيك عن دور تلك الحملة العسكرية التي بدأت منذ سبتمبر 2015، في اثبات مكانتها السياسية التي كانت واضحة في الكثير من الاتفاقات والتشاورات التي دخلت فيها روسيا وسيطاً، سواء بين تركيا وايران أو بين النظام والمعارضة السورية التي فوضت تركيا بالتفاوض عنها مع الروس، لتتوصل في النهاية الى تحجيم الدور الامريكي في الحرب السوريا وتأخذ دروها المحوري في السيطرة على تلك المنطقة.
نحن في سباق ماراثوني بين تصعيد خطابي أميركي من جهة، وزحف إيراني على أرض الواقع في سوريا للسيطرة على مساحات أكبر من جهة أخرى، والمهلة 60 يوماً.
عيّن الرئيس ترمب مايك بومبيو وزيراً للخارجية خلفاً لتيلرسون، وباقٍ على المهلة التي منحها ترمب للكونغرس والحلفاء الأوروبيين لتعديل الاتفاق النووي 60 يوماً، إذ ستنتهي المهلة في منتصف شهر مايو (أيار)، حيث أعلن ترمب في الثالث عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، العام الماضي، استراتيجيته تجاه إيران، التي طالَب فيها بإجراء تعديلات على الاتفاق النووي الذي وصفه بأسوأ اتفاق، وطلب وقف برنامج إيران الصاروخي، ووقف تدخلها وتمددها في الدول العربية وتهديدها للأمن الإقليمي، والباقي من زمن المهلة التي منحها ترمب 60 يوماً.
منذ ذلك التاريخ وإيران في سباق مع الزمن لزيادة رقعة تمدد نفوذها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، كي تأخذ أكثر مما تحتاج إليه من أجل أن تفاوض بعد الستين يوماً، للإبقاء على ما تحتاج إليه في منطقة الشرق الأوسط الجديد، حيث زادت إيران من أنشطتها الشيطانية والتخريبية، كما يصفها طاقم الإدارة الأميركية في المنطقة، وتعتمد في ذلك على علاقاتها مع نظام الأسد وحلفائها في الحكومة العراقية، فطلبت من قاسم سليماني فتح معبر بري ثالث عبر الأراضي العراقية يربط بين إيران والبحر الأبيض المتوسط يمر هذه المرة عبر محافظة الأنبار، لمساعدة حلفائها في سوريا ولبنان، فجمع سليماني قادة من الحشد الشعبي ومن «حزب الله» للتنسيق لفتح هذه المعابر، وتجري إيران الآن عملية تهجير قسرية للمدن السورية والعراقية التي يُراد أن تكون طريقاً يصل بإيران للبحر الأبيض المتوسط، ومن تلك المدن الغوطة الشرقية... تعمل إيران الآن بالتعاون مع نظام الأسد وبغطاء روسي على إخلاء هذه المدينة من سكانها وإحلال الميليشيات الشيعية المرتزقة مكانها.
في الوقت ذاته، تعمل إيران على تعزيز خمسة قطاعات عسكرية بقوات يصل عددها إلى 75 ألف مقاتل لبناني وعراقي وأفغاني بالتعاون مع 10 آلاف جندي، وضابط من الحرس الثوري الإيراني. لم تكتفِ إيران بالتمدد في القطاع الشمالي، إنما تمددها لمحاذاة الحدود الإسرائيلية السورية يتحدى التهديدات الإسرائيلية بتزويد قواتها بصواريخ باليستية، وأسلحة ثقيلة مضادة للطائرات، حتى ليبدو أن المواجهة، التي جرت قبل شهر، لن تكون الأخيرة، وإسرائيل تصرح بأنها لن تسكت أكثر من ذلك على اقتراب إيران من حدودها (المصدر «المرصد الاستراتيجي»).
زيارة وزير الخارجية الفرنسي لإيران حملت رسالة للملالي هناك، مفادها أن صبر أوروبا قد نفد، وموقفها أصبح محرجاً أمام الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وأنها قد تنضم للموقف الأميركي تجاه الصواريخ والتمدد الإيراني، مما حدا بخامنئي إلى الإيعاز لخطيب الجمعة في طهران بأن ينقل الرد على لسانه فقال إن «وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي زار طهران يوم الخامس من مارس (آذار) الحالي تلقّى الرد المناسب بشأن البرنامج الصاروخي».
وأضاف أنه «من الخطأ أن يقول وزير الخارجية الفرنسي إنه يجب أن تأخذوا الإذن منّا في القضايا الإقليمية. إن قائد الثورة أكد أن منطقتنا لا علاقة لها بهم، وفي هذا الإطار لم نسمح لأحد إلى الآن بالتدخل، ومن الآن فصاعداً لن نسمح بإثارة الفتن، ووجود أميركا في المنطقة هو من أجل إثارة الفتن»، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة «تسنيم» الدولية للأنباء، الذراع الإعلامية لـ«فيلق القدس» في «الحرس الثوري».
على الجانب الآخر، لا يبدو أن التحركات الأميركية على الأرض؛ سواء في سوريا أو اليمن، تتناسب مع وتيرة التحركات الإيرانية، ولا تتناسب حتى مع زيادة جرعة تصريحات المسؤولين الأميركيين، وآخرهم هربرت ماكماستر مستشار الأمن القومي الأميركي، الذي وصف ما يقوم به الأسد من مساعدة إيران بـ«جرائم حرب»، وأن إيران ساعدت وكلاءها بـ16 مليار دولار، فما السرّ وراء تباطؤ الولايات المتحدة للرد على إيران؟ وكيف سيكون الردّ؟ وهل سيكتفي بالعقوبات البطيئة؟ وهل تأخرت الولايات المتحدة لأنها تعمل على تأهيل المنطقة قبل حدوث الصدام الذي تشير أغلب التكهنات إلى أنه سيكون إسرائيلياً إيرانياً على الأراضي السورية؟
هل حمل وزير الخارجية الفرنسي الإنذار الأخير لإيران؟ هل إزاحة تيلرسون المتهاون إيرانياً، الذي يرى في الاتفاق النووي اتفاقاً «معقولاً»، قبل انتهاء المهلة لها دلالاتها؟ وتعيين بومبيو الذي يرى هو ووزير الدفاع جيمس ماتيس بأن الأمن الدولي لا الإقليمي مهدَّد بسبب أنشطة إيران له دلالاته؟ جميع هذه الأسئلة ستتحدد أجوبتها في الشهرين المقبلين.