الانسحاب الأميركي وعملية تدوير الحرب في سوريا بعد داعش
واشنطن التي تعلن عن نيتها الخروج من سوريا، تتجه إلى ترك الكرة في الملعب السوري، وهذه الكرة الملتهبة بالأزمات، تراهن واشنطن على أنها ستحرق تلك الدول التي تسيطر على قطع الجبنة السورية.
التسوية السياسية في سوريا تطوي صفحاتها الأخيرة، بعدما أظهرت القوى الإقليمية والدولية موقفا ضد التغيير السياسي في هذا البلد، لصالح مشروع تقاسم النفوذ على الأرض السورية، بانتظار التوصل إلى خارطة سياسية واستراتيجية، تلبي مصالح خارجية، وبعد ذلك قد يشكل مستقبل النظام السياسي عنوانا للبحث ومجالا لإسقاط الحسابات والمصالح الإقليمية على معادلة السلطة والحكم.
معركة الغوطة الأخيرة أفضت إلى إخراج الفصائل المسلحة المعارضة إلى الشمال السوري باتفاقات فرضتها روسيا، ووافقت تركيا عليها عمليا، ولم تحرك الجامعة العربية ساكنا حيال التدمير الممنهج للجغرافيا والديمغرافيا السورية، فيما بدت واشنطن مراقبا عن بعد، بل أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في خطوة مفاجئة الاستعداد للانسحاب من سوريا، بعدما شاعت التحليلات التي عززتها المواقف الرسمية الأميركية إلى أنّ واشنطن رسخت وجوداً عسكريا لها في سوريا إلى أجل بعيد.
المشهد الإقليمي والدولي في سوريا، مستقر لجهة رسم خارطة النفوذ بمرجعية روسية تظلل الدور الإيراني، وتدير التباين الإيراني الإسرائيلي بما يوفر الهدوء في الجنوب السوري، وتقدم هذه المرجعية نفسها باعتبارها الطرف الذي يقرر في المعادلة السورية، في محاولة لفتح الباب واسعا لإجراء حوار مع واشنطن لا تبدو الأخيرة مهتمة بإجرائه، كما توحي الإجراءات الأميركية والموقف الأخير للرئيس ترامب الذي وإن انطوى على إعلان انسحاب من سوريا، إلا أنه يتضمن رسالة تهديد بأن واشنطن غير معنية وعلى الدول المنخرطة في الأزمة السورية أن تنجز الحلول في هذا البلد.
ليس خافيا أن الدول هذه التي أشار إليها ترامب، وفي مقدمتها روسيا، وإيران ثانيا وتركيا ثالثا، وعلى الرغم من تفاهم الحد الأدنى في ما بينها، تدرك أن أي اتفاق بينها يتطلب دورا أميركيا محوريا في المعادلة السورية، ذلك أن روسيا كما إيران، لا تخوضان مواجهة تثبيت نفوذ في سوريا فحسب، بل تسعى كل منهما إلى استخدام الورقة السورية على طاولة المفاوضات مع واشنطن.
فإيران تدرك أن ملفها النووي، الذي بات على رأس اهتمامات إدارة ترامب وفريقه المعادي لها، لا يعطي لنفوذها السوري أي معنى استراتيجي إن لم يكن له فعل تغيير في الموقف الأميركي والدولي من هذا الملف الذي بات شائكا ومعقدا بعدما أعلنت واشنطن الحرب عليه. أما روسيا التي تمسك بأوراق قوة في المعادلة السورية بقرار إقليمي ودولي، فتبدو مستعجلة لتسييل هذه الأوراق في علاقاتها الدولية، فيما المشهد الدولي ولا سيما الأميركي والأوروبي يبدو تصعيديا تجاه روسيا مع بدء طرد الدبلوماسيين الروس من أكثر من دولة أوروبية على خلفية محاولة قتل الجاسوس الروسي في بريطانيا قبل نحو أسبوعين.
الخلاصة أن المكاسب التي حصلتها روسيا في سوريا، لا تبدو أنها تسيل لعاب الأميركيين ولا الأوروبيين، بما يوفر لموسكو فرص فرض مطالبها سواء في محيطها الأوروبي أو على مستوى الحد من العقوبات التي باتت تثقل على الاقتصاد الروسي.
تستضيف تركيا الرئيس الإيراني في اليومين المقبلين، تمهيدا لقمة ثلاثية يفترض أن تجمع قادة روسيا وإيران وروسيا، سيشكل الملف السوري عنوانا رئيسيا لها، ومؤتمر سوتشي أحد ملفاتها. تركيا التي دخلت لعبة مقايضات على حساب المعارضة السورية، باتت حذرة حيال أمنها وهو ما يفرض على قيادتها تقديم المصالح التركية على ما عداها، بينما تبدو الفصائل السورية المعارضة عاجزة عن تحقيق أي تقدم عسكري أو سياسي، لتبدو تركيا أمام مزيد من التسليم بتراجع دور المعارضة وحصر دورها في الحدود الشمالية لسوريا التي تلبي المصالح التركية في ما يتصل بالشأن الكردي.
يبقى أنّ واشنطن التي تعلن عن نيتها الخروج من سوريا، تتجه إلى ترك الكرة في الملعب السوري، وهذه الكرة الملتهبة بالأزمات، تراهن واشنطن على أنها ستحرق تلك الدول التي تسيطر على قطع الجبنة السورية.
مؤشرات الأزمة السورية تسيطر على المشهد، فالحلول بعيدة ولا أحد متفائل بحل في المدى المنظور، وهذا ما يطرح التساؤلات حول مصالح روسيا وإيران وتركيا من بقاء سوريا ملعبا تتقاذف كرة النار فيه هذه الدول، ذلك أنه مع انتهاء داعش ثمة وقائع سياسية وديمغرافية ستفرض نفسها في المرحلة المقبلة، تتصل بوحدة سوريا أو تقسيمها، بإعادة البناء وقاعدة التفاهم التي يمكن أن تجمع هذا المثلث لا سيما في ما يتصل بموقع تركيا بين حلف الناتو وروسيا. وهي أسئلة لا يمكن تقديم إجابات عليها، بل قد تبدو الرمال السورية لها وجوه متعددة تحركها، ليس داعش وجهها الأبرز، بل يبدو التلويح الأميركي بالانسحاب وجها جديدا من وجوه الرمال المتحركة، بما يؤكد أن الأميركيين يصرون على السير باستراتيجية الاستنزاف ليس للدول الثلاث الباحثة عن صيغ قابلة لإدارة الصراع بأقل الأكلاف الممكنة، بل ثمّة إصرار أميركي على مراقبة عملية تدوير عناصر الحرب ومكوناتها الخارجية في سوريا لإنتاج أشكال جديدة من الحروب.