سيطر الهياج الفكري يوم أمس ، بعد انتشار صور لنسوة قيل أنهم من “منبج” خرجوا من سواد داعش إلى صفار قوات سوريا الديمقراطية، وعمت حالة الفرح بانتزاع الجلباب و حرقه ، ومُلئت الأعين بدموع الفرح من صور الأحضان التي تم تبادلها أمام عدسات الكميرا التي نقلت مشاهد الحرية ، لخصتها ببرقع تم نزعه و “سيجارة” تم اشعالها، في الوقت الذي كانت فيه ذاتهكانتالذراع الأمنيلنفس القوات، التي نشرت الحرية في منبج، تقوم باعتقالإبراهيم برورئيسالمجلسالوطنيالكرديأثناءوجودهفيوسطمدينةالقامشلي،فهذا النوع من الحرية ممنوع ، فكل ماهو مطلوب التغير الكامل و الشامل في بنية الشعب سواء أكان من الناحية القومية أم الايدلوجية، فالديمقراطية يعني لفظ الأفكار الاسلامية و استقطاب أفكار الديمقراطية و الحرية بالمظاهر الخارجية فقط.
الفرح ، السرور ، الابتهاج ، لمعان العيون ، مشاعر اجتاحت السواد الأعظم من متطلعي الحرية ، ليقينهم أنه تم التخلص من الفكر السوادي الذي لايتناسب البتة مع البيئة السورية التي تملك هويتها الخاصة، التي لايمكن أن تكون سوداء، و لكن في الوقت ذاته لايمكن اعتبار التخلص من السواد الداعشي شيء ايجابي اذا ما أيقنا أن الصفار القادم ليس بأفضل منه ، فذلك يدعو للوأد في الحياة و الخنوع التابع لرغبة الخليفة و الأولياء، هذا يدعو للانفلات الخارجي و الخضوع التام لرغبات الطموحات الاسطورية بدولة أمنية تقتل أبنائها و تطردهم اذا ما خالفوا رغبة “القائد”.
لخصت البروبغندا يوم أمس كل ما حدث في منبج ، أنه صراع جلباب و سيكارة تشعل و قهقهة أمام الكميرات، و جز لحية و ابتسامة عريضة من وجوه كانت بين فكي الموت، ولا تملك خيار إلا الموت، و اذا ما هَمّشتُ فكرة التلاعب بالصور و استخدام الممثلين و الكومبرس (رغم حتمية الأمر وفق دلائل علمية و عملية)، فان المشهد الذي تم اختزاله هو في غاية السوء ، و يبشر أن التغيير ليس يهدف إلى زج هذه القومية أو تلك في مناطق ليست بمناطقها و الغاء أسماء المدن ووضع أسماء “خزعبلية” ، فالأمر يسير إلى انهاء الهوية ككل ، و الغاء البيئة السورية السمحة الوسطية ، لكن المنضبطة الغير متفلتة، فلا النقاب و الجلباب الأسود هويتنا، لا التعري و نزع الحجاب هو من صلب عرفنا إذا ما أردنا ابعاد الدين عن النقاش رغم أولويته.
فالتغير بالبنية السورية بتحويل التركيز إلى الأجساد و الغاء الأفكار هو في غاية الخطورة ، و يعيدنا إلى استبداد من نوع جديد ، اذ كانت السيطرة في الماضي تقتضي من الحاكم تحويل التركيز من العقول إلى الأمعاء، اليوم نحن أمام الانتقال من الأفكار إلى الغرائز.
اليوم نشهد صراع على أشده، ضمن نقاش: هل لك أن تفرض الحجاب أو تفرض نزعه!؟
في حين تابعنا جميعاً ما قالته الصحفية في السي ان ان أمام مجلس الأمن، و التي كانت في سوريا و لبست الحجاب السوري، و لم تمتعض و لم تعترض على البيئة بل احترمتها، كما أنها لم تقل أن المشكلة في الحجاب ، و إنما ركزت على أمر وحيد أن الشعب يريد أن يحظى بفرصة للعيش و يتبادل الأفكارو ليس نزع الحجاب.
بين الفرح بنزع الجلباب و السكوت عن اعتقال “برو” يتلخص المشهد كله في أننا أمام معضلة في العقيدة التي ستحكم المستقبل ، والتي ستضرب اسس تعتبر من صلب الدين و العادة و العرف و التقاليد، بالتالي البنية العامة للشعب السوري.
بشّر رئيس الوزراء التركي، بنعلي يلدريم، بأن أنباء "جميلة" عن سورية سوف ترد في القريب. وجاء هذا التصريح بعد عودة الرئيس، رجب طيب أردوغان، من اجتماعاته مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في بطرسبرغ، ومع توارد أنباء عن توجه رئيس الاستخبارات التركية، حقّان فيدان، إلى موسكو، لاستكمال المباحثات مع الروس في جانبها الأمني. وتتسم تصريحات يلدريم بخصوص الوضع الإقليمي بطابع التفاؤل المفرط (ربما للتدليل على أن عهد حكومته سوف يتسم بصفر مشاكل، وهو الشعار الذي رفعه رئيس الحكومة السابق، أحمد داود أوغلو، من دون أن يتيسر له تطبيقه، وها قد جاء البديل يلدريم ليضعه موضع التنفيذ).
لم يرشح عن قمة أردوغان وبوتين أي شيء بخصوص الوضع السوري، غير أن ما تلاها بات يوحي بأن الطرفين في سبيلهما إلى تضييق الخلافات. في هذه الأثناء، كانت القوات الروسية تواصل دعمها حكومة دمشق، وتقصف منشآت مدنية، آخرها حتى كتابة هذه السطور، كنيسة في إدلب، فيما كانت "الحكومة الشرعية " في دمشق تستخدم الغازات السامة ضد المدنيين في أحياء حلب الشرقية، وفيما كان وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، يقلد في حلب أوسمةً لأفراد مليشياتٍ، مكافأة لها على تشديد الخناق على الأحياء المحاصرة.
تثير هذه التطورات المتسارعة تساؤلات، كما تثير الفضول، حول ما يجري ترتيبه. التساؤل الأبرز: هل ستستعيض موسكو عن الجهد الثنائي مع واشنطن، بإقامة ترتيبات ثنائية مع أنقرة؟ لا شيء ينفي ذلك، فواشنطن تنوء بعبء الملف السوري، من دون أن تبذل جهداً يذكر لوقف المجازر في هذا البلد، وبعد أن اختزلت الوضع المعقد هناك وتصويره على أنه يقتصر على خطورة تنظيم داعش، مع إغماض العينين عن بقية جوانب المشهد، وبالذات الوجود الإيراني ووجود المليشيات الدائرة في فلك إيران.. وفي وقتٍ تتوتر فيه العلاقات التركية الأميركية، ويبدو مصير قاعدة إنجيرليك غامضاً مع اتهاماتٍ لجنرالات في القاعدة بالمشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة. والراجح أن واشنطن سوف تركز زاوية النظر على انعكاسات التفاهمات التركية الروسية على الحرب ضد داعش، علماً بأن موسكو لم تمنح الحرب على داعش أية أولوية مقارنة بجهودها "الطيبة" المثابرة والمحمومة في استهداف المدنيين والمنشآت المدنية.
وفي أجواء اهتزاز الثقة بين واشنطن وأنقرة، ونزوع موسكو إلى الانفراد بإدارة الملف، بما في ذلك المشاركة المباشرة في الحرب ضد المعارضة وضد المدنيين، فإن على واشنطن أن تجني ثمار سياستها المشلولة، واستتباعها لموسكو، وابتعادها عن شركائها في مجموعة أصدقاء سورية، وتلك ربما خاتمة طبيعية مع انقضاء ولاية الرئيس، باراك أوباما، الذي يستحق أن يوصف بأنه كبير المتفرجين على المأساة السورية، فقد تم استدراج واشنطن إلى الصمت على المشاركة الروسية في الحرب، ولتزكية موسكو بأنها اللاعب الأول وصاحبة القرار، على الرغم من أن الأمر تم من وراء ظهر المجتمع الدولي ودول الإقليم، وبالضد من إرادة الشعب السوري. وبينما لم تتوقف موسكو عن استهداف المدنيين بصورة وحشية، فإن قصفها الإعلامي والدبلوماسي ضد الإرهاب لم يتوقف ساعة، وقد أثبتت إدارة أوباما أن صبرها بلا حدود، وأنه ليس لديها ما تفعله سوى مراقبة الوضع عن كثب (!).
تثير التطورات التركية الروسية التساؤل بشأن الدور الإيراني، وحيث التزمت طهران الصمت حيال قمة بوتين أردوغان. تخوض إيران الحرب في سورية، عبر الحرس الثوري ومليشيات حزب الله والحشد الشيعي ومليشيات الأفغان والباكستانيين الذين يساقون إلى الحرب عنوة. ترفض طهران كل مرجعية دولية، وتعتبر كل المعارضين السوريين إرهابيين، وتتمسك بخياراتٍ قصوى، تتمثل في سحق المعارضة السورية، وجلب كل السوريين إلى بيت الطاعة. وبينما تلتقي طهران مع موسكو، في عقيدةٍ عسكريةٍ واحدةٍ، هي التطهير العرقي والديني، وإلى إشعار آخر، فإن موسكو ترغب في اجتذاب أطراف مؤيدة لسياستها، وتقبل لفظياً بالمرجعية الدولية للتسوية السورية، وتدفع إلى أن يُجدّد النظام في دمشق نفسه بنفسه إلى التكيف مع مقتضيات التسوية، فيما ترى طهران أن لا شيء في دمشق يستحق التغيير والمراجعة، وأن الحكم هناك لا يأتيه الباطل في كل ما يرتئيه وينفذه، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. وعليه، من المتوقع أن تسعى موسكو إلى تشجيع اتصالات تركية إيرانية من أجل كسر الستاتيك القائم، وإعادة اكتشاف المصالح المشتركة، ومنها الحرب على الحركة الكردية، وتنشيط المبادلات التجارية بأعلى أرقام ممكنة، غير أن أية اتصالات تركية إيرانية ستكون مرهونةً باتضاح أفق التفاهم الروسي التركي حول سورية. وبخبرة التجارب السابقة، لن تكون طهران مستعدةً للتراجع خطوة واحدة سوى مقابل تراجع أنقرة خطوتين إلى الوراء. الخشية في هذه الظروف أن تقود النزعة التصالحية المفرطة لدى أنقرة، ورهاب الانقلاب، إلى خطواتٍ متسرعةٍ تزيد في تعقيد الوضع السوري، تماما كما أن التدخل الروسي زاد الوضع تعقيداً، وضاعف من المحنة التي يتجرّعها ملايين السوريين.
وإلى إيران وأميركا، هناك بقية الأطراف ذات العلاقة بالملف السوري، ومنها على الخصوص أطرافٌ خليجيةٌ ترتبط بتفاهات استراتيجية مع أنقرة. وليس معلوماً ما إذا كانت أنقرة قد وضعت هذه الأطراف، وفي وقتٍ مناسب، في صورة التطورات الجارية، وما إذا كانت قد نسقت معها لعبور مرحلة جديدة، أم أن الأمر يقتصر فقط على "مبادرة" تركية قد تضع الأصدقاء أمام الأمر الواقع، مع ما لذلك من تداعيات.
ومن هذه الأطراف المعنية أيضاً مجموعة أصدقاء سورية، من فرنسا إلى بريطانيا، إلى الأردن ودول أخرى، علماً بأن التواصل التركي مع هذه الدول ضعيف، وقد زادت التطورات التركية الداخلية في تباعد المواقف. كيف مثلاً لبلدٍ، مثل الأردن، أن يقبل بأي حل للأزمة السورية لا يضمن عودة أكثر من مليون لاجئ سوري يقيمون على أراضيه، ويشكلون ضغطاً على ميزانيته التي تنوء بالأعباء؟.
لا يجانب الصوابَ مسؤولون غربيون لدى قولهم إن مفتاح الحل يكمن في "جيب" شخص واحد، هو الرئيس فلاديمير بوتين، نظرا للتأثير الكاسح الذي يمتلكه على نظام البراميل المتفجرة في دمشق، غير أن أي حلٍ لن يقيض له النجاح، ما لم يستند إلى المرجعية الدولية وأحكام القانون الدولي، وإلى تطلعات السوريين نحو نظام تعدّدي ديمقراطي، تحكمه سيادة القانون، لا سلطة الغاب، فالسوريون كانوا وسيبقون الرقم الأصعب والأقوى في المعادلة، والذي يستحيل تجاوزه.
بعد هجوم مباغت، نجح جيش الفتح، بالتعاون مع غرفة علميات فتح حلب، في إحداث ثغرة هامة في طوق الحصار المحكم المفروض على مدينة حلب منذ أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز). ومثّل هذا الهجوم نقطة فارقة في مسار الحرب السورية، بعد التدخل الروسي الذي غير معادلات الصراع، وأضفى بعدا مغايرا في تفاعلاته الدوليّة لصالح النظام وحلفائه. تناولت مقالات عدة أهمية المعركة الأخيرة للمعارضة السوريّة، لكنّ قليلاً منها ركز على تداعياتها على النظام واستراتيجيته، لا سيما وأنها كانت أول خسارة حقيقية للنظام في حلب منذ يوليو/ تموز 2012.
لا تخفى على مراقب الأهمية الاستراتيجية لمدينة حلب، فعدا عن أنها العاصمة الاقتصاديّة لسوريّة، فإن قربها من الحدود التركيّة أكسبها مكانةً خاصةً في حسابات المعارضة والنظام. على هذا الأساس، كانت حلب حاضرة دائماً في استراتيجية النظام، منذ اندلاع المظاهرات السلمية عام 2011، وقد عمل جاهدا على عزلها عن الحركة الاحتجاجية وتحييدها باستخدام شتى الوسائل القسرية والناعمة. ومع أن المدينة شهدت مظاهراتٍ محدودة، فإنها ظلت عصية، باستثناء أحيائها الطرفية، أمام أي اختراقٍ ثوريّ، وذلك بخلاف أريافها التي احتضنت المظاهرات والعمل المسلح من بعده. ولمّا فشلت كل المحاولات، قرّرت فصائل الريف الشمالي تثوير المدينة، وإدخالها بالقوة في معادلة الثورة، عبر هجوم عسكري، اكتسح نصفها الشرقي في يوليو/ تموز 2012، لكنه توقف على أبواب قلعتها القديمة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت حلب في قائمة أولويات النظام عسكريّاً، لتخوفه من تكرار سيناريو بنغازي إبّان الثورة الليبية على معمر القذافي. وبخلاف تكتيكاته القتالية المتغيرة والمتبدلة، اعتمد النظام فيها استراتيجية عسكريّة احترافية في حلب، مستفيدا من تدخل حزب الله، وأطلق أواخر عام 2013 عملية عسكرية طويلة المدى، سميت "دبيب النمل" هدفت إلى استعادة حلب وريفها بالتدريج، من دون أن يضطر إلى زجِّ أعداد ضخمة من القوات، لتحقيق حسم عسكريّ شامل.
حققت هذه الاستراتيجية نجاحاتٍ مهمة، إذ استطاعت قوات النظام في أكتوبر/ تشرين الأول 2013 السيطرة على بلدة خناصر الاستراتيجية، وفتحت طريق إمدادٍ التفافي، يمر بالأحياء الجنوبية لمدينة حلب (الراموسة) ويصل إلى قسمها الغربي، حيث تتموضع قواته. ولما تحقق له ذلك، بدأ خلال عام 2014 معركة ثانية، استولى فيها على المدينة الصناعية والشيخ نجار، واتخذهما قاعدة للانطلاق شمالاً إلى مناطق المعارضة في باشكوي وحندرات ومخيم حندرات، ليصل بعد عامين إلى طريق الكاستيلو، ويفرض الحصار الكامل على المدينة أواخر يوليو/ تموز 2016. وعلى هامش المعركتين السابقتين، حصلت معركة روسية إيرانية في ريف حلب الشمالي، لم يكن للنظام أي دور حقيقي فيها. فبعد إسقاط تركيا مقاتلة روسية، في نوفمبر/ تشرين الأول 2015، سعت موسكو إلى عقاب تركيا عبر عزلها بشكل كامل عن الشمال السوري. وتقاطعت الأهداف الروسية مع مساعي إيران إلى فك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين. لذلك، زجّت الأخيرة رسميا حرسها الثوري في المعركة إلى جانب المليشيات العراقية والأفغانية، واستثمرت روسيا في قوات الحماية الكردية المعادية لتركيا، وأمنت لها غطاء جوياً مكّنها من السيطرة على بلدة تل رفعت، وكادت تصل إلى أعزاز، لولا التدخل المدفعي المحدود للجيش التركي.
من جهة أخرى، حاولت إيران، بقرار ذاتي خارج حسابات النظام وروسيا، السيطرة على ريف حلب الجنوبيّ، والوصول إلى طريق حلب – دمشق الدولي، بالقرب من مدينة سراقب، والتوغل في محافظة إدلب لفك الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة ذات الأغلبية الشيعية، والقضاء على تجربة جيش الفتح الذي سيطر أوائل عام 2015 على محافظة إدلب، لكنه نجح في الربع الثاني من 2016 في صد الهجوم الإيراني، واستعاد السيطرة على بلدة خان طومان الاستراتيجية، ما كان المرحلة الأولى في فك الحصار عن حلب، فعبر هذا الريف المتصل مع محافظة إدلب، سارت تعزيزات جيش الفتح، لتصل إلى التخوم الجنوبية لحلب، حيث المواقع العسكرية المحصنة (مدرسة الحكمة، كلية المدفعية، الكلية الفنية) والتي تساقطت، الواحدة تلو الأخرى، أمام زخم الهجوم وقوته.
من المبكر لأوانه القول إن معركة حلب غيرت موازين القوى، أو قلبت معادلات الصراع العسكرية والسياسيّة، لكن المؤكد أنها أفشلت استراتيجية "دبيب النمل" الناجحة التي اعتمدها النظام على مدار السنوات الثلاث الماضيّة، وحجّمت النفوذ الإيراني خارج مناطق العاصمة والقلمون، وبعثت رسالة مباشرة إلى روسيا مؤداها: استحالة إنهاء الصراع عسكريّاً لصالحها.
أصدق جملة أو حكمة قيلت خلال القرن العشرين المنصرم، هي تلك العبارة التي قالها الممثل نهاد قلعي ولقبه حسني البورظان، والعبارة هي: «إذا أردنا أن نعرف ماذا يحصل في إيطاليا فعلينا أن نعرف ماذا يحصل في البرازيل».
يومها كانت العبارة تحمل احتمالين؛ إما أن كاتبها أوردها لأجل الضحك والكوميديا المجردة من كل النوايا، وإما أن الغطاء مكشوف عن بصيرته للدرجة التي أصبحت العبارة في القرن التالي أي الحادي والعشرين، من أساسيات حياتنا.
ومثال على ذلك، فإذا أردنا أن نعرف ماذا يحصل اليوم في حلب السورية، فعلينا أن نعرف ماذا حصل في اجتماع الرئيسين أردوغان وبوتين، بعيداً عن التصريحات الإعلامية المعدة سلفاً، مثل عبارات: «التعاون المشترك والعلاقات الاستراتيجية والمصير الواحد وتحسين العلاقات بين البلدين والرؤية المشتركة».. كل هذه العبارات لا تسمن ولا تغني من جوع الأطفال في حلب، بل نريد أن نعرف إلامَ توصل الجانبان بعد أن يتم إخراج الصحافيين من القاعة وترضيتهم بكم صورة يأخذونها للرئيسين وهما يبتسمان ويتصافحان؟
على أغلب الظن أن هناك قراراً واحداً مصيرياً سيحدد الوضع، ليس في حلب وحدها، بل وفي كل سوريا، هذا القرار يفسره كل طرف من طرفي الصراع السوري لمصلحته، فالموالون للنظام سيرون فيه خيراً لهم لاعتقادهم بأن حلفاءهم الروس لن يخذولهم، وبالتالي سيرسون بمركب الحل في مينائهم، بينما سيعتقد المعارضون بأن القرار سيكون لمصلحتهم ثقةً منهم بموقف تركيا من المعارضة التي تتخذ من الأراضي التركية ملاذاً آمناً.
وهذا القرار المصيري سيكون معقداً للغاية و«مشربكاً» أكثر من شربكة سماعات هاتف بيد سائق سيارة رن هاتفه فجأة بوجود شرطي مرور أمامه، وسبب تعقيد هذا القرار أنه حتى لو اتفق الرئيسان المجتمعان عليه فلن يكون من السهل تطبيقه، لأن الأمر اليوم بسوريا لم يعد بيد أحد، وهذه حقيقة، هو نوع من أنواع «توازن الخراب»، أي لا تمنح الفرصة لطرف أن ينتصر على طرف آخر، ولا أحد يريد لطرف أن يتغلب على الثاني، ومن باب الفلسفة العسكرية يسمونه «كرّاً وفرّاً»، ولكن في الواقع هو دعم متوازن لكل طرف من الأطراف، كي يبقى الوضع كما هو عليه.
بكل الأحوال، فحلب هي نصف المعركة، وأي طرف يكسبها سيكون كسب نصف سوريا، إلا إذا صحت التصريحات المتعلقة بتقسيم سوريا.
فاتني أن أخبركم بان عبارة حسني البورظان قالها في مسلسل اسمه.. «صح النوم».
هل الشرق الأوسط مهدد بأن يضحى موقًعا وموضًعا لمواجهة نووية سورية أميركية تعيد التذكير بما جرى في أوائل ستينات القرن الماضي في كوبا على نحو خاص٬ بعد محاولة الاتحاد السوفياتي السابق زرع صواريخ ذات رؤوس نووية في الخلفية الجغرافية للأراضي الأميركية؟
يبدو أن الأزمة السورية تتطور لتأخذ بعًدا مقلًقا للغاية٬ كأنه لا يكفي الدماء التي أريقت والآمنين الذين هجروا٬ والمذلة التاريخية للشعب السوري طوال السنوات الخمس الماضية٬ فها هي روسيا تفتح فصلاً جديًدا من تلك المأساة التي تتجلى إرهاصاتها في الآفاق.
الأنباء الواردة في بلاد القياصرة تفيد بأن قاعدة «حميميم» الجوية في ريف دمشق٬ تتحول الآن إلى قاعدة استراتيجية روسية٬ ويجري العمل على قدم وساق لتهيئتها٬ لاستقبال قاذفات استراتيجية روسية ثقيلة قادرة على حمل قنابل نووية.
يتساءل المراقب المحقق والمدقق للمشهد السوري ولتوجهات القيادة الروسية تحديًدا.. هل هذا هو الخيار شمشون لدى بوتين٬ رًدا على تحركات حلف الأطلسي بالقرب من حدود بلاده؟ وإن كان لبوتين ولروسيا مصالح استراتيجية في نقل المعركة القطبية خارج أراضي الروس التاريخية٬ فأي مصلحة للطرف السوري في جعل سوريا قاعدة نووية روسية٬ لا سيما أن الرد الأميركي حال صدقت تلك القراءات لن يتأخر طويلاً؟
من الواضح أننا أمام الفصل الأول من فصول الاتفاقية الروسية السورية٬ وهو فصل دموي وكارثي يبدأ بنشر مجموعة دائمة من القوات الجوية والفضائية الروسية٬ ولا أحد يجزم ماذا بعد.
يؤكد فرانتس كلينتسيفيتش٬ النائب الأول لرئيس مجلس الاتحاد الروسي لشؤون الدفاع والأمن٬ أن موسكو لن تنشر أسلحة نووية وقاذفات ثقيلة في القاعدة بصورة دائمة٬ باعتبار أن ذلك سيتعارض مع الاتفاقات الدولية٬ ويثير انزعاًجا قوًيا لا مفر منه٬ غير أن السؤال؛ ما الفرق بين الانتشار المؤقت والانتشار الدائم؟ المسألة في حقيقتها تلاعب بالكلمات٬ إذ يمكن لروسيا أن تغير طواقم طائراتها٬ بين الحين والآخر٬ غير أنه تبقى هناك وفي كل الأحوال تهديدات نووية٬ من خلال أسلحة محمولة جًوا٬ أو طائرة٬ أو عائمة في البحر٬ في تحايل واضح وفاضح لمعاهدات حظر الانتشار النووي.
المشهد الروسي الأخير في سوريا يتجاوز بمراحل المبررات التي قدمتها للعالم للتدخل العسكري في سوريا٬ ذلك أنها كثيًرا وطويلاً تحدثت عن أنه في حال عدم اتخاذ الإجراءات الضرورية٬ سيصل خطر الإرهاب الهائل لأراضيها أيًضا.
والمتابع لتصريحات بوتين وبقية المسؤولين الروس يرى أن هناك خًطا إعلامًيا وإعلانًيا مشترًكا يهاجم الغرب الذي لا يسعى لمواجهة الإرهاب٬ وعليه٬ فإن روسيا تعمل على تعزيز العلاقات مع اللاعبين الإقليميين٬ وتحديًدا مع سوريا وإيران والعراق.
هذا الحديث في جانب كبير مردود عليه٬ فالجميع وإن وافقوا على حشد الجهود لمواجهة «داعش» والقضاء عليه٬ فإن الأمر لا يبرر تحويل سوريا لخلفية نووية روسية٬ خلفية حكًما وبالضرورة ستجر ويلات مواجهة قد تقود لحرب عالمية نووية لا تبقي ولا تذر٬ ويمكن أن تحدث في لحظة من لحظات انفلات الأعصاب٬ لا سيما في زمن الرؤوس الساخنة التي لا تقوى على التفكير السديد.
مواجهة «داعش» مطلب دولي محبوب ومرغوب٬ لكن هل تلك المواجهة تستدعي توسيع الساحات المخصصة للطائرات الحربية وبناء تحصينات لحماية الطائرات من عمليات قصف محتملة من الأرض والجو؟ وهل لدى «داعش» تلك الإمكانيات في الوقت الحاضر٬ أم أنها استعدادات لملاقاة جنود ونيران الناتو٬ أميركًيا وأوروبًيا؟
الروس يخططون لتزويد القاعدة السورية بأجهزة اتصال إلكترونية حديثة٬ بما في ذلك منظومات خاصة بالتحكم بالحركة الجوية٬ مما يعني أنهم أضحوا أصحاب سيادة على الأرض السورية٬ في انتقاص لا تخطئه العين للسيادة السورية على الأراضي الوطنية٬ كما أن مشروع توسيع قاعدة «حميميم» عطًفا على تخصيص ساحات لهبوط وإقلاع طائرات النقل الثقيلة٬ يشمل أيًضا قيام روسيا ببناء ثكنات ومطاعم جديدة للعسكريين٬ بالإضافة إلى مستشفى ميداني وتجهيز مواقع لنشر منظومات صواريخ «بانتيسر» الحديثة التي ستحمي القاعدة٬ بحسب ما بثته «روسيا اليوم».
المصادر الروسية تعترف بالحقيقة الواضحة كالشمس في ضحاها.. «تحويل قاعدة حميميم إلى قاعدة عسكرية متكاملة لا يستهدف دعم سوريا كحليف لموسكو فحسب٬ بل تعزيز الأمن القومي الروسي».
.. يعن لنا أن نتساءل ما الفارق إذن بين سياسات روسيا الآنية في سوريا٬ والمحاولات الأميركية الدؤوبة في الشرقين الأدنى والأقصى٬ في أفغانستان والعراق؟
الفكر التوسعي البراغماتي واحد٬ بل إننا نشهد فصلاً روسًيا جديًدا من فصول الدوغمائية المطلقة٬ يشابه إلى حد التطابق منطلقات جورج بوش الابن في حروبه الغابرة.
الروس ينظرون اليوم إلى أنفسهم كأنهم رسل العناية الإلهية المنتظرون٬ وعليهم ينعقد خلاص الشرق الأوسط والعالم من الشر الأميركي المستفحل والمسيطر٬ هل من لا يصدق؟
فليسمع هؤلاء ما يقوله ألكسندر دوغين٬ العقل المفكر لفلاديمير بوتين: «الرب سيحمي روسيا الجديدة وشعب روسيا».
هل نحن أمام جمهورية الرب الروسية٬ المكافئ أو المعادل الموضوعي لفكرة أميركا الدينية «مدينة فوق جبل»؟
ليكن ما يكون من أمر اعتقاد الروس أو الأميركان بأنهم «الشعب المختار» الجديد٬ غير أن ما يهمنا قوله هو أن سوريا وقيادتها تخطئ خطأ فادًحا إن أرادت الهروب للأمام على هذا النحو الذي يحرق ويغرق المنطقة٬ التي لا تحتمل أن تكون كوبا جديدة في القرن الحادي والعشرين وفي الشرق الأوسط٬ الذي أضحى «كأس الجحيم» فعلاً وقولاً.
في الوقت الذي تدور في الغرف المكيفة المشاورات و المفاوضات بين الدول المسيطرة على الملف السوري، لايجاد حل يرضى طموحات الجميع ، تسير على الأراضي السورية آلة الدم “الأسدية - الروسية” بشكل حثيث و متصاعد لحصد أكبر قدر من أرواح من تبقى من السوريين ، و كأن الحل بات مرتبطاً بنفاذ السوريين ، فبغير هذه الحالة لا يمكن لأي خطة أن تنجح.
تنقلنا الأخبار بين المؤتمرات الصحفية و اللقاء السرية ، المكالمات الهاتفية ، و جميعها تقول أن الأمور يتم تدارسها و الخرائط يعاد ترتبيها ، و تبعاً لها سيتم اضافة ملفات للنقاش و أخرى سيتم ازالتها من الأجندة ، وجوه ستغيب عن المشهد و أخرى ستحل مكانها لتلعب دور البديل أو الممثل .
و يَعد الساسة بأن الأمور تبشر بالخير فمنهم من حددها بشهر “آب” و منهم من قال أنها خلال الشهور الست القادمة ، مقترحات حول مجالس عسكرية و هيئة انتقالية ، رفض للتقسيم و الفدرلة، حرب على الارهاب و الانفصال ، تعهدات و تعهدات مقابلة، دون أن يتم أي شيء على الأرض أو يتغير شيء.
و اليوم نقف أمام مشهد القتل و الابادة ، الذي لا يمكن الفته أو الاعتياد عليه ، ففي ادلب على سبيل المثال ١٩ منطقة بين قرية و بلدة و مدينة تم قصفها خلال بضع ساعات ، تقاطر الشهداء منها إلى السماء فيما بقي الجرحى تحت رحمة الألم المبرح بانتظار الموت، مع نفاذ امكانية العلاج نتيجة التدمير المنظم لكافة المشافي و المراكز الصحية.
في حين يقف المدنيون في حلب و ريفها على أعتاب السماء بانتظار صاروخ فراغي أو عنقودي ، و قد يكون من النوي الحاوي على الفسفور أو غاز سام كـ”الكلور”، ويقف فاكوا الحصار بحالة تأهب للانطلاق من جديد لايلام من يتسبب بإيلام المدنيين، وحتى من ذكرتهم أخيراً يواجهون طعناً عنيداً من الجميع ، و أقساها الاتهام بالتخاذل أو التراجع ، كأن الهجوم سيكون على حاجز يحوي بضعة دبابات ، في حين ينتظرهم على بعد أمتار قليلة ثلاثة جيوش و عشرات الميليشيات من المرتزقة ، اضافة للعالم بالأسره .
وبين المشهدين تسير عملية تقاسم المصالح على أجساد السوريين ، و على أرواحهم ، من خلال طريق خط بدمائهم و عُبّد بآهاتهم، في ثورة حقيقة ليس على الأسد فحسب بل على أعداء الانسانية.
صدر القرار من موسكو، قبل شهر ونصف الشهر، بمهاجمة حلب ومحاصرتها ومحاولة إعادتها إلى سيطرة نظام مافيا الأسد، وخاض الحرس الثوري الإيراني معارك حلب بكل قوته، معتمداً على المليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية التابعة له، وبعض من تبقى من قوات تابعة لنظام الأسد على الأرض قوة أرضية، وقوى سلاح الجو الروسي بكل ما عرف عنه من قدرة تدمير عالية، وجرأة في قصف المناطق المدنية والأسواق الشعبية والمشافي غطاءً جوياً. وقد استطاعت هذه القوات تحقيق نجاح نسبي، وتمكّنت من إحكام الحصار على المناطق التابعة للمعارضة في حلب، وقطع الطريق الوحيد الذي كان يربط تلك المناطق بالعالم الخارجي (طريق الكاستيللو)، ثم صدرت تصريحاتٌ من وزير الدفاع الروسي، يعلن فيها النصر في حلب، وأن بلاده مستعدة لتأمين خروجٍ آمن للمدنيين من حلب المحاصرة، بينما أعلن بشار الأسد عن استعداده للعفو عن المقاتلين الذين يسلمون أنفسهم وسلاحهم، بتنسيقٍ واضح بين الطرفين، للإيحاء بأن معركة حلب انتهت، وأن خطة الحسم العسكري الروسية في طريقها إلى النجاح، مما سيسمح لروسيا وإيران بفرض الحل السياسي الذي يخدم مصالحهما.
في هذه الأجواء، وبينما انشغل المحللون السياسيون في التفكير والتحليل لماهية الحل السياسي القادم الذي ستفرضه روسيا وحلفاؤها، مستغلة انشغال الإدارة الأميركية في المعركة الانتخابية، والأتراك بأمورهم الداخلية بعد الانقلاب الفاشل، وتركيز اهتمام السعودية ودول الخليج العربي على معركة اليمن الممتدة، بدأت قوات المعارضة المسلحة السورية هجوماً معاكساً استطاعت به الالتفاف على الحصار، وهزيمة قوات الحرس الثوري الإيراني، والمليشيات المتحالفة معها، والسيطرة على مساحاتٍ واسعةٍ من حلب، بينها قواعد عسكرية مهمة، مثل مدرسة المدفعية والتسليح ومنطقة الراموسة، وتمكّنت من كسر حصار حلب الشرقية، والبدء بحصار حلب الغربية الواقعة تحت سيطرة النظام.
قد يكون كسر الحصار ليس الإنجاز الأكبر لقوى المعارضة المسلحة، مقارنة مع اغتنام مستودعات أسلحة كاملة، كان النظام يخزّنها في القواعد العسكرية التي خسرها، مما سيعوّض القوات المهاجمة عن انقطاع الدعم القادم من الشمال، عن طريق "الكاستيللو"، ويمكّنها من متابعة هجومها لمدة أشهر عديدة، وسيرفع كثيراً خسائر إيران وذراعها الرئيسية في المنطقة، حزب الله، وسيضع موسكو في وضعٍ لا تحسد عليه، بعد فشل رهانها على الحسم العسكري، على الرغم من سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها أسطولها الجوي في القرى والمدن السورية. فهل سيقرأ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الرسالة القادمة من حلب؟ وإذا قرأها هل سيفهم معناها؟.
تقول الرسالة إن إيران وحرسها الثوري بكامل طاقته، وحزب الله بكامل عدده، وكتائب الحقد الطائفي العراقية والأفغانية بكامل عدتها، وما تبقى من جيش طاغية دمشق مع كل محتوى الخزينة السورية من مال وسلاح، مضافاً إليها قوات روسيا الجوية الهائلة والمدمرة كل شيء، من دون تمييز بين عسكر ومدنيين أو بين حجر أو بشر، فشلت كلها في استعادة نصف مدينة حلب، بل وقد تخسر النصف الآخر.
هل سيبقى زعيم الكرملين مصمماً على الحسم العسكري طريقاً وحيداً لفرض الحل الذي يريد في سورية؟ وهل سيستشرس في الدفاع عن نظام متهالك، ويحول سورية إلى أفغانستان أخرى، تستنزف روسيا، وتُغرق السوريين في الدم والدمار عقوداً؟ أم أن معارك حلب والهزائم التي مُني بها الحلف الذي يدعمه قد تشكّل فرصةً لاستخلاص العبر، وتفهّم أهمية الضغط على الإيرانيين، ومن خلالهم على طاغية دمشق، ودفعهم إلى قبول حلٍّ سياسي يحقّق طموحات الشعب السوري المشروعة في الحرية والديمقراطية، والاستقرار في دولةٍ عصريةٍ بعيداً عن الحكم المافيوي لآل الأسد وجرائمه، وعن التنظيمات التكفيرية وإرهابها وظلامها، بما يضمن استقرار سورية دولةً مسالمةً متصالحةً مع جوارها والعالم؟
شرح رسالة حلب، ومحاولة إيصالها إلى الروس، وكل من يهمه أمر سورية، يجب أن تكون مهمة كل الوطنيين السوريين، وكل حلفاء الشعب السوري الصادقين، كما أن تقدّم النخبة الثقافية والسياسية الوطنية في سورية بمشروع وطني، يوحِّد الغالبية الساحقة من السوريين، حول بنوده، ويرسم صورة حضارية عن السوريين وثورتهم، وحلمهم بدولة حرة ودستور يساوي بينهم، من دون تمييز على أساس الجنس أو الدين أو العرق، قد يساعد كثيرين، وفي مقدمتهم الروس، على استيعاب الرسالة التي أرسلتها حلب إلى الجميع في الأيام الماضية.
لا تشذ العلاقات الروسية- التركية عن القاعدة التي تتحكم بمسار التعاون أو الافتراق بين سائر الدول في الحوض الشرقي للبحر المتوسط: الموقف الميداني في سورية التي باتت ساحة الاختبارات، والمناورات والضربات العسكرية، والمفاوضات حول مصير هذه البقعة.
فمنذ تدويل الصراع في سورية وعليها، بعد أن أدخل نظام بشار الأسد عن سابق تصور وتصميم إيران وميليشياتها العراقية والأفغانية واللبنانية وروسيا، إلى الميدان لمساعدته على الفتك بشعبه، لأنه قرر عدم التنازل قيد أنملة عن سيطرته الكاملة على السلطة، واستمراره في استبداده بالسوريين، باتت الدول المتدخلة في الملعب السوري تقيس أدوارها بموقعها في هذا الملعب. زاد نجاح هذا المحور في تظهير دور «داعش» وإجرامه من تعقيدات الحرب المفتوحة في الميدان السوري وفي العالم برمته. أيهما له الأولوية، القضاء على الإرهاب أم التخلص من الأسد؟
لا يلغي ذلك البعد الاقتصادي الاستراتيجي لاستعادة العلاقة التركية- الروسية حرارتها التي «ستأخذ وقتاً» كما قال فلاديمير بوتين عند استقباله رجب طيب أردوغان الثلثاء الماضي. فالمصالح المشتركة على هذا الصعيد تقاس بعشرات بلايين الدولارات على صعيدي التبادل التجاري ومشاريع إمدادات النفط والغاز الروسيين، إلى أوروبا، عبر الأنابيب من طريق الأراضي التركية. والدولتان تحتاج إحداهما إلى الأخرى، في ظل الحاجة إلى الأسواق والاستثمارات، أمام ارتباك علاقة كل منهما بالغرب: موسكو بسبب العقوبات عليها بفعل الأزمة الأوكرانية، وأنقرة بسبب تأزم تحالفها مع أوروبا وأميركا عقب الانقلاب الفاشل ضد حزب «العدالة والتنمية».
إلا أن المصالحة بينهما لم تكن لتزيل اختلافهما في سورية. توقع الكثيرون انضمام تركيا إلى التمسك الروسي والإيراني ببقاء بشار الأسد، بحجة تفضيله على «داعش» والإرهابيين، وإلى الموقف السلبي حيال «المعارضة المعتدلة» التي تنسج القيادة التركية تعاوناً استثنائياً معها. لكنها توقعات أقرب إلى الأمنيات منها إلى الواقع، وإلى التبسيط المجافي للجغرافيا السياسية، وللمعادلات الدولية والإقليمية.
فمع حاجة أردوغان إلى موسكو، بعد دورها الاستخباري في إحباط الانقلاب، لإحداث توازن مقابل اضطراب علاقته بالغرب، من الصعب تصور انقلاب في السياسة الخارجية التركية وارتباطها بحلف «الناتو» وبالعلاقة التاريخية مع الولايات المتحدة، بين ليلة وضحاها.
وفي الميدان السوري ثمة عوامل تستبعد ما يمكن وصفه التحاقاً بالسياسة الروسية، لدولة تقوم أهميتها الاستراتيجية على كونها جسراً بين أوروبا وآسيا. ومن هذه العوامل:
1- أن التسليم بالسياسة الروسية في سورية يعني إفقاد أنقرة بوابتها الآسيوية الطبيعية التي كانت وراء إقحامها في الحرب السورية، وتحديداً تحالفها مع المعارضة في حلب. وعليه من السذاجة التصور بأن نجاح الفصائل المسلحة السورية في كسر الحصار الروسي- الإيراني- الأسدي- «الحزب اللهي»، تم من دون المساعدة التركية المباشرة، بالتنسيق مع الدول العربية الداعمة لهذه الفصائل.
2- تدرك موسكو أن دور أنقرة في الشمال السوري احتياطي مساعد على جذب الفصائل المقاتلة إلى طاولة الحل السياسي عندما يحين أوانه. ولهذا منفعة الحد الأدنى إذا كان يصعب عليها جذب العامل التركي إلى سياستها.
3- أن الأهم بالنسبة إلى أردوغان في الميدان السوري، هو السعي إلى تحييد روسيا عن الاتجاه الأميركي إلى تأييد كيان كردي سوري على الحدود التركية. تتقاطع مصلحته في ذلك مع مصلحة الحليف الإيراني لبوتين، ومع انزعاج الأخير من نجاح واشنطن في تنويع مواقع نفوذها في بلاد الشام، عبر رعايتها «قوات سورية الديموقراطية» التي عمادها الميليشيات الكردية، فالمنافسة الأميركية الروسية على هذا النفوذ تحت سقف «التعاون» لمواجهة الإرهاب ورعاية الحل السياسي الموعود، تشتد وتخفت وفقاً لوقائع الميدان.
4- القيصر الروسي يحسب حساباً جوهرياً للحاجة إلى العلاقة الحسنة مع الدول الإسلامية السنية، في مواجهة ارتدادات خوضه الحرب في سورية ضد المعارضة ذات الأكثرية الساحقة السنية، على ملايين المواطنين السنّة الموزعين في بعض جمهوريات الاتحاد الروسي (تتراوح أرقام هؤلاء بين 25 و30 مليوناً)، فضلاً عن أعدادهم في جمهوريات آسيا الوسطى ودول الاتحاد السوفياتي السابق. وبعض هؤلاء يتحدر من القومية التركية الذين اندمجوا بالإمبراطورية الروسية قبل قرون... ويحرص بوتين على تفادي انتشار عدوى التطرف في صفوفهم من طريق هذه العلاقة مع الدول العربية ومع أنقرة أردوغان.
5- أن القيادة الروسية، وتحت سقف التحالف الاستراتيجي مع إيران، تترك مساحة لحاجتها إلى قدر من التوازن في الميدان السوري مع اندفاع الدور الإيراني الذي يخرج في كثير من الأحيان عن حسابات القيصر ويربكه.
في مذكراتها التي نشرت أواخر عام 2011، كتبت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس عن العلاقات المتأرجحة بين الولايات المتحدة وروسيا، قائلة عن أحد لقاءاتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «ذكرت نفسي ألا نقلل من قدرة الروس، سواء فيما يتعلق بالمساعدة التي يستطيعون تقديمها، أو الأذى الذي يمكن أن يسببوه».
تذكرت هذه العبارة بينما كنت أتابع تفاصيل الزيارة التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هذا الأسبوع للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف تحسين العلاقات وطي صفحة الأزمة التي اندلعت بين البلدين بعد إسقاط تركيا قاذفة حربية روسية قرب الحدود السورية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011. فإردوغان بمبادرته لزيارة بوتين، كان يدرك قطعًا حجم الأذى الذي يمكن أن يحدث جراء التوتر في العلاقات مع قيصر الكرملين، كما أنه ربما كان يضع إلى جانب الفوائد الاقتصادية من تحسين العلاقات، فائدة سياسية لتوجيه رسالة إلى أميركا والاتحاد الأوروبي في وقت تشهد فيه علاقاته مع الطرفين شيئا من الفتور والتوتر.
الرئيس التركي وأنصاره لم يخفوا غضبهم إزاء أميركا تحديدًا، وذهبوا إلى حد اتهامها تلميحًا وتصريحًا بالضلوع في المحاولة الانقلابية التي وقعت منتصف الشهر الماضي، وطالبوها بتسليم الداعية المناوئ فتح الله غولن، المقيم في بنسلفانيا، لمحاكمته بتهمة الخيانة، بعدما اتهموه وأنصاره بتدبير المحاولة الفاشلة. كذلك عبرت الحكومة التركية عن ضيقها من موقف الغرب الذي انتقد الاعتقالات الواسعة والإجراءات المتشددة التي شكلت أوسع عملية تصفية للخصوم في أجهزة الدولة في أعقاب إحباط المحاولة الانقلابية.
إردوغان ربما رأى في ترميم العلاقات مع روسيا فرصة لتوجيه رسالة إلى الغرب، لكن الدافع الأهم بالنسبة إليه من مد يده نحو بوتين كان بلا شك اقتصاديا. فالصادرات التركية إلى روسيا انخفضت بنسبة 61 في المائة منذ العقوبات التي فرضها بوتين على أنقرة ردًا على إسقاط القاذفة. كما أوقفت العقوبات المشاريع المشتركة بين البلدين، خصوصًا في مجال الطاقة، إضافة إلى وقف تدفق الأعداد الكبيرة من السياح الروس في وقت تعاني فيه السياحة التركية من انخفاض كبير في أعداد السياح الغربيين بسبب الهجمات الإرهابية.
بوتين من جانبه يحتاج إلى السوق التركية في مجال الطاقة، وإلى تعاون أنقرة لضمان مرور إمدادات الطاقة الروسية إلى الأسواق الأخرى، خصوصًا في أوروبا. كذلك فإنه مثل إردوغان يرى في ترميم العلاقات فرصة لتوجيه رسالة إلى الغرب الذي يفرض عليه حصارًا بسبب أزمة أوكرانيا.
إضافة إلى كل ذلك هناك ملف الأزمة السورية التي تتداخل وتتقاطع فيها العلاقات بين الطرفين، وبين أطراف إقليمية ودولية كثيرة. فأي حلول أو تسويات، أو تعقيدات لا بد أن تمر عبر تركيا، وروسيا تحتاج إلى تفاهم مع إردوغان، لكي لا يطول تدخلها العسكري ويتحول إلى ورطة مثل تدخلها في أفغانستان. فالتفاهمات التي توصل إليها وزيرا الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأميركي جون كيري تحتاج إلى ضمان تأييد أو تحييد تركيا، لكي يكون لها أي حظ من النجاح على الأرض.
وعلى الرغم من التباين الشديد في المواقف بين بوتين وإردوغان إزاء نظام بشار الأسد، فإنهما ربما يجدان فيما يصنفانه تحت عنوان «الإرهاب» مدخلاً للتعاون والتفاهم. فروسيا تتهم تركيا بدعم «الإرهابيين» في سوريا، وتقول إن أعدادًا من هؤلاء أتوا من الشيشان ومن جمهوريات سوفياتية سابقة، وبالتالي فإنهم يشكلون خطرًا على موسكو.
تركيا من ناحيتها تتهم موسكو بدعم حزب العمال الكردستاني التركي وحلفائه من أكراد سوريا، وترى أن وقف أي دعم سياسي أو عسكري من موسكو سيساعدها، خصوصًا في وقت تشتد فيه المعركة بين أنقرة والأكراد، وتواجه تركيا هجمات إرهابية متزايدة.
الموضوع السوري ذكر بشكل مقتضب في التصريحات والبيانات التي أعقبت محادثات بوتين وإردوغان، على الرغم من أنه حظي بحيز مهم، كما يبدو من انضمام مبعوث الكرملين الخاص للتسوية في سوريا إلى الاجتماع. وزير الخارجية الروسي أوضح جزءًا من المستور عندما قال: إن التطبيع الدائم للعلاقات بين موسكو وأنقرة سيعتمد على كيفية تعاونهما إزاء الأزمة السورية. وربما لهذا السبب أيضًا لم يرفع بوتين كل العقوبات عن تركيا بل قال: إنها سترفع «خطوة خطوة».
هل يعني هذا الأمر أن هناك تفاهمًا بين الطرفين، يكون امتدادًا لتفاهمات كيري - لافروف إزاء الأزمة السورية؟
بغض النظر عما تم أو لم يتم التوصل إليه في هذه المحادثات، فإن انشغال أميركا خلال الأشهر القليلة المقبلة بمعركة الانتخابات الرئاسية، يجعل التوصل إلى أي تسويات في الملف السوري أمرًا مستبعدًا في الوقت الراهن مع كل ما يعنيه ذلك للشعب السوري المغلوب على أمره. لكن عندما تحين لحظة أو فرصة لتسوية في سوريا فإن أي تقارب أو تباعد بين روسيا وأنقرة ستكون له انعكاساته.. سواء بالمساعدة أو بالأذى.
ليس معروفاً ما الذي ستؤول اليه أوضاع المنطقة في ظلّ نفض الولايات المتحدة يدها منها وحصر اهتمامها باسترضاء إيران. كان آخر دليل على ذلك كشف ارسالها اربعمئة مليون دولار، نقداً، إلى طهران في اطار تسوية قضايا عالقة بين البلدين منذ سنوات طويلة... او ثمناً لاربع رهائن أميركية اطلقت من السجون الإيرانية في اعقاب توقيع الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.
هل يتغيّر شيء في الولايات المتحدة بعد انتهاء ولاية باراك أوباما؟ يُحتمل ان يطرأ تغيير على السياسة الاميركية، خصوصاً ان فرص وصول هيلاري كلينتون إلى البيت تزداد يوماً بعد يوم.
ليس ما يشير، اقلّه إلى الآن، إلى ان هناك ما سيمنعها من الوصول إلى الرئاسة، هي التي تعتقد ان لا حاجة إلى مسايرة إيران في أي مكان من العالم ثمناً لالتزامها الاتفاق النووي. تؤمن كلينتون بانّ من مصلحة إيران احترام بنود الاتفاق وليس ما يدعو إلى التغاضي عما ترتكبه لا في العراق ولا في سوريا ولا في البحرين واليمن... ولا في لبنان.
لا يمكن للسياسة الاميركية الّا ان تتغيّر في اتجاه موقف اكثر إنسانية، خصوصاً في سوريا، حيث يتبيّن كلّ يوم ان الشعب فيها عانى الكثير بسبب سياسة قائمة على مراعاة إدارة أوباما لإيران واعتقاد الرئيس الاميركي الحالي انّ في استطاعته التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للقضاء على الإرهاب الممثل بـ»داعش». لم ير أوباما سوى «الإرهاب السنّي» الذي يرمز اليه «داعش». لا يريد ان يرى «الإرهاب الشيعي» الذي ترمز اليه الميليشيات المذهبية التابعة لإيران والمنتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وكادت ان تصل إلى البحرين وحتّى إلى دولة مسالمة مثل الكويت.
من المؤشرات التي تدعو إلى بعض التفاؤل، ان أوباما اكتشف أخيراً ان ليس في الإمكان التخلص من «داعش» من دون التخلص من النظام السوري. ما هذا السرّ الخطير الذي اعلن عنه الرئيس الاميركي في وقت لا يوجد طفل في بلد مثل سوريا او لبنان لا يعرف ان النظام السوري يعتبر، منذ قيامه، المتاجرة بالإرهاب علّة وجوده وغطاء لممارساته الطائفية والمذهبية التي اخذت بعداً جديداً بعد انتصار «الثورة الإسلامية» في إيران والتعاون الجدي بين الجانبين في هذا المجال.
في الواقع، كشفت الحرب العراقية ـ الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات عمق هذا التعاون بعدما أصبحت سوريا القاعدة الخلفية لإيران طوال تلك الحرب التي استنزفت دول المنطقة. كانت تلك الحرب افضل تعبير عن العقم الذي عانى منه النظام الذي أقامه صدّام حسين في العراق من جهة ومدى تورط النظام الإيراني الجديد الذي أقامه آيه الله الخميني في الرهان على اللعبة المذهبية والاستثمار فيها من جهة اخرى.
اذا كانت هيلاري كلينتون، التي ستستفيد إلى حد كبير من الانقسامات داخل الحزب الجمهوري للانتصار على دونالد ترامب، جدّية في انتهاج سياسة مختلفة، ولو نسبياً، في الشرق الاوسط بدل تركه فريسة للميليشيات الإيرانية التي تمنع حتّى بقوة السلاح انتخاب رئيس للبنان، فان نقطة البداية واضحة كلّ الوضوح. لا يمكن التفريق بين ميليشيا وأخرى في الشرق الاوسط كلّه وصولا إلى ليبيا، أي إلى ما هو ابعد من المشرق العربي. بكلام أوضح، لا يمكن ان تكون هناك حرب ناجحة على الإرهاب من دون وضع كلّ المنظمات الإرهابية، بما في ذلك «الحشد الشعبي» في العراق، في سلّة واحدة.
هناك بكل بساطة مشروع توسّعي إيراني يقوم على الاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية وتوظيف الميليشيات خدمة لهذا المشروع الذي قضى على العراق وقضى على سوريا ويكاد ان يقضي على لبنان لولا صمود أكثرية الشعب اللبناني ومقاومتها سلاح «حزب الله».
هل تبدأ هيلاري كلينتون من حيث يجب ان تبدأ، أي من المباشرة برفض التفريق بين إرهاب وآخر؟
في النهاية، اذا كانت روسيا معنيّة فعلا بالحرب على الإرهاب، سيكون عليها ان تختار بين بقاء بشّار الأسد ورحيله. لا يمكن قصف مدارس حلب ومستشفياتها تحت ذريعة التصدّي للارهاب «السنّي». لا يمكن باي شكل تجاهل الدور الذي لعبه النظام السوري في خلق «داعش» ولا المساعي الإيرانية للاستفادة من هذه الظاهرة الإرهابية لتغيير الوضع القائم في العراق عن طريق عمليات تطهير ذات طابع مذهبي لمناطق معيّنة بدءاً من بغداد. لم تعد لبغداد علاقة بتلك العاصمة التي تضمّ عراقيين من كلّ الطوائف والمذاهب والطبقات الاجتماعية.
بعد قرن على توقيع اتفاق سايكس ـ بيكو، ستتغيّر المنطقة في العمق. ستتغيّر الخرائط. العراق الذي عرفناه انتهى، كذلك سوريا. لبنان مهدّد شئنا ام ابينا. لا يمكن الاستخفاف باي شكل بان التغييرات ستشمل الاكراد، الشعب الوحيد الذي حرم من دولة... إلى جانب الشعب الفلسطيني طبعا. ولا شكّ ان الموضوع الكردي كان من بين الأسباب التي دعت الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان إلى الذهاب لملاقاة فلاديمير بوتين.
أي اميركا في عهد هيلاري كلينتون؟ هل تلعب دوراً في إعادة بعض التوازن إلى الشرق الاوسط عبر سياسة لا تفرّق بين إرهاب وإرهاب، ام تبقى أسيرة سياسة باراك أوباما وسذاجة وزير الخارجية جون كيري الذي لا يريد ان يرى ان ابتسامة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ليست سوى قناع لسياسة اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها تعبير عن خبث واحتقار للعرب ليس بعدهما خبث واحتقار...
منذ أقل من عشرة أيام وثوار سورية ينسجون سجادة النصر أو ملحمته الكبرى في حلب.. ومنذ بداية تلك الأيام سارع جيش من المحللين وقارئي الفنجان للإدلاء بإبداعاتهم التحليلية عبر الوسائل الإعلامية التي لا تعد ولا تحصى..
والمدهش أنه كلما تمعلم المحللون وقدموا للثوار نصائحهم الذهبية.!!.. يفاجئهم الثوار بتكتيكاتهم التي لا تخطر على بال وبانتصاراتهم المذهلة.. وهكذا تختلط الأوراق في أذهان أولئك المحللين، فيسارعون إلى إعادة ترتيب ما تبعثر من أوراق، ففي كل يوم يقدم ثوار جيش الفتح مفاجآت مذهلة وانتصارات أكثر إذهالاً.. حتى أن الدبلوماسية الأميركية العاهرة، اقصد الماهرة في صياغة الدجل والكذب والتسويف، وبعبارات ثعلبية ماكرة تجعل أي معنّي بالأمر يمنّي النفس بالآمال العريضة.. حتى أن هذه الدبلوماسية الأميركية قد دوختها انتصارات الثوار في حلب الشهباء، حتى اضطرتها تلك الانتصارات لأن تصوغ موقفها بعبارة مضحكة وثعلبية في الوقت نفسه، حيث قالت: الوضع في حلب غامض ونحن لا يمكننا التعليق على ذلك " .. ثم تأتي بعده المتحدثة بتصريح أكثر ضحاكاً وثعلبية، حين قالت: الموقف في حلب مائع، وعلى كافة الأطراف السماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة.. "..
أمام هذا الواقع الذي عاينتُه بدقة، ماذا يمكن لواحد مثلي أن يقدم في هذه المناسبة من الانتصارات العظيمة، والتي تحدثت عنها آلاف المواقع الإعلامية.!!؟..
حاولت أن أكتفي بالمتابعة، فأستمع وأشاهد وأراقب وأعيش ساعات من الفرح العظيم، ولكن قلمي كان يلكزني دائماً ليحرّضني على الكتابة، فما يحدث في حلب من معارك طاحنة وانتصارات متسارعة، سوف يقف التاريخ أمامه مطولاً، ولم يكن الثوار مخطئين حينما أطلقوا على هذه المعركة: " ملحمة حلب الكبرى "..
حسناً.. من أين تريد أن تبدأ أيها القلم.!!؟.. فهناك رزمة من الأفكار التي تتزاحم في الذهن وحتى في القلب، وكل واحدة منها تطلب موقع الصدارة..
ولكي أنظّم الدور بين تلك الأفكار.!!.. سأعتمد التسلسل الزمني، من هنا أعود إلى ما قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، فما قبل تلك الأيام وما بعدها كنت أتوجه إلى حلب بين سنة وأخرى، إما لإحياء أمسية شعرية أو للاشتراك بندوة أدبية..
وأتذكر أن أم العيال كانت دائماً تطلب مني، وأكاد أقول تأمرني بإحضار كمية وافرة من الزعتر الحلبي وصابون الغار..
في الأحداث المأساوية التي مرت بها حلب صابرة محتسبة، لاسيما بعد أن شرفنا.!!. الدب الروسي بزيارته الثقيلة الدائمة في سورية، وهو مدجج بالحقد والإجرام لتدمير هذا الشعب العظيم، ولاسيما حلب الثقافة والتاريخ.. كل ذلك إكراماً لروح الأسد الكبير، وتثبيتاً لدعائم الأسد الصغير..
وقد ظن الدب الروسي أنه خلال بطشة واحدة أو اثنتين أو ثلاث، سوف يتخلص من الشعب السوري، ويقف في حلبة المصارعة ليرفع يد الأسد إلى الأعلى إعلاناً بالنصر على الشعب السوري بالضربة القاضية..
ومضت الأيام والشهور، واستمر البطش والقتل والتدمير حتى كادت، وأقول كادت، قاذفاته وصواريخه تكل وتمل، والشعب السوري ظل صابراً محتسباً صامداً..
وفي الآونة الأخيرة تم التركيز على حلب بقصد إسقاطها وعودتها إلى " حضن الوطن.!!..".. وساهم في ذلك حضور عشرات الآلاف من الفيلة الفارسية، ونالت حلب من القتل والتدمير ما لا عين رات ولا أذن سمعت، حتى بدأت كفة الأحداث تميل لغير صالح الثوار، وأخذ الحديث يدور في المسالك العالمية والعربية المتعاطفة مع الدب الروسي عن اقتراب سقوط حلب بيد سلطة الأسد نظرياً، وبيد سلطة القيصر وملالي الفرس عملياً، ومما زاد من قوة هذا الاحتمال جمود حركة الثوار في فاعلياتهم القتالية..
كان اليأس قد تسرب إلى نفوس الشعب السوري، وأنا واحد منهم، لكنني في لحظات من الوميض التفاؤلي، تذكرت فيها الزعتر الحلبي وصابون الغار والقدود الحلبية والحارات القديمة التي تمتد جذورها الحضارية إلى عشرات الآلاف من السنين.. كما كنت أتذكر قول الشاعر:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها
قلم يضرْها، وأوهى قرنَه الوعلُ
وقالت نفسي لنفسي، لا بد أن تنتصر نبتة الزعتر اللدنة الطرية وشجرة الغار التي هي رمز انتصارات الشعوب على أشجار الغرقد والعوسج بكل ما تحمله هذه الشجيرات الحاقدة من شراسة وشوك..
ومن غامض علم الغيب، كما يقال، ينهض الفينيق من رماده.. من جنوب حلب، فقد باغت الثوار الفيلة الفارسية ومرغوا انوفها بالأوحال، وأرسلوا منها بالتوابيت أكثر من مائة وخمسين جثة إلى بلاد الملالي لتدفن هناك إلى جانب مقام أبي لؤلؤة قدس الله سره..
ويومها كتبت مقالة بعنوان" ملحمة خان طومان واستحالة حلب " أكدت فيها أن حلب يستحيل أن تسقط، لا سيما إذا اتحدث فصائل الثوار او معظمها على الأقل..
ولكن الدب الروسي الذي وعد إمبراطوريته القيصرية بالنصر في بداية عام 2016، لم ييأس وصمم على إخضاع حلب، حتى ولو تحولت إلى تل من ركام.. ركز بطيرانه على حلب المحررة، وعلى طريق الكاستيلو الممر الوحيد الذي يربطها مع الخارج، حتى استطاعت سلطة الأسد والميليشيا الإيرانية وحزب الله وحتى الميليشيا الفلسطينية المتمثلة بلواء القدس من قطع طريق الكاستيلو بشكل نهائي، وهكذا أُطبق الحصار بشكل كامل على أحياء حلب المحررة..
قيصر روسيا أصابته نشوة النصر، فرفع منخاره إلى أعلى، ولف رِجْلاً على رجل بعنجهية وعجرفة، وقال قولته المشهورة: فتحنا ثلاثة ممرات إنسانية لخروج المدنيين من الأحياء المحاصرة، وممراً رابعاً لخروج المسلحين.. ".. لكن الحلبيين المحاصرين أدركوا النية الخبيثة من وراء ذلك، فالمسألة مسألة تفريغ حلب من أهلها، لذلك لم يلتفتوا إلى مثل هذا الاقتراح، لأنهم بالإضافة إلى ذلك، يعلمون علم اليقين أن الآلاف من الخارجين عبر هذه الممرات، إن خرجوا، ستتم إبادتهم برصاص سلطة الأسد أو تحت التعذيب بعد إلقاء القبض عليهم، لذلك فضلوا أن يموتوا جوعاً أو تحت قصف الصواريخ والبراميل على أن يقعوا بين براثن هؤلاء الطغاة..
أكثر المحللين تفاؤلاً وصلوا إلى التأكيد على أن حلب انتهت، وستسقط عاجلاً آو آجلاً.. حتى أن أثنين من " عظماء " المعارضة السياسية ذهبوا نحو هذا الرأي، فقد كتب الأول مقالة، ينهي موضوعها بضرورة عودة المعارضة إلى الحوار والتفاهم مع روسيا، أي الموافقة على ما تقدمه روسيا من فتات الحلول.. أما الثاني، فأنهى أيضاً مقالته التي اعتمد فيها التحليل التاريخي، بالدعوة إلى عدم الاستمرار في التضحيات التي لا طائل من ورائها، وهذا يعني نوعاً من الاستسلام المبطن..
إذن ما دام هذا رأي بعض المعارضين الكبار، فقد انتهى الأمر، وسوف تستسلم حلب إلى الدب الروسي والفيل الفارسي وشبيحة الفئة الهامشية التي رفعت شعار: إما الأسد أو نحرق البلد ".. لكنني في لحظة من التوهج الصوفي، كما يقال، تذكرت الزعتر الحلبي وأوراق الغار وطائر الفينيق..
ومرة أخرى أقول: من غامض علم الغيب ينهض هذا الطائر ــ الأمل الذي يرمز إلى انتصار الشعوب، وهذه المرة ينهض ويأتي من الغرب الحلبي، ويتقدم ليكتسح الفيلة الفارسية ويقضي على أحلام الدب الروسي..
وحكاية اكتساح ثوار جيش الفتح لقلاع سلطة الأسد، والهزيمة التي تعرض لها أنصاره من الفرس واتباعهم، وفك الحصار عن أحياء حلب المحررة، أصبحت معروفة لدى الجميع، ولكنها لم تكن معروفة لدى الحسون مفتي الأسد، فقد وصف قوات الأسد في تلك القلاع بأنهم كرجال بدر من صحابة رسول الله.!!!.. كما أنه لا يعرف أن تحرير حلب كاملة بات، حسب التقديرات، مسألة وقت لا أكثر..
فهل ينتصر طائر الفينيق على الدب الروسي والفيل الفارسي وعلى المواقف الأميركية الثعلبية التي لا تريد لحلب أن تتحرر، ويقضي الزعتر والغار على شجر العوسج والغرقد الذي شوه معالم بلادنا الجميلة..!!..
هذا عنوان لمقال شيق كتبه روبرت ف. كنيدي الابن، وهو ابن السيناتور الأميركي السابق روبرت كنيدي شقيق الرئيس الأميركي السابق جون كنيدي، في صحيفة واشنطن بوست. وللتذكير روبرت كنيدي الأب هو الذي اغتيل على يد الفلسطيني سرحان بشارة سرحان في شهر يونيو 1968 أثناء حملته الانتخابية، ولم يعرف حتى يومنا هذا السبب الحقيقي وراء الاغتيال. المقال طويل ويعود بنا إلى عام 1957 وإلى ألاعيب السياسة الأميركية ومغامرات وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه» في المنطقة وخصوصا في سوريا. في جزء من المقالة يتكلم كنيدي بإسهاب عن الأسباب الحقيقية التي أشعلت الحرب في سوريا، التي على ما يبدو لا دخل لها ولا ترتبط بأحداث الربيع العربي التي بدأت في عام 2011 كما يظن الكثير منا.
سلسلة الأحداث بدأت كما يسردها كنيدي في عام 2000 عندما بدأ التخطيط لبناء خط أنابيب بطول 1500 كيلومتر لنقل الغاز القطري عبر السعودية والأردن وسوريا وتركيا إلى أوروبا، بتكلفة 10 مليارات دولار. المشروع كان سيربط قطر بالسوق الأوروبية مباشرة ويمنحها الهيمنة في سوق الغاز العالمية ويخلق لتركيا مصدر دخل جديدا ويجعلها محطة أساسية للوقود من آسيا الى أوروبا. لقد حظي مشروع خط الأنابيب بدعم العديد من الدول الخليجية والأوروبية لما يحققه من أهداف اقتصادية وسياسية، اقتصاديا كان سيوفر لتركيا وأوروبا مصدرا رخيصا للطاقة، وهي التي تستورد ما يقارب %70 منها من روسيا، وسياسيا كان المشروع سيكفل خروج أوروبا من تحت رحمة روسيا التي تزودها بـ %30 من الغاز، كما سينهي اعتماد تركيا كليا على الغاز الروسي التي تستورد معظم احتياجاتها منه، ناهيك عن محاصرة إيران وتقليص نفوذها في المنطقة خصوصا بعد تمدد نفوذها في العراق.
روسيا اعتبرت المشروع تهديدا مباشرا لوجودها ونفوذها في المنطقة، وخطة من حلف الناتو لخنق الاقتصاد الروسي وزعزعة لوجودها في الشرق الأوسط. في عام 2009 أعلن الرئيس السوري بشار الأسد رفضه التوقيع على المشروع حفاظا على مصالح حليفه الروسي في المنطقة. المراسلات السرية بين الأطراف المستفيدة من المشروع تشير إلى ان قرار التحريض والثورة على الأسد أخذ مباشرة بعد قيامه برفض التوقيع، وكان قرارا بالإجماع، وقد أكد ذلك موقع ويكيليكس عبر الملفات التي نشرها عن سوريا، وبين قيام وكالة المخابرات الأميركية في 2009 بتمويل جماعات المعارضة السورية مباشرة بعد الرفض السوري للمشروع. أما الربيع العربي المشؤوم فلا ناقة له ولا جمل فيما يحدث في سوريا.