مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٧ أغسطس ٢٠١٦
رقم “٢٦” و المحتوى “طفل” .. هذا ما تبقى منّا بعد أن مُزقنا….

قد لا يكون المشهد الأول ، ومن الواضح أنه لن يكون الأخير ، و لكن هل يجب علينا الاعتياد و تقبل أن نكون عبارة عن أرقام تكتب على الأكفان يرفقها وصف لفئتنا العمرية ، ويضيع الاسم و الكنية ..!؟

قد لا يكون مشهد استثنائي أو غريب ، على الشعب السوري ، و لكنه ليس مفروض علينا أن ننظر إليه على أنه شيء حدث و انتهى ، مجزرة افتعلها القتلة و جفت دمائها المادية و دخلت الأرشيف القمئ، بل هي حالة تغرس في أحشائنا و تنمي حقد متضطرد و متزايد، لن يكون اطفاءه إلا من خلال ابادة الذرية بأكمالها، و قلب الأرض التي شهدت هذا الأمر ، حتى يكون هناك بصيص أمل أن أحدا ما في زمان ما يستطيع العيش على أرض شهدت ابادة أهلها، بهذه الطريقة المذلة.

اليوم الصراع الذي اتخذ منحى تكسير الرؤوس، بين القوى العالمية الكبيرة منها و الصغيرة وحتى الناشئة، بتكاليف بسيطة دون أي خسائر تذكر على أرضهم أو شعوبهم أو تمس الحاضر الذي يصنع التاريخ في المستقبل.

تتوعد الدول بعضها على المنابر المتباعدة ، وتلتقي بسلامات حامية ووعود بالتوافق و السعي للوصول إلى حل ، في حين يكون العسكر يمارسون الهواية الوحيدة التي يتقنون ، ألا وهي القتل، و لكن القتل الذي يسير وفق منحى متعاظم من القذارة، بحيث تكون جثة القتيل متواجدة أو الجزء الأكبر منها موجود، هو حلم يصعب المنال.

اليوم المشاهد الآتية من المجازر التي تجتاح سوريا ، و تحديداً حلب و ادلب، لايمكن لوصف مجزرة أن يحتوي أو يغطي جزء من حجم الفظاعة ، فلا أجساد كاملة ، ولاهويات معروفة ، و لا أحد يبحث عن الجثامين أو يطالب بها ، فهنا الابادة تتم لعوائل بأكملها، فلا صريخ بعدها ولا عويل ، فالموت يصيب الجميع بالسبات .

تنقل الجثامين إلى أشباه المشافي ، و تكفن على عجل و يكتب على غلافها رقم غبي ، و اشارة لكل ما يمكن الحصول عليه ، جنس أو عمر في الغالب و في أحسن الأحوال اسم يتم الاستحصال عليه من ناج من فك الموت، شاء القدر أن يبقى حياً ليقدم خدمة أخيرة للشهيد، بأن يُكتب اسمه على كيس الدفن.

لايمكن الحديث بعنجهة أمام موت من هذا النوع ، فهنا الواقع يفرض نفسه  بأن نسمي الأمور بمسمياتها، فهم يسعون لاذلالنا حتى في طريقة الموت، ، ليكون طموحنا فيما تبقى من حياتنا بأن تكون النهاية أقرب .

اقرأ المزيد
١٧ أغسطس ٢٠١٦
داعش وقسد وجهان لعملة واحدة

في مؤتمر جنيف أصر وفد سلطة الأسد أن يدرج بند محاربة الإرهاب قبل الدخول في مناقشة أي بند آخر مع وفد المعارضة.

الحق أقول لكم أنا استسخفت هذا الطلب من وفد السلطة، وقلت لحالي: هذا الوفد يظن نفسه " صيّاد غُشُم ".. هل يُعقل أن توافق الأمم المتحدة الطاهرة العفيفة.!!، وهل يُعقل أن ترضى أميركا حاملة راية حقوق الإنسان، والمناصرة للشعوب المضطهدة على مثل هذا الطلب الخرافي.!؟.
ولكن الذي ظهر فيما بعد أنني أنا الذي كنت غشيماً حقاً، ولم أفهم كم هي حقيرة تلك اللعبة التي كانت تُلعب في تلك الأيام. فبعد سنوات من المماطلة والأخذ والرد ذاب الثلج وبانت الحقيقة المرة.
فاليوم لا أميركا ولا الأمم المتحدة أصبح يهمها مصير الشعب السوري ولا مآسيه التي تتراكم يوماً بعد يوم بفضل همجية الروس وحقد الأسد. كل ما يهم الجميع اليوم هو محاربة الإرهاب، وعلى رأسها داعش.
منهجية أميركا تكمن في شعارها المطروح " محاربة داعش دون الأسد ". وهدف روسيا هو محاربة الإرهاب، بأشكاله وألوانه من أجل حماية الأسد. والقصد أولاً وأخيراً هو تمزيق سورية كوطن وإبادة الشعب السوري قتلاً وتشريداً، لتخلو الساحة لفئتين، ولا ثالثة لهما، فئة الأسد وتابعيه، وفئة صالح مسلم وحزبه الديمقراطي الكردي، فهما الفئتان المؤهلتان لتمزيق سورية.
ولكي تنجح أميركا في نواياها غير الطيبة، توجهت لصناعة معارضة " عزّ الطلب "، بحيث تملك جيوشاً لا هم لها سوى محاربة الإرهاب.. ولا أريد هنا أن أذكر جيش أحمد الجربا ولا جيش جمال معروف أو غيرهما، وإنما أركز فقط على تصنيع صالح مسلم وقواته الكردية.
في بداية الثورة كان صالح مسلم واحداً من هيئة التنسيق السورية، وحينما لم يصنعوا له مركزاً مرموقاً بالهيئة يليق بمقامه العالي، غضب وانسحب وتوجه نحو الشمال السوري، حيث كان ينتظره دوره المرسوم والمقرر من قبل السياسة الأميركية. وهناك وضعت أميركا صالح مسلم على سرير الفحص السياسي وقامت بمعاينته، فوجدته مؤهلاً جسدياً وعقلياً لتنفيذ ما تريده تلك الــ أميركا من مخططات لتخريب الوطن السوري، وتغافلت عن أن حزبه الديمقراطي الكردي هو الفرع السوري لحزب العمال الكردي، والمصف عالمياً في قائمة الإرهاب.
في تلك الأثناء بدأ الجيش الحر يفرض سيطرته على مناطق متعددة في الشمال السوري، وفجأة ظهر تنظيم الدولة الإسلامية قادماً من الشرق العراقي لإعلان الخلافة الإسلامية.!!، ولكنه لم يتوجه لمحاربة سلطة الأسد، وإنما راح يسلب الجيش الحر ما يملكه من أراض متحررة..
وفجأة ظهرت قوات الحزب الديمقراطي الكردستاني " البا يا دي " بقيادة صالح مسلم، وبدأت تفرض وجودها في أرض الشمال السوري، وتتحدث عن الإدارة الذاتية كمقدمة لتشكيل الدولة الكردية المنشودة، وهذا ما دعاها لفرض التجنيد الإجباري على الشباب الكردي، وأخذت بنصيحة الفكر الأميركي والغربي الذي يهوى الحديث عن المساوة بين الجنسين، فسارع إلى تجنيد البنات الكرديات كظاهرة حضارية، ولا بأس لو اختطفهن من بيوتهن وتجنيدهنّ غصباً عن عنهن وعن أهاليهن. كما أخذ بنصيحة علماء النفس الإعلاميين بإظهار الكرديات المجندات بمظهر حضاري رائع، حتى ولو كنّ في قلب المعركة، والمظهر هو في غاية الأناقة والنظافة والتهذيب والتصرف الحيادي التام تجاه الجنس الآخر، حتى ليظن المشاهد أن تلك المجندات الكرديات، وكذلك المجندين، ليس لهن أجهزة تناسلية.
ومثلما فعل الإعلام العالمي في تمويه وتحسين صورة مجندات البا يا دي، كذلك فعل العكس بــ " حريم " الإرهابيين اللواتي نشط الإعلام العالمي في تشويه صورتهن، وانتشر مصطلح " جهاد النكاح " كما تنتشر النار في الهشيم، حتى تحولت نساء أولئك " الإرهابيين " لمجرد جسد حيواني لإشباع غريزة أمراء الجماعة.
وقد نسج الإعلام آلاف الحكايات الكاذبة حول جهاد النكاح، حتى أن إحدى المراسلات الشهيرات بمواقفها الصادقة وأمانتها الإعلامية، وبعد تغطيتها لأحداث الثورة في بعض المناطق المحررة بصورة مهنية سليمة.. هذه المراسلة لم تسلم من ألسنة السوء، فقامت بتشويه صورتها الإعلامية، وادعت أنها قدمت جسدها الجنسي طائعة راضية لأمير إحدى الجماعات الإرهابية، إيماناً منها بمبدأ " نكاح الجهاد ".
ويبدو أن صالح مسلم قرأ التاريخ جيداً، وأدرك أن الأسلوب الدكتاتوري هو الأقدر على البقاء والنجاح، فقامت ميليشياته بتصفية معارضيها، كما فعلت حين اغتالت السياسي الكردي " مشعل تمو " الذي كان يسعى إلى حصول الأكراد على حقهم الطبيعي ضمن الدولة السورية الواحدة، كما قامت مؤخراً بنفي إبراهيم برو رئيس المجلس الوطني الكردي في سورية.. ثم راحت هذه القوات ترتكب المجازر في المناطق والقرى العربية وتحرق وتدمر وتهجر سكانها العرب والتركمان وغيرهم، تمهيداً لقيام دولة ذات عرق كردي نقي.
كل ذلك كان بإشراف أميركا ورعايتها ومساندتها ومساعدتها ومد الميليشيا الكردية بالمال والسلاح، حتى أصبحت قوة ضاربة في الشمال السوري إلى جانب قوة تنظيم الدولة، لاسيما بعد هيمنتها على مدينتي عين العرب وتل أبيض، وطرد تنظيم الدولة منهما. أما قوة الجيش الحر فقد انطحنت في تلك المناطق برحى القوتين المذكورتين.
حين رفعت أميركا شعار محاربة داعش دون الأسد، تقدمت قوات البا يا دي للقضاء على هذا التنظيم الإرهابي، ولا باس لو شاركها بالحملات العسكرية بعض العربان والسريان والتركمان الهامشيين، كنوع من التطعيم التعددي.!!. دون أن يكون لهم أي كلمة أو رأي، وقد أطلق على هذه القوة اسماً تمويهياً، هو " قوات سورية الديمقراطية " والتي عرفت فيما بعد باسم " قسد "، تيمّناً بتحويل اسم دولة العراق والشام الإسلامية إلى " داعش "..
وأخيراً جاء دور مدينة منبج لتخليصها من براثن داعش. ومن هو المؤهل لذلك غير " قسد ".!؟. وهكذا انطلقت قسد تحت سقف راية الحزب الديمقراطي الكردي، وتخلصت منبج بعملية أسطورية فاضحة، هي أشبه بسيناريو فيلم هندي من النوع البطولي الخارق.
هذا الانتصار الباهر طبّل له المطبّلون وزمّر له المزمّرون، ودبك له الدابكون، ومنهم الفرنسي " هوبير " الذي قاتل مع الميليشيا الكردية في منبج، وهو يعدّ نفسه من أهل البيت الكردي حين يقول: إنّ تحرير منبج بمثابة انتصار، والنقطة المقبلة ستكون مدينة عفرين في حلب ". كما أن أحد قادة الميليشيات الكردية أهدى النصر في منبج إلى عبد الله أوجلان رئيس حزب العمال الكردستاني الإرهابي.
وفرح الكثيرون ممن يدعون الانتماء إلى المعارضة السورية بذلك، بعد أن استحمّت عقولهم بظاهرة " محاربة الإرهاب "، ولم يدركوا أن منبج تخلصت من براثن طير البوم لتقع في شباك ذئب ضار، وإن قوات سورية الديمقراطية تخطط لقيام دولة كردية تكتسح الشمال السوري كله.
وسواء نجح التخطيط أم لم ينجح، المهم هكذا يفكر صالح مسلم وحزبه، وإنه لو نجح فلسوف يبقى الصراع بين العرب والكرد إلى أبد الآبدين، وقد وعى هذه المسألة الشرفاء من الأكراد، ومنهم ´جيان عمر " الناطق باسم تيار المستقبل الكردي حيث يقول في برنامج تلفزيوني حواري: إن قوات سورية الديمقراطية مكونة، من ميليشيات كردية وأخرى تابعة للنظام، وهذه القوات ترتكب العديد من الانتهاكات ضد الآخرين، وقال أيضاً، وهنا بيت القصيد، أنا لست سعيداً في أن تحل قوات سورية الديمقراطية محل داعش، فكلاهما منظمتان إرهابيتان. ".
طبعاً تحرير.!!. منبج أفسعد بعض القنوات الغربية والعربية ومواقع التواصل الاجتماعي، فقوات سورية الديمقراطية هي المخلص من آلام داعش، وقد أظهرت هذه القنوات والمواقع صوراً تظهر بعض الناس وهم يحلقون ذقونهم في الشوارع، وصوراً أخرى لنساء يدخنّ السجائر، تعبيراً عن الحرية التي حصلنَ عليها في ظل قوات سورية الديمقراطية، وكلها سيناريوهات مفبركة وكاذبة.
وأخيراً أثبتُ منشوراً قصيراً كتبته على صفحتي في التواصل الاجتماعي، فهو يعدُ خلاصة لكل ما سبق:
" منذ عدة أيام تحررت.!! منبج من داعش.
رقص العالم بالمحْرَمتين، وانشغل بهذا الحدث التاريخي.
وشربت العجوز المنبجية السيكارة احتفالاً بهذه المناسبة العظيمة.
حتى وزير الدفاع الأميركي هنأ قوات صالح مسلم الكردية على هذا النصر العظيم.
ولكن المفارقة أن الجيش الحر استطاع البارحة أن يحرر بلدة " الراعي " على الحدود التركية، ويطرد داعش منها، لكن العالم صمت، كما لو أن هرّة جائعة أكلت لسانه.
من هنا أقول: لو أن الجيش الحر طرد داعش من منبج ، فإن العالم سوف يصمت بالتأكيد، وسوف يطنّش ويدعي أنه لا علم له بذلك.!. ".
سؤال أخير لا أريد جواباً عنه: لماذا ساهمت طائرات التحالف مع الميليشيا الكردية بضرب داعش في منبج، ولم تساهم مع ثوار الجيش الحر بضربه في بلدة الراعي.!؟.

 

اقرأ المزيد
١٦ أغسطس ٢٠١٦
نصرالله بعد حلب: خطاب الهزيمة

توجه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مباشرة إلى جبهة النصرة وتنظيم داعش، بصفتهما تنظيمين مسلمين وليسا تكفيريين… بصفتهما مستغلين من قبل الإدارة الأميركية وليس بصفتهما وهّابيين وقتلة ومجرمين، كما خاطبهما سابقا بصفتهما عدوين لإسرائيل. رغم أنّه هو من قال إنّهما أخطر من إسرائيل وفي خدمتها. فما قاله أمين عام حزب الله في خطابه السبت، وانطلاقا من هذه الرسالة، هو إقرارٌ ضمنيٌ بأنّ وجود حزبه في سوريا بات ثقيلا على مجتمعه. وهو الذي أقرّ أخيرا بأنّ ما هو منخرط فيه من قتال في سوريا هو فتنة. علما أنّه كان يبشر بانتصارات محور المقاومة، ويثني على الحليف الروسي في سوريا ودوره في مواجهة الإمبريالية. لكن أيضا هو نفسه قال عن معركة حلب إنّها ستغير المعادلة الإقليمية، وبشّر بانتصار محور المقاومة قبل أسبوعين.. أمّا يوم السبت فقد غابت حلب ومعاركها عن خطابه؛ حلب التي انتفضت ضد الحصار، ووجهت صفعة إلى النظام وحليفيه الروسي والإيراني، وفعلا قلبت هذه المعركة المعادلة وأظهرت أنّ انكسار الفصائل المعارضة ليس ممكنا أمام حلف الممانعة، بل فتحت الآفاق لإحداث تغيير جديّ يجعل من مصير بشار الأسد، صديق نصرالله وحليفه، على طاولة البحث الجديّ.

الفتنة التي سماها نصرالله إيران شريك أساسي فيها، والاستقتال في محاربة المعارضة السورية المعتدلة والدفاع عن بشار الأسد، هما أبرز مقدمات الفتنة هذه وأدواتها التي فجرت غضبا عربيا إسلاميا ضد هذا السلوك وضد أيديولوجيته التي استهانت بخيار الشعب السوري لصالح كذبة يعرفها الجميع في سوريا. كذبة أنّ بشار الأسد ونظامه معاديان لإسرائيل. لقد جرى تدمير سوريا وقتل المئات من الآلاف لأجل بشار الأسد. هذه هي الحصيلة التي يجب أن تكون واضحة للجميع. إذ أنّ هذه الحرب، التي استماتت إيران من أجل حماية نظام الأسد خلالها، باتت اليوم تدرك أنّ بقاءه ووجوده رهن اتفاق أميركي روسي، فيما إسرائيل التي دمر الإيرانيون وحلفاؤهم سوريا بحجة مواجهتها، باتت أقوى في قلب سوريا وبفضل شعارات المقاومة والرعاية الروسية. إسرائيل هذه تقصف ما تشاء في سوريا، ولا يتجرّأ لا الجنرال قاسم سليماني ولا السيد نصرالله على الرد، ولا نقول الأسد لأنّه يدرك أنّه تحت حماية ورعاية إسرائيل التي لم تزل بحاجة إلى المزيد من تدمير سوريا.

معركة حلب كشفت إلى حدّ بعيد كم أنّ حزب الله، الذي طالما ادّعى أنّه يرسم خارطة المنطقة الإقليمية بقوته، بات خارج المعادلة. يلتزم بما يقرره الضابط الروسي في المعركة، ويلتزم بحسابات السياسة الروسية. واللعب مع السياسة الروسية ليس مقبولا ولا مسموحا به. يعرف نصرالله جيدا أنّ روسيا هي من قدّم الضمانات لإسرائيل بعدم المسّ بمصالحها الاستراتيجية في سوريا. ليست واشنطن ولا أعداء إيران، بل حلفاؤها، وإسرائيل تستخدم وجود حزب الله لحماية حدودها الشمالية. هكذا يقول أعداء حزب الله في داعش والنصرة. لذا يمكن أن يصحّ الاتهامان بحق “داعش” و”النصرة” في خدمة الأميركيين لضرب “مشروع المقاومة” كما قال نصرالله. وحزب الله يحمي حدود إسرائيل، ويشكل حاجزا طبيعيا أمام كل من يريد أن يقاتل إسرائيل عبر الحدود اللبنانية، كما يتهمه خطاب التنظيمين المذكورين.

لكن يبقى السؤال: لماذا توجه نصرالله إلى هذين التنظيمين في رسالة تنطوي على دعوة للتعقل وعدم الاستغراق في “الفتنة”؟

ربما أدرك نصرالله أنّ التحولات الإقليمية ليست لصالح حليفه الأسد، وأنّ التلاقي الروسي التركي، كما مقدمات التقارب الإيراني التركي، ليست لصالح الأسد. وأنّ التسوية مهما كانت مجحفة بحق الشعب السوري لن تكون لصالح بقاء الأسد. أدرك نصرالله أنّ فكرة الانتصار لبقاء الأسد طويت من الحسابات الإقليمية والدولية التي راهن عليها، وبالتالي بدأ متأخرا في البحث عن مسار للحدّ من الخسائر. ولا سيما أنّ مئات الآلاف من السوريين في حمص وفي ريف دمشق وغيرهما، لا يزالون مشردين وفي اقتناعهم أنّ حزب الله سبب ما هم فيه فضلا عن نظام الأسد، وليس لدى نصرالله ما يقوله لهم وهو يطالب أعداءه بالعقلانية واستلهام سيرة النبي محمد (ص).

ما قاله نصرالله حول سوريا في خطابه الأخير هو تلميح إلى المصالحات والتسويات ووأد الفتنة بعد إدراكه استحالة الانتصار؛ هو خطاب انقلابي على كل ما قاله عن هذه الحرب المقدسة. وها هو يخاطب مسلحي داعش والنصرة وغيرهما حرفيا “إذا عندكم، حقا، مازال هناك شيء من الإسلام، هناك شيء من الحب للنبي، هناك شيء من العلاقة بالقرآن، أوقفوا هذا القتال لمصلحة أميركا في المنطقة، أوقفوا هذا القتال، ألقوا هذا السلاح، نتكلم بمصالحات، نتكلم بتسويات، ربما يكون هذا الكلام فيه مبالغة، نعم أنا أدعو اليوم كل أولئك الذين لا يزالون يحملون السلاح، ونحن نأسف عليهم ونأسى لهم… هذا ما ندعو إليه اليوم أمام كل المعارك الموجودة في المنطقة. العلماء الحكماء العقلاء الفهيمون، الناس الحريصون على هذه الأمة، الذي يستطيع أن يقول كلمة، الذي يستطيع أن يجري اتصالا، الذي يقدر أن يبذل جهدا، يجب أن تتوافر كل الجهود لوأد هذه الفتنة القائمة في الأمة وفي المنطقة”.

هل يكفي هذا الخطاب كي تتمّ الاستجابة له؟ يدرك حزب الله أنّ التئام الجراح يبدأ بالاعتراف بأنّه أخطأ، وغير ذلك فالعداء سيستمر والشرخ سيتعمق، وكل ذلك “كرمى” لنظام الأسد.

اقرأ المزيد
١٦ أغسطس ٢٠١٦
من حرب تموز إلى حرب سورية: انحراف البوصلة

مرت عشر سنوات على حرب تموز (يوليو) 2006. خلال هذه الأعوام، حصلت تطورات كثيرة لعل أبرزها انخراط المقاومة وحزب الله تحديداً، في الحرب السورية. عشر حقائق يجب تسجيلها تشير الى انحراف بوصلة المقاومة الى غير الأهداف التي قامت من أجلها.

الحقيقة الأولى، أن حرب تموز كانت فعلين متوازيين: حرب أميركية - إسرائيلية ضد سورية وإيران، وحرب إيرانية - سورية ضد إسرائيل. أي لم تكن فعلاً ورد فعل. الأطراف جميعها استخدمت الأرض اللبنانية لتصفية الحسابات، و استُخدم حزب الله في خوض الحرب.

الحقيقة الثانية، أن المقاومة وحزب الله خاضا معارك بطولية في وجه العدو الإسرائيلي، بما كبده خسائر لم يتكبدها في حروبه العربية. وهذه صفحات مجيدة ومضيئة في تلك الحرب، من حق اللبنانيين والعرب الفخر بها.

الحقيقة الثالثة، إعلان حزب الله أنه حقق نصراً إلهيا في تلك الحرب، وهو إعلان بعيد من الحقيقة أولاً، ويهدف الى منع النقاش في الأسباب التي جعلت الحزب يتورط في الحرب ويشكل أداة لسورية وإيران. هدف الحزب من»الإلهية» في النصر منع المحاسبة وشد عصب البيئة التي ينتمي إليها لتخفيف آلام الخسائر.

الحقيقة الرابعة، أن لبنان، ومعه المقاومة، أصيبا بهزيمة كبرى في هذه الحرب. إذا كان الانتصار في تكبيد خسائر للداخل الإسرائيلي، إلا أن واقع الهزيمة تجلّى في حجم الخسائر اللبنانية، حيث سقط حوالى ألف وخمسماية قتيل، وحوالى عشرة آلاف جريح، وتدمير البنى التحتية اللبنانية، والحصار البحري والجوي والبري الذي فرض على البلد، وصولاً الى فرض قوات طوارئ دولية على الحدود وإجبار المقاومة على الانكفاء الى ما بعد حدود نهر الليطاني.

الحقيقة الخامسة، أن الحرب حققت معظم الأهداف الإسرائيلية، لعل أهمها إعادة المقاومة الى الداخل اللبناني وإغراقها في وحول الحرب الأهلية، بما يضفي عليها طابع المذهبية ويضعها في عداء مع مكونات المجتمع الأخرى. لا معنى لكلام حزب الله عن فشل إسرائيل في إنهاء المقاومة وتصفيتها، فهذه جزء أساسي من النسيج اللبناني، حيث يستحيل اقتلاعه ولو بعشرات ومئات الحروب.

الحقيقة السادسة، أن انحراف بوصلة المقاومة قد خطا خطوات كبيرة وسريعة في الغوص بالحرب الأهلية اللبنانية، وتحوّله طرفاً أساسياً في مسارها، ومن موقع طائفي – مذهبي، ترك أثراً سلبياً في موقعها. هذا الانخراط وجد ترجمته في التعطيل المتمادي لمؤسسات البلد، وفي تنفيذ اجتياح بيروت عام 2008، الذي حسم في معاداة أقسام واسعة من الشعب اللبناني ضد المقاومة.

الحقيقة السابعة، أن وظيفة سلاح المقاومة بعد تلك الحرب باتت داخلية تهدف الى تعديل موازين القوى المحلية، وتفرض شروطاً على مسار البلد وأزماته. بات السلاح أداة الهيمنة الفئوية المذهبية للحزب على الوضع اللبناني بمجمله.

الحقيقة الثامنة، أن انحراف البوصلة سيجد ترجمته الكبرى في انخراط الحزب في الحرب السورية، ومن مواقع مذهبية صافية عبّر الحزب عنها بوضوح. إضافة الى أن الحزب ذهب ليدافع عن أعتى نظام ديكتاتوري في العالم العربي، وهو المسؤول الأول عن توليد الإرهاب خصوصاً تنظيم «داعش». هذه الحرب التي كانت أهدافها الإسرائيلية والأميركية جلية في ضرورة تدمير سورية، جيشاً ومجتمعاً وبنى... حتى لا تشكل في يوم من الأيام مصدر خطر على إسرائيل. وقد نجحت في ذلك، وساهم الحزب في هذه المهمة. والأسوأ، كان مشاركة المقاومة في الحرب الأهلية الدائرة في العراق واليمن، ومن موقع طائفي – مذهبي أيضاً.

الحقيقة التاسعة، أن التشدق بمحاربة المشروع الأميركي في المنطقة بات مملاً ويشكل استخفافاً بعقل الجماهير العربية. منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، كان المشروع الأميركي موظفاً في خدمة ما يدعى بمعسكر الممانعة. دخلت إيران الى العراق وهيمنت على مؤسسات البلاد على حاملة الدبابات الأميركية. وفي سورية، يخوض معسكر الممانعة حربه على ما يسمى بالإرهاب تحت العباءة الأميركية وبقيادة التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة. ولم يكن في إمكان قوات النظام والميليشيات التابعة لإيران أن تحقق نصراً على الأرض من دون المساعدة الأميركية وحلفائها. أما الحليف الجديد المتمثل بروسيا، والذي أدخل ضمن معسكر الممانعة، فهذا الحليف الجديد لا يطيق وجوداً لميليشيات إيران ومنها حزب الله. ولم يعد خافياً الدور الذي لعبته روسيا في تصفية بعض قيادات المقاومة ومنها مصطفى بدر الدين.

الحقيقة العاشرة والأخيرة، أن هذا المسار للمقاومة يعمق خسارة موقعها الوطني الذي امتازت به لسنوات، والذي كان له الفضل الأساس في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي. يدفع الحزب والطائفة التي ينتمي إليها أثماناً باهظة من الضحايا المجانية التي تسقط يومياً في سورية، خدمة لنظام الأسد وتنفيذاً لأوامر إيران. خسائر الحزب هي خسائر لبنانية وتعني جميع مكونات هذا المجتمع من دون استثناء. لا خلاص من هذا المستنقع إلا بالخروج من سورية.

اقرأ المزيد
١٥ أغسطس ٢٠١٦
تقاسم للنفوذ في سوريا… قبل تقسيمها

ما الذي يدور في سوريا، على أرض سوريا، تحديدا، والمناطق المحيطة بها وفي العواصم المهتمة مباشرة بهذا البلد وبمصيره؟ اختلطت الأوراق إلى درجة تصعب الإجابة عن أي سؤال في شأن سوريا باستثناء أن هناك سباقا على حجز مناطق نفوذ في البلد في ضوء الغياب الأميركي، وغياب القدرة على تقسيم الأرض السورية، أقلّه في المدى المنظور.

يمكن أن يأتي التقسيم لاحقا. أمّا الآن، فكل طرف يحاول ضمان منطقة نفوذ له في انتظار الإدارة الأميركية الجديدة التي ستقرّر هل سيكون لها دور في سوريا أم لا؟ هل تلتزم هيلاري كلينتون التي ستخلف باراك أوباما، على الأرجح، سياسة الانكفاء أم تتبع سياسة جديدة من منطلق أن القضاء على “داعش” يتطلب، قبل أيّ شيء، التخلص من عرّاب الإرهاب في المنطقة، أي النظام السوري والميليشيات المذهبية التابعة لإيران بجنسياتها المختلفة، في الوقت ذاته؟

بعد زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لموسكو ومحادثاته مع الرئيس فلاديمير بوتين، دخلت إيران على الخطّ. لم يعد لدى طهران من خيار غير التقارب مع أنقرة. في مؤتمره الصحافي الذي عقده في العاصمة التركية، راح وزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف يتغزّل بتركيا، وبما يجمع بين بلده وهذا البلد. ذهب بعيدا في الغزل وفي مديح رجب طيب أردوغان. لم يكن ينقص سوى تبني إيران عملية إفشال المحاولة الانقلابية التي استهدفت الرئيس التركي منتصف الشهر الماضي.

كان المديح الذي كاله ظريف لأردوغان بمثابة تسخيف لبشّار الأسد وموقفه من الرئيس التركي، ولكل ما صدر، وما زال يصدر، عن الأدوات الإيرانية في لبنان من نوع الميليشيا المذهبية المسمّاة “حزب الله”. تبيّن في نهاية المطاف أن لإيران حساباتها السورية التي لا تتفق بالضرورة مع حسابات بشّار الأسد، إضافة إلى أن الأدوات الإيرانية في لبنان والعراق التي تستخدم لدعم رئيس النظام السوري تبقى أدوات ليس مطلوبا منها سوى تنفيذ الأوامر التي تصدر من طهران من دون سؤال أو جواب ومن دون سؤال، حتّى، عن الثمن المطلوب دفعه.

جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني لأنقرة بعيد عودة الرئيس التركي من موسكو حيث التقى فلاديمير بوتين. لا يزال من الباكر الحديث عن النتائج التي أسفرت عنها الزيارة في شأن كلّ ما يتعلّق بسوريا. لكنّ الثابت أنّ هناك اتفاقات اقتصادية ذات حجم كبير أمكن التوصل إليها في أثناء الزيارة ومراعاة للموقف التركي من كلّ ما له علاقة بالأكراد، خصوصا في سوريا.

تجاوز البلدان لأسباب اقتصادية كلّ أزمات الماضي وفتحا صفحة جديدة في العلاقات بينهما. بقيت المسألة المرتبطة بمستقبل بشّار الأسد عالقة. تعرف روسيا، قبل غيرها، أن لا شرعية من أي نوع لهذا النظام المنبثق أصلا عن انقلاب عسكري وعن استيلاء حزب البعث على السلطة في الطريق إلى إقامة النظام العلوي في عهد حافظ الأسد، ثم نظام الأسرة العلوية المرتبطة ارتباطا وثيقا بإيران في عهد بشّار الأسد. بكلام أوضح، تعتقد روسيا أنّ أوان قبض ثمن رأس بشّار الأسد لم يحن بعد، وأن هذا الثمن يتجاوز تركيا، إذ ثمّة حاجة إلى صفقات من نوع آخر مع دول عربية خليجية تعتبر أن لا حلّ في سوريا من دون الانتهاء من النظام ورموزه على رأسهم الأسد الابن.

لم يذهب أردوغان إلى سانت بطرسبرغ للقاء بوتين من موقع ضعف. صحيح أنّه منهك على الصعيد الداخلي في ظلّ المعركة التي يخوضها، كأحد زعماء تنظيم الإخوان المسلمين، مع الدولة العميقة في تركيا التي ترمز إليها المؤسسة العسكرية، ومع جماعة فتح الله غولن، لكن الصحيح أيضا أن بوتين رجل منهك أيضا. اكتشف الرئيس الروسي أن معركة حلب ليست نزهة كما تتصوّر إيران وميليشياتها والنظام السوري الذي يقاتل عن طريق “الشبيحة” إلى جانب هذه الميليشيات. إضافة إلى ذلك، إن الاقتصاد الروسي في حال يرثى لها، وهو في حاجة إلى الأوكسيجين التركي، بالمقدار الذي تحتاج فيه تركيا إلى الأوكسيجين الروسي، خصوصا في ظل التدهور في العلاقات بين أنقرة من جهة، والعواصم الأوروبية المهمة والإدارة الأميركية من جهة أخرى.

كان حصول التقارب الروسي – التركي طبيعيا، كذلك التقارب الإيراني – التركي الذي يفرضه العامل الكردي. إيران تخشى أكرادها، وهي نفّذت حملة إعدامات في حقّهم قبل أيّام قليلة، فيما تركيا تعيش هاجس الدولة الكردية المستقلّة التي لا تبدو أميركا بعيدة عنها كمشروع يندرج في سياق إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.

المفارقة أن إيران تتقرّب من تركيا التي تعمل على إعادة التطبيع الكامل للعلاقة مع إسرائيل، كما أنّ سعيها إلى التنسيق مع روسيا في سوريا يأتي في وقت هناك تنسيق كامل روسي – إسرائيلي في مجالات عدة من بينها سوريا طبعا.

هناك باختصار أربع دول معنية بسوريا أخذت لنفسها مواقع فيها. كلّ من هذه الدول تعمل على طريقتها وبما يخدم مصالحها…

كان هناك في مرحلة معيّنة استخفاف بتركيا وبأوراقها السورية. جاء فك الحصار عن قسم من حلب ليؤكّد أن هذا الاستخفاف ليس في محلّه، وأن حلب قضية حياة أو موت بالنسبة إلى رجب طيب أردوغان ومؤيديه. لو سقطت حلب، لكان سقط أردوغان. ما فشلت في تحقيقه المحاولة الانقلابية كانت ستنجح في تحقيقه حلب، في حال سقوطها. في المقابل، إن بقاء المدينة في يد الثوار لا يعني أن على بشّار مغادرة دمشق غدا. يستطيع البقاء أسير العاصمة ما دامت روسيا وإيران على استعداد لحمايته، وما دامت إسرائيل لا تعترض على ذلك بأي شكل من الأشكال.

هناك باختصار تموضع لأربع قوى في سوريا. هذه القوى هي تركيا وروسيا وإيران وإسرائيل. كلّ قوة من هذه القوى الأربع صارت تمتلك منطقة نفوذ في سوريا، وذلك بعدما أكّدت تركيا أن سقوط حلب ليس مسموحا به.

ما الذي سيحصل في عهد الإدارة الأميركية الجديدة؟ الأكيد أن تغييرا ما سيحصل على الصعيد الأميركي. ما ليس أكيدا وواضحا هو حجم هذا التغيير، لكنّ الثابت أن روسيا قبلت أخيرا بأن عليها التعاطي مع تركيا في سوريا وتجاوز مسألة الإصرار التركي على رحيل الأسد الابن. كذلك الأمر بالنسبة إلى إيران التي باتت تعرف

أن هناك خطوطا لا تستطيع تجاهلها في سوريا، خصوصا في ظلّ العلاقة العميقة الموجودة بين فلاديمير بوتين وبنيامين نتانياهو.

من هذا المنطلق، يمكن الحديث في المرحلة الراهنة عن تقاسم للنفوذ في سوريا تمهيدا لتقسيم سوريا في يوم من الأيّام. قد يحدث ذلك، كما قد لا يحدث. الكثير سيتوقف على موقف الإدارة الأميركية الجديدة ونوع الدور الذي ستقرر لعبه في الشرق الأوسط الذي يشهد حاليا، عبر ما يجري على أرض سوريا ووسط وقوف العالم المتحضر موقف المتفرّج، أكبر مآسي القرن الواحد والعشرين وأكثرها إيلاما.

اقرأ المزيد
١٥ أغسطس ٢٠١٦
من حميميم إلى أنجرليك

الوقت أنجع الأطباء. أقساهم. وأكثرهم غدراً. لهذا لا بد من التمهُّل في الاستنتاج. يصعب التكهُّن بالصورة التي ستكون عليها المنطقة بعد أعوام. فما يُعتبر اليوم إنجازاً قد يُعتبر خسارة بعد أعوام. وما فُسِّر جرأة في وقت سابق قد يُعتبر تهوراً في وقت لاحق. وحده الوقت يستطيع التمييز بين الجرأة والمغامرة والمقامرة.

تجتاز المنطقة الآن حقبة من الضباب والدم. خرائط متصدّعة. انتكاسة مدوّية للتعايش بين المذاهب والأعراق. أزمة هويات حادة وميل جارف إلى الطلاق. استقطابات حادة عابرة للحدود الدولية. وجيوش منهكة تتكئ على الميليشيات. وتدخُّلات إقليمية ودولية. منطقة مريضة تَعِد بمزيد من القتلى واللاجئين والفقراء والمتشدّدين. منطقة مريضة تكاد أن توحي بحاجتها إلى إدارة دولية مباشرة.

على دويّ الحرب السورية والمناخات المحمومة في الإقليم، جاء كلام موسكو عن الاستعداد لتوسيع قاعدة حميميم التي تطفئ الشهر المقبل شمعتها الأولى. توسيع لضمان وجودٍ مريح دائم أو مديد على الأقل. واللافت هو أن القاعدة الروسية تبعد عشرات الكيلومترات عن قاعدة أميركية شهيرة هي قاعدة أنجرليك الجوية الأميركية في جنوب تركيا.

أنفقت إيران الكثير من البلايين ومن دم حلفائها لتضمن لنفسها وجوداً دائماً على المتوسط وعلى الحدود مع إسرائيل. نجحت روسيا في انتزاع موقع على المياه الدافئة بثمن أقل حتى الآن. ولكن لماذا تريد روسيا وجوداً دائماً في حميميم؟ هل تبعث برسالة جديدة مفادها أنها لن تسمح بإسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، ولو تعرض لانتكاسات من قماشة ما حصل أخيراً في حلب؟ هل تريد القول أن مستقبل سورية سيُرسم انطلاقاً من حميميم وليس من أي نقطة أخرى، قريبة أو بعيدة؟ هل ستكون القاعدة الروسية حارسة الحل في سورية حين ينضج؟ هل ستتولى حراسة سورية الفيديرالية؟ أم ستتولى في غياب الحل ضخ منشطات دائمة في عروق «سورية المفيدة»؟ وهل لحميميم وظيفة تتعدى سورية إلى الإقليم، وتشمل سلامة أنابيب الغاز التي كانت حاضرة بين بوتين وأردوغان؟

تطرح الإقامة الروسية الدائمة في حميميم أسئلة كثيرة. هل يعني الوجود العسكري الروسي أن الحروب السورية - الإسرائيلية صارت من التاريخ؟ وهل تفضّل إسرائيل سورية - الروسية على سورية - الإيرانية؟ وهل يفضّل العرب رؤية هلال روسي - إيراني على رؤية هلال إيراني خالص؟ وهل يعتقد الغرب بأن تورُّط روسيا في سورية يُلزمها بالبحث عن حل لا يمكن أن يكون قابلاً للعيش إلا إذا أعطى إيران ومعها «حزب الله» أقل بكثير مما كان لهما في سورية؟

قصة أنجرليك مختلفة. ولدت في 1951. أي في عالم آخر. في زمن الحرب الباردة. ولكن لم يحدث أن تولت أنجرليك إدارة تركيا أو اعتُبِر جنرالها الأميركي جنرال الجنرالات الأتراك. في سورية تبدو القصة مختلفة. القاعدة الطرية العود أقوى من الدولة التي تستضيفها. والسبب بسيط فقد أنقذتها من الانهيار.

تعيش المنطقة مخاضاً دموياً هائلاً، لا يمكن تعليقه برمّته على مشجب «داعش». لهذا لا بد من إعطاء الوقت مزيداً من الوقت قبل الاستنتاج. من التسرُّع الاعتقاد بأننا نشهد ولادة مثلث روسي - إيراني - تركي ستكون له الكلمة الحاسمة في شؤون جزء من المنطقة. ما تريده إيران في سورية أكبر من قدرة أردوغان على الاحتمال. لا يستطيع أيضاً احتمال حسمٍ روسي للحرب في سورية يؤدي إلى تدمير مناطقها السنّية. لا يستطيع ولو حصل من موسكو وطهران على وعدٍ بكبح اللاعب الكردي الذي يعتبره خطراً دائماً فيما يعتبر «داعش» خطراً قابلاً للزوال.

لم يرَ باراك أوباما في سورية مكاسب استراتيجية تستحق إهدار دم جنود أميركيين واستنزاف البلايين. لعله اعتقد بأن ما اعتبره بوتين انتصاراً لن يتأخر في التحول عبئاً. ربما اعتقد بأن مرابطة روسيا في حميميم ستحتّم عليها البحث عن حلٍّ لوضع يستحيل حسمه بالوسائل العسكرية. المرابطة في حميميم من دون حلٍّ في سورية، ستعمّق حديث المعارضة السورية عن «الاحتلال الروسي». ويعرف بوتين أن سورية موصولة بشرايين المنطقة. وأن تورُّط جيشه في أفغانستان عربية سيستنزف اقتصاد بلاده وصورته معاً. وأنه في هذه الحال سيحتاج جنرال حميميم إلى جنرال أنجرليك لمساعدته في الخروج من محنته.

إنه مخاض مؤلم وطويل في منطقة فقدت حصانتها. إن تكاثر القواعد المعلنة والمضمرة وتكاثر الحروب والميليشيات، يؤكد أن المنطقة مصابة بنقص في المناعة القومية والوطنية وهبوط قاتل في منسوب التسامح والتعايش.

اقرأ المزيد
١٥ أغسطس ٢٠١٦
حديث الانعطافة التركية في الأزمة السورية

يتحدث متابعون عن استدارة أو انعطافة سياسية تركية، بعد زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سان بطرسبورغ، ولقائه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ويذهب الخيال ببعضهم إلى أن نتائجها ستتوج بتغيير موقف تركيا من المجرم بشار الأسد ونظامه، بل ونسج بعضهم شائعةً عن مدح أردوغان موقف الأسد من المحاولة الانقلابية، وهي ليست مجرد إشاعة، بل افتراء فاقع. ويجري الربط بين زيارة وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أنقرة، وما جرى بعد لقاء سان بطرسبورغ، لترتفع أسهم بورصة التكهّنات حول انعطافة تركية وشيكة في الأزمة السورية، تنهض على مقايضتها بعودة العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا، بناء على خلفية أن الاقتصاد كان الأكثر إضراراً بالطرفين منذ القطيعة بينهما، وكان العامل الحاسم في طي صفحة الخلاف بينهما، وذلك إذا علمنا أن حجم التبادل التجاري تراجع من حوالي 32 مليار دولار عام 2014 إلى ما يقارب 24 مليار دولار عام 2015، فيما يطمح الطرفان لرفعه إلى مئة مليار دولار بحلول عام 2023.

غير أن طرح الأزمة السورية على طاولة الحوار في لقاء أردوغان وبوتين، ثم ترحيل الحديث عنها إلى لجان ثلاثية، استخباراتية وعسكرية ودبلوماسية، يشير إلى صعوبة تحقيق توافق البلدين على رؤية مشتركة إزاءها، فالروس يدعمون نظام البراميل المتفجرة منذ بداية الثورة السورية، وقادهم ذلك إلى خوض حربٍ قذرة، إلى جانب المليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية والأفغانية، ضد غالبية السوريين، من أجل حماية مصالحهم التي يرون تحققها في تثبيت نظام الأسد في المدى المنظور. بينما اتخذت تركيا موقفا مناقضاً تماماً، بوقوفها إلى جانب مطالب الشعب السوري، واحتضنت أطراف المعارضة السورية ودعمتها، وبالتالي، يشير هذا التباعد بين روسيا وتركيا إلى أنهما لن يصلا إلى أبعد من تنسيق المواقف واحتواء كل منهما الطرف الآخر، ولن يتجاوزا خلافاتهما الجوهرية حول آلية الحل للأزمة السورية، خصوصاً وأن تركيا ما زالت ترى المشكلة في الأسد، وأن الحلَّ في رحيله، بينما تصر روسيا على حمايته ومهاجمة كل أطياف المعارضة وحاضنتها الاجتماعية.

ويجري البناء على تغير الموقف التركي بالمقارنة ما بين موقف الغرب من المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/ تموز المنصرم، وموقفي كل من روسيا وإيران حيالها، لكنه بناء يقوم على مقايسة هشّةٍ ومتسرعة، ترى أن تغيير سياسات الدول ومواقفها يجري بشكل أوتوماتيكي، وله حسابات ثأرية وشخصية، الأمر الذي لا يصمد في تقاليد العلاقات الدولية التي تبنى على الخطط والاستراتيجيات، الضامنة للمصالح القومية.

صحيح أن تركيا شعرت بخيبة أمل، بل وصدمت من مواقف حلفائها الغربيين، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، حيال محاولة الانقلاب الفاشلة وما جرى بعدها، لكن ذلك لن يدفعها إلى تغيير تحالفاتها وتوجهاتها، بل بناء علاقات متعدّدة المحاور ومتوازنة، بما قد يفضي إلى بناء علاقاتٍ أكثر قوة مع روسيا، الأمر الذي يشكل ضربةً جديدةً وقويةً للإدارة الأميركية الحالية التي باتت تخسر مزيداً من حلفائها في منطقة الشرق الأوسط.

ومن المفيد التذكير بأن الأولوية التركية في الأزمة السورية مبنية على مصالحها وأمنها القومي الذي بات مهدداً بعد إقامة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في سورية كانتونات كردية في الشمال السوري، وفق مشروع انفصالي، مدعوم من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية، وبالتالي، فإن تركيا تريد من روسيا وقف دعمها له، وهو أمر تلاقي به إيران تركيا، من جهة رفضهما قيام أي كيان كردي في سورية. لذلك، انحصر التوافق التركي الإيراني، في زيارة ظريف أنقرة، في وحدة سورية، وفي "ضرورة مكافحة الإرهاب"، وهما نقطتان تتصلان أساساً بالمسألة الكردية، فيما يبقى الخلاف كبيراً في مواقف البلدين حيال جوهر الأزمة السورية وأصلها، وهو رحيل الأسد. لذلك أكد الرئيس أردوغان، في حديثه لصحيفة لوموند الفرنسية، قبل يوم من زيارته سان بطرسبورغ أن "لا حل للأزمة السورية مع بقاء رئيس النظام السوري، بشار الأسد، المسؤول عن مقتل 600 ألف مواطن سوري".

ويمكن القول إن زيارة الرئيس التركي سان بطرسبرغ نجحت في إعادة وصل ما انقطع من علاقات مع روسيا، بعد أزمة استمرت أكثر من تسعة أشهر، وصاحبها ليونة في الخطاب التركي حيال الحل السياسي في سورية، وذلك لحثّ بوتين على البحث الجدّي عن ممكنات هذا الحل، خصوصاً وأن معركة فك الحصار عن حلب أظهرت للروس وللإيرانيين ومليشياتهم أن موازين القوى على الأرض تغيرت، وأن سعيهم إلى حل عسكري غير مجدٍ، ومستحيل التحقق، وبالتالي، فإن مسارعة وزير الخارجية الإيراني إلى زيارة أنقرة أشارت إلى أن ملالي إيران، ومن خلفهم نظام الأسد، هما أكثر الجهات قلقاً من أي تقارب تركي وروسي.

ويبقى أن أهمية التقارب التركي الروسي تكمن في تسخيره التوافق على حل سياسي إقليمي دولي، تشترك فيه تركيا وروسيا والسعودية وقطر، ولا مانع من إشراك إيران، إن جنحت نحو الحل السياسي، ولن يكتب له النجاح، إلا بمباركة الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، لكن ذلك يبدو، في المدى القريب، صعب المنال في غياب الإدارة الأميركية المشغولة بحملات الانتخابات الرئاسية فيها.

اقرأ المزيد
١٥ أغسطس ٢٠١٦
لأجلكِ “داريا” أكتب هذه المقالة و أنقل بيانات “القذارة” لأنظفها في “طهرك”

ها أنا أخط مقالي التالي فداء لـ ”داريا” و دعماً و مساندة لها في وجه الهجمة الشرسة التي تتعرض لها، لأخفف عنها دمار البراميل و صواريخ أرض- أرض التي تنهال عليها، و كذلك إطفاءً لنيران النابالم، و تقتيلاً للجنود المقتحمين و آليتهم المصفحة ، مقالة سيكون وقعها قاسياً على النظام و أعوانه و ايران و أتباعها و روسيا و طائراتها.

و لم لا يكون من مقالي هذا، من منبري هذا ، في هذا التوقيت المبارك ، أثره الكبير و الجم و الحاسم و المخفف والمنجي لـ ”داريا”، التي أنشدها دوماً و أصفها بأنها “أيقونة” ثورتنا ، و مصدر “فخارنا” و “عزنا” و نمائنا و سبب المطر و الخضرة، مع الاشارة إلى أنني : أنا القوي الصنديد، أدافع عنها من خلال مقالة سيكون وقعها على العالم مدوياً و مؤلماً، سيدفعهم لسحب جحافلهم عن أبواب مدنييها الذين يواجهون الموت الملون بأجساد أنهكها الحصار.

و بما أن داريا لها هذا الشأن العظيم عندي ، سأنقل تلك البيانات الرنانة، التي صدر أحدثها من جارتها في الغوطة الشرقية، عندما قالت في معركتها الجديدة (الهادفة لإنقاذ ما تبقى من الفسطاط) أنها نصرة لداريا ، وهم بحاجة لمن ينصرهم فكيف ينتصرون، و أي استنصار لم يظهر إلا في قمة الضعف .

سأذهب للجنوب لأحاول البحث في سراديب الاجتماعات و التحضيرات للزج بالجحافل في “مثلث الموت”، و أزف بشرى دك أبواب دمشق الصلبة، وصولاً لداريا لقطف عنبها مع اقتراب موعد النضوج، و طبعاً هي بشرى و تكهنات ووعود بأن القادم أدهى و أمر للنظام و حلفاءه الأشرار الذين تفرغوا تماماً لداريا، و لكن هذا “القادم” التائه لن يصل ، وأياً يكن المهم أني زففت البشرى و نقلت التضامن و وثقة ورود اسم “داريا” في البيانات التي صدرت أو التي تجهز أو التي ستصدر في أي مستقبل قريباً كان أو بعيد .

في المنطقة الوسطى والشمال، سأراقب هدير الصواريخ المتجهة لأي جهة كانت سواء نظاماً أم داعشياً أو فيما بيننا، لأمهر عليها اسم داريا ونصرتها ودعماً لصمودها، و تصبيراً لمصابها، فهذا داريا “ليست حيثما”.

ولن أميز بين عسكري وسياسي، سأكون حاضراً في مؤتمرات الائتلاف الصحفية والاجتماعات واللقاءات مع الساسة، وكذلك مع هيئة المفاوضات وألحق بهم في تصريحاتهم العابرة للقارات، لأنقل المناشدات والعبارات الرنانة وكذلك المشاعر الآسفة، الامتعاض والقلق والندب.

بين مقالتي القوية هذه و ما نقلته و أنقله و سأنقله، أستطيع البوح و أنا مرتاح الضمير، مرفوع الرأس، أن داريا ستكون بخير، و أنا و من ذكرتهم من داعمين سنكون طاهرين بعد أن ربطنا أسمائنا و أفعالنا و قذاراتنا و خذلاننا بـ ”طهر” مدينة كـ ”داريا” ، و اكتفينا بحروف بلهاء بلا معنى اذا ما …..

اقرأ المزيد
١٤ أغسطس ٢٠١٦
'داعش' ذخيرة إيرانية – روسية لا تستفز واشنطن

تفعل الطائرات الروسية فعلها في حلب وعلى امتداد مناطق إدلب وغيرها من مناطق نفوذ المعارضة السورية، لكنها غائبة عن ذلك التنظيم الذي ضجّ الغرب والعرب بأفعاله الدموية، يغيب هذا التنظيم عن جدول أعمال الرئيس الروسي الذي يكرر أن معركته في سوريا ضد الإرهاب، ولكن الإرهاب كما تشير الأهداف الروسية على الأرض، هو كل معارض جدي للرئيس بشار الأسد، وكل القوى التي نالها من تنظيم داعش ما نالها من قتل وإبادة.

الهدف الروسي والإيراني هو ضرب المشروع البديل عن نظام الأسد، وهذا المشروع لا يمكن أن يكون داعش لا لأن هذا التنظيم أقل أو أكثر إجراما من الأسد، بل لأسباب تتصل بأوضاع دولية وبعنوان الإرهاب الذي يختزل وجود هذا التنظيم دوليا وإقليميا. من هنا تتركز الجهود الإيرانية الروسية على محاولة إنهاء المعارضة السورية المقبولة دوليا، وتلك التي تحظى بدعم عربي أو رعاية تركية. من هنا كانت معركة حلب لفك الحصار عن آخر معاقل المعارضة في المدينة رسالة قوية لروسيا وإيران بأن التسامح في عملية إضعاف المعارضة لا يعني إلغاءها، فيما شكلت إرادة القتال لفصائل المعارضة السورية في حلب وجها متجددا للرفض العميق لدى الشعب السوري للنظام السوري المتهالك، وبالدرجة الأولى لما تسميه قوى المعارضة قوى الاحتلال الروسي والإيراني والميليشيات الأجنبية التي تشكل الطاقة العسكرية الفعلية على الأرض وفي الجو.

حدد الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ عامين مدة زمنية تمتد بين ثلاث سنوات وخمس سنوات للقضاء على هذا التنظيم. وتحديد هذه المدة الزمنية قد يبدو عكس المرجو منه. ذلك أنه إذا ما جرى التدقيق في الشروط التي وضعها الرئيس الأميركي لإنجازها، نجد أن ما طلبه أوباما هو عملية سياسية يجب أن تواكب العمليات العسكرية ضد داعش. وهذه العملية السياسية حددها على خارطة انتشار هذا التنظيم، وهي في إعادة صياغة العملية السياسية بالعراق وفي سوريا، بما يوفر إعادة الاعتبار للمكون السني في المعادلة السياسية العراقية وداخل الدولة، كذلك في سوريا. وقال أوباما “نريد أن تكون هناك قوات قادرة على السيطرة في المناطق التي يمكن أن نخرج داعش منها وهذا يتطلب وجود حكومة تمثل الجميع”.

إضافة إلى هذا التحدي، ثمة ما هو أهم في نظر الأميركيين، ألا وهو إعادة صوغ المعادلة الإقليمية بشروط جديدة، تحقق لأطراف النزاع الإقليمي مساحة من الأدوار التي لا تميز بين الحلفاء التقليديين لواشنطن، أو اللاعبين الجدد تحت المظلة الأميركية… وإزاء هذه الشروط السياسية والإقليمية يمكن فهم أسباب عدم استعجال واشنطن للقضاء على داعش. فهي ببساطة لا تجد نهاية لداعش إذا لم يكن من بديل سياسي وإقليمي قادر على الحلول مكانها.

هذا التنظيم أظهر قدرة ليس على الصمود فحسب، بل على التمدد في خضم الحرب عليه من قبل التحالف الدولي، في سوريا. وإذا كان هناك من يوفر دعما لوجستيا وماليا لهذا التنظيم، إلا أن ذلك لا يقلل من قوة ذاتية توفرت لداعش. منها أسباب اجتماعية وسياسية لا تغيب عن أحد. فداعش هو فكرة جاذبة لكل من يعتقد أن العالم الإسلامي السنّي يتعرض منذ سنوات لهجمة استعمارية واحدة غربية تمثلها الإدارة الأميركية، وأخرى مذهبية تقودها إيران في سوريا والعراق واليمن. وهو جاذب أيضا لكل من يعتقد أن النظام العربي الرسمي أو ما تبقى منه، عاجز عن أن يكون ندّا للهجمة الخارجية من جهة، وفاشل وقامع لتطلعات المجتمعات العربية نحو الحرية ولتقاسم عادل للثروات الوطنية من جهة ثانية.

بهذا المعنى تنظيم داعش هو أكبر تنظيم في العالم الإسلامي، ما دامت السياسات الدولية والإقليمية تذهب نحو قمع خيارات الأكثرية لصالح الأقليات سواء كانت قومية أو سلطوية أو مذهبية.

في المقابل يعتقد بعض المراقبين أنه إذا كانت أهداف واشنطن واضحة لجهة صوغ معادلة إقليمية جديدة في الشرق الأوسط، فإن ثمة ما هو مسكوت عنه في السياسة الأميركية، وهي خارطة الطريق لتحقيق هذه الأهداف. إذ أن واشنطن تبقي عينها مثبتة على ما تعتقد أنه الجائزة الكبرى لها في هذا المخاض الإقليمي: أي إيران. ويلفت المراقبون إلى أن الإدارة الأميركية تنطلق من اعتبار استراتيجي يقوم على أن إيران لا يمكن أن تكون خارج نظام المصالح الأميركية في المنطقة، وعملية احتواء إيران جارية لكن هذه المرة على حساب النظام الإقليمي العربي، وبسلاح الإرهاب الذي يمثله داعش وبما يتلاءم ولا يتعارض مع المدى الإستراتيجي الحيوي لإسرائيل، والأرض السورية هي الامتحان الناجح على هذا الصعيد، فإيران تقول إن العداء هو مع العرب ليس مع إسرائيل وإن كان العنوان محاربة الإرهاب.

وإذا كانت واشنطن غير مهتمة بمواجهة النفوذ الإيراني وتمدده، كما هو الحال في اليمن أو في سوريا والعراق، فهي تعلم أن دولا إقليمية (تركيا السعودية) بما فيها الثورة السورية تشكل قوة ردع واستنزاف يعفي واشنطن من الرد المباشر. إضافة إلى حاجة السلطة الإيرانية المتنامية في الداخل والإقليم، إلى مستوى ملح من التعاون مع واشنطن في ظل الغضب السني ضدها.

الحرب السورية لم تشهد منذ بدايتها حتى يومنا هذا أيّ مواجهة فعلية بين التنظيمات الإيرانية الرسمية والميليشياوية بما فيها حزب الله مع تنظيم داعش، على طول الجغرافيا السورية، فقد كان التنظيم سلاحا في وجه المعارضات السورية المدنية والمعتدلة.

اقرأ المزيد
١٤ أغسطس ٢٠١٦
موسكو وتعديل سياستها في سوريا

اتخذت موسكو منذ انطلاق الثورة في سوريا، قبل نحو ست سنوات، موقفًا مؤيدًا لنظام بشار الأسد، وطورت موقفها، ليشمل تقديم الدعم والمساندة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية، بما في ذلك استخدامها «الفيتو» في مجلس الأمن ضد أي قرارات من شأنها إدانة نظام الأسد، أو معاقبته على سياساته وممارساته، ثم انتقلت بموقفها إلى الانخراط المباشر في الصراع السوري أواخر العام 2015، عبر إرسال قوات جوية وبحرية وبرية وخبراء للمشاركة في الحرب، وعبر استخدام الطائرات والصواريخ في قيادة بعض المعارك على جبهات مختلفة من البلاد.

ورغم انخراط روسيا في الحرب السورية، وانضمامها إلى حلف نظام الأسد مع إيران والميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات، فإنها سعت للعب دور الوسيط من أجل حل سياسي في سوريا، يتوافق ويتقارب مع موقف النظام، الأمر الذي تفسره جملة سياساتها كما عملياتها العسكرية في سوريا، والتي كان آخرها إطلاق معركة حصار حلب بهدف خلق وقائع ميدانية وسياسية تعزز السير نحو حل سياسي، يتوافق مع الرؤية الروسية في إطار التحالف مع نظام الأسد.

غير أن معركة حلب، في مجرياتها ونتائجها الأولية، ذهبت في اتجاه مختلف عما كانت ترغب فيه موسكو وحلفها، من حيث استنهاض تنظيمات المعارضة المسلحة، وتقاربها البيني من جهة، ومع المعارضة السياسية من جهة أخرى، وإفشال مخطط حصار حلب، الأمر الذي وضع موسكو أمام حقيقة العجز عن حسم عسكري هناك، رغم كل ما تم من حشد نوعي وكمي لحلف النظام في معركة بدت نتائجها شبه مضمونة.

وكان من نتائج ما حدث أن صارت روسيا في موقفها السوري أمام واحد من خيارين؛ إما الاستمرار في المسار الحالي الذي لن يوصل إلا لاستمرار الصراع بين كر وفر دون حسم، وإما مزيد من الانخراط الروسي في الصراع السوري بجلب المزيد من القوات، خصوصًا القوات البرية، إلى سوريا، والاستخدام الواسع للأسلحة الروسية في الحرب دون أي نتائج مضمونة، مما يمثل كارثة روسية، قد لا تقل عما كان عليه التدخل السوفياتي في أفغانستان في سبعينات القرن الماضي، وقد كان من مقدمات انهيار الاتحاد السوفياتي. أمام الخيارين الروسيين الصعبين، لا يبدو أمام موسكو إلا تعديل موقفها وسياستها في القضية السورية، خصوصًا التعامل بمستوى أكثر من الجدية والمسؤولية مع جهود الحل السياسي في سوريا، وهو حل يراوح بين مستويين؛ أولهما الحل القائم على أساس «جنيف1» لعام 2012، الذي تطالب به المعارضة، وتؤيده قوى إقليمية ودولية، والثاني توافقات فيينا 2015، التي كان الروس بين صناعها، والتي لا تغفل «جنيف1»، مع تعديلات عليه.

لقد أفرزت معركة حلب في بعض نتائجها الحقائق السابقة، وهي حقائق تضاف إلى ما يفرزه التطور الحاصل في العلاقات الروسية – التركية، خاصة في ضوء قمة إردوغان - بوتين في موسكو، التي خصصت جلسة لبحث القضية السورية، بحضور كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين من الطرفين، وأسست بنية مشتركة لبحث القضية السورية، التي سيكون لها تأثيرات ليس على العلاقات البينية، بل على القضية ذاتها، عبر إيجاد قواسم مشتركة بين الجانبين في الموضوع السوري، والمشترك بينهما هو دعم مسار الحل السياسي.

وباستثناء عاملي نتائج معركة حلب وتطور العلاقات الروسية – التركية في ضغطهما على الروس لدفعهم نحو الحل السياسي، فلا بد من التوقف عند الوضع العسكري لنظام الأسد، وقد باتت قواته تعاني من انهيار شامل رغم كل المساعدات التي يقدمها له الحلفاء الروس والإيرانيون، وهذا ما كشفته وأكدته وقائع معركة حلب في عدم قدرة قوات النظام على الاحتفاظ بسيطرتها على مواقع عسكرية محصنة في منطقة الراموسة، وفيها خيرة ضباط ومدربي النظام في الكليات العسكرية، وصدرت تأكيدات من جانب حزب الله عن انهيار قوات الأسد في حلب، بعد أن منيت بخسائر كبيرة بشرية ومادية في تلك المعارك، وهو أمر يطرح على حلفاء النظام سؤالاً حول قوة حليفهم وقدرته على الإمساك بالوضع السوري في وقت تتواصل فيه ترديات وضعه في كل المجالات والمستويات.

خلاصة الأمر، إن روسيا أمام حقائق جديدة في المستويين السوري، سواء لجهة تعزيز قوة المعارضة، وتردي أوضاع النظام، أو في المستوى الإقليمي والدولي الذي يضغط كما هو حال الأوروبيين للانتقال السياسي في سوريا، مما يجعل موسكو لا تملك خيار الاستمرار في موقفها الراهن، ولا هي تستطيع تطوير مشاركتها في الحرب السورية لحد الغرق في وحولها، مما يفرض عليها المضي نحو خيار أكثر موضوعية وتوافقًا مع مصالحها، وتجاوبًا مع مطالب المجتمع الدولي الذي يعتقد قسم كبير منه أن روسيا يمكن أن تساهم جديًا في الحل السياسي للقضية السورية.

اقرأ المزيد
١٤ أغسطس ٢٠١٦
عن زمن المفاجآت

لم يكن أحد يصدّق أن حلب ستدحر محاصريها خلال أربعة أيام، وستحاصرهم في اليوم الخامس. قبل فك الحصار، كانت جميع الأخبار تدور حول هجوم كاسح سيشنه النظام ومرتزقة إيران، بمعونة الطيران الروسي، لاحتلال كامل حلب، وردّها إلى بيت الطاعة الأسدي. وكنا نمسك قلوبنا خوفاً من سقوط مدينةٍ، تتركز فيها جميع قوى الصراع الداخلي/ العربي/ الإقليمي/ الدولي، ويرتبط بمعركتها مصير الشعب السوري، وشعوب أخرى في منطقتنا، وأوضاع دولية، تتكثف فيها على صورة جيوش متصارعة، وأسلحة متقاتلة، وخيارات متعارضة.

إلا أن مفاجأة هائلة كانت بانتظارنا، جسّدها هجوم عاصف، شنته المقاومة، بعد توحيد صفوفها، ورسم خطة عمليات مشتركة، نفذتها بتنسيق جهود طرفيها: الجيش الحر وجيش الفتح، اللذان هجم أحدهما من خارج المدينة، والآخر من داخلها، ثم التقيا، بعد بضعة أيام، في الراموسة، وفتحا معبراً فيها، وفكّا الحصار عن ثلاثمائة ألف مواطنة ومواطن، كان الأسد يتوهم أنه حاصرهم، وجعلهم أسراه.

لم يكن أحد يتخيل أنه سيكون للهجوم من الزخم ما سيمكّنه من طرد جيش النظام إلى خارج قلاع حصينة، عجز مقاتلو المعارضة عن الاقتراب منها أعواماً، ناهيك عن احتلالها، على الرغم من محاولاتهم المتكرّرة، وما قدّموه من شهداء على أسوارها. السؤال الذي يطرح نفسه: أين كان الأسديون والإيرانيون الذين يتأهبون لاقتحام حلب، وما الذي فعلوه لصد هجوم المقاومة المباغت؟ يبدو أنهم فرّوا، أو تفرّقوا أيدي سبأ، أو قتلوا، أو سقطوا أسرى، أو انسحبوا من معركةٍ أيقنوا أنهم لا يستطيعون خوضها.

هذه المفاجأة على الصعيد العسكري رافقتها مفاجأة على الصعيد السياسي، لعب فشل الانقلاب في تركيا دوره الكبير في إحداثها، جسّدها قرار أنقرة رفض حصار حلب، والعمل على كسره من خارج الالتزام بما كان يتم من تفاهمات أميركية/ روسية، وعلى وضع هجوم المقاومة في سياقٍ لا يريح واشنطن، يعطل خطة النقاط الثلاث التي كانت قد أعلنت عن بدء جهودٍ مكثفة، للتفاهم عليها مع روسيا، فتبخرت نقاطها جميعها، ولم "تتحول الهدنة إلى وقف إطلاق نار دائم"، أو "يقدّم كيري مقترحاً جديداً للحل"، كما تنص على ذلك نقطتها الثالثة. بدعمها الهجوم الناجح، أظهرت أنقرة كم يمكن لدورها أن يكون مؤثرا في الخطط التي يضعها الكبيران، وكم يمكنها العمل من خارج قراراتهما وخططهما، أميركية كانت أم روسية، وبين أن خيارات أنقرة لن تنضوي، بالضرورة وفي جميع الأحوال، ضمن السياق الذي تم التفاهم عليه بينهما، وأنها تستطيع خربطة شغلهم، والعمل بطرقٍ ليس من المحتم أن تكون جزئية أو وقتية المجريات والنتائج.

ما الذي سيترتب على المفاجأتين السورية والتركية؟ ثمّة احتمالاتٌ عديدة ممكنة، أهمها التالي: بدعمها الهجوم بعد المصالحة مع روسيا، وقبل زيارة الرئيس أردوغان سان بطرسبورغ، ومن دون النظر إلى ما يمكن أن يكون عليه رد فعل واشنطن، أعلنت تركيا في رسالةٍ واضحة إلى "كل من يهمه الأمر" أنها لن تتخلى عن السوريين وثورتهم، ولن تصالح نظامهم أو تنقذه، كما خالت أوساط عديدة، ولن تتردّد في إمدادهم بالعون الذي يمكّنهم من تغيير أوضاعهم العسكرية، وتالياً السياسية، إلى الحد الذي يجعلهم رقماً صعباً يستحيل تجاوزه، سواء في معادلات السياسات الإقليمية والدولية، أم في أي حل مقبل.

بمعركة حلب ونتائجها الباهرة، دخلت تركيا الساحة السورية من أعرض أبوابها، وطوت صفحة التقيّد بالرهانات والحسابات، الخارجية عموماً والأميركية خصوصاً، وأحدثت مفاجأة من العيار الثقيل، لا يُستبعد إطلاقاً أن تمهد لحل سياسي عادل، يحترم شعب سورية، ويستجيب لحقوقه: طال الزمن أم قصر.

اقرأ المزيد
١٤ أغسطس ٢٠١٦
حتى لا تتحول سورية إلى أفغانستان ثانية

المعارك الأخيرة التي توجت بكسر الحصار المفروض على حلب، وتحرير مواقع وأحياء عديدة كانت خاضعة فيها للنظام، والاحتفاء الكبير الذي لاقته، والنتائج التي أدى إليها، وفي مقدمها التحالف الذي يبدو وثيقاً اليوم بين الفصائل المدنية والفصائل الإسلامية، ليست معارك عادية. إنها تشكل منعطفاً مهماً في تاريخ الصراع المرير والمتعدّد الأطراف على الأرض السورية. ليس لما أسفرت عنه من ولادة قوة عسكرية موحدة ومنضبطة، وقادرة على خوض عمليات محكمة في صف الثورة والمعارضة، وسوف تزداد قوةً مع تقدم الانتصارات والمكاسب على الأرض، وهو ما افتقدته الثورة السورية سابقاً، وإنما لأنها حسمت، أو في طريقها إلى أن تحسم نزاعاً على القيادة، ما يزال مستمرا منذ سنوات. وهذا سبب إضافي، لكي لا يقبل نظام الأسد التوازن الجديد، وأن لا يسجل المجتمع الدولي التقدّم الذي أحرزه الثوار السوريون في الخانة الصحيحة. وبدل أن يفتح التغيير الحاصل في موازين القوى طريق المفاوضات المسدود، سوف يفاقم من مأزق السلام. فعلى الأغلب، وإذا قسنا الأمور بسوابقها، لن يتعلم الأسد، وحلفاؤه الإيرانيون بشكل خاص، أي درس إيجابي ومفيد من النكسة التي شهدوها، ولن يقبلوا التفاوض على أساسٍ جديد، وسوف يصرّون على الحسم العسكري لتكريس وجودهم في سورية، وهو ما لا يمكن ضمانه بغير انتصار الأسد ونظامه. في هذه الحالة، بدل أن تكون معركة تحرير حلب خطوةً نحو إنهاء الحرب، ربما ستدفع إلى تأجيجها بشكل أكبر، وتكون تمهيداً لمرحلة جديدة من الصراع، تتجاوز، في دمويتها، المراحل السابقة، وذلك بمقدار ما حطم انتصار الفصائل المقاتلة حلم الحلف الثلاثي، طهران وموسكو وطرطوس، في تحويل معركة حلب إلى معركة تصفية قوى المعارضة، وأنعش، في الوقت نفسه، حلم الفصائل التي تعرّضت لنكساتٍ كبيرة سابقة، في اسقاط النظام، وحسم الصراع لصالحها بالطرق العسكرية، أي بمقدار ما تحولت رهانات الحرب إلى رهاناتٍ مصيرية بالنسبة لجميع الأطراف.


في جوهر النزاع بين السوريين

ومن المفيد، في بداية هذه المرحلة التي ستكون قاسيةً على أبناء الشعب السوري والمدنيين الذين يتحملون عبء القتال الرئيسي بشكل خاص، أن لا يغيب عن ذهن المنتصرين هنا وهناك، وفي هذه اللحظة أو تلك، جوهر الصراع، حتى لا تذهب سورية ضحية تنامي مشاعر الكراهية والحقد والانتقام، ونغلق على أنفسنا، من دون أن ندري آفاق الحل السياسي الذي لا نهاية للحرب من دونه، إذا أردنا أن تبقى سورية والسوريين، في أي صيغةٍ كانت، على قيد الحياة. وربما يساعدنا تذكّر جوهر الصراع وأسبابه وأهدافه على كبح جماح الغرق في الحرب الطائفية التي يزداد منسوب الاندفاع نحوها بمقدار ما يشتدّ الصراع، ونفقد السيطرة عليه، وتتراجع، بل تنسحق في سياقه القوى المعتدلة على الضفتين، لتبرز إلى المقدمة القوى الراديكالية التي لا تعبأ كثيراً بتعاظم الرهان على التعبئة المذهبية والعصبوية، ويزيد دور القوى والمراهنات الأجنبية التي لا يهمها مصير سورية، بمقدار ما يعنيها توظيف حربها لتحقيق مآرب وأهداف خاصة بها.

ينبغي أن نتذكّر دائما ولا يغيب عن أذهاننا أن الحرب اندلعت، منذ البداية، ردّاً من النظام على مطالبة الشعب بالتغيير والاصلاح، وأنها كانت التعبير عن تصميم النظام الذي أوصل البلاد إلى طريقٍ مسدودة، على رفض التجاوب بأي شكل مع مطالب أغلبية من السوريين، والبحث معهم عن مخرجٍ في صيغة جديدة للحكم، تضمن للجميع ما أصبح معياراً عالمياً وإنسانياً للعدالة في عصرنا، وهو المساواة في الحقوق والواجبات، وفي الوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ والموارد بين جميع السوريين، وإنهاء عهد المحسوبية واحتكار النفوذ والسلطة والثروة والجاه لصالح فئةٍ صغيرةٍ من الذئاب الكاسرة، تماهت مع الدولة، واستخدمتها درعاً تحتمي به، وأداة لقهر الشعب وتمزيقه فرقا وشيعاً، وبث الرعب في قلوب أبنائه، حتى يقبل الخضوع والإذعان.

وينبغي أن نتذكّر، دائماً، أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه من كارثةٍ إنسانية وبيئية هو الاعتقاد الذي لم يتزعزع عند قادة النظام وأنصارهم أن سورية ملكٌ خال لهم، وأن أي تنازل في أي ميدان سوف يعني بداية انهيار ملكهم. ولا يزال أغلبهم يعتقد أن بإمكانهم سحق الانتفاضة الشعبية، ووأدها تحت آلاف الأطنان من المتفجرات والغازات والقنابل من كل نوع، وترويع السوريين بطوفانٍ لا ينتهي من الصور والأفلام التي يسرّبونها عمدا، لتحريض السوريين بعضهم على بعض، وتشويه صورة الثورة بسيلٍ من الأكاذيب والروايات الملفقة عن الإرهاب والإرهابيين.

وعندما فشلوا، وتحطمت خططهم العسكرية والدعائية على جدران صمود السوريين، طار صوابهم. لكنهم، بدل أن يغيروا سياستهم، زادوا اقتناعا بأنه لا حل إلا بمزيد من العنف والقتل والدمار. وهكذا اكتشفوا فضيلة التدخل الأجنبي وشرعيته، فبعد أن جرّوا بلادهم بأيديهم إلى حرب إبادةٍ ذهب ضحيتها مئات ألوف السوريين، لم يتردّدوا في استقدام عشرات المليشيات الطائفية إلى بلدهم، وفي تسليم مقاليد أمرهم وقيادتهم للجنرالات والمستشارين الايرانيين. وعندما فشلت طهران في تحقيق مآربهم، التفتوا إلى روسيا التي اعتقدت أن الحرب السورية فرصتها الوحيدة للرد على الصفعات الغربية التي وجهت إليها في العراق وليبيا، ولاستعادة صدقيتها في أوروبا والعالم، وتسهيل فرض الأمر الواقع في أوكرانيا والقرم.
ومن جديد، وجدوا أنفسهم عاجزين عن كسر صمود السوريين. ولم ينجح التحالف الثلاثي الإيراني الروسي الأسدي، على الرغم من كل ما حشده من قوى، واستخدمه من أسلحة، في حسم الصراع. وفاقم حرص الإيرانيين والروس على عدم التفريط باستثماراتهم الكبيرة في الحرب السورية من تمسكهم ببقاء الأسد، واستعدادهم لتسعير الحرب والتصعيد في العنف.

وهكذا، بدل أن تتقدم حظوظ التفاوض مع تفاقم الأزمة وانخراط المجتمع الدولي المتزايد فيها، تراجعت، بشكل أكبر، كل يوم. وباءت الجهود الدولية للبحث عن تسويةٍ سياسية، تضمن، في الوقت نفسه، مصالح السوريين الموالين للنظام، والحد الأدنى من كرامة ومصالح أولئك الذين ثاروا على الظلم والفساد والاستبداد، بفشل ذريع، وهي الآن في سكرات الموت. ولا يزال بشار الأسد وطغمته وحلفاؤه مصرّين على انتزاع النصر على الشعب بأي ثمن، حتى لو كلف ذلك تدمير مدنه وحضارته وتشريد الملايين منه وإخراجه من دياره. لم يعد لدى هؤلاء أي ذرةٍ من البصيرة والعقل. كما يحصل لرجال العصابة المطاردين، حول هؤلاء البلاد والدولة والشعب إلى رهائن، وهم يهدّدون بقتلهم جميعاً أو الحصول على مبتغاهم، ويؤكدون عزيمتهم وقوة ابتزازهم بقتل مئات السوريين وتدمير شروط حياتهم كل يوم .


خيارات السوريين الصعبة
أمام فشل المجتمع الدولي في القيام بواجباته، ووضع حد للانتهاكات الخطيرة لحقوق السوريين، أفراداً وشعباً معا، وفشل الأمم المتحدة والدول الكبرى في الدفع نحو حل سياسي، وتعطيل نظام الأسد جميع الآليات السياسية والقانونية لفك الحصارات المفروضة على مئات آلاف المدنيين والحفاظ على حياتهم، لم يبق أمام السوريين، وفي مقدمهم فصائل الثورة، خيار سوى عرض الاستسلام، كما طالبهم به، قبل معركة فك الحصار عن حلب، وزير الحرب الروسي، أو استجماع ما بقي لديهم من قوة معنويةٍ وشجاعةٍ وإيمانٍ من أجل خوض حربٍ أصبحت حرب حياة أو موت، لا يمكن أن تتوقف قبل إسقاط الأسد ونظامه.

في سياق هذه الحرب الوجودية التي وضعت السوريين أمام خيار واحد: إما قاتلاً أو مقتولاً، وسدّت كل المنافذ على السياسة والحلول السياسية والتسويات، لم يعد للتيار السياسي والفكري المدني دور كبير، وهو يفقد، بشكل متزايد، القدرة على التأثير والنفوذ. لقد قزم وسحق تحت وقع ضربات العنف الوحشي لنظام الأسد، وهجومات داعش المنسقة معه، وتخلي الدول الديمقراطية التي ادّعت الصداقة مع الشعب السوري، وتردّدها في دعم خيار ديمقراطي جدّي في سورية، وتهافت سياسة النخب العلمانية وتشوشها واضطرابها. وليس هناك شك في أن معركة فك الحصار عن حلب فتحت طريقاً واسعاً لتقدم الإسلاميين إلى موقع القيادة، تساعدهم على ذلك إرادة القتال، والانتشار العسكري، كما تشجعهم دينامية التقدم على الأرض على تجاوز الخلافات، والسير بخطى أقوى نحو الاتحاد في ما وراء تياراتهم ومدارسهم وأجنداتهم، المعتدلة والمتطرفة.

يطرح هذا أسئلةً كثيرةً على أصحاب هذا التيار المدني الذي مال، بشكل أكبر، نحو الكفاح السياسي، والذي غدر به حلفاؤه، وعجز عن تجاوز انقساماته وتوحيد قيادته، ويضعه أمام اختيارٍ صعب بين الخضوع للاحتلال الروسي الإيراني القابع تحت أسمال نظام الأسد المتهالك، والانقياد وراء مشروع جهادي سوري، يولد من لهيب حرب التسلط الوحشي والإبادة الجماعية والاحتلال الأجنبي والتقسيم، ما يزال يتقدّم وتتسع دائرة انتشاره، على الرغم من أنه لا يزال متعدّد التيارات والتوجهات، ولم يبلور هويته الواحدة، ولا أجندته السياسية بشكل واضح بعد. لكنه يبدو، بعد معارك حلب التي تحولت إلى مسرح الصراع الرئيسي بين النظام والمعارضة، أول المرشحين لفرض قيادته على مقاومة شعبٍ هُدّت أركان وجوده، وروّع أطفاله، ويشعر بأنه أصبح من دون نصير.

لم يكن سوري واحد يتصور عندما هبت ثورة مارس/ آذار 2011، أنه سيجد نفسه يوماً أمام مثل هذا الاختيار. الأغلبية الساحقة من السوريين الذين غزوا الشوارع والساحات، بشعاراتهم وأهازيجهم ورقصاتهم الليلية، كانوا يلهجون ويحلمون بمشروع واحد: سورية المدنية التعدّدية الديمقراطية الواحدة، سورية العدالة والمساواة والمؤاخاة بين جميع أبنائها وجماعاتها القومية والمذهبية والفكرية والسياسية، سورية متصالحة مع نفسها وتاريخها، بما في ذلك مع الجماعات التي احتضنت النظام، بمختلف مذاهبها وطبقاتها، ومع التيارات والحركات الإسلامية التي أقصاها النظام، والتي أعلن أغلبها، منذ بداية الثورة، التزامه بالعهد الوطني المدني والديمقراطي.

غيرت حرب السنوات الخمس، وما شهدته من سياسات القتل والإبادة والتشريد، ومن نكران واستهتار عالمي بحياة السوريين ومستقبلهم، جميع الحسابات. وجاءت انتصارات معركة فك الحصار في حلب، لتمحو تاريخاً طويلاً من الخيبات والانتكاسات، ولتحيي الأمل بتجديد الثورة وإعادة عهد انتصاراتها. وهي تضع قوى الثورة والبلاد أمام منعطفٍ جديدٍ، وتعيد تشكيل المشهد العسكري، وبالتالي السياسي، بشكل مختلف تماماً عما كان عليه في حقبتها الأولى. والسؤال اليوم مطروح على الإسلاميين الذين هم في طريقهم إلى حصاد تضحيات ملايين السوريين من كل التيارات والاتجاهات، وفي مواجهة نظام الجريمة وحلفائه، وعبث المجتمع الدولي، وخيبة أمل السوريين به، عن دور القوى المدنية، ومصير العهد الوطني الذي شكل ضمير جميع من شارك في الثورة منذ بدايتها من السوريين، والذي لاتزال قيم التسامح والنفور من التعصب والتطرف والانغلاق تشكل النبض العميق لثقافته وسلوكياته اليومية، بمعزٍل عن ظروف الصراع الراهن على الدولة والسلطة.

لا أعتقد أن أحداً من قادة الاسلاميين السوريين الذين فتحت لهم معركة فك الحصار عن حلب الطريق نحو تصدّر كفاح السوريين المرير ضد نظام الأسد يملكون الجواب الآن، أو أن همهم، وربما مصلحة كثيرين منهم، يشجعانهم على طرح السؤال، ومحاولة الإجابة عنه. وعلى الأغلب، ليسوا قادرين أو مستعدين بعد لطرحه على أنفسهم. وهذا ما يفسّر إصرار بعضهم على تسجيل معركة فك حصار حلب في سجل الانتصارات الإسلاموية بإطلاق اسم إبراهيم اليوسف عليها، بدل تسجيلها كما كان يقتضي الواجب الأخلاقي والسياسة معاً في سجل الانتصارات الوطنية الجامعة والمجمعة.

تبرهن معركة حلب على أن تصميم السوريين على التخلص من نظام الأسد وإرثه الأسود لا حد له ولا بديل. وهم على استعدادٍ ليراهنوا على أي قوةٍ يعتقدون في قدرتها على تحقيق غايتهم. لكن، ليس من أجل إقامة نظام بديل للاقصاء والتهميش. أخطر ما يمكن أن نشهده، في الأشهر والسنوات المقبلة، هو وضع السوريين، من جديد، أمام اختيار مستحيل: بين دولة نظام الاحتلال والتشبيح الأسدي، أو لادولة نظام طالبان أفغانستان اللاهث وراء خرائب الماضي، والرافض أي مفهوم للتقدم والتغيير والتجديد في الاقتصاد والمجتمع والدين.

إسقاط الديكتاتورية ومنظومة الحرب المؤبدة في سورية هو الهدف الذي لا يناقش فيه حرٌّ ولا يتقدم عليه واجب. وكسب المعارك العسكرية أولوية، ولا بديل عنه، لمنع الخصم من تحطيم مستقبل السوريين. لكن كسب الحرب، خصوصاً ضد هذا النوع من النظم، مثله مثل بناء المستقبل، لا يتحقق بالوسائل العسكرية وحدها. إنه، بالدرجة الأولى، شأن سياسي. ومعركة السيطرة على حلب وإدارتها هي الامتحان.

ونحن مقبلون على معركةٍ يتساوى فيها الموت والحياة، وكي لا نفقد إنسانيتنا، ولا نحرم من فرصة استعادة وطننا، وطن الجميع، لا ينبغي أن ننسى أننا لسنا طائفةً، ولا نحارب من أجل طائفة أو جماعة، مهما كان وضعها، وإنما نحارب من أجل سورية وحقوق الشعب السوري وحريته من دون تمييز، أي من أجل كرامة الإنسان، المتمثل في كل سوري، وأن نتذكّر دائماً أن ما فجر ثورة الشعب السوري هو رفض سياسة الإذلال والطائفية البغيضة والتمييز الاجتماعي والسياسي والمذهبي والتفتيت والتقسيم، وأن الوفاء للثورة وتضحيات شهدائها أوْلى أن يدفع إلى سلوك سبيل العدل، ورفع الظلم وبسط السلام ونشر المودة والألفة من رد الاعتبار لأحدٍ، أو حتى إرواء غليل المظلومين.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان