مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٢ أغسطس ٢٠١٦
اختناقات في ذاكرة الرئة

يمشي سرًا في ردهات المنزل، يتلصص من خلف الأبواب على أصوات الأنفاس، يريد أن يتأكد أن لا أحدًا يختنق هنا، من يدري؟ فلعل التاريخ قد أحب أن يعيد نفسه.

عادة، في مثل هذه الأيام، يخشى النومَ، يحاول أن ينشغل بأي شيء، فلعل الهواء قد اعتاد القتل، مثلنا، يخشى أن يختنق في نومه أو في حلمه، لقد نجا مرةً، وعادةً النجاة لا تتكرر.

كأنها البارحة، أو كأنها غدًا، تضيق قصبات التنفس مثل خرم إبرة، تتشنج العضلات حتى تكاد تنكمش، ولا يظهر على بياض العيون إلا بقايا الأحداق، رغوة الأفواه تكفي لتُغرق كونًا أحمقًا كالذي نعيش فيه، والجثث المتنفخة بذورٌ أُلقيت على الأرض لتنبت مرة أخرى، اعتاد الناس على نمطٍ واحدٍ من القتل، لماذا تغيرونه؟ التلاعب بأذواق الناس في الموت جريمةٌ أيضًا، لقد اعتادوا على القتل المدمر، حيث تظهر على القتيل علامات قتله أو لا يبقى منه ما يظهر عليه، أما هذا الذي يبقي عليك سالمًا، إنما يأخذ آمال الآخرين ودهشتهم، يكفي أن يحدث ذلك مرة واحدة، ليصبح ذكرى وليصبح مستقبلًا، ليصبح المقتول قاتلًا دون أدنى تردد، ليصبح كل شيء هو العدو الأول، لا مكان لخانة ثانية بين الأعداء.

يحاول أن يغلق باب الأيام، لتمر هذه السنة بدون الواحد والعشرين من آب، ليمر الأطفال أمامه دون أن يخشى تساقطهم حوله، كلما تنفّس طفلٌ راقبه بعناية، هل هو الشهيق الأخير؟!، الحمد لله لقد زَفَر، مازال يرى أن الجميع يعانون من صعوباتٍ في التنفس في هذا اليوم تحديدًا، ويؤكد له ذلك سعالُ أحدٍ ما، ويربكه جدًا لو لهث بقربه أحدٌ لأنه كان يركض أو كان يشتاق.

الذاكرة اختنقت أيضًا، المسؤول عن التذكّر الآن الرئة لا الدماغ، تتذكر شهيقَهم المتتالي، نسيَ الزفيرُ موعده، أحداقَهم، رعشةَ إصبع صغير، انتفاضاتِ أطراف أمٍ تحاول أن تصبح رئةً لابنها، لكنها مذ قطعت حبل المشيمة خانته، كما فعلت بنا دمشق تمامًا، كثيرون أمام الأبواب يحاولون الخروج، مشهدٌ وجوديٌ تمامًا، الهواء يعني الموت، الخروج لا يُغني عن الدخول شيئًا.

كأنهم غرقى لكنهم على اليابسة، حين يغرق الناس في البحر فهناك قاتلٌ غير مباشرٍ لهم، فرّوا إلى البحر منه، ولكن حين يغرقون على اليابسة سيتحول من نجا منهم إلى قنابل موقتة لا يعلم أحدٌ متى وأين تنفجر، كان عليه أن يقتلنا جميعًا.

كعادتها دمشق لم تكن نائمةً، ولا صاحيةً، بخور جوامعها وكنائسها يملأُ الزوايا، عطور فتَيَاتها وشبانها تجعل الجو أثقل، ليس رجاحةً أن يختنق الجميع، وليس عدلًا أن نختنق نحن فقط، ربما لأن الناس هنا غير الناس هناك، فالقرارات كافيةٌ لجعل الناس مختلفين، ربما ياسمين دمشق يبقى ياسمينًا لأن الناس يومًا ما سيحتاجونه، لم يعد في الروح متسعٌ لغضب أو لحقد، لكن عروش الجمال والحنين هذه هدمَتْها صرخة لم تغادر ذاكرة الرئة: "قُوم يا بي قوم، قول يارب ، قول يارب" في محاولةٍ يائسةٍ من أبٍ منهكٍ لينتصر ابنه على كل من قتلوه، ابتداءً بمن أنجبه.

في هذا اليوم، مبررٌ أن تكره "بالزنبق امتلأ الهواء .. كأن موسيقى ستصدحْ"، تتأكد أن أحدًا ما كان يقتاتُها في تلك الليلة، واليوم على بعد مئات الأيام ومئات الكيلومترات، فمن نجا .. مازال يختنقُ.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٦
لماذا لم ينفعل الطفل السوري عمران؟

الذهول الكثيف الذي رانَ على الطفل عمران هو العنوان الأبرز للمأساة السورية في أكثر وجوهها فظاعة: دم يسيل من وجه الفتى ذي الخمس سنوات، والغبار يلفّع ملامحه وثيابه الممزّقة، يجلس إلى كرسيّ في سيارة الإسعاف، فيتذكر دماً يسيل من جبهته، يمسحه بيده الصغيرة، ثم ينظر إليه بلا انفعال ويعود يمسح يده بالكرسي الجلدي، من دون أي ردّ فعل يمكن أن يصدر عن طفل في عمره خارجٍ من قلب بناية في حلب دمرتها مقاتلات نظام بشار الأسد وحلفائه.

يتقدّم عمران ليكون عنواناً رئيسياً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي عرضت الفيديو القصير للطفل، وشاهده الملايين فانفعل بعضهم، وربما بكى بعض آخر، كما فعلوا لحظة قذفت المياه التركية اللاجئ الكردي إيلان، أو حينما شاهدوا الطفل جمال الأشقر غافياً، إلى الأبد، في شوارع حلب.

الطفل عمران لم ينفعل. من انفعل هو الطرف الآخر الشريك بقصد أو من دون قصد في إدامة مأساة عمران وأقرانه في هذه الحرب الدمويّة التي حصدت، بحسب إحصائيات غير رسمية، أكثر من 17 ألف طفل دون السادسة عشرة غالبيتهم من حلب، فيما هُجّر أكثر من مليون طفل في كارثة إنسانية حصدت أرواح أكثر من ربع مليون سوري، غالبيتهم من المدنيين، فضلاً عن نزوح 7.6 مليون داخلياً، ولجوء 4.2 مليون شخص إلى دول الجوار، وفقاً لمنظمة «هيومن رايتس ووتش».

ولعلّ التعليق الطافح بالإنشاء واللغو الذي قدّمته واشنطن باعتبار أنّ عمران يمثّل «الوجه الحقيقي للحرب»، يؤكد استقالة المجتمع الدولي من مسؤوليته الأخلاقية. فما القيمة الإضافية للكلام المرسل الذي نطق به المتحدث باسم الخارجية جون كيربي: «هذا الفتى الصغير لم يعرف يوماً في حياته إلا الحرب، والموت والدمار والفقر في بلاده»؟!

ولو أنّ عمران سمع كلام كيربي لاستولى الذهول على ما تبقى من ملامحه، وربما غصّ حلقــــه بالدمع المطحون بالغبار والدم والأسى على عالم منافــــق يتباكى على الضحايا السوريين ويمعــــن، فـــي الوقت نفسه، في تأجيج الحـــرب حتى آخر ضحية. وكانت معبّرة وتلقائية الصورة التي صاغها ناشطون حينما قدّموا، من خلال «الفوتوشوب» لقطة لحوار بين أوباما وبوتين وبينهما صورة الفتى الذاهل عمران.

المأساة الحقيقية في المحرقة السورية المتعاظمة أنّ العالم أو ما يسمى «الضمير الدولي» في حاجة كلَّ حين إلى إيلان أو عمران أو جمــــال، لكي يذكّرهــــــم بأن الجحيم هناك، في قلب المتوسط، حيت يُحزّ عنقُ الإنسانية من الوريد إلى الوريد كلّ يوم، فالسبعة عشر ألف طفـــل الذين زادت أعدادهم مع كتابة هذه السطور أو قراءتها، لهم حكاية ومأساة، لكنّ الكاميرا أغمضت عيونها عنهم، لكثافة الموت، وعجز الشهود عن ملاحقة كل هذه الفظاعة التي تصنع «الآكشن» الذي تحتاجه واشنطن وموسكو، وتعتصم به الصحف العالمية يوماً أو يومين، معلّقــة ومحلّلة، ثم تعود إلى شغفها الأهم المتصل بمأساة قطة علقت في محرّك شاحنة، أو اضطراب فقمة بسبب فجاجة بطريق أهان مشاعرها!

وربما حدس المعارضون السوريون الأوائل، مطلع الثورة، بما تخبئه لهم الأيام السوداء، فأطلقوا صراخهم الفطريّ «ما إلنا غيرك يا الله»، وربما ظنوا مبكّراً أنّ العالم، كلَّ العالم، سيتخلّى عنهم، ويتركهم في مواجهة أقدارهم، عرايا من كلّ شيء، حتى من إيمانهم الذي مزّقته الطائرات، والبراميل المتفجّرة، والتضامن الموسميّ العابر، وانفضاض تحالفاتهم وانفراط عقد معارضتهم الذي غدت، في جُلّها، معارضات وأحجاراً على رقعة شطرنج يحرّكها سدنة الموت والتحالفات الاستراتيجية، وتجّار الحروب!

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٦
أيها العلويون، ارفضوا موتكم

في ظل عجز النظام الأسدي عن تحقيق انتصار عسكري، ورفضه الحل السياسي، ماذا يبقى من خيارٍ غير أن يرفض العلويون مواصلة السير وراءه، أو الغرق اليومي في موتٍ مجانيٍّ يواجههم في كل وطنهم، ليس له اليوم، ولن يكون له غداً، أي عائد شخصي أو وطني لهم، إلا إذا كانوا يستمرئون الموت، من أجل أحمقٍ تضعهم حساباته الإجرامية خارج مجتمعهم، وتسلبهم الحق في العيش والأمان، وتحملهم السلاح الذي يقتلون به أنفسهم ومواطنيهم، فلا هو يحميهم أو يحول دون تعرّضهم لموتٍ شامل، طاول خصوصاً الفئة المنتجة للحياة منهم، أعمارها بين الخامسة عشرة والأربعين، والتي يعني استمرار انصياعها للأسدية هلاك من بقي منها في اقتتال أخوي، لا يفيد أحدٌ منه غير أسرةٍ من القتلة والفاسدين، تتربع على أهرام من جماجم السوريين، بمن فيهم العلويون الذين كان الأسد الأب قد زجّ عشرات الآلاف منهم في السجون والمعتقلات، وسلخ جلودهم، كما سلخ جلود غيرهم من الشعب، قبل أن يورّث سلطته المطلقة والاستبدادية إلى غرٍّ ليس أهلا للحكم، أوهمه جهله أن السلطة تعني العنف، وأن من هم ضدها يستحقّون القتل، ومن معها خليقون بالاستعباد، وأنه لا يجوز أن تترك للسوريات والسوريين غير خيار من اثنين: الرضوخ الذليل أو الإبادة والحرق. ولأن الشعب رفض الرضوخ وثار، ردّ الأسد عليه بالإبادة والحرق، بأيدي العلويين أيضاً، بعد أن أوهمهم أن الثورة تستهدفهم أكثر مما تستهدفه، وتطلب حياتهم أكثر من حياته، وإنه إنما يضحي من أجلهم ببقائه في السلطة، وقيادتهم في معركةٍ، يزعم أنها للدفاع عنهم، مع أنها أدّت إلى قتل خيرة أبنائهم وبناتهم.

بعد مرور خمسة أعوام مرعبة، يتبين أن عائد "قيادته" كان إبادة أجيال من العلويين، واستحالة انتصاره على شعبٍ ليس لهم مصلحة في هزيمته، لأنهم منه، ولأن حريته ستكون لهم أيضاً. وأخيراً، لأن ثورته تعني أن لا حياة مع العبودية، ولا بديل للحرية.

لنفترض، الآن، أن السوريين، جميعهم، تسلحوا بأفتك الأسلحة، وشنوا هجوماً كاسحاً على مناطقكم وأماكن عيشكم. ولنفترض أنكم كنتم عزّلاً، ولا يدافع عنكم أحد، هل كان عدد قتلاكم سيزيد على عدد من فقدتموهم في حرب الأسد ضد شعبكم، تقول إحصاءات مؤكّدة إن عددهم يقارب المائة ألف، أم أن مهاجميكم كانوا سيجدون أنفسهم، خلال أيام، عرضةً لموجات إدانة ومقاومة داخلية ودولية، ستجبرهم على الرجوع عن غيّهم ووقف إجرامهم؟ أخبرني أصدقاء علويون، يصوّرون أوراق النعي التي تغطي أرياف الساحل ومدنه ومنطقة حمص، إنهم صوّروا، إلى ما قبل عام ونصف العام، نيفاً وثمانين ألف ورقة، مع أنهم لم يبدأوا عملهم إلا بعد أشهر من الثورة. سؤالي إلى العقلاء وأصحاب الرأي والنفوذ منكم: هل كان عدد قتلاكم سيصل إلى مائة ألف، لو أنكم رفضتم السير وراء الأحمق الذي قتلكم في حربه ضد مواطنيكم، لتوهّمه أن السلطة حق حصري وشخصي له ولعائلته، وأنه يستطيع الاحتفاظ بها إلى الأبد، فلا ضير عليه إن هو قتلكم وقتل إخوتكم السوريين، كي يحافظ عليها؟

بعجزه عن الحسم العسكري، ورفضه الحل السياسي، حكم الأسد عليكم بالإبادة التي تعرفون، أكثر من أي أحدٍ آخر، الشوط المخيف الذي قطعته، وتعلمون أن وقفها رهنٌ بصحوةٍ وطنيةٍ تعمّكم كسوريين، تحول بين المجرم والتضحية بمن بقي حياً من أولادكم، وتمنعه من وضعكم أمام أحد خيارين: أن تظلوا عبيداً له، ينتظرون مصيرهم المحتوم دفاعاً عن باطله، أو تخرجوا من معادلةٍ كارثيةٍ حشركم فيها، حدّاها إرسالكم إلى القبور، وبقاؤه المستحيل في السلطة.

ثمّة إشاراتٌ تؤكد تخلّق بيئة علوية ترفض المعادلة الكارثية، وترى أن الأسد صار يُعرف بالقتل وحده، وأن الولاء له يُفقد العلويين الحق في الدفاع عما بقي لهم ومنهم كسوريين. لذلك، لا يجوز أن يواصلوا الموت من أجله، بعد أن أقنعتهم هزيمة حلب بعبثية الحل العسكري، وبحتمية تعاونهم لإنجاز حل سياسي وطني متوازن، ركيزته حق السوريين، وحقهم هم كسوريين، في المواطنة المتساوية والحياة، بعد أعوامٍ خمسة أثبتت استحالة أي خيار سواه، واستحالته هو من دون جهد وطني شامل، يتحد في إطاره جميع السوريين.

أيها العلويون، ألم يحن الوقت لتخليكم عن مجرمٍ ضحّى بكم وبشعبكم، ليبقى في كرسيٍّ لا يستحقه، ولن ينجح في الاحتفاظ به. شعبكم ينتظر دوركم في معركة الحرية والسلام، فلا تفوّتوا فرصة النجاة عليكم وعليه.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٦
توسع الروس في المنطقة

إذا كان مفاجًئا أن يتخذ الروس لقواتهم قاعدة عسكرية في إيران٬ فإن الأكثر غرابة أن يمنحهم نظام إيران موطئ قدم على أراضيه. فالتعاون بين موسكو وطهران عسكرًيا موجود ومستمر منذ فترة طويلة٬ والروس يستخدمون الأجواء والمطارات العسكرية الإيرانية ضمن عملياتهم المشتركة في الدفاع عن نظام الأسد٬ فلماذا ترفع العلاقة إلى درجة منح قاعدة عسكرية للروس٬ وليس مجرد إذن عبور أو خدمات جوية؟ هذا ما يجعل المسألة تثير الشكوك٬ وسنظل نتساءل عن طبيعة الحلف الجديد حتى توجد إجابات شافية ومقنعة.

أستبعد أن تكون الحرب المشتركة في سوريا هي الدافع الوحيد لمثل هذا التطور في العلاقات العسكرية. فالتعاون موجود قبل وجود القاعدة ويحقق الغرض منه. لكن يبدو أن موسكو تلجأ للغموض وإعطاء إشارات متناقضة. فقد سبق وشاهدنا الكرملين يعلن رسمًيا عن سحب معظم قواته من سوريا قبل نحو ثلاثة أشهر٬ وأنه أنجز معظم مهمته التي جاء لأجلها، وبعد أسابيع اتضح للعالم أن القيادة الروسية رفعت درجة مشاركتها والقتال فوق الأجواء السورية.

هل خطوة موسكو الجديدة باتجاه توسيع نشاطها العسكري في منطقة الشرق الأوسط٬ بما في ذلك اعتماد همدان الإيرانية قاعدة للقوة الروسية الجوية٬ له علاقة بالصراع مع حلف الناتو في وسط آسيا وشرق أوروبا٬ وما كان سابًقا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي؟

ممثل الحكومة الروسية لدى حلف الناتو قال على قناة «روسيا اليوم» إن «الناتو انتقل اليوم إلى تطبيق خطة ردع ضد روسيا. وإن الحلف الغربي يقوم بنشر 4 كتائب في دول أوروبا الشرقية٬ لتعزيز الوجود الأطلسي في بحر البلطيق والبحر الأسود٬ وتكثيف أنشطة دوريات الناتو في دول البلطيق».

وإذا كانت مواجهة الغرب هي حجة الروس في اتخاذ إيران مقًرا لنشاطاتهم العسكرية فإنها لا تبرر أبًدا دعم نظام طهران الذي لا يمكن اعتباره ضمن خريطة التوازن الاستراتيجي ضد الناتو. الحقيقة أن إيران تخوض مجموعة حروب كلها لا تهم الولايات المتحدة٬ مثل سوريا واليمن. ونشاط حلف موسكو مع طهران يتجلى بشكل رئيسي في سوريا٬ وهي معركة لا تهم الأميركيين الذين رفضوا التدخل فيها. والإيرانيون يتعاونون عسكرًيا مع الأميركيين في العراق٬ كما رأينا في الأنبار والفلوجة وحالًيا في الموصل. وبالتالي فإن كان مبرر الروس بتحالفهم مع إيران أنه خطوة موجهة ضد الولايات المتحدة والناتو عموًما فهو يخالف كل ما نراه على أرض المعارك.

تقارب موسكو مع نظام آية الله خامنئي الأرجح أنه سيكون على حساب علاقاتها الأخرى في منطقة الشرق الأوسط. ولا أستبعد أنه سيجهض كل الجهود الروسية الأخيرة للتقارب مع الدول الخليجية العربية وغيرها التي شهدت اهتماًما بالتقارب مع موسكو لم نَر مثله في قرن كامل. فقد زار الكرملين عدد كبير من القيادات العربية من ملوك ورؤساء٬ ووقعت اتفاقيات اقتصادية ومشتريات عسكرية غير مسبوقة في حجمها وعددها٬ حتى إن موجة الزيارات هذه٬ والتقارب العربي مع موسكو٬ أثارا انتقادات في واشنطن من قيادات سياسية وعسكرية لامت إدارة الرئيس باراك أوباما وحذرته من أنه يفرط في علاقات أميركا ومصالحها في المنطقة لصالح الروس.

قد يريد الإيرانيون٬ عندما منحوا الروس قاعدة همدان العسكرية٬ مساومة الأميركيين وابتزازهم بعد أن ظهرت علامات مهمة تدلل على فشل الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في منتصف العام الماضي بين إيران والغرب. إن البديل للاتفاق هو التعاون العسكري مع الروس٬ وهنا نقول ما الجديد؟ فالتعاون بين البلدين قديم ومستمر٬ لكن الإيرانيين الآن يريدون جعل روسيا دولة حليفة لهم في حروبهم وليس مجرد بائع سلاح.

هذه كل الاحتمالات الممكنة في قراءة الخطوة الإيرانية الروسية٬ في أن التحالف يعكس رغبة موسكو في توسيع نفوذها العسكري والسياسي٬ أو أنه جزء من استراتيجية مواجهة الناتو٬ أو قد يكون التحالف ابتزاًزا إيرانًيا تضغط به طهران على الغرب لتفعيل الاتفاق النووي.

اقرأ المزيد
٢١ أغسطس ٢٠١٦
عمران.. الواقع يتحدّى الخيال

بقي المصري أكثم سيد تحت الرّكام، ثلاثة أيام، بعد الزلزال الذي ضرب القاهرة في 1992. وتحت الأنقاض، ماتت بالقرب منه ابنته وأمه وزوجته. ولمّا انتُشل حيّاً، قال طبيبٌ عالجه في المستشفى، إنه "مهدّدٌ بفقدان حاسّة الاندهاش". ... تُرى، أيّ الحواس لدى الطفل السوري، عمران، كنّا ننتظر أن يُبدي شيئاً منها، ونحن نحدّق فيه، منتَشلاً للتوّ من بين ركامٍ أحدثه قصفٌ في حلب؟ لم يبدِ استغراباً من أيّ شيء، أو أيّ استهجانٍ من الدم المغبرّ على وجهه وبدنه. لم يشعر بحاجةٍ إلى البكاء، لا شيءَ بدا له غير عادي، لا القذائفُ ولا الهولُ الذي كان فيه، ولا الموتُ الذي دنا منه، ولا كل الأزيز في مسامعه. عمره خمس سنوات، هي سنوات دويّ الصواريخ والبراميل المتفجرة، كما اختار نظام الأسد وحلفاؤه أن تكون، منذ قلْع أظافر أطفالٍ في درعا، كان بعضهم في عمر عمران الآن. ما الجديد، إذن، يستحقّ أن يُحسب جديداً، يأنس فيه عمران طارئاً غريباً صار حواليه، فيبكي بسببه؟ بكى فقط في المستشفى لمّا شاهد والديه، لم نظفر بصورةٍ لمشهده هذا. هل كان بكاءَ فرحته بهما؟ هل أصابه اندهاشٌ ما لمّا رآهما؟ لا نعرف، ولا ضرورةَ لأن نعرف. يرمينا عمران، أو صورته الشهيرة على الأصح، باستفهامٍ مستجدٍّ عن الخوف، ما هو بالضبط؟ لا ينفع البحث الكلاسيكي، هنا، في جلاء معناه، لأن عمران لم يُظهر خوفاً.

اكتفى بتفرّجنا عليه، ثم استيقظت، في المستشفى، حاجتُه إلى الحنان، لمّا رأى والديه، وهو الذي ربما استشعر خوفاً من فقدانه، إذا ما قضيا، ربما.

كتبتُ في صحيفةٍ زميلةٍ، قبل نحو أربعة أعوام، إن المحنة السورية الماثلة تتحدّى مخيلات الأدباء وقرائحهم، إذا ما أرادوا التعبير عنها في رواياتٍ ومسرحياتٍ وقصص وقصائد. ذلك أن وقائع غير قليلة، في أتونها، فرديةً وجماعيةً، تكاد تنتسب إلى ما هو فوق واقعي، لو مرّت في خواطر أديبٍ قدير، وبادر إلى تمثّلها في نصّ إبداعي، ربما كنا لن نتسامح مع "شططه"، ومع اختلالٍ حادثٍ لديه في معرفة وظيفة الخيال، عندما ينشغل بالتعبير عن حوادث الواقع المعلومة وتفاصيلها. وهذا الطفل عمران يبدو قادماً من خيالات بورخيس، لا منتشلاً من بين أنقاض واحدةٍ من مآثر السوخوي في حارةٍ في حلب. ولكن، أنجز روائيون وشعراء ومسرحيون ومغنون ورسامون سوريون كثيرون أعمالاً إبداعية، بعضها له أهميته الخاصة، نوري الجراح وبشير البكر في الشعر، مها حسن وخالد خليفة وفواز حدّاد وعبدالله مكسور وسوسن جميل حسن ونبيل سليمان في الرواية، سميح شقير في الغناء، وهذه أسماءُ ترد هنا للتمثيل، فثمّة غيرُهم، أيضاً، تستحق أعمالهم انتباهاً واجباً.

يقول بشير البكر في "عودة البرابرة" (بيروت، 2014): حين استفاق السوريون/ ظنّوا أنهم ماتوا/ أكثر مما ينبغي/ وما عليهم/ غير أن يفتحوا النوافذ/ لكنهم لم يَحسبوا/ حساب كوابيس الدم/ وكم من مجزرةٍ في انتظارهم. ويقول في أخرى: لا حاجة لنا/ كي نحفر قبورنا/ طالما أن الحرب لم تنته./ بانتظار مزيدٍ من المجازر/ تحتّم علينا أن ندفن الخوفَ/ بوقار من يرقدون/ تحت الترابِ/ منذ زمن بعيد.

ويقول نوري الجراح في "يأس نوح" (بيروت، 2014): أيها الموتُ/ يا موت/ لا أنادي سواكَ/ لأنك أنت عدوّي الذي ما أحبّ سواي. ويقول في قصيدةٍ أخرى: العين الغريقةُ/ في صورةٍ/ اغرورقتْ بالدم/ خذ هذه الصورة من عيني، وخذ جرح العيْن.

تنشغل هذه المقاطع للشاعريْن بالموت والحطام السوريين، فيها ظلالٌ للطفل عمران، لصورته وجرح عينه، ولاستفاقته والخوف الذي غاب منه. فيها حضور للدم السوري الكثير الذي بلا حساب. وفي الوسع أن يُقال، هنا في مناسبة اندهاشة عمران الغائبة، إن امتحاناً ثقيلاً يعبُر إليه أهل الأدب والفن السوريون، عنوانُه هذا التحدّي الصعب الذي تختبرهم فيه نوازل الراهن السوري التي تتجاوز سقوف الخيال، وتحضر فيها كل ألوان الواقعية، السحرية والتقليدية والعبثية، متوازية مع كسرها كل عجائبية وخوارقية مرّت في ثقافاتٍ سالفة، وما صنعه الطفل عمران قدّامنا، لمّا بحلقنا فيه، مقطعٌ كاشف في هذا كله .. وغيره.

اقرأ المزيد
٢٠ أغسطس ٢٠١٦
دماء عمران وقذائف بوتين

مرة جديدة، احتاج هذا العالم الغافي الضمير الى صورة طفل في الرابعة من عمره يمسح بيده البريئة وجهه الذي أنعمت عليه قذائف فلاديمير بوتين وبشار الأسد بالدم بدل الحليب ولقمة الغذاء.

احتاج العالم الى هذه الصورة ليتذكر أن هناك ضحايا يسقطون في هذه الحرب التي يشنها الأسد وشركاه على الشعب السوري. ومثل صورة الطفل إيلان، الذي رأى العالم جثته ممدّدة على أحد شواطئ تركيا، ها هي صورة عمران، الذي نجا من القذيفة التي أسقطتها «السوخوي» الروسية بدقة متناهية على منزل والديه، تهز ضمير العالم لبضع دقائق، قبل أن يتحول «الريموت كونترول» الى قناة أخرى ومشهد آخر، ليتابع أخبار المفاوضات التي تجري للوصول الى ما بات معروفاً بحل الأزمة السورية، هذا الحل الذي لا يتحقق إلا بالتعاون مع السفاحين الذين يرتكبون هذه المجازر، ثم يتحدثون عن «هدنة انسانية» لإدخال المساعدات.

لم يكن عمران في حاجة الى مساعدات قبل أن يأتي بوتين بقذائفه الى حلب لإنقاذ الأسد من الانهيار، بعد التقدم الأخير الذي أحرزته المعارضة. عندما ولد عمران كانت الحرب السورية في بداياتها، ومثلما كان بشار الأسد يجهّز سورية للموت والدمار، كان أهل عمران يجهّزون طفلهم لموعد مع الحياة، متناسين أنهم يعيشون في بلد محكوم بشعار «أحكمكم أو أقتلكم».

لم تكن قذائف بوتين التي كانت تنطلق من حميميم ومن القواعد الروسية، تحصد العدد المطلوب من الضحايا. لذلك استنجد الرئيس الروسي بأصدقائه الإيرانيين، الذين لا يتأخرون عن تلبية خدمات من هذا النوع، وطلب منهم استخدام قاعدة همدان، التي يمكن منها تحميل المقاتلات بكمية أكبر من القذائف، ما يوفر على الخزينة الروسية نفقات الرحلة الطويلة، ويقوم باللازم من حيث عدد الضحايا المطلوب القضاء عليهم.

المعنى الأهم لانطلاق المقاتلات الروسية من قاعدة همدان لقصف مواقع المعارضة في سورية، ليس فقط في مدى استعداد بوتين لإغراق جيشه في دم السوريين، بل هو يكمن فوق ذلك في مدى استعداد إيران للذهاب بعيداً في خياراتها الاستراتيجية من أجل الحفاظ على نظام بشار الأسد ومنعه من السقوط.

فإيران، ومعها كل الميليشيات التي استوردتها الى الأرض السورية لحماية الأسد، لم تعد قادرة بمفردها على القيام بهذه المهمة، وهو الأمر الذي استدعى التدخل الروسي في خريف العام الماضي، واستمر هذا التدخل على رغم إعلان بوتين في مطلع هذا العام أن مهمة قواته في سورية قد انتهت وصار ممكناً تخفيف التدخل هناك.

فللمرة الأولى منذ الثورة الإسلامية سنة 1979، تنطلق مقاتلات غير إيرانية من قاعدة عسكرية إيرانية. هذا أمر لم يحصل حتى في عز الحرب العراقية - الإيرانية التي وصل خلالها النظام في بعض مراحل تلك الحرب الى حافة السقوط، ما اضطر الخميني في آخر الأمر الى «شرب السم» لإنقاذ الثورة التي كان قد أطلقها قبل تسع سنوات.

حتى وكالة «فارس» التابعة لـ «الحرس الثوري»، اعترفت بأنها المرة الأولى التي تستقر فيها الطائرات الروسية في إيران «من أجل تنفيذ عملية عسكرية في بلد أجنبي». وسارعت القيادات الإيرانية الى تأكيد أن هذه العملية موقتة ولن تؤدي الى إقامة دائمة، ورد رئيس «مجلس الشورى» علي لاريجاني على انتقادات عدد من النواب لفتح القاعدة للروس بالقول أن إيران لا تنوي منحهم قاعدة عسكرية. غير أن تطورات الحدث السوري وعجز نظام بشار الأسد عن حماية نفسه بعد اليوم، سيجعلان الحاجة ضرورية الى إقامة روسية دائمة في قاعدة همدان، مثلما هي الحال في قاعدة حميميم في سورية.

على دول المنطقة أن تعد نفسها لصفحة جديدة من التعامل مع روسيا ورئيسها. موسكو تعتبر منطقة الشرق الأوسط ساحة أخرى لمواجهة المصالح الغربية، وللرد على العقوبات المفروضة عليها بعد ضمّها شبه جزيرة القرم. من هذا المنطلق، يجب النظر الى العلاقات الروسية المتطورة مع إيران. وفي ظل الانكفاء الأميركي الحالي، يصبح هذا التحالف بالغ الخطورة على أمن دول المنطقة ومصالحها، وليس ما يضمن أن يبقى محصوراً بسورية وبحماية بشار الأسد.

اقرأ المزيد
٢٠ أغسطس ٢٠١٦
في ذكرى مجزرة الكيماوي: المجرم حليفاً ضد الإرهاب

لم تبرز مجزرة ارتكبها النظام الأسدي كما برزت مجزرة الكيماوي، فعلى الرغم من عدد الضحايا الكبير الذي وقع نتيجة مجزرة حماة عام 1982، وتراوحت تقديراته حول 35 ألفا، أو ضحايا مجزرة سجن تدمر الذين قاربوا الألف، أو ضحايا مجزرة مخيم تل الزعتر في لبنان، وذلك كله في عهد الأسد الأب، فإن مجزرة الكيماوي التي وقعت في عهد الابن قبل ثلاث سنوات، مازالت الأكثر بروزا بين مجازر هذا النظام، لا لفاجعيتها الإنسانية أو سلاحها الأكثر فظاعة فقط، بل لما صاحبها وما تكشف بعدها من سياساتٍ دولية أيضاً.

فإذا كانت المجازر القديمة قد ارتكبت في مراحل سابقة من سيطرة دولة الصمت السورية، وعزلتها خلف أسوار نظام الأسد، ولم تنتشر أخبارها إلا بصور محدودة ومتأخرة، فإن مجزرة الكيماوي ارتكبت تحت سمع العالم ونظره كله في مرحلة عولمة وسائل الاتصال وفورية النشر في القرية الكونية. ففي فجر الأربعاء 21 أغسطس/ آب 2013، أفاق أهالي بلدتي زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية على قصف بصواريخ أرض- أرض، محملة بغازات سامة، تأكد لاحقاً أنها غاز السارين المدمر للأعصاب، تلاه قصف عنيف استمر حتى الصباح؛ وتزامناً مع ذلك، شهدت بلدة معضمية الشام في الغوطة الغربية قصفًا مماثلًا. ونتيجة ذلك الاستخدام المكثف للسلاح الكيماوي، وقع خلال ساعات حوالي 1400 ضحية، كان أكثر من ربعهم نساء وأطفالا. وكانوا جميعا نائمين في بيوتهم فماتوا في مضاجعهم. وكان الفارق الزمني بين القصف وبدء الأعراض نحو نصف دقيقة. ولذلك، لم يتمكن المصابون، في حالات عديدة، من التحرّك أو الهرب، وانهاروا فور ظهور مختلف الأعراض الكيماوية المعروفة طبياً من إغماء وغثيان وتشنج واختناق وعماء وشلل، فضلا عن أنه لم يسلم أحد من الكوادر الطبية والإسعافية من بعض درجات الإصابة، بسبب عدم توفر أقنعة أو بزّات واقية في أثناء قيامهم بعمليات الإخلاء والإسعاف. أما أطفال الغوطتين فكانت صور المصابين منهم أشد صدمة، فيما كانت معاناة النساء المصابات مضاعفة، نظراً لضيق الأماكن وعدم وجود ردهات خاصةٍ، تتيح خلع ثياب النساء قبل غسلهن من آثار المواد السامة.

وبسبب نقل الشهداء والمصابين إلى مختلف النقاط الطبية في بلدات الغوطة ومدنها، تعذّر على كثيرين من الأهالي إيجاد أبنائهم وذويهم بالسرعة المطلوبة، لأنه جرى إخراجهم بثياب نومهم من غير هوياتٍ شخصيةٍ، أو أي شيء يدل على شخصيتهم. ومع الحر الشديد لشهر أغسطس/ آب، وعدم وجود كهرباء وثلاجات لحفظ الجثامين، كان هناك اضطرار في حالاتٍ عديدة لدفن الشهداء المجهولين، قبل تعرف ذويهم إليهم ووداعهم.

وعلى الرغم من كل الادعاءات ومحاولات التهرّب، كانت مسؤولية النظام شديدة الوضوح يومها، من جهة امتلاكه مخزونات السلاح الكيماوي المعروفة، والتي طالما اعتبرها سلاح التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، أو من جهة شهادات المراقبين الدوليين والنشر المباشر لصورها ووثائقها. ويومها، ضجّ العالم ببيانات التنديد والاستنكار لتلك الإبادة الجماعية، وتنادى مسؤولون دوليون ورؤساء وقادة دول غربية عديدون إلى التحرك الدولي لعقاب النظام المجرم الذي تجاوز الخط الأحمر، والمتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية، وكان من أبرزهم الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.

لكن تلك البيانات والتحركات كلها، والتي حبس العالم أنفاسه على وقع ضجيجها وتوقع ضرباتها، لم تتجاوز بدورها الإعلانات الصحفية، وانتهت إلى مبادرةٍ تقدّمت بها حكومة روسيا الاتحادية، من أجل تسليم الأسلحة الكيماوية السورية وتدميرها تحت الرقابة الدولية، لتجنيب النظام السوري تلك الضربات، وسارع وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، إلى إعلان قبول سورية تلك المبادرة.

وفق ذلك، تم، من جهةٍ أولى، تسلم سلاح الجريمة والسكوت عنها، ومسحت كل الخطوط الحمراء المتعلقة بها، انطلاقا من تنسيق أميركي روسي حولها، وسلم النظام السوري المجرم خزانته من السلاح الكيماوي إلى مندوبي لجنة الأمم المتحدة التي قبلت ذلك دفعات متتالية، على الرغم من الشكوك المرافقة. وامتد السكوت عن الجريمة إلى السكوت عن المجرم وجرائمه اللاحقة، حيث لم يعد يخلو يوم لاحق من أخبار القصف الذي تصبه طائرات النظام وحليفه الروسي على مدن وبلدات سورية، والذي تدمر قذائفه وبراميلة المتفجرة العمران والبيئة، كما تصيب أعداداً متزايدة من السكان والمدنيين الذين صارت الفظائع التي تودي بهم خبراً معتادا في كل يوم.

استمر السكوت عن الجريمة السورية، وصار سياسةً رسميةً دولية، كرّسها التنسيق اللاحق والمستمر بين الراعيين، الأميركي والروسي، للملف السوري، وهما يتوزعان الأدوار في تغطية الجريمة مجدداً، تحت ستار محاربة الإرهاب. حيث يقصف الأميركان عن بعد، وفي الشمال ضد داعش، ودعماً لمشروع كردي، بينما يقصف الروس دعما للنظام، عن قرب ومن قواعد مباشرة لهم في سورية ، ثم في إيران، ولا بأس أن يستمر ذلك بموازاة مفاوضاتٍ لا تكاد تنعقد حتى تنفض بدون طائل.

وبدلا من سوق الرئيس السوري المجرم إلى محكمة الجنايات الدولية، كما أمثاله من مجرمي العصر في البوسنة ورواندا، ها هو السكوت عن جرائمه السابقة والمستمرة يتحول إلى إعادة تأهيل له ولنظامه، فيصبح حليفاً ضرورياً لمحاربة الإرهاب، في ظل ما صار أشبه بحالة طوارئ دولية، تتعطل فيها القيم، وتتوارى الشرعة الدولية وحقوق الإنسان.

اقرأ المزيد
٢٠ أغسطس ٢٠١٦
حلف روسي ـ إيراني لا أفق له

منذ صيف العام 2013، عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي بشكل سافر في حربه على شعبه، وربّما منذ اليوم الأوّل لاندلاع الثورة الشعبية في سوريا، تعطي إدارة باراك أوباما كلّ الإشارات الخطأ في كلّ الاتجاهات. كانت الإشارة الأخيرة في هذا المجال الاكتفاء بـ”الأسف” لقصف الطائرات الروسية الأراضي السورية انطلاقا من قاعدة همدان الإيرانية.

لم يعد لدى الإدارة الأميركية الحالية سوى لغة الاعتراض والأسف والحديث عن خرق روسي لقرارات مجلس الأمن مثل القرار 2231، فيما روسيا وإيران مندفعتان في اتجاه تدمير كلّ ما تقع عليه يدهما في سوريا.

تدمّران المجتمع ومدنا عريقة، مثل حلب، وأريافا بهدف القضاء نهائيا على البلد في غياب القدرة على القضاء على إرادة الشعب السوري. هذا الشعب الذي لا يزال يقاوم منذ خمس سنوات ونصف سنة كلّ تلك القوى التي تكالبت عليه مستخدمة أعتى أنواع الأسلحة وصولا إلى الميليشيات المذهبية التي شكلت وما زالت تشكل القوة المساعدة والداعمة لأرهاب “داعش” وأخواته وإخوانه.

سيغادر باراك أوباما البيت الأبيض والشرق الأوسط في وضع أسوأ من ذلك الذي كان سائدا لدى دخوله إليه. هذه نتيجة طبيعية لسياسة تقوم على الانكفاء من جهة، والاكتفاء بالتركيز على الملف النووي الإيراني من جهة أخرى. أدت هذه السياسة إلى نهاية العراق. هذا أمر صار مفروغا منه في ضوء وضع إيران يدها على البلد وسيطرة الميليشيات المذهبية الموالية لها المسمّاة “الحشد الشعبي” على مفاتيح السلطة، بما في ذلك الجيش العراقي. جاء الآن دور الانتهاء من سوريا التي تشهد مأساة لم يشهد بلد شبيها لها في القرن الواحد والعشرين.

من الطبيعي أن تستغل كل من روسيا وإيران قرب نهاية عهد أوباما لمحاولة خلق واقع جديد على الأرض، خصوصا في سوريا. هناك قبل كلّ شيء إعلان عن حلف عسكري جديد يستفيد من العلاقة السيئة بين تركيا والولايات المتحدة. وهناك تركيز روسي ـ إيراني على حلب. يظهر ذلك من خلال نوع القصف الروسي لحلب والمناطق المحيطة بها. هذا القصف يمهّد إمّا لتدمير المدينة نهائيا وتهجير سكانها، وامّا لعملية عسكرية برّية كبيرة.

في كلّ الأحوال، يبدو واضحا أن إدارة أوباما فرصة لن تتكرّر لا لـ”المرشد” الإيراني علي خامنئي، ولا للقيصر الروسي فلاديمير بوتين. هناك إدارة في واشنطن تكتفي بالكلام، وعندما يأتي دور الأفعال، تختلق لنفسها كلّ أنواع الأعذار للعودة عن التهديدات والتحذيرات التي أطلقتها في شأن سوريا، بما في ذلك مسألة بقاء بشّار الأسد في موقعه. كم مرّة قال باراك أوباما أن “لا مكان” لبشار الأسد في سوريا؟ بقي كلامه مجرّد كلام. صار النظام السوري في مزبلة التاريخ. هذا صحيح، لكنّه لا يزال يُستخدم في عملية لا هدف لها سوى القضاء على سوريا، وما بقي منها.

يمكن، من الآن فصاعدا، الكلام عن حلف روسي – إيراني في المنطقة، فيما تشكو تركيا، التي كانت في مرحلة معيّنة رأس حربة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، من سلسلة الخيبات التي تعرّضت لها، خصوصا منذ إسقاطها القاذفة الروسية في تشرين الثاني – نوفمبر من العام الماضي. هناك شعور تركي واضح بالخيبة من طبيعة العلاقة بحلف الأطلسي الذي خذل أنقرة على كلّ المستويات. هل انتهى حلف شمال الأطلسي مع انتهاء الحرب الباردة؟

يكشف الحلف الجديد بين روسيا وإيران أن موسكو صارت صاحبة اليد العليا في سوريا. هناك اعتراف من طهران بالعجز عن متابعة مشاركتها في الحرب على الشعب السوري من دون روسيا. للمرّة الأولى منذ الإعلان عن قيام “الجمهورية الإسلامية” في العام 1979، هناك قوات أجنبية تعمل انطلاقا من قواعد في الأراضي الإيرانية. إنّه تطور مهمّ على الصعيد الإقليمي يعطي فكرة عن مدى التراجع الأميركي على كلّ صعيد، ولكن من دون أن يعني ذلك أنّ روسيا وإيران في وضع مريح في سوريا.

يظل السؤال في نهاية الأمر هل من أفق لهذا الحلف الروسي – الإيراني في الوقت الذي ليس أمام روسيا سوى التنسيق مع إسرائيل في سوريا في شأن كلّ شاردة وواردة؟ اللافت للانتباه أنه بات على إيران التنسيق الكامل مع الطرف الذي ينسق مع إسرائيل بعدما فتحت أراضيها لروسيا وطائراتها! ما كان سرّا صار حقيقة وواقعا لا أكثر!

هناك، بكلّ بساطة، فراغ ناجم عن الغياب الأميركي في الشرق الأوسط. تدخلت أميركا في الماضي، وكانت لتدخلها نتائج كارثية. يحصد العراقيون اليوم نتائج هذا التدخل الذي استهدف نظام صدّام حسين. الأخطر من ذلك، أن المنطقة كلّها تحصد نتائج تسليم العراق على صحن من فضّة إلى إيران، وما استتبع ذلك من خلل كبير على صعيد التوازن الإقليمي.

عاجلا أم آجلا سيتبيّن أن لا أفق للحلف الروسي ـ الإيراني. في استطاعة هذا الحلف التدمير في كلّ مكان وفي كلّ مجال، خصوصا في سوريا حيث لا همّ للنظام سوى القضاء على كلّ أثر للبلد. ليست لدى هذا الحلف أيّ حلول لأيّ مشكلة، لا في سوريا ولا في العراق… ولا في لبنان. ستستخدم إيران روسيا للقول أنّها ما زالت لاعبا في سوريا. وستستخدم روسيا إيران نظرا إلى أنها قادرة على زجّ مقاتلين لبنانيين وعراقيين وأفغان في سوريا من منطلق مذهبي ليس إلّا. ليست لدى روسيا قوات برّية ترسلها إلى سوريا، فضلا عن أنها تعرف أن قدرة النظام السوري على تجنيد المزيد من “الشبيحة” باتت محدودة إلى حدّ كبير، فيما الجيش السوري يعاني من نقص كبير في الرجال.

سيسعى الحلف الجديد إلى تحقيق ما عجزت إيران عن تحقيقه منذ اليوم الأوّل لاندلاع الثورة السورية. سيفشل في ذلك على الرغم من أن التنسيق الروسي – الإسرائيلي في مرحلة متقدمة وعلى الرغم من أن إدارة أوباما ليست في وارد القيام بأي خطوة لمصلحة الشعب السوري. سيظل همّها محصورا في حماية الاتفاق النووي مع إيران… الذي يختزل كلّ ملفات الشرق الأوسط.

تدخلت أميركا في عهد بوش الابن، فحصلت كارثة. قرّر باراك أوباما أن لا يتدخل، فحصلت كارثة أكبر. لم تعد المسألة هل تتدخل أميركا أم لا تتدخل. المسألة هل لا يزال في واشنطن أشخاص يعرفون شيئا عن الشرق الأوسط وعن النتائج التي ستترتب على التدخل وتلك التي ستنجم عن عدم التدخل؟ في حالي التدخل وعدم التدخل، تغيّرت المنطقة كلّيا. لن ينقذ الشرق الأوسط حلف جديد ينتمي طرفاه إلى دول العالم الثالث، بغض النظر عن وجود مشروع توسّعي إيراني واضح المعالم، وامتلاك روسيا لأسلحة متطورة.

ليس كافيا وجود المشروع التوسعي ولا الأسلحة المتطورة لتغيير الشرق الأوسط نحو الأفضل بأي شكل من الإشكال، في ظلّ البناء على الانكفاء الأميركي.لو كانت إيران قادرة على تطوير نفسها لكانت خفضت نسبة السكان الذين هم تحت خط الفقر فيها. لو كانت روسيا قوة عظمى بالفعل لكانت خرجت من اعتماد اقتصادها على النفط والغاز وحدهما. ليس هكذا تبنى الأحلاف، وليس هكذا تعمّر الدول… لا في ظل التدخل الأميركي ولا في ظلّ غيابه.

اقرأ المزيد
٢٠ أغسطس ٢٠١٦
المشهد السياسي حول سوريا

يبدو المشهد العسكري في سوريا أكثر وضوحاً من المشهد السياسي، فالطائرات الروسية والسورية تقصف حلب وإدلب وريف دمشق ومواقع أخرى كثيرة، وتقتل الحياة في حرب إبادة للشعب السوري وبخاصة لأهل السنة الذين يستهدفهم النظام وحلفاؤه ويخطط لتهجيرهم من حلب وإدلب لإحداث تغيير ديموغرافي يحولهم إلى أقلية في سوريا. وبعض الساخرين يقولون إنه ربما يتحسن وضع أهل السنة حين يصيرون أقلية، فربما يهتم بهم المجتمع الدولي كما يهتم بكل الأقليات!

وقد ازداد المشهد العسكري وضوحاً بعد أن منحت إيران حليفتها روسيا حق استخدام قاعدة همدان العسكرية لتنطلق منها طائرات أشد فتكاً، وخلال الأيام الماضية شهد السوريون تصاعداً مريعاً في الهجمات وسقط مئات من النساء والأطفال ضحايا هذا العدوان.

ولكن هذا المشهد العسكري يواكبه غموض شديد في المشهد السياسي، ويشكل حالات من التناقض لا تفسير لها سوى أنها خداع مثل لقاء بوغدانوف مع بعض المعارضين السوريين في الدوحة باحثاً عن السلام، بينما الطائرات الروسية تقصف المدنيين في حلب وإدلب! والطريف المفجع أن روسيا أعلنت هدنة لثلاث ساعات ولكنها اخترقتها بعد ثلاث دقائق، ويقول الروس إن بينهم وبين الولايات المتحدة اتفاقاً عسكرياً حول عمليات مشتركة، ويقول الأميركان إنه لا يوجد اتفاق خارج القضايا التقنية التي تضمن التنسيق فقط في خطوط الطيران، والأميركان لم يقفوا ضد تحرير حلب، ولكنهم لم يقفوا بجدية ضد القصف الروسي المتصاعد، وهم يعرفون أن المدنيين السوريين يقتلون ولم تتجاوز عمليات الروس العسكرية ضد «داعش» واحداً في المائة من مجمل الأهداف، وقد وجهنا سيلاً من الرسائل إلى الأمم المتحدة نطالب بحماية المدنيين، وللأسف لم نجد رداً عملياً.
ويقول الروس إنهم غير متمسكين بالأسد، لكن وزير خارجية روسيا يقول إن طلب رحيل الأسد غير مقبول، بينما تقول الولايات المتحدة إنه لا دور للأسد في مستقبل سوريا، ولكنها ليست معنية برحيله عملياً، وأما إيران التي وثقت علاقاتها مع «الشيطان الأكبر» كما كانت تسمي الولايات المتحدة، فهي تمنح روسيا قاعدة عسكرية، وهذه ليست مساعدة لوجستية مهمة لقصف الشعب السوري فقط، فهي رسالة سياسية أيضاً للولايات المتحدة ولأوروبا كلها، وعلى رغم الانزعاج الأميركي تم التنسيق بين إيران وروسيا والولايات المتحدة دون استنكار حول حركة الطيران من همدان إلى الشمال السوري، ومع احتجاج شعبي إيراني لمنح روسيا قاعدة عسكرية خلافاً للدستور تم تبرير ذلك في البرلمان الإيراني بكونه مجرد تعاون عسكري، دون مناقشة الأهداف الحقيقية التي نفذها الطيران الروسي بعيداً جداً عن «داعش».

وتتجاهل إيران وروسيا أن الضحايا الذين يقتلهم «داعش» هم أهل السنة بشكل خاص، وهذا التنظيم المتطرف يعتبر «الجيش الحر» عدوه الأول، وآخر جريمة ارتكبها «داعش» ضده كانت في أطمة قبل أيام حيث قتل 35 جندياً.

وروسيا التي تدعم الانفصاليين من الأكراد وعدت تركيا بالكف عن هذا الدعم، بينما الولايات المتحدة التي تعلن حرصها على وحدة سوريا أرضاً وشعباً تدعم الانفصاليين الذين يعملون مع النظام، وترى أن «الجيش الحر» لم يقبل أن يتوقف عن محاربة النظام وأن يتفرغ لحرب «داعش» فقط، ومع حرصنا جميعاً على محاربة «داعش» والخلاص من حضورها الشرير، يجب أيضاً ألا ينسى أحد أن النظام هو سبب كل هذه الويلات التي اصطنعها للتعمية على مطالب الشعب وخلط الأوراق.

والمؤسف أن أوروبا وهي الجار الأقرب لم تعد تملك غير التصريحات المتناثرة، وبعضها غامض كذلك، ومجلس الأمن يرى قراراته ترمى في سلة المهملات فلا يملك غير التعبير عن القلق، وشعبنا السوري يباد، وديمستورا لا يملك أن يحدد موعداً لجولة مفاوضات جديدة ما لم يجد ظرفاً يوحي بنجاحها، والظرف الراهن يوحي بمزيد من الدمار.. لقد خرجت المظاهرات السورية الاحتجاجية ضد المؤسسة الأمنية التي ضيقت الخناق على الشعب، ولم يخطر لأولئك المتظاهرين أنهم سيواجهون إيران وروسيا و«حزب الله» ومليشيات العراق وشرق آسيا.. ومع ذلك سيبقى الشعب السوري رغم فظاعة المحنة، صامداً صابراً متمسكاً بحقه في الحرية والكرامة.

اقرأ المزيد
٢٠ أغسطس ٢٠١٦
لا نتذكرها .. يوم الكيماوي لم يمت أحد

لايمكن لنا أن ندعي أن شيء ما مهما عظم سينسينا ماحدث يوم 21/8/2013 ، مهما تعاظمت المجازر أو كبرت أو كانت مروعة ، فستبقى أم المجازر و أقذرها ، داخل أفئدتنا ، توغل فينا تقطيعاً ، و لكن بعد مرور ثلاثة أعوام على تلك الانتكاسة البشرية ، سأعترف أن أحداً من 1500 إنسانا لم يمت ، و لم يغادر الحياة مطلقاً .

اعتراف ليس من شخص أو مؤسسة أو هيئة، إنما اعتراف من كل من ينبض بداخله قلب لإنسان و ليس لأشباهه ، نعم لم يمت أحد و لم يغادر هذه الحياة أي كائن ، فهو لازال يعيش بداخلنا ، بحواسنا ، يشاركنا النبض ، ولا يمكن أن نحيا بدونه .

لم يمت أحد بالفعل ، فهم حاضرون في كل مكان ، وفي كل زمان ، يشاركوننا كل تفاصيل الحياة ، و لا يمكن أن نتخلى عنهم ، فهم كالنفس ، ملاصق لأجسادنا ، ومرافق لتفاصيل الحياة .

قد نراجع الفيديوهات المتعلقة بالمقابر الجماعية التي فتحت لهم ، لضم أجسادهم النظيفة ، لنؤكد لأنفسنا أنهم ماتوا بالفعل ، و لكن هذا التأكيد يتحول لهراء مع يقيننا بأنهم موجودن معنا بكل ما ذكرت .

لم ننسهم ، أو نتناساهم ، أم يتم إنسائنا إياهم ، فهو موجودون ، حاضرون ، قابعون في كل خلايانا ، إنهم شهداء الكيماوي ، شهداء البراء للعالم من إنسانيته ، إنهم الحقيقة الوحيدة التي كانت و لازالت و ستبقى ، أن لا موت لهم إلا بعقاب كل من شارك بالقصف أو بالصمت ، أو ساهم بالتستر أو عملية الإنساء .

نعم لم يمت أحد فهم موجودون ، في كل نقطة دم فينا ، و كل شهيق و زفير ، و لن يموتوا إلا إن مات قاتلهم و مشاركه و مسانده و الصامت عنهم .

اقرأ المزيد
١٩ أغسطس ٢٠١٦
الهابطون بالمظلة في سورية

حين تتأمل نصف قرن في سورية، يستوقفك موضوعان بالغا الأهمية، كانا سبب الفساد وانهيار القيم في البلاد، خصوصاً فساد التعليم والقضاء. وقد يبدو أن لا رابط بينهما، لكنهما أشبه بنبتتين مزروعتين في تربة واحدة، هي تربة الفساد في أعلى درجاته، فالحياة لا تتجزأ، وهي أشبه بجسم الإنسان حين يمرض عضوٌ يختلُّ الجسم كله.

في بداية التسعينيات، بدأت أفواج من طلبةٍ لم يحققوا أي مجموع جيد في الشهادة الثانوية، بل كان نجاحهم عند الحد الأدنى، يدخلون كليات الطب والهندسة والصيدلة، لمجرد أنهم من منظمة شبيبة الثورة، وخضعوا لتدريباتٍ وهبطوا بالمظلة، كما لو أنهم بهذا يستحقون أن يختاروا الاختصاص الذي يريدونه في الجامعة، حتى لو لم يكونوا مؤهلين له، وكان هؤلاء الهابطون بالمظلة يسرقون فرص غيرهم من الطلاب المجتهدين والحاصلين على مجموع عالٍ في الشهادة الثانوية. كانوا ينجحون بالواسطة، من سنة إلى أخرى، ليتخرّج معظمهم جامعيين أميين. وكانوا يحصلون على منح دراسية خاصة في روسيا ورومانيا، حيث إمكانية النجاح والحصول على شهادة بالواسطة كبيرة جداً. وكان بعض هؤلاء الهابطين بالمظلة ينسحبون من دراسة الطب، عارفين أنهم ليسوا أهلاً لها. وعندما عادوا من رومانيا وروسيا، وعيّنوا أساتذة جامعيين، صار التعليم يتدهور، حتى أن طبيباً بيطرياً كان يُدرّس التشريح في كلية الطب البشري.

أما عن فساد القضاء، فلا أنسى قول محام كبير لي إن من يدفع أكثر يربح الدعوى، وهو يعترف بأن لا دعوى يمكن أن تُنجز بدون دفع رشوة للقاضي، وبأنه، في نهاية كل شهر، يجتمع القضاة في مكتبه الفخم، ويبدأ توزيع المال الوفير عليهم، كل حسب الخدمة التي قدّمها، ليس لخدمة صاحب الحق والمظلوم، بل لمن يدفع أكثر. حتى أن فساد القضاء في سورية تحوّل إلى ما يشبه القانون العام. وبلغ الفساد أوجه، بعد قيام الثورة السورية وحملة اعتقالات الناشطين، خصوصاً وأن أهاليهم لا يعرفون أمكنتهم، وأي جهات اعتقلتهم، وما هي تهمة الواحد منهم، وصاروا يدفعون مبالغ طائلةً تتجاوز أحياناً الملايين لمحامين، أشبه بالمقاولين واللصوص الأنيقين، ليعرفوا أخبار أولادهم. وقد تعرّض المسلسل التلفزيوني السوري "الندم"، في موسم رمضان الماضي، للظاهرة، كما لو أن ذلك يُبرئ الجهات التي تعتقل. وكانت تلك المعالجة الدرامية ناقصةً، وأشبه بتنفيس غضب الناس.

وتحولت أحاديث الناس إلى شبه مبارزة بين قصص المعتقلين، وكم دفع ذووهم لمحامين نصابين يوزعون الملايين على شركائهم في أجهزة الأمن. وكانت التهم خُلبية وغامضة، كاتهام أطباء يعملون في الإغاثة وتوزيع المعونات على الأسر النازحة، ومعظمها من النساء المعدمات من الفقر والأطفال، بأنهم يعطون المساعدات لأسر وعائلات يحارب رجالها وأزواج المُعدمات في جبهة النصرة أو "القاعدة" وغيرهما من مجموعات أصولية، كما لو أن مهمة الطبيب أن يتقصى عن خلفية الأطفال السوريين الجياع وأمهاتهم، والذين ينتظرون ساعات طويلة أمام مراكز الإغاثة، كما لو أن مهمة الطبيب أن يكون رجل مخابرات أولاً. وعليه، قبل أن يُسعف الجريح النازف، أو يُقدم مساعدة لمُحتاج أن يسأل عن الأب وعمله، وهل ينتمي لتنظيمات متطرفة أم هج خارج البلد، أم قتل في وطن القتل اليومي.

وقد اعتقل عدة أشهر طبيب كان رئيساً لجمعية خيرية، تساعد الفقراء والعجائز المُهملين، وخسر أكثر من 20 كيلو غراماً من وزنه، بتهمة أنه يوزع مساعداتٍ لأسر ينتمي رجالها للتنظيمات المتطرفة. وفي أثناء إدارته الجمعية الخيرية كان ممنوعاً أن تتم التبرعات للجمعية في الجامع، وبعد اعتقال الطبيب وتعيين واحدٍ من عظام رقبة النظام بدلاً منه، أصبح مسموحاً جمع التبرعات في الجامع.

إلى متى نبقى مُروعين من ذكر تلك الحقائق؟ إلى متى سوف يردد العبارة نفسها معتقلون قضوا أكثر من خمسة عشر عاماً في السجن، ولا يجرؤون على كتابة تجربتهم، لأنهم لا يزالون يعيشون في سورية. متى تتفجر حناجر هؤلاء بتجاربهم وسنوات سجنهم الطويل؟ ومتى يحل الوقت المناسب؟ وهل أمامهم خياران لا ثالث لهما، أن يخرجوا ويروون تجاربهم في السجن، أو يبقوا في سورية صامتين منتظرين اللحظة المناسبة التي قد يموتون ولا تأتي.

الهابطون بالمظلة، والذين استلموا أعلى المناصب في سورية، وفساد القضاء، وجهان لعملة واحدة.

اقرأ المزيد
١٩ أغسطس ٢٠١٦
من يخلف «داعش»؟

ما أن اتجهت القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في سورية إلى اعتماد الجدية في تحقيق هدف التخلص من «داعش» ومواجهته، حتى أخذ الارتباك يصيب الجميع ويفرض على هذه القوى خططاً عسكرية وسياسية وعملانية معقدة، ومناورات تبدو في كثير من الأحيان غير مفهومة.

إلا أن التفسير الأكثر عقلانية لكل هذا الارتباك والتخبط، إن من قبل الغرب أو روسيا وإيران، هو أن اضطرار الولايات المتحدة الأميركية إلى إظهار مقدار مختلف من الجدية في ضرب «داعش» بسبب ضرباته في أوروبا وأميركا وتحولها إلى عنصر خارجي مؤثر في الحملات الانتخابية الرئاسية الأميركية، أخذ يطرح السؤال الكبير: أي من القوى العسكرية على الأرض في سورية والعراق سيتولى السيطرة على الأراضي التي احتلها «داعش» قبل سنتين بعد دحره منها، ولا سيما في بلاد الشام؟

بات الشغل الشاغل هو عما بعد «داعش» في حال جرى تحرير الموصل في العراق، وفي حال جرى استكمال الخلاص من التنظيم المتوحش في الرقة والجيوب الأخرى التي يحتفظ بها في سورية؟ ويثبت السجال الدائر في العراق بين الأطياف العراقية نفسها، وبين بعضها والجانب الأميركي، الشريك في خطط استعادة الموصل، أن الكثير مما يدور هو حول هوية القوى التي تحل مكان «داعش»: الحشد الشعبي الذي تقوده إيران أو الجيش العراقي بالتعاون مع القوى العسكرية العشائرية والتشكيلات السنية، أم قوات البيشمركة التابعة للقيادة الكردية في السليمانية المتعاونة مع الأميركيين، والتي لها طموحات بالسيطرة على مدن وبلدات تتطلع إلى استعادتها إلى الهوية الكردية. ويبدو أن هذا السجال دفع بالجانب الأميركي إلى الحديث عن تأجيل تحرير الموصل.

الأمر نفسه مطروح في سورية بإلحاح أكثر حدة، لأن الإشكال البعيد المدى لهوية القوى التي ستتولى السيطرة على مناطق «داعشية» يساهم في رسم الخريطة المستقبلية. لا تقبل تركيا أن تقبض قوات سورية الديموقراطية على منبج والتوسع منها تمهيداً لوصل المناطق التي استطاعت هذه الميليشيا أن تحررها بأخرى جديدة تكرس قيام الإقليم الكردي، بحيث يصبح الأمر غير قابل للتفاوض عندما يحين أوان الحل. وإذا كانت إيران تشارك تركيا رفضها هذا، فإنها تتعارض معها في خيار إعطاء دور لفصائل المعارضة السورية الأخرى المتعارف على تسميتها «معتدلة»، في تولي مسؤولية هذه المناطق المحررة من التنظيم التكفيري، لأن هذا يعزز موقعها في المعادلة التي سيرسو عليها الحل المفترض للأزمة السورية حين تدق ساعته، فضلاً عن أنه يشكل رافعة لدور الدول العربية الداعمة لهذه الفصائل على الساحة السورية. في المقابل تشارك موسكو طهران خشيتها من أن تتولى الفصائل السورية المعارضة، لأنها تضعف موقع ورقتها في المعادلة، أي بشار الأسد.

لم تنجح الخطط الروسية- الإيرانية في كسب حلب، تمهيداً لتأهيل القوات المدعومة من إيران، تحت لافتة القوات الأسدية، للسيطرة على مناطق «داعشية» لاحقاً. وإذا كان هذا الفشل تحقق بدعم تركي- عربي للفصائل العسكرية «المعتدلة»، فإنه حصل أيضا نتيجة موقف أميركي رافض أي تغيير في الخريطة لمصلحة الأسد، وفق واحدة من الأهداف الثلاثة التي أعلن عنها مستشار البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط روبرت مالي، وهي: خفض العنف، هزيمة «داعش» و «النصرة»، والدفع من أجل حل سياسي من دون الأسد.

المحاولات الروسية الأميركية للاتفاق على عمليات مشتركة ضد «داعش» و «النصرة» منذ أكثر من شهرين باءت أيضاً بالفشل، لاختلاف الأهداف: فموسكو تحتفظ بحرية مواصلة ضرب الفصائل العسكرية الأخرى، كما تفعل يومياً، فيما تأمل واشنطن بأن تلعب هذه الفصائل دوراً في التخلص من «داعش» وتحل مكانها.

لا تقتصر الإشكالية على ما إذا كان التخلص من «داعش» يلغي دور الغطاء الذي افتعله الجانبان الإيراني والروسي حين كرسا معادلة إما بشار وإما «داعش»، لأن هزيمة الأخير و «القاعدة» والإرهاب، يفقد لافتة الأسد مفعولها وينهي صلاحيتها، بل إن إظهار الجدية في التصدي للتنظيم الإرهابي في الإقليم، كما هو حاصل في ليبيا (سرت) وفي اليمن من قوات التحالف العربي بالتعاون مع الشرعية اليمنية، يأخذ بُعداً إقليمياً لا يقف عند حدود سورية والعراق. وقد يعيد النموذج الذي يكرس الشراكة العربية في مواجهة الإرهاب في غير دولة عربية، تظهير اقتراح السعودية إرسال قوات عربية وإسلامية تتولى محاربة التنظيم المتوحش في سورية والإمساك بالمناطق المحررة من بعده.

ألهذا السبب وجد السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير حاجة لدعوة «داعش» و «النصرة»، إلى وقف القتال تمهيدا لمصالحة وتسوية معهما؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل