مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٠ أغسطس ٢٠١٦
موسكو المحاصرة في حلب

تهيأ القيصر الجديد لتسديد ضربة قاضية لجميع خصومه، وهو الذي اعتقد لعشرة أشهر مضت، أنه لم يعد في الحلبة السورية من يجرؤ على منازلته، وخرج وزير دفاعه وهو الرجل الأقوى في إدارته سيرغي شايغو ليعلم العالم أن بلاده منحت السوريين ثلاثة ممرات آمنة للخروج من حلب، وأعطى فرصة للمسلحين لتسليم سلاحهم، ضامنا لهم الحصول على عفو عام سيمنحه الرئيس بشار الأسد، يغفر لهم ذنب تمردهم على سلطته. ففي مساء الـ27 من يوليو (تموز)، وهو التاريخ الذي عقد فيه الوزير شايغو مؤتمره الصحافي، حيث أعلن عن اكتمال حصار المدينة، ساد العالم والمنطقة صمت مريب، فقد كانت التوقعات الأكثر تفاؤلا ترجح إعلان الشعب السوري استسلامه، والمعارضة هزيمتها.

ولكن على أبواب حلب، لم يفلح فلاديمير بوتين، المصر على تكرار أخطاء أسلافه السوفيات الذين سبقوه في السقوط بامتحان القوة، وفاته كما فاتهم في أفغانستان والشيشان أنه مهما امتلك من إمكانيات، فإنه لن يتمكن من إرضاخ أصحاب الأرض، فهم وحدهم يمتلكون المكان ويتحكمون في الزمان. سوء الحسابات أصاب بوتين وجنرالاته بالعمى الاستراتيجي، واعتقدوا للحظة أن طائراتهم تستطيع تغيير مسار الحرب والتحكم في نتائجها، فحصار حلب الذي أراد بوتين تحويله إلى حصار للمعارضة والثورة ولخصومه الإقليميين والدوليين، بدأ يتحول إلى حصار سياسي خانق له، من الصعب أن ينجح في فكه مهما حاول من استخدام القوة، فالمعادلة العسكرية والسياسية التي فرضتها المقاومة السورية وداعموها في موقعة حلب، نقلت موسكو من موقع المتفرد بالقرار السوري إلى رهينة مجبرة على التأقلم مع المستجدات في صناعة القرار الدولي، ولن تسمح لها المرحلة المقبلة بتجاوز ما تم تحقيقه في العشرة أيام الأخيرة.

في حلب الآن، ضاقت خيارات روسيا، ولم يعد أمامها إلا اللجوء إلى الكي باعتباره وسيلة أخيرة لمداواة جراحها السورية العميقة، والكي بالمنطق الروسي هو تدمير المدينة فوق رؤوس من فيها، والمشاركة المكشوفة إلى جانب ميليشيات مذهبية في غزوها، وكأنه يسير بملء إرادته إلى ما تجنبته دول تتفوق عليه في قدراتها العسكرية والاقتصادية، ونأت بنفسها مبكرا عما وصفته بالصراع الطائفي حول سوريا، كما أن الانقلاب الأخير في موازين القوة، لم يعد يسمح لموسكو بالتمسك بإعادة تعويم الأسد ونظامه، وقد أصبح العالم على قناعة نهائية بأنه لا إمكانية للحل بوجوده، إضافة إلى فشل موسكو الذريع في ترميم ما تبقى من جيش الأسد، وتأمين اللازم لانتشاره، ما كشف عن اعتمادها الكبير على المرتزقة الإيرانية.

لم تستبعد أوساط روسية إسقاط المروحية العسكرية فوق ريف إدلب بصاروخ أميركي، فهي رسالة واضحة بأن قواعد اللعبة بدأت تتبدل، وبأن إمكانية تحييد الطيران الروسي ممكنة، وهو بمثابة إنذار أميركي مبكر بأن المقيم الجديد في البيت الأبيض، سيختلف حتما في تعاطيه مع الملفات الروسية عن سلفه، وهو ما سيجبر موسكو على تغيير سلوكها، ويضعها أمام امتحان إثبات قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وفي مقدمتها إقناع الأسد بالتنازل عن السلطة، ما سوف يكشف حجم تأثيرها على النظام مقارنة بالتأثير الإيراني.

امتحان أمهلها إياه من تبقى لها من أصدقائها العرب، بأن تخرج بتوازن مقبول يضمن لها مصالحها في سوريا والمنطقة، وينقذها من الحصار الإقليمي الذي فرضته على نفسها، عندما حاولت من حلب اللعب بالثوابت الجيو - سياسية، التي حكمت قواعد الاشتباك في المنطقة، والتي جعلتها أيضا محاصرة بشروط العثماني المتمرد على حلفائه التقليديين، الذي يملك موهبة الأكل على الفكين، لكنها تحاول استمالته على الرغم من قناعتها بأن جسده في بطرسبرغ وعقله في واشنطن.

وعليه، لم تعد الأشهر المتبقية لأوباما في البيت الأبيض تكفي موسكو لتثبيت تفاهمات كيري - لافروف حول سوريا، حيث تواجه صعوبة في تمرير رؤيتها لتصنيف الجماعات السورية المقاتلة، ما يضعها أمام خيارين، إما الاكتفاء بعمليات جوية شبه محدودة، وإما أن تعلن عن عدم قدرتها على التفريق بين الإرهاببين والمعتدلين وتستمر في قصفها العشوائي، وهو ما بات من الصعب تمريره في الرياض وأنقرة، ومن الممكن أن ترفضه أجهزة الدولة الأميركية التي قد تدفع البيت الأبيض إلى التصعيد على أكثر من جبهة، ما سوف يضيف من أعبائها، كما يزداد قلقها جراء قرار الدول الإقليمية الفاعلة ملء الفراغ الأميركي في المنطقة وهو تحد إضافي لها.

موسكو المحاصرة في حلب أضاعت الفرص وتخسر الآن عامل الوقت، ولم يعد لديها من الزمن ما يكفي لتستخدمه في تمرير أجندتها، وهي تدرك جيدا أن عقارب الساعة تسير باتجاه واحد! وعن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك».

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٦
براميل.. النجاة السورية

السوريون/ يات في كلِّ مكان. فعلاً في كل مكان. لقد أوصلتهم براميل بشار الأسد وسواطير مخلوقاته الإرهابية، على الطرف الآخر من الجحيم، إلى كلِّ مكان يمكن تخيله. قبل أيام، كنت أشاهد فيلماً وثائقياً عن لاجئين سوريين في مالي. ناهيك، بالطبع عن السودان. في الصحراء الكبرى. بين رملٍ ورمل. أما وصولهم إلى القطب الشمالي فليس خبراً حديثاً، فكلنا عرفنا ذلك، عندما كتبت عنه صحيفة بريطانية. صار السوريون مخترعي طرق وجغرافيا. هناك صفحاتٌ عديدةٌ على الإنترنت، أنشئت خصيصاً لفتح طرقٍ أمامهم في الجغرافيا التي تنغلق كلما زاد عدد اللاجئين، وتعقّدت ظروف اللجوء بصعود القوى اليمينية إلى سدّة القرار في غير بلد أوروبي. وأنا أرى إلى اللاجئين السوريين في مالي. في بلدٍ لا يستطيع أهله، أنفسهم، إقامة أوَدَهم: أي البقاء الصرف على قيد الحياة، تذكَّرت تقرير الصحيفة البريطانية التي كانت قد أخبرتنا، بنوعٍ من الطرافة والتعاطف، عن تمكّن السوريين من اشتقاق طريقٍ في القطب الشمالي يصل بين روسيا والنرويج، أو إعادة تأهيل هذا الطريق الجليدي الذي لم يمش عليه بشرٌ منذ الله أعلم. هناك دفعاتٌ سوريةٌ شهريةٌ تعبر الطريق الجليدي، ببطء ولكن بإصرار، للوصول إلى البلاد الاسكندنافية. للبقاء فيها، أو لعبورها إلى بلاد السيدة أنجيلا ميركل. ويبدو أن ذلك المعبر الجليدي كان الفاصل بين الجنَّة الأوروبية الغربية وبلدان ما وراء "الستار الحديدي". التاريخ يكرّر نفسه. ولكن، بوجوهٍ شرق أوسطية هذه المرة. لم تثن اللاجئين السوريين درجاتُ الحرارة، دون الصفر بكثير، ولا مخاطر الضياع في صحراء الجليد هذه التي بلا معلم، عن الذهاب بعيداً، أبعد ما يمكن، عن السماء السورية التي تحتلها الطائرات، وتتساقط منها البراميل والقنابل العنقودية والسموم.

 لا الحرّ عند خط الاستواء، ولا القرّ عند القطب الشمالي المتجمّد يمنعهما من البحث عن سبيلٍ للنجاة بأنفسهم. للبحث عن سماءٍ لا تكفُّ عنها الطائرات. وبجانب بشرٍ لا يجزّون الأعناق، كما يقطف الرومانسيون وردة. الخبر السيىء أن قوافل اللاجئين السوريين التي تتدفق عبر الحدود ليست نهاية حبل "المسد". فما دام الصراع قائماً هناك. ما دام هناك من يرمي حطباً على النيران التي تتصاعد من رؤوس المدن الحضارية العريقة، المدن الأقدم في العالم، فاللجوء سيستمر. والقوافل السورية التي تعبر كل حدّ يمكن تخيله ستستمر. أما كيف تكون مالي طريقاً إلى "الجنَّة" الأوروبية المطوَّقة بالحرس والشكوك، فهذا يستحيل فهمه. من سورية. إلى لبنان. الأردن. مصر. الجزائر. موريتانيا، ثم مالي. لا أتحدّث عن شبّانٍ، بل عن عائلاتٍ بأكملها. نساء، رجال، أطفال، وجدّات أيضاً. في مالي، رجل يعمل ميكانيكاً جاء من حلب! تخيلوا معي هذه المفارقة الجغرافية المذهلة. قال الرجل: سماء مالي خالية، على الأقل، من الطائرات. ما زالت حلب تحت النيران. ما زالت السوخوي تحرث سماءها، وتسقط على مئات آلاف الحلبيين الذين انحشروا بين نارين وجبهتين، صواريخها وبراميلها، ومحتمل أيضاً: غازاتها السامة.

كنت قد قابلت مهندسةً معمارية حلبيةً في قبرص. هذا مكانٌ قريب. حارة متوسطية قياساً بأي عبور آخر. هناك بعض السوريين الذين وصلوا إلى الجزيرة. ليست قلة أعداد اللاجئين السوريين بسبب صعوبة الوصول إلى قبرص، ولا لتعقيد إجراءاتها، بل لأنها جزيرةٌ لا تبعد عن اللاذقية أكثر من مائة ميل. وعن بيروت ربع ساعة بالطائرة. ولأنها جزيرةٌ فهي لا تؤدي إلى غيرها. وهم يريدون غيرها. المهمُّ، أذهلني كلامها عن خروج عائلتها، وكثير من أقاربها وجيرانها. يبدو أن البراميل قدر السوريين. لكنها، هذه المرة، براميلُ نجاة، لا براميل هلاك. قالت لي إنهم يضعون الأطفال وذوي الأحجام الصغيرة الذين لا يستطيعون السباحة، في "بيدونات" (براميل) ويدحرجونها من مكانٍ يطلّ على نهر. يتلقى  النهر البراميل، ويأخذها الى الجانب التركي. نسيت اسم النهر، أو المجرى المائي الذي سمَّته لي. أظنه العاصي. قلت لها إن ذلك يشبه قصة النبي موسى ونهر النيل أيضاً. المياه التي تُغرق، هي أيضاً التي تكتب الحياة لمن أريد له الموت. هذه المرة، للبراميل في سورية معنى الحياة. إنها التي توصل إلى الجانب الآخر، حيث لا تستطيع السوخوي أن تنقضّ وتتنمَّر.

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٦
"الربيع العربي" في تاريخنا

على الرغم من كل ما يجري اليوم في بلدان الربيع العربي من أحداث تجعل وصف "الربيع" غير جدير بالاستعمال، من حيث المبدأ، فإن أحداً لا يستطيع الجزم بعد ما إذا كان ممكناً أم غير ممكن أن تمثل هذه المرحلة نقطة بداية، لم تؤتِ أكلها بعد، لانعطافةٍ تاريخيةٍ، يخرج بها العرب من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان من أبرز سماتها لديهم سيادة الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت باسم الاستقلال والدفاع عن الأوطان، على طريق الولوج في "التاريخ الجديد"، القائم على المشاركة العامة، ومجمل حقوق الإنسان الأخرى، إذا ما انتهى هذا المخاض العظيم، ولو بعد حين، إلى إفراز أنظمةٍ منتخبةٍ ديمقراطياً في عدد من الدول العربية الرئيسية، تخوض غمار التنمية الشاملة الحقيقية والعميقة، اقتصادياً وإنسانياً.

يمكن، هنا، تحقيب التاريخ العربي الحديث والمعاصر، على أساس ثلاثة انعطافات تاريخية كبرى، ربما تكون مرحلة "الربيع العربي" رابعتها:
فقد تمثلت انعطافة العرب التاريخية الأولى في الجنوح إلى التحديث، مع تأسيس دولة محمد علي في مصر، العام 1805؛ أي بالانتقال من شكل الدولة القديم ونمطية صلتها بـ"شعبها"، إلى الدولة ذات البنية والتراتبية الحديثة؛ ثم من نمطية التفكير النقلي القديم إلى التفكير القائم على "الحرية" و"المساواة" واحترام الفرد، وفق ما بشّر به رفاعة الطهطاوي.

أما انعطافة العرب الثانية فوقعت مع وصول الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر إلى بلادنا، منتصف القرن التاسع عشر. وفيها انعطف العرب من التحديث والفكر الحر إلى الارتباك أمام قوة الاستعمار القاهرة. وكان من سمات الارتباك أن ارتد التفكير إلى الماضوية بدعوى "العودة" إلى الدين، وفق المدرسة التي أسسها الأفغاني، أو هرب إلى تقليد أوروبا، بحجة الاستفادة من نهوضها، بحسب ما قال دعاة العلمانية المؤدلجة.

حدثت الانعطافة الثالثة مع زوال الاستعمار الأوروبي العسكري المباشر، عقب الحرب العالمية الثانية، وظهور ما سميت "الدولة الوطنية" في العالم العربي التي حكمتها أنظمةٌ استمدّت شرعيتها إما من قيادة الثورة على المستعمر (كما في الجزائر وتونس)، أو من تأسيس الدولة الحديثة وتوحيدها (كما في معظم دول المشرق العربي)، أو من الانقلابات العسكرية المبرّرة أيديولوجياً بالاشتراكية والقومية (كما في مصر وسورية والعراق، التي هي أبرز الدول العربية الرئيسية). وهكذا، لم تستمد أيٌّ من تلك الأنظمة شرعيتها من شعوبها، فكان طبيعياً أن تحكم من دون الرجوع إلى الناس، ما أدى إلى تهميش الشعوب العربية نحو ستين سنة.

الدافع إلى النظر إلى مرحلة ثورات الربيع العربي، باعتبارها بدايةً لانعطافةٍ جديدة ممكنة، ما تزال تحتاج إرهاصاتٍ كثيرة، على الرغم من العثرات الكبرى التي تمر بها، أنها حين بدأت انعطفت بالشعوب العربية من التهميش إلى المشاركة والتأثير والمساهمة في صناعة التاريخ. صحيح أن هذه الانعطافة أفضت، حتى الآن، إلى ويلات وقتل ودمار، في سورية واليمن وليبيا، أو إلى عدم اكتمال مخرجاتها الديمقراطية، بالشكل المتوقع منها، في مصر وتونس، بشكل دفع قطاعاتٍ متزايدةً من العرب إلى رفض تسميتها "الربيع"، من حيث المبدأ، هذا فضلاً عن أنها لم تشمل كل العرب، إلا أنه من غير الممكن الجزم أن العرب لن يدخلوا التاريخ من جديد، بعد هذه الأحداث الكبرى، وسيظلون خارجه، كما كانوا، منذ خضوعهم للاستعمار العسكري والإمبريالية، ذلك أن التحولات الكبرى التي عرفها التاريخ احتاجت، دائماً، مخاضاتٍ كبرى ووقتاً طويلاً.

علينا أن نلاحظ، بينما ننتبه إلى ذلك كله، أن دخول العرب في التاريخ المعاصر، القائم على احترام الفرد وحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليس مستحيلاً، أو ضرباً من الوهم، وليس التأخر في إنجازه ناتجاً عمّا هو متأصّل في ثقافتهم أو قيمهم الإنسانية والدينية، ما يعني أن الانعطافة الرابعة الكبرى واجبةُ الحدوث في لحظةٍ قد لا تكون بعيدة، خصوصاً حين نأخذ في الاعتبار أن دوراً كبيراً في دفع العرب إلى ثورات الربيع العربي لعبته التكنولوجيا الحديثة، من خلال إتاحتها أدوات التواصل والمعرفة لشعوٍب عاشت ستين عاماً في التضليل والتفتيت، والمعنى أن تقدّم التكنولوجيا لن يكون بلا أثرٍ على تاريخ العرب ومستقبلهم وانعطافاتهم الكبرى.

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٦
حلب... سقط الحصار

استغلّ حسن نصر الله مناسبات ظهوره، أخيراً، على الشاشات، ليعيد ويكرر اسم حلب، واضعاً استرجاعها على رأس أولويات الحزب. ينتشي الجمهور القابع في ساحةٍ تتوسطها شاشةٌ تعرض لزعيمهم، وهو يعدُهم باسترداد المدينة كاملة، فيعلو التصفيق والهتاف، كلما ذكرت حلب.

للمدينة القديمة تاريخٌ تليد قبل الفتح الإسلامي، على يد خالد بن الوليد، وبعده، وقد سُبق اسمها بصفة "عاصمة"، في عصور مختلفة، لكن أهمية المدينة التجارية انخفضت، في العقود الأخيرة، بسبب اقتطاع الجزء المطل على البحر المتوسط في اسكندرون لصالح تركيا، بعد اتفاقيةٍ أجرتها مع فرنسا، زمن الانتداب الفرنسي على سورية، وتراجعت أهميتها بالمقارنة مع دمشق العاصمة، على الرغم من ذلك، ومع أنها تبعد عن الحدود اللبنانية السورية مئات الكيلومترات، إلا أن أمين عام حزب الله يُدرج حلب في مكانةٍ عاليةٍ من الأهمية. لذلك، حشد لفتحها "عدداً كبيراً من مقاتليه"، واستخدم بشكل معلن كل الأساليب المتاحة.

وردت، من حلب، قبل أيام، صور أطفال يدحرجون دواليب، قيل إنها ستساعد في التشويش على عمل سلاح الجو الروسي الذي يقصف المدينة، ما سيسهل تقدّم القوات المعارضة، لفك الحصار عما يزيد عن ثلاثمئة ألف ساكن، يقطنون مناطق خارجة عن حكم الأسد هناك. وعلى الرغم من أهمية الانسجام التكتيكي الأخير بين قوى المعارضة الذي نفع، بشكل واضح، في الاستيلاء على كلية المدفعية وما بعدها، إلا أن رمزية وجود أطفالٍ، يحاولون اقتلاع غدهم بأيديهم الصغيرة، ضمن عوامل التحرير، تبعث رسالةً تقول، بجلاء، إنه لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه.

كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد تعهد، في مناسبات عدة جمعته بقادة أميركان وأمميين، بالانخراط في اتفاقية وقف النار على حلب، ووعد بأنه سيدفع نظام دمشق إلى قبول هدنةٍ تلجم فائض الحمم التي تنصب فوق حلب يومياً، إلا أن المدينة عانت، في الأشهر الأخيرة، من قصفٍ روسيٍّ مستمر، تكلَّل بسقوط مروحية روسية، ومقتل طاقمها، ووقوع جثثهم بيد الثوار.

منذ سنوات، وحلب تعاني حرباً مفتوحة، سببت انهيار قسم ضخم من أوابدها العريقة، ومغادرة الملايين من ساكنيها، إلا أن أحداث الشهور الأخيرة التي مرّت على حلب تجاوزت المآسي الأسطورية. على الرغم من ذلك، لم يحرّك العالم من أجلها إلا بعضاً من قلقه واستنكاره، ورضي ضمناً عن ممارسات الأسد وحلفائه الذين طوَّقوا باقي سكانها، وأطلقوا دعواتٍ للمسلحين داخلها لتسليم أنفسهم، واستمتعت الفضائيات الموالية بعرض فيديوهات لحالات استسلامٍ، أعلنها شبانٌ يحجبون وجوههم بقمصانهم، ويسلمون أنفسهم نادمين إلى مليشيات الدفاع الوطني. استولت هذه المقاطع على اهتمامٍ فريد في الشارع المؤيد، على الرغم من الهفوات الإخراجية الجلية التي احتوتها.

كان لجرعات الشحن المتزايدة التي قدمها النظام، لتحفيز مؤيديه في حلب، أثر مماثل لدى الكتائب المعارضة، دفعها إلى الانتفاض، لكسر الطوق المفروض، فشرعت بهجومٍ معاكسٍ، تراجعت أمامه مليشيات الأسد عن المناطق التي استولت عليها أخيراً، كما دخل الثوار كلية المدفعية، واستولوا على ذخائر متنوعة، بأعداد ضخمة، وتحرّرت الراموسة بشكل خاطف، تحت ضربات الكتائب القادمة من الجنوب، بمساعدة جلية من المحاصرين في الداخل أنفسهم. على ذلك، ربما سيخفت صوت حسن نصر الله، وسيُجري حساباتٍ سريعةً، لإعادة ترتيب تصريحات جديدة تتناسب مع فقدانه حلم حلب التي بنى على إمكانية احتلالها تهديداتٍ مهولةً، ستطاول دولاً عربية وإقليمية.

بعد الراموسة، ستنطلق الكتائب إلى مواجهة أخرى، في حارات الحمدانية وصلاح الدين، لتبقى مدينة خناصر، الأقرب إلى داعش، المنفذ الأسهل لتموين النظام، وفيما لو تم قطعه، سيضيق الخناق على جزء حلب، الواقع تحت سيطرة مليشيات الأسد، وستزداد إمكانية انتقال المدينة، بشكل كامل، لتصبح ورقةً ذهبيةً في جيب رياض حجاب، في أثناء مفاوضات جنيف المقبلة. أما فيما يخص الإقليم، فسيبدو الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في لقائه المرتقب مع بوتين، أقوى من السابق، وربما ستصير مناقشة الحل السياسي في سورية بينهما أمراً أكثر إلحاحاً وجديّة.

اقرأ المزيد
٩ أغسطس ٢٠١٦
هل تنتهي الأوبامية الحيادية؟

بالفعل الانتخابات الأميركية المقبلة تعتبر بكل المقاييس غير عادية، ليس فقط بسبب أن المتنافسين أحدهما شخصية صاخبة، رجل أعمال لا علاقة له أصلاً بالشأن السياسي، والثانية أول امرأة تكسر العرف وتجرب حظها كمرشحة للرئاسة، بل أيضًا لأن العالم يتغير كثيرًا، في ظل شبه غياب للقيادة الأميركية في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما.

منطقة الشرق الأوسط، بما فيها منابع النفط وممراته، صارت براكين متفجرة، تعمها الحروب والفوضى. والإرهاب بلغ مبلغًا من الانتشار والخطر على العالم لا مثيل له في قرن كامل. كما أن أوروبا تعاني من أزمات خطيرة؛ من ارتفاع للمد القومي المتطرف، وغزو المهاجرين يهدد منظومتها الاجتماعية والسياسية، وبات مشروعها للاتحاد الأوروبي مهددًا بالتفكك، كما أن الجبهة الغربية القديمة المواجهة للنفوذ الروسي قد لا تصمد من دون عودة قوية لواشنطن. وهناك النزاعات في بحر الصين التي انفجرت أخيرًا وبلغت من التوتر مرحلة غير مسبوقة، وتحول حلم الرئيس أوباما بالتعاون الأطلسي إلى كابوس من النزاعات على الجزر والحدود والموارد.

كلها قضايا سيرثها الرئيس المقبل، سواء كان ترامب أو كلينتون، والتساؤلات من الآن هي هل يستطيع الرئيس المقبل الاستمرار بنفس النهج الانعزالي الأوبامي أم يحيي مبدأ الدفاع عن المصالح العليا ودور الشرطي العالمي؟

لقد برهنت أحداث سبع سنوات صعبة من إدارة أوباما على أن عدم التدخل والمشاركة الفعالة لا تقل كلفة وخطرًا على الولايات المتحدة.

فـ«داعش» اليوم أخطر من «القاعدة» بالأمس، كبر التنظيم نتيجة الانسحاب الأميركي الكامل، وتركه حرًا في العراق ثم سوريا وليبيا.

وقدوم رئيس أميركي مقبل قد لا يحسم الأوضاع المعلقة لأنها باتت أكبر من قدرة الدولة العظمى، لكن وجود إرادة ضرورة لتحقيق التعاون بين الدول الأخرى من أجل وقف النزاعات، أو تأطيرها، ووقف لهيبها من أن يمتد. وهذا التفاؤل لا يقلل من القلق العالمي الاستثنائي مما قد تفرزه الانتخابات الأميركية بعد أقل من ثلاثة أشهر من الآن، بوجود دونالد ترامب الذي انتشرت آراؤه المتطرفة. لكننا ندرك أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات، ولا تحكمها أهواء الأفراد، تعلو فيها المصالح العليا على الميول الفردية. يستطيع الرئيس العمل فقط من داخل أطر مؤسساتية، سواء قرر التدخل أو الانعزال.

دولة عظمى، كالولايات المتحدة، ذات قوة عسكرية ضاربة، لها أكثر من ستمائة قاعدة عسكرية في نحو أربعين دولة وتملك ترسانة من السلاح تكفي لتدمير العالم مرات، تحكمها أنظمة وقوانين لا تطلق يدي الرئيس في التصرف كما يهوى. بل هناك سلسلة واجبات تملى على الرئيس، رغم أنه أيضًا القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يحصل على موافقة المؤسسات التشريعية قبل أن يخوض حربًا. وعليه استمالة مراكز التأثير الكثيرة، مع تأييد نسبة كبيرة من الشعب الأميركي. وبالتالي لا يخشى كثيرًا من صعود أفراد، مثل ترامب، مهما أفرطوا في الحديث عن توجهاتهم في إدارة العلاقات الدولية.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٦
حلب بين قمة سان بطرسبرغ ولقاء المعارضة مع أوروبا

الرئيس باراك أوباما لا يثق بنظيره الروسي فلاديمير بوتين. لكنه يصر على إبرام اتفاق عسكري معه! لذلك لا يعنيه من الاتفاق سوى التعجيل في تحقيق نصر كبير على «داعش» وقوى الإرهاب الأخرى. ولا يشغله أي هدف آخر عن ذلك. لا يعنيه قيام المرحلة الانتقالية لتسوية الأزمة السورية. ولا يعنيه مصير المعارضة. والواقع أن ثمة رغبة روسية مماثلة في إبرام الاتفاق. وقد يتوصلان إليه من دون أن يؤدي ذلك إلى فتح طريق التسوية. فالعقدة ليست في إصرار واشنطن على حق الفيتو على بعض أهداف الغارات الروسية ورفض موسكو ذلك. هذه عقبة تمكن إزالتها. ما تريده الإدارة هو فك الحصار عن حلب وأهلها ووقف الهجوم عليها. لأن استعادة النظام هذه المدينة تعني هزيمة كاملة للفصائل المقاتلة والمعارضة عموماً. فلا يبقى أي معنى للتفاوض. ولا يبقى بيد الولايات المتحدة أي ورقة ضغط لتحقيق الحد الأدنى من التغيير المطلوب. خصوصاً أن غيابها الميداني الطويل لم يوفر لها سابقاً ولا يوفر لها الآن وزناً بمواجهة التدخلين الروسي والإيراني. إن استعادة حلب ستجر إلى استعادة إدلب أيضاً. ويقود ذلك إلى تثبيت الرئيس بشار الأسد، وطي صفحة العملية السياسية. وهو ما يعزز موقف موسكو في أي مفاوضات. في مقابل ذلك، باتت روسيا على قناعة تامة بأن الإدارة الحالية ليست مستعدة للبحث في ما يتجاوز الوضع العسكري. أي أنها لا تبدي أي مرونة في نقل الحوار إلى ملفات أخرى على رأسها البحث في رفع الحصار عنها وإسقاط العقوبات. لذلك يبدي زعيم الكرملين تشدداً وإصراراً على التمسك بالورقة السورية. ويرفض إبرام أي اتفاق مع أولئك الذين «يخوضون حرباً اقتصادية» على بلاده، ما لم يعبروا عن استعدادهم لمراجعة مواقفهم في ملفات كثيرة تشكل موضع خلاف.

من هنا تتخذ معركة حلب صفة استثنائية ومصيرية. روسيا قد لا ترغب مرحلياً في أكثر من حصارها لتظل ورقة مساومة وضغط. في حين يهدف النظام وحليفه الإيراني والميليشيات المقاتلة إلى جانبه إلى استعادة أكبر مدينة في البلاد (تشكل محافظة حلب ربع سكان سورية) والعاصمة الاقتصادية. لأن ذلك سيفتح أمامه الطريق إلى مواصلة حربه حتى إقفال الحدود الشمالية مع تركيا. فيحقق بذلك هدفين كبيرين: يقطع كل خطوط الإمداد للفصائل المقاتلة في الشمال. ويكبل يد تركيا أيضاً. أما المعارضة فتخوض حرب حياة أو موت فعلاً. لأنها تعي أن لا شيء يعوضها خسارتها العاصمة الشمالية. سيضيق عليها الخناق. فلا طرق إمداد وسبل تواصل مع الخارج. ولا حلفاء وأصدقاء تمكن استعادة ثقتهم بقوتها وقدرتها على تحقيق أي تقدم. ولا شيء بعد ذلك يمكن أن يرغم النظام على تقديم أي تنازل أو التسليم بالرحيل. ومن هنا هذا الحشد الواسع لفصائل المعارضة المختلفة من «الجيش الحر» إلى القوى الإسلامية الأخرى من «جيش الفتح» إلى «فيلق الشام» وغيرهما من قوات لمعركة تعتبر مصيرية لمنع سقوط حلب.

ضجيج معركة حلب ترافقه تحركات سياسية مصيرية هي الأخرى. ليس أبرزها التحركات الحثيثة للمبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، من أجل إطلاق محادثات «جنيف 3». فلا المعارضة مستعدة لتقديم ما رفضت تقديمه في الجولة السابقة من المفاوضات، أياً كانت المفاجآت الميدانية. وهي قد لا تحضر في ظل هذه الحرب المفتوحة بمشاركة فعالة من الطيران الروسي. ولا النظام يبدي مرونة في ظل الدعم الكبير الذي يتلقاه من حلفائه، وفي ظل تفاهم حقيقي بين موسكو وواشنطن. وليس أبرزها أيضاً المساومات الأميركية - الروسية التي لن تثمر، إذ إن الكرملين الذي لم يعد يأمل بتحقيق تقدم فعلي مع إدارة الرئيس أوباما، يسعى إلى فرض أمر واقع جديد على الأرض شمال سورية استعداداً للتوجه نحو الإدارة الأميركية المقبلة. ثمة محطتان قد تبدلان المشهد: مآل القمة التركية – الروسية الراهنة، ثم الاجتماع الذي تعد له المعارضة مع دول أوروبية وعربية في لندن آخر هذا الشهر.

ثمة مبالغة في الحديث عن شراكة استراتيجية بين تركيا وروسيا تحل محل علاقة الأولى بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. لن يكون الأمر بهذه السهولة ولا بهذه السرعة. ثمة مبالغة في رؤية انقلاب من هذا النوع في قمة الرئيسين بوتين ورجب طيب أردوغان في سان بطرسبورغ، مهما بلغ غضب «حزب العدالة والتنمية» وقوى أخرى من موقف واشنطن حيال المحاولة الانقلابية، وعدم تجاوبها في تسليم أنقرة المتهم بالمحاولة الداعية الإسلامي فتح الله غولن. ومهما بلغ الغضب التركي من مواقف دول أوروبية تحذر حكومة علي بن يلدريم من المغالاة في إجراءاتها ضد آلاف من أنصار الداعية المقيم في بنسلفانيا وغيرهم، ومن التضييق على الحريات، وإعادة العمل بقانون الإعدام، ومن الطريقة التي يتم التعامل بها مع قادة الجيش والأمن، ومن سياسة «إعادة تأهيل» المؤسسة العسكرية... لا يمكن في هذا اللقاء أن يسوي البلدان خلافاتهما التي لا تقتصر على سورية فحسب، فهناك قضية القرم وقبرص والصراع بين أرمينيا وأذربيجان ومستقبل الأوضاع في آسيا الوسطى.

موسكو أعلنت صراحة أن مستقبل العلاقات مع أنقرة رهن بموقف الأخيرة من الأزمة في سورية. فهل يسلم أردوغان بمشروع روسيا في سورية من دون أي ثمن؟ أو هل يطوي صفحة مواقفه في السنوات الخمس الأخيرة من هذه الأزمة ويقبل بإعادة تأهيل النظام؟ ماذا يبقى من صدقيته؟ صحيح أنه لا يزال قلقاً جداً من الأوضاع الداخلية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة. لكن فشل الانقلاب عزز موقعه وشعبيته. وهو يستغل هذه الفرصة إلى أقصى حد بإقصاء كل خصومه ومنافسيه وإضعافهم. فهل يجازف بإضعاف موقفه بالتخلي عن المعارضة السورية، أم يكتفي بالتفاهم مع موسكو على محاربة الإرهاب؟ هل يجازف في حمأة الصراع على سورية أن يسقط هذا البلد بيد إيران؟ أم أنه يبدي استعداداً للتعاون مع مضيفه غداً لتعزيز موقعيهما بمواجهة النفوذ الإيراني؟

هناك عناصر أخرى تعوق انقلاباً جذرياً لأردوغان على مواقفه السابقة. الاعتذار من موسكو والسعي إلى مصالحتها كانت وراءهما الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها تركيا نتيجة المقاطعة الروسية. والأهم من ذلك أيضاً شعور تركيا بأنها باتت محاصرة داخل حدودها ولم تعد لها اليد الفاعلة في الأزمة السورية. خصوصاً أن لكل من الكرملين وواشنطن أجندة مختلفة لم تقم أي اعتبار لحسابات تركيا ومصالحها. وقدما دعماً واسعاً إلى حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري». وهو ما ضاعف قلق أردوغان من صعود الكرد وتبنيهم مشروع الفيديرالية لسورية وانعكاس ذلك على الأوضاع الداخلية في بلاده. فكيف سيبدد مضيفه هذا القلق؟ صحيح أن موسكو تربط تحسين العلاقات مع جارتها الجنوبية بموقفها من الأزمة السورية وسبل تسويتها سياسياً. لكنها لم تنتظر تحولاً من هذا النوع. بل رحبت سريعاً بعودة العلاقات الثنائية لأسباب اقتصادية وسياسية أيضاً. فهي تراهن على ابتعاد جارتها الجنوبية عن أوروبا والولايات المتحدة. وذاكرة الروس لا تزال حية. لا يغيب عن بالهم أن هذه الجارة كانت على الدوام ولا تزال مبدئياً ركناً من أركان «الناتو». وهي إلى اليوم تستضيف أجزاء من «الدرع الصاروخية» التي يعتبرون أن الحلف الأطلسي يقيمها بهدف تطويق بلادهم. ولا يمكن الرئيس بوتين أن يفــــوت فرصة استجابة بعض طلبات نظــيره من أجل تعميق خلافاته مع أوروبا والولايات المتحدة وزعزعة استـــراتيجية الحلف. وقد يكون مستــعداً لأن يقايضه بمواقف محددة فـــي سورية ليس مستعداً لتقديمها إلى الرئيس الأميركي. وهو يعلم أن حكومة حزب العدالة قدمت وتقدم دعماً إلى المعارضة في معركة حلب.

الحدث الآخـــر الذي قـــد يبدل في المشهد الســـوري، اللقـــاء الـــذي تعد له المعارضــة في لندن آخـر هذا الشهر. من المقـــرر أن تجتمـــع الهيئة العليا للمفاوضات: «الائتلاف الوطني»، «هيئة التنسيق» وممثلو كبرى الفصائل العسكرية المقاتلة، من أجل إطلاق «رؤيتها السياسية» الواحدة، بحضـــور عدد من وزراء الخارجية الأوروبيين والعرب ووزيري الخــارجية الأميركي والتركي. المهم فــي «الرؤية» أنها ستخاطب أوروبا وغيرها من المهتمين بمستقبل سورية: الحفاظ على مؤسسات الدولة، وإصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، التمسك بوحدة الأرض والشعب، والحــرص على حقوق الأقليات الدينية والعــرقية، والدعوة إلى خروج جميع المسلحين الأجانب من سورية، ونبذ التشدد الديني والإرهاب ومحاربته... وقبل كل ذلك وبعده التمسك بالانتقال السياسي الذي نص عليه بيان جنيف الأول. ليست «الرؤية» وحدها ما يضفي أهمية على هذا اللقاء، بل رغبة المعارضة في ملاقاة استياء أوروبا من الثنائي الروسي - الأميركي الذي تعي أنه خطف عملياً إدارة البحث عن تسوية في سورية، من دون أي حساب للقارة العجوز ومصالحها. علماً أنها تتحمل العبء الأكبر من تداعيات الأزمة السورية. وتعيش مجتمعاتها على وقع الإرهاب الضارب في عواصمها ومدنها، وتعاني من تدفق اللاجئين ومــا يفرضون من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية. فهل تنجح المعارضة والقارة العجوز بعد لقاء لندن في رسم مشهد جديد يفرض على اللاعبين الآخرين إعادة النظر في حساباتهم وسياساتهم؟

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٦
معركة حلب وما بعدها

فتحت معركة حلب الباب أمام تطورات جديدة وخطيرة في القضية السورية٬ إذ كان قرار تحالف النظام بخوضها سبًبا رئيسًيا في تأجيل جولة مفاوضات جنيف3 التي كان من المتوقع عقدها بداية أغسطس (آب) الحالي٬ كما هو الاتفاق الروسي ­ الأميركي الذي تم قبل أشهر في موسكو للمضي نحو الحل السياسي في سوريا.

الهدف الأساسي من معركة حلب٬ كما رآها حلف النظام٬ هو خلق وقائع ميدانية جديدة٬ حدها الأدنى حصار حلب٬ والأعلى الاستيلاء على المدينة٬ وتصفية قوة المعارضة العسكرية والمدنية في مدينة تمثل رمزية سياسية وعسكرية بالنسبة للسوريين٬ وتحتل أهمية خاصة لأصدقاء الثورة السورية٬ وخاصة جارتهم في الشمال تركيا. وفي تقدير تحالف النظام أن حصار حلب أو الاستيلاء عليها٬ سوف يضعف المعارضة وأصدقاءها٬ ويجعلهم أكثر استجابة لطروحات التسوية٬ التي يسعى الروس للوصول إليها٬ والتي لا تجد لها معارضة جدية من جانب الشريك الأميركي الساعي إلى تحقيق أي «إنجاز» في الموضوع السوري٬ ولو على حساب الشعب السوري وقضيته.

ورغم أهمية الهدف الأساسي لمعركة حلب٬ فثمة أهداف أخرى للمعركة من جانب أطراف حلف النظام٬ أبرزها إجراء تغييرات ديموغرافية في حلب لصالح الطرف الإيراني وأدواته من الميليشيات الشيعة وخاصة «حزب الله»٬ وذلك عبر طرد وقتل المزيد من سكانها وإحلال بنية ديموغرافية شيعية في مدينة٬ لم يقيض لهم أن يقيموا وجوًدا شيعًيا فيها على نحو ما حصل في المدن التي يسيطرون عليها مثل دمشق وحمص والسويداء.

ولم تكن أهداف حلف النظام من معركة حلب خارج وقائع ومعطيات محيطة في المستويين الداخلي والخارجي. فالمعارضة السورية وصلت إلى مستوى كبير من الضعف والتردي في تشكيلاتها السياسية والعسكرية وفي علاقاتها البينية وعلاقاتها الخارجية أيًضا٬ وأصدقاء المعارضة في المستويين الإقليمي والدولي٬ صاروا أقل قدرة أو رغبة في تنشيط وتقوية دورهم في القضية السورية٬ وهذا ينطبق بشكل خاص على تركيا٬ التي تواجه مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل٬ لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية وسياساتها.

وسط تلك المعطيات٬ بدا لحلف النظام أن كسب معركة حلب أمر محسوم وسهل٬ خاصة في ظل أمرين اثنين؛ أولهما تجربة المعارك التي شهدتها حلب ولا سيما شمالها في الأشهر الأخيرة٬ والتي كرست معبر الكاستيلو ممًرا وحيًدا لحلب مع الشمال٬ والأمر الثاني استكمال تحشيد قوات تحالف النظام من قواته والإيرانيين والميليشيات وقوات النظام والطيران الروسي في محيط حلب٬ وهي أكثر من كافية لإغلاق الممر٬ وإكمال حصار حلب.

ورغم أن إغلاق الممر تم على نحو سريع وسط هجوم مدمر بمختلف القوات والأسلحة٬ فإن وقائع المعركة في الأيام التالية٬ بينت نتائج مختلفة٬ الأهم فيها رفض مغادرة المدنيين وقوات المعارضة عبر الممرات التي أعلن عنها الروس٬ ثم توجه فصائل المعارضة المسلحة للضغط على خواصر حلف النظام الضعيفة وخاصة في القطاع الجنوبي٬ مع الاستمرار في خوض معارك مواجهة عنيفة ضد قوات تحالف النظام على الأرض والتصدي للطيران بالحدود الممكنة٬ وكلها منعت حتى اللحظة من تحقيق أهداف المعركة وفق تصورات الحلف.

إن معركة حلب كما تظهر اليوم٬ لن يتم حسمها لصالح تحالف النظام٬ كما أنها لن تحسم لصالح قوات المعارضة بالإمكانات الراهنة٬ مما يعني أنها ستكون معركة كر وفر، كسب هنا وتراجع هناك٬ وهذا بحد ذاته٬ سيشكل في المدى القريب عاملاً إيجابًيا لصالح المعارضة٬ يمكن أن يتعزز إن استطاعت المعارضة تطوير قدراتها٬ وتحسين علاقاتها البينية٬ وضمنت دعًما سياسًيا وعسكرًيا أفضل من أصدقائها ومن المجتمع الدولي٬ وكلها ليست بالأمور السهلة٬ والتي يمكن أن تتحقق بصورة عاجلة٬ لكن لا بد من المضي بجدية ودأب من أجل تحقيقها.

غير أن مساعي المعارضة لتحسين ظروفها في معركة حلب لن تكون بعيدة عن أعين وإجراءات تحالف النظام وروسيا في ضوء الوقائع التي ظهرت في الأيام الماضية٬ مما يعني أن الحلف أيًضا سيقوم بخطوات تهدف إلى استعادة المبادرة من أجل تحقيق أهدافه وخاصة من ناحية حشد مزيد من القوات والتنسيق بينها٬ وتقوية الخواصر الضعيفة، وتصعيد عمليات القصف والتدمير على قوات المعارضة والتجمعات السكانية٬ وقد بدأ تنفيذ تلك الخطوات بمستويات متعددة.

خلاصة الأمر أن الفترة القادمة من معركة حلب ستكون صراًعا عنيًفا بين الطرفين٬ وصولاً إلى استئناف جولة جديدة من مفاوضات جنيف3 التي ستكون نتائج معركة حلب على طاولتها مغلفة بكل العنف الدموي والدمار اللذين يرتكبهما حلف النظام٬ والدفاع الصلب والقدرة على التقدم اللذين يفترض أن تثبتهما المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري٬ ووسط إرادة دولية٬ يفترض أن تتسم بالجدية في معالجة ترديات القضية السورية بعد معركة حلب.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٦
دروس حلب

تشتدّ المعارك، وما تزال، في مدينة حلب المنكوبة، منذ نجاح قوات النظام وحليفيه، الروسي والإيراني، بقطع طريق الكاستيلو في أوائل الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وفرضهم الحصار على أحياء حلب الشرقية التي خضعت لسيطرة المعارضة، منذ العام الثاني للثورة السورية. وكان شديد الوضوح أن ذلك لم يكن ممكناً، لولا التدخل الروسي الكبير، منذ أواخر العام الماضي، وقيام أسطوله بقصفه الجوي الكثيف مواقع المعارضة وخطوط إمدادها باستمرار.

زادت تلك المعارك في جحيم حياة سكان المدينة القديمة وأحيائها الشعبية، من باب الحديد، وباب النصر، وباب النيرب، وباب قنسرين، والمعادي، والمغاير، والأنصاري، والميسر، والجزماتي، والقاطرجي، والسكري، والمواصلات، والصاخور، والفردوس، والصالحين، وبني زيد، والخالدية، وجسر الحج، ومنطقتي الشقيف والسكن الشبابي، وهم حوالي 400 ألف مدني، وجعلت من أوضاعهم كارثةً إنسانيةً، لا يتسع المجال لرواية آلافٍ من قصصها اليومية التي لا تشمل ضحايا القصف والنيران فقط، بل ضحايا الانهيارات والجوع والمرض، وكل ما ينجم عن نقص المواد الغذائية والصحية، أو فقدانها بطبيعة الحال. لكن ذلك كله كان خارج حسابات النظام وحلفائه الذين تابعوا استثمار تقدمهم، بغرض فرض حل استسلامي يقلب التوازن العسكري المستقر في حلب منذ أكثر من سنتين، ويطيح الاتفاقات الدولية وقراراتها التي ما تنفك تعلن السعي إلى حل سياسي، لا يستقيم أمره بدون تفاوض. وقد اندرج ذلك في إطار إصرار الراعي الروسي على تطويع مراحل مفاوضات جنيف، في ظل تسليمٍ أميركي ودولي لرعايته، وفرض مندوبيه ومندوبي النظام ضمن وفد المعارضة، بغرض إنقاذ نظام الأسد، وإدراج كل مشاريع الثورة في إطار رؤيته لمكافحة الإرهاب، واستثمار الفوبيا الرائجة ضده على مستوى المنطقة والعالم.

ففور قطع طريق الكاستيلو واستكمال الحصار، لجأ النظام إلى استغلال ذلك بعقلية المنتشي بالنصر، وذلك بدعوة المقاتلين إلى الاستسلام، تحت ستار العفو عنهم، وفتح ممرات آمنة للمدنيين الراغبين بـ "العودة إلى حضن الوطن". كما دعا الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية نفسها "المسلحين" التابعين لفصائل المعارضة السورية إلى التخلي عن السلاح، والخروج من أحياء مدينة حلب الشرقية، كما أعلن عن فتح معابر إنسانية بين أحياء حلب الشرقية والغربية، لتسهيل عملية خروج "المدنيين المحاصرين" إلى جانب المسلحين الراغبين بتسليم أنفسهم إلى قوات النظام.

هذا الانتشاء الانتصاري، والمخلّ بالخطوط الحمر المضمرة، سرعان ما واجه موازين القوى الكامنة، والتي ظهر أنها استعادت فاعليتها، ربما بعد تفرّغ الدولة التركية، وتوحد قيادتها العسكرية إثر فشل الانقلاب. لكن، بالتأكيد بعد يقظة المعارضة أخيرا، وتمكّنها بصورة مفاجئة من لملمة شملها، وتوحيد صفوفها عبر غرفة عمليات موحدة، ما أدى إلى تحقيق انتصاراتٍ عسكريةٍ مضادة، شملت بعض قطاعات سيطرة النظام في جنوبي حلب، وأشارت إليها عمليات بدء تحرير مدرستي المدفعية والمشاة. وعلى الرغم من بقائها، حتى تاريخه، في حدود الكر والفر، فقد قلبت حسابات معسكر النظام وحلفائه، بل وهدّدت بقلب ميزان القوى العسكرية في باقي مناطق حلب ومواقع النظام الأكثر تحصيناً.

ويبدو أن المعارضة أدركت أهمية المجالين السياسي والإعلامي، فبادرت إلى استثمار نجاحها العسكري، حين أعلن بيان لغرفة عمليات جيش الفتح وجميع الفصائل المشاركة في تحرير حلب "رسالة إلى كل الأهالي وكل القاطنين في محافظة حلب من جميع الطوائف والأحزاب، وإلى المرتزقة والمحتلين الذين جاءوا ليغزوا بلادنا: نحن أهل البلد، أهل بلاد الشام وأصحاب أرض وعرض وأصحاب حق في الدفاع عن بلادنا وشرفنا ودحر العدو المحتل عن أرضنا وأهلنا. وهذا هو إسلامنا وديننا، إليكم هذا البيان: من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل مسجداً فهو آمن، ومن دخل كنيسةً فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أسوة بفتوحاتنا ورسولنا العظيم، نحن مجاهدون، ثوار، طالبو حرية ولسنا هواة قتل. ..."

وهو بيانٌ يتناقض مضمونه مع ما نشر من إطلاق تسميةٍ تستعيد ذكرى سوداء في تاريخ سورية، لم يستفد منها سابقا سوى النظام نفسه. وإذا صدقت جرعة الوعي الصاحية في البيان، فسيعزز ذلك نجاح وحدتها العسكرية في مواجهة الحلف المتعاظم لمعسكر النظام، والتي سبق أن كانت سبباً حاسما في تحقيق انتصار إدلب، وكان غيابها السبب الأكثر وضوحاً في تراجع الثورة وانتكاساتها في أكثر من جبهة.

بذلك، يمكن أن تكون معارك حلب التي بدأت انطلاقاً من فك حصارها، وتخفيف معاناة أهلها، مفترق طريق جديدا للمعارضة، كي تستمر اندفاعتها، وتتابع تشكيل قيادتها الموحدة عسكريا وسياسيا لكل قوى الثورة والمعارضة. وبدلاً من أن تكون هذه الوحدة مؤقتةً وعابرة، فإن النجاحات التي بدأت تحقيقها، وفاجأت معسكر أعداء الثورة قبل أصدقائها، تؤكد أهمية استمرارها وتطويرها ومشاركة جميع جبهات الثورة فيها، ما يفتح الباب واسعاً أمام آمال استنهاض جديد لمشروع الثورة السورية، وهو مشروع انطلق أصلاً من قيم وطنية ودينية وأخلاقية رفيعة، وتقع على عاتق جميع المؤمنين به مسؤولية تنقيته من ردود الأفعال ونزعات الانتقام وآثار مآسي السنوات الماضية، وكل ما أحالت إليه أخطاء فردية، وانفعالات عاطفية، وردود أفعال غرائزية، طالما عمل النظام على إطلاقها، وترويجها، والاستفادة منها في تحصين معسكره. وها هي الشهباء تدعونا جميعا إلى دروسها، فهل نلبي النداء؟.

اقرأ المزيد
٨ أغسطس ٢٠١٦
بوتين في سورية... ضحيّة أوباما

هل روسيا ضحية سياسة تقوم على عنجهية أوقعها فيها باراك أوباما من حيث لا يدري؟ يصح طرح مثل هذا السؤال بعد معركة حلب التي لا تزال مستمرّة.

يظهر، اقلّه الى الآن، ان حلب ليست مدينة يمكن احتلالها بسهولة بمجرد وجود ميليشيات شيعية تابعة لإيران مثل «حزب الله» تشارك في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي ليس الّا. تساند هذه الميليشيات ما بقي من قوات تابعة للنظام السوري، تتشكل في معظمها من مجموعات من «الشبيحة» الذين يعملون كمرتزقة في خدمة اشخاص مستفيدين من النظام يمتلكون امتيازات كبيرة منذ سنوات طويلة.

اعتقد فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف ان سلاح الجوّ الروسي كفيل بقلب المعادلة في حلب، خصوصا في ظلّ حال الارتباك التي تمرّ فيها تركيا. لذلك، نجد الطائرات الروسية تشارك في الحملة على حلب، وهي حملة تشمل دك احياء في المدينة والقرى والبلدات المحيطة بها بهدف نشر الرعب في صفوف المدنيين خصوصاً. لا فارق بين مدني وعسكري بالنسبة الى الطيار الروسي الذي لا يعرف لماذا يشارك بلده في حرب تستهدف شعباً بكامله. كل ما يبحث هذا الشعب عنه منذ ما يزيد على نصف قرن، أي منذ وصول حزب البعث الى السلطة في العام 1963، تمهيداً لقيام النظام العلوي، هو بعض من كرامة وحرّية.

من بين الحسابات الخاطئة التي قامت بها روسيا الاستخفاف بتركيا واهمّية حلب بالنسبة اليها، وذلك بغض النظر عن من يحكم تركيا. هل من يحكم رجب طيّب اردوغان ام غيره. عندما تجد تركيا انّها مهددة انطلاقا من سورية، من حلب تحديدا، ليس امامها سوى التدخل. نسيت موسكو ان تركيا تدخلت في سورية قبل وصول اردوغان الى السلطة وذلك عندما أجبرت النظام على التخلي عن الزعيم الكردي عبدالله اوجلان أواخر تسعينات القرن الماضي. كان العسكر يتحكمون وقتذاك بالقرار التركي. كان كافيا توجيه انذار الى حافظ الأسد، كي يفهم بشّار الأسد، الذي لم يكن بعد رئيساً، ان لا خيار آخر غير التخلي عن اوجلان بالتي هي احسن...

امّا في ما يخص معركة حلب الدائرة حاليا، فهناك نقطتان فاتتا بوتين ووزير خارجيته. الاولى مدى اهمّية حلب لتركيا والأخرى استعداد الشعب السوري لتقديم التضحيات والقتال حتى آخر رجل وطفل.

وجدت تركيا نفسها، قبل المحاولة الانقلابية الأخيرة على اردوغان، مجبرة على الاعتذار من موسكو. كذلك اعادت تركيا العلاقات مع إسرائيل الى طبيعتها بعدما اكتشفت ان ليس في استطاعتها لعب الورقة الفلسطينية، كما تفعل ايران، على الرغم من الرابط الاخواني القائم بينها وبين «حماس».

لم تكن لدى الروسي، وقبله السوفياتي، حسابات دقيقة في الشرق الاوسط، خصوصاً في سورية. كلّ من راهن على ان حلب لقمة سائغة ارتكب خطأ كبيرا. لا لشيء، سوى لانّ في حلب وحولها آلاف المسلّحين الذين يدافعون عن وجودهم وعن ارضهم. المسألة بالنسبة الى هؤلاء مسألة حياة او موت. لا يريد الروسي، ومعه الايراني، اخذ علم بان هناك رفضا كليا من اهل حلب والمناطق المحيطة بها والقريبة منها للنظام العلوي الذي ارتكب منذ أواخر سبعينات القرن الماضي سلسلة من المجازر في حق هؤلاء تحت ذرائع شتى. كان الهدف دائما تطويع اهل حلب والمناطق المجاورة لها، وصولا الى دير الزور البعيدة عن المدينة. لن ينجح الروسي في ممارسة هذه المهمّة من الجو. لن ينجح الايراني حيث فشل النظام الذي اعتقد في مرحلة معيّنة، بعد اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، ان اهل حلب تعلموا من تجارب الماضي القريب دروسا في الانصياع لا يمكن ان ينسوها يوماً. ليس الاستخفاف بتركيا واهمية حلب بالنسبة اليها، فضلا عن مدى الجهل بالسوريين، ما أوصل روسيا الى ان تصبح عدوّاً للشعب السوري. هناك عامل في غاية الاهمّية يمكن ان يكون اغرى موسكو في الذهاب بعيدا في مغامرتها السورية والرهان على استغلال نظام الأسد بحثا عن موقع على خريطة الشرق الاوسط. هذا العامل هو العامل الاميركي. اعتبر بوتين، ومعه ايران، ان إدارة أوباما فرصة لن تتكرر. سلّمت هذه الإدارة العراق كلّيا لإيران واعتبرت ان الملف النووي الايراني يختزل كلّ مشاكل الشرق الاوسط. راعت إدارة أوباما الاطماع الايرانية في سورية الى ابعد حدود. تجاهلت ماذا يعني وجود ميليشيات مذهبية تابعة لإيران في سورية ومدى الخطر الذي يمثله «حزب الله»، وهو لواء في «الحرس الثوري» الايراني، على وجود بلد مثل لبنان صار معزولا عن محيطه العربي.

اغرى الاميركي، الروسي. لا شكّ ان نقطة التحوّل كانت في مثل هذه الايّام من العام 2013 عندما استخدم الأسد السلاح الكيميائي في التعاطي مع السوريين. نسي أوباما، وقتذاك، انّه كان وضع «خطا احمر» لرئيس النظام السوري. اقتنع بنصائح بوتين الذي اقترح عليه الاكتفاء بنزع مخزون السلاح الكيميائي السوري وعدم توجيه ضربة عسكرية الى النظام.

مذ ذاك التاريخ، زاد التورط الروسي في سورية وصولا الى إقامة قاعدة في حميميم قرب اللاذقية تستخدم لشنّ غارات على فصائل مسلّحة سورية وعلى مواقع مدنية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، لابقاء الأسد في دمشق. اذا كان من نتيجة لهذه السياسة الأميركية، فانها تتلخص بدفع الروسي والإيراني الى المزيد من التورط في سورية... وهو تورط ليست إسرائيل بعيدة عنه ما دامت «الخطوط الحمر» التي وضعتها موضع احترام روسي وايراني. وعندما يحصل خرق لأيّ «خط احمر» تضرب إسرائيل ما تعتبره هدفا لها، من دون ان تجد من يردّ عليها.

سهلت إدارة أوباما على بوتين السقوط في المستنقع السوري. لن يفيد في شيء اكتشاف الرئيس الاميركي أخيرا انّ سورية «سببت له الشيب» وانّ لا حرب ناجحة على «داعش» والارهاب من دون التخلص من النظام السوري الذي قارن حصاره لحلب بحصار الجيوش للمدن «في القرون الوسطى».

يبقى سؤال واحد. ماذا سيفعل الرئيس الروسي في حال طرأ تغيير، ولو نسبي، على سياسة أوباما تجاه سورية وذلك خدمة للحملة الانتخابية لهيلاري كلينتون؟

ثمّة مؤشرات الى احتمل حصول تغيير ما في الموقف الاميركي في اتجاه مزيد من التشدّد حيال كلّ ما له علاقة بسورية في الأسابيع القليلة المقبلة.

هل يمتلك بوتين من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بان روسيا، ذات الاقتصاد الهشّ، ليست سوى نمر من ورق؟ كلّ ما تستطيع روسيا عمله، حتّى عندما كان الاتحاد السوفياتي في عزّه، هو التدمير وليس البناء. على من يريد بالفعل دليلا على ذلك، العودة الى التعاطي الروسي مع سورية منذ ما قبل حرب 1967 والكوارث التي أدت اليها وصولا الى السكوت عن كل ممارسات حافظ الأسد في سورية ولبنان، وصولا الى ما نشهده حالياً من تفتيت لسورية نفسها بعدما صارت مستعمرة إيرانية ولا شيء آخر غير ذلك...

اقرأ المزيد
٧ أغسطس ٢٠١٦
كفّة الثورة

منذ انطلاق معركة كسر الحصار على حلب، سال حبر كثير في محاولةٍ لتحليل الأمر، ووضعه في سياق موازين القوى على الأرض، أو في إطار الصراعات الدولية والدخول التركي المفاجئ في مواجهة "التفاهم" الروسي الأميركي. وقيل كلام كثير أيضاً بشأن الوضع الإنساني، وضرورة كسب المعركة لإعادة الروح إلى مئات آلاف المحاصرين في الشهباء، وبطولات هؤلاء التي سطروها في موقعة "الدواليب المحروقة"، وأساطير الصمود في وجه همجية النظام وروسيا العسكرية وبربرية الحصار الذي حرم الأطفال حتى من الحليب.

كلام لا يحمل مبالغات كثيرة، وتحليلات تحتمل في مجملها الصواب، غير أن النظرة الأساس بالنسبة إلى ما هو حاصل في حلب اليوم، وما جرى في الأيام الماضية، هو مصير الثورة السورية نفسها، والآمال التي كانت معقودة عليها خلال السنوات الخمس الماضية. لم يعد خافياً أن ما قبل انطلاق المعركة كانت الأجواء التشاؤمية هي السائدة في المطلق، وأن نهاية الثورة باتت وشيكةً، بناء على التفاهم الروسي الأميركي، وبغطاء أوروبي، والذي كان واضحاً أنه ينص ضمناً على إنهاء الثورة التي أصبحت تشكّل عبئاً على الغرب بالمطلق.

غير أن المعركة قلبت الموازين، وأعادت ترجيح كفة بقاء الثورة السورية، فبغض النظر عن الرايات المتعدّدة التي تقاتل في هذه المعركة، وما إذا كانت فعلياً خارجة من رحم أساس الثورة السورية، إلا أن محصلتها الآن هي الأهم، وهي إبقاء الحالة على قيد الحياة، ومنع النظام وحلفائه من إعلان "انتصار"، كان قريباً، على الثورة ومكوناتها المختلفة.

بهذا المعنى، أعادت معركة حلب ترجيح كفة الثورة السورية، وضخت الآمال مجدّداً بقدرتها على تحقيق إنجازات على الأرض، وهو ما يمكن أن يترجم لاحقاً في الميدان السياسي، والذي كان، إلى حد كبير، خاضعاً لموازين القوى على أرض المعركة، وما كانت تحمله من معطيات تقدم واضح للحلف السوري الروسي الإيراني.

لم تنته معركة حلب بعد، ربما لا تزال في بدايتها، بحسب تقديراتٍ تشير إلى حرب استنزاف طويلة الأمد نسبياً، غير أن الوتيرة التي تسير بها حالياً، وفي حال استمرارها بالزخم والدعم نفسيهما، فإن تبعاتها قد تتجاوز عملية فك الحصار، وتتمدّد إلى المناطق الأخرى التي كانت قد خسرتها المعارضة. قد لا يكون الأمر هيناً، ولا سيما مع سعي النظام وحلفائه إلى محاولة تعديل الكفة، إلا أن الأهم في هذا المجال هو إثبات الفصائل المقاتلة أنها ليست عاجزةً أمام آلة القتل السورية الروسية، وأنها تملك مخزوناً من القدرات القتالية والمعنويات التي تسمح لها بتحقيق تقدم حاسم، متى ما أتيحت لها الفرصة لذلك. والفرصة، هنا، تأتي بمعنى الضوء الأخضر السياسي والدعم اللوجستي من الدول التي لا تزال داعمة للثورة السورية.

المعركة مستمرة، وميادينها ستتوسع. لن تكون فقط عسكرية، فلاحقاً، ومع اقتراب موعد لقاء جنيف، سيكون الميدان السياسي فاعلاً أيضاً، وهو ما قد يحتاج إلى توحيد صفوف حقيقي بين الأطراف السورية المعارضة، السياسية والعسكرية. فالبين لا يزال قائماً بين الشقين، سواء في التمثيل أو تحديد الأولويات. أيضاً هنا الأمر لن يكون على هذا القدر من السهولة، ولا سيما مع اختلاف الرؤى والأيديولوجيات، غير أن فرصة الانتماء المطلق للثورة السورية لا تزال قائمة، ولعله الوقت الأمثل الآن لحصول ذلك، لتبقى كفة الثورة راجحة.

اقرأ المزيد
٧ أغسطس ٢٠١٦
حلب تغيّر المعادلة

أنجز الثوار السوريون، في الأيام القليلة الماضية، اختراقاتٍ نوعية في كسر الطوق العسكري الذي فرضه النظام السوري وحلفاؤه على مساحةٍ واسعةٍ من حلب، في محاولةٍ لإخضاع المدنيين والثوار، وإجبارهم على الاستسلام والمغادرة من المدينة، كما حدث في مناطق أخرى عديدة سابقاً. لكن الثوّار، بمساندةٍ استثنائيةٍ من المدنيين، صمدوا صموداً أسطورياً، وجعلوا من حلب بمثابة ستالينغراد، لكن بصورة مقلوبة، فالروس هم الغازون مع نازيي النظام السوري، بينما المعارضة المحاصرة هي التي قلبت المعادلة، وتسعى إلى جعل حلب "نقطة تحوّل"، معاكسة تماماً لما كان يريده النظام السوري والروس والإيرانيون، في ظل تواطؤ حقيقي من الغرب والولايات المتحدة معهم.

المهم في معركة حلب التي تدور حالياً أنّها كسرت التوقعات الدولية والإقليمية، وتجاوزت المعارضة ذاتها وتفوقت على نفسها، بعدما أدار لها العالم ظهر المجنّ، فأعادت خلط الأوراق الدولية والإقليمية مرّة أخرى.

الأكثر أهميةً في التغيّرات الأخيرة هو الموقف التركي، وتحديداً بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، وإرهاصات ذلك التحول التي سبقت تلك المحاولة، وارتبطت بمحاولة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فك الحصار السياسي والديبلوماسي غير المعلن الذي تتعرّض له تركيا.

لم يكن النظام السوري، بإسنادٍ روسي وإيراني مكثّف، لينجح في حصار حلب، ومحاولة إجبار المعارضة على الاستسلام هناك، لو كان الموقف التركي متماسكاً في دعمه المعارضة هناك. لكن موقف أردوغان بعد الانقلاب (كما ذكرنا في مقالة سابقة) أصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً، فالأولوية له داخلية، وهو بحاجة لإصلاح علاقته مع الروس والإيرانيين، بعدما اكتشف هشاشة علاقته بالعالم العربي من جهة، ومراوغة الولايات المتحدة وأوروبا معه من ناحية ثانية.

نظرياً التغير في الموقف التركي حاسم، بالنسبة للمعارضة، فهي الداعم الأكبر للفصائل الشمالية، وساعدت تركيا دوماً هذه الفصائل في التسلح والتنسيق والدعم، وكان للتحالف التركي- السعودي دور مهم في تأسيس جيش الفتح (قبل قرابة عامين) في ريف إدلب، الذي قلب المعادلة هناك تماماً، ووصل إلى ريف اللاذقية، وحرّر مدينة إدلب بالكامل.

لذلك، حاول النظام السوري، بدعمٍ روسي، الاستثمار في تحول الموقف التركي للسيطرة على عاصمة المعارضة، حلب، وتحقيق اختراقاتٍ كبيرةٍ في المناطق الشمالية، وتغيير موازين القوى جذرياً، مع وجود ضوء أخضر أميركي- أوروبي ضمني، بعد التحولات غير المعلنة رسمياً وديبلوماسياً، لكنها واضحة سياسياً، في مواقف المجتمع الدولي الذي لم يعد يفكّر البتة بمصير الأسد، بقدر ما ينشغل في التفكير بالتخلص من داعش، ولا يشعر بالارتياح تجاه الصبغة الإسلامية للمعارضة السورية المسلحة.

العالم أصبح أقرب إلى نظام الأسد اليوم، والشكر موصول لداعش، بالطبع، لكنه لم يكن في أي وقت مخلصاً وصادقاً مع الثورة السورية، ونذكر تماماً محطاتٍ فاصلة، كان يمكن أن تكون نهاية نظام الأسد فيها، لكن الخشية المزيفة من نظام ما بعد الأسد هي التي عطلت سقوطه أكثر من مرة.

النظام الرسمي العربي هو أيضاً أقرب اليوم من أي وقت مضى للأسد، فمصر والجزائر رسمياً معه، وموقف الإمارات والأردن أكثر تعقيداً والتباساً، ولكن بات واضحاً أن أولويتهما القضاء على داعش، من دون الاكتراث بمصير الأسد، وتبقى السعودية وقطر تحاولان التأكيد على أن المشكلة الحقيقية هي في النظام السوري، لكن دورهما تراجع أخيراً، وبدأت الخلافات بينهما وبين المجتمع الغربي بالظهور، مع محاولة اتهامهما مع تركيا بتمويل المعارضة الإسلامية.

الآن، وهنا بيت القصيد، تجد المعارضة، للمرة الأولى، نفسها مكشوفة إقليمياً ودولياً، بصورة كاملة، بلا أي سند أو مساعدة أو غطاء، ولو حتى سياسي يُذكر، لكنها على الرغم من ذلك استطاعت إغلاق جزءٍ كبير من خلافاتها وانقساماتها الأيديولوجية والعسكرية في الداخل، وتوحّدت في معركة حلب، وتمكّنت من إعطاب التوقعات الدولية الإقليمية، وإذا ما تمكّنت من إفشال المخطط الروسي السوري في حلب، فسنكون أمام معادلةٍ جديدة موضوعية، تعني استقلالية أكبر للثورة، ودحض النظريات الروسية والغربية بأنها امتداد لأجنداتٍ إقليمية، بينما الواقع أن النظام السوري نفسه تحول إلى مجرد ورقة على طاولة الروس والإيرانيين.

تبقى معادلة المنطقة الجنوبية الأكثر حساسية، نظراً لارتباطها بغرفة العمليات العسكرية العربية والأميركية والفرنسية (الموك)، لكن التغير في معادلة حلب قد يفتح شهية ثوار درعا لتفكير مماثل.

اقرأ المزيد
٧ أغسطس ٢٠١٦
حلب... معركة كسر عنق الزجاجة

من المقدّر لمعركة حلب، الجارية منذ عدة أيام، أن تطول أكثر مما كان متوقعاً لها من قبل، وأن تكون باهظة الكلفة إلى درجة مرتفعة، وربما سيتم تسجيل هذه الملحمة كأهم المعارك في تاريخ الثورة السورية (إلى الآن على الأقل)، نظراً لما تحتشد على ساحتها الواسعة من قوىً مدجّجة بالإرادات المتصادمة، والادعاءات المتناقضة، ناهيك عن كل صنوف الأسلحة المتاحة، وفوق ذلك ما يُعلّق عليها من رهاناتٍ كبرى، ليس فقط لدى المتقاتلين على الأرض مباشرة، وإنما لدى الأطراف الإقليمية والدولية، المشتبكة في ميدان صراع مفتوح، أوسع نطاقاً من رقعة حلب وجغرافيا البلاد الشامية.

وبقدر ما تصحّ تسمية معركة حلب معركة استراتيجية، لكلا الطرفين المتجابهين حتى نهاية الشوط المديد، بقدر ما تصحّ معه تسميتها، أيضاً، مصيرية، سواء أكان ذلك لنظام الأسد، أو بالنسبة للثورة التي عبرت إلى عامها السادس، وهي تواجه تحالفاً إقليمياً من طبيعةٍ مذهبية فجة، يعمل تحت غطاء جوي لإحدى أكبر القوى العسكرية في العالم، الأمر الذي أثقل كثيراً على كاهل الثورة، وعقد المشهد المعقد أصلاً، وزاد من وزن العوامل الخارجية المقرّرة في توجيه دفة الحرب المتصاعدة، على نحوٍ كادت فيه كل هذه المتغيّرات أن تهمّش العامل الذاتي إلى أدنى درجة ممكنة.

من هنا، تنبع الأهمية الاستثنائية لمعركة حلب الطاحنة، باعتبارها بمثابة رد اعتبار لعنصر العامل الذاتي الذي استعاد، بهذه المعركة، تموضعه السابق، لاعباً مركزياً، له القول الفصل في إدارة وقائع الحرب، وفي توجيهها بما يحفظ إدامة فعل الثورة، سجالاً بين مدّ وجزر، إلى أن يتم تعديل موازين القوة، وجلاء الصورة، ومن ثمة كسر قواعد اللعبة المستجدّة، في وقت لاحق، وهو ما تستبطنه فصول هذه المعركة التي تبدو، في نظر أصحابها، ووتيرة تصاعدها، نقطة تحولٍ لافتة، انتقلت معها الثورة من حيّز الدفاع عن النفس إلى موقع المبادرة الهجومية. ذلك أن انعكاسات هذه المعركة، الجارية في أكبر الحواضر الشامية، على حاضر ثورة الحرية والكرامة ومستقبلها، بما في ذلك مردوداتها المتوقعة على الحاضنة الشعبية في المدى المنظور، تتجاوز كل النتائج الميدانية المرجوّة في نهاية المطاف، إلى التحليق بالثورة في فضاء الحالة المعنوية، بما تؤدي إليه هذه الحالة من رفعٍ للروح القتالية، وتجديدٍ لشباب الثورة، وإطلاقٍ لطاقاتٍ كامنة، لعل في مقدمتها توحيد الفصائل المسلحة على قاعدة الحد الأدنى المشترك، وطي صفحة الخلافات البينية، التي كادت أن تعصف بكل ما تحقق من نتائج طيبة في السنوات الخمس الماضية.

وكما أدى دخول حلب المتأخر إلى معمعان الثورة، إلى إطلاق المارد من قمقمه، وحوّل الاحتجاجات الشعبية الريفية إلى تمردٍ شعبي شامل، فإن انتفاضة الشهباء على نفسها أولاً، وتحطيمها قانون لعبة الحصار الجهنمية ثانياً، ورفض السابقة الحمصية ثالثاً، من شأنه كسر عنق الزجاجة مرة أخرى، وإيجاد قوة زخمٍ مضاعفة، فضلاً عن منح الثورة دماً جديداً، هي في أمسّ الحاجة إليه، بعد أن أصاب صفوف المقاتلين ما أصابهم من مظاهر ترهّل، وما مالت إليه بعض الفصائل، تحت ضغط الواقع المرير، من هدنٍ ومصالحاتٍ موضعية مهينة.

بكلام آخر، غيّرت حلب موازين الوضع الداخلي، عندما التحق ريفها، وبعد ذلك المدينة نفسها، بصفوف الثورة، حيث وضعت النظام المتهالك آنذاك في أصعب امتحان له منذ خروج أول مظاهرة في درعا، وها هي اليوم تكتب بدمها فصلاً ملحمياً في كتاب الثورة التي بدّلت الوضع السوري، كما لم يتبدّل في السابق، الأمر الذي من المتوقع معه أن تعيد هذه المعركة تصحيح اتجاه البوصلة من جديد، وأن تجبر صورة ما انكسر في مرآة الثورة، وبالتالي، من المؤكّد، والحالة هذه، أن ما بعد معركة حلب لن يكون كما كان قبلها.

وعليه، يصحّ النظر إلى معركة حلب على أنها، في حد ذاتها، أكبر من مجرد معركة كبيرة، تقاس فيها النتائج وفق معايير الحرب الكلاسيكية، حيث ترتسم على ساحتها خطوطٌ حمراءُ متقابلة، وتجري في نطاقها لعبة مصالح متعاكسة، وتتجلى على أديمها مظاهر نفوذ إقليمية ودولية متوازية، الأمر الذي يجوز فيه القول إن معركة حلب كاسرة للتوازنات والمعادلات، وإنها قد تقرّر المآل الأخير، وربما المصير النهائي، سواء للنظام المحارب بالمليشيات الطائفية، أو للثورة المحاربة بسيوف نحو مائة ألفٍ من مقاتليها.

وليس من المبالغة القول إن على نتائج معركة حلب الدائرة في إطار أوسع من رقعة المدينة، كما سبق ذكره، سيتوقف مستقبل هذه المنطقة التي تتحارب فيها كل الملل والنحل والأعراق، وتتقابل فيها الهواجس، لتقرير الأحجام والأوزان، ورسم الخطوط الحمر، وتحديد مطارح النفوذ والمصالح، الأمر الذي يثقل بشدة على أكتاف صانعي هذه الملحمة، ويرقى بهم إلى منزلة من حققوا نقطة تحوّل، صنعوا تاريخاً، كثيراً ما كانت فيه مدينةٌ بعينها تنوب عن الأمة، وفق ما ترويه لنا كتب التاريخ القديم، في زمن الغزو المغولي، وسنين الحروب الصليبية، وعهد الاستعمار الأوروبي.

وأحسب أن معركة حلب، المثيرة بكل المعايير، موقعةٌ كبرى كاشفة نيات الدولة العظمى الملتبسة، ومقوّضة معايير روسيا المزدوجة، وفاضحة حسابات الدول الإقليمية الصديقة واصطفافاتها اللفظية مع الثورة، خصوصاً الدول التي انشغل بعضها بهمومه الداخلية فجأة، وبعضها الآخر بأولويات مستجدّة، إلا أن النقطة المضيئة أكثر من غيرها، في خضم هذه المعركة الطويلة بالضرورة الموضوعية، تظل ماثلةً في حقيقة أنها ستدوّن في سفر الخلود ملحمةً، وأنها أحدثت رافعةً كبرى من روافع الثورة اليتيمة، وأنها عبرت بها من عنق الزجاجة التي راوح فيها المقاتلون طويلاً، وكادوا يفقدون زمام المبادرة.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان