مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٦ أغسطس ٢٠١٦
انتصرت حلب و كسرت طوق الموت عنّا جميعا

التقى المحاصرون بالمحررين مانحين الحياة من جديد لأكثر من ٣٠٠ ألف مدني كانوا مهددين بالابادة ، في مشهد ينفض الغبار ع قلوبنا التي انهكها القتل و الدم طوال الشهور الماضية ، لنستعيد بعضاً من الفرحة التي لا تكتمل إلا و أن يتحقق الكامل ، و إن كان نصر اليوم هو بمثابة نصر نهائي للثورة .

و عادت حلب من جديد إلى الحرية بعد حبس استمر قرابة العشرين يوماً ، بعد أن وصلت أيدي الثوار المحاصرين مع أولئك الذين أتوا من بين خضاب الموت ، متجاوزين كل الصعاب بغية هدف هو الأسمى العد التنازلي على اعادة حلب للتحليق في أجواء الحرية بعد تقليص المسافات و انهاء البعد و فتح نوافذ الحرية .

الأيام القليلة الماضية التي عشنا فيها أسعد أيام الثورة ، و عدنا فيها إلى زمن الانتصارات الذي ظننا أنه ولّى إلى غير رجعة ، و لكن بمعركة تاريخية استعادت الثورة هيبتها بطريقة تجعلها لن تقف من جديد إلا و كسر القوات التي أتت من كل حدب و صوب لهدم همم السوريين و ترضيخهم .

أيام ست من القتال المتواصل الذي تطلب عمل جماعي كامل و منظم و منسق لم تشهد الثورة السورية طوال سنواتها الخمس الماضية مثله، و لكن اليوم حجم الهدف و أهميته كان كافياً لأن يكون الجميع معاً صفاً واحداً متناسقاً منظماً مبرمجاً، يزحف تارة و يهرول في مرات أخر، حتى أزال أساطيراً كانت في الماضي عبارة عن الموت بذاته الذي لا يمكن التخيل أنه سيغيب.

ايران سبق و أن تعهدت باحتلال حلب و لو كلفها مئة ألف قتيل ، و حزب الله الإرهابي توّعد بارسال أعتى القوات و غالبيتها إلى هناك لتدمير همم الثوار ، والأسد الذي رغِب بإن تكون حلب بوابة عودته كحاكم معترف به على جثامين مئات آلاف الشهداء ، أما روسيا التي تبحث عن عودة إلى الساحة الدولية من خلال "ستالين غراد " سوريا ألا وهي حلب ، و حتى التحالف الدولي و الولايات المتحدة الأمريكية كان لهم إرادة في نجاح كل من ذكرتهم آنفاً، حتى يكون الشعب السوري راكعاً أمام خططهم و صاغراً في مواجهة التنفيذ، فكل ذلك زال بمجرد أن التقى الجمعان في منطقة صغيرة لينطلقل كاسرين كل الارادات التي تخالف ارداة الشعب .

اليوم حلب لم يُكسر طوق الموت عنها وحدها ، و إنما كسر كل ما يحيط برقاب ملايين السوريين ، و يَكسر خطط الارضاخ ، وكذلك مشاعر اليأس ، و يدمل جروح النفوس ، ففي حلب الآن تصنع سوريا من جديد ، بسواعد أبنائها و ثوارها و مجاهديها .

اقرأ المزيد
٥ أغسطس ٢٠١٦
ملحمة حلب الكبرى

يحق للسوريين أن يعتبروا معارك فك الحصار عن حلب ملحمة كبرى، لأن الذين يحاصرون حلب هم محتلون جاؤوا من إيران ومن ميليشيات طائفية من «حزب الله» ومن العراق والأفغان فضلاً عن الاحتلال الروسي، وليس لقوات النظام السوري سوى دور لوجستي بسيط، تساعد فيه المحتلين على إحكام حصارهم لحلب، ولجعل ثلاثمئة ألف سوري من المدنيين أسرى بيد المحتلين الذين رأينا ما يفعلون بالمحاصرين في مضايا والمعضمية وغوطة دمشق حيث مات المئات جوعاً ومرضاً، وكان على العالم كله أن يبذل جهوداً ضخمة لإدخال حليب للأطفال وأدوية للمرضى. ونذكر أن الجهود الأممية لم تفلح في داريا بأكثر من الموافقة على إدخال الفلافل وتم بيعها من قبل شبيحة الحواجز للمحاصرين جوعاً. ولقد كان إعلان وزير الدفاع الروسي عن ممرات إنسانية تأكيداً أنه لا دور للنظام السوري فيه، ولذلك لم يُسمح لوزير الدفاع السوري بأن يصرح بشيء يتعلق بمجريات الحصار، وهذا ما جعل السوريين يرون فك الحصار بداية حرب تحرير من الروس والإيرانيين ومن الميليشيات التابعة لإيران، وقد ظهرت دعوات شعبية تطالب المعارضة الوطنية بإلغاء تسمية «مسلحي المعارضة» وإعلان اسم جديد هو «المقاومة السورية».

وهنا يبدو الخلل الاستراتيجي في الرؤية الروسية التي وقفت إلى جانب نظام راحل بدل أن تقف مع شعب باقٍ هو الذي يضمن لها مصالحها، ولو أن الروس تركوا الصراع يدور بين السوريين وحدهم -نظاماً ومعارضة- لكان الوصول إلى الحل السياسي أسهل، حيث يكفي أن يبتعد الأسد عن كرسي الحكم هو وثلة من أركانه ممن تسببوا بدمار سوريا عبر حلهم الأمني والعسكري الذي ظنوه حاسماً فإذا هو يدمر الجميع (وقد حذرنا النظام من حماقة هذا الحل قبل الواقعة فلم يصغِ أحد، وقد أخذتهم العزة بالإثم) ولكن روسيا تمسكت بالأسد لتفرضه على السوريين قهراً، بينما تمسكت المعارضة ببقاء الدولة ومؤسساتها فقبلت بمشاركة مع النظام في حل وسط، سماه المجتمع الدولي «بيان جنيف» ورسمت طريقه قرارات الأمم المتحدة عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي، وتضم هذه الهيئة المقترحة ممثلين عن النظام، وممثلين عن المعارضة، وممثلين عن الجهات المستقلة والتكنوقراط، وتكون هذه الهيئة ذات صفة تنفيذية بالإضافة إلى مهمة تشريعية هي إصدار الإعلان الدستوري. كما تكون مسؤولة عن تشكيل مجلس عسكري يضم إلى الجيش النظامي، الضباط المنشقين وممثلين عن الفصائل العسكرية المعارضة الوطنية، وهذا المجلس يقوم بإعادة الهيكلة، كما تقوم الهيئة بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، وبتشكيل حكومة، وتدعو إلى مؤتمر وطني شامل، يتولى مسؤوليات المستقبل، وتعد جمعية مختصة منه دستوراً جديداً للبلاد، يُعرض على الشعب في استفتاء برقابة دولية، وفي الوقت ذاته تقوم الهيئة بالدعوة إلى انتخاب برلمان جديد، تنجم عنه حكومة جديدة. وأما العقد الاجتماعي الجديد فيقوم على أساس المواطنة في دولة مدنية ديموقراطية.

ولم يكن رفض النظام لـ«بيان جنيف» وقرارات الأمم المتحدة مفاجئاً، فالنظام يبحث عن ضمان بقاء الأسد رئيساً، بينما تبحث المعارضة الوطنية عن بقاء سوريا ودولتها على قيد الحياة، وتدرك أن بقاء الأسد سيعني استمرار الصراع وتصاعده، ولن يكون معقولاً أن يقود الأسد المرحلة الانتقالية، وأن تقدم هيئة الحكم الانتقالي له الطاعة وهو المسؤول الأول عن الفاجعة السورية وعن قتل مليون مواطن واعتقال مئات الآلاف وقتل العدد الأكبر منهم تحت التعذيب، وهو المسؤول عن تشريد ملايين السوريين وهدم منازلهم بالطائرات والبراميل التي دمرت سوريا، والقبول ببقائه يمنحه فرصة التنكيل بكل من عارضوه، والانتقام من الشعب الذي خرج عن طاعته.

وقد اختار الأسد الحسم العسكري رافضاً بخطاب علني «هيئة الحكم الانتقالي»، وجاء حصار حلب انتصاراً هلّل له شبيحة النظام بوصفه فاتحة لحصار إدلب، وإنهاء للمعارضة الوطنية بذريعة مكافحة الإرهاب، وكانت الخطة التي حددت في بداية أغسطس 2016 أن ينتهي حلفاء الأسد من إحكام السيطرة على المعارضة العسكرية ومن ثم يدعون هيئة التفاوض إلى جنيف وقد فقدت كل قواها.

ومن هنا تأتي أهمية فك الحصار عن حلب، وقد بدت مهمة مركبة، فهي القادرة على إعادة التوازن، وهي القادرة على تحرير حلب من قبضة الاحتلال الثلاثي (روسيا وإيران والميليشيات الطائفية) وسيكون تحرير حلب إن شاء الله مصدر قوة في الحفاظ على حقوق الشعب الذي قدم ملحمة العصر من أجل كرامته وحريته.

اقرأ المزيد
٥ أغسطس ٢٠١٦
تجربتان ثوريتان

هناك تجربتان ثوريتان عرفهما تاريخ العرب الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، الجزائرية والفلسطينية. وهناك، منذ نيف وخمسة أعوام، ثالثة هي السورية، والتي سألقي بعض الأضواء عليها، بمقارنتها مع تلكما التجربتين.

اعتمدت ثورة الجزائر، التي أطلقتها وقادتها جبهة التحرير الوطني، عام 1954، المركزية الصارمة في تنظيماتها وآليات عملها وعلاقاتها بالمنضوين فيها، على الرغم من أنه سبقتها تجربةٌ حزبيةٌ ونقابية متنوعة ومهمة، أدى فشلها في نيل الاستقلال لبلادها إلى تبني الكفاح المسلح سبيلاً للتحرير، ولاستعادة الدولة الوطنية السيدة والحرة والمستقلة، بعد مضي أكثر من قرن على اختفائها بعد سقوطها تحت الاستعمار الفرنسي الذي ما لبث أن اعتبر الجزائر جزءاً من فرنسا، يقع على شاطئ المتوسط الجنوبي، وعمل على دمجها دمجاً لا فكاك منه داخل جسدية الدولة الفرنسية السياسية والإدارية التي رفضت دوماً مطالبة السكان بالاستقلال، وقمعتهم كعصاة ومتمردّين على الشرعية، ضاربة عرض الحائط باختلاف هويتهم عن هويتها، وتاريخهم الذي عرف فترة من الاستقلال النسبي نيفاً وعشرة قرون، كان فيها جزءاً من الإمبراطورية العربية/ الإسلامية.

كانت المركزية حاجةً حتمتها حرب العصابات الشعبية، ورداً سياسياً وتنظيمياً على الانتماءات الدنيا، الحزبية والجهوية التي تفرّق صفوف الجزائريين، وبداية حقبةٍ من السياسة الوطنية، يجب أن تتحد فيها قدرات الشعب وطاقاته إلى أقصى درجة ممكنة، وأن تواجه المستعمر بكامل زخمها وقوتها، بما أنه ليس من الجائز، لتناقض الشعب العدائي معه، أن يعرف أي تهاون، كما لا يجوز السماح له بفتح أية ثغرة في جسد الثورة، انطلاقاً من خلافاتٍ قد تحدث فيها. من أجل الوحدة، وضعت الثورة قيادتها بين أيدي رجال زودتهم بذراعين تنفيذيين: عسكري وسياسي، اتبعتهما اتباعاً مطلقاً بها، ضم الثاني منهما رجالاً من الوسط السياسي، أشهرهم عبان رمضان وعباس فرحات ويوسف بن خده، من دون أن تتخلى عن حقها في القرار. وحين جرت المفاوضات مع الفرنسيين حول استقلال الجزائر، تولى قادتها أنفسهم عملية التفاوض .

قامت الثورة الفلسطينية على تنوع تنظيمي واسع، فقد ضمت طيفاً واسعاً من أحزاب وطنية وقومية وإسلامية ويسارية وليبرالية المنشأ أو التوجه، بنت أوائل الستينيات أذرعاً عسكرية تابعة لها، ما لبثت أن انضوت، كجهات سياسية، في قيادة موحدة، مثلتها منظمة التحرير الفلسطينية التي تولى رئاستها ياسر عرفات، قائد حركة فتح: أكبر تنظيم فلسطيني مسلح، والجهة التي تمحور حولها العمل الوطني والعسكري، وقامت بدور حاسم في توحيد المقاتلين والسياسيين، من دون أن تحد من تنوعهم، أو تقيّد قدرة تنظيماتهم على العمل. في ظل هذه الخصوصية، عرف الفلسطينيون كيف يجعلون عملهم موحداً أو متكاملاً ميدانياً، وعلى الصعيد الاستراتيجي، وصعيد مواقفهم من قضايا الحرب والسلام. وقد تباهى عرفات، مراراً وتكراراً، بما كان يسميها "ديمقراطية البنادق" التي عرف دوماً كيف يوحّدها ضد العدو الإسرائيلي، وكيف يجعلها تتخطى خلافاتها، وتبقى متمسكةً بتناقضها الرئيسي مع الصهاينة، والذي تحوّل أيُّ تناقض داخلي فلسطيني، بالمقارنة معه، إلى مجرد خلاف.

لم تبلور الثورة السورية قيادة مركزية من الطراز الجزائري. ولم تعرف إلى يومنا قيادةً قادرةً على توحيد التنوع، وتوجيهه الواعي والبرنامجي، نحو هدف واحد، هو إسقاط النظام وانتصار الحرية والديمقراطية. وزاد الطين بلةً عجزها عن الحؤول دون اختراق الثورة من قوى مذهبية، معادية لها ولمشروعها، توطّنت بصورة رئيسية في المجال العسكري، حيث استمر فشل مؤسسات المعارضة في توحيده، وضمان غلبته على أي تكوين مسلح لا ينتمي إلى الجيش السوري الحر، كما تواصل فشلها في دفع فصائله إلى تبني خياراتٍ متقاربةٍ أو متشابهة حيال مختلف القضايا، خصوصاً منها العمل العسكري الذي لم تقدم المعارضة أية رؤيةٍ خططية لإصلاحه، فكانت النتيجة الكارثية بقاء حقل الثورة السياسي منفصلاً عن حقلها العسكري، المشتت والحافل بالتناقض بين أطرافه، فلا عجب أن سادت الفوضى الحقلين السياسي والعسكري، وظهر فيهما عديد من أمراء الحرب والانتهازيين، ولا غرابة في أن الثورة لم تنجح، بل شهدت تراجعاً حثيثاً، ومتى وأين نجحت ثورةٌ تحمل مشروعين متناقضين، يخدم أحدهما النظام؟

لم يفت الوقت بعد. على الثورة، كي تنتصر، الأخذ بطريقةٍ تشبه التجربة الفلسطينية، القائمة على تنوعٍ لا يمكننا تخطيه أو القفز عنه، واعتبار وجوده منعدماً، مع أن لقواه العسكرية من القوة، داخل وطننا وخارجه، ما مكّنها من تحييد دور ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية في المجال العسكري، وأن من المحال اختيار الطريق الجزائرية، لكونها تتطلب ما يفتقر "الائتلاف" إليه: قيادة مركزية لا يستطيع أحد الاعتراض عليها أو عصيان أوامرها، أو العمل بعيداً عنها أو ضدها، واندماجا سياسياً وعسكرياً مطلقاً.

لا بد، من الآن، من توحيد مواقف التنظيمات العسكرية والسياسية على برنامج، ومن وضع قيادة كارزمية على رأسها، لا شيء يمنع أن تكون من صفوف المقاتلين. ولا مهرب من تفاهم وطني على حدودٍ عليا ودنيا، لا يخرج أحدٌ عليها أو يرفضها، يترجمه المقاتلون ميدانياً عبر قبولهم الانصياع لقيادته السياسية. بغير ذلك، لن تنتج الفوضى التنظيمية والفصائلية القائمة غير النكسات، وفي النهاية الهزيمة. ولن تنتصر ثورةٌ فشلت قواها السياسية والعسكرية في احتواء الأصولية والإرهاب ومخاطرهما، بل إن قسماً منها كان جزءاً منهما. ولن تنتصر الثورة ببرنامجين متناقضين، قوض أحدهما فرص البرنامج الديمقراطي، ونال دعم قوى احتسبت على الثورة، مع أنها لا تؤمن بها، وقاتلت ضدها بطرقٍ ألحقت بها أضراراً فادحة.

اقرأ المزيد
٥ أغسطس ٢٠١٦
إستراتيجية أميركا الخائبة في سورية

تبدو قائمة المسموحات في التفاوض الأميركي مع روسيا، في شأن سورية، واسعة ومفتوحة الأفق، حيث مسموح كسب الأراضي بالقوة، ومسموح حصار المدن والمناطق، ولا سقف لعدد القتلى، وكل ذلك يندرج تحت إطار إغراء روسيا لجلبها إلى مفاوضات متوازنة. لكن السؤال عن ماذا ستتازل روسيا في هذه الحالة وهي تعتبر كل سماح تحصل عليه من واشنطن بمثابة إنجاز وتطالب بتصريفه سياسياً في المفاوضات، حتى أنها باتت تتبع استراتيجية إخراج ما تحصل عليه بالتنازل الأميركي من دائرة المفاوضات وتعتبره لاغياً لعناصر تفاوضية أخرى، فلا يعود هناك معنى للحديث عن مصير بشار الأسد في ظل كسبه أراضٍ جديدة واستعادة سيطرته على مناطق سورية، إذ يصبح هذا الطلب غير واقعي، ثم لمن سيتنحى الأسد طالما يجري تدمير هياكل المعارضة وكامل أطرها؟

ثمّة سؤال يتبادر إلى الذهن: لماذا يحصل ذلك مع أميركا؟ هل نسيت واشنطن أبجديات التفاوض؟ أم فقدت الحساسية السياسية تجاه المتغيرات، أم لم تبقَ لديها القدرة على إدارة الأزمات في العالم؟ المشكلة أن الطرف الذي يقابلها لا يملك بالفعل ما يؤهله لمنافستها لا من حيث حجم المعلومات التي تحصل عليها واشنطن من مصادر معقّدة ومكلفة، ولا من حيث مراكز البحث والدراسات التي تملك خبرة عالية في التقدير والإستشراف، ولا من حيث الخبرة الاستراتيجية بحكم الانخراط الأوسع في قضايا كثيرة، ولا حتى من حيث القدرة على فرض السيطرة على مفاصل الجغرافيا العالمية بحكم الانتشار العسكري الأميركي القابض على جسم العالم عبر عدد كبير من الأساطيل الجوالة ومئات القواعد العسكرية الثابتة.

ما تتّبعه أميركا في سورية ليس استراتيجية متماسكة ومتكاملة، بقدر ما هو مجموع لهوامش استراتيجيات، واحدة تخص العراق، وأخرى إسرائيل، وثالثة ذات علاقة بنشاط حلف «الناتو» جنوب أوروبا، في تركيا تحديداً، وبالتالي فإن إجراءاتها في سورية تندرج، في الغالب، في إطار تلك الاستراتيجيات، ومن الواضح أن روسيا تعمل ضمن المساحة البعيدة عن المدى الأميركي، وعن مدار الأسلحة وأجهزة الرصد الأميركية، لذا لم يكن صعباً على روسيا تشكيل مجال عسكري أمني في باقي الجغرافية السورية وهي مطمئنة إلى أنها لن تصطدم مع واشنطن في أي لحظة، لا الآن ولا في المستقبل.

على ذلك فإن أميركا لا تجد نفسها مضطرة لإجراء مساومات جادة في الميدان السوري، وهي تتعامل مع الحالة برمتها من منطلق ربح زائد تحصّله من روسيا وإيران في مناطق ثانية، أو نوع من إسكاتهما عن المطالبة بمفاوضات متوازنة في قضايا أخرى، بمعنى تحويل الساحة السورية التي لا تنطوي على قيم استراتيجية مهمة للاستراتيجية الأميركية ولا تملك فيها واشنطن أصولاً عسكرية مهمّة، إلى عامل مساعد لكسب نقاط مهمة في التفاوض «الصراعي» مع روسيا وإيران من دون أن تخسر شيئاً في المقابل في ساحات تفاوضية مهمة، سواء في أوروبا الشرقية ذات الأهمية الخاصة في الميزان الاستراتيجي الأميركي نظراً لارتباطها بالأمن الأوروبي واستراتيجيات انتشار حلف «الناتو»، أو في قمع إيران من تطوير مخرجات الاتفاق النووي بحيث تستطيع صرفه سياسياً واقتصادياً.

لعلّ هذا ما يفسر سبب عدم اهتمام أميركا بتدعيم أوراقها التفاوضية في الميدان السوري بدرجة كبيرة، وغالباً فإن إجراءاتها تأخذ طابعاً شكلياً لا تدعمه إجراءات عسكرية وازنة وملموسة.

من هنا، يجد الروس أنفسهم غير معنيين كثيراً بتقديم تنازلات جوهرية ولا حتى التوافق على مبادئ أساسية لحل الأزمة في سورية، بل الواضح أنهم التقطوا حقيقة الاستراتيجية الأميركية من خلال محاولاتهم المتكررة فتح ملفات تفاوضية أخرى، في أوكرانيا وقضية الدرع الصاروخي، على خلفية انخراطهم في سورية، وإصرار أميركا على التفاوض فقط في الملف السوري، من دون الخروج عن مداره وهو ما يزيد غيظ الروس وتزمّتهم في سورية، بل إن روسيا ذهبت إلى حد محاولة صناعة فضاء إقليمي من خلال توسيع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل والأردن وتركيا، وإقامة غرف عمليات مشتركة مع العراق وإيران ونظام الأسد، وذلك للضغط أكثر على واشنطن ودفعها إلى تفكيك عقد العلاقات معها في الملفات الأخرى.

لا يدخل في حسابات الاستراتيجية الأميركية حجم الكارثة التي يعاني منها الشعب السوري، ولا التداعيات التي تجاوزت دائرة الاحتمالات وتحولت إلى وقائع من نمط اهتزاز الاستقرار الإقليمي وزيادة انتشار التطرف وتهديد أمن حلفاء أميركا في المنطقة وأوروبا، والأرجح أن السياسة الأميركية نامت عند حدود الرهانات الأولى في تقدير المكاسب المحتملة من الأزمة وحصرها بتقاتل السيئين وإشغال إيران واستنزاف روسيا وإحراجها، تلك الاستراتيجية الخائبة، فهي كما سمحت لـ «داعش» بالظهور والتمدد، شكلت البيئة المناسبة لتغوّل فلاديمير بوتين الذي بات يتدخل في توجيه الناخب الأميركي نحو مرشح معين، بعد أن جرب العبث بأمن أوروبا ونجح.

اقرأ المزيد
٥ أغسطس ٢٠١٦
حلب ليست غروزني

تأخرت حلب، حتى التحقت بالثورة السورية، لكنها، منذ ذلك الحين، صارت بؤرة الاشتباك الرئيسي، السياسي والعسكري، ومركز ثقل المأساة السورية بكل تجلياتها، وبات ثابتاً في الداخل والخارج أن مستقبل الوضع السوري يتعلق بحسم الموقف في حلب، الأمر الذي تتصرّف بموجبه الأطراف المعنية بمعادلة الصراع، وظهر جلياً من خلال مجريات الهجوم الكبير الذي شنته المعارضة في الأيام الأخيرة.

أعادت معركة حلب الدائرةُ منذ مساء الأحد الماضي، تصحيح بعض الاختلالات في النظر إلى وضعية المدينة قبل كل شيء، ومن ذلك مسألة الحصار التي حاول النظام أن يلعبها ورقةً لإنهاء المعارضة، واستخدامها وسيلة ضغط وسلاح في مفاوضات جنيف، وبعد أن حقّق تقدماً، في الشهر الأخير، على صعيد قطع خط الإمداد الوحيد، وتحكّم بطريق الكاستيلو الذي كان يربط شرقي المدينة بريفها، دخل الأسبوع الماضي في مساومة المعارضة على الاستسلام العسكري ورمي السلاح.

لم يكن في وسع النظام أن يحقّق هذا التقدم النوعي، لولا الدعم الروسي الذي بدأ منذ حوالي سنة، واتضح، في الأسابيع الأخيرة، أن خطة روسيا لتمكين النظام من حلب اعتمدت على تطبيق "نهج غروزني" في العاصمة الشيشانية التي حرثها الروس، ودمّروها فوق رؤوس سكانها، ليسيطروا عليها، وهذا ما يفسّر كيف أضحت المستشفيات ومحطات المياه في حلب وإدلب أهدافاً للطيران الروسي، وصار سلاح التجويع أداةً لإخضاع من تبقوا من السكان في القسم الشرقي من مدينة حلب الواقع تحت سيطرة المعارضة.

ذهب الروس والإيرانيون إلى حصار حلب، على الرغم من التحذيرات التي صدرت عن أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ من خطورة هذه الخطوة، والأمر الذي يبعث على الاستنكار أن الأمم المتحدة انساقت وراء ذلك، وتبنّت مسألة الممرات التي حدّدها الروس، من أجل تفريغ المدينة من المدنيين الموالين للمعارضة، وتسليم المقاتلين سلاحهم. وكانت زيارتا المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، إلى طهران، ونائبه رمزي يوسف رمزي إلى دمشق، في اليوم نفسه رسالةَ تسليمٍ بالخطة الروسية الإيرانية.

جاءت معركة حلب لتكشف أن هناك تسرّعاً روسياً إيرانياً في الحسابات، وخفةً وتواطؤاً من الأمم المتحدة، ذلك أن هؤلاء جميعا تجاوزوا ما تكرّس من قواعد اشتباكٍ في حلب على مدى العامين الماضيين. وفي العمق، أنه لا يحقّ لطرفٍ حسم المعركة لصالحه، وكثيراً ما ردّدت أطراف دولية وإقليمية أن الحل العسكري غير وارد. ولهذا، قامت آلية جنيف من أجل الاتفاق على عملية سياسية.

صحيحٌ أنه لم يتم رسم خطوط حمر في حلب. ولكن، على مدى عامين من الحرب، صار متعارفاً على جملة من الخطوط الحمر التي نشأت بفضل تفاهماتٍ غير مكتوبة بين الأطراف الإقليمية والدولية، ويمكن ملاحظة ذلك من سير المعارك العسكرية، وظهر أكثر من مرة أنه لا يكفي أن يكون طرفٌ ما قادراً عسكرياً، حتى يمسك بالأرض، وتبيّن أن الميدان هو ساحة اشتباك، وليس مكاناً للنصر أو الهزيمة. ومن هنا، يعتبر قرار الروس والإيرانيين قطع طريق الكاستيلو على حلب، وفرض الحصار، خرقاً خطيراً للتفاهمات، وكان الرد عليه من خلال معركة حلب التي جاءت لتفرض حصاراً على النظام، وباتت المعادلة اليوم قائمةً على تبادل الحصارات.

ومن دون شك، تعتبر تركيا الطرف الأكثر تضرّراً من حصار مناطق المعارضة، ليس فقط لأن حلفاءها فقدوا موقعاً مهماً في مسار الحرب، وإنما لأنها ستتحمل وحدها عبء استقبال عشرات الآلاف من اللاجئين. ولذا، كانت قريبةً جداً من تحضيرات معركة "الغضب لحلب"، وستظل طرفاً أساسياً فيها، وسيكون لرأيها دور في تحديد مآلاتها.

هدف معركة حلب المباشر هو فك الحصار عن مناطق المعارضة، لكن النتائج مرشّحةُ أن تقرّر مصير سورية.

اقرأ المزيد
٤ أغسطس ٢٠١٦
مخيم خان الشيح

يُقصف مخيم خان الشيح بالبراميل المتفجرة، وبأحدث الأسلحة الروسية. والمخيم لا يحوي "إرهابيين"، ولا مسلحين، لا في السابق ولا الآن. إذن، لماذا يُقصف؟

قُصف المخيم في درعا، بسبب اتهام الفلسطينيين بتقديم المساعدات الغذائية، حينما حاصر النظام المدينة، وكان ذلك قبل أن يصبح السلاح وسيلة ردّ الشعب السوري على وحشية النظام. وفي مخيم اليرموك، تحجج النظام بسيطرة "الإرهابيين" على المخيم، على الرغم من أن النظام وأتباعه من التنظيمات الفلسطينية كانوا يحشدون السلاح في المخيم، وأنه كانت للنظام علاقة بأول من اقتحموا المخيم. وهكذا في كل المخيمات الفلسطينية، في اللاذقية وحمص وحلب. لكن، ظل مخيم خان الشيح بعيداً عن السلاح، ولم يحوِ مسلحاً واحداً، وظل بعيداً عن الصراع. لهذا، يصبح السؤال عن سبب قصفه كاشفاً، ويوضّح هدف النظام من كل ما قام به ضد كل المخيمات الفلسطينية. ذلك أن قصف هذه المخيمات وتدميرها لا يرتبطان بوجود المسلحين، أو أن وجود المسلحين كان مبرّراً فقط، وأن النظام هو الذي عمل على زجّ المخيمات في الصراع.

يجب أن نتذكّر من أجل فهم الهدف من القصف، أنه، بعد احتلال العراق وتهجير الفلسطينيين منه، لم يسمح النظامان، السوري والأردني كذلك، بدخول هؤلاء، ووضعهم السوري في مخيم التنف في الصحراء سنواتٍ، إلى أن جرى نقلهم إلى أميركا اللاتينية. لماذا؟ لأن النظام خضع لقرار أميركي يفرض منع تمركز اللاجئين الفلسطينيين في محيط فلسطين، وتهجير من هم مقيمون فيها، حيث يجب أن يتشرّد اللاجئون بعيداً، لكي ينتهي حقهم في العودة.

ربما يُفهم قصف مخيم يحوي "مسلحين"، على الرغم من أن الأمر أبعد من ذلك. لكن، أن يُقصف مخيم لا "مسلحين" فيه، وأن يحاصر ويتعرّض للبراميل المتفجرة، وللطيران الروسي بكل أسلحته الحديثة جداً، فهو الأمر الذي يدفع إلى أن في الأمر هدفاً آخر، لا علاقة له بـ "المسلحين"، بل يطاول المخيمات نفسها. لهذا، انطلاقاً مما يتعرض له مخيم خان الشيح، يمكن القول إن النظام يعمل على تدمير المخيمات قصداً، ولهدفٍ يتعلق باللاجئين أنفسهم. وقد استغلت الثورة السورية، لكي يمارس النظام وحشيته ضد الفلسطينيين الذين اتهمهم بأنهم سبب "الأحداث" في درعا واللاذقية منذ الأيام الأولى للثورة. والواضح الآن أن هذا الاتهام لم يكن عبثياً، بل كان المقدمة لسياسة التدمير الممنهج للمخيمات.

إذن، يمكن القول إن ما يتعرّض له مخيم خان الشيح من قصفٍ وحصارٍ يكشف الهدف من كل ما تعرّضت له المخيمات الأخرى. وهو هنا، كما جرى لفلسطينيي العراق، تهجير فلسطينيي سورية بعيداً عن حدود فلسطين، وفق القرار الأميركي الذي يأتي خدمةً للدولة الصهيونية التي تريد التخلص من "مشكلة اللاجئين" من خطرهم، وهم يقطنون في محيط فلسطين.

يتقصّد النظام الممانع، إذن، تدمير المخيمات، وهي ورقةٌ يقدمها للدولة الصهيونية التي يحاول، منذ مدة، أن يتواصل معها من أجل "السلام"، وبالأساس دعم بقائه. وهي "مقاولةٌ" يقبض عليها مالاً. لكن "الجو الفلسطيني" لا يلتفت إلى ذلك، لأنه يتمسّك بـ "دولة الممانعة"، وتزجّ تنظيماتٌ ملحقةٌ به فلسطينيين في حرب النظام ضد الشعب السوري. وتقف تنظيماتٌ أخرى متفرّجة، أو خرساء، لأنها تدعم النظام الممانع، أو لا تجرؤ على قول رأيها، ليس في الثورة السورية، حيث لم يطلب منها أحد ذلك، بل فيما يحدث للمخيمات. والآن، لمخيم خان الشيح الذي هو خارج "الصراع السوري السوري"، حيث لا سلاح ولا مسلحين يكونون مبرراً لتدميره.

بالضبط، لهذا السبب يجب أن يتوضح هدف النظام من قصفه، وبالتالي، من تدمير مخيماتٍ أخرى. لا يتعلق الأمر بمواجهة "إرهاب"، بل بسياسة تدميرٍ ممنهجٍ للمخيمات الفلسطينية، بغية تهجير اللاجئين، بعيداً عن فلسطين. الممانعة تفعل ذلك.

اقرأ المزيد
٤ أغسطس ٢٠١٦
حلب تفرض معادلة جديدة

جاءت عملية "الغضب لحلب" التي بدأت، بعد ظهر الأحد، لتعيد خلط الأوراق، وتضع المسألة السورية أمام وضعٍ مختلفٍ ومغايرٍ لما كانت تخطّط له الأطراف المؤثرة في المعادلة، أي روسيا والولايات المتحدة. وفي الوقت الذي ساد الاعتقاد، خلال الأسبوع الماضي، أن معركة حلب انتهت لصالح روسيا والنظام السوري، قلبت المعارضة الطاولة، وتمكنت خلال يومين من استعادة المبادرة، وتغيير المعطيات الميدانية على نحو أصاب الجميع بالصدمة.

دخلت العملية يومها الثالث، ولم تتمكّن روسيا والنظام السوري والمليشيات التي تقاتل إلى جانبه من وقف زحف الهجوم الكبير الذي بدأ من جنوب المدينة، ليفكّ الحصار عنها من جهة الراموسة ومدرسة المدفعية، أي غير طريق الكاستلو الذي صار تحت سيطرة النظام وحلفائه منذ أكثر من أسبوعين. وبات واضحاً، حتى الآن، أمران أساسيان، الأول تصدّع جبهة النظام في هذا القطاع. والثاني أن هجوم المعارضة عمليةٌ متقنةٌ ومدروسةٌ، ومخطط لها أن تحقق أهدافاً محددة.

كان الأسبوع الذي سبق العملية من أسوأ الأوقات التي مرّت بها المعارضة السورية، منذ بداية الثورة، لأنها كانت مهدّدة بخسارة حلب، وعلى الرغم من أن هذه المعارضة فقدت مواقع كثيرة، خلال السنوات الأخيرة، في الحرب ضد "داعش" أولاً، ومن ثم أمام الدعم الروسي المفتوح للنظام، إلا أن خسارة حلب كانت ستكون الضربة القاضية التي ستنهيها على المستوى الاستراتيجي، وكان ذلك واضحاً من شكل تعاطي النظام والروس مع مقاتلي المعارضة داخل المدينة، حيث بدأ النظام يعرض عليهم الاستسلام، وصارت روسيا ترسم لهم ممراتٍ للخروج، وانزلق إلى هذا الإخراج المذلّ مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، الذي أصدر تصريحاتٍ تكفّل فيها باستعداد الأمم المتحدة تنظيم عملية استسلام المدينة.

لم يكن أحدٌ من المتابعين للوضع السوري يعتقد أن الموقف سيتغير بين عشية وضحاها، وتنتفض المعارضة السورية لحلب على نحو ما هو حاصلٌ، منذ مساء الأحد، وبهذه السرعة. وقد فوجئ الروس، مثل النظام وإيران، وظهرت حساباتهم على قدرٍ كبير من الهشاشة والتسرّع وعدم دراسة دقيقة للوضع على الأرض، ويمكن القول، إن صدمة الروس كانت كبيرة، ولم يتمكنوا من الرد للاحتفاظ بموازين القوى التي حقّقوها، منذ تدخلهم لنجدة النظام قبل أكثر من عام، وتسرّب أنهم يبحثون عن وساطةٍ من أجل وقف إطلاق نار مدة أسبوع، الأمر الذي لا ينطلي على أحد أن هدفهم من ذلك هو الالتفاف على العملية، ووقف زخمها، ومن ثم تثبيت وضع النظام في جزءٍ من حلب التي بات مهدّداً بفقدانها بالكامل، إذا واصلت قوات المعارضة الهجوم بالقوة نفسها.

أخطر ما يهدّد المعارضة هو التجاوب مع دعوات وقف النار، قبل أن تتمكّن من تثبيت انتصارها على الأرض، وتحصينه على نحوٍ لا يسمح لروسيا وحلفاء النظام بالنيْل منه، ومثلما تصرّف النظام، الأسبوع الماضي، حين أبلغ الأمم المتحدة استعداده للعودة إلى مفاوضات جنيف، وفي ظنه أنه بات يملك ورقة حلب، على المعارضة أن تلعب هذه الورقة، وكلما حقّقت المعارضة مكاسبَ ميدانيةً، وأحكمت الحصار على النظام وحلفائه، كلما كانت أوراقها التفاوضية قوية.

جولة جنيف التي ستعقد، من حيث المبدأ في نهاية الشهر الحالي، وفق ما أعلن دي ميستورا، ستكون تحت تأثير نتائج معركة حلب، وستتحدّد اتجاهات التفاوض بناءً عليها. وقد يتأخر موعد الاجتماع، وجدول أعماله تبعاً لسير المعركة وحصيلتها. ولذا، يجري النظر إلى هذه المعركة، بوصفها مفصليةً في مسار الأزمة السورية.

ليست معركة حلب هبّة عابرة في الحرب السورية، بل تشير كل المعطيات إلى أنها مدروسة، من الأطراف السورية التي حقّقت أكبر قدرٍ من الوحدة، وبالاتفاق مع الأطراف الداعمة، الإقليمية والدولية.

اقرأ المزيد
٤ أغسطس ٢٠١٦
إيران تنقلب مجدداً على التسويات

لا تتصرف إيران بوصفها دولة. فذلك يتطلب التزام التعهدات والمواقف المعلنة والاتفاقات المعقودة واحترام الذات والآخرين وحداً أدنى من الثوابت. أما هي فأقرب إلى المرابين والسماسرة ووسطاء الصفقات الذين يعتمدون الخداع مبدأً والتحايل وسيلةً، ولا يهمهم سوى تحصيل أكبر ربح ممكن مهما كانت الكلفة الأخلاقية عالية، وحتى لو أضر ذلك بشركاء أو أتباع تستخدمهم لنصب المكائد.

وإذا نظرنا إلى سلوك نظامها منذ الانقلاب الديني في 1979، لعثرنا على خيط ناظم من المراوغة معتمد في مختلف مستويات السلطة، بدءاً من أزمه رهائن السفارة الأميركية وصولاً إلى الاتفاق مع الدول الغربية حول البرنامج النووي.

وكانت طهران دأبت طوال مرحلة التفاوض على الاتفاق الأخير على تأكيد التزامها تنفيذ ما يتم التوصل إليه، لا سيما الشق غير المعلن منه. وتوالت آنذاك تصريحات المسؤولين الإيرانيين التي تؤكد أن الإفراج عن ودائعها المجمدة وعودتها إلى المجتمع الدولي وفك الطوق عن اقتصادها لن تجعلها تزيد من اندفاعاتها الإقليمية المسببة عدمَ الاستقرار، بل إنها مستعدة للتعاون والتنسيق بحثاً عن حلول وتسويات.

لكن تبين أن هذا كله كان جزءاً من شباك الخديعة التي نصبتها لإقناع مفاوضيها بوهم استعدادها للخروج من صف الدول المارقة وتغيير سلوكها التخريبي في المنطقة والعالم، إذ سرعان ما عادت إلى سياسة المماطلة والتراجع والتلطي خلف ذرائع وحجج تتفنن في ابتكارها، متفوقة على الإسرائيليين في تلبس دور الضحية الساعية إلى الإنصاف.

وبعدما تخلت طوال فترة التفاوض عن شعار «شيطنة أميركا» و «موت إسرائيل» الذي طالما استخدمته للمزايدة على العرب والمسلمين ولتبرير تدخلاتها في المنطقة تسليحاً وتمويلاً، وانتقلت إلى «مهادنة» واشنطن والإشادة بحكمة إدارتها، ووزع مسؤولوها ابتساماتهم المصطنعة على المصورين وهم يتحدثون عن فتح صفحة جديدة في كتاب التاريخ، ها هي إيران تنقلب مجدداً على ما سبق وأعلنته، طمعاً في المزيد من الربح، ولأن «تنازلاتها» لم تكن صادقة أصلاً وليست في صلب استراتيجيتها البعيدة الأمد الهادفة إلى مد النفوذ وبسط السيطرة.

هكذا، تعتبر اليوم أن إدارة أوباما التي لم يبق لها سوى شهور قليلة لم تصدق وعدها، وسقطت في «الاختبار» الذي خاضته معها، ممهدة لبدء مفاوضات جديدة مع الإدارة المقبلة أياً تكن هويتها السياسية. فما حصلت عليه شكل الحد الأقصى الذي تستطيع الإدارة المنصرفة منحه، ولا بد من تحصيل المزيد من الآتي إلى البيت الأبيض إذا كان راغباً في انتزاع تعهدات شفوية جديدة منها.

هكذا أيضاً، ينقلب أتباعها الحوثيون على التسوية اليمنية بعد ثلاثة أشهر من المفاوضات أبدى خلالها الوفد الحكومي حداً أقصى من المرونة رغبة منه ومن الدول الخليجية الراعية في وضع حد للحرب في بلد يقف على شفير الانهيار.

وفي السياق نفسه، يصعد الإيرانيون بتلاوينهم المختلفة الحرب في سورية بمحاولتهم إسقاط حلب، وبدعم روسي انتهازي، ليس فقط لتحسين وضع حاكم دمشق التفاوضي، بل أيضاً لإحكام الطوق على لبنان المحتضر والمنتهَكة سيادته، فيما يبالغ تابعها «حزب الله» في تهجمه على العرب من أصدقاء هذا البلد، طمعاً في إبعادهم عنه نهائياً.

هذه إيران التي لا يمكن الوثوق بها ولا الركون إلى وعودها وتعهداتها. لذا، لم تبالغ الرياض حين قالت أنها جربت معها كل الوسائل وأتاحت لها كل الفرص، لكن عبثاً، على رغم تصريحات ديبلوماسيي طهران المنمقة.

اقرأ المزيد
٤ أغسطس ٢٠١٦
حلب تحذّر العالم...الدنيا دولاب

عندما هربت يسرى مارديني (18 سنة) مع أختها في آب 2015 من جحيم سوريا وبدأت رحلة شاقة طويلة عبر لبنان وتركيا واليونان والبلقان فأوروبا الشرقية وصولاً إلى المانيا، كانت قد فقدت الثقة بوعود العالم بحل قريب لمأساة بلادها. وعندما كاد يغرق القارب المطاط الذي ركبته مع مواطنين كثيرين لها هربوا من مصير مشؤوم ، في مياه المتوسط بين تركيا واليونان، قفزت مع أختها في البحر وساعدت في إرشاد القارب إلى شاطئ الأمان. يومذاك لم يخطر ببالها أن شجاعتها تلك ستتحول إنجازاً لها ولكثيرين من مواطنيها.

من مخيم للاجئين في المانيا، شقت يسرى، ابنة داريا التي تحدت الموت والاعتقال، طريقها الى الالعاب الاولمبية في الريو حيث تشارك الجمعة في سباق المئة متر.

وعلى خطى هذه الشابة السورية التي انتفضت على واقع مرير وواجهت الموت بشجاعة، تحدى الحلبيون في عطلة نهاية الأسبوع القذائف والصواريخ والبراميل، وخرجوا الى الشوارع يفكون حصاراً فرضته عليهم قوات النظام بمساعدة روسيا وإيران وبتواطؤ العالم أجمع.

أضرم أولاد المدينة النار في دواليب ليربكوا مقاتلات تدك بيوتهم واحياءهم بلا رأفة ولا رحمة. وبستارهم الدخاني، فرض هؤلاء حظراً جوياً تلكأت دول العالم في اعتماده منذ أكثر من خمس سنوات، ونجحوا الى حد كبير في تخفيف الضغط عن مدينتهم التي أحكم النظام وأعوانه الحصار عليها، وسط تهديدات جوفاء فارغة من الحلفاء المفترضين.

كان الأول من آب موعداً لبدء عملية انتقالية سياسية في سوريا، إلا أنه مرَّ كغيره من المواعيد والخطوط الحمر والصفر التي رسمتها واشنطن، فاندثرت العملية تحت براميل النظام وحلفائه. والعواقب التي لوح بها وزير الخارجية الاميركي جون كيري في أيار الماضي للرئيس السوري بشار الأسد، إذا لم يلتزم الوقف الجديد للنار وخصوصاً في حلب، تبخرت، شأنها شأن سابقاتها. يومها قال كيري حرفياً إن الموعد النهائي للانتقال السياسي هو "الأول من آب ونحن في أيار، لذا إما أن يحصل شيء ما في الشهرين المقبلين، وإما ان يواجهوا مساراً مختلفاً جداً ".

لم يتوقع أحد بالطبع عملاً عسكرياً أميركياً ضد الأسد، لكن تصريحات كيري تلك أوحت بتغيير محتمل من حيث دعم المعارضة السورية، لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل. سقطت تهديدات كيري، شأنها شأن الخطوط الحمر للرئيس باراك أوباما، سقوطاً مدوياً. ووحدهم السوريون المصرون على الانعتاق من أسر النظام غيروا "المسار" عشية الاول من آب.

اقرأ المزيد
٣ أغسطس ٢٠١٦
جولة صعبة يعيشها السوريون لكنها ليست النهاية

تعيش الثورة السورية في أيامنا هذه واحدة من أصعب مراحلها. حلب تتعرض لهجمات مركزة من جانب النظام وحلفائه، وكذلك معظم المناطق في الريف الدمشقي. كما تتعرض المنطقة الجنوبية لضغط كبير، بينما تعيش المناطق الشرقية دوامة حقيقية، نتيجة تبادل الأدوار وتنسيق المواقف بين قوات النظام وأتباعه و «داعش». في المقابل، لم يتمكن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على مدى عامين تقريباً من إنجاز أي تحوّل نوعي على الأرض، وكذلك التدخل الروسي الذي بدأ قبل نحو عام، وأتى صراحة لمنع انهيار النظام.

والتحوّلات التي طرأت على أولويات دول المنطقة الداعمة للفصائل المعارضة حدّت كثيراً من إمكانات هذه القوى، وقدرتها على مواجهة الحلف الداعم للنظام، المتمثّل في القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها بأسمائها المختلفة، فضلاً عن الإسناد الجوي الروسي.

ودفعت هذه المتغيّرات والتطورات بالماكينة الإعلامية الروسية والإيرانية، وتلك التي يتحكّم بها النظام وحزب الله، إلى جانب الطابور الخامس في المعارضة المدّجنة، إلى «التبشير» بقرب القضاء على الثورة، وبالتالي انتصار الحلف الداعم لزمرة الأسد.

وهناك اليوم من يتحدّث عن توافق أميركي - روسي لفرض خطة على السوريين، يكون الأسد جزءاً منها لأمد غير معلوم بعد. غير أن المعطيات والمؤشرات جميعها توحي بأن الإدراة الأميركية تمارس لعبة كسب الوقت، وترك الملف السوري بتعقيداته للإدارة المقبلة. أما الروس، ففي عجلة من أمرهم، يحاولون تغيير الموازين على الأرض لدفع الهيئة العليا للمفاوضات إلى القبول بشروطهم التفاوضية التي يحددونها مستغلين الأوضاع الإقليمية، والسلبية الأميركية، والارتباك الأوروبي، نتيجة العمليات الإرهابية المتوالية في غير دولة أوروبية.

ويُلاحظ أن أوضاع المعارضة السياسية هي الأخرى لا ترتقي إلى مستوى التحديات، فنرى تشتت القوى، وانشغالها بأمور ثانوية، ما يحبط المعنويات، ويدفع بالكثير من المتسلقين والانتهازيين إلى استغلال الوضع. بل هناك من يضع قدماً هنا وقدماً هناك في انتظار تبلور الأمور. لكن على رغم ذلك، هناك تصميم أكيد لدى غالبية السوريين على استحالة التعايش مع زمرة الحكم بعد كل الذي حصل. ويتذكر السوريون جيداً، وباعتزاز، الأشهر الأولى لثورتهم التي شهدت المظاهرات السلمية الضخمة في سائر المدن السورية، والتي كان عمادها الشباب المتعلم من مختلف المكوّنات، وكانت سلمية، تطالب بمستقبل أفضل لسورية.

ونحن هنا لسنا بصدد إجراء مراجعة شاملة لما حصل، وأدى إلى ما نحن فيه راهناً. ما نريد الذهاب إليه أن الشعب السوري بدأ ثورته بإمكانات وخبرات متواضعة، وأفلح في تغيير المواقف المعلنة على الأقل. واليوم، وعلى رغم قساوة كل ما جرى ويجري، يمكننا القول بأن السوريين اكتسبوا خبرات كبرى سياسية وميدانية، ومن المستحيل إعادة هذا الشعب إلى قفص الاستبداد والفساد.

من جهة أخرى، لا بد أن نأخذ في اعتبارنا أن أية خطة يتوصّل إليها الجانبان الأميركي والروسي، لا بد أن تُمرر عبر سوريين يمتلكون قسطاً من الصدقية، وإلا ستظل الأزمة مفتوحة على جميع الاحتمالات، وهذا ما سيعمّق الأزمات في الجوار الإقليمي (لبنان، العراق، تركيا، اليمن...)، إضافةً إلى استمرار موجات اللاجئين، والتهديدات الإرهابية، ما يثير مخاوف المجتمعات الأوروبية، وينذر بأيام سوداء ستواجهها، نتيجة التشابك والتفاعل بين التشدد الديني والتعصّب القومي.

المرحلة صعبة من دون شك، لكن مواجهة التحديات تستوجب الصبر والتحمّل والرؤية الواضحة المطمئنة للسوريين. كما تستوجب التركيز على العامل الذاتي عبر تجاوز الخلافات البينية الهامشية قياساً بالصراع الأساسي مع الزمرة المستبدة ورعاتها. وأمر كهذا القبيل يستلزم التوافق على مشروع وطني لسورية، يطمئن سائر السوريين من دون استثناء، بعيداً من التشدد الديني أو المذهبي أو القومي أو العقائدي.

ومن هنا نرى أن خطوة التقية التي أعلنت عنها جبهة النصرة لا تطمئن، بل تثير المزيد من الهواجس، ما لم تقرن بخطوات أخرى تؤكد حدوث تحوّل نوعي، وليس مجرد تكتيك عابر، تحاشياً لأية ضربات محتملة.

الأمور في سورية لن تحل بتلك السرعة التي يتحدثون عنها، بل ستأخذ وقتاً، من المرجح أن يكون طويلاً بكل أسف. وهذا ما يستدعي الاستفادة من الأخطاء التي كانت، والتركيز على نقاط القوة التي لم تأخذ حقها من الاهتمام: الجاليات، النشاط الميداني بكل جوانبه، النخب الفكرية والإعلامية السورية والعربية المناصرة للشعب السوري الخ...

لقد استخدم رعاة النظام وداعموه كل أوراقهم، وجلبوا كل ميليشياتهم، وتدخلت قوة عظمى كروسيا ضد الشعب السوري. لكن شعبنا قاوم الجميع، وسيقاوم. فهو يدافع عن قضية عادلة، وعن أرضه ومستقبله، فيما الغزاة قدموا بناء على حسابات مصلحية. وقد بلغوا نقطة الذروة في ما يتصل باستعراض قوتهم. لكن المزيد من التحمّل، والمزيد من التعقّل وإعادة ترتيب الصفوف وتنظيفها وتنظيمها، سيقلب موازين القوى عاجلاً أم آجلاً. فما نشهده راهناً عبارة عن جولة من جولات صراع إقليمي- دولي مرشح للمزيد من الاستمرار والتداخل، صراع يتمفصل حول سورية بوصفها مفتاح المنطقة. ومهما حصل فإنه لن يكون في مقدور أي كان أن يفرض على السوريين، إذا التزموا قضيتهم وتكاتفوا ودافعوا عنها كما ينبغي، أي حل لا يضمن مستقبلاً كريماً لأجيالهم المقبلة.

اقرأ المزيد
٣ أغسطس ٢٠١٦
«داعش» يعيد تعويم الأسد

في الأفكار المتداولة في ميادين النقاش العام، رزمة قيم جديدة لا تشبه تلك التي ما برح الغرب يبشّر بها منذ الحرب العالمية الثانية. العدو الأول هو «داعش»، و «داعش» فقط. وكل من يقاتل هذا «العدو الأول»، وأياً كانت خلفيته وممارساته وقناعاته وسوابقه، ينبغي دعمه والتحالف معه للقضاء نهائياً على التنظيم الإرهابي بحيث «يصبح تنقّل المواطن من بيته وإليه آمناً». هكذا يخبرنا فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا الأسبق والمرشح المحتمل للرئاسة المقبلة.

ضمن ذلك المناخ الثقافي الجديد الذي تمليه ظروف الحرب الإرهابية ضد العالم، تتقدم أفكار اليمين المتطرّف بعد أن سقط احتكارها من جانب رموز ذلك اليمين وأحزابه، وتصبح مادة متداولة في شكل عادي داخل الأحزاب التقليدية، يسارية كانت أم يمينية. ينجح «داعش» في الكشف عن الوهن البنيوي لقيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان لدى هذا الغرب، ويروج خطاباً يمجّد سلوك الاستبداد في العالم، لا سيما في عالمنا، لحماية أسلوب عيش الفرد في عالمه.

في أوروبا كما في الولايات المتحدة، دعوات صريحة للوقوف إلى جانب النظام السوري وميليشيات الحشد الشعبي وقوات حزب الله والميليشيات التابعة لإيران من أجل محاربة داعش. وفي تبرير الأمر انتهازية خبيثة تدعو إلى استغلال «موقّت» لكل من وضعوا سابقاً على قوائم الإرهاب أو اعتبروا ديكتاتوريات كئيبة من أجل صبّ الجهود على هزيمة داعش. في المقابل، تراقب تلك القوى المحلية تحوّلات الغرب وشططه باعتبارها انقلاباً في نظرة العالم إليها ومباركة لسلوكياتها في دعم الاستبداد ورفد المذهبية وتبديد أي أحلام لبناء ديموقراطيات على النسق الذي أقيم غرباً.

على هذا تصبح الاستراتيجية الروسية أساساً يجب البناء عليه. يمتلك الغرب الوقاحة في الإعلان صراحة أن لا نية أميركية، وبالتالي غربية، للذهاب مباشرة نحو حرب برية ميدانية ضد الإرهاب. أوباما لا يريد وستبقى العواصم معتكفة طالما أن أوباما لا يريد. وعليه، فإن الذين يقاتلون في الميادين دفاعاً عن نظام الأسد في دمشق ونظام الوليّ الفقيه في طهران ومصالحه في بغداد، يرتقون إلى مرتبة جنود يباركهم هذا الغرب حماية لأحيائه ومدنه. هذا تماماً ما يفسّر ذلك التحوّل في معركة حلب وما يبرر المناورات الخجولة التي بالكاد تتحدث عن مصير الأسد ومستقبل سورية، وبالكاد تقارب السلوك الإيراني في الميادين العربية من بيروت إلى صنعاء، مروراً بدمشق والمنامة والكويت إلخ...

وبغضّ النظر عن حيثيات داعش في ضرب المدن الأوروبية، فإن نتائج تلك الجرائم تصبّ مباشرة في مصلحة دمشق وطهران، على ما يطرح أسئلة حول الحوافز الحقيقية لعمليات الإرهاب في باريس وبروكسل ونيس وسواها، ونجاحها في صناعة رأي عام محلي يبارك نزوع المجتمعات نحو التسليم برؤى تدعو إلى ضرب التطرّف بالتطرّف وهضم التوجّه لرعاية الديكتاتوريات الدموية بأبشع صورها اتقاء لشرور «الذئاب المنفردة» الشاردة نظرياً من معاقل داعش في الموصل والرقّة وأشباههما.

يحصّن الغرب نفسه بجدار فكري لا يختلف عن ذلك الأسمنتي الذي تقيمه إسرائيل صوناً لأمنها. المعادلة بسيطة: أما وأننا لم نعد عابئين بتصدير الديموقراطية وحقوق الإنسان بصفتها قيماً إنسانية كونية تخصّ كل الحضارات، فإن الأولوية ستكون في الحماية الحصرية لعالمنا وعدم الاعتراض على شيوع الطغاة في عالمهم. بمعنى آخر، يستعد الغرب لإقامة ستار حديدي كذلك الذي قسّم العالم إلى شطرين في الخمسينات، بحيث يتقلص الحيّز «الحر» إلى الرقعة التي سبقت مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، من دون أن يعني ذلك شمولها الدول الأوروبية التي تخلّصت من رعاية موسكو وهرعت باتجاه رعاية أوروبا والولايات المتحدة ومظلّتهما الأطلسية. ضمن تلك البيئة الجديدة، تروّج أسماء دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبوريس جونسون ونايجل فاراج في بريطانيا ومارين لوبن في فرنسا إلخ...

الكل يبشّر ببشار الأسد شريكاً منطقياً ويتفهمون سلوكه. في باريس هذه الأيام، يتعرض رئيس الوزراء مانويل فالس لحملة بعد أن كشف مدير مخابرات فرنسي سابق أن الأجهزة السورية عرضت تسليم باريس لائحة بأسماء الجهاديين الفرنسيين في سورية، ورفض فالس ذلك لرفضه تبادل المعلومات مع نظام الأسد الديكتاتوري.

تنقلب المفاهيم وتسقط المسلمات. يشنّ الرأي العام حملة لا تمقت الطغاة ولا ترى بهم شراً. يحتاج وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المرور بموسكو حتى تبدأ معركة حلب. فالحدث نتاج اتفاق لا خلاف، وما على الجوقة الغربية بعد ذلك إلا أن تطالب بمراعاة الجوانب الإنسانية أو التشكيك في مقاصد الممرات الإنسانية. تدعونا تحفّظات باريس ولندن وبرلين وواشنطن إلى تفحّص وجاهة الممرات لا وجاهة المعركة الكبرى في حلب.

يبشرّنا رئيس وكالة المخابرات المركزية في واشنطن، بأن سورية لن تعود موحّدة. ليس في التبشير من صاحب أكبر مخزن معلومات في العالم استنتاج أو استشراف. هو قرار تعمل موسكو وواشنطن على تسويقه بغضّ النظر عن أدبيات السوريين، معارضة ونظاماً، الخالية من أي مرامٍ تقسيمية. الأمر يتطلب ربما التعجيل بإسدال الستار، والعودة إلى المربع الأول حيث فصل سورية المفيدة بقيادة الأسد عن تلك التي ستستوطنها الجماعات وفق استشراف جون رينان رأس «سي آي إيه» الأول.

اقرأ المزيد
٣ أغسطس ٢٠١٦
لا جزرة في سورية ولا توبة في اليمن

يباغتنا وزير الخارجية الأميركي جون كيري برياح أمل سيرى ماذا سيفعل خلال ساعات، لتُمطِر برداً وسلاماً على السوريين المنكوبين بنظامهم وإصراره على «الانتصار»، وبإيران التي تراهن على «الخوارق» دفاعاً عن «مصالحها» في سورية، ولا ترى حلاً إلا بسحق المعارضين للرئيس بشار الأسد.

اعترف كيري بعد صحوة مباغتة بأن خريطة الطريق إلى تسوية جنيف، لم يتحقق منها ما يمكن أن يفتح الباب للعملية الانتقالية، فيبرّئ بالتالي إدارة الرئيس باراك أوباما من وصمة التواطؤ، على رغم كل ما شهدته سورية من مجازر وجرائم حرب.

وربما لم يكن مجرد أمنيات، التكهُّن بصفقة ما بين أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تقود سورية إلى مرحلة جديدة انطلاقاً من تبريد جبهات القتال، قبل انتخاب الأميركيين رئيساً للولايات المتحدة. لكن إصرار الروس والنظام السوري على خنق المعارضة في حلب، ولو كلّف تدمير ما بقي من المدينة، وقتل آلاف من المحاصرين فيها، يستبعد مراعاة الكرملين الحسابات الانتخابية للديموقراطيين في أميركا. وما دام هناك إعجاب متبادل بين بوتين والمرشّح الجمهوري الجهوري دونالد ترمب، يمكن النظام السوري أن يحلم بـ «خوارق» إيران لضم رجل الأعمال الصاعد إلى سلّم مقاومة «التكفيريين»، ولو كانت بين مشاريعه إثارة فتنة في أميركا ضد كل مسلميها.

رغم كل ذلك، وبعد كوارث الدجل الأميركي في مزاعم دعم واشنطن المعارضة «المعتدلة» في سورية، فلنثق باتكال «المفوض السامي» للأذرع الإيرانية، اللواء قاسم سليماني، على «الأثر الخارق» لـ «لواء فاطميين». نراه جلياً في الأرض المنكوبة بالنظام وحُماته، ونلمسه في «تواضع» حاكم يصر على «نصر» كامل، على رغم تشكيك الأميركيين في عودة سورية.

لدى الروس، لا جزرة للمعارضة السورية، مهما روّج الكرملين لمقولة «الحرب على الإرهاب» وأولويتها. لا جزرة بل مجزرة لا تتوقف، جسدياً معظم ضحاياها مدنيون لإخضاع المقاتلين، وسياسياً لشطب ما أمكن من الرموز المعارضين بتيئيسهم من إمكانات الحل.

وأما «داعش» الذي تمدِّد عمره في العراق، فضائح صفقات وفساد، ستعطّل تعبئة لتحرير الموصل، فهو أبعد ما يكون عن «التوبة»، كحال كل إرهاب. ينطبق ذلك أيضاً على أهداف التنظيم في سورية، حيث كل مجزرة تُحسَب رصيداً في خدمة النظام.

لا جزرة، ولا توبة يمكن أن تخفّفا معاناة السوريين على أيدي جلاّديهم. وإذا كان بديهياً أن أوروبا القلقة ارتبكت أمام ضربات الإرهاب في عواصم ومدن لا تكنّ الودّ للنظام السوري، فانشغلت عن المأساة بالتعبئة الكبرى، وتركيا انهمكت بمطاردة «أشباح» الانقلاب، وتطهير كل الدولة من «سرطان المؤامرة»... فالأكيد في المحصّلة أن الكرملين بات طليقاً، يمارس سياسة الأرض السورية المحروقة، بمَنْ عليها، إلى أن تحين ساعة رسم الخرائط.

كسِب بوتين حصة الأسد على البحر المتوسط، عزّت إيران نفسها بأنها «تشغِّل» الروس لحسابها، وما إن ينكفئوا حتى تقطف نظاماً مهترئاً، لا يقوى على الاستغناء عن مظلتها العسكرية- الأمنية. وهذه بالطبع رؤية لا تتطابق مع رغبات الروس، ولا أطماعهم، في حرب «ناعمة»، القوة العظمى تكتفي فيها بتوجيه نصائح إلى خصم غيّر خريطة أوكرانيا، ويصول ويجول في سورية كأنها مجرد بحيرة على كتف البحر الأسود.

المفارقة أن تعتمد إيران أيضاً نهج التحدّي وتحرّض حلفاءها الحوثيين في اليمن على الاقتداء به، فلا جزرة يقبلون بها لتسهيل التسوية ووقف الحرب، ولا توبة عن حسابات «الربح الصافي»، كل شيء أو لا شيء... ولا رجعة حتى الآن عن استهداف الحدود السعودية، رغم الفارق في ميزان القوة بين جماعة عبدالملك الحوثي وأنصار علي صالح، والتحالف العربي بقيادة المملكة.

يصرّ بوتين على استغلال غياب أي دور غربي فاعل لوقف المآسي في سورية، تصرّ طهران على انتهاز فرص الصمت الأميركي- الغربي السلبي على كل ما يرتكبه الحوثيون في اليمن، تحدّياً لمجلس الأمن ومجلس التعاون الخليجي. ففي ذاك ذروة المسعى إلى تسعير الصراع المذهبي، خدمة لهدف إيران الأول، وهو إشغال السعودية ومحاولة تطويقها، لتقبل التفاوض مع طهران وبشروطها، على قضايا عربية.

من سورية إلى اليمن، المنطقة على عتبة شهور مريرة من الصراع، على قاعدة لا جزرة ولا توبة، ولا عصا لمجلس الأمن لردع التمرُّد على الشرعيات، ولجم أحلام القيصر والمرشد.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٦ يونيو ٢٠٢٥
النائب العام بين المساءلة السياسية والاستقلال المهني
فضل عبد الغني مدير ومؤسس الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٥ يونيو ٢٠٢٥
قراءة في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية
فضل عبد الغني مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٢١ مايو ٢٠٢٥
بعد سقوط الطاغية: قوى تتربص لتفكيك سوريا بمطالب متضاربة ودموع الأمهات لم تجف
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٠ مايو ٢٠٢٥
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا و3 تغييرات فورية يجب أن تقوم بها الإدارة السورية
فضل عبد الغني" مؤسس ومدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
١٦ مايو ٢٠٢٥
شعب لا يعبد الأشخاص.. بل يراقب الأفعال
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٥ مايو ٢٠٢٥
لا عودة إلى الوطن.. كيف أعاقت مصادرة نظام الأسد للممتلكات في درعا عودة اللاجئين
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٤ مايو ٢٠٢٥
لاعزاء لأيتام الأسد ... العقوبات تسقط عقب سقوط "الأسد" وسوريا أمام حقبة تاريخية جديدة
أحمد نور (الرسلان)