مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٣ أغسطس ٢٠١٦
«داعش» يعيد تعويم الأسد

في الأفكار المتداولة في ميادين النقاش العام، رزمة قيم جديدة لا تشبه تلك التي ما برح الغرب يبشّر بها منذ الحرب العالمية الثانية. العدو الأول هو «داعش»، و «داعش» فقط. وكل من يقاتل هذا «العدو الأول»، وأياً كانت خلفيته وممارساته وقناعاته وسوابقه، ينبغي دعمه والتحالف معه للقضاء نهائياً على التنظيم الإرهابي بحيث «يصبح تنقّل المواطن من بيته وإليه آمناً». هكذا يخبرنا فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا الأسبق والمرشح المحتمل للرئاسة المقبلة.

ضمن ذلك المناخ الثقافي الجديد الذي تمليه ظروف الحرب الإرهابية ضد العالم، تتقدم أفكار اليمين المتطرّف بعد أن سقط احتكارها من جانب رموز ذلك اليمين وأحزابه، وتصبح مادة متداولة في شكل عادي داخل الأحزاب التقليدية، يسارية كانت أم يمينية. ينجح «داعش» في الكشف عن الوهن البنيوي لقيم الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان لدى هذا الغرب، ويروج خطاباً يمجّد سلوك الاستبداد في العالم، لا سيما في عالمنا، لحماية أسلوب عيش الفرد في عالمه.

في أوروبا كما في الولايات المتحدة، دعوات صريحة للوقوف إلى جانب النظام السوري وميليشيات الحشد الشعبي وقوات حزب الله والميليشيات التابعة لإيران من أجل محاربة داعش. وفي تبرير الأمر انتهازية خبيثة تدعو إلى استغلال «موقّت» لكل من وضعوا سابقاً على قوائم الإرهاب أو اعتبروا ديكتاتوريات كئيبة من أجل صبّ الجهود على هزيمة داعش. في المقابل، تراقب تلك القوى المحلية تحوّلات الغرب وشططه باعتبارها انقلاباً في نظرة العالم إليها ومباركة لسلوكياتها في دعم الاستبداد ورفد المذهبية وتبديد أي أحلام لبناء ديموقراطيات على النسق الذي أقيم غرباً.

على هذا تصبح الاستراتيجية الروسية أساساً يجب البناء عليه. يمتلك الغرب الوقاحة في الإعلان صراحة أن لا نية أميركية، وبالتالي غربية، للذهاب مباشرة نحو حرب برية ميدانية ضد الإرهاب. أوباما لا يريد وستبقى العواصم معتكفة طالما أن أوباما لا يريد. وعليه، فإن الذين يقاتلون في الميادين دفاعاً عن نظام الأسد في دمشق ونظام الوليّ الفقيه في طهران ومصالحه في بغداد، يرتقون إلى مرتبة جنود يباركهم هذا الغرب حماية لأحيائه ومدنه. هذا تماماً ما يفسّر ذلك التحوّل في معركة حلب وما يبرر المناورات الخجولة التي بالكاد تتحدث عن مصير الأسد ومستقبل سورية، وبالكاد تقارب السلوك الإيراني في الميادين العربية من بيروت إلى صنعاء، مروراً بدمشق والمنامة والكويت إلخ...

وبغضّ النظر عن حيثيات داعش في ضرب المدن الأوروبية، فإن نتائج تلك الجرائم تصبّ مباشرة في مصلحة دمشق وطهران، على ما يطرح أسئلة حول الحوافز الحقيقية لعمليات الإرهاب في باريس وبروكسل ونيس وسواها، ونجاحها في صناعة رأي عام محلي يبارك نزوع المجتمعات نحو التسليم برؤى تدعو إلى ضرب التطرّف بالتطرّف وهضم التوجّه لرعاية الديكتاتوريات الدموية بأبشع صورها اتقاء لشرور «الذئاب المنفردة» الشاردة نظرياً من معاقل داعش في الموصل والرقّة وأشباههما.

يحصّن الغرب نفسه بجدار فكري لا يختلف عن ذلك الأسمنتي الذي تقيمه إسرائيل صوناً لأمنها. المعادلة بسيطة: أما وأننا لم نعد عابئين بتصدير الديموقراطية وحقوق الإنسان بصفتها قيماً إنسانية كونية تخصّ كل الحضارات، فإن الأولوية ستكون في الحماية الحصرية لعالمنا وعدم الاعتراض على شيوع الطغاة في عالمهم. بمعنى آخر، يستعد الغرب لإقامة ستار حديدي كذلك الذي قسّم العالم إلى شطرين في الخمسينات، بحيث يتقلص الحيّز «الحر» إلى الرقعة التي سبقت مباشرة سقوط الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، من دون أن يعني ذلك شمولها الدول الأوروبية التي تخلّصت من رعاية موسكو وهرعت باتجاه رعاية أوروبا والولايات المتحدة ومظلّتهما الأطلسية. ضمن تلك البيئة الجديدة، تروّج أسماء دونالد ترامب في الولايات المتحدة وبوريس جونسون ونايجل فاراج في بريطانيا ومارين لوبن في فرنسا إلخ...

الكل يبشّر ببشار الأسد شريكاً منطقياً ويتفهمون سلوكه. في باريس هذه الأيام، يتعرض رئيس الوزراء مانويل فالس لحملة بعد أن كشف مدير مخابرات فرنسي سابق أن الأجهزة السورية عرضت تسليم باريس لائحة بأسماء الجهاديين الفرنسيين في سورية، ورفض فالس ذلك لرفضه تبادل المعلومات مع نظام الأسد الديكتاتوري.

تنقلب المفاهيم وتسقط المسلمات. يشنّ الرأي العام حملة لا تمقت الطغاة ولا ترى بهم شراً. يحتاج وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى المرور بموسكو حتى تبدأ معركة حلب. فالحدث نتاج اتفاق لا خلاف، وما على الجوقة الغربية بعد ذلك إلا أن تطالب بمراعاة الجوانب الإنسانية أو التشكيك في مقاصد الممرات الإنسانية. تدعونا تحفّظات باريس ولندن وبرلين وواشنطن إلى تفحّص وجاهة الممرات لا وجاهة المعركة الكبرى في حلب.

يبشرّنا رئيس وكالة المخابرات المركزية في واشنطن، بأن سورية لن تعود موحّدة. ليس في التبشير من صاحب أكبر مخزن معلومات في العالم استنتاج أو استشراف. هو قرار تعمل موسكو وواشنطن على تسويقه بغضّ النظر عن أدبيات السوريين، معارضة ونظاماً، الخالية من أي مرامٍ تقسيمية. الأمر يتطلب ربما التعجيل بإسدال الستار، والعودة إلى المربع الأول حيث فصل سورية المفيدة بقيادة الأسد عن تلك التي ستستوطنها الجماعات وفق استشراف جون رينان رأس «سي آي إيه» الأول.

اقرأ المزيد
٣ أغسطس ٢٠١٦
لا جزرة في سورية ولا توبة في اليمن

يباغتنا وزير الخارجية الأميركي جون كيري برياح أمل سيرى ماذا سيفعل خلال ساعات، لتُمطِر برداً وسلاماً على السوريين المنكوبين بنظامهم وإصراره على «الانتصار»، وبإيران التي تراهن على «الخوارق» دفاعاً عن «مصالحها» في سورية، ولا ترى حلاً إلا بسحق المعارضين للرئيس بشار الأسد.

اعترف كيري بعد صحوة مباغتة بأن خريطة الطريق إلى تسوية جنيف، لم يتحقق منها ما يمكن أن يفتح الباب للعملية الانتقالية، فيبرّئ بالتالي إدارة الرئيس باراك أوباما من وصمة التواطؤ، على رغم كل ما شهدته سورية من مجازر وجرائم حرب.

وربما لم يكن مجرد أمنيات، التكهُّن بصفقة ما بين أوباما والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تقود سورية إلى مرحلة جديدة انطلاقاً من تبريد جبهات القتال، قبل انتخاب الأميركيين رئيساً للولايات المتحدة. لكن إصرار الروس والنظام السوري على خنق المعارضة في حلب، ولو كلّف تدمير ما بقي من المدينة، وقتل آلاف من المحاصرين فيها، يستبعد مراعاة الكرملين الحسابات الانتخابية للديموقراطيين في أميركا. وما دام هناك إعجاب متبادل بين بوتين والمرشّح الجمهوري الجهوري دونالد ترمب، يمكن النظام السوري أن يحلم بـ «خوارق» إيران لضم رجل الأعمال الصاعد إلى سلّم مقاومة «التكفيريين»، ولو كانت بين مشاريعه إثارة فتنة في أميركا ضد كل مسلميها.

رغم كل ذلك، وبعد كوارث الدجل الأميركي في مزاعم دعم واشنطن المعارضة «المعتدلة» في سورية، فلنثق باتكال «المفوض السامي» للأذرع الإيرانية، اللواء قاسم سليماني، على «الأثر الخارق» لـ «لواء فاطميين». نراه جلياً في الأرض المنكوبة بالنظام وحُماته، ونلمسه في «تواضع» حاكم يصر على «نصر» كامل، على رغم تشكيك الأميركيين في عودة سورية.

لدى الروس، لا جزرة للمعارضة السورية، مهما روّج الكرملين لمقولة «الحرب على الإرهاب» وأولويتها. لا جزرة بل مجزرة لا تتوقف، جسدياً معظم ضحاياها مدنيون لإخضاع المقاتلين، وسياسياً لشطب ما أمكن من الرموز المعارضين بتيئيسهم من إمكانات الحل.

وأما «داعش» الذي تمدِّد عمره في العراق، فضائح صفقات وفساد، ستعطّل تعبئة لتحرير الموصل، فهو أبعد ما يكون عن «التوبة»، كحال كل إرهاب. ينطبق ذلك أيضاً على أهداف التنظيم في سورية، حيث كل مجزرة تُحسَب رصيداً في خدمة النظام.

لا جزرة، ولا توبة يمكن أن تخفّفا معاناة السوريين على أيدي جلاّديهم. وإذا كان بديهياً أن أوروبا القلقة ارتبكت أمام ضربات الإرهاب في عواصم ومدن لا تكنّ الودّ للنظام السوري، فانشغلت عن المأساة بالتعبئة الكبرى، وتركيا انهمكت بمطاردة «أشباح» الانقلاب، وتطهير كل الدولة من «سرطان المؤامرة»... فالأكيد في المحصّلة أن الكرملين بات طليقاً، يمارس سياسة الأرض السورية المحروقة، بمَنْ عليها، إلى أن تحين ساعة رسم الخرائط.

كسِب بوتين حصة الأسد على البحر المتوسط، عزّت إيران نفسها بأنها «تشغِّل» الروس لحسابها، وما إن ينكفئوا حتى تقطف نظاماً مهترئاً، لا يقوى على الاستغناء عن مظلتها العسكرية- الأمنية. وهذه بالطبع رؤية لا تتطابق مع رغبات الروس، ولا أطماعهم، في حرب «ناعمة»، القوة العظمى تكتفي فيها بتوجيه نصائح إلى خصم غيّر خريطة أوكرانيا، ويصول ويجول في سورية كأنها مجرد بحيرة على كتف البحر الأسود.

المفارقة أن تعتمد إيران أيضاً نهج التحدّي وتحرّض حلفاءها الحوثيين في اليمن على الاقتداء به، فلا جزرة يقبلون بها لتسهيل التسوية ووقف الحرب، ولا توبة عن حسابات «الربح الصافي»، كل شيء أو لا شيء... ولا رجعة حتى الآن عن استهداف الحدود السعودية، رغم الفارق في ميزان القوة بين جماعة عبدالملك الحوثي وأنصار علي صالح، والتحالف العربي بقيادة المملكة.

يصرّ بوتين على استغلال غياب أي دور غربي فاعل لوقف المآسي في سورية، تصرّ طهران على انتهاز فرص الصمت الأميركي- الغربي السلبي على كل ما يرتكبه الحوثيون في اليمن، تحدّياً لمجلس الأمن ومجلس التعاون الخليجي. ففي ذاك ذروة المسعى إلى تسعير الصراع المذهبي، خدمة لهدف إيران الأول، وهو إشغال السعودية ومحاولة تطويقها، لتقبل التفاوض مع طهران وبشروطها، على قضايا عربية.

من سورية إلى اليمن، المنطقة على عتبة شهور مريرة من الصراع، على قاعدة لا جزرة ولا توبة، ولا عصا لمجلس الأمن لردع التمرُّد على الشرعيات، ولجم أحلام القيصر والمرشد.

اقرأ المزيد
٣ أغسطس ٢٠١٦
عيون وآذان (سورية من سيء الى أسوأ)

نشرت جريدة «الغارديان» اللندنية وسط عدد لها الأسبوع الماضي صورة ملأت صفحتين عن الخراب في حلب. ما تصورت في حياتي أن يصيب مثل هذا الخراب واحدة من أجمل مدن العالم وأقدمها.

زرت الشهباء بمناسبة ألفية مار مارون عام 2010، والناس في السوق احتفوا بالرئيس وزوجته، فالنساء زلغطن والرجال صفقوا، وأحاطوا بموكبنا. كل هذا ضاع في أسبوع واحد بعد أحداث درعا في آذار (مارس) سنة 2011. كنت في الكويت في ضيافة الشيخ ناصر المحمد، رئيس الوزراء في حينه، وراهنتُ على أن الرئيس سيحل المشكلة في أسبوع، واعترض مسؤولون كويتيون حاضرون وقالوا لي إنني لا أعرفه. قلت أنا أعرفه وأراه مرة أو اثنتين في السنة (ثلاث مرات عام 2010) وأنتم لا تعرفونه. أقرّ اليوم بأنهم كانوا يعرفونه أكثر مني.

أقرأ الآن عن اجتماع آخر بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي جون كيري وسيرغي لافروف. كم مرة اجتمعا؟ ماذا حققا في أي اجتماع سابق؟ لماذا يفترض أن يكون اجتماعهما الأخير أفضل من كل اجتماع سبقه؟ أيضاً في الوقت نفسه كان المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا يشارك في اجتماعات في جنيف لمسؤولين عسكريين وسياسيين. ماذا حققت الاجتماعات المماثلة في السابق؟ لا شيء. ماذا حقق دي ميستورا في ألف اجتماع رغم حسن نيته؟ لا شيء.

كان كيري سلم الروس في موسكو مسودة اتفاق يعارضه وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر. لو اتفقت إدارة اوباما كلها على هدف واحد في سورية لما حققته فكيف وأركانها مختلفون. الحديث هنا عن دعم معارضة معتدلة. الحرب هي بين بطش النظام وإرهاب «داعش» و «النصرة» (أصبحت الآن فتح الشام) وأمثالهما. أين المعارضة المعتدلة؟ هناك معتدلون من أهل سورية، إلا أنهم الجانب الأضعف في الحرب من اليوم الأول وحتى اليوم.

أيضاً وأيضاً بريطانيا وفرنسا وألمانيا وضعت ورقة مشتركة في صفحتين تضمنت مبادئ الانتقال السياسي في سورية للضغط على الأميركيين والروس. لا أعتقد أن هذه الدول لها تأثير في سورية، وأرجو ألا يكون موقفها من نوع ما شهدنا منها في ليبيا.

الحلفاء الغربيون قادوا ليبيا الى الخراب الذي نشهده فيها اليوم، والخراب في سورية أفظع والضحايا بمئات الألوف. وقف إطلاق النار الأخير في سورية بدأ في شباط (فبراير) الماضي فلم يتوقف القتال يوماً، وفي حلب الشهيدة، أو ما بقي منها تحت حصار النظام، هناك 300 ألف مواطن في أحيائها الشرقية يفترسهم الجوع والعطش والمرض ولا أمل لهم بالنجاة، مع أن أسراً قليلة استطاعت الفرار والمعارضة شنت هجوماً لفك الحصار.

أقرأ أن المناخ لعقد اتفاق اميركي - روسي أفضل كثيراً، وأرجو ألا يكون إسقاط المروحية الروسية سبباً لضياعه، فالرئيس باراك اوباما، في الأشهر الأخيرة له في البيت الأبيض، يريد إنجازاً يكون جزءاً من إرثه السياسي، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون سيترك منصبه في آخر كانون الأول (ديسمبر) وأيضاً يريد إنجازاً يُذكر له. باراك اوباما حسن النية جداً، إلا أنه كان جباناً متردداً على امتداد ثماني سنوات ولا أراه سيتغير في ستة أشهر. أما بان كي مون فلا يعرف شيئاً عن بلادنا، وقد رأينا أخطاءه في كل بلد بل حمقه في الحديث عن البحرين فهو يدافع عن رجل واحد ولا يرى الولاء الخارجي السافر لبعض المعارضة البحرينية.

منذ «وقف» العمليات العسكرية في سورية بموجب الاتفاق الذي بدأ تنفيذه نهاية شباط (فبراير)، قـُتـِل أكثر من خمسة آلاف مدني بينهم أكثر من ألف طفل وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أخشى أن يؤدي أي اتفاق جديد الى مزيد من القتال والقتل لأن النظام لن يتغير والإرهاب لن يغير موقفه، والولايات المتحدة في واد وروسيا في وادٍ آخر، وايران و «حزب الله» في وادي النظام السوري، والأمة في بئر إن لم تكن في وادٍ.

اقرأ المزيد
٢ أغسطس ٢٠١٦
سورية في قلب الحرب الحضارية... الخفية

ما يجري في المشرق العربي، وفي سورية خصوصاً، من استهتارٍ مستمرٍ بالقيم والأعراف والمواثيق الإنسانية، وتهديمٍ منقطع النظير للمدن التاريخية على رؤوس سكّانها، وفرض حصار الجوع وتشريد ملايين البشر، مع بقاء المجتمع الدولي ومنظماته القانونية والإنسانية مكتوفة اليدين، أو عاجزةً عن القيام بأي عملٍ لوقف المجازر الشنيعة، ودفع الأطراف نحو حل سياسي، في وقتٍ تحتفظ فيه أكبرها بقواعد عسكرية وقوات وأساطيل جوية جاهزة للتدخّل، وتتدخل بالفعل في أكثر من مكان. لكن، ليس حيث ينبغي التدخل، ما يجري يشكّل حدثاً غير مسبوق في تاريخ العالم الحديث. وهو حدث لا يمكن من أجل تفسيره الاقتصار على أدوات التحليل التقليدية للصراعات السياسية أو للثورات الاجتماعية، أو حتى لحروب التوسع الإقليمي والنفوذ الدولي. ويحتاج فهمه، في نظري، إلى إطار نظري أشمل، يتعلق بتفسير أو تحليل ديناميات نشوء المدنيات المختلفة وصراعها وتوسعها واندثارها.

أفول الشرق
والمقصود، في حالتنا، المواجهة التاريخية المستمرة منذ قرون، بين عالم الغرب الصاعد وعالم المتوسط المشرقي الذي أفل نجمه، بعد أن تربّع على قمة الهيمنة القارية قروناً طويلة سابقة. وليس المقصود بالغرب، هنا، منطقة جغرافية، وإنما دائرة جيوسياسية، تطور داخله عبر الزمن نمط حياة وأسلوب في النظر والعمل والإدارة والحكم والإنتاج، يشمل بلاداً وشعوباً وثقافاتٍ عديدة. وهذا ما نعنيه أيضاً بالشرق الذي يشمل دائرة جيوسياسية متوسطية، تبلورت فيها عبر العصور علاقات خاصة، ونمط تفكير وحياة تناقلتها امبرطوريات تاريخية عديدة، وشكلت هويةً مدنيةً تتجاوز التنوعات الثقافية، هي ما نسميها المدنية الشرقية المتوسطية، والتي ورثتها آخر الامبرطوريات الإسلامية فاحتفظت بتسميتها.

كلنا نعرف أن أوروبا، قبل أن تخرج من بربريتها، وتقيم صرح حضارةٍ لامعة غيرت معالم الحضارة الإنسانية، وتتحول إلى منارة للمجتمعات الأخرى، عاشت قروناً طويلةً تحت الهيمنة الفكرية والسياسية والعسكرية للامبرطوريات التي نشأت وترعرعت في المشرق، الذي شكّل منذ أقدم العصور مهداً لحضارةٍ كونية، ومرجعاً لمدنيةٍ عظيمةٍ، تعدّدت منابعها الثقافية والسياسية، وكوّنت، مع الزمن، دائرةً مشتركةً لتداول الأفكار وتبادل السلع والبضائع، قرّبت بين توجهات أفرادها وأنماط سلوكهم وتفكيرهم، في ما وراء تعدّد الأديان والثقافات والدول أيضاً. وصبّت في هذه الدائرة الجهود التاريخية لشعوب بلاد الرافدين، ووادي النيل واليونان والرومان والسوريين القدماء وسكان فارس واليمن والجزيرة العربية والكرد، وأخيراً الترك العثمانيين الذين أنشأوا واحدةً من أكبر الامبرطوريات، متعدّدة الأقوام والمذاهب والثقافات والأديان، عابرة للقارات، بسطت سيطرتها على المتوسط وهيمنتها القارية قرابة خمسة قرون.

وفي الصراع ضد هذه المدنية "الإسلامية"، وريثة امبرطوريات المشرق التي امتدّ نفوذها من إسبانيا إلى الهند والصين، وجمعت بين قومياتٍ وثقافاتٍ وأديانٍ ونحلٍ لا تُحصى، ولدت أوروبا الحديثة، وتشكّلت في مواكبتها الديناميات الفكرية والسياسية والجيوسياسية الجديدة التي قامت عليها المدنية الغربية التي انتقل إليها مركز إنتاج الحضارة وازدهارها، العلمي والمادّي، بشكلٍ مضطرد منذ القرن السابع عشر الميلادي. ولم يُتح لهذه المدنية الغربية الجديدة أن تستقرّ وتضمن تفوقها وهيمنتها العالمية إلا على أشلاء المدنيات السابقة، التي أسدل عليها سيف الحركة الاستعمارية الستار وحطم توازناتها، في الصين والهند وإفريقيا. وكانت معركتها الأقسى والأطول تلك التي خاضتها ضد المدنية الإسلامية لتفكيك مراكز هيمنتها العالمية : في الأندلس الأوروبية، وفي آسيا المغولية، وأخيراً ضد الدولة العثمانية التي بقيت تشكّل قوة عسكرية ضاربة في أوروبا نفسها حتى القرن الثامن عشر. فقد تم طرد المسلمين العرب والبربر طرداً كاملاً من إسبانيا وقتل من قتل وأجبر من بقي منهم على الانسلاخ عن جلده ودينه منذ عام 1492. وفي آسيا، حلت الملكة فيكتوريا إمبرطورةً على الهند محل السلطان محمد بهادر شاه عام1857. وفي المتوسط، دامت معركة تفكيك الإمبرطورية العثمانية وتحطيمها القرن التاسع عشر بأكمله، قبل توزع أملاكها بين الدول الأوروبية.

وعلى الرغم من أن مخطط تقسيم تركيا لم ينجح بسبب شراسة المقاومة الوطنية التركية بقيادة مصطفى كمال، إلا أن الحرب الغربية لا تزال مستمرة، ليس في سبيل السيطرة على موارد المنطقة المادية واللامادية، والتحكم بطرق المواصلات الدولية التي تحتل موقع القلب منها فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، بهدف منعها من التعاون وتوحيد جهودها أو إعادة تجميع أطراف الدائرة الجيوسياسية المتوسطية ومخاطر بناء قوة استراتيجية، عسكرية وسياسية وأيديولوجية، يمكن أن تهدّد مستقبلاً الغرب، أو تخلّ بالتوازنات الجيوستراتيجية القائمة، أو تعمل على إعادة تدوير الموارد الحضارية، أو تغير في معادلات القوة الشاملة على أعتاب المواجهة الحاسمة للغرب مع المدنية الآسيوية الصاعدة. وفي اعتقادي، من الصعب تفسير مجموعة كبيرة من التطورات التي شهدتها هذه المنطقة، والمسار الذي اتخذته نزاعات سياسية وإقليمية عديدة، وحيز الهمجية والتوحش والعنف المسموح فيه، وغياب أي جهودٍ دوليةٍ جديةٍ لدعم الحلول السياسية، خارج سياق هذه الحرب أو المواجهة الكبرى، أو بتجاهل إكراهاتها. وأقرب مثال على ذلك المصير الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي التي شكّلت الحدث الأبرز في تاريخ تطور شعوب المنطقة، وفي مقدمها مصير الثورة السورية النازفة منذ أكثر من خمس سنوات.

إجهاض الثورات وتحطيم الدول وتقسيم الشعوب
هكذا، لم ينشئ الغرب إسرائيل، ويجعل منها قوة إقليمية رئيسية، وربما الأولى اليوم في المنطقة، حباً باليهود أو شفقة عليهم، أو تكفيراً عن المحارق النازية وسياساته اللاسامية، ولا أطلق يد السفاح بشار الأسد في شعبه، يستبيح دماءه، ويجوّع أطفاله، ويدمر حضارته، ويهجّر الملايين من أبنائه، ولم يغضّ النظر عن استخدامه الأسلحة الكيماوية وتلك المحرّمة دولياً لتدمير المدن وترويع المدنيين وإفراغ البلاد من أكثر سكانها ضماناً لحقوق الأقليات، علويين ومسيحيين ودروزاً وإسماعيليين وسريان، ولم يزوّد قوات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي "البايادي" (الكردي) بأفضل الأسلحة، ويكرس أسطوله الحربي لدعم تقدمها حبّاً بالأكراد أو تعويضاً لهم عن معاناتهم التاريخية.

وبالمثل، لم يسمح لطهران الخمينية أن ترسل حرسها الثوري ومليشياتها الطائفية لتحكم العراق وتتحكّم به، وتحوله إلى خرابٍ ومرتع للحروب الطائفية وحروب التطهير العرقية والمذهبية، وهو أغنى دول المنطقة وأكثرها ثروةً، ولا غض النظر عن عبور مليشياتها المذهبية المتوحشة نهر الفرات وبادية الشام حتى حدود المتوسط لدعم نظام الأسد المسخ الذي لا يتردّد في قتل شعبه وتشريده للاحتفاظ بالحكم، حباً بالشيعة أو تأثراً باستشهاد الحسين. تماماً كما أن غض النظر عن عمليات الإبادة الجماعية المنظمة في أكبر المدن السورية، وتشريد ملايين السوريين والعراقيين، وإطلاق يد المنظمات الإرهابية الدولية في المناطق السورية والعراقية لم يأت كرهاً بالسنة، أو انتقاماً منهم. فليس لدين الضحايا ومذاهبهم أي قيمةٍ في ذاتها بمنظور هذه المواجهة، وإنما ينبع استهداف مجتمعاتهم وتفتيتها لما يمثلونه، بامتدادهم على اتساع الرقعة المتوسطية، وهيمنتهم العددية، من إمكانات واحتمالات لإعادة حبال التواصل والتفاعل وإعادة التجميع والتوحيد للشتات المتوسطي الراهن، كما أظهرت ذلك خلال العقود الطويلة الماضية حركات الصراع من أجل وحدة المنطقة، سواء أتت في شكل وحدة قومية أو دينية.

كل هذه الخطط جزء من سياسة الحفاظ على الوضع الاستثنائي الهامشي للمشرق، ومنع نشوء قوة استراتيجية في المتوسط تهدّد الأمن الأوروبي الغربي، وتعدل في التوازنات ودورات التبادل، وتعيد توجيه الموارد والمكتسبات الحضارية وتوزيعها. والسبيل الرئيسي لتحقيق ذلك هو إبقاؤه تحت المراقبة، وفي قفصٍ من حديد، وإجهاض حركاته وتحييد شعوبه والقضاء، بشكل منتظم، على أي قوةٍ ناشئةٍ، من المحتمل أن تتحوّل إلى مركز قوة استراتيجية. وهذا الضغط الاستراتيجي الهائل والمستمر عقوداً على مجتمعات المشرق، وحرمانها من أي فرصةٍ للانعتاق والتقدّم هو العامل الأكبر والأشمل، في دفعها نحو الاضطراب وعدم الاستقرار بما يثيره من التهاباتٍ وتوتراتٍ دائمةٍ واختلالاتٍ وتأزماتٍ، تقوّض أي أسسٍ ثابتةٍ وسليمةٍ لاستقرار الدولة والحياة السياسية والأمنية والثقافية، وتحول حياة شعوبه وأفراده إلى سلسلةٍ لا تنقطع من الأزمات والنزاعات.

وما من شك في أنه، بنتيجة هذه المواجهة التاريخية التي خسرتها، تحوّلت منطقة المشرق التي كانت مقر مدنيةٍ مزدهرةٍ وجامعة، وأحد مراكز الحضارة الرئيسية في العالم، قروناً طويلة، إلى مسرحٍ للخراب والدمار والفوضى. وهي لا تزال تتراجع باستمرار، وتخسر على كل الأصعدة، الداخلية والخارجية، وتكاد لا تحقق أي إنجاز، حتى فقدت شعوبها أو هي في طريقها إلى أن تفقد جميع آمالها، وتغرق في اليأس والإحباط، بينما تحولت أوروبا المجاورة التي كانت تسبح في فوضى الصراعات الدموية الدينية والقومية حتى منتصف القرن الماضي إلى مركز الثقل الرئيسي، وموطن المدنية ومنتج الحضارة.

في مواجهة سياسات العزل والتهميش والحصار
منذ تبني الرئيس الأميركي، باراك أوباما، سياسة النأي بالنفس عن مشكلات المشرق والشرق الأوسط، بعد فشله المدوّي في إقناع إسرائيل بمشروع حل الدولتين الذي وعد به حلفاءه العرب، ولد اقتناع واسع في الرأي العام الدولي، الرسمي والشعبي، أن المشرق منطقةُ زلازل واضطرابات وعدم استقرار، لا أمل في علاجها. ومن الأفضل تركها لمصيرها. والحقيقة عكس ذلك تماماً، فليس هناك منطقة دمرت تدخلات الغرب أسس استقرارها وتوازناتها النفسية والدينية والسياسية والأمنية في العصر الراهن، وقضى تلاعب المؤسسات والأجهزة الأمنية الغربية بمؤسساتها وقياداتها على مستقبل تنميتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية، كما حصل لهذه المنطقة المنكوبة من العالم، حتى أصبحت تحتكر اليوم أغلب الجهد الدولي الأمني والإغاثي والدبلوماسي.

وما يجري في المنطقة، اليوم، بعكس الادعاء السائد، هو أكبر تدخل دولي مشترك، حصل في بلد واحد وفي الوقت نفسه، في أي عصر، حيث تشارك 62 دولة رسمياً، بجيوشها وأساطيلها، بالإضافة إلى عشرات، وربما مئات، المليشيات من كل المذاهب والجنسيات، في عملية إخصاء استراتيجي طويل المدى، يهدف إلى استبدال الدولة والأمة والثقافة والمدنية والحضارة والفكرة الإنسانية، بزعماء مليشيات ومجالس عشائر وحشود شعبية وطوائف وقوميات ميكروسكوبية ومظالم وانتماءات وولاءات وعصبيات وعداوات أبدية. ولا يتردّد التحالف الدولي الذي سلم قيادته للثلاثي، الأميركي الروسي الإسرائيلي، غير المسبوق في العصر الحديث خارج المنطقة، في سبيل تحقيق هدفه من استخدام نار الإرهاب الكاوية التي تحولت منظماتها في أشهر قليلة، وبقدرة قادر، إلى جيوش وممالك وإمارات جبارة، تهدد المنطقة والعالم. وللهدف نفسه، يصر القادة الغربيون، كما يصر الإعلام على تسميتها بالإسلامية، حتى صار كثيرون يعتبرونها ممثلةً للمسلمين السنة عامة، وناطقة باسمهم.
وما من شك في أن اندلاع الثورات العربية في العقد الثاني من هذا القرن، ومشهد ملايين العرب المتجمعين في الساحات والمطالبين بحقوقهم، وفي مقدمها حقهم في المشاركة في القرار والحكم، قد قرع ناقوس الخطر بالنسبة لجميع القوى الخائفة من يقظة الشرق العربي. وكان القبول بمثل هذه المطالب يعني تلقائياً انهيار استراتيجية الغرب، للإبقاء على سيطرته الإقليمية، والتي كانت تعتمد، بشكل رئيسي، على تعاون النظم والنخب التابعة، وأحياناً العميلة. ولذلك، بعكس المظاهر، لم يتردّد الغرب السياسي، لحظةً، في اتخاذ قرار قيادة الثورة المضادّة لمواجهة خطر انتصار الشعوب، وعندما أبدى تفهماً وأظهر تأييده للثورة، كان هدفه الالتفاف عليها، واختراقها من الداخل، لإعادة توجيهها وضبطها. لكنه سرعان ما نظم عملية الانقضاض عليها، بالتحالف مع القوى التابعة له، وروح الانتهازية وغياب الثقة بالذات، وتغذية الأوهام عند كثيرين من أعضاء النخب المعارضة والمعارضات السياسية.

يتركّز الجهد العسكري والسياسي الغربي الراهن، من أجل إجهاض ما حققته المنطقة ومجتمعاتها من نمو في العقود الماضية، بعد حروب السبعينات، وإرجاعها قرناً إلى الوراء، كما وعد زعماء التدخل الأميركي في العراق سابقاً، على عدة أهداف: تحطيم الدولة المركزية الوطنية، أو تلك التي فشل في السيطرة عليها والتحكم بها من خلال النخب الموالية والتابعة له، وإطلاق دينامية حرب دينية شيعية سنية، ستشل المنطقة عقوداً طويلة مقبلة، وتقطع عليها، بسبب العداوات والأحقاد، أي أمل في استعادة وحدتها، والتعاون في ما بينها للوصول إلى بناء دائرة جيوسياسية واقتصادية وثقافية مستقلة ومستقرة وفاعلة، وفتح ملفات المنطقة القومية المعلقة، وفي مقدمها قضية القومية الكردية. لكن، ليس وحدها. وترميم النخبة التابعة التي فقدت سمعتها، وبان تهافتها، وإعادة الرهان على القوى الانقلابية العسكرية، والتعاون معها، وتقوية أجهزة القمع الاستخباراتية التقليدية، والتنسيق معها بشكل كامل.

في هذا السياق، يندرج أيضاً تشجيع الولايات المتحدة وحلفائها العراق، في التسعينات من القرن الماضي، على شنّ الحرب على إيران، بعد سقوط النظام الشاهنشاهي، لإطلاق دورة عنف وحروب إقليمية جديدة. وللغرض نفسه، صمم جورج بوش الابن وحلفاؤه التدخل العسكري في العراق عام 2003، لينهي وجود الدولة العراقية المركزية، ويرعى عملية تقسيم البلاد وتدمير وحدتها القومية والدينية ومؤسسات الدولة الحديثة، ويقضي على أي احتمالٍ لاستعادة العراق هويته، وولادة قوة استراتيجية وازنة فيه. وهو الغرض نفسه الذي أوحى للرئيس أوباما، ولحلفائه، بعدم التدخل لفرض الحلّ السياسي في سورية، والحيلولة دون تطوّر الصراع نحو الحرب الأهلية والحروب بالوكالة، وانتشار منظمات الإرهاب الدولية، وخطر إشعال حرب سنية شيعية إقليمية، تقضي على كل ما أنجزته المجتمعات خلال القرنين الماضيين، وتعيدها إلى القرون الوسطى. وأكبر دليل على ذلك إطلاق يد الروس والإيرانيين والأسد تقريباً من دون قيود أو حتى انتقاد، والتهاون في وقف الانتهاكات اللامسبوقة لمواثيق الحرب، وغضّ النظر عن تعميم سياسة التجويع والتشريد والقتل العشوائي، فالمقصود تمديد أجل الحرب إلى أن يقتنع السوريون، كما اقتنع العراقيون، بالطريقة نفسها، من قبل، باستحالة الحفاظ على دولتهم المركزية، ويقبلون التقسيم، على أسسٍ طائفيةٍ وإتنية، تحت غلالةٍ خادعةٍ من الفيدرالية الكاذبة. ولا يتردّد قادة روسيا، في حماسهم لانتزاع الزعامة في الحرب الحضارية ضد الإسلام والمسلمين، في الإعلان صراحةً عن استحالة القبول بهيمنةٍ سنيةٍ في سورية، وربط السلام فيها بتحقيق التوازن الطائفي. ما يعني، أحد أمرين: إما تعميم عمليات التهجير القسري للمسلمين حتى تقل نسبتهم على عدد السكان الكلي، أو تشجيع حروب التطهير المذهبي، حتى يتحقق رسم حدود آمنةٍ وقويةٍ للدول الجديدة التي تهدف، باسم حماية الأقليات الاتنية والطائفية،  للحيلولة دون نشوء دول قوية.

وفي هذا السياق أيضاً، تصبّ مجموعة الأبحاث النظرية والإعلامية الغربية المتزايدة التي تريد أن تقنع العرب والمسلمين من سكان المنطقة بتناقض فكرة الدولة المركزية مع التقاليد والثقافة والبنية الاجتماعية العربية والهوية الإسلامية، وتشجعهم على رؤية الحل لمشكلاتهم السياسية في العودة إلى الدول الإتنية والطائفية الصغيرة، بدل الاستمرار في الكفاح من أجل دول مدنية ديمقراطية حرة. ومن الواضح أن مثل هذه الدول التي لم يعد لها أي حظٍ في البقاء في عالم اليوم بمواردها الذاتية، سوف تتحوّل إلى ذئابٍ على بعضها، لاحتكار الموارد المحدودة في المنطقة ووضع اليد عليها، كالنفط والغاز والماء، أو سوف تجد نفسها مضطرةً للعمل مباشرةً في خدمة الدول والاستراتيجيات الدولية الأمنية والهيمنية لتأمين مورد رزقها وحماية نفسها من الدول الأقوى القريبة والعدوة. ويجد هدف تحطيم الدولة المركزية، كما حصل في الحالة العراقية، هوىً خاصاً لدى إسرائيل التي تمثل، في معركة تقويض قدرة شعوب المنطقة على الاستقلال والتحرّر وبناء قوة استراتيجية تحفظ أمنها وحقوقها، قاعدة متقدمة عظيمة الأهمية، ورأس رمحٍ لا يعوّض بالنسبة لعموم الغرب. وتجد تل أبيب، في دورها الجديد والثمين هذا، فرصتها التاريخية لتطبيع وضعها الاستثنائي داخل هذه المدنية الغربية، والتعامل معها وداخلها كقوة مستقلة وند، بعد أن بقيت، عقوداً سابقة طويلة، عالة عليها.



التخبط في رمال متحركة
على الرغم من هذه الخسارة الاستراتيجية التاريخية التي منيت بها، والإخفاقات المتكرّرة التي عرفتها في كل الميادين، العلمية والسياسية والاقتصادية والأمنية، اتسمت استجابات شعوب المشرق لهذه التحدّيات، منذ الكارثة الاستعمارية الأولى، بردود الأفعال والمقاومات المتبعثرة والمتقطعة، وافتقرت، ولا تزال، للرؤية البعيدة العالية، وللاستراتيجية الشاملة. وتتخذ ردود أفعالها اليوم، بصورةٍ أوضح، شكل التشنجات والتهجمات الفردية والجماعية، وزيادة الرهان على العنف اللفظي والمادي الأعمى الذي يضرّ المشرقيين، أكثر مما يضرّ خصومهم، ويعمّق قطيعتهم مع العالم الذي يحتجون على عدم تعاونه وتهميشه لهم، ويزيد من استفزاز قواه العدوانية الموجهة لقهرهم.

والحال، لا يمكن لمثل هذا العنف وردود الفعل التي تسم استجاباتنا لتحدّي العزل والتهميش والإفقار، وما يرتبط به من فساد نخبة مارقة واستبدادها، أن يقدّم أي حلٍّ، أو مخرجٍ من الحصار المضروب بالفعل على المشرق، عربياً وتركياً وفارسياً معاً. لكنه يفاقم من مشكلاتنا المتراكمة، الوطنية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ويهدّد بخسارتنا جميع ما بقي لنا من رهاناتٍ، ويدفع بنا إلى مزيدٍ من الانحدار نحو الهاوية. وإذا ساهمت أعمال العنف الأعمى التي آلت إليها ردود أفعالنا، حتى في صراعاتنا الداخلية، بحيث لم يعد هناك أي شعورٍ بالمسؤولية تجاه المدنيين والأبرياء، حتى الأطفال والنساء والشيوخ، في "فشّ قهرنا" أو التنفيس عن كربنا، وهو تعويض عاطفي رخيص، لا جدوى منه، فلن تقدم لنا أي أمل أو عزاء. بالعكس، وظيفتها الرئيسية أن تخفي عنا بؤس نخبنا وقياداتنا وقصور تفكيرها وافتقارها رؤيةً متسقةً واستراتيجيةً فعالة لمواجهة التحدّيات التاريخية، وبالتالي، منعنا من البحث عن قيادةٍ جديدةٍ فاعلة، تستطيع أن تساعدنا على وضع حد لتاريخ التراجع والهزيمة والنكبات المتكرّرة التي أصبحت الإنجاز التاريخي الوحيد لنا. والمقصود هنا القيادة التاريخية التي تتجاوز فكرة الشخص أو الأشخاص القادرين على اتخاذ القرار، وتعني الرؤية الواضحة للواقع، وتعيين الأهداف الصحيحة والوسائل الناجعة، كما تعني العثور على الصيغة العملية القادرة على توحيد القوى، وتجميع الأفراد والجماعات في مسارٍ واحدٍ للعبور نحو الضفة الأخرى، والانتقال من العبودية إلى الحرية.

ليس رد الفعل سياسةً ناجعة، وإنما هو الضمانة للذهاب بأسرع وقت إلى الكارثة. ومن الأفضل لنا، وكما ينبغي للسجين في رمالٍ متحركة، عندما لا يكون الطريق واضحاً أمامنا، أفضل أن نتوقف عن السير، ونفكّر وننظر حولنا، ونوفر جهودنا لمرحلةٍ مقبلة، من أن نستمرّ في تقديم مزيد من التضحيات الضائعة.

اقرأ المزيد
٢ أغسطس ٢٠١٦
عن تفعيل جبهة الجنوب السوري

تتضارب التقديرات حول أبعاد ما نقله وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لنظرائه الأوروبيين أخيراً، بأنّ ثمة اتفاقاً روسياً-أميركياً على «إنشاء غرفة عمليات مشتركة» في عمّان، تكون من صلاحياتها الإشراف على العمليات العسكرية في سورية.

وقد تساءلت مصادر أردنية «ما إذا كان هذا الأمر يختلف عن آلية التنسيق الموجودة حالياً في كل من واشنطن وجنيف وعمّان» وذلك إضافة إلى آلية العمل التي اتفق الأردن مع روسيا على إنشائها في عمّان، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لتنسيق العمليات العسكرية في سورية. لكن إلى جانب تلك المراكز فإن لدى موسكو منذ أشهر غرفة عمليات مشتركة روسية - إيرانية - سورية في بغداد، ما يعني أن أيّ تنسيق بين موسكو وواشنطن قد يثير شكوك طهران. ويمكن التقليل من تأثير ذلك بالنظر إلى الخبرات السابقة، وبالنظر إلى أنّ استكمال سيطرة النظام السوري على طريق الكاستيلو ومحاصرته حلب قد جرى بدعمٍ روسيّ وبعد لقاءات كيري الأخيرة في موسكو، أي بعد التوصل إلى الاتفاق المشار إليه.

في 2012 قررت واشنطن ضبط الجبهة الجنوبية، وبالفعل انقطعت عن جبهات ريف دمشق، وانقطع بذلك الخطر المباشر على النظام في دمشق، وقبل أيام أعلن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر أنّ التحالف الذي تقوده أميركا لمحاربة «داعش» سيبحث فرص «مهاجمة التنظيم في سورية من الجنوب، وستكون لذلك فوائد إضافية تتمثل في مساعدة أمن شركائنا الأردنيين، وفصل مسرح العمليات في سورية عن مسرح العمليات في العراق في شكل أكبر». هنا يثور التساؤل حول أبعاد هذا التحرك المستجدّ في ظل الإعلانات الدولية المتكررة عن تسريع حرب «اجتثاث داعش» ودينامية التحضير لمعركة الموصل. ويأتي إعلان وزير الدفاع الفرنسي، جان إيف لو دريان، أن فرنسا سترسل حاملة الطائرات شارل ديغول إلى الشرق الأوسط وستعزز الدعم الجوي للجيش العراقي مع نهاية آب (أغسطس) وستزيد من حدة الضربات في سورية والعراق وستنشر طائرات «رافال» في الإمارات والأردن، ليضفي مزيداً من التساؤل عن تحركات قد تأخذ طابعاً استراتيجياً وربما تترك «تغييرات جذرية» في المشهد الإقليمي القائم، مع الانتباه إلى أنّ المعارك العسكرية في حلب أظهرت أنّ لدى واشنطن استعداداً للتساهل مع النظام السوري، ولا أدري إنْ كان موفقاً الربط بين ذلك وتصريحات كيري لنظرائه الأوروبيين بأن البحث في مصير الأسد «مؤجل إلى مراحل لاحقة»، وتأكيده أنْ «لا حلّ في سورية من غير الجانب الروسي». وما يزيد من حالة الغموض في شأن أجواء تفعيل جبهة الجنوب السوري حالة التوتر في علاقات أنقرة مع دول «الناتو» وواشنطن في شكل خاص، عقب الانقلاب الفاشل، وتوجّه حكومة أردوغان نحو موسكو.

ما يُقلق الأردن هذه التجمعات المتزايدة لتنظيم «داعش» أو الفصائل المبايعة له على حدوده الشمالية، بخاصة أن التوجّه لاجتثاث «داعش» جغرافياً سيعني تشظي ظاهرته الإرهابية، وقد لا يكون من الخطأ قراءة تداعيات تحوّل «النصرة» إلى «جبهة فتح الشام» في سياق ذلك، لأن القبول الإقليمي والدولي غير المتوقع للجبهة الجديدة (مجرد اسمها الجديد يدلّ على أنها لم تتغير) سيصبّ باتجاه مزيد من التشدد والتشظي والانشقاقات فيها، ومن هنا دعوة نخب عسكرية أردنية غير رسمية إلى إقامة منطقة عازلة على الحدود مع سورية، ولا يبدو أنّ طرفاً مؤثراً في الأزمة مستعدٌ حالياً للتجاوب مع خيار كهذا.

اقرأ المزيد
٢ أغسطس ٢٠١٦
أسئلة لا تناقشها المعارضة السورية

ثمة أسئلة عديدة وعلى غاية من الأهمية طرحت نفسها منذ اندلاع الثورة السورية (في آذار/ مارس 2011)، لكنها لم تجد إجابة عنها حتى الآن، حتى أن قيادات المعارضة لم تتطرّق اليها، أو لم تتوقّف عندها، لا في خطاباتها وبياناتها، ولا حتى في الندوات وورشات العمل الكثيرة التي عقدتها، والتي يفترض أن مهمتها الاشتغال على هكذا أسئلة.

مثلاً، منذ البداية طرح شعار إسقاط النظام، وهذا مفهوم بالنظر إلى عفوية الثورة السورية، وفي سبيل التعبئة والتحشيد وكتحديد للهدف، بيد أن هذا شيء وتحويل هذا الشعار إلى واقع شيء آخر، لا سيما بعد أن بات لهذه الثورة كيان سياسي يعبر عنها، أو يفترض أنه كذلك (المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني)، إذ بات الأمر منذ ذلك الحين يستلزم من الكيانات السياسية المعنية الإجابة عن السؤال: كيف يمكن إسقاط النظام؟ أو هل يمكن إسقاطه بإمكانات الشعب الذاتية؟

طبعاً لا يمكن الإجابة عن السؤال في شكله الأول، إذ يتعذّر التنبؤ بمآلات الثورات وبتداعياتها، كما التيقّن من نجاحها أو فشلها، لكن السؤال في شقّه الثاني يبقى مشروعاً، وضرورياً، والإجابة عنه بمسؤولية تقع على عاتق الجهات المقرّرة في الثورة، التي يفترض أن تدير الصراع بأفضل وأقوم ما يمكن.

ربما أن ما غيّب الإجابة عن هذا السؤال في الأشهر الأولى للثورة شيوع نوع من الشعور بأن العالم، أو القوى الدولية الفاعلة، لن تترك السوريين مكشوفين إزاء بطش النظام، وأن ثمة نوعاً من التدخل الدولي سيحصل ما يسهّل عليهم إسقاط النظام. بيد أن هذا الشعور، الذي تأسس على تجارب مماثلة، وعلى تشجيعات دولية وإقليمية وعربية، أهمها تصريحات الرئيسين الأميركي والفرنسي، ورئيس الوزراء التركي (في حينه)، ومواقف جامعة الدول العربية التي جمدت عضوية النظام، ما لبثت أن تكشفت عجزها عن توفير الحد الأدنى من الإسناد الدفاعي، المتمثل بوضع حد للطلعات الجوية والقصف بالبراميل المتفجرة وبالقذائف الصاروخية.

الآن لنفترض أن ثمة خذلاناً للثورة السورية، وتخلّياً عنها، أو لنفترض أن ثمة تلاعباً ما، لأغراض معينة، من قبل هذه الدولة أو تلك، لحرف ثورة السوريين، أو تحميلها ما لا تحتمل، ألم يكن من الأجدى في حينه، أي بعد أن تكشفت أوهام «التدخّل» الخارجي، مراجعة الطريق، واجتراح معادلات سياسية جديدة تجنّب السوريين الأهوال التي عانوا منها، والتي سهلت للنظام تدمير عمرانهم وتشريد الملايين منهم، سيما أننا نتحدث عن المرحلة التي تلت صفقة الكيماوي (في آب/أغسطس 2013)؟ وفي الواقع فمنذ هذا التاريخ كان يفترض في المعارضة السورية تقديم الإجابة عن السؤال: هل يمكن إسقاط النظام بالإمكانات الذاتية؟ فإذا كان الجواب على ذلك نعم، فقد كان يلزمها ذلك التوضيح: كيف؟ وبأية قوى؟ وهل الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية على هذه الدرجة من التوحد والنضج، السياسي والعملياتي ما يؤهّلها لذلك حقاً؟ ثم هل لديها الإمكانات العسكرية الذاتية لحسم هذا الأمر؟

في المقابل إذا كان الجواب بالنفي، فما العمل؟ ومثلاً، هل كانت قيادات المعارضة تملك الجرأة السياسية والأخلاقية لمخاطبة شعبها في شأن هذا الواقع، والتوجّه نحو تخفيف وتائر الفعاليات الثورية، وضمنه تخفيف الصراع المسلح بدل تصعيده، للحفاظ على طول نفس الثورة، وتجنيب البيئات الشعبية مزيداً من الكوارث، وحتى التصرف على أساس أن الثورة في هذه المرحلة أثبتت ذاتها بخروج الشعب إلى الشوارع، إلى مسرح التاريخ، في مواجهة النظام للمرة الأولى، وفي تعبيره عن ذاته في صيحته: «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ ألا يمكن اعتبار كل ذلك مرحلة أو «بروفة» بانتظار مرحلة قادمة أنسب؟

أما في حال كان الجواب بالنفي يأتي في إطار قناعة، أو معاندة، تفيد بضرورة تعزيز اعتماد الثورة وزيادة ارتهانها للخارج، على القوى الدولية والإقليمية والعربية، أو ما عرف بالدول «الصديقة»، فعلى المعارضة حينه أن توضح لشعبها من هي الدول التي تعوّل عليها؟ وأن تفسّر لماذا ينبغي الاعتماد عليها، في حين أنها لا تستطيع أن تقدم الإسناد الملائم لمواجهة النظام، ولا حتى على صعيد مضاد طائرات، ولا فرض مناطق «آمنة»؟ نقول ذلك وقد تبيّن أن كل دولة من هذه الدول تشتغل وفق أجندتها الخاصة، وأنها تريد أن تأخذ، أو توظف الثورة السورية وفق مصالحها، علماً أنها كلها تشتغل تحت السقف الذي تحدده الإدارة الأميركية.

وفي الواقع فإن المعارضة سكتت عن هذا السؤال، أو أزاحته من دائرة النقاش، لأنها بين أمور أخرى كانت ضعيفة إزاء املاءات الدول «الصديقة»، أي أنها تصرفت بطريقة دونية مع هذه الدول، حتى في بنائها لهيكليتها، وفي خطاباتها، وفي سكوتها عن التدخلات الفجّة والمضرة بالثورة، بخاصة في تشكيلات أو تفريخات الألوية والكتائب العسكرية، وفي تجميد «الجيش الحر» وإضعافه، لمصلحة دعم جماعات عسكرية ذات أيديولوجية معينة، ما أضر بالثورة وبصورتها، في العالم وإزاء السوريين، من دون أن تستطيع أن تشكل فرقاً في مواجهة النظام وحلفائه في الصراع الدائر.

هذا ينقلنا إلى السؤال التالي: هل اعتماد المعارضة السورية على المساندة الدولية والإقليمية، أو ارتهانها لها، زاد الثورة قوة أو أفادها، أم أنه أضعفها وقيّدها ونمّى أوهامها وأدخلها في مغامرات غير محسوبة وجيرّها لحساباته المتباينة؟ هذا السؤال كما سؤال إسقاط النظام، يبدو سؤالاً راهناً، ويفترض الإجابة عنه، وكلما كان ذلك أبكر، كلما كان أفضل، لاستنباط الدروس والعبر، ولتجنيب السوريين مزيداً من الخسائر والكوارث.

وربما يفيد هنا أن نذكّر بقضية ربما تفوت كثيرين مفادها أن شعار إسقاط النظام لم يعد في التداول، من الناحية العملية، بدليل المفاوضات الجارية، التي تدور على تشكيل هيئة حكم انتقالية، ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، تتشكل من المعارضة وأطراف من النظام (من الذين أيديهم غير ملوثة بالدماء)، أي أن هذا الشعار بات يقتصر على الانتهاء من حكم بشار الأسد وعائلته، لكن هذه النقلة يجري التعتيم عليها، مع إنها على غاية في الأهمية.

ثمة سؤال آخر برسم المعارضة، أيضاً يفترض أن تناقشه وأن تجيب عنه، وهو: هل تستطيع هذه المعارضة أن تقول إنها نجحت في إدارة أوضاعها، وفي إدارة الصراع ضد النظام؟ أو هل هي راضية أو تعتقد أن الاستمرار على ذات الطريق، وبالبنى والمفاهيم نفسها، سيوصلها إلى الهدف المنشود؟ والمعنى أن هذا السؤال من شقين، أولهما يتعلق برؤية المعارضة لذاتها كقيادة لثورة السوريين، ما يتطلب منها مراجعة أوضاعها سواء في علاقتها بشعبها، أو في ما يتعلق بطبيعة بناها ومؤسساتها، بعد مضي كل هذه السنوات، وكل هذه التجربة. فهل هي راضية عن نفسها؟ وهل قدمت أقصى وأفضل ما عندها؟ أم أن ثمة ثغرات كبيرة، تفترض منها اجراء مراجعة ومحاسبة لتطوير أحوالها؟ أما الشق الثاني فيتعلق بمستوى إدارة المعارضة في صراعها ضد النظام، وضمنه في إدارة المناطق المحررة، فهل هي حقاً استطاعت إحراز نجاحات على هذا الصعيد؟ ولماذا ما زالت الفجوة كبيرة بين الأطر العسكرية والسياسية؟ ولماذا لم تنجح المناطق «المحررة» في تقديم نموذج مناسب وجاذب وواعد وبديل للنظام؟

ثمة سؤال أخير رابع، وهو يتعلق بخطابات المعارضة إزاء مكونات الشعب السوري، الدينية والمذهبية والأثنية (لا سيما بما يتعلق بالكرد)، إذ إن الخطابات الأولية للثورة، والمتعلقة بكون سورية بلداً لكل السوريين، المتساوين والأحرار، وبقيام دولة مدنية ديموقراطية تعددية، باتت ضعيفة لمصلحة الخطابات ذات التوجه الديني أو الطائفي أو الأيديولوجي. والحال فإن هذا الأمر يضع علامة شك حول قدرة المعارضة على تمثيل كل السوريين، كما على صدقيتها في بناء دولة مواطنين، فضلاً عن أن ذلك يريح النظام، ويسهل له تقديم نفسه كحامٍ لـ «الأقليات»، ما يجعله يكسب على حساب المعارضة. وبديهي أن هذه المسألة تأخذنا نحو تأكيد أهمية الصراع على الخطاب في المشهد السوري، بين النظام والمعارضة، والملاحظ أن المعارضة لم تنجح في ذلك، لا إزاء العالم، ولا إزاء شعبها، مع خطاباتها المضطربة، علماً أن الكيانات السياسية خضعت لابتزاز بعض الجماعات العسكرية، التي أدخلت الثورة السورية والشعب السوري في مواجهات غير مدروسة وغير محسوبة، وساهمت في وصول الوضع إلى ما وصل إليه مؤخراً، مع حصار داريا وحلب. أي أن المعارضة السياسية هنا بدل أن تعزز اجماعاتها، وبدل أن تجذب الكيانات العسكرية لخطابها، بدت ذات خطابات غير حاسمة، ومضطربة، ونحت نحو مجاملة خطابات الجماعات الإسلامية المتعصبة والمغلقة، وذات المرجعيات الخارجية.

هذه مجرد تساؤلات أو ملاحظات نقدية، مع التأكيد أن ثمة أسئلة كثيرة أخرى تستحق النقاش والمراجعة، وتتطلب من قيادات المعارضة السورية، وكياناتها المختلفة صوغ إجابات مناسبة عنها، لمعرفة كيف تستمر الثورة أو كيف تتراجع، أو كيف تلتقط أنفاسها؟ مع التأكيد أن القيادة الحكيمة والمسؤولة هي التي تعرف متى تسير وكيف تسير وإلى أين تسير، بأقل الأكلاف وبأفضل ما يمكن.

اقرأ المزيد
٢ أغسطس ٢٠١٦
تقسيم سوريا مهمة صعبة

منذ بداية انتفاضة سوريا في عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، تنبأ البعض بتفكيك البلاد وفق مكوناتها الإثنية والطائفية، سنية وعلوية وكردية ودرزية وتركمانية. وكان المحفز الرئيسي للتفكيك الخوف على الأقليات. وبعد سنوات، تحولت الانتفاضة إلى حروب داخلية، ثم إلى تدخلات عسكرية من قوى أجنبية، إيرانية وروسية وعراقية وحزب الله، واستوطنت سوريا تنظيمات «جهادية» أجنبية ومحلية، مثل «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام». وبسبب ويلات الحرب، تشرد اثنا عشر مليون سوري من مدنهم وقراهم ومناطقهم، ثلثهم لجأ إلى خارج البلاد، وتموضع بعضهم في مناطق تناسبه، والبقية فرت من القتل والدمار داخل بلدها.

عاد الحديث عن تقسيم سوريا لأن مسؤولين أميركيين صرحوا أخيرًا بأنهم يستبعدون أن تعود البلاد وحدة واحدة، وأن التقسيم هو الأقرب. وقد اعتبرها البعض تمهيدًا للتقسيم، وبداية «سايكس بيكو» جديد، على اعتبار أن اتفاق تقسيم المشرق القديم بين البريطانيين والفرنسيين قد انتهى مفعوله، بعد أن مر عليه مائة عام، وأن الروس والأميركيين اتفقوا على تقسيم جديد للمنطقة.

هل يوجد فعلاً اتفاق على تقسيم سوريا بين الدول الكبرى؟
صراحة، استبعد ذلك لأسباب كثيرة، أبرزها أنه تنقصهم القوة على الأرض لفرض أي حدود في منطقة الشرق الأوسط، قديمة كانت أم جديدة. فالروس والإيرانيون يحاولون منذ فترة تنفيذ مهمة أقل صعوبة، وهي تمكين الأسد من حكم المناطق التي تحت سيطرته، ومع هذا لم ينجحوا بعد، فما بالنا بخلق كيانات جديدة متصارعة، ستتنافس على الموارد والحدود.

وهنا، استحضر مثلاً مشابهًا للفوضى والحروب، العراق، جار سوريا. فمنذ عام 1990، والأكراد العراقيون يعيشون في إقليم شبه مستقل تمامًا، بعد حرب تحرير الكويت. 26 عامًا مرت والأكراد العراقيون على هذا الحال. والذي وقف دون قيام جمهورية كردية في شمال العراق لم يكن صدام، ولا تركيا، ولا إيران، وهي الأطراف الثلاثة المعارضة عادة لقيام أي كيان كردي مستقل، بل المجتمع الدولي، والمصطلح يستعمل عادة للتعبير عن دول مجلس الأمن الدائمة. فقد رفض منحهم حق الاستقلال. السبب أنه لا أحد يريد تغيير خريطة المنطقة، لما قد تسببه من تفكك يؤدي لفوضى خارج السيطرة.

قد يكون المجتمع الدولي غير رأيه مع استمرار الفوضى والدم في سوريا، واقتنع بأن التقسيم حل أقل شرًا من دولة مضطربة. وتطبيق هذا الأمر ربما كان ممكنًا في أول عامين من سنوات الثورة السورية، أما اليوم فإن تهجير السكان غيّر الديموغرافيا، وبالتالي لا أرى كيف سيتم تقسيم سوريا من دون وجود تجمعات متجانسة كبيرة. مدينة منبج نموذج، فبعد أن احتلها تنظيم داعش الإرهابي، هرب كثير من سكانها إلى الأرياف وما وراءها، وعندما جاءتها ميليشيات قوات سوريا المتطرفة لإخراج «داعش»، بدعم دولي، قامت هي أيضًا بطرد كثير من السكان لأسباب عرقية، وهرب من المنطقة نحو مائتي ألف. منبج مدينة ومنطقة صغيرة نسبيًا، فما بالنا بحلب التي كان يسكنها خمسة ملايين نسمة، ومن أكثر المدن التي تعرضت للدمار والتهجير؟!

أيضًا، لا يمكن تجاهل العامل الإقليمي، ومخاوف دول مثل تركيا وإيران والعراق. للمكونات العرقية والطائفية السورية امتدادات في هذه الدول، وأي اعتراف بكيانات مبنية على اعتبارات إثنية سيهدد وحدة دول الجوار. واليوم، تعارض تركيا بشدة محاولة إقامة مناطق كردية على طول حدودها. حتى إيران، التي لا حدود لها مع سوريا، تعتبره محركًا لمشاعر نحو ثمانية ملايين كردي إيراني من سكانها. كما أن كل التجمعات تفككت، وليس الوضع بأفضل حالاً لعلويي سوريا، الذين حملوا وزر النظام بحكم انتماء عائلة الأسد لهم، فكثير من شبابهم غادر البلاد هربًا من التجنيد الإجباري، وآلاف العائلات لجأت خشية الانتقام.

لتقسيم أي دولة شرط أساسي، عند انفضاض العقد الوطني، هو انكفاء السكان نحو مناطقهم، كما حدث في يوغوسلافيا التي تفككت إثر الحرب الأهلية إلى أربع جمهوريات برعاية دولية. أما الوضع في سوريا، فهو كالإناء المكسور الذي تناثر إلى قطع صغيرة. والحل في سوريا بالحفاظ على كيان الدولة، بنظام سياسي جديد تحت رعاية دولية، مهمة صعبة خاصة في ظل احتلال إيران وروسيا للبلاد باسم الأسد، التي صارت مثل حكومة «فيشي» النازية!

اقرأ المزيد
١ أغسطس ٢٠١٦
واشنطن وموسكو يدٌ واحدة

خرج مدير الاستخبارات الأميركية، جون برينان، ليبشّر العالم بأن سورية متجهة إلى التقسيم. كان واضحاً، إذ قال إنّ سورية على الأرجح لن تعود موحدةً، كما كانت مرة أخرى، وإنه غير متفائل بشأن مستقبلها. ليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها مسؤول، أو سياسي، أميركي إلى تقسيم سورية، سواء بالتوقع أو بالتفضيل، غير أن الحديث، هذه المرّة، يأتي بلسان مدير الاستخبارات شخصياً. وفي توقيتٍ شديد الحساسية بالنسبة لمستقبل الأزمة في سورية، خصوصاً لجهة طبيعة الحلول المقترحة لحل الأزمة، أو لجهة الوضع الميداني، ومآلاته المستقبلية. فالمفترض أن ثمة مساراً سياسياً لا يزال يتلمس طريقه بين مواقف متناقضة لأطراف الأزمة. ومن شأن الإشارة الأميركية لتقسيم سورية ليس فقط تثبيط الهمم وتعطيل ذلك المسار، لكن أيضاً ربما تغيّر حسابات الأطراف المنخرطة في المعارك على الأرض. وعندما يستبق مدير الاستخبارات الأميركية المسارين، السياسي والميداني، بخطابٍ كهذا، فهو بالتأكيد يدرك مدلوله وتداعياته. إن لم يكن يمهد به لمواقف أميركية أكثر انكشافاً واقتراباً من التقسيم الذي بشّر به.

ومن بين عناصر عديدة تحكم التطورات المتوقعة في الأزمة، خصوصاً على المستوى السياسي، أشار برينان، في حديثه عن مستقبل سورية، إلى أن وجود بشار سبب رئيس في تعثر حل الأزمة. ووجه رسالةً إلى موسكو، مفادها بأن تحقيق تقدّم مرهونٌ برحيل الأسد. وللمرة الثانية، ليست هذه المرة الأولى التي تعلن فيها واشنطن صراحةً اختلافها مع موسكو بشأن سورية. وفي كل مرة، يتضح أن الاختلاف ليس عميقاً، ولا يصل إلى حد الصراع أو المواجهة، لا العسكرية ولا حتى السياسية. لذا، لا ينبغي أخذ كلمات برينان، فيما يتعلق برحيل الأسد، على محمل الجد. فقد تكرّر المعنى نفسه، مرات كثيرة بألسنة كبار المسؤولين الأميركيين طوال خمس سنوات، ولم يحدث، في أي مرة، أن تغير موقف موسكو أو صدر من واشنطن ما يصدق تلك التصريحات أو ترجمتها في تفاعلها العملي مع الأزمة. فدائماً كان السلوك الفعلي يجسّد تراجعاً يناقض التصريحات والمواقف المعلنة. بل إن برينان هذه المرة ذهب إلى حد التناقض في التصريح نفسه، فقد رهن التقدم نحو حل الأزمة برحيل الأسد، وأنه فقد الشرعية والحق في قيادة الشعب السوري. وفي الوقت نفسه، استدرك بالقول إن الولايات المتحدة لا تطالب برحيل الأسد فوراً، وإنما بطريقةٍ تسمح بالإبقاء على مؤسسات الدولة السورية، لكي يمكن إعادة بناء البلاد.

وبينما تبادر موسكو إلى "ممارسة" و"فعل" ما تريده في سورية، تكتفي واشنطن بأن "تعلن" و"تؤكد" و"تطالب". وهو ما يمثل، في واقع الحال، إقراراً ضمنياً وتنسيقاً مع روسيا أكثر منه تنافساً أو تعارضاً. والدليل أن الأفكار والمبادرات الموجهة لحل الأزمة سياسياً، منذ أكثر من عامين، روسيا مصدرها ومحرّكها الأساس. وتتم إدارتها بتناغم مع إيقاع تطور العمليات العسكرية، سواء التي تقوم بها موسكو مباشرةً، أو التي تضطلع بها قوات بشار المدعومة إيرانياً.

كان واضحاً أن تدخل موسكو عسكرياً نهاية سبتمبر/ أيلول الماضي، إيذان ببداية التقسيم. وهو ما تأكد لاحقا من التركيز على مناطق معينة وإحكام السيطرة عليها. والتساهل في التعامل العسكري مع مناطق أخرى بعضها أكثر أهميةً وحيويةً من منظور السيطرة على الأراضي السورية، وإبقائها "موحدة". وعندما كانت موسكو تقصف قوات المعارضة السورية، بزعم ضرب نقاط تمركز "داعش"، فإن واشنطن ساندت وبرّرت ولم تعترض. بل رفضت تسليح المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، لتدافع عن نفسها ضد القصف الروسي. ما يؤكد أن واشنطن من البداية تخدع السوريين، وتتلاعب بالمعارضة. وهي لا ترفع يدها في مواجهة موسكو، اعتراضاً أو تحذيراً، وإنما رضىً وترحيباً.

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠١٦
بوش الابن أنهى العراق وأوباما ينهي سوريا

يبدو واضحا استعجال موسكو وطهران لحسم معركة حلب التي يستخدم فيه سلاح الجو الروسي والميليشيات المذهبية التابعة لإيران. الهدف وضع الإدارة الأميركية الجديدة أمام أمر واقع، خصوصا أن أيّا من هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب لا يمكن أن يكون باراك أوباما آخر، أقلّه بالنسبة إلى سوريا.

هل تنجح إيران وروسيا في تهجير أهل حلب من السوريين من حلب؟ يبقى ذلك السؤال المحوري في ظل الرغبة الروسية ـ الإيرانية في الاستفادة إلى أبعد حدود من حال الإرباك التي تعيش تركيا في ظلّها من جهة، وعدم رغبة الرئيس الأميركي في إزعاج إيران، بأيّ شكل كان، حفاظا على ما يعتبره من جهة أخرى الإنجاز الأكبر الذي حقّقه منذ دخوله البيت الأبيض قبل أقل بقليل من ثماني سنوات.

يتمثّل هذا الإنجاز الأوبامي بالملف النووي الإيراني الذي وقع قبل سنة وبضعة أيّام بين إيران والبلدان الخمسة زائد واحدا، وهو في الواقع اتفاق بين طهران والإدارة الأميركية التي تختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط بهذا الملفّ.

معروف أن هيلاري كلينتون ميّزت نفسها عن باراك أوباما في ما يخص سوريا، إذ وعدت بإقامة “مناطق آمنة” يستطيع أن يلجأ إليها السوريون الهاربون من البراميل المتفجرة. كرّرت هذا الالتزام، إضافة إلى إعطاء وعود أخرى إلى من التقتهم من القياديين في المعارضة السورية. بين هذه الوعود الأخرى تزويد المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات. يكفي عدد قليل من هذه الصواريخ لقلب المعادلة في حلب ومحيط حلب وفي مناطق سورية أخرى.

تبقى وعود كلينتون وعودا، لكنّها تعكس موقفا مختلفا من ذلك الذي اتخذه باراك أوباما الذي أصرّ على أن يكون مجرّد تابع للإيراني والروسي في سوريا، متجاهلا أن ما يمر به السوريون هو المأساة الأكبر في العالم منذ إطلالة القرن الحادي والعشرين.

من المفيد الإشارة، في هذا السياق، إلى أنّ هيلاري كلينتون لا تؤمن بأنّ من الضروري مسايرة إيران لا في سوريا ولا في أماكن أخرى من أجل حماية الاتفاق في شأن الملف النووي. فمرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة تعتقد أنّ لإيران مصلحة في المحافظة على الاتفاق وهي لن تضحّي به أو تنسحب منه في حال تغيّرت السياسة السورية للولايات المتحدة.

أما دونالد ترامب، الذي لا يمكن تجاهل أن لديه بعض الأمل في الوصول إلى الرئاسة، فلديه على الرغم من غموض موقفه في شأن سوريا، رأي مختلف في الاتفاق المتعلّق بالملف النووي الإيراني، إذ يعتقد أنّه “أسوأ” اتفاق من نوعه وقعته إدارة أميركية. وهذا يعني أن سياسته السورية، في حال وجدت مثل هذه السياسة، لن تكون مرتبطة بمصالح إيران وملفّها النووي.

إلى أين نحن ماضون

هناك بكل بساطة انتهازية روسية وإيرانية ليس بعدها انتهازية. حسنا، ماذا إذا استطاع النظام العودة إلى حلب بواسطة القصف الروسي الذي يمارس من الجوّ والميليشيات المذهبية التي تستخدمها إيران في الحرب على الشعب السوري؟ ماذا سيفعل النظام بمدينة منكوبة يكرهه أهلها؟ ماذا سيفعل بمنطقة واسعة كانت في كلّ وقت رافضة للنظام الأقلّوي الذي قاومته بكل الوسائل المتاحة منذ سبعينات القرن الماضي؟

بغض النظر عن السياسة الجديدة لتركيا، وهي سياسة تقوم على التقارب مع موسكو نكاية بالإدارة الأميركية وأوروبا، لن تكون سيطرة النظام على حلب سوى خطوة أخرى تصبّ في عملية الانتهاء من سوريا. فإذا كان باراك أوباما يؤمن بأن الاتفاق مع إيران كان إنجازا بالفعل، ستظهر الأيّام أنّ ما تحقق بالفعل هو الانتهاء من سوريا التي عرفناها. سيعني سقوط حلب مزيدا من التشظي للبلد، بما يؤكد أنّ الهدف الحقيقي للسياسة الأميركية يتمثّل في طيّ صفحة الكيان السوري الذي نشأ في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، بعد طيّ صفحة الكيان العراقي عن طريق إلحاق القسم الأكبر من هذا البلد بإيران. قضى جورج بوش الابن بفضل ضيق أفقه وجهله للمنطقة العربية والتوازنات فيها على العراق، فيما عمل باراك أوباما كلّ شيء من أجل التخلّص من سوريا.

كلّما مرّ يوم، يتكشف حجم التواطؤ على سوريا وهو تواطؤ أميركي ـ روسي ـ إيراني ـ إسرائيلي. الخاسر الأكبر من هذا التواطؤ هو أوروبا التي لم تستطع في أيّ وقت ملء الفراغ الناجم عن الابتعاد الأميركي عن الشرق الأوسط ومنطقة الخليج واكتفاء باراك أوباما بدور المتفرّج على الأحداث والمصفّق لفلاديمير بوتين وسلاح الجو الروسي وللارتكابات الإيرانية التي وفّرت حاضنة لـ”داعش” وغير “داعش” في سوريا والعراق. الأخطر من ذلك كلّه، أن أوروبا ألغت نفسها بنفسها وتحوّلت ضحية الهجرة العشوائية إليها في ضوء ما نشهده في سوريا والعراق وليبيا.

انتصرت هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية، أم انتصر دونالد ترامب، سيكون مصير سوريا بائسا. حتّى لو امتلكت الإدارة الأميركية كلّ النيات الحسنة، فإن الأضرار التي لحقت بالبلد هي من النوع غير القابل للإصلاح. لا لشيء سوى لأن عدد الذين تهجّروا من بيوتهم كبير جدا، أكان ذلك داخل سوريا نفسها أو إلى دول الجوار، في مقدّمتها الأردن ولبنان وتركيا. من يعيد السوري إلى بيته، خصوصا أنّ اللغة الوحيدة التي يتقنها النظام هي لغة البراميل المتفجّرة، فيما المنطق الوحيد الذي يؤمن به هو منطق إلغاء الآخر. من يعيد بناء البنية التحتية؟

من الصعب تصوّر سياسة أميركية ناجعة في سوريا أو خارجها من دون تنسيق مع أوروبا ومع الدول العربية الأخرى المعنية مباشرة بما يدور في هذا البلد. أن تتبلور مثل هذه السياسة يبقى احتمالا ضئيلا جدا. لا شكّ أن الأضرار التي ستلحق بسوريا جراء معركة حلب ستجعل مهمّة هيلاري كلينتون من النوع المستحيل، فيما ليس ما يضمن أن تكون لدونالد ترامب أيّ هموم سورية من أي نوع كان..

كيف ستوظف سوريا وإيران معركة حلب. يستطيع الطرفان تدمير المدينة، التي هي من أقدم مدن العالم، وتهجير أهلها. وهذا ما يفسّر إعلان موسكو عن فتح أربعة معابر “إنسانية” لأهل حلب. ما لا يستطيعانه هو الإقدام على أيّ خطوة بناءة في أيّ اتجاه كان. مثل هذه الخطوة البناءة مرتبطة أوّلا وأخيرا بالاقتناع بأن “المرحلة الانتقالية” في سوريا تعني قبل أيّ شيء آخر قيام نظام جديد لا علاقة له بالنظام الذي أسسه حافظ الأسد والذي ركيزته الطائفة العلوية. ولكن من قال إن لدى روسيا وإيران غير الخراب تنشره في المنطقة العربية. ماذا فعلت إيران منذ انتصار الثورة فيها غير الدفع في اتجاه إيقاظ الغرائز المذهبية؟

ماذا فعلت روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، غير جرّ العرب من هزيمة إلى أخرى وذلك منذ ما قبل الهزيمة المدوية للعام ألف وتسعمئة وسبعة وستين، وهي هزيمة لا تزال المنطقة تعاني إلى اليوم من نتائجها وآثارها والتي لم يكن حافظ الأسد أحد مؤسسي النظام الأقلّوي في سوريا بعيدا عنها؟

اقرأ المزيد
٣١ يوليو ٢٠١٦
التانغو الروسي – الأميركي

في رقصة التانغو الكلاسيكية الرومانسية العتيقة، يُمسك الراقص الرجل بكفّ المرأة المشاركة، ويلف يده حولها باليد الأخرى، وتستمر الخطوات جيئةً وذهاباً، تقدماً وتراجعاً، يجذبها إليه تارة، وتنفر منه أخرى، حتى لا تبقى إلا أناملها بين أصابعه، يدفعها إلى الدوران حوله أو حول نفسها وقد يثنيها أمامه سانداً خصرها بيده. وتستمر الموسيقى ضابطةً إيقاع الخطوات، لكن الزوج الراقص يجد نفسه، أخيراً، في المربع أو الدائرة التي انطلق منها، وتنتهي الرقصة مع توقف الموسيقى وتصفيق الحاضرين، وبنعومةٍ حالمة، يخرج المشاركون بالرقص، مستمتعين سعداء، وتُغلق القاعة أبوابها، مستعدةً لحفلٍ راقص آخر.

كان كلام وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في مؤتمره الصحافي، قبل أيام، وهو يجيب على أسئلة بشأن سورية، وما اتفق عليه مع مرافقه الوزير الروسي، سيرغي لافروف، في هذا الشأن، كان يوحي برقصة جديدة على أنغام البراميل والقصف وصراخ الأطفال والعائلات التي تبتلعها أنقاض الدمار. تشابك ممتع آخر بين الطرفين، والحديث دائماً عن الحالات الإنسانية التي يصفق لها الحاضرون، من دون أن يروا من نتائجها إلا اللوحة الشديدة السواد.

بعد شهور، أو سنة، أو ربما أكثر من اندلاع الثورة السورية، استطاع السيد الروسي إقناع نظيره الأميركي، بأنه المرافق الذي لن يستطيع الاستغناء عنه في الرقص، على وقع موسيقا القصف والخراب السوري. وهكذا بدأ تبادل الأدوار، فحيناً ينقض الروسي قراراً أممياً، وحيناً آخر، يمتنع الأميركي عن الدعم الأمني للشعب المقهور. يقول كيري إن اتفاقاً حصل بينهما، لكن وزير دفاعه ينقضه، ويعلق كيري بأن المرحلة الانتقالية تُنهي الأسد ونظامه، لكن لافروف الذي يقود الخطوات الراقصة يداور الكلام ويعلكه، وتتعجل يده فتلف كيري دورة جديدة. ويستمر الرقص، وتستمر اللقاءات والمشاورات، ويقفان بثبات في مؤتمراتهما الصحافية، تارة هاشّين باشين يرويان النكات، وأخرى جادّين مختلفين واعدين بجولة أخرى، ثم ينفض الحفل، والقصف يستمر والكوارث تتتالى....والمربع الأول يعود فيتلقفهما من جديد.

من الصعب إحصاء عدد زيارات السيد الأميركي للكرملين، وعدد المؤتمرات التي حضرها الاثنان، وتناوبا على اللف والدوران، وإشاعة أجواء الأمل مرة واليأس أخرى. ومن الصعب عدّ المرات التي تناقضت فيها التصريحات الأميركية بين الحذر من الروس وعدم الثقة بهم وبين اعتبارهم الشركاء الموثوقين في حل الأمور، ومن الصعب عد المرات التي نصح الأميركي الثوار السوريين بالحوار مع الصديق الروسي، وقبول مندوبيه محاورين، وبين الوقوف الحازم برفض أيً منهم الدخول في هيئة المفاوضات، كما تُصر الهيئة عليه. كان فهم العلاقة الروسية – الأميركية الجديدة صعباً على السوريين، بل ربما على دول أوربية مهمة في هذا الشأن، فهم يرون العداء الأميركي في أوكرانيا والصواريخ البالستية المنتشرة حول الحدود الروسية ورفض أي وجود روسي في العراق، ويرون، في الوقت نفسه، الابتسامات المتبادلة في سورية، وتجاهل نهر الدماء البشري الذي ينبع من كل مكان فيها، تصم آذانهم أحاديث الحالة الإنسانية، وترى عيونهم كيف تتحول، في كل ثانيةٍ، إلى حالة متوحشة تفترس الأخضر واليابس بينهم.

يُطيل السوريون الغارقون بدمائهم التفكير بما يحدث، فلا المقتول عارفٌ لماذا يُقتل، ولا القاتل يعرف لماذا يَقتل إلا تنفيذاً للأوامر، فاللغة معدومة بينهما، وآلة القتل وحدها التي تتكلم، وجنيف واحد واثنين وثلاثة وربما أربعة لا يُجيب عن أيٍّ من تساؤلاتهم: متى يتفق الطرفان، وتنتهي القسمة، وتنعم أشلاء الأطفال بالدفن؟ هل هناك وعود بكيان كردي شبه مستقل، أو مستقل، يجري رسمه بالدماء السورية، ولم ينته الرسم بعد؟ هل هناك مطالب مجهولة للنظام العالمي المقترح الذي يعاني من ولادةٍ عسيرة تحتاج عملية قيصرية؟ وهل على الشعب السوري وحده دفع الأثمان الباهظة لإخراجه؟

يصرح السيد الأميركي أن اتفاقاً ما تم بينه وبين السيد الروسي، من أجل التنسيق العسكري والحالات الإنسانية، لكنه لن يُنشر للإعلام أو يعرف أولو الأمر به، إلا بعد تنفيذه، خشية من "بارازيت" الإعلام عليه، وشكاً بمصداقية الروس بتنفيذه. ثم يعلن المبعوث الأممي، دي ميستورا، أن اجتماعاً ما سيعقد الشهر المقبل في جنيف، لتدارس "الأزمة السورية"، لكن السوريين يُدهشون من الوقاحة الروسية، في اتهامهم واتهام حلفائهم، بأنهم أشرار ومنافقون وأوغاد، لأنهم طالبوا بتغيير سلطة الأسد الطاغية الفاسدة، ويُدهشون أكثر لليد الأميركية التي لا تزال تتشبث باليد الروسية في استمرارها لصيقة بيد الوقح الحاقد، لافروف، بعد أن لونته أوصاف السيد الروسي بتلك الصفات! ويستمرون في محاولة فك ألغاز التباعد الروسي في كل مكان من الكرة الأرضية، والتقارب في سوريتهم فقط. أدار السوريون ظهورهم منذ زمن لرقصة التانغو تلك، ولم يعودوا شهوداً لها أو عليها ولم تعد تعنيهم موسيقاها القديمة الهادئة، أو الجديدة الصاخبة. أنزلت كوارثهم، منذ زمن، الستار، وباتوا يرقصون ألماً في مأساتهم ...وستارهم دماؤهم فقط، فهل سيشعر الكومبارس والمصفقون والعازفون بأن عليهم أن ينتهوا من كل ما هم فيه، ملَّت الشعوب من رقصهم، ولا تنتظر منهم إلا ما هو أسوأ. وقد بدأت آذانها تستجيب لطبول الأدغال، كي ترقص على وقعها، فلربما ستجد في وحوش الغابة من يملك إنسانيةً أكثر من راقصي "التانغو" المنافقين.

اقرأ المزيد
٣٠ يوليو ٢٠١٦
من الغرق في كابول إلى العَوم في دمشق

لم تمضِ إلا بعض ساعات على إعلان السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتينبرغ، أن «الحلف لا يعتبر روسيا حليفاً استراتيجياً، إلا أنه ليس في حالة حرب باردة معها»، حتى أسرع الرئيس الأسبق، ميخائيل غورباتشوف في التصريح بأن «الحلف الأطلسي يعد العدّة لحرب ساخنة جديدة تخلف الحرب الباردة». تناقض التصريحين السابقين قد لا يشي بنوايا طيبة في كلا المعسكرين، إلا أنه لا ينمّ على كل حال عن احتمال مواجهة حقيقية قد تصل إلى حرب ساخنة، كما أراد غورباتشوف تصويرها، ولو كان الأمر يصل إلى حد الاصطدام الــعسكــري لحدث في مناسبات استفزازية عدة تعمّدت فيها روسيا ليّ ذراع عُصْبة الأطلسي أو إثارة حفيظته في أبسط الأحوال، ابتداءً باحتلالها وضمّها لشبه جزيرة القرم، مروراً بهجوم الانفصاليين الموالين لموسكو على شرق أوكرانيا في ربيع 2014، وصولاً إلى تحليق متكرّر واستفزازي لطائرات روسية فوق سفن حربية للجيش الأميركي في بحر البلطيق.

من نافلة القول إن الموقف الرخو للحلف الأطلسي، على رغم الزخم الإعلامي الذي يروّج عن خطوات صعبة اتخذها الحلف ضد موسكو التي سبق أن ابتلعت جزيرة القرم بين ليلة وضحاها، ثم تمادت في أطماعها التوسعية إلى سورية لتبني قاعدتها العسكرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط على الساحل السوري إثر قاعدة البحر الأسود في الجزيرة المحتلة، ذاك الموقف الرخو اخترقته المستشارة الألمانية في تصريحات استباقية قبيل انعقاد قمة الأطلسي، أمام البرلمان الألماني، قالت: «إن سلوك روسيا خلال الأزمة الأوكرانية زعزع حلفاءنا في الشرق إلى حد كبير، فعندما يتم التشكيك بحرمة الحدود وسيادة القانون، فإن الثقة تتراجع».

غياب الثقة بين الأطلسي وروسيا ليس سبباً كافياً ليتمّ الإعلان عن نشر أربع كتائب متعددة الجنسيات في دول البلطيق وبولندا بمحازاة الحدود الروسية مباشرة؛ إلا أن دول الحلف أصبحت تستشعر الخطر الذي يحمله الحلم القيصري التوسعي لفلاديمير بوتين في جولته الجديدة التي قضم فيها جزيرة جارة، وعرّج بجنوده المجنّدة على سورية ليتابع مطامحه في العودة إلى سدّة زعامة العالم من بوابة الحروب المحدودة، لكن الاستثنائية في زمانها ومكانها وأهدافها غير المعلنة. فالمادة الخامسة من معاهدة الناتو، والتي تتعلق بالدفاع المشترك وواجب دول الحلف صد العدوان عن الدول الأعضاء، يتم تفعيلها اليوم من أجل طمأنة الحلفاء في أوروبا الشرقية بأنهم يتمتعون بحماية المظلة الأطلسية من خطر النوايا المبيّتة لموسكو إثر تضخيم عديدها ومقاتليها في غرب الأراضي الروسية.

هذا هو الحال على الحدود الروسية مع دول أوروبا المشرقية، أما إلى الجنوب، وتحديداً في الوجع الحقيقي للروس (السوفيات) المندحرين من أفغانستان، فقد قرر مؤتمر الحلف تمديد مهمة بعثته هناك للعام 2017 والإبقاء على تواجده في أفغانستان بمعدل 12 ألف عنصر. وليست أفغانستان إلا الصورة القديمة الجديدة للصدام بين المعسكرين الشرقي والغربي الذي أدى إلى الغزو العسكري السوفياتي فيها عام 1979، بحجة معاهدة الصداقة والتعاون بين كابول وموسكو، من أجل دحر المعارضة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية وباكستان وبريطانيا في ذلك الوقت.

وأكثر ما يخشاه الأطلسيون الجدد هو أن تتكرر لعبة الأطماع السوفياتية الشيوعية البائدة لليونيد بريجنيف لتجد لها موضعاً في العهد الروسي القيصري الجديد لفلاديمير بوتين، على اختلاف المرحلتين في عقيدتهما السياسية لكن باشتراكهما في الأهداف التوسعية، وأن يكون السيناريو الذي أعدّته موسكو لسورية مشابهاً للذي كان لأفغانستان. فالظروف السياسية متقاربة في الحالتين السورية والأفغانية من حيث التدخل الروسي بالسلاح الكامل والثقيل في البلدين وتحت العنوان نفسه و «بطلب من الحكومة الشرعية». وهناك أوجه تشابه أخرى بين الحالتين منها دعم الولايات المتحدة والسعودية للمعارضة السورية في كفاحها الشرعي والعادل الذي يوازي دعمها في السابق للمعارضة الأفغانية ضد الهيمنة السوفياتية، ثم الاحتلال المباشر للبلاد.

فصل المقال يكمن في الموقف الأطلسي الذي ما زال يفتقر إلى المزيد من التمكين، والتفعيل، والتوصيف الواقعي لحجم الأزمة المشتعلة على شواطئ المتوسط، استعداداً لمواجهة الغطرسة الروسية وانتشارها في غير دولة من العالم، الانتشار الذي تحوّل إلى احتلالات حقيقية تمارس فيها قواها العسكرية كل أشكال العنف والتنكيل ضد المدنيين العزل كما هو الحال في سورية. وليس الحوار المرتقب لـ «مجلس الأطلسي - روسيا» بُعيد قمة وارسو سوى قفزة أخرى إلى الوراء لن تخدم قضايا السلام والاستقرار الدوليين، كما يراد بها، بالقدر الذي ستقوي من عضد روسيا وتزيد من كتلة غطرستها في الوقت الذي يزداد الزندُ الأطلسي ارتخاءً. وبينما كان النصيب السوفياتي الغرق ثم الهزيمة في كابول، ربما سيكون القيصر الجديد أكثر حظاً في السباحة والعوم في بحر الدم السوري بغيابٍ مقلق للإرادة السياسية والقوة الرادعة من طرف المعسكر الأطلسي.

اقرأ المزيد
٣٠ يوليو ٢٠١٦
بوتين ومصير الأسد!

الوقائع الميدانية على الأرض في سوريا وتحديدًا في حلب تناقض تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري المتفائلة، التي أطلقها يوم الثلاثاء الماضي، بعد محادثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، ثم مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في فينتيان عاصمة لاوس، عندما تحدث عن أمله في إحراز تقدم للتوصل إلى حل دبلوماسي في سوريا في بداية أغسطس (آب).

في بداية أغسطس.. الآن؟

بينما تواصل نيران القصف السوري وبراميله المتفجرة تدمير ما تبقى من حلب حيث سُويت ستة مستشفيات بالأرض، مع وصول تصريحات المستر كيري!

كان من المثير أن يبدو المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا أكثر تحفظًا، عندما أبدى حرصه على عدم تحديد موعد لاستئناف المفاوضات، قبل العودة إلى القرار الأممي رقم 2268 والالتزام الفعلي بما نص عليه من وقف الأعمال العدائية وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين، وهو ما لم يلتزم به النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس، ولهذا قال إنه يأمل بإمكان العودة إلى المفاوضات في جنيف في آخر شهر أغسطس.

لكن للنظام السوري روزنامة أخرى انطلاقًا من حلب تحديدًا؛ ففي حين نقلت الوكالات تصريحات كيري ودي ميستورا عن العودة إلى جنيف، كان الجيش السوري بعد سيطرته على حي الليرمون في شمال غربي حلب، وتشديده الحصار على الأحياء التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، يوجّه الرسائل إلى سكان شرق المدينة، واعدًا بتأمين ممر آمن للراغبين في مغادرة المنطقة، بما يعني ضمنًا أن الرهان على وقف الأعمال العدائية مجرد افتراضات واهمة عند الأميركيين.

والدليل أنه عندما أعلن النظام السوري يوم الأحد الماضي أنه مستعد لاستئناف المفاوضات دون شروط مسبقة ودون تدخل خارجي، وأنه عازم على التوصل إلى حل سياسي للصراع، بدا من جهة أنه يتعمّد تقديم ورقة ضغط لسيرغي لافروف في مفاوضاته مع كيري، ومن جهة ثانية يحاول إظهار رغبته في حل سياسي لكنه يمضي في الحل العسكري مدعومًا من حلفائه.

تكرار رفضه أي شروط مسبقة وأي تدخل خارجي في المفاوضات، يؤكد أنه يتمسك بالصيغة الروسية التي نسفت روح مؤتمر «جنيف 1» لجهة تعمية أي ترجمة تتصل بعملية الانتقال السياسي، التي يفترض أن تضع موعدًا لخروج الأسد من السلطة، وهي العقدة التي تدمر سوريا منذ بداية الحرب قبل خمسة أعوام، على وقع البدايات التي رفعت شعار «الأسد أو نحرق البلد»!

المعارضة السورية ردت سريعًا على عرض النظام التفاوض دون شروط مسبقة بالقول إنها لا تثق به، ليس لأنه أفشل كل الموفدين الدوليين وكل مساعي الحلول وكل جولات التفاوض في جنيف فحسب، بل لأن من الواضح أنه مع حلفائه الروس والإيرانيين، يسعى إلى إحداث تغيير شامل لموازين القوى على الأرض من خلال القصف المكثّف على حلب قبل التوصل إلى حل سياسي يريده وفق رؤيته وشروطه، أي إنه يريد أن تتم عملية التحوّل السياسي تحت مظلته، وتحديدًا عبر إعطاء المعارضة التي يديرها، حصة شكلية في حكومة يطلق عليها اسم حكومة وحدة وطنية، بينما لن تقبل المعارضة بأقل من رحيله في بداية المرحلة الانتقالية! العقدة «الأبدية» التي تتصل بمصير الأسد وموعد خروجه من السلطة أو بقائه فيها ولو مرحليًا، لا تزال غامضة تمامًا، وهو ما أطلق شكوكًا مبكّرة حول إمكان إحراز أي تقدم في المفاوضات المقبلة التي تحدث عنها كيري ودي ميستورا، رغم أن بعض التقارير الصحافية التي وردت بعد محادثات كيري مع بوتين ولافروف في موسكو، ذكرت أن هناك مؤشرات على قرب توصل واشنطن وموسكو إلى تفاهم يحدد مصير الأسد، وأن وضعيته باتت على درجة من الحساسية، وأن هناك تفاهمًا ضمنيًا لن يعلن قبل بدء التفاوض، على ضرورة نزع صلاحياته بعد فترة قصيرة من بدء المرحلة الانتقالية.

في سياق الحديث المتواتر عن هذا التفاهم يندرج مثلاً الإعلان يوم الأربعاء الماضي عن أن وزارتي الدفاع الأميركية والروسية ناقشتا في دائرة تلفزيونية مغلقة أمن الطيران في الأجواء السورية، وأن المحادثات الثلاثية في جنيف بين دي ميستورا ومايكل راتني السفير الأميركي المعيّن في دمشق، ونائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف، ركزت على تفعيل تحرك فريق العمل الخاص بوقف القتال بهدف إحراز تقدم على جبهة مدينة حلب الأكثر اشتعالاً، حيث دمّر الطيران السوري ستة مستشفيات!

في أي حال بدت شحنة التفاؤل عند كيري مبالغًا فيها عندما أبلغ الصحافيين على هامش مؤتمر دول جنوب شرقي آسيا (آسيان)، بأنه يأمل أن يتمكن في مطلع أغسطس «أن نقف أمامكم ونقول لكم ما يمكننا القيام به، مع الأمل في أن يحدِث ذلك فرقًا للشعب السوري وفي مجرى الحرب»، ولكن عندما يضيف قوله «إن الجميع يعرفون أننا نسعى إلى تثبيت وقف الأعمال القتالية، وإيجاد إطار يسمح لنا بالجلوس إلى الطاولة وإجراء مفاوضات حقيقية لإحراز تقدم»، فإنه سيحتاج إلى صدقية روسية هذه المرة في مجال «التعاون المتزايد والتدابير الملموسة» اللذين أشار إليهما، لناحية ممارسة موسكو ضغطًا حقيقيًا على الأسد وحلفائه للالتزام بالقرار 2268، الذي يسمح فعلاً بالعودة إلى طاولة جنيف.

المثير أن كيري كان يتحدث على موجة العودة إلى التفاوض في جنيف بعد وقف للعمليات الحربية، آملاً في إعلان تفاصيل «خطة أميركية للتعاون العسكري الوثيق مع روسيا في شأن سوريا وعن تبادل المعلومات بين الطرفين»، بينما كان الروس يتحدثون على موجة أخرى، وهي الإيحاء برضوخ واشنطن أخيرًا لمطلبهم، الذي حضّ واشنطن دائمًا على قبول هذا التعاون العسكري لكنها كانت ترفض!

على أساس كل هذا وفي ضوء التناقض بين الوضع الميداني الملتهب والتصريحات الأميركية المتفائلة، ليس كثيرًا أن تتسع حلقة التشاؤم عند المعارضة السورية التي تتراجع ميدانيًا في حلب وتعرف جيدًا أن ما لم تحصل عليه في جنيف عندما كانت قواتها على تخوم اللاذقية لن تحصل عليه الآن.

لهذا فإن مهمة دي ميستورا ستستمر في المراوحة عند مقولة «يا حصرمًا رأيته في حلب»، باعتبار أنه بدأ عمله كمندوب أممي في يوليو (تموز) من عام 2014 حاملاً خريطة حلب وداعيًا إلى وقف متدرّج للنار يبدأ منها، لكن الطيران الروسي والسوري جعلا من حلب ستالينغراد الجديدة، والآن عندما يكون باراك أوباما الذي سلم الملف السوري لبوتين، منصرفًا إلى حزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض، فلماذا يقدم الروس رأس الأسد ثمنًا لحل باتوا يتفرّدون بفرضه وفق روزنامتهم المتشعبة من سوريا إلى أوكرانيا؟

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان