في داريا هذه الأيام تتجلى فوق داريا غمامة لا يمكن لأحد أن يصفها هي غمامة عبقت بمسك الشهداء وعنبرهم وفاح طيب أرواحهم على الدنيا.
يستشهد الشاب في مدينتي لا تعلم الأمة جمعاء خطورة من تفقد وخطورة من يرحل عنها
يرحل عنها من كان حاملا لوائها مدافعا عن رفعتها وعزتها
يرحل من يركض وراء حرية أمة أنهكها التعب ورضيت الذل والهوان ولم تنقذ من يموت لأجلها
ولكن هذا الشهيد لم يلتفت للخذلان وقرر أن يبقى على مبدأه وأن يعمل ما يرضي ربه
يستشهد من في داريا وقد ترك دراسته ومشروع تخرجه وجامعته ليلتحق بساحات الوغى ومثال واضح لذلك الشهيدين المهندسين محمد أبو أحمد وعمر أبو أنس وكالشهيد عدي أبي يزن الذي ترك دراسته ليكون قائدا شجاعا تشهد له الجبهات بصبره ومقارعته للظلم
ويترك شهيد آخر عمله ليلبي نداء مدينته ويدافع عنها كالشهيد عامر أبو عارف الذي تشهد له كل داريا وكل ذرة تراب فيها ببطولاته ولا تنسى الثورة روحها فيه وأنه أيقونة داريا ورمزها.
لأي مكن لأحد أن يصف شهيدا من داريا ولا يمكن لوصف أن ينصفه
علم طريقه ومشى فيها ونعمت الطريق ونعمت النهاية
يبقى وراء الشهيد ثلة من رفقائه الذين قضوا معه حياتهم ببؤسها وشقاوتها وفرحها يصدمهم خبر استشهاده ولكن يعصبون رؤوسهم بالعزم والإقدام على اللحاق به
لا يريدون اللحاق به مللا من الحياة أو هروبا من واقع مؤلم ولكن لما يعلمون من سعادة هذه الخاتمة
يعتبرون ان الأجر الجزيل من الله عز وجل على جهادهم هو السعادة يتنعمون فيها بجنان الخلد قريبا من أصحابهم وأحبابهم في الدنيا.
ولسان حال مجاهد يجلس الآن عند قبر صديقه الشهيد قائلا يا صديقي (إلى لقاء تحت ظل عدالة قدسية الأحكام والميزان )
رحماك ربي بداريا وأهلها ورحماك ربي فيما بقي وفيمن بقي .
ثمة أسئلة جديرة بأن تطرح، فيما يتعلق بالضجة المثارة حول خطوة العلاقات العامة التي قامت بها جبهة النصرة بإعلانها فك ارتباطها بـ»القاعدة».
تعالوا نبدأ بالتساؤل حول طبيعة ارتباط النصرة التنظيمي بـ»القاعدة»، فمن ضمن ما جاء في بيان النصرة أنه لم يعد لديها ارتباط بـ»جهة خارجية».
وبعيدا عن مناقشة توصيف الجهة الخارجية، هل يصح إطلاقها على علاقات تنظيم ديني عابر للحدود بمرجعيته، دعونا نتساءل من الناحية الحركية والتنظيمية، هل حقا كان لقيادة «القاعدة» في أفغانستان أي دور فاعل ومؤثر في قيادة النصرة داخل ســــوريا؟ الإجابة قطــــعا لا، فالنصرة تقاد كليا من إدارة محلية تتبع للجولاني، وكل محافظة لها قيادتها الخاصة، وكل القرارات العسكرية والحركية تتخذ إما من قيادات القواطع بالإمارات والمحافظات، أو من رأس الهرم في إدلب في أقصى حد، عدا عن أن نعرف أن فروعا للنصرة كالقلمون حيث ابو مالك التل، ظلت تتمتع بهامش كبير من الصلاحيات، وتتأثر بانتماءات عناصرها في كل محافظة، كما يحدث مثلا عندما تهيمن مجموعات من قبيلة الشعيطات على التنظيم في ريف حلب الجنوبي مثلا.
هل كانت النصرة تتلقى أموالا ودعما من «القاعدة» في افغانستان؟ أيضا لا، ولنكن دقيقين، فإن الأموال التي يمكن أن تكون النصرة قد حصلت عليها من خلال علاقاتها بشخصيات ثرية مرتبطة بـ»القاعدة» لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من حجم الاموال التي تحصل عليها النصرة من مواردها المحلية المختلفة في سوريا.
فإذا كان جل القرار السياسي والعسكري يتخذ داخليا، اذن ما هو الارتباط الفعلي الذي كان قائما مع «القاعدة»؟
يبدو أن هذ الارتباط لم يكن سوى غطاء شرعي يبرر للنصرة انفصالها عن تنظيم الدولة لا أكثر، وعندما خف لهيب المعركة مع تنظيم الدولة وتباعدت الجبهات، أصبح بالامكان التخلص من عباءة الشرعية القاعدية تنظيميا على الأقل، بينما ظلت المنطلقات الفكرية لـ»جبهة فتح الشام»، وهو الاسم الجديد للنصرة، نفسها منطلقات القاعدة الفكرية، وهو ما أعلن بالميثاق الذي نشرته، والذي ينص على الاعتماد على فهم السلف وتحكيم الشرع، إلى آخره من ادبيات السلفية الجهادية.
التساؤل الثاني، هو عن مدى نجاعة هذه الخطوة التي لا تعدو «إعلان علاقات عامة»، فاذا كان المرتجى منها هو تجنيب النصرة عداءات في الساحة السورية، فإن الاطراف التي تقود العمل العسكري ضد المعارضة، ابتداء من النظام حتى ايران وروسيا، لا يعنيها أبدا التصنيفات الفكرية، بل تهاجم أي قوة مسلحة تقاوم سلطة النظام السوري، ومنذ بداية الثورة كانت معظم العمليات العسكرية المدمرة في مناطق لا توجد فيها النصرة، بل مجموعات توصف بالمعتدلة، أما إذا كان الهدف مخاطبة القوى الغربية والدول الحليفة لها الداعمة للمعارضة السورية كقطر والسعودية وتركيا، فماذا تملك الدول الغربية من أوراق قوة في الداخل السوري أصلا؟ إذا كانت على مدى الخمس السنوات الماضية فشلت في نصرة حلفائها من الجيش الحر وغيره من الفصائل التي تكاد تكون اندثرت امام تصاعد قوة الجماعات الجهادية غير المرتبطة بها، كالدولة والنصرة وجند الأقصى وبقايا أحرار الشام.
ومتى كان الغرب أو الولايات المتحدة يهمها الانتماء الايديولوجي، فصدام حسين هوجم واحتلت بلاده وهو ليس اسلاميا، وحماس مصنفة كمنظمة ارهابية بالنسبة لامريكا وهي ليست قاعدة ولا متطرفة، بل منتخبة ديمقراطيا، وعبد الناصر عاداه الغرب وهاجمه وهو ليس إسلاميا، والاتحاد السوفييتي الشيوعي كان العدو الأبرز للولايات المتحدة، واذا كان من يظن أن الطرح السلفي هو سبب العداء فهو مخطئ ايضا، فالسعودية تطبق كل مظاهر حكم الشرع من قطع رؤوس وجلد في الساحات العامة وتضييق حريات النساء، ومع ذلك فهي حليفة للولايات المتحدة، ببساطة القضية تتعلق بكونك مواليا للمنظومة الغربية أو لا، بغض النظر عن توجهك الايديولوجي، وكلما كانت المجموعة المسلحة أو الكيان السياسي متمردا على سياسيات الغرب والولايات المتحدة في المنطقة، سيعتبر خطرا ليس على تلك الدول، بل على حلفائهم في المنطقة، من أنظمة ومصالح، وفي جميع الأحوال، فإنه لا يمكن لثوار سوريا والعراق السنة أن يكونوا حلفاء للولايات المتحدة وينجحوا في الوقت نفسه في مجابهة إيران التي قام مشروعها أصلا على بناء قوة تحد لمشروع الولايات المتحدة ونجح بالنهاية في فرض نفسه.
وعندما تنظر للمنطقة تجد أن أكثر الدول والفصائل المسلحة السنية التي كانت مقربة من الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، هي الخاسر الاكبر سواء في العراق أو سوريا أو اليمن، فلماذا الإصرار على ارضاء الولايات المتحدة؟ ببساطة أنها عقول محتلة، لا تستطيع التفكير بمرجعية مستقلة، من دون البحث عن مرشد كبير يقودها، ويقود تفكيرها في تحديد ما هي المصلحة وما هو الإرهاب وما هي المعايير التي يجب تحقيقها لمواجهة تحديات المرحلة.
لعل الطريف هنا، أن الجماعات المرتبطة بامريكا والانظمة العربية هي من يفترض بها فك ارتباطها بتلك الدول، بعدما تبين أن هذا الحلف خاسر في سوريا، بينما الحلف المقابل يحقق تقدما سياسيا وعسكريا، رغم أنه الحلف المعادي للغرب على مدى السنوات الماضية، ولم يفكر اعضاؤه يوما بفك الارتباط بمنظومة الولي الفقيه الايراني.
"أعتقد أن بوتين يدرك أنه في ضوء كون أفغانستان لا تزال حاضرة في ذهنه فإن الخوض في مستنقع صراع أهلي غير حاسم ليس النتيجة التي يتطلع إليها"، يبدو أن في هذه الكلمات التي قالها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في نهاية العام الماضي و بعد أشهر على بدأ العمليات العسكرية في سوريا ، ليس عبارة عن كلمات في الهواء ، إذ في التصريح ذاته كان هناك ثقة لدى أوباما بانضمام روسيا للتحالف الدولي ضد داعش ، و لكنه أتبعها بتحذيرات تذكر بالكابوس "الأفغاني".
المشهد مختلف تماماً بين أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي و سوريا في الوقت الراهن ، هذا الاختلاف الوقتي و العملي لم يغير كثيراً في بنية الصراع بين روسيا و أمريكا ، اذ لم يشهد صداماً مباشراً، بل كان هناك ساحات شهدت صدامات غير مباشرة عبر أدوات يتم تجهيزها لهذه الغاية .
منعاً للإطالة و دخول في صلب الموضوع ، فنحن اليوم نقف على أعتاب مرحلة جديدة من الصراع الأمريكي الروسي، هذه المرحلة التي يتحضر لها الطرفان بإيجابياتها و سلبياتها، و يضعون بدلاً عن الخطة الواحدة خططاً عديدة، فالخطة السياسية التي تبدأ بداية الشهر المقبل يبدو أن حظوظ نجاحها ضعيفة لانعدام الثقة بين الطرفين ، و ماهي إلا مناورة لاستكمال كل طرف تحضيراتها للانتقال للمرحلة القادمة، و التي ستكون حرب من نوع آخر، و تشبه تلك التي حدثت في الثمانينيات القرن الماضي في أفغانستان.
و طبعا الاختلاف الزماني بين المعركتين (أفغانستان – سوريا) ، يتطلب تغير بالمسميات وإنشاء كيانات أكثر قدرة على الحركة و التأقلم مع المحيط المتغير (جيوسياسي – عسكري- تقني) ، و توليد قيادات جديدة من النوع الجذاب (عمرياً- شكلاً – فكراً) ، فاليوم نحن أمام مرحلة نسخ القاعدة بالشكل الذي وصلت إليه مع أيمن الظواهري، و ما رافقها من ترهل و ضعف ، وانطلاق "قاعدة" جديدة تماماً بوجوه شابة تذكرنا بشهر آب من عام ١٩٨٨ عندما خرج أسامة بن لادن ليقول للعالم أن هناك راية شاملة للجهاد الإسلامي قد ولدت و ستبدأ عملها في أفغانستان لتحريرها من الماركسيين الملحدين ، وذات الأمر فعل بالأمس "الجولاني" و حدد الأهداف بالشام كهدف مرحلي و أبقى الأهداف الأخرى لمرحلة متقدمة.
إذاً التطورات المتسارعة و شراهة الروس في قضم المناطق لصالح الأسد، ولاسيما حلب، لن يكون بلا رد فعل ، فالخطة تقضي بإيجاد تشكيل عام و شامل يحظى بقبول نسبي لدى الدول ،والأهم يمكِّن الدول الأخرى من تقديم الدعم له دون حاجة للرهبة من الإرهاب ، يتزامن ذلك مع تأسيس كيانات سياسية ظاهرية كـ"طالبان" على سبيل المثال، و كل ذلك سيسير وفق عملية الانتقام من روسيا ، و كسر شوكتها ، وعدم تمكينها من الخروج منتصرة، فهذا يعني انتهاء سلطات أمريكا الغير محدودة ، وتتحول لشريك في إدارة العالم الأمر الغير مناسب لنهج و أفكار أمريكا.
الوضع السوري المأساوي، وازدياد عدد القتلى اليومي، وارتفاع وتيرة التدمير، وتنوع أساليب القتل الوحشي، أحوال تشير إلى أن الطرفين الرئيسيين القادرين على فرض الحل، ووضع نهايةٍ للحرب السورية، لم يتوصلا إلى اتفاقٍ لتقاسم المصالح بعد.
لا يخفى على أحدٍ أن تحوُّل الثورة السورية التي اندلعت سلميةً ضد طغيان عائلة الأسد وفسادها واستبدادها، وكذا المافيا الأمنية الاقتصادية التي تقودها إلى حربٍ طاحنةٍ، تكاد تودي بسورية وشعبها، كان نتاج مصالح إقليمية ودولية متناقضة، وليس نتاج رغبة الشعب السوري في الدمار والموت، على الرغم مما تتحمله المعارضة السورية من مسؤوليةٍ عمّا حصل نتيجة سذاجتها السياسية، وافتقادها الخبرة الكافية لمواجهة قضيةٍ بهذا العمق والتعقيد.
الطرفان الرئيسيان في الصراع على سورية اليوم هما، من دون منازع، روسيا والولايات المتحدة الأميركية، حيث تخوض روسيا وحليفها الإيراني الحرب السورية بشكل مباشر، ضمن تحالف عسكري يضم إيران وحرسها الثوري والمليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية التابعة لها، قواتٍ تقاتل على الأرض (نتيجة افتقاد مافيا الأسد قواتٍ بريةً ودعماً شعبياً كافياً)، وروسيا التي تقدّم التغطية الجوية، بينما تحاول الولايات المتحدة التحكّم في موازين القوى بين الحلف الإيراني الروسي وقوات المعارضة المسلحة الكثيرة والمتعدّدة الولاءات، من خلال التحكّم في تسليح هذه القوات وتمويلها، عبر حلفائها في المنطقة.
أصبح واضحاً للجميع مدى تضاؤل دور السوريين في الطرفين في هذه الحرب، وانتقال القرار، في استمرارها أو وقفها، إلى الجانبين، الروسي والأميركي، حيث أصبحت المحادثات والمشاورات حول سورية تجري بينهما، بالتشاور مع حلفاء دوليين وإقليميين لكل منهما، من دون أي وجودٍ للسوريين، سواء من نظام مافيا الأسد أو من المعارضة، تلك المحادثات التي يبدو أنها مفاوضاتٌ حول ملفاتٍ متعدّدة، عالقة بين الطرفين، تشكل سورية أحدها، وليست الملف الوحيد. ومع ذلك، سيتطلب أي حل سياسي في سورية، بالضرورة، توافقاً دولياً، طرفاه الرئيسيان هما الولايات المتحدة وروسيا، الأمر الذي لا يبدو قريباً، على الرغم من الاجتماعات المتكرّرة بينهما، فالإدارة الأميركية التي تحزم حقائبها استعداداً للرحيل ليست في عجلة من أمرها، بل تفضّل نقل الملف، كما هو، إلى الإدارة القادمة، بينما يعتقد الروس أن الأمور عسكرياً تسير لمصلحتهم ومصلحة حلفائهم، على الرغم من تفضيلهم التوصل إلى حلٍّ مع هذه الإدارة، وليس مع خليفتها، خوفاً من التورّط تدريجياً بحرب برية أيضاً بشكل يذكّر بالتورط السوفييتي في أفغانستان.
صاحب المصلحة الوحيد في حلٍّ سريع ينقذ مصيره ومصير وطنه هو الشعب السوري، لكنه، مع الأسف، لا يملك أوراقاً كافية، تجعله قادراً على تسريع عملية التوصل إلى حلٍّ كهذا. لكن، ما الذي على السوريين فعله، لكي يسهموا في حل ينهي مأساتهم؟
على جميع الوطنيين السوريين البدء، وبسرعة، بدراسة واقعية لحال وطنهم وقضيتهم، واختيار أفضل الحلول الممكنة (أو أقلها سوءاً)، والعمل على محاولة إقناع أنفسهم، أولاً، بها، ثم محاولة جمع أكبر عدد من السوريين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والقومية حولها، ومن ثم البدء بطرحها والتفاوض حولها مع القوى الدولية الرئيسية (روسيا والولايات المتحدة) وحشد ما أمكن من دعم شعبي و إقليمي لإقناعهما بجدواها.
هناك أمران أساسيان على الوطنيين السوريين أخذهما بالاعتبار عند التفكير في أي حل، هما: أولاً، ليس ممكناً إنجاز حل سياسي قابل للتنفيذ في سورية، من دون وضع جدول زمني مضمون التنفيذ، لرحيل بشار الأسد والمافيا الأمنية الاقتصادية التي يقودها، فبعد كل ما ارتكبت هذه المافيا من جرائم، فإن مجرد بقائها في الحياة السياسية (المقصود المافيا الحاكمة والمحدودة العدد، وليس "البعث" حزباً) سيجعل سوريين كثيرين جداً غير مطمئنين، وسيجعل بعض اليائسين والخائفين منهم عرضةً لاستغلال التنظيمات التكفيرية والفكر الطائفي، وبعض الدول التي لا مصلحة لها في استقرار سورية، ولا في دمقرطة نظامها السياسي.
ثانياً، المعارضة السياسية فاقدة الحول والقوة، كما أنه من غير الممكن أن تكون المعارضة المسلحة ذات الصبغة الإسلامية، المتشرذمة والمصطدمة فيما بينها أحياناً، بديلاً مقبولاً لا سورياً ولا إقليمياً ولا دولياً، والإصرار على طرحها بديلاً لمافيا الأسد لن يؤدي إلى تسهيل رحيل مافيا الأسد عن رقاب السوريين، بسبب انعدام ثقة شريحة واسعة جداً من السوريين بها.
لذلك كله، لابد من مرحلٍة انتقاليةٍ تقودها مجموعة حيادية (مجلس عسكري مؤقت، حكومة تكنوقراط......إلخ) قادرة على طمأنة جميع السوريين على مصيرهم ومستقبلهم، وتحظى بدعم شعبي ومساندة دولية، تمكّنها من توحيد الغالبية العظمى من السوريين ضد القوى الرافضة للديمقراطية، سواء كانت هذه هي قوى الاستبداد لمافيا الأسد وداعميها، أو تنظيمات محلية متطرفة أو قوى إقليمية راغبة بالهيمنة على سورية، من خلال السعي إلى فرض نظام سياسي يناسبها.
إن مرحلة انتقالية بضماناتٍ دوليةٍ تقنع السوريين بأنها مؤقتة فعلا، وأنها ستنتهي بالمدى المتوسط (حد أقصى ثلاث سنوات) بانتخابات حرّة تمكّنهم من اختيار شكل دولتهم ونظامهم السياسي الذي يضمن مساواتهم بالحقوق والواجبات، من دون أي تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء العرقي، ستكون إنقاذاً لسورية دولة موحدةً ومستقرةً ومتصالحةً مع جيرانها ضمن حدودها الدولية المعترف بها، وستحظى برضى أغلبية السوريين وتوحدهم ضد التنظيمات التكفيرية، وتجعلهم جزءاً فاعلاً من الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب.
أي حلول مطروحة لا تؤدي إلى هذه النتيجة لن تكون أكثر من إطالةٍ لمأساة السوريين، وتعميق للتهديد الموجّه إلى وحدة سورية واستقرار المنطقة.
انتهت جميع المُهل والمماطلات الممكنة لتأخير تنفيذ قرار إنهاء الأزمة السورية، المُتخذ باجتماع فيينا منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، واقترب يوم المباشرة بالتنفيذ كثيراً. ولم يعد لدى الأطراف الدولية الشريكة بالأزمة السورية أي وقت لتغيير الموازين، فالحصاد تم، ووقت الرجاد حان، وسيقوم الجميع برجد حصاده إلى البيدر استعداداً لتحديد الحصص وفق الغلال. ولن تكون مهمةً بعد اليوم الحسابات التي اعتُمدت خلال سنوات الصراع، فحسابات الحقل، كما هو معروف، لا تُعتمد في البيدر. فالحساب الوحيد الذي سيتم اعتماده بين وزيري خارجية روسيا وأميركا هو حساب البيدر الحالي فقط.
لم يعد لدى الإدارة الأميركية، صاحبة مشروع إنهاء الأزمة السورية المندرج كأحد بنود مشروع القضاء على داعش، الذي اعتمدته فور هجمات باريس يوم ١٣ تشرين الثاني الماضي، سوى ثلاثة أشهر للانتخابات الرئاسية. ويتوجب عليها في هذه الفترة القصيرة تقديم إنجاز خارجي يدعم هيلاري كلينتون، المرشحة الديموقراطية لهذه الانتخابات. هذا فضلاً عن حاجة الرئيس أوباما إلى أن يحقق تقدّماً في حربه التي بدأها على داعش منذ قرابة السنتين ليغطي على ما أظهره التنظيم من قدرة على الوصول إلى غير بلد أوروبي، فضلاً عن تركيا وأغلب دول المنطقة. ولا يكفي الرئيس الأميركي تحقيق ذلك على الأراضي العراقية، على قلة الانتصارات هناك، بل يحتاج إلى تحقيق تقدم في سورية أيضاً. لكنه لا يستطيع ذلك بالقوات الكردية فقط المحصورة في مناطقها، فهو يحتاج إلى قوات عربية يمكن الاعتماد عليها، وبالتالي فهو يحتاج إلى إنجاز تسوية في سورية تتيح إمكان تعاون بين قوات النظام ومجموعات المعارضة «المعتدلة» لمباشرة معركة القضاء على داعش.
إضافة إلى الزمن الأميركي الضيق فإن اعتذار الرئيس التركي من موسكو عن إسقاط القاذفة الروسية في تشرين ثاني الماضي يساهم كثيراً بإنهاء المناكفات الروسية - التركية، بل من المحتمل أن نشهد إنهاء إشكاليات منطقة حلب وإدلب بعيد اجتماع الرئيسين الروسي والتركي المقبل. بل من المتوقع أن ينجم عن هذا اللقاء تعاون مشترك أوسع بين الدولتين بما يتعلق بالأزمة السورية ناجم عن حاجة الدولتين إلى بعضهما. فتركيا تجد في روسيا الدولة الكبرى الوحيدة الصامتة عن إجراءات اجتثاث معارضي حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا قبل أيام. وذلك في مواجهة عدم الرضا الأوروبي والأميركي عن هذه الإجراءات، الذي يأتي ليزيد في فتور العلاقات الأميركية - التركية القائم منذ بعض الوقت، والذي ظهر بوضوح خلال مجريات معركة عين العرب (كوباني) قبل نحو السنتين. كذلك يزيد في فتور العلاقة بين تركيا وأوروبا التي ظهرت خلال المحادثات في موضوع اللاجئين.
روسيا بالمقابل تحتاج إلى تركيا لتُضعف أثر الاعتراض الأوروبي على دورها التنسيقي مع الولايات المتحدة. فقد حاولت بعض الدول الأوروبية، في مقدمتها بريطانيا وفرنسا، متعاونة ومستقوية ببعض الدول الإقليمية، كالسعودية وتركيا، الاعتراض على تهميش دورها من قبل الولايات المتحدة التي تقوم بتنسيق عال مع روسيا. فعقدت خلال الشهرين الماضيين اجتماعين أولهما في باريس وآخرهما في لندن قبل أيام، حيث أبدت رغبة متواضعة بألا يترشح بشار الأسد للانتخابات المقرّة في نهاية المرحلة الانتقالية، وفق قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤. متجاهلة بالمطلق مواقفها من موضوع الأسد خلال السنوات الخمس الماضية، بخاصة فرنسا التي كانت منذ ٢٠١١ تقول لنا بملء الفم: «رحيل الأسد شرط لبدء العملية السياسية»، ضاربة بعرض الحائط ما كنا نقوله: «يجب أن يكون رحيله نتيجة للعملية السياسية»، ظناً منا أن ذلك يمكن له أن ينجي البلاد من الخراب والدمار.
لا بد أن المصالحة الروسية التركية لعبت دوراً كبيراً في موضوع مشكلة جبهة النصرة، المشكلة التي كانت تعيق مفاوضات جنيف وفق اعتقادنا، خلال المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في زيارته إلى موسكو ولقائه الرئيس الروسي واجتماعه «النوعي» مع وزير الخارجية الروسي. هذا على رغم أنه لم يتم الإعلان عن نتائج هذا اللقاء وتم الاكتفاء بالتسريب المقصود لوثيقة اتفاق تقني روسي - أميركي، لأنه لا يجوز الإعلان عن محادثات بخصوص النصرة غير آليات القضاء عليها كونها مصنفة جهة إرهابية بالقرارات الأممية ذات الصلة. لكن أغلب الظن أن الاتفاق كان على من له الحق بالاستيلاء على مواقع النصرة بعد تصفيتها (وفق تسريبات) أو القضاء عليها.
من المفترض ألا تعنينا كسوريين العلاقة الروسية - التركية، ولا الإيرانية - السعودية، ولا غيرها من العلاقات أو الصراعات بين الدول، إلا ما يؤثر منها في أزمتنا في شكل مباشر. فليس لدينا أي نقص في المشكلات يجعلنا ندخل في لعبة الاصطفافات الدولية الرجراجة. فعندما نقول، أو نقرّ، بأن محصّلات الصراع في سورية تجعل من روسيا الرابح الأكبر في التصفيات الحالية، فلا يعني هذا ترحيباً بها، ولا يعني أيضاً اتهاماً لها. بل هو مجرد توصيف لواقع الحال في البلاد، واستدعاء لوضع آليات للتعامل مع الظرف الجديد.
فبالنظر إلى طبيعة العلاقة القائمة الآن بين موسكو ودمشق يبدو أنها باتت بحكم وصاية مُحكَمة من موسكو على دمشق تقارب وضعية انتداب غير مسمّى. وهذا يستدعي منا كسوريين، أن نعرف كيف علينا التعامل مع هذا الواقع بمسؤولية تترفع عن لوم روسيا واتهامها بالمحتل، وتُقلع عن العتب على النظام أو محاولة إثبات عدم أهليته لإدارة تحالفات دولية تحافظ على السيادة الوطنية. إذ من المعلوم أن جميع تجاربه مع الدول الأخرى أثبتت أنه لا يستطيع أن يقيم علاقات طبيعية أو ندية، مع أي دولة، لهذا نراه إما يعاديها ويسبّها أو يخضع لها تابعاً صاغراً، كحاله الآن مع إيران وكما كان حاله سابقاً مع قطر أو تركيا.
لهذا فإن تمسك موسكو بالرئيس الأسد ليس خدمةً له بل تثبيتاً لمكانتها الجديدة في سورية. هذه المكانة التي ترى أنها تخدمها جيداً في مساعيها لتأكيد تموضعها الدولي كدولة عظمى، وليس كدولة غنية من خلال مقايضة الرئيس الأسد بـ «حصة في الشرق الأوسط» تجعل منها «قوة أكبر بكثير بالمقارنة مع الاتحاد السوفياتي»، وفق عرض وزير الخارجية السعودي.
فإن صح اعتقادي بأننا ذاهبون خلال الأسابيع القليلة المقبلة إلى تسوية سياسية باتّة تنهي مرحلة الصراع العنفي المنفلش في سورية، لتنقلنا إلى مستوى آخر من الصراع لم تتبدّ مظاهره في شكل واضح بعد، فإن علينا أن نعرف كيف نستفيد من تجربتنا المريرة في السنوات الخمس الماضية. فإن كنا نحن من بدأ هذه الحرب بمحض غبائنا وجهلنا، وعجِزنا لاحقاً عن إنهائها، فلنقبل الآن، بمرارة، أننا لسنا نحن من يرتب مرحلتنا الانتقالية المقبلة، لكن علينا أن نعمل منذ الآن لنكون سادة خواتيمها
واشنطن وموسكو، تكثّفان جهودهما، للتوصل الى «تفاهمات» حول سوريا، تشكّل «رصيداً» مضموناً، للمرحلة القادمة التي تبدأ مع انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأميركية. في قلب هذا المسار، الاجتماعات الدائمة بين وزيري الخارجية جون كيري، وسيرغي لافروف، تركّز هذه المباحثات، على إنجاز اتفاق حول القضايا المتفق عليها، أو القابلة للاتفاق، وترك القضايا الخلافية الى مرحلة لاحقة.
«القيصر» فلاديمير بوتين، مطمئن الى أنه سيدير الملف السوري ضمن «سلة» ملفاته الكبرى، لأن لا منافس له الآن وغداً. لذلك يمكنه المناورة وتنفيذ خططه، وهو مطمئن بأنه قادر على ضبط حركاتها وكأنه يلعب «الشطرنج» حيث كل حركة مدروسة في خدمة «الملك». المهم بالنسبة له إضعاف خصومه وتقوية وجوده!
المشكلة عند الرئيس باراك أوباما. لم يبقَ أمامه أكثر من مائة يوم من السلطة الفعلية. بعدها تبدأ عملية التسلم والتسليم حتى تكتمل في مطلع كانون الثاني من العام المقبل. من حق الرئيس أن يعمل وكأن خليفته هيلاري كلينتون مرشحة «الحزب الديمقراطي«. كلينتون تعرف الملف السوري جيداً، لكن التعامل معه من موقع «الرئيس» مالك القرار، مختلف جداً عن موقع وزيرة الخارجية التي لها رأيها لكنه في النهاية خاضع للقرار الرئاسي، وقد أثبتت اليوميات والتطورات تراجع كلينتون - الوزير أمام أوباما - الرئيس. من واجب أوباما «الديموقراطي» حزبياً دعم مرشحة حزبه عبر تسهيل مهماتها المستقبلية. من جهة أخرى على الرئيس أوباما، ترك «رصيد» للرئيس المنتخب حتى ولو كان الجمهوري ترامب، حتى لا يتهم بزرع الفراغ، وعرقلة رئاسة الولايات المتحدة الأميركية!
يجتمع الخبراء الأميركيون والروس غداً، لبحث «التفاصيل التقنية لاتفاق كيري-لافروف. معنى ذلك أن الطرفين أصبحا يملكان «خطة مشتركة تتضمن نقاط الاتفاق والاختلاف».
يشكل هذا تقدماً مهماً بعد الانكماش الأميركي عن التدخل، وتمدد روسيا بعد نزولها على الأرض السورية بكل قوتها بحيث أصبحت «اللاعب» الأول ميدانياً، مما أهّلها لأن تمسك بالقرار وتدير «اللعبة» مع الايراني والإسرائيلي بما يخدم استراتيجيتها. قاعدة موسكو الأولى التي توحي بها وكأنها لم تغير موقفها من مصير بشار الأسد انها «لا تدعو الى رحيله ولا تتمسك ببقائه». ترجمة هذا الموقف سياسياً انها تريد «ثمناً« مرتفعاً له. النقطة الثانية في المفاوضات التقنية هي، ببذل جهود مشتركة:
[ وقف إطلاق النار.
[ استئناف المفاوضات، وهنا يقال أنه قد تتم العودة الى المفاوضات في مطلع أيلول المقبل.
الغريب والعجيب في كل ذلك، أن مصير الأسد مطروح. الخلاف حول صيغته، أما هو نفسه، فإنه يستعجل بعد تحقيق عدة مجازر وتقدم ميداني غير ثابت، لأن يكون «شريكاً في التفاهمات الروسية الأميركية». علماً أنه في كل مفاوضات لا يمكن للأطراف المتفاوضة سوى تقديم «تنازلات مؤلمة»، طالما أن الحسم العسكري ممنوع إن لم يكن مستحيلاً. لأن أي نصر حاسم إلغاء لوجود الطرف المهزوم وهذا غير ممكن لأن الحرب في سوريا هي «حروب مصالح» بالوكالة وليست «حرب وجود» سواء لموسكو أو واشنطن أو لكل الأطراف الاقليمية المشاركة.
هذه المرحلة، تشكل مرحلة انتقالية. جميع الأطراف والقوى، تعمل على أخذ موقع متقدم لها على طاولة المفاوضات لاحقاً. لذلك يلاحظ التكثيف الميداني للأطراف. ليس بالضرورة أن يكون ذلك محصوراً في «الملعب» السوري، طالما أن كل «الملاعب» و»الميادين» مفتوحة على بعضها البعض، بحيث يصبح التسجيل في ميدان بعيد مثل ليبيا (انخراط فرنسا البري في الحرب) جزءاً من جمع النقاط والأرصدة للمفاوضات المقبلة. حتى الأسد يحاول كسب نقاط سياسية، في تقديم نفسه «محارباً» ضد «داعش» والارهاب.
السؤال الكبير، الى متى سيسمح «داعش» ومعه هذا الارهاب الأسود، للعالم بأن يتابع تصفية حساباته في الشرق الأوسط؟ «داعش» دخل كل المنازل في العالم. الرئيس أوباما، لم يقتنع أن دوائر النار المتروكة عن قصد لتحرق الأخضر واليابس في منطقة الشرق الأوسط، ستطلق من تحت الرماد إرهاباً يكون فيه ارهاب «القاعدة» نكتة سوداء أمامه. إرهاب «القاعدة« كان يمكن ضبطه وتوقع الكثير من عملياته، لأن غرفة عمليات تديره وتوزع مهماته. إرهاب «داعش» حرّ، متى استلب عقلاً، نهايته جريمة سوداء.
«الذئاب» المتوحشة والحاقدة تعمل بلا توجيه، إنجاز زرع الخوف والرعب ونشر الموت يتم بلا تكليف مباشر ولا معنون. «الذئب» يختار الهدف وينفّذه. هذا الإرهاب مرعب لأنه لا يمكن القضاء عليه، مهما جرى من عمليات مبرمجة ضد «رؤوسه».
من الضروري وضع خطط واضحة ومبرمجة لتنفيذها على مساحة الشرق الأوسط، لإطفاء نار الإرهاب الفردية الصاعدة من اليأس والألم والإيمان بأنه لا مستقبل لأهله خصوصاً الشباب منه على هذه الأرض.
مثل هذه العملية يجب أن تجمع شيئاً من «الأوبامية» الرافضة للحرب الشاملة، مع الكثير من النوايا والإرادات الحسنة وبرامج التنمية والتعليم التي تؤمن بأن هذا الشرق ليس مجرد ثروات تُحمَل ولا «مستودعاً» للشرور يجب اقفاله جيداً على المتقاتلين حتى الموت، لأن الموت يستجلب الموت!
حصار مدينة حلب وقصف النظام الدموي والمجرم مستشفياتها ومستوصفاتها يطرحان مسألة إفادة مجلس الأمن والأمم المتحدة. منذ ١٧ تموز (يوليو)، حاصر النظام السوري المدينة كلياً وكثف القصف عليها مستهدفاً أربعة مستشفيات. فالأطباء الشجعان والمسؤولون عن القطاع الطبي والممرضون هم في الخط الأول في الحرب الوحشية التي يشنها النظام على مدنه الباسلة لتدميرها وللقول للعالم أنه يحارب من أجل البقاء على كرسي الرئاسة، في بلد خربه وقتل وهجر الملايين منه.
فقد أغلق النظام جميع طرق حلب منذ أيام لخنق سكانها وقصف مستشفيات البيان والحكيم والزهرة والدكاك ومركز بنك الدم. والعالم يسكت عن جرائم نظام كان يجب وقفها منذ بدأ القصف بالطائرات والبراميل في مطلع حرب بدأت بتظاهرات سلمية من أجل الحرية ومكافحة الفساد وانتهت بتدخل روسي إيراني لحماية نظام مجرم شتت شعبه وأنهك مدنه. فلاديمير بوتين ونظام المرشد الإيراني و «حزب الله» يتحملون مسؤولية كبرى عن استمرار هذه الحرب المدمرة ومحاصرة المدن السورية وقصف المستشفيات والأطباء والأطفال والمدنيين. و «حزب الله» الذي يدّعي مقاومة إسرائيل ينتهج نموذج من يسميه عدوه الإسرائيلي في المشاركة في محاصرة المدن وقتل المدنيين والأبرياء. أما إدارة باراك اوباما التي لا تبالي بإجرام النظام السوري وشركائه، فهي تسكت عما يحدث في سورية لأنه بلد بعيد عن مصالحها، علماً أنه نظام شجع ظهور «داعش» الذي يهدد العالم العربي والغربي، ما يذكر بقول أحد قادة «حزب الله» في بداية الحرب السورية أن بشار الأسد لن يرحل إلا بعد أن يحرق سورية والمنطقة معه. واليوم هو أساس الإرهاب «الداعشي» المصدر الى الغرب. فالعنف الذي يستخدمه النظام إزاء شعبه بمساعدة الشريك الروسي والإيراني اللبناني، يؤدي الى تجنيد تطرف وإرهاب يساوي وحشية نظام الأسد.
إن سكوت العالم عن حصار حلب وتجويع المدينة ومنع إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين والأطباء فضيحة. فالعالم لا يسكت عن انتهاكات اردوغان لحقوق الإنسان بعد محاولة الانقلاب عليه والسكوت شبه عام عن حصار حلب من معظم أعضاء مجلس الأمن، باستثناء بعض الأصوات ومنها السفير الفرنسي في نيويورك.
نداء أطباء حلب لإنقاذها ينبغي أن يكون له صدى عالمي، لأنه نابع عن وضع مفجع لأطباء تم استهدافهم من نظام خانق. فقصف النظام المجرم أدى الى مقتل آخر طبيب أطفال في حلب هو الدكتور محمد وسيم معاز في ٢٨ نيسان (ابريل) خلال قصف مستشفى القدس، وفي ٢١ تموز أصيب طبيب القلب الدكتور عثمان هجاوي بجروح خطيرة نتيجة غارة جوية على المدينة وقال الدكتور عزيز وهو جراح في مدينة حلب أن القطاع الطبي في المدينة على وشك الانهيار وأن حلب ستحرم قريباً جداً من أي خدمات طبية. ومنذ ٢٠١١ عند بداية الحرب في سورية، قتل أكثر من ٧٠٠ طبيب سوري وذلك وفق رئيس لجنة تحقيق الأمم المتحدة البرازيلي باولو بينيرو. فكيف يسكت العالم عن هذه الجرائم ولا أحد من الدول الكبرى يعمل لإيقاف القصف القاتل؟ هل نحن أمام دفن إنسانية السياسيين في الدول الكبرى التي باستطاعتها أن توقف الجرائم ضد الإنسانية. أنقذوا حلب والشعب السوري قبل أن يفوت الأوان وتتحول دول العالم الى معاقل إجرام بدأ يظهر ويزداد يوماً بعد يوم.
لم يكن أحد في المنطقة العربية يتخيّل أن تجترح قمة نواكشوط حلولاً سحرية عاجلة، تستأصل أمراضنا وترمّم مناعتنا، وتتصدى لاستباحة العالم العربي والتهام خرائطه وتفخيخ حدوده.
نحن المستباحين يمكننا أن نطوّر لائحة أصحاب الأطماع والهيمنة، ومروّجي الفتن، وأن نحصي دولاً وتنظيمات وميليشيات، ومجانين، ونترحّم على الحرب الباردة، رغم انقسام العرب في تلك الحقبة معسكرين.
- ألا يستبيح قيصر الكرملين أرض سورية وسماءها ومياهها، متستّراً بورقة الحرب على الإرهاب، لتشجيع إرهاب آخر حصد حوالى أربعمئة ألف قتيل في البلد المنكوب؟
- ألا تستبيح إيران المرشد سورية، بميليشياتها ومستشاري الفتنة، وتصرّ على تطويق السعودية من اليمن، وإذلال اليمنيين بتعنّت الحوثيين؟ ألم تستبح طهران استقرار البحرين بالتحريض على المذهبية، وتجرّ العراق إلى جحيم الطائفية، وتستولد الفراغ في المؤسسات اللبنانية الدستورية؟
- ألم يستبح صمت باراك أوباما وعجزه، حقوق العرب كبشر، ويحرّض الروس على مزيد من التمادي في المنطقة لتصبح رهينة إلى أن تحين ساعة يالطا جديدة لاقتسام النفوذ؟ كم حرباً ستشتعل رغم العرب، حتى تحل لحظة الصفقات الكبرى بين واشنطن وموسكو؟
نحن المستباحين، في عالم العنف المجنون والإرهاب العابر للقارات، هل كنا نتوهّم بأن تتمخّض قمة نواكشوط عن «معجزات» في ساعات يوم واحد؟
صحيح أن الإرهاب وسرطانه حازا حصة الأسد في معظم كلمات الوفود، لكنّ الصحيح أيضاً أن لا استراتيجية عربية موحّدة وفاعلة، تتصدّى للوباء. حتى إسرائيل، أمّ الإرهاب التي كانت أول الأعداء، بات لها منافس، يحاول اصطياد أمن العرب ويزعزع استقرار دولهم، وينخر في مجتمعاتهم ويستنزف ثرواتهم.
مع التطرُّف وأطماع إقليمية، هويتها معروفة، يتشجّع العنف لضرب استقرار دول الخليج فيما تعاني تراجع عائداتها النفطية، وهاجسها هاجسان: فلا حرب اليمن مرشحة لأن تضع أوزارها قريباً، خصوصاً نتيجة إصرار طهران على تحريك ورقة الحوثيين وتمرُّدهم وتعنُّتهم إزاء الشرعية وإعادة الدولة الرهينة... ولا إيران أثبتت ولو لمرة صدقية في تطبيع علاقاتها الخليجية، بدليل حملاتها المتكررة على السعودية والبحرين.
وفيما السعودية منهمكة بحرب اليمن، وحماية حدودها، والتصدي للإرهاب الذي ضرب أيضاً في الكويت، لا تزال مصر مرتبكة باحتواء وبائه في سيناء، وليبيا مستباحة لجنون «داعش» والانقسامات، والجزائر حائرة متوجّسة من مرحلة ما بعد بوتفليقة.
سورية، ونكبتها الكبرى المنسيّة لدى الكبار، إلا في حالات خجولة، حين يطل الأميركي للاطمئنان إلى حفظ الروس الحرب «الوديعة»، هل يجدي معها إصرار على الحل السياسي فيما النظام لا يكترث إلا لحلٍّ عسكري، تشجّعه إيران وميليشياتها، وضحايا الجنون باتوا مجرد أرقام لم تعد تثير لدى القوى الكبرى سوى الملل؟!
«داعش» ومعه الميليشيات و «الحشد الشعبي» كفيلة باستنزاف العراق شهوراً طويلة، وهناك حيث «الحشد» الرديف العراقي لـ «الحرس الثوري» الإيراني، بات أقوى من الجيش، مَنْ يجرؤ على التصدي للمستشار قاسم سليماني ونصائحه؟
لم يغب عن هواجس الوفود في قمة نواكشوط، أن حلقات «الحشد» تمدّدت في المنطقة العربية إلى خرائطها وكياناتها، وأن إرهاب «داعش» يغذّي سطوة الميليشيات التي تقضم مؤسسات الدولة، وتحاصر قبضة الجيوش الشرعية. لكنّ حال القمة التي لم تكن سعيدة في دوراتها السنوية لتُلام نواكشوط على «خيبة أمل»، تستحضر العقدة المزمنة: العرب يشخّصون المرض لكن العلّة في التوافق على الدواء، وإذا توافقوا على العلاج انقسموا على نقطة البداية، وإذا بدأوا حاروا في الطريق.
بعد كل ذلك، هل يكفي أن نضيف إلى لائحة الأعداء، الإرهاب بعد إسرائيل والديكتاتوريات؟ الأكيد أننا يجدر أن نضيف أصحاب الأطماع الخفية الذين يتسترون بالفتن المذهبية والطائفية لدى العرب، لتمرير مشاريع التفتيت والتقسيم.
والذين أخذوا السودان إلى محطة التقسيم، طمعاً بثرواته، اكتشفوا بعد مغادرة القطار، أن الجنوب لن يستقر إلا تحت إدارة دولية. وأمامه خياران: إما تدويل استعماره وإما المجازر والمجاعة.
السيناريو ذاته، يُتوقّع استنساخه لبؤر نزاعات عربية. فهل يكفي بكاؤنا على أطلال القمة؟
تأتي التسريبات عن نضوج نوع من توافق أميركي ـ روسي بخصوص سوريا (راجع “العرب” اللندنية عدد 22 يوليو 2016) لتؤكد أن تقرير وضع النظام السوري ومصير السوريين بات في أيدي القوى الخارجية الدولية والإقليمية، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأميركية وروسيا؛ مع إدراك الفارق بين الطرفين لصالح الأولى. وهذا الاستنتاج هو تحصيل حاصل لخروج الشعب، أو إخراجه، من المعادلة الصراعية بسبب حال الحصار والتهجير والصراع المسلح، التي تعرض لها السوريون منذ عدة أعوام، وتاليا لذلك تعذّر قدرة أي طرف من الطرفين المتصارعين على حسم الوضع لصالحه، إذ لا النظام استطاع هزيمة المعارضة، ولا المعارضة استطاعت إسقاط النظام، ناهيك عن تحول سوريا إلى ساحة صراع للقوى الدولية والإقليمية؛ هذا أولا.
ثانيا، إن هذه التوافقات تفيد بأن النظام والقوى المتحالفة معه (روسيا وإيران) استطاعا حرف الصراع من كونه صراعا بين النظام وأغلبية الشعب، من أجل التغيير السياسي وإقامة نظام ديمقراطي، إلى كونه صراعا ضد الإرهاب، إذ على رغم بقاء الصراع الأول، إلا أن الصراع الثاني طغى على المشهد، وبات يحتل أولوية عند القوى الدولية والإقليمية، على خلفية الأعمال الإرهابية التي باتت تضرب في هذا البلد أو ذاك، لا سيما في أوروبا، هذا إضافة إلى ارتدادات تزايد أعداد اللاجئين إلى البلدان الأوروبية، والتداعيات الناجمة عن ذلك.
ثالثا، هذه التوافقات تفيد بأن ملف سوريا بات في يد روسيا على حساب إيران، وذلك باعتراف الولايات المتحدة بهذا الواقع، أي أن ذلك سيفضي إلى تحجيم مكانة إيران في سوريا، وتحجيم دورها في تقرير مصير هذا البلد، وربما نشوء نوع من التباين بينها وبين الطرف الروسي، على هذه الخلفية، ومعنى ذلك أن المساومة الحقيقية في هذا الشأن هي بين روسيا والولايات المتحدة.
أما بخصوص التوافقات الحاصلة فثمة ما هو إيجابي فيها وما هو سلبي، مع تأكيدنا على عدم قدرة السوريين على فرض إرادتهم، وهذا ينطبق على النظام وعلى المعارضة. هكذا فمن ناحية الإيجابيات يمكن القول إن أي اتفاق يتضمن نوعا من الحظر الجوي أو وقف القصف بالبراميل المتفجرة يحتل أعلى سلم الأولويات، وهو ضروري جدا للسوريين، للتخفيف عن معاناتهم ووضع حد لتشردهم، وهو عامل قوة للثورة السورية، مع علمنا أن الذي يملك قوة نيران، ويملك قوة القتل والتدمير هو النظام السوري (وحلفاؤه)، وهذا أمر ينبغي إدراكه بعيدا عن العواطف، خاصة مع علمنا بضعف الجيش الحر، وضعف جماعات المعارضة المسلحة، أي أن هذا اتفاق ينبغي استثماره والبناء عليه. ثانيا، تضمن الاتفاق التأكيد أكثر من مرة أنه ينبغي أن يفضي إلى حل سياسي انتقالي، وفقا لإعلان جنيف وقرار مجلس الأمن الدولي 2254، وإقامة هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، وهذه نقطة ينبغي التأكيد عليها وتعزيزها.
أما بالنسبة إلى المخاوف المشروعة التي يمكن أن تنشأ من هذه التوافقات، فهي تتعلق، أولا، بإمكان تلاعب النظام، وروسيا، بهذا الأمر والتملص منه، كما حصل في التوافقات السابقة، أي أن الوضع يتطلب ضمانات تفيد بأن الإدارة الأميركية حسمت موقفها، وأن الأمر ليس متروكا لروسيا. ثانيا، أن الاتفاق على التركيز في محاربة داعش وجبهة النصرة لم يستكمل بالميليشيات الأخرى التي تقاتل مع النظام، وهي قوات حزب الله اللبناني وكتائب أبوالفضل العباس ولواء فاطميون ولواء نجباء وغير ذلك من الميليشيات العراقية، إضافة طبعا إلى قوات الحرس الثوري الإيراني. ثالثا، ثمة خشية من استغلال روسيا لهذا التوافق بحيث تحاول من خلاله إعادة تعويم النظام، بشكل أو بآخر.
مع كل ذلك، فإن المشكلة تبقى في مراجعة المعارضة لأوضاعها، أي لكياناتها السياسية والعسكرية والمدنية، وفي قدرتها على استعادتها لخطابها بخصوص إنهاء نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة ديمقراطية مدنية.
وسط الكمون في التحرّكات الدبلوماسية التي كانت نشطةً حتى فترة قريبة. لكن، من دون نتائج تذكر، ظهر خبر جديد. ولكن، متراجعاً خطواتٍ عن دائرة اهتمام الإعلام العالمي، أمام ما شهده العالم في الأيام القليلة الماضية من أحداثٍ ساخنة. أهمية ما ورد يعيد إلى الواجهة مسألةً على غاية من الأهمية، هو حجم التناقض في المواقف بين ما يتم الإعلان عنه وما يجري على مسرح الواقع من أحداثٍ تستدعي التأمل في جملةٍ من التناقضات يرفضها العقل، لكنها تبدو مقبولةً، ويتم التعامل معها، تحت مسمى بارز "العمل على إيجاد حلٍّ للأزمة السورية". وهذا عنوانٌ أصبح باهتاً لكثرة تداوله، لكنه يعكس، بوضوحٍ كبير، عدم تراجع القوى الكبرى في العالم عن موقفها الذي ما فتئ يتجاهل جذر المشكلة السورية، وضرورة العمل على إيجاد حلٍّ لها، فهذه الأزمة التي تم من خلالها إطلاق يد إيران في العالم العربي أصبحت ما يمكن تسميته نهر الذهب الذي تدفق على الدول المتقدمة، عبر صفقات تسلحٍ غير مسبوقة تصبّ، في النهاية، في سلة إنعاش اقتصاد هذه الدول. وجرى معها تحييد مدروسٌ لمسألةٍ أخلاقيةٍ في غاية الأهمية، وهي كمية الدماء التي تمت إراقتها في سورية، لتحقيق هذا الإنجاز المبهر.
تتحدث الأنباء حالياً عن اتفاقٍ عقد بين الشريكين، وزيري الخارجية الأميركي والروسي، جون كيري وسيرجي لافروف، ما طفا على السطح منه، وتم الإعلان عنه، هو هدنة تشمل كل الأراضي السورية. وكغيرها من الهدن السابقة التي أثبتت الوقائع أنها تفرض على طرف دون غيره، دشنت بأكثر من ستين ضحية، غالبيتهم مدنيون، بينهم أطفال، سقطوا في كل من حلب وإدلب وبلدة الأتارب أيضا. العنوان الكبير لهذا القتل هو محاربة جبهة النصرة، باعتبارها المقصودة بالحرب، وإضعاف "داعش" وفق تصريحاتٍ وردت سابقا من البيت الأبيض.
يحق، الآن، لروسيا أن تعلن للملأ انتصارها الساحق بجرّ أميركا لتكون شريكاً لا يُضاهى بالقتال ضد هذا الفصيل. من المهم، هنا، أن نعيد إلى ذاكرة العالم أن الشعب السوري هو من رفض وجود هذا الفصيل على أرضه، وقاد الحراك المدني في الشمال السوري مظاهراتٍ ضده، كلفته ضحايا عديدين. لكن، لمَ دمرت المستشفيات التي تعالج المصابين من ضحايا الضربات الجوية، غالبيتهم من المدنيين، وأسواق الخضار التي يتجمّع فيها الناس، لتأمين حاجاتهم الغذائية، وأفران الخبز أيضاً، بين الأهداف المهمة لغارات الطيران الروسي التي عملت مع طائرات النظام بها فتكاً وتدميراً؟ هل تملك وزارة الخارجية الأميريكية جواباً على هذا؟ في العودة قليلاً إلى الوراء، نجد أن الطائرات الأميركية استبقت عمل سلاح الجو الروسي في سورية بأيام معدودة، وقصفت مستشفىً في أفغانستان. حدثٌ صرّح الساسة الأميركيون إنه غير مدرجٍ ضمن واجبات الاعتذار، كونه يخدم هدفاً عسكرياً مشروعاً. قد يبدو الربط بين الحدثين، للوهلة الأولى، بعيداً عن المنطق، لكن عدم إدانة هذه العمليات يدفع التساؤل نحو الواجهة.
يكفي، إذن، أن يتكلم كبار الساسة، ليصبح الإخلال ببنود اتفاقيات لاهاي واتفاقات جنيف عملاً مشروعاً، لا يمكن تصنيفه ضمن جرائم الحرب.
إن صح اتفاق الشريكين، الروسي والأميركي، فهذا يعني أن الدبلوماسية الروسية نجحت بتجنيب ساستها المساءلة لاحقاً، بشأن ما اقترفته قواتها وطائراتها في سورية. وهذا يعني، أيضاً، أن الدبلوماسية الأميركية، على عادتها، سجلت حلقةً جديدةً في مسلسل تنازلاتها الكبرى، خلال هذا العهد من تاريخها. قد يبدو فهم الأمر على هذا النحو مربكاً للمتابع العادي، لكن الشعب السوري لا بد أن يدرك أن ما يعدّ له أكبر بكثير من مسألة عودة المفاوضات، وتمييع أهميتها، فالتاريخ ليس بعيداً إلى درجةٍ يصعب من خلاله فهم ما يجري.
أيام معدودة تفصل تاريخ زيارة وفد البرلمان الأوروبي دمشق ولقاء رجل التنازلات الكبرى في الكرملين. ولا دهشة في الإعلان أنه لا أنباء تقدّم للصحافة عن الزيارتين. الأهمية إنما في علاقة الذاكرة السورية بتاريخ الغرب مع الشعب السوري الذي سبق أن عاش تجربةً مماثلةً تقريباً، إثر مجازر الأسد الأب في جسر الشغور وحلب وسجن تدمر، والأكثر شهرة وإيلاماً للأخلاق مجازر مدينة حماة، ثم إعادة الحكومات العالمية إنتاجه ثانيةً، وتقديمه بطلاً قومياً لا يضاهى، متجاهلين الآلام الكثيرة التي تحمّلها الشعب السوري بكبرياء وأنفة.
توضح التحركات الدبلوماسية أن روسيا لا تمسك فقط بزمام الأمور، فيما يتعلق بالأزمة السورية، بل إنها فازت بتمرير كل خططها في سورية. وبالتأكيد، وفق أجندتها الخاصة ومشروعها الذي لم تقبل التنازل عن أي بندٍ فيه، بينما تتبع بقية الدول العالم أجندة البيت الأبيض وخارجيته التي لم تعد تتقن من فنون التفاوض سوى تقديم التنازلات، في إعلانٍ لا يقبل الجدل، يشير إلى أنها، كدولة قوية، وصلت إلى حالة تهتكٍ داخلي، لا يمكن التكهن بحجمه، ولا بنتائجه، على المدى المنظور.
وتضاف إليها الدول التي تمسك حالياً بمصير الشعب السوري، ومستقبله الغامض. بدأت هذه الدول الانقياد للرغبات الروسية، وتقديم التنازلات المتعلقة بمصير الشعب السوري الذي سلبته الدول الصديقة، قبل العدوة، حقوقه كافة.
التنازل الكبير قادمٌ لا محالة، فالعالم الذي وقف يتفرّج على دم الشعب السوري، وهو يسفح على الطرقات والأرصفة، من بداية الحراك السلمي، من دون أن يرمش له جفن، أو تختلج لديه، ولو ذرة واحدة من المشاعر، يبدو وكأنه يتحضّر من جديد، ويعمل في الخفاء لبلوغ لحظة إعادة إنتاج الأسد الابن، ثم تقديمه من جديد بطلاً لم يسبقه إلى فعلته أحد، في التاريخيْن، القديم والحديث.
كشف الجدل المحتدم حول فكرة الفيدرالية مدى التباينات بين السوريين، وقصور قدرة معارضتهم السياسية، خمس سنوات، على إدارة هذا النقاش، أو الاختلاف، لضمان إيجاد إجماعات جديدة، تؤدي إلى تصور مستقبل مشترك بين السوريين، بكل أطيافهم.
وجاءت ندوة الحوار التي أقامها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية حول المسألة الكردية والفيدرالية لتشكل نقطة انعطاف مهمة في آلية التعاطي مع الطروحات المقدّمة، أو المفترضة، لشكل الدولة المحتملة، فهذه المرة لم يكن النقاش حول الفيدرالية في غرفةٍ مغلقة، كما أنه لم يكن حواراً من طرفٍ واحد، بل كان حواراً بين قوى سياسية متعدّدة، اختلفت حول أحقية الطرح ومشروعيته، وملابسات وجوده على الساحة السياسية، بل وحول تفسيراته القانونية، ومفاعيلها السياسية. وربما تكون هذه الحالة الأولى التي تخرج بها تلك القوى في البوح السياسي، من تحت الطاولة إلى ما فوقها.
وإذا كنا في معرض الحديث الصريح، فعلينا الاعتراف بأن رفض فكرة الفيدرالية كان على ما يبدو ردة فعلٍ متعجلة، كأن بعض المعارضة يفكّر بطريقة النظام، أو يظنّ أنه سيرث النظام كما هو، مستبطناً، في ذلك، رؤية تنم عن عصبيةٍ قومية، ورفض للآخر. بينما كان على كيانات المعارضة أن تكون الأكثر حرصاً على توسيع أفقها، وتطوير مفاهيمها، وتمثيل أغلبية السوريين، بكل مكوّناتهم، لأنها المعنية باستقطاب القوى الكردية إلى جانبها، لا أن تتركها لقمة سائغة للنظام.
ولعل ما تقدّم كان نتيجة بعض الشبهات حول مواقف وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وممارساته ومليشياته (قوات الحماية الشعبية)، وفرضه الإدارة الذاتية في مناطقه، من دون العودة إلى إرادة كل السوريين، بما يتعلق بشكل دولتهم المرجوّة، لكن هذا تحديداً لا ينبغي أن يدفع المعارضة نحو مقاطعة المفاهيم الصحيحة، كالفيدرالية مثلا، فقط لكونها تتقاطع مع مصالح هذا الحزب، فهذه ردة فعل غير منطقية وساذجة ومضرّة، لأن مستقبل سورية يفترض أن يشارك الجميع بصوغه. فهل نكون ضد الديمقراطية، لأن إسرائيل تنتهج الديمقراطية في علاقة الدولة بمواطنيها الإسرائيليين؟
من المفيد طرح فكرة الفيدرالية للنقاش وتوضيح أبعادها، لمعرفة مدى تطابقها مع أهداف الثورة، بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة مدنية وديمقراطية، تضمن المساواة بين المواطنين. لذا يتحدد فهمنا للفيدرالية على الأسس التالية:
- أولاً: قيامها على وحدة سورية وطناً لكل السوريين، أي الفيدرالية نوعاً من تنظيم للإدارة، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.
ثانياً: الفيدرالية لا تعني قيام كل ولاية أو محافظة بإقامة علاقات خارجية أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصين بها، وإنما تعني إدارة شؤونها في قضايا التعليم والصحة والخدمات والأمن الداخلي، أما الشؤون السيادية، وضمنها الخارجية والدفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السلطة المركزية.
ثالثاً: تقوم الفيدرالية على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأن ذلك يتناقض مع الديمقراطية، ومع دولة المواطنين الأحرار المتساوين.
رابعاً: في الدولة الفيدرالية الديمقراطية الليبرالية، لا يتم تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه، فالمكانة الحقوقية متساويةٌ لكل المواطنين، من دون أي تمييز بسبب الدين أو الإثنية أو الجنس. ويستنتج من ذلك كله أن الدولة الديمقراطية الفيدرالية تكون محصنةً ضد الاستبداد الذي يفضي، في أغلب الحالات، إلى الدولة التسلطية أو الاستبدادية.
وعلى هذه الأسس، فإن محاولة بعض أطياف المعارضة استبعاد هذا الخيار، حتى ضمن خيارات الحوار والنقاش، تشكل نقطة استدارة نحو خطابٍ أقرب إلى ما يتذرّع به النظام، بخطابه القومي الذي يُقصي الآخرين، وتحت شعاراتٍ هو أبعد ما يكون عن العمل بها، ناهيك عن إيمانه بعكسها.
قصارى القول: سورية التي نذهب إليها بحواراتنا، وصوغ إجماعاتنا الوطنية من خلالها، أفضل بكثير من سورية التي ستمنح لنا على ورق روسي، بامتياز أميركي.
هناك، في عقل المعارضة السورية السياسي، اعتقاد شائعٌ يوقن أن النظام هو حصة روسيا، وأن المعارضة حصة أميركا، وأن روسيا لن تسمح بهزيمة حصّتها، وفي المقابل، لا ولن تسمح أميركا بهزيمة جماعتها، وأن هذا التوازن الدولي يفسّر التوازن الداخلي بين النظام ومن يقاتلونه، الذي قد يكسر هنا أو هناك، لكنه يبقى مستقرّاً بوجه عام، لأن كسره محظور استراتيجيا.
اهتزّ هذا الاقتناع بشدة بعد الغزو الروسي لسورية، واعتماد واشنطن حزب الاتحاد الديمقراطي (البايادا)، الكردي، حليفا يخوض حربها البرية ضد الإرهاب، بالنيابة عن جيشها، أحدث إدخاله إلى الصراع ودعمه السخي تبدلاً جدياً في علاقات قواه الداخلية، ومواقف البيت الأبيض من الجيش الحر، وكشف جوانب من خططه حيال الدولة السورية الراهنة التي تعهّدت بالمحافظة على وحدتها في القرار رقم 2254، لكن ما اقترحته وثيقة راند، ومشروع "البايادا" السياسي، المستند إلى دوره العسكري، أثارا شكوكاً جدّية بالتزام واشنطن بالقرار الدولي، وبمعادلة: أميركا معنا وروسيا مع النظام، وهي لن تسمح بهزيمتنا، مثلما لن تسمح موسكو بهزيمته.
بدخول الروس إلى سورية، وبروز قوة كردية مقاتلة تدعم أميركا مشروعها السياسي الغامض أيضا، تغيّرت مكونات الصراع في سورية وحساباته الدولية، فأقلعت واشنطن بصورةٍ متزايدةٍ عن اعتبار الطرف الروسي خصماً تفضي خسارته إلى انتصارها وانتصار الثورة السورية، وأخذت ترى في التفاهم معه المدخل الضامن لمصالحها، وكان قد بدا، في فترة طويلة، أن نجاح الثورة هو ضمانتها، مع ما يحمله هذا التطور من تبدّلٍ في علاقاتها مع السوريين الذين لم تعد هزيمتهم هزيمة لها، لأنها تستطيع بلوغ أهدافها عن غير طريقهم، بل عبر التفاهم مع عدوهم الروسي، شريكها الدولي الجديد في حربها ضد الإرهاب: أولويتها التي غيرت مواقفها المعلنة دولياً ومحلياً، وبعد أن تقول إن نجاحها مستحيل في حال بقي بشار الأسد في السلطة، شرعت تقول ما قاله الروس دوماً: إن فشل الحرب محتم إذا لم يتوصل السوريون إلى حل خلافاتهم بأنفسهم، وإن مصير النظام والأسد يرتبط بتفاهماتهم، وبالتالي، بالواقع الميداني الذي تطور بعد الغزو الروسي غير صالح الطرف الثوري، أكثر مما يرتبط بوثيقة جنيف والقرارات الدولية.
تبدلت علاقات أميركا مع المسألة السورية، بعد تموضع الجيش الروسي في سورية. وغيّر احتضان "البايادا" عسكريا، ودعم مشروعها سياسياً، معطيات الصراع السوري الداخلي، وأضاف إليه أبعاداً جديدة، لم تكن له قبل الحرب على الإرهاب، أولوية واشنطن التي تفوق في أهميتها صراع الثورة والنظام، العامل الذي كان يفصلها عن موسكو، وها هي الحرب ضد "داعش" وجبهة النصرة تجمعهما. بهذا التبدل، لن ترى أميركا في هزيمة الثورة خطاً أحمر، لا تسمح لأحد بالاقتراب منه، ناهيك عن تخطّيه. ولن تعتبر نفسها مسؤولةً بعد الآن عن الحفاظ على وحدة سورية دولةً ومجتمعاً، بحجة ترك الحل للسوريين، انطلاقاً من الوضع الميداني الراهن الذي يحتل حزب البايادا فيه مساحةً من سورية أكبر من التي يحتلها الجيش الحر.
إذا كان هناك مثل هذا الانقلاب في موقف واشنطن تجاه الثورة وسورية، ما الخطأ في فتح حوار مع روسيا، وأطراف الداخل السوري، بما فيها أطراف من النظام وحزب البايادا، نحدّد بواسطته النظام الذي نريده لبلادنا، والتزاماتنا المتكاملة حياله، من اليوم وإلى أن يتحقق؟ ألا تمسّ حاجتنا إلى موازنة الموقف الأميركي، من خلال فتح قنوات خارجية وتوحيد الجهات المقابلة للنظام، وتفعيل قدرات شعبنا، وصولاً إلى أوضاع ذاتية، تقنع أميركا وغيرها باستحالة تمرير أي حلٍّ لا يخدم مصالحنا ويحقق حريتنا؟.