ليس من حق سكان قرية توخار و غيرها من القرى و البلدات في منطقة "منبج" أن يكون لهم صوت أو يكونوا موجودين على الساحة العالمية و لا حتى كأرقام قتلى في ظل أتون الحرب على الشعب السوري ، فهم من أؤلائك المحظور على الجميع التحدث عنهم ، حيث الحكاية تتلخص بأن "داعش موجودة فالبقية منهية ".
من الصعب أن تقنع العالم أن في قرية صغيرة مثل "توخار" يوجد فيها آلاف قليلة من البشر ، تحولوا إلى هدف متكرر و متتابع من قبل التحالف الدولي ، و باتوا جزء من الحل الاستئصالي الذي ينتهجه العالم للقضاء على داعش ، و من المستحيل أن تفكر لو للحظة أن "توخار" نفسها فقدت أكثر من ١٠٠ شهيد خلال أقل من ٤٨ ساعة ، و أن الحصيلة عبارة عن رقم يخفي خلفه عشرات الجرحى سيكون القبر أقرب إليهم من الولوج في باب مشفى أو حانة لمنع الشاش و بعض المطهر.
رغم هذا المشهد يجب أن لا تتكلم عن توخار أو غيرها ، ولا يمكن أن تتفوه بحرف واحد عن ما يحدث ، فالذي يتقدم علي الأرض وباء أصفر ينتشر بدعم من صانعيه لزرعه بغية استغلاله في المستقبل قبل أن يقوموا بعلاجه ، و في السماء قتلة يجولون باحثين عن أي شيء يتحرك أو أي أرقام تنقل لهم من الأرض عن مناطق أياً كانت مدن أو قرى ، مباني أم أزقة ، بشر أم حجر ، المهم أن الرقم الممنوح هو واجب الاستهداف .
لا يجوز أن تقترب من تلك المنطقة حتى لو شاهدت أن من يقتل هو طفل أو الستر الذي انكشف عن أختك أو أمك أو ابنة بلدك أو أمة تنتمي لدينك ، وبطيبعة الحال لن يكون الأمر متاحاً لرجل فتيٍ كان أم شاب أو آخر وصل لمرحلة الرجولة أو طالته الكهولة ، كل هؤلاء عبارة عن مجرمين و قتلة و يستحقون العقاب ، فهم في الأرض الحرام التي يأتي من يجعلها حلال خالصاً و مخلصة من أناسها و حجرها .
يسألونك عن داعش قل هي علاج كما هي داء ، ويسألونك عن آلية التجنيد فقل الموت القادم من كل حدب و صوب ، ويقولون لك أن داعشي آثم واجب القتل ، فلنقل أننا مدافعون عن الحياة من هم تحت وصايتنا و حمايتنا ، و لكن من الواجب القول أن داعش في نظركم نحن في مجملنا ، وداعش في نظرنا شرذمة لا تحتاج لهذا الكم من القتل و التشريد و نشر الأوبئة ، إنما هي فكر تولد من رحم الألم و الفقد و الكسر و القهر .
بعد سنوات من القطيعة والتوتر أعلنت تركيا تطبيع علاقتها مع روسيا وإسرائيل في يوم واحد، بعد نحو سبعة أشهر على توتر العلاقات مع روسيا، وسنوات عدة على توتر العلاقات مع إسرائيل.
جاءت هذه التطورات ضمن نهج جديد تبنته الحكومة التركية برئاسة رئيس الوزراء الجديد بن علي يلدريم، الذي تعهد بتحسين علاقات بلاده مع سوريا ومصر والعراق أيضًا.
أثار هذا التوجه قلق السوريين المعارضين للنظام، ومخاوفهم من تراجع تركي حاد قد ينجم عنه خفض سقف المطالب الثورية إلى ما دون المقبول، باعتبار تركيا أحد أهم داعمي الثورة السورية.
فإلى أي مدى ستصل الاستدارة التركية فيما يخص المسألة السورية؟!
طوال سنوات الثورة السورية نظرت تركيا إلى سوريا باعتبارها قضية مصيرية، سواء من جهة صلتها بالمسألة الكردية الداخلية أو من جهة الحدود المشتركة، وانعكاس أي خلل فيها على الأمن الداخلي التركي وعلى انتظام سير قوافل الشاحنات التجارية إلى المنطقة العربية عبر البوابة السورية.
لقد انتهجت تركيا منذ البداية أسلوب النصيحة لنظام الأسد والتواصل معه لحثه على تغيير أسلوبه في التعاطي مع مطالب الإصلاح، إلى أن بلغت ردة فعل النظام حدًا جعل تركيا تحجم عن دور الوسيط لتنتقل إلى الدعم العلني لمطالب الثائرين.
لكن استعصاء الأزمة السورية وطول أمدها ونشوب تداعيات جديدة على أثرها، مثل نشأة تنظيم داعش وتحوله إلى خطر يتهدد المنطقة وحتى العالم، وصعود نجم حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي تريد بعض العواصم الدولية منحه دورًا أساسيًا في مكافحة «داعش»، وربما مساعدته في الوقت نفسه لإنشاء كيان كردي على الحدود، دفع تركيا إلى ترتيب أولوياتها وإعادة النظر مجددًا في موقعها بالمنطقة، والتفكر في المستجدات الطارئة وما تنطوي عليه من مخاطر تتهدد أمنها القومي.
لقد بالغت تركيا في رهانها على «الربيع العربي» وفي التقليل من شأن مراكز القوى العميقة، ووضعت أغلب بيضها في سلة الثورات العربية؛ مؤملة نجاحها وترسيخ علاقاتها مع دولها، وأمضت طيلة السنوات الخمس الماضية في انتظار حصد
ثمار «الربيع العربي» في أغلب محطاته.
وكما تبين لاحقًا، فإن استبدال داود أوغلو بـيلدريم لم يكن على صلة بالشؤون الداخلية التركية فحسب كما ظن البعض للوهلة الأولى، من جهة تمهل أوغلو في إقرار النظام الرئاسي وكبحه جماح الاندفاعة الحكومية في ضرب الكيان الموازي، وإنما تعدى ذلك إلى قضايا خارجية أراد صانع القرار التركي معالجتها بطاقم جديد لا تثقله تصعيدات المرحلة السابقة.
وبحماسة تعتزم التحرر من تبعات الماضي شرع يلدريم في إعادة تفعيل مبدأ «صفر مشكلات» مع دول الجوار، الذي كان - للمفارقة - مبدأ سابقه، فأعاد علاقات بلاده مع إسرائيل وروسيا، ووعد بتحسينها مع مصر وسوريا والعراق، وجديدها التصريح الذي أطلقه (الأربعاء 13 يوليو/ تموز 2016) حول عودة العلاقات مع سوريا.
غير أن مصادر مطلعة ومقربة من مراكز صنع القرار التركي أشارت إلى عدم حصول انعطافة تركية في الموضوع السوري، وإلى أن تصريحات يلدريم موجهة للداخل التركي الذي يحمِّل الحكومة وسياستها الخارجية مسوؤلية تردي الأوضاع الداخلية، سواء من حيث تنامي موجة الإرهاب التي طالت مراكز حيوية، كان آخرها الهجوم الإرهابي على مطار أتاتورك، وما أسفرت عنه هذه الموجة من ضرب للسياحة، أو من حيث عودة الجنوب الشرقي ساحة للمواجهات ضد حزب العمال
الكردستاني كإحدى نتائج «التورط في المستنقع السوري» وفق ما يرى معارضو الحكومة، ونقلت المصادر ذاتها أيضًا ثبات الموقف التركي من القضية السورية، وعدم تخلي أنقرة عن هدفها النهائي بتغيير النظام في دمشق.
أما فيما يخص الخبر الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام حول قدوم العماد «علي حبيب» إلى أنقرة، للتباحث في تشكيل حكومة عسكرية موسعة برئاسة حبيب وبمشاركة عدد كبير من ضباط النظام والضباط المنشقين، رفضت المصادر ذاتها
تأكيد الخبر أو نفيه، في محاولة ربما لجسّ نبض الأطراف الداعمة للنظام، وعلى رأسها روسيا حول تقبلها لفكرة إيجاد بديل عن الأسد.
ونقلت المصادر أيضًا استعداد تركيا لبذل كل جهد ممكن للحفاظ على جبهة حلب ومنع حصارها، دون أن تغفل عن توجيه اللوم للفصائل العسكرية وتشرذمها.
والواقع، أنه رغم وضوح التصريحات التركية الساعية لتحسين العلاقات مع «سوريا» فإنه من غير المتوقع أن يكون معنى ذلك التسليم بالواقع والانكفاء وإخلاء الساحة لخصوم تركيا كي يصوغوا وحدهم سوريا الجديدة؛ ذلك أن المصالح
العليا للدولة التركية تتناقض كليا مع استمرار نظام الأسد الذي تحالف طيلة السنوات السابقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي وتواطأ معه في إخلاء مناطق الكثافة الكردية في سوريا من قوات النظام مساهمًا على نحو مباشر في تشكيل
كانتونات كردية ترى تركيا فيها خطرًا مباشرًا يمس وحدتها وأمنها القومي.
على ضوء ذلك، مالت أنقرة لاعتماد مقاربة جديدة ذات شقين؛ مواصلة الضغط العسكري على نظام الأسد في جبهتي حلب وإدلب (ومؤخرًا في جبل التركمان) ومدِّهما بكل أسباب الصمود، وإنشاء قطاع صديق من الأراضي داخل سوريا للحيلولة دون ربط الكانتونات التي أسسها حزب الاتحاد الديمقراطي بعضها ببعض، ودون وصول نيران «داعش» إلى المدن التركية المحاذية للحدود كما حصل في كيليس.
من المرجح أن تركيا باتت على قناعة بصحة الحكمة السياسية التي صاغها الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت: «تكلمْ بهدوء واحمِلْ عصا غليظة»، ففي خضم الهاوية السورية لم تتكلم تركيا بهدوء ولم تحمل عصا غليظة، وهو ما أدركت
أنقرة خطأه على ضوء التطورات الأخيرة التي عصفت بالمنطقة. وفي اعتمادها المستجد للهجة الحوار مع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية وفي حزمها وعدم تهاونها لمواجهة الأخطار التي تحدق بالجمهورية، تكون تركيا في طريقها لاجتراح معادلة جديدة قادرة على الاستجابة للتحديات الإقليمية التي تتهددها وعلى صوغ الحلول والتسويات السياسية التي تضمن مصالحها العليا التي يأتي في مقدمتها إنجاز تغيير سياسي حقيقي في سوريا.
لماذا سخر بعضهم في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من الرئيس السوري، بشار الأسد، ومن طريقته في تقييم المرشحين الرئاسيين الأميركيين، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب؟ ما قاله سليم من الناحية المنطقية، وتثبت كل الوقائع على الأرض صحته، فالولايات المتحدة في خطر، وعليها أن تُحسن اختيار رئيسها من أصحاب الخبرة، وإلا فهي أمام عقبات كبيرة، وعليها أن تتعلم من التجربة السورية، فسورية التي ليست في خطر، وآمنة ومستقرّة، استطاعت أن تحقق ذلك بسبب أنها تختار رئيسها دائماً من أصحاب الخبرة، أو من أبناء أصحاب الخبرة.
قال الأسد، في مقابلة مع شبكة "إن بي سي نيوز" إن كلاً من المرشحيْن، هيلاري وترامب، لا يمتلك الخبرة الكافية ليكون رئيساً، وذلك يشكل خطراً على الولايات المتحدة. وإنه إذا عمل أحدهم سنواتٍ في الحكومة، أو في الشؤون الخارجية، فلا يعني ذلك أنه جاهز ليكون رئيساً.
وتساءل: "من امتلك الخبرة سابقاً؟ أوباما؟ أم بيل كلينتون؟ أم جورج بوش؟ ما من أحد منهم كانت لديه الخبرة، هذه هي مشكلة الولايات المتحدة... وهذا طبعا يشكل خطراً على بلادهم بشكل عام".
هل من كلام صحيح أكثر من هذا؟ بالفعل، كل الرؤساء الأميركان لم يكونوا يمتلكون أي خبرة بالرئاسة، حين أصبحوا رؤساء. ومع الأسف، لا يسمح النظام السياسي الأميركي لهم باكتساب الخبرة الكافية، فبعد دورتين فقط، يغادرون مناصبهم، بعد أن يصبحوا مزودين بالخبرة الكافية ليكونوا رؤساء للأبد، وينقلوا السلطة إلى أبنائهم من بعدهم، ويصبح من حقهم أن يقتلوا ربع شعبهم، ويحاصروا ربعه، ويدفعوا نصفه إلى الهجرة، ليبقوا في مناصبهم، وتستفيد الولايات المتحدة من خبرتهم الرئاسية.
ويحق للرئيس السوري بشار الأسد أن يطلق الأحكام، ويقدّم النصائح، فهو صاحب خبرةٍ رئاسيةٍ كبيرة رضعها مع الحليب، وليس كأولئك الرؤساء عديمي الخبرة الذين تفرزهم الدول الديمقراطية، وهو رئيس ابن رئيس يفوز كلاهما بالانتخابات بنسبة تسعة وتسعين بالمائة، وليس مثلهم أولئك الأغرار الذين يفوزون بنسبة واحد وخمسين بالمائة.
وهو كذلك رئيس دولة تعاني من عقباتٍ بسيطة، مثل حرب أهلية مستمرة منذ خمس سنوات، ولا تحتل داعش سوى ربع أراضيها، ولم يقتل من أبنائها سوى بضع مئاتٍ من الآلاف، ولم يهجر سوى الملايين، ولم يسقط تحت خط الفقر سوى تسعين في المئة من السكان. وهذه العوامل كلها لا تجعل بلده في دائرة الخطر، لأنه بلد محظوظٌ اختار رئيساً صاحب خبرة.
وبهذا التصريح، يستحق الأسد براءة اختراع فكرية لهذه الفكرة العبقرية التي تجعل من شروط الترشح للرئاسة أن يكون الشخص رئيساً، وهي تشبه النكتة المصرية القديمة التي كان يتم تداولها في آخر انتخابات رئاسية في عهد حسني مبارك، وتقول إن وزارة الداخلية المصرية أعلنت شروط الترشح، ومنها أن يكون قد أتم الأربعين من العمر، وأن تكون لديه خبرة لا تقل عن خمسة وعشرين عاماً في الوظيفة التي يتقدّم إليها.
ويستحق الأسد تكريماً سياسياً، لاعتباره العمل وزير خارجية أربع سنواتٍ، لا يقدم أي خبرة سياسية، وهو بذلك يقيس على وزير خارجيته، ووزراء الخارجية الذين يعرفهم، فلا علاقة لهؤلاء بالقرار السياسي، المحتكر للعائلة ولضباط الأمن، ولحلقةٍ ضيقة من المقربين، وربما لو أتيح للأسد أن يستطرد في شرح فكرته كما اعتاد، لقال إنه راضٍ عن رئيس أميركي واحد هو جورج بوش الأب، لأنه يتحدر من المخابرات المركزية، وهو، من وجهة نظر الأسد، جدير بالرئاسة، مثل حليف الأسد نفسه، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القادم هو الآخر من مؤسسة المخابرات، فعقل الأسد لا يعتبر العمل مهماً، ما لم يكن مخابراتياً أو عسكرياً، وكل ما عدا ذلك لهو ولعب.
يحق للأسد إسداء النصائح للناخب الأميركي، وتحذيره من المصير الأسود الذي ينتظره، في حال انتخب أيا من المرشحين للانتخابات الأميركية، وهو بنظرته الثاقبة يرى الخطر الذي يتهدّد الولايات المتحدة، وبحرصه الشديد عليها، يرى من واجبه أن يحذر من خطر يراه، ولا يراه البشر الطبيعيون.
هناك خطأ واحد في تصريح الأسد، أنه جمع جورج بوش الابن مع بقية الرؤساء والمرشحين الرئاسيين الأميركيين، فهناك صفتان مشتركتان بين الرجلين: أن كليهما ابن رئيس، وأن كليهما أحمق.
جرى في الأسبوعين الأخيرين الإعلان عن هدنة لمدة ثلاثة أيام في سوريا بهدف وقت العمليات العسكرية وما يرافقها من قتل وتدمير وتهجير، لتوفير أجواء تساعد بالمضي نحو حل سياسي وفق التصورات الدولية، التي تتابعها الأمم المتحدة عبر مبعوثها الدولي ستيفان دي ميستورا، وبدعم من الولايات المتحدة وروسيا. ثم جرى الإعلان من جانب نظام الأسد عن تمديد تلك الهدنة. رغم أن الأولى لم تمر دون خروقات فاضحة من جانب نظام الأسد وقوات حلفائه في قصف المدن والمناطق السكنية، خصوصًا مع شن هجمات برية واسعة، وهو ما ردت عليه قوات من المعارضة المسلحة من باب «الدفاع عن النفس» حيث أمكن ذلك.
المكرر في الهدنة الثانية، كان استمرار هجمات النظام وحلفائه الإيرانيين والميليشيات الشيعية وسط دعم جوي روسي لأغلب تلك الهجمات، وخصوصًا الهجمات في حلب شمالاً، التي ترافقت مع هجمات على مدينة داريا على سوار دمشق الغربي.
تمديد النظام للهدنة، وما رافقها من خرق مكثف من جانبه، كان يحمل رسالتين، أولى الرسالتين كانت موجهة للرأي العام وللعالم الخارجي، جوهرها أن نظام الأسد وتحالفه، إنما يساعد عبر وقف القتال في التهدئة ودعم الجهود الدولية من أجل حل سياسي للقضية السورية، أما الرسالة الثانية، فكانت موجهة إلى السوريين وخصوصًا المعارضة المسلحة في المناطق التي تسيطر عليها، وخلاصتها، أن لا سبيل للتعامل معكم سوى من خلال الحرب والدمار، فلا هدن ولا مفاوضات ولا حلول، ووسط هذه الرسالة العامة، كانت ثمة رسالة تفصيلية موجهة إلى حلب، تؤكد مساعي نظام الأسد وتحالفه لحصار حلب عبر إغلاق معبر الكاستيلو، الأمر الذي يعني عزل حلب، وأخذها إلى الأسر والتجويع والتدمير والقتل البطيء، تمهيدًا لاجتياحها على نحو ما جرى تطبيقه في مدن أخرى، والتفصيل الآخر المتعلق بداريا، كان أشد دموية عبر الإصرار على اجتياح المدينة وتدميرها وقتل كل من فيها من أطفال ونساء وشيوخ ومقاتلين دافعوا عن المدينة الواقعة تحت الحصار منذ نحو أربع سنوات.
فكرة نظام الأسد في تمديد الهدنة بالتزامن مع محتوى ثنائية الرسالة بين الخارج والداخل، فكرة جديدة مستمدة من سلوك روسي، جرى تطبيقه في سوريا في هدنة سابقة بمدينة حلب، ووقتها قابل نظام الأسد وحليفه الإيراني وميليشياته اللبنانية الإيرانية بالتحفظ، غير أنه تراجع عن التحفظ فيما يبدو، سواء بسبب إقناعه من جانب حليفه الروسي، أو نتيجة دراسة الفكرة وتقليبها، وصولاً إلى نتيجة أنها تتوافق بشكل عميق مع استراتيجية الكذب مقرونة بسياسة القتل والتدمير، التي اعتمدها منذ بدء ثورة السوريين عام 2011.
ففي بداية الثورة ومع بدء عمليات قتل السوريين، أنكر وجود الثورة ومطالب السوريين بالحرية والكرامة، وعندما اضطر للاعتراف بالثورة، راح يصفها بأنها ثورة متطرفين وإرهابيين، ليبرر عمليات القتل المتزايد، ثم أضاف إلى ذلك، أكذوبة التدخلات الدولية السياسية والعسكرية لاستباحة الدولة السورية وتدميرها، فيما كان يستدعي حلفاءه من إيرانيين ولبنانيين وعراقيين وأفغان، ويفتح أبواب البلاد لقدوم الإرهابيين والمتطرفين من كل بلدان العالم، وعندما استعمل السلاح الكيماوي ضد المدنيين وخصوصًا النساء والأطفال في غوطة دمشق وقتل المئات منهم، كرس كذبة كبيرة على لسان مستشارة رئيس النظام، بالقول إن الإرهابيين نقلوا أطفالاً من مناطق الساحل السوري إلى الغوطة، ثم قتلوهم بالأسلحة الكيماوية، وهذه بعض ملامح استراتيجية الكذب المقرونة بالقتل والدمار والتهجير في ممارسات نظام الأسد وتحالفه من روسيا إلى إيران، إضافة إلى الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية وغيرها.
الإدماج والديمقراطية التركية
التجنيس بين الاقتصاد والسياسة
التنافس والاستقطاب
أثارت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول تسهيل إمكانية الحصول على الجنسية التركية للاجئين السوريين الراغبين بها، جدلا كبيرا في الأوساط السياسية والإعلامية داخل تركيا وخارجها، حيث اشتعلت على مواقع التواصل الاجتماعي، موجة من الهاشتاغات الرافضة للتجنيس، والمعادية لوجود السوريين بشكل عام في تركيا.
وقد قابلتها موجة أخرى مرحبة بهذا الوجود، ومضخمة لمسألة تجنيس السوريين، مع أن حقيقة الأمر لا تتعدى تسهيل إجراءات الحصول على الجنسية التركية لذوي الكفاءات والخبرات العلمية والتقنية ورجال الأعمال المميزين، وعددهم في تركيا لا يتجاوز 50 ألف سوري، فضلا عن أن لجنة تركية مختصة، كلفت بإعداد ملف التجنيس، ورفعت تقريرا إلى رئاسة الجمهورية، يتحدث عن تجنيس الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات، ويوصي التقرير بضرورة اتخاذ إجراءات لتسهيل حصول الراغبين منهم على الجنسية التركية وعلى دفعات.
الإدماج والديمقراطية التركية
اعتبر بعض الساسة والكتاب الأتراك أن مسألة إدماج ما يقارب 2.7 مليون لاجئ سوري في المجتمع التركي اختبارا حقيقيا للديمقراطية التركية، وأن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال زيارته لمخيم للاجئين في مدينة كيليس في الثاني من يوليو/تموز الجاري تدخل في هذا الإطار، لكنها أشعلت نقاشا وطنيا حول مستقبل اللاجئين السوريين في تركيا، ووصل الأمر إلى نشوب جدل حاد على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أطلق الرافضون لتواجد اللاجئين السوريين في تركيا هاشتاغ # لا أريد السوريين في بلدي، وتصدر موقع تويتر.
ولاشك أن اندماج اللاجئين السوريين في المجتمع التركي يتطلب إجراءات تقنية وقانونية، وهناك وعود، بل وإجراءات محدودة في هذا المجال، لكن مسألة اللاجئين السوريين، ينظر إليها من جهة اختبار النموذج التركي للديمقراطية، وتأتي قدرة الحكومة التركية على اتخاذ إجراءات، تسهل منح الجنسية للاجئين السوريين، كي تكسر الجمود في هذه الأزمة الإنسانية، التي يعاني من تبعاتها ملايين السوريين، بعد أن أجبرتهم الحرب الشاملة التي يخوضها النظام الأسدي وحلفاؤه الروس والإيرانيون ضد غالبيتهم إلى مغادرة بلادهم، وباتوا يعانون كثيرا من تبعات التهجير القسري.
وليس ثمة في الأفق ما يشير إلى نهاية مأساتهم المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات، الأمر الذي جعلهم يهيمون على وجوههم، بحثا عن ملجئ آمن، وملاذ يمكنهم من العيش والاستقرار، لذلك يشكل الحصول على الجنسية التركية، أو أي جنسية أخرى، بالنسبة إلى أغلبهم، حلما بعيد المنال.
ويجادل الباحث التركي برهان الدين دوران بأن بلاده لم تمنح حق اللجوء للسوريين بسبب الوضع القانوني للجوء، نظرا للقيد الجغرافي الذي وضعته اتفاقية جنيف حول اللاجئين في عام 1951، وأنها لو منحتهم الوضع القانوني، فإنه سيرتب عليها مزيدا من الأعباء والمسؤوليات، وخاصة تقديم المساعدات المالية وتأمين التعليم والتوظيف لهم، لذلك يعتبر أن منح الجنسية للاجئين السوريين، هو الخطوة التالية بعد نظام الحماية المؤقتة الذي تطبقه الحكومة.
ويرتبط النقاش حول منح الجنسية بالتركيز على مستقبل السوريين في تركيا من جهة كونها مسألة سياسية وإنسانية طويلة الأمد، وقد صدرت دراسات عن مراكز بحوث وجامعات تركية، حيث أوصت دراسة لجامعة "حاجي تيبه" (HÜGO) التركية، الحكومة والشعب التركي، بالاستعداد نفسيا على الأقل، على تقبل احتمال أن غالبية اللاجئين السوريين في تركيا سيبقون في تركيا ولن يعودوا إلى بلادهم. وأظهرت أن "13 في المئة من اللاجئين السوريين في تركيا يقيمون في المخيمات، أما البقية فقد اعتادت الإقامة في المدن، وأسست وسطا تعيش فيه، وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وتقبل على تعلم اللغة التركية، وشجعهم على ذلك حسن الاستقبال الشعبي، وعدم ظهور موجة رفض اجتماعية كبيرة ضدهم".
ويرى الكاتب التركي أَسَر قرقاش، أن "القسم الأكبر والأهم من السوريين أناس متعلمون ومثقفون، ويوجد بينهم كثير ممن يتقنون اللغة الفرنسية والإنجليزية، وكثير منهم لديه مهنة واحدة على الأقل"، وبالتالي يمكن لهؤلاء العمل في تركيا، ويستطيعون تأسيس أماكن عمل وفرص استخدام للعمال. كما أن ذلك "يُخفف الضغط عن السيد أردوغان حول التناقص في عدد السكان الذي يخشى منه، ذلك أن ضمّ ما يقارب مليوني شخص إلى كثافتنا السكانية، ولغتهم الأم هي اللغة العربية سيؤثر على النظرة السيئة في مجتمعنا، حول مفهوم المواطنة العنصري الخارج عن المفهوم العام في هذا العصر، والموجود ضمن المادة 66 في الدستور الحالي، وتغيير هذا المفهوم مهم جدا، ويضغط اجتماعيا بشكل إيجابي على العنصرية والتمييز العنصري".
ويخلص قرقاش إلى أن "ضمّ مليوني مواطن عربي إلى مواطنينا، من شأنه أنّ يُؤثّر على مكانة تركيا في الشرق الأوسط بشكل كبير جدا، ويقودها إلى نقطة قوية وثابتة أكثر مما هي عليه الآن".
غير أن المعارضة التركية، لها قول مختلف تماما، إذ ترى أن تسهيل إجراءات منح الجنسية التركية للسوريين الراغبين فيها، يدخل ضمن سعي أردوغان للحصول على مليون ونصف مليون صوت إضافي كي يتمكن من تعديل الدستور وتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي، واعتبر بعض قادة حزب الشعب الجمهوري أن الرئيس يريد توطين اللاجئين السوريين في الولايات ذات الأغلبية الكردية والعلوية ما يعني القيام بعمليات تغيير ديموغرافية في تلك المناطق.
وقد سبق أن تعهد رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم خلال حملته في انتخابات السابع من يوينو/حزيران 2015، فيما يتهم بعض أعضاء حزبه ومناصريه اللاجئين السوريين بأنهم "دواعش"، وأنهم سينجبون كثيرا من الأطفال، بما يفضي إلى زيادة عددهم ليصل إلى 20 مليون نسمة خلال العقد المقبل، وأنهم سيطالبون بحكم ذاتي في ولاية "هاتاي" (أنطاكية) وغازي عنتاب وكليس.
التجنيس بين الاقتصاد والسياسة
منذ اندلاع الثورة السورية وقفت القيادة التركية إلى جانب مطالب السوريين في الحرية والخلاص من الاستبداد، ومع الحرب التي أعلنها النظام على الثورة وحاضنتها الاجتماعية، بدأ الفارون من أتونها في اللجوء إلى تركيا التي اعتمدت سياسة الباب المفتوح إزاء جميع اللاجئين السوريين، وهناك اليوم أكثر من مليونين و700 ألف سوري يقيمون في تركيا، لكنهم لم يمنحوا صفة لاجئ، بل اعتبرتهم الحكومة التركية ضيوفا بموجب نظام "الحماية المؤقتة" الذي يتضمن إجراءات قانونية تلجأ إليها الدول لتنظيم وضعٍ تعتبره استثنائيا ومؤقتا، يختص بمنح الحماية لفئة محددة من الأجانب دون التقيد بالأحكام المتعلقة بالأجانب، والحماية الدولية في قوانينها المحلية، أو المنصوص عنها في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة والتي صادقت عليها الدولة المعنية.
ونظام الحماية المؤقتة الذي أنشأته الحكومة التركية يتماشى مع المعايير الدولية، للتعامل مع الزيادة الكبيرة والمفاجئة لأعداد اللاجئين الذين يعبرون الحدود، ويضمن الإقامة غير المحدودة في تركيا، وحماية من الإعادة القسرية، وتوفير خدمات الاستقبال ومعالجة الاحتياجات الأساسية الفورية.
ومنذ عام 2011، يتم تقدم المساعدات للسوريين بشكل منتظم داخل المخيمات، أما بالنسبة لمن هم خارجها، فتقدم المساعدة على أسس خاصة، باستثناء الحصول على الرعاية الصحية والطبية العامة، والتي فتحت أمام جميع السوريين في تركيا. ويشمل نظام الحماية المؤقتة جميع اللاجئين، بمن فيهم الذين لا يملكون وثائق تعريف شخصية كالهوية وجواز السفر. كما يشمل أيضا الفلسطينيين من سوريا، وكذلك الأشخاص بدون جنسية القادمين من سوريا.
ويقرّ الاقتصاديون الأتراك بالإسهام الكبير للسوريين في دورة الاقتصاد التركي خلال السنوات الخمس الماضية، ورغم كونهم شكلوا عبئا على الاقتصاد التركي، فإن العائد الاقتصادي لاستثماراتهم وخبراتهم وقوة عملهم في تركيا كانت أكبر.
وقدم السوريون إلى سوق العمل التركي خبرات عديدة، وكذلك للمنشآت والمصانع التركية، فضلا عن الورش والمطاعم وسواها، إضافة إلى قوى عاملة رخيصة، واحتلت رؤوس الأموال والشركات السورية التي تم تأسيسها في تركيا خلال العام الماضي، المرتبة الأولى بين المستثمرين الأجانب في البلاد، بنسبة وصلت إلى نحو 22.3 بالمئة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وذلك وفقا لبيان صادر عن رئاسة هيئة الطوارئ والكوارث الطبيعية (آفاد)، التابعة لرئاسة الوزراء التركية، وأسّس رجال الأعمال السوريين خلال العام الماضي ألفا و429 شركة، وليست هناك أرقام دقيقة لحجم الاستثمارات السورية في تركيا، ويقدرها بعض الاقتصاديين بحوال 10 مليارات دولار أو ما يزيد عن ذلك.
ولا شك أن تجنيس الراغبين من اللاجئين السوريين، يهدف إلى الحفاظ على الأموال والاستثمارات والخبرات، خاصة وأن الاقتصاد التركي شهد تباطؤا في النمو نتيجة أزمات عديدة.
وإن كان الاقتصاد له أسهم في مسألة تجنيس السوريين في تركيا، فإن السياسة أيضا لها ما تقول، وخاصة أن المسألة أدخلت في التجاذبات السياسية ما بين الحكومة والمعارضة، فالحكومة هي من تتولى هذا الملف، وكل ما تمارسه أحزاب المعارضة يدخل من باب ما يمكن تسميته "فقه النكاية" أو المناكفة، خاصة أن الصراع السياسي بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وأحزاب المعارضة الثلاث (حزب الشعب الجمهوري، والحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطي)، شهد تجاذبات شتى منذ دخول المسألة السورية على خط السياسة التركية، ومرشح لمزيد من الاحتدام حال اتخاذ الحكومة التركية رسميا، إجراءات لتسهيل تجنيس السوريين.
وترى المعارضة التركية، أن التجنيس المقترح للسوريين هو "خطوة، يراد بها توفير غطاء لتحقيق أهداف سياسية"، حسبما اعتبر الأمين العام لحزب الشعب الجمهوري كاميل أوكياي سندر. وفي نفس السياق ذهب نائب رئيس حزب الحركة القومية مهميت غونال إلى التساؤل عن "خفايا" إثارة الحديث عن تجنيس السوريين في هذه المرحلة، وعما إذا كان يرتبط بـ"صفقة مع إسرائيل وروسيا"، لكنه ركز على أن مسألة تجنيس السوريين، تشكل خطوة، "يريد منها أردوغان كسب مزيد من الشعبوية".
التنافس والاستقطاب
وإذا كان الجدل حول تجنيس اللاجئين السوريين في تركيا لم يهدأ ومرشح للاحتدام، فإن التنافس التركي مع دول الاتحاد الأوروبي آخذ في الازدياد، حيث نشأ في الآونة الأخيرة تنافس ما بين الأتراك والأوروبيين لاستقطاب الكفاءات والخبرات السورية، ولم يخف المسؤولون الأتراك عزمهم على الاستفادة من طاقات السوريين، وأبدوا في أكثر من مناسبة رغبتهم في أن تهاجر هذه الكفاءات إلى الدول الأوروبية، حيث أكدوا بأن حكومتهم أخبرت أعضاء الاتحاد الأوروبي، بشكل رسمي أنها لن تسمح بأن يتم نقل اللاجئين السوريين من ذوي الخبرات والكفاءات العلمية، ضمن الاتفاق الذي أبرمته هذا العام مع الاتحاد الأوروبي.
لا شك أن الحديث عن تجنيس السوريين يراد به طمأنة السوريين، بأن التغيرات في السياسة الخارجية التركية، لن تطال الموقف التركي من المسألة السورية، فضلا عن مرام وأهداف أخرى، لكن أيا كان الجدل حول تجنيس السوريين، فإن تجنيس بعضهم لن يحل مشكلتهم، ولن ينهي معاناتهم. وإن كان ثمة حلّ، فهو في تلبية مطالب السوريين في الخلاص من نظام الاستبداد، وبناء سوريا الجديدة.
يمتنع العالم عن جرّ النظام الأسدي إلى محكمة الجنايات الدولية، أو أية محكمة دولية أخرى، على الرغم من تقارير هيئات ومنظمات تابعة للأمم المتحدة ومؤسسات دولية أخرى، تتهمه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يؤكد وقوعها ما تعرّض شعب سورية له من عمليات إبادةٍ لم يتصوّر أحد أنه يمكن لمخلوق سويّ، أو حتى لحاكم مافياوي، القيام بها، مهما كان مجرماً ومعادياً للبشر.
بالحصانة التي يمنحها العالم للأسد، صار من حقّ كل سوريٍّ أن يشعر بقدرٍ من الظلم والغضب، يحوّله إلى راغبٍ في الانتقام من عالمٍ سكت على قتله ومحاصرته وتجويعه وتعذيبه واغتصابه وتشريده وتهجيره، ولم يفعل أي شيء على الإطلاق لحمايته، أو ليقول للمجرم: كفى، أنت، بقتلك شعباً يُطالبك سلمياً بحريته، تنتهك حقنا نحن أيضاً في الحرية، وتدوس أرواحنا وتمتهن كرامتنا وتهدّد وجودنا، وتخرج على جميع القوانين والأعراف التي نظمت، وأنسنت، علاقات البشر على امتداد تاريخهم. ويُذكر للسوريين أنهم، على الرغم من فظاعة ما يحدث لهم، لا يقومون بأي شيء يتّسم بالعداء لعالمهم الظالم الذي بلغ حدّاً من الانحطاط الأخلاقي والسياسي، لا يخجل معه من ادّعاء صداقتهم، بينما يستمتع، منذ خمسة أعوام، بالفرجة عليهم، وهم يذبحون، كباراً وصغاراً، من الوريد إلى الوريد.
يشعر السوريون بالقهر، ويدينون مواقف صارت تفخر بعدائها لهم، كمواقف روسيا التي طالما كانوا تاريخياً أصدقاء تقليديين لها، ولعبوا دوراً رئيساً في دخولها إلى المنطقة العربية أوائل خمسينيات القرن الماضي، حين كان الغرب يُحاصرها إلى حد الاختناق، لكنها تفعل اليوم المستحيل، لتبقي مجرماً يفتك بهم في الحكم، وتُجاهر بتأييده، على الرغم من قراراتٍ دوليةٍ وافقت عليها، تضعه في خانة مجرمي الحرب، بل وترسل جيشها للحفاظ على نظامه، بقتل ضحاياه الذين لم يسبق لهم أن أبدوا أي رغبةٍ في تقييد (أو تهديد) مصالحها، في سورية والمنطقة العربية، وأعلنوا دوماً استعدادهم لتفاهمٍ طويل الأمد معها، بسبب ضرورته لحمايتهم من سطوة أميركا وعدوانية إسرائيل، ولإعادة الحياة الطبيعية إلى وطنهم الذي يريدون أن يكون لروسيا دور رئيسي في إعادة بنائه على الصعيدين المدني والعسكري. لذلك، من غير المعقول أن يكون رد روسيا على يدهم الممدودة بالصداقة مقاتلتهم، لإحكام قبضة القاتل على أعناقهم، والإمعان في تهجيرهم وتجويعهم واعتقالهم وتعذيبهم، وتدمير ما بنوه خلال قرون على رؤوسهم.
لا يتفهّم السوريون هذا الموقف الروسي، ولا يقبلونه، وينتظرون أن تبادر روسيا إلى تغييره. وهم يدينون سياساتها التي تقتل مطالبين بالحرية، هدفهم الذي سبق لشعبها أن ثار من أجل بلوغه. ولا يتفهّم السوريون موقف أميركا التي تتظاهر بدعمهم، لكنها المستفيد الأكبر من مأساتهم، والدولة التي تدير أزمتهم، وتصارع بدمائهم خصومها الإيرانيين والروس، وتحقّق تفوقاً إسرائيلياً مطلقاً على المنطقة، بينما ترسم خطوطاً حمراء تحدّد أدوار المنخرطين في الصراع السوري، بما في ذلك دور روسيا. لم يعد السوريون قادرين على تفهم الدور الأميركي أو على قبوله، وهم يرفضون ويدينون الطريقة التحقيرية التي استخدمها باراك أوباما، أخيراً، في الحديث عنهم، وكشف خلالها كم وكيف مارس هو ومساعدوه الكذب عليهم، وضلّلوهم، وقدّموا لهم معسول الوعود، بينما كانوا يسقونهم، في الواقع، سم سياساتٍ من مستويين: واحد خفي، تجاهل حقوقهم ورفض مطالبهم، وآخر معلن، أيّدهم ظاهرياً، لكن هدفه كان تخديرهم وإبقاءهم غافلين عمّا تريده واشنطن منهم ولهم، تنفيذاً لخططٍ اعتبرت في الحدث السوري أزمة تكمن مصلحتها في إدارتها وإطالتها، والتحكّم بمجرياتها، والامتناع عن بذل أي جهدٍ جدّي لإيجاد حلٍّ لها، بما أنها تمكّنها من تصفية حسابات إقليمية ودولية مع إيران وروسيا، وتحول دون وقف الصراع أو السماح بانتصار الثورة أو إيجاد حلٍّ لها، قبل ترويض إيران وإركاعها وإنهاك روسيا.
هل يحق للسوريين أن يروا في أنفسهم ضحايا سياسات تنتهجها الدولتان، يفضي تكاملها إلى موتهم بالجملة وخراب وطنهم؟ وهل يحق لهم أن يغضبوا، وهم يتخبّطون في متاهةٍ صنعتها لهم سياساتٌ دولية متجبرة، تتعمد ألّا تنصفهم أو تتفهم حقوقهم، جعلت منهم أدواتٍ لا تبدو، في الأفق، نهاية لتلاعبها بهم، أو لفردٍ حمايتها على قاتلهم ونظامه وعصاباته.
أيها العالم الظالم: لصبر السوريين نهاية.
لم يدرك العرب إلا متأخرين أن العلاقة التي تربطهم بإيران لم تكن سوية. وكما يبدو فإن محاولاتهم لضبط سلوك النظام الإيراني في حدود اللياقات الدبلوماسية قد باءت بالفشل، وهو أمر كان متوقعا في ظل استمرار ذلك النظام في نهجه العقائدي الذي يستمدّ منه الحق غير المشروع في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.
ولأن تصحيح تلك العلاقة المضطربة أمر ميؤوس منه فإن تفادي أضرارها هو الفعل الإيجابي الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه الدول العربية متجنبة الانزلاق إلى ما هو أسوأ. وهو ما يمكن أن يجرّ المنطقة إلى كارثة شبيهة بحرب الثماني سنوات التي خاضها العراق في ثمانينات القرن الماضي.
وقد تبدو مسألة تفادي الأضرار هيّنة إذا ما ارتبطت بإنهاء تلك العلاقة غير السوية، غير أنها لن تكون كذلك إذا ما تعلق الأمر بمنع النظام الإيراني من الاستمرار في التدخل، مستثمرا هيمنته على عدد من الجماعات والمنظمات والأحزاب التي وضعت نفسها في خدمته وارتضت أن تكون منفذة لمخططاته كما هو حال حزب الله في لبنان.
صار واضحا أن تلك الكيانات التي لم تخف ارتباطها بالنظام الإيراني قد انفصلت بطريقة لا تقبل اللّبس عن أيّ خيار وطني يجمعها بفاعليات المجتمع الذي يحتضنها، بعد أن انساقت وراء المشروع التوسّعي الإيراني الذي يتّخذ من المسألة الطائفية وسيلة له في عزل جماعات بعينها عن المجتمع. وهو ما لم يخفه نوري المالكي زعيم حزب الدعوة الإسلامي في العراق حين تحدث عن الخطر المحدق بالمشروع الإسلامي وهي التسمية المضلّلة للمشروع الإيراني.
ولأن تلك الأحزاب غير الوطنية بسبب ولائها المطلق لنظام ولاية الفقيه تعمل داخل المجتمعات العربية مستغلة علوّ الصوت الطائفي وسط الفوضى السياسية التي تعيشها دول ضعفت أو تلاشت فيها قدرة المجتمع على ضبط سلوك أفراده قانونيا كالعراق ولبنان وسوريا، فإن خطر التمدد الإيراني يفوق بأضعاف الخطر الإسرائيلي الذي تراجع بسبب قوة التدمير الذاتي التي صارت تعصف بالعالم العربي.
وكما أرى فإن جزءا أساسيا من تلك القوة التدميرية يستمد طاقته من وجود أحزاب تشارك في صنع القرار المحلي معتصمة بالخندق الإيراني. وهو ما يجعلها بمثابة أذرع تنفيذية لما يرغب النظام الإيراني في أن يراه سائدا في العالم العربي. وليس من الصائب التغاضي عن تصريحات حسن نصرالله التي يؤكد من خلالها تبعية حزبه المالية والعقائدية والسياسية لنظام الولي الفقيه.
في ظل تلك المعطيات الواقعية تبدو مقاطعة إيران غير مجدية لتفادي أضرارها. فعلى المستوى العملي لا يمكن إنكار حجم التأثير الإيراني داخل القرار السياسي العراقي على سبيل المثال. وهو ما يعني أنّ العراق لن يكون في إمكانه أن يلعب دورا إيجابيا في صيانة الأمن القومي العربي، إذا لم تتح له فرصة إلحاق الضرر بأمن الدول العربية.
وهنا ينبغي التذكير بموقفيْ لبنان والعراق السلبيين من مسألة الإدانة العربية للهجوم الغوغائي المتعمد الذي تعرضت له سفارة المملكة العربية للسعودية في طهران وقنصليتها في مشهد. بطريقة ضمنية كانت إيران من خلال لبنان والعراق حاضرة في مجلس الجامعة العربية يومها.
لذلك فإنّ التصدي للخطر الإيراني لا يمكن أن يكون نافعا من غير تفحّص ومعالجة الأضرار التي ألحقها التمدد الإيراني بالجسد العربي في أوقات سابقة. وقد يكون مناسبا هنا أن يبدأ الحلّ من المسألة السورية التي جعلت من إيران طرفا في تقرير مصير شعب عربي ألقي به في أتون حرب أهلية، لم يكن الموقف العربي منها قائما على أساس الشعور بالمسؤولية إزاء ما يمكن أن تشكّله تلك الحرب من خطر على الأمن القومي.
إن مراجعة نقدية جادة لذلك الموقف من شأنها أن تقلب جزءا من المعادلة المضطربة. فتراجع الدور الإيراني في القضية السورية من شأنه أن يقلّم جزءا من أظافر إيران ويعيدها إلى حجمها الطبيعي. وما لم تنتقل الدول العربية من موقع تفادي تلقّي الضربات الإيرانية إلى موقع المبادرة الاستباقية التي تهدف إلى منع وقوع تلك الضربات، فإن روح التوسّع الإيراني ستبقى قادرة على بثّ سمومها في أجزاء واسعة من العالم العربي وتصدير ثقافة الموت، وذلك أقصى ما يمكن أن تقدمه طهران للآخرين.
في أحسن أحواله وإذا ما توفّرت النيّة الحسنة فإن نظام ولاية الفقيه سيكون متفضلا بكرم إذا ما قدم للآخرين ما يقدمه لشعبه. وهي نتيجة تدعو إلى الشعور بالتعاسة. فإيران بلد كئيب، تتراجع فيه أسباب الحياة، يُدار من قبل طغمة خفية تعتصم بالخط الذي يصل بينها وبين الإرادة المطلقة والصلة منقطعة تماما بين ما يرغب فيه المجتمع وبين ما صار سياقا ثابتا للعيش.
وهو ما يمكن أن يحدث في أيّ بلد، يُقدّر فيه لرجال الدين أن يحكموا سيطرتهم على مجتمعه. لا بسبب ماضويتهم وهو أمر مفروغ منه بل بسبب عقدهم المتراكمة من الحياة، بصيغتها الأرقى كونها مختبرا لتلاقي العناصر وامتزاجها وانصهارها وانبعاثها من جديد في صيغة أقوى وأجمل.
للحياة من وجهة فقهاء الدين المتزمتين صورة واحدة لا تقبل التحديث، هي تلك التي تمهّد للموت. ما من شيء أكثر. وتشهد وقائع السنوات الأخيرة على أن إيران لم تطور شيئا بقدر ما طورت وسائل وأدوات الموت. وإذا ما كان العالم قد منعها من الحصول على السلاح النووي فإنها استطاعت في مكان آخر أن تطور أسلحة للدمار الشامل، هي ليست أقل خطرا من السلاح النووي.
المعجبون بإيران ومريدوها يفاخرون بقوّتها الفتاكة. وواقعيا فإن إيران لم تبخل بخبراتها المتراكمة على جيرانها العرب. فهي لا تصدّر عقيدتها القتالية مجرّدة من موقفها من حقوق الإنسان مثلا. ولهذا فإن حزمة الخدمات التي تقدّمها إيران لأتباعها لا بد أن تؤدّي بالضرورة إلى تدمير فكرة المجتمع المدني وتحدُّ من إمكانية قيام دولة مدنية، يقوم أساسها المتين على شرعة حقوق الإنسان.
ولكم في العراق مثل على ما يمكن أن يلحقه المشروع الإيراني من أضرار مهلكة ببنية المجتمع. فالعراق الذي يمشي على الألغام الإيرانية لا يمكن أن يستعيد شيئا من دولته المدنية التي حطمها المحتل الأميركي. لقد قُدّر للعراقيين أن يُصابوا بخلل دمّر قدرتهم على استعمال حواسّهم، بعد ما سمّم الحزبيون الموالون لإيران حياتهم بمعجزات نظام ولاية الفقيه التي لا يمكن إدراك عظمتها من خلال الحواس المباشرة.
في حقيقتها فإن إيران لا تملك ما تقدمه للآخرين سوى الأزمات. الأزمات المستمرة وحدها هي ما يكسب الميليشيات شرعية تحتاجها من أجل السيطرة على المجتمع. ولأن إيران متعهدة جيدة في مجال إنشاء الميليشيات، ولها في ذلك تجربة عظيمة من خلال الحرس الثوري، فقد كانت حاضرة بقوة في لبنان وسوريا والعراق من خلال الميليشيات التي تأتمر بأوامرها وتمهّد أمامها الأرض لإنجاز حلمها في الاحتلال المباشر. لم تقدم إيران لجيرانها العرب سوى الميليشيات وهي عصابات مسلحة لا تخضع لقانون ولا تعترف بوطن ولا تحترم شعبا. أما المستشارون الإيرانيون من نوع قاسم سليماني فهم خبراء في فنون القتل وعلوم الإرهاب.
لذلك يكون من العبث والسخرية من الحقيقة إذا لم نعترف بأنّ إيران لا تملك شيئا سوى الموت تقدمه للعرب، جيرانها الذين يحلمون بحياة حرة، كريمة يضعون في خدمتها ثرواتهم التي حباهم الله بها.
وإذا ما كانت إيران قد نجحت في غفلة من العرب في نشر رموز الموت من شاكلة حسن نصرالله وهادي العامري في أماكن مختلفة من العالم العربي فلا يزال في إمكان العرب أن يدعموا رموز الحياة في الأماكن نفسها وسواها.
ما يجعلني متفائلا بإرادة الخير شعوري بأن المشروع الإيراني قد وصل إلى طريق مسدودة، وهو ما لا يعني أن النظام سيستسلم ويعكف على نفسه ولا يعني أن الفاسدين ممن أقسموا على الولاء لولاية الفقيه سينسحبون طوعا من المشهد، بقدر ما يعني أن المجتمعات التي كانت غافلة عن المشروع الإيراني باتت اليوم متأكدة من أن هلاكها إنما يكمن في ذلك المشروع.
إرادة الحياة العربية ستنتصر على إرادة الموت الإيرانية، غير أن ذلك الأمر لن يتم من غير العمل القومي المنظم.
شاحنة الموت التي قادها الارهابي وسط الجموع المحتفلة بالعيد الوطني في فرنسا في مدينة نيس كان هدفها قتل البشر وبينهم كثرة من الاطفال الذين أراد أولياء أمرهم ان يدخلوا الفرح الى قلوبهم في هذه المناسبة التي تثير بهجة المحتفلين بها.ولم يقد الارهابي دبابة كما انه لم يقد طائرة حربية لتنفيذ مذبحة نيس بل اعتمد على شاحنة لم يتم صنعها يوما لتكون آلة قتل.
أطفال نيس الذين رحلوا من الدنيا إلتحقوا بأطفال سوريا الذين لا يتوقف إرتحالهم عن الدنيا ببراميل لم تكن يوما آلة للموت قبل أن يكتشف رئيس النظام السوري بشار الاسد أنها كذلك متباهيا بإكتشافه هذا بدلا من الخجل على حد ما قاله في المقابلة التي أجرتها معه محطة تلفزيون إن بي سي الاميركية عشية مجزرة نيس. فقد سأل المراسل الاسد عن البراميل المتفجرة التي يستخدمها نظامه "بصفتها أسلحة غير تمييزية في المناطق المدنية" فإجاب:"ما من جيش يمكن أن يستخدم أسلحة غير تمييزية في مثل هذا الوضع الذي يكون فيه إختلاط تقريبا بين الطرفيّن".ووسط ذهول المراسل الذي هاله ان يعلن الاسد قتل المدنيين من دون إبداء الأسف قال لمضيفه"إنك تعلم ما تقوله المسودة الاولى للتاريخ أنك ديكتاتور قاس تلوثت يداه بالدماء" فرد الاسد:"سأستخدم مثال الطبيب الذي يقطع يد مريض مصاب بالغرغرينا لإنقاذ المريض ولا تقول عندها انه طبيب قاس".
لو سمحت الظروف لارهابي نيس أن يدلي بحديث تلفزيوني لقال ما قاله الاسد حول مبررات جريمته.ولا يشك أحد في أن نبع الارهاب الذي يجتاح العالم اليوم هو واحد.إذ ليس هناك فارق بين قاتل يريد أن يذهب من الدنيا بدماء الابرياء وبين قاتل يريد أن يبقى في الدنيا بعدما ان يتولى ترحيل ملايين السوريين منها .
حاليا تتولى واشنطن وموسكو تنسيق الموقف من سوريا على قاعدة مقترح أميركي يقضي بتوقف طيران الاسد عن أي قصف جوي في مناطق يتم تحديدها مسبقا. وتقول صحيفة التايمز البريطانية إن "على موسكو أن تكون سعيدة بالمقترح الاميركي ... وتعتبره فرصة لتحقيق مصالحها مقابل ان تمارس ضغوطا على نظام بشار الاسد لوقف الغارات على المناطق... التي تكون آهلة بالمدنيين".
المنطقة تمرّ بأسابيع عصيبة كما يشير بعض المحللين. وستكون بؤرة لكل مجانين الارهاب كي يروعوا العالم كما حصل في نيس كلما ضاق الخناق عليهم في سوريا والعراق.وليس حال تنظيمات الارهاب أقل وطأة من أنظمة تستغل الدماء السورية بدعمها نظام الاسد.فالنظام الايراني بقيادة المرشد متمسك بالاسد الى أقصى الحدود في مرحلة التحولات التي أدت أيضا الى إلتباس مثير في الموقف التركي من التعامل مع النظام السوري.وهذا الاختلاط للاوراق يثبت ان الاسد هو ليس سوى سائق براميل يجب وضع حد له بعدما تحول نموذجا لكل مهووس بقتل الابرياء.
منذ 23 عامًا، أعلنت "الأمم المتحدة" أن بلدة "سريبرينيتسا"، الواقعة شمالي شرق البوسنا، منطقة آمنة وتحت حماية قوات أممية، فسلّم المتطوعون البونسيون الذين كانوا يدافعون عن مدينتهم بوجه الصربيين أسلحتهم للأمم المتحدة، وبعد عامين تقريبًا وفي 11-07-1995، قامت القوات الصربية بعملية تطهير عرقي ضد مسلمي البوسنا "المعروفين باسم البوشنياق" وهم الأغلبية الساحقة في تلك المنطقة، فوقعت جريمة إبادة جماعية في "سريبرينيتسا"، وعلى مرأى من القوات الأممية، وصفها السيد كوفي عنان عام 2005 بأنها أسوأ جريمة على الأراضي الأوربية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قتلت القوات الصربية أكثر من 8 آلاف مدني من البوسنيين خلال أيام، وقامت بعمليات اغتصاب ممنهجة للنساء البوسنيات، أثناء اجتياحها للمنطقة.
قبل شهرٍ ونيّف دخلت الأمم المتحدة إلى مدينة "داريا" في غوطة دمشق الغربية، لمعاينة الأوضاع فيها، بوفدين أقل ما يقال عنهما إنهما إهانة لكل المبادئ التي تحملها هذه الأمم، بعد أكثر من أربع سنين تُركت فيها داريا لتواجه كل وكل التجويع والحصار والمنع عن المواد الغذائية والطبية وتواجه البراميل المتفجرة والصواريخ المتنوعة التي جعلتها الصورة الحية لمشاهد لا تُرى إلا في الأفلام الخيالية التي تتحدث عن نهاية الكوكب، ثم قامت قوات نظام الأسد مع حلفائها باقتحام داريا في 11 ـ 07 -2016 إحياءً للذكرى 21 لمجزرة "سريبرينيتسا"، وكانت قد تغافلت الأمم المتحدة عن كل جرائم نظام الأسد وحلفائه طيلة السنوات الفائتة ضد هذه المدينة، ولعل أبرزها كانت مجرزة شهر 05 / 2012.
ومن الملفت أيضًا، دخول عدة وفود من الأمم المتحدة إلى مناطق في غوطة دمشق الشرقية منذ شهرين ونيف، والتي تعاني من الحصار ومحاولات الاقتحام منذ مطلع عام 2013، حيث كانت ما تحمله سيارات الأمم المتحدة لا يكفي لعدة أسر في حي من أحياء الغوطة، ثم بعد أسابيع بدأت عمليات اقتحامٍ للغوطة من قبل قوات الأسد وحلفائها ـ مستفيدةً أيضًا من الصراع الداخلي بين الفصائل ـ، وأصبحت هذه العمليات قاب قوسين أو أدنى من تهديد الغوطة الشرقية كاملة.
لعل 21 عامًا ـ منذ مجزرة سريبرينتسا ـ كانت كافية لتطوير أداء الأمم المتحدة، فلم تعد مضطرةً لوضع مناطق تحت حمايتها ثم تسلميها للمجرمين، بل أصبحت تترك هذه المناطق ليواجه الناس فيها مصائرهم، وتكتفي بإطلالاتٍ لتطمئن أن الناس يموتون على ما يُرام، وأنهم كما ينبغي من العجز والضعف.
يُذكر أن مادلين أولبريت ـ وزيرة الخارجية الأميريكة آنذاك ـ عرضت لمجلس الأمن في جلسةٍ مغلقة 10 / 08 / 1995 ـ أي بعد شهرٍ على مجزرة سريبرينيتسا ـ، صورًا للأقمار الصناعية تُظهر مدافن جماعية لبوسنيين قُتلوا على يد القوات الصربية، لكن المفاجأة أنه تم العثور على 33 جثة، وليس كما ادعت أولبريت حينها أنها لآلالف الجثث، بينما كانت الجثث في مواقع أخرى تم الكشف عنها لاحقًا، ويرى الباحث جورج بمفري في "مذبحة سربينيستا، أخدعة؟" أن: "الحكومة الأمريكية ممثلة بوزيرة خارجيتها حاولت صرف انتباه المجتمع الدولي عن الأماكن الحقيقية لوقوع المجزرة" حيث استخدمت تضليلًا للبحث عن مكان وقوع المجزرة ودفن الضحايا بدلًا عن ملاحقة مرتكبيها والدفاع عن الضحايا، كعادة دور الولايات المتحدة في مثل هذه الحوادث، فقد تحدثت هيلاري كلينتون والسفير الأميريكي في دمشق ـ سابقًا ـ روبورت فورد والمتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، كلهم تحدثوا ونعوا وأدانوا مقتل الناشط غياث مطر في شهر 09- 2011 والذي يُعتبر من أبرز نشطاء داريا والثورة السورية، وتركوا قاتليه دون حساب، وتركوا داريا كاملة تُقتل من يوم انتفضت في آذار / 2011 حتى اليوم، مع أنها جسّدتْ أهم ملامح الثورة السورية وأنقاها، وأفضل تجربةٍ لها على معظم الأصعدة، ولكن "داريا" دفعت ضريبة قربها من قصر نظام الأسد، الذي أصبح علانيةً تحت رعايةٍ أممية، وضريبة نقائها الزائد.
لعلنا لم نفهم بعد الرسالة من هذه الأمم المتحدة، أو لعلها شُكلت حتى تكون على قياس الطغاة لا على قياس الضحايا، فتركُ الناس يُقتلون لا يقلُّ جريمةً عن قتلهم.
بعد أن تذبذب مقياس التوقعات لصالح هذا أو ذاك، وبعد أن وضعت التوترات أوزارها، وبعد أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، يستطيع القلم الآن أن يسجل ما يرتاح إليه القلب ويقتنع به العقل..
المعني من هذا الكلام هو ما جرى ليلة الخامس عشر من تموز في تركيا.. ففجأة وخارج كل التوقعات، حدثت محاولة انقلاب، وكان الغموض سيد الموقف لعدة ساعات.. ثم يحتل الانقلابيون مبنى التلفزيون الرسمي، ويذيعون منه بياناً يعلنون فيه السيطرة على الحكم وفرض الأحكام العرفية ويمنعون التجول إلى غير ذلك من الإجراءات، ومنها استهداف مبنى البرلمان التركي بالقنابل لمنع النواب من الاجتماع تحت قبته، وتعبيراً غير معلن عن النية المسبقة في القضاء على الديمقراطية..
إذن.. الانقلاب نجح، هذا ما يمكن استنتاجه للوهلة الأولى، ثم يبدأ الإعلام العالمي نشاطه العشوائي وتكثر التوقعات والتخمينات، منها البريئة ومنها المغرضة، فبعد الإعلان عن توجه رئيس الجمهورية طيب أردوغان إلى اسطنبول، ثم إلى مطار أتاتورك، اشتغل الدويّ الإعلامي المغرض، ولا سيما إعلام النظام السوري وحزب الله وإيران وإعلام السيسي ومن لفّ لفهم، وأخذوا يفبركون الأخبار وهم يفركون أيديهم فرحاً، ويؤكدون على أن أردوغان في طريقه إلى الهرب خارج البلاد، ومنهم من قال إن أردوغان طلب اللجوء الى ألمانيا..
أما قناة الميادين فتأكد لديها أن الانقلاب نجح بجدارة، من هنا استبقت الزمن كثيراً، حين ذكرت أن " الجيش التركي " أمهل المعارضة السورية يومين فقط لمغادرة تركيا "..
وعلى اعتبار أن إعلام السيسي هو إعلام أحمق، سفيه، فاجر، حاقد، فقد سارع مشاهيره للتعبير عن مشاعرهم القبيحة عبر أقلامهم المأجورة.. فهذا أحد مقدمي البرامج التلفزيونية يقول: لم يقم الجيش التركي بانقلاب، وإنما قام بثورة، وإذا قام الجيش التركي بثورته، فلا بد أن ينتصر، وها هو قد انتصر. "..
حتى مصطفى بكري الصحفي المشهور بصوته الخطابي، وعضو برلمان السيسي، والعاشق المخلص للرئيس بشار الأسد..!!. كتب يقول مقرراً: سقط أردوغان، وبقي الأسد، وانتصر الجيش التركي، وسبحان مغير الأحوال، "..
أما عامة الناس وشبيحتهم، ممن يهوون توزيع الحلوى في الأفراح والليالي الملاح، فقد اشتروا أسفاط الحلوى وهيأوا زمامير سياراتهم للتجول في الشوارع تعبيراً عن سرورهم الغامر، وانتظروا قليلاً ليقوموا بتوزيعها على المريدين والمشاركين معهم في احتفالات سقوط أردوغان.. وهذه حقيقة جرت في دولة عربية شُرّد نصف سكانها واستشهد فيها أكثر من نصف مليون إنسان، كما جرت في دولة عربية ليس فيها دولة.!!!. ومن طائفة تعتمد ثقافة البكاء على دماء الرموز المذهبية التاريخية منذ نحو ألف وخمسمائة عام، وتطالب بالثأر من أحفاد الأمويين في القرن الواحد والعشرين..
ويقال، والله أعلم، إنه بعد سحق الانقلاب، أراد المشترون أسفاط الحلوى ترجيع ما اشتروه، ولكن أصحاب المحلات رفضوا ذلك، فعلق أحدهم ساخراً: اشتباكات بالأيدي في الضاحية الجنوبية وفي العاصمة دمشق بين المواطنين وأصحاب محلات الحلو على خلفية ممنوع ترجيع البقلاة.!!!.. "..
وبما أننا لا نزال نتحرك تحت عباءة " ليلة القبض على البسطار العسكري " فإن المشهد الدرامي تحول فجأة حين ظهر أردوغان عبر جهازٍ نقال، يدعو الشعب التركي للخروج إلى الشوارع لحماية الديمقراطية، وظننا أن أردوغان فعل ذلك كمجرد محاولة يائسة، ولكن المفاجأة العظيمة أن الشعب خرج إلى الشوارع وواجه آليات الانقلابيين وسدوا عليهم المنافذ والطرقات لمنعهم من التحرك والسيطرة على مؤسسات الدولة..
هنا أقف عند نقطة هامة جداً، وهي أن أردوغان توجه بندائه إلى الشعب، والشعب وحده، لحماية تركيا، ولم يعتمد كما هي العادة على المدفع والصاروخ لحماية حكمه وحكم حزبه.. وهذه مسألة ذات مغزى كبير، فكأن أردوغان يريد أن يقول: نحن جئنا بإرادة الشعب، وللشعب وحده الحق في الدفاع عن تركيا وعن نظام الحكم الديمقراطي..
وأخيراً انتصر الشعب التركي على البسطار العسكري، دون الدخول في التفاصيل..
لكن أجمل ما حدث أن الشعب التركي الذي تربى على الديمقراطية الحقيقية طوال أكثر من خمسة عشر عاماً، لبى النداء، بكل فئاته من مؤيدين ومعارضين، وإسلاميين وعلمانيين، ونزلوا إلى الشوارع وواجهوا آليات الانقلابيين وأسلحتهم، وحاصروهم وسدوا عليهم المنافذ والطرقات، وضحى البعض منهم بحياتهم في سبيل أن تبقى راية الديمقراطية الحضارية عالية في سماء تركيا.. حتى أن الأحزاب المعارضة التي كان العداء السياسي على أشده بينها وبين حزب العدالة والتنمية، قد سارعت إلى التضامن مع اردوغان والوقوف ضد الانقلاب.. وبالمحصلة لم نشهد أية شخصية مدنية واحدة وقفت إلى الانقلابيين..
وهكذا كان الشعب التركي بطل ذلك الفيلم الدرامي الطويل..
والملاحظة الملفتة أن الأسلوب الحضاري والإنساني تجلى في التعامل مع الانقلابيين، حين رأينا على شاشات التلفزة عدة مشاهد لضباط معتقلين، وكل واحد منهم يمسك به اثنين من رجال الأمن، دون أن نشهد أية مظاهر تعنيف أو تأنيب أو ضرب بالأيدي أو ركل بالأرجل، وإنما كان التهذيب هو سيد الموقف.. وقد ظهر ذلك أكثر فأكثر في الفيديو الذي خرج فيه قائد إحدى الدبابات مستسلماً، فبدأ بعض الشباب الغاضب يرشقه بالحجارة وزجاجات البلاستيك، ومن حقهم ان يغضبوا فقد سالت دماء كثيرة بسبب دفاعهم عن ديمقراطية الوطن، لكن رجل الأمن القريب منه حضنه كما يحضن أخاه او صديقه، وحماه من غضبة أولئك الشباب.. وهنا لابد من المقارنة بين رجال الأمن التركي الذين تربوا على التعامل الإنساني في دولة ديمقراطية، وبين رجال الأمن في أي دولة عربية دكتاتورية، ولاسيما في سورية ومصر، حيث يموت عشرات الآلاف تحت التعذيب دون سبب أو تهمة..
هذه هي الثقافة الإنسانية التي تربى عليها عناصر الأمن التركي في مرحلة الديمقراطية الحضارية التي أرسى جذورها حزب العدالة والتنمية وعلى رأسه رجب طيب أردوغان..
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، لماذا حدثت محاولة الانقلاب الفاشلة في هذا الوقت بالذات، وليس قبل أو بعد ذلك.!!؟.
ربما التحليل الأقرب إلى الصحة، هو أن تركيا نتيجة وقوفها إلى جانب الشعب السوري، ابتلت بالكثير من الأعداء، من روسيا وإيران والنظام السوري ونظام العراق وأميركا والاتحاد الأوروبي وحتى بعض الدول العربية التي لا يحلو لها العيش إلا في خضم الفتن والمشاكل التي تزرعها في أرض " شقيقاتها العربيات..!! ".. كل هؤلاء بدأوا يحفرون في أساسات الدولة التركية.. حتى باتت مهددة في أمنها الوطني، وفي تمزيقها إلى عدة دويلات عرقية.. فداعش وحزب العمال الكردي يستهدفانها بالتفجيرات المتواصلة، وروسيا وإيران تتربصان بها، وأميركا لم تترك لها أية مساحة للتحرك من خلالها فيما يتعلق بالصراع السوري..
وحين أدرك الجميع أن " الطبخة نضجت " وحان الوقت المناسب للتحرك، أعطوا الإيعاز إلى عملائهم في الجيش التركي الذي يهوى الانقلابات عبر تاريخه الطويل، ثم حدثت المحاولة الفاشلة، ووقع المدبرون والمنفذون في شر أعمالهم..
وما يساند هذا التحليل هو الاتهام الموجه من قبل بعض المسؤولين الأتراك للإدارة الأميركية بأن لها ضلعاً في تنفيذ هذه الحركة الانقلابية، كما اتهموا فتح الله غولن المقيم في أميركا بالتخطيط للانقلاب عبر جماعته المنتشرون في مؤسسات الجيش..
بقي أن نقول إن زمن ما قبل ليلة الخامس عشر من تموز سيختلف كثيراً عما بعده، والانقلاب الفاشل سيؤدي إلى نتائج عميقة ستظهر على المدى القريب والبعيد، وهي نتائج فيما نرى ستكون لصالح أردوغان وتركيا الديمقراطية.. صحيح أن تركيا ستخرج منهكةً بعض الشيء بسبب التطهير الذي بدأ سريعاً في البيتين العسكري والقضائي، وهذا ما عبر عنه أردوغان حين قال: القوات المسلحة ستقوم بتطهير نفسها وإعادة بناء مؤسساتها ".. وإعادة بناء تلك المؤسسات وتمكينها يحتاج إلى بعض الوقت.. إنما ستخرج تركيا في النهاية أكثر قوة وأكثر عمقاً في مسيرتها الديمقراطية، وربما سيتم القضاء نهائياً على فكرة الانقلابات التي سادت طوال عشرات السنين، وربما ايضاً ستتراجع أهمية الرمز العلماني المتشدد، والذي يتجسد في استمرار صورة أتاتورك على جدران مؤسسات الدولة..
"أوقفوا الهجوم على الشيخ مقصود فوراً فإن روسيا ستهجم " هي الرسالة التي قالها المبعوث الأمريكي إلى سوريا ما يكل راتني ، قبل أشهر قليلة من الآن عندما كانت المعارك تدور بين الثوار و قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي عزمت على قطع "الكاستلو" ، و طبعاً فشلت.
راتني الذي جن جنونه من رد فعل الفصائل على تجاوزات "قسد" ، و بوحه بوجود نية روسية عزاها لطابع انتقامي، في محاولة لإخفاء الخطة التي يبدو أنها كانت موضوعة من قبل الروس و الأمريكيين بشأن حلب ، و الهادفة إلى الضغط على الفصائل الثورية إلى الخنق ، و اجبارهم للتوجه نحو "قسد" ، تمهيداً لذوبانهم ضمن هذا التشكيل الذي يحظى بقبول دولي.
بمراجعة بسيطة لتسلسل المجريات التي طرأت على حلب ، و تغيير المجرى باتجاه المدينة ليس لإعادة احتلالها ، و إنما لخنقها ، إذ التركيز كان كاملاً على قطع طرق الامداد سواء البشرية أو الغذائية و بطبيعة الحال الذخيرة ، مع ضرب الحواضن الشعبية و تدمير الخطوط الخلفية التي قد تقدم الدعم سيما في حريتان و عندان اللتان نالتا من القصف ما يكفي لمنع أي حركة .
أذكر إشارة الزميل ماجد عبد النور منذ حين من الزمن أن المستقبل سيظهر أن طيران أمريكا كان يساند نظيره الروسي في حلب ، و قام بالقصف القاسم لبعض المقرات التابعة لفصائل الثوار ، في حين أن "قسد" اتخذت موقف الحياد و عدم التدخل بانتظار اللحظة المناسبة لتقديم العرض للفصائل الثورية بأن تنضم لهم ليشكلوا قوات مشتركة تحكم قبضتها على المناطق الحدودية مع تركيا ، لينطلقا يد بيد في معارك قتال تنظيم الدولة و جبهة النصرة جنباً إلى جنب.
و في اطار قراءة التطورات و استرجاع بعض التصريحات و خصوصاً لـ"راتني" الذي قال في لقاء مع قادات الفصائل بأن ليس أمام الثوار إلا خيارات ثلاث أوضحها بالألوان "الأحمر و الأسود و الأصفر" أي " قوات الأسد – داعش – قسد" و أن عليهم الاختيار اللون المناسب بين هذه الألوان الثلاث، فلا وجود للون الأخضر .
فعلياً التسلسل الآنف الذكر هو المسار الوحيد الذي يمكن أن يجمع عليه أبرز الفاعلين في الملف السوري ، سواء روسيا و أمريكا أم تركيا التي ستضمن عدم تفرد كامل للقوات الكردية بالمنطقة الشمالية ووجود تمثيل عربي جيد نسبياً يحد من طموحات الأكراد بالانفصال التام و الانفراد بدولة قومية.
لاشك أن حديثي السابق قد يكون جنونياً أو ضرب من ضروب الخيال ، و لكنه يبدو واقعياً بعد مشاهدات ميدانية و الأهم بناء على مصادر ميدانية مطلعة عليها ، و طبعا مع التأكيد أن الفصائل تحاول الفرار من هذا السيناريو بما أتوا من قوة .
بعد أن انطفأت ألسنة نيران " محاولة الانقلاب" في تركيا ، و بقاء بعض الدفء تحت الرماد ، يطفو على السطح سؤال ما هو وجه تركيا بعد الانقلاب ، اذ من المفروض أن يكون مختلفاً و متغيراً ، الوجه الذي أقصد هو المتعلق بالشأن السوري و إلى أين تتجه الأمور و كيف مجراها في ظل تطورات غريبة سبقت و تزامنت و لحقت بالمحاولة الفاشلة للانقلاب في تركيا يوم ١٥ الشهر الجاري .
القراءة في مآلات المحاولة الفاشلة للانقلاب على الملف السوري ، تختلف بين النظريتين التين تحدثتا عن "المحاولة"، ولكل نظرية فكرة تختلف تماماً عن الأخرى .
فأولى النظريات تتحدث عن انقلاب فعلي و حقيقي ، وكاد أن يؤتي أوكله لولا "لطف الله" ، كما كررها في ظهوراته الثلاث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، و بالفعل تم النجاة منها و الخروج بدون خسائر مادية ذات قيمة و لكن سيكون الرد عليها بتغيير و تعزيز الطريق في مواصلة دعم الثورة السورية و اتمامها حتى الوصول إلى الهدف ، فالانقلاب الذي تم افشاله يقوم عليه بشكل أو بآخر "فتح الله غولن" الذي يملك نظرة مغايرة تماماً لأردوغان في العديد من القضايا المحورية و من ضمنها سوريا ، و بالتالي فإن نجاح الانقلاب كان يعني أن المصالحة مع الأسد مسألة وقت لا أكثر ، ووفقاً لذلك فإن أردوغان سيرد بشكل معاكس تماماً و يزيد اصراره على الدعم المناهض للأسد ، ويعزز ذلك بعض الآراء التي تتحدث عن إيقاف أو تحجيم الدعم للثوار يأتي نتيجة وجود عناصر داخل الجيش ترفض تنفيذ رؤية أردوغان التي يكررها في كل مناسبة و اجتماع و خروج اعلامي، ألا وهي اسقاط الأسد و محاسبته .
و طبعاً المضي بهذه النظرية، التي تتمتع بشيء من الواقعية، يتطلب أن نطرح أن غولن هو الواجهة الإعلامية أما الداعم الأصيل و الأساسي هو أعضاء بارزون في المجتمع الدولي ، يكاد يشمل الجميع سواء الحلف الروسي أو الأمريكي ، فالاتهامات الموجهة للجميع في المشاركة بإبعاد الحكومة التركية ليصار السير بالمخطط المرسوم و تقاسم المصالح ، بدون شريك مزعج كتركيا ، وهذه النظرية تفضي إلى تصاعد حدة الخلاف التركي مع الجميع ، وقضية الحديث عن إيقاف مؤقت لقاعدة انجرليك ، تسريبات صحيفة عن تدخل ضباط فيها بمجريات ماحدث ، حتى أن الأمر وصل إلى اتهامات بتقديم دعم لوجستي للمنقلبين ، هذه الأمور يجعل تركيا تدافع عن بقائها بكل شيء حتى بالمواجهة و العدائية ، وفق ما أسر به رئيس الوزراء بن علي يلدريم.
وفي اطار وجوب طرح كل النظريات المطروحة يكون لزاماً مناقشة نظرية أن ما حدث عبارة عن خطة مدروسة، من قبل السلطة التركية ذاتها ، بغية تمرير مشروع في غاية الخطورة و يشكل انقلاباً تاماً على المفاهيم و الأسس التي تقوم عليها الدولة التركية ، لا أتحدث عن قضية الأسد أو شأن سوري معين ، و لكن القصد أن الجيش هو المواجه الفعلي و المباشر مع الميلشيات الكردية في جنوب البلاد و أكثر الممتعضين و المعترضين على تمددهم في شمال سوريا ، التمدد الذي يحظى بدعم أمريكي و روسي و لنقل وصفاً عاماً دعم دولي ، وبالتالي لابد من الرضوخ له في هذه المرحلة ، الرضوخ هنا لا يمكن أن يكون من قبل مؤسسة كالجيش التركي المعروف عنها رفض أي نقاش أو مساومة على الأمر و هنا توجب ابعاد الرافضين تحت جنح "محاولة الانقلاب"، صحة هذه النظرية تدفعنا لتوقع تغيير تام و كبير في السياسة التركية اتجاه القضية السورية .
و نحن في دائرة البحث و انتظار أقرب الروايتين للظهور ، يبقى الوضع في الأرض من الصعوبة بمكان يجعل الثبات في النقاط و المحافظة على ما نملك مع التحضير للأسوأ ، وفق مبدأ صيني يقول "على المرئ أن يتمنى الأفضل و يتهيأ للأسوأ".