اختناقات في ذاكرة الرئة
اختناقات في ذاكرة الرئة
● مقالات رأي ٢٢ أغسطس ٢٠١٦

اختناقات في ذاكرة الرئة

يمشي سرًا في ردهات المنزل، يتلصص من خلف الأبواب على أصوات الأنفاس، يريد أن يتأكد أن لا أحدًا يختنق هنا، من يدري؟ فلعل التاريخ قد أحب أن يعيد نفسه.

عادة، في مثل هذه الأيام، يخشى النومَ، يحاول أن ينشغل بأي شيء، فلعل الهواء قد اعتاد القتل، مثلنا، يخشى أن يختنق في نومه أو في حلمه، لقد نجا مرةً، وعادةً النجاة لا تتكرر.

كأنها البارحة، أو كأنها غدًا، تضيق قصبات التنفس مثل خرم إبرة، تتشنج العضلات حتى تكاد تنكمش، ولا يظهر على بياض العيون إلا بقايا الأحداق، رغوة الأفواه تكفي لتُغرق كونًا أحمقًا كالذي نعيش فيه، والجثث المتنفخة بذورٌ أُلقيت على الأرض لتنبت مرة أخرى، اعتاد الناس على نمطٍ واحدٍ من القتل، لماذا تغيرونه؟ التلاعب بأذواق الناس في الموت جريمةٌ أيضًا، لقد اعتادوا على القتل المدمر، حيث تظهر على القتيل علامات قتله أو لا يبقى منه ما يظهر عليه، أما هذا الذي يبقي عليك سالمًا، إنما يأخذ آمال الآخرين ودهشتهم، يكفي أن يحدث ذلك مرة واحدة، ليصبح ذكرى وليصبح مستقبلًا، ليصبح المقتول قاتلًا دون أدنى تردد، ليصبح كل شيء هو العدو الأول، لا مكان لخانة ثانية بين الأعداء.

يحاول أن يغلق باب الأيام، لتمر هذه السنة بدون الواحد والعشرين من آب، ليمر الأطفال أمامه دون أن يخشى تساقطهم حوله، كلما تنفّس طفلٌ راقبه بعناية، هل هو الشهيق الأخير؟!، الحمد لله لقد زَفَر، مازال يرى أن الجميع يعانون من صعوباتٍ في التنفس في هذا اليوم تحديدًا، ويؤكد له ذلك سعالُ أحدٍ ما، ويربكه جدًا لو لهث بقربه أحدٌ لأنه كان يركض أو كان يشتاق.

الذاكرة اختنقت أيضًا، المسؤول عن التذكّر الآن الرئة لا الدماغ، تتذكر شهيقَهم المتتالي، نسيَ الزفيرُ موعده، أحداقَهم، رعشةَ إصبع صغير، انتفاضاتِ أطراف أمٍ تحاول أن تصبح رئةً لابنها، لكنها مذ قطعت حبل المشيمة خانته، كما فعلت بنا دمشق تمامًا، كثيرون أمام الأبواب يحاولون الخروج، مشهدٌ وجوديٌ تمامًا، الهواء يعني الموت، الخروج لا يُغني عن الدخول شيئًا.

كأنهم غرقى لكنهم على اليابسة، حين يغرق الناس في البحر فهناك قاتلٌ غير مباشرٍ لهم، فرّوا إلى البحر منه، ولكن حين يغرقون على اليابسة سيتحول من نجا منهم إلى قنابل موقتة لا يعلم أحدٌ متى وأين تنفجر، كان عليه أن يقتلنا جميعًا.

كعادتها دمشق لم تكن نائمةً، ولا صاحيةً، بخور جوامعها وكنائسها يملأُ الزوايا، عطور فتَيَاتها وشبانها تجعل الجو أثقل، ليس رجاحةً أن يختنق الجميع، وليس عدلًا أن نختنق نحن فقط، ربما لأن الناس هنا غير الناس هناك، فالقرارات كافيةٌ لجعل الناس مختلفين، ربما ياسمين دمشق يبقى ياسمينًا لأن الناس يومًا ما سيحتاجونه، لم يعد في الروح متسعٌ لغضب أو لحقد، لكن عروش الجمال والحنين هذه هدمَتْها صرخة لم تغادر ذاكرة الرئة: "قُوم يا بي قوم، قول يارب ، قول يارب" في محاولةٍ يائسةٍ من أبٍ منهكٍ لينتصر ابنه على كل من قتلوه، ابتداءً بمن أنجبه.

في هذا اليوم، مبررٌ أن تكره "بالزنبق امتلأ الهواء .. كأن موسيقى ستصدحْ"، تتأكد أن أحدًا ما كان يقتاتُها في تلك الليلة، واليوم على بعد مئات الأيام ومئات الكيلومترات، فمن نجا .. مازال يختنقُ.

المصدر: الأورينت نت الكاتب: محمود الطويل
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ