مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٤ ديسمبر ٢٠١٦
«تصدير معتدلين» لخداع العالم

لم تُغير إيران جوهر سياستها منذ سيطرة «آيات الله» على السلطة عام 1979. حدثت تغيرات من مرحلة إلى أخرى في أساليب هذه السياسة الهادفة إلى مد نفوذ إيران الإقليمي إلى أقصى مدى ممكن. توقفت طهران عن رفع شعار «تصدير الثورة»، لأنها صارت في حاجة إلى تكتيكات جديدة لتغطية تصدير قوات «الحرس الثوري» إلى بلاد عدة في المنطقة. ووجدت غايتها في تكتيك يمكن تسميته «تصدير معتدلين»، أو بالأحرى من يمكن أن يبدو للعالم أنهم معتدلون، بعد السماح لهم بهامش من حرية الحركة لأغراض المناورة. وساعدتها في ذلك وسائل إعلام كثيرة في المنطقة وخارجها نقلت الصورة التي رُسمت في إيران عن وجود متشددين ومعتدلين أو إصلاحيين، وكأنها حقيقية، خصوصاً في فترات الانتخابات.

وها قد مرّ نحو عام على الانتخابات الأخيرة لمجلس الشورى (البرلمان)، ومجلس الخبراء، وتبين أن كل التعليقات والتحليلات التي بشَّرت بصعود من يُطلق عليهم «إصلاحيون» لم تكن لها علاقة بالواقع.

غير أن الأمر لم يكن بحاجة إلى كل هذه الشهور الطويلة لمعرفة أن تركيبة نظام الحكم الإيراني قد تتيح وجود أكثر من تيار على سطحه، لكنها تضع السلطة الفعلية بين يدي مركز قوة واحد يقوده المرشد الأعلى ومؤسسته التي تتضاءل بجوارها أدوار أية مؤسسة أخرى، سواء الرئاسة أو البرلمان أو غيرهما.

وكان هذا هو ما حاول كاتب السطور لفت الانتباه إليه في المقال المنشور في «وجهات نظر» في 16 مارس الماضي تحت عنوان «انتخابات إيران.. الواقع والخيال».

وقد ثبت مرة أخرى خلال الشهور التي مرت منذ ذلك الوقت أن شيئاً لم يتغير، سواء على صعيد سياسة إيران في المنطقة ونظامها السياسي، أو حتى على مستوى سلوكها بعد الاتفاق بشأن برنامجها النووي. ولم يكن إجراء تجارب على صواريخ باليستية، وتصاعد الخطاب الذي يركز على تعزيز الترسانة الهجومية الإيرانية، إلا مؤشرين على أن انتخابات 26 فبراير الماضي لم تُحدث أي تغيير ما دام النظام السياسي قائماً على هيمنة مركز قوة واحد. ويُقنِّن الدستور هذه الهيمنة، فلا يترك لمؤسسة الرئاسة والمؤسسة البرلمانية سوى هامش ضئيل يُستخدم من وقت إلى آخر، لتصدير صورة معينة.

لذلك كان لفوز حسن روحاني الذي يوصف بأنه معتدل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وظيفة محددة ترتبط بالمفاوضات النووية التي كانت مرتقبة عند إجراء تلك الانتخابات في منتصف عام 2013 (بدأت المفاوضات في نوفمبر من العام نفسه). كما كان حصول مجموعات من المصنَّفين معتدلين على مساحة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ضرورياً لكي تكتمل الصورة المرغوب تصديرها إلى العالم في إطار الوظيفة التي يؤديها روحاني وحكومته.

ويخلط كثير من متابعي الشأن الإيراني بين هذه المجموعات المعتدلة المرتبطة عضوياً بالقوى المتشددة التي تُوجِّه سياسات إيران المتطرفة وبين التيار الإصلاحي الذي تم توظيفه من قبل خلال فترتي رئاسة خاتمي (1997 –2005)، ثم أُجهز عليه في انتخابات 2009 الرئاسية التي ما زال مرشحاه الأساسيان فيها رهن الاحتجاز حتى اليوم. ورغم أن ذلك التيار الذي أُجهز عليه لم يكن يجادل في ركائز النظام السياسي الإيراني وسياسته الخارجية، فإنه كان يسعى إلى بعض الإصلاحات الداخلية الثانوية، وإلى تحسين العلاقات مع الدول العربية عموماً، ودول الجوار خصوصاً.

أما المجموعات التي يجري توظيفها الآن فهي لا تطمح إلى أكثر من تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب، وإلى إصلاحات اقتصادية تفتح باباً أمام الاستثمارات الأجنبية. والأرجح أن خطاب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية، واختياره بعض أصحاب المواقف المتشددة تجاه إيران ضمن فريق إدارته، ثم تجديد الكونغرس العقوبات عليها.. سيؤدي إلى مد أجل دور هذه المجموعات التي تم توظيفها للحصول على الاتفاق النووي. ولذلك يتصدر روحاني الآن المشهد في رد الفعل الإيراني على تجديد العقوبات الأميركية، ويؤدي الدور المطلوب عبر خطاب ينطوي على رسالة ضمنية تُحذر من أن يؤدي أي تشدد أميركي إلى إضعاف مركز «الإصلاحيين» في إيران.

وهكذا فرض فوز ترامب وتجديد العقوبات استمرار الحاجة إلى تكتيك «تصدير معتدلين»، على نحو سيؤثر في الانتخابات الرئاسية في مايو القادم، والأرجح أن يتيح ذلك لروحاني فترة رئاسية ثانية لم تكن متوقعة بعد أن أخذت طهران ما أرادته في الاتفاق حول برنامجها النووي.

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٦
تدمر في ذمة حلب؟

ليست الغرابة في ان يتمكن تنظيم "داعش" من العودة لاحتلال مدينة تدمر، بعدما كان النظام قد أخرجه منها في آذار الماضي بدعم مكثّف من الطيران الروسي، الغرابة هي في ان يسارع الكرملين الى إلقاء المسؤولية عن عودة الإرهابيين الى تلك المدينة التاريخية على الأميركيين، والأشد غرابة القول إن السبب هو ان الأميركيين لا يتعاونون مع موسكو في محاربة الإرهاب !

الإحساس الروسي بالحرج ليس خافياً، فعندما يذكّرنا دميتري بيسكوف الناطق باسم فلاديمير بوتين بأن "تدمر مدينة سورية، والحديث لا يدور عن فقدان روسيا لتدمر، بل علينا ان نطرح الأسئلة بصيغة صحيحة، ففقدانها ضربة تضرّ بالبشرية المتحضرة برمتها"، فذلك يعني أنه يحاول رفع المسؤولية الروسية عن هذه الخسارة المعيبة!

هي بالفعل عملية معيبة جداً ولأكثر من سبب، اولاً لأن تحرير تدمر من "داعش" في آذار الماضي اعتُبر انتصاراً مهماً وكان يجب ألا تسقط من جديد، وخصوصاً وسط الحديث في هذه الأيام عن انتصارات النظام وحلفائه، وثانياً لأن سقوطها يأتي في وقت يركز الروس والنظام وحلفاؤه على استعادة شرق حلب والبدء بدك مناطق إدلب، وثالثاً وهو الأهم لأن سقوطها مجدداً في يد "داعش"، يشكل ضربة معنوية للنظام ولروسيا في وقت يسجل الأميركيون تقدماً ملحوظاً على الطريق من الباب الى الرقة.

أمام هذا ليس مستغرباً ان تشكل التطورات الميدانية منطلقاً لطرح المقارنة المُحرجة: الروس منهمكون في تدمير حلب والأميركيون منهمكون في السعي لإسقاط الرقة معقل "داعش"، وعلى رغم هذا لا تتردد موسكو في القول إن واشنطن هي المسؤولة عن استيلاء "داعش" على تدمر لأنها لا تتعاون معها!

غريب، لكأن موسكو قبلت يوماً بالتعاون مع واشنطن والتحالف الدولي في الحرب على الإرهاب، وهي التي تركّز كل عملياتها على دعم النظام السوري ولو على جثث المعارضين في حلب وغيرها، وعلى خلفية ما أعلنه بوتين منذ البداية من أن كل معارض للنظام إرهابي!

الفضيحة ان يتمكن "داعش" من العودة الى تدمر، في حين يغرق الروس في تدمير حلب، بينما يندفع الأميركيون في دعم "قوات سوريا الديموقراطية"، وهي تحالف فصائل عربية وكردية، لبدء المرحلة الثانية من حملة "غضب الفرات"، التي يتقدمها جنود أميركيون لطرد "داعش" من معقله الأساسي في الرقة، وهو ما يتّخذ شكل سباق نحو أهداف متناقضة!

لم يكن الروس والنظام في حاجة الى تعاون الأميركيين لطرد "داعش" من تدمر في آذار الماضي، فلماذا الحاجة اليهم الآن على رغم الحديث عن الانتصارات المتتالية في حلب، ثم عندما يوجّه المجتمع الدولي التهم الى الروس بتدمير سوريا على رؤوس أهلها، كيف يتجاسر بيسكوف ويدعو هذا المجتمع الى بذل الجهود لتحرير تدمر؟

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٦
انتصار الأسد: تبييض الجريمة بتسعير الحرب المذهبية

مهما كانت النتيجة في شرق مدينة حلب، فالثابت أنّ العالم وقف، ولا يزال، متفرجا على أكبر عملية قتل وتدمير طالت مدينة في هذا القرن. يجري تبييض الجريمة بعنوان الإرهاب. هكذا يتحول قتل الأطفال وتشريد أبناء المدينة وتدميرها الممنهج إلى أمرٍ عادي لا يهتز له العالم، فقط بذريعة محاربة الإرهاب.

الانتصار الذي بدأ النظام السوري يتحدث عنه ليس سوى انتصار للجريمة وللاستبداد، وهو أيضا انتصار للمقتلة التي نفذت ضد هذه المدينة بالتعاون بين روسيا وإيران ونظام بشار الأسد، وما بينهما من ميليشيات. والأهم هو التغطية الدولية التي جعلت من جريمة الحرب هذه مجرد قتال عسكري بين جيش وعصابات إرهابية، متعامية عن حجم الإجرام الذي ارتكب بحقّ الشعب السوري طيلة السنوات الماضية، وعن مطالبته بحقوقه الدنيا كشعب وكمواطنين في دولتهم.

التدمير ليس لسوريا فقط، ولا لمدنها ولا لأريافها ولا لنسيجها الاجتماعي فحسب، بل التدمير الأكثر أهمية وأكثر عمقا هو الذي يحاول النظام السوري وحلفاؤه تحقيقه، يطال حق الحياة بحرية. إذ لا يتيح هؤلاء ولا المجتمع الدولي من ورائهم أي مجال لإحداث تغيير سياسي يتيح المجال لإعادة الأمل في بناء سوريا. المطلوب هو تدمير إرادة السوريين وجعل البلد بما تبقى من أهله في حال من الطواعية لكلّ ما يمكن أن يكبّل به من اتفاقيات دولية وإقليمية.

هذا هو الانتصار، ذلك أنّ النظام السوري لو كان يعبّر ولو بحدود بسيطة عن نظام المصالح الوطني السوري، لكان أدرك منذ البداية أنّ الانتصار الحقيقي هو في المحافظة على مقومات الدولة البشرية والمادية، بتقديم بعض التنازلات الحقوقية والسياسية لشعبه، لكن هذا النظام الذي طالما صادر الحريات باسم القضايا الكبرى سواء فلسطين، أو شعار حماية الدولة وحدودها وسيادتها، أثبت أنـّه مستعد لتدمير كل البلد والتنازل عن السيادة، وتقديم كل شيء على مذبح البقاء في السلطة. هذا ما تظهره الوقائع حتى اليوم، القرار الرسمي السوري أصبح في يد روسيا وإيران، فيما الملايين من المهجّرين السوريين ومئات الآلاف من القتلى هم مجرد أرقام تجري عملية تبييض الجريمة التي ارتكبت بحقهم تحت أنظار العالم وبرعاية الأمم المتحدة.

 
الانتصار الذي حققه بشار الأسد هو انتصارٌ لروسيا وإيران، وسيتعيّن على الأسد أن يلتزم أكثر بمقتضيات السياسة التي سيفرضها المنتصران. وما سيزيد من مأزق الأسد وحلفاؤه هو العجز عن توفير الاستقرار لسلطته ونظامه، وما سيزيد من تفاقم الأمور هو أنّ الحرب أخذت أبعادا مذهبية يصعب تجاوزها لا سيما مع بقاء حكم الأقلية العلوية، وهي التي تستمد قوتها من قوة شيعية تمثلها إيران.

هذا الواقع بذاته كفيل بجعل الأزمة مستمرة، وكفيل بجعل حالة الاعتراض متنامية وستأخذ أشكالا مختلفة بعد سقوط حلب. بالتأكيد لن تكون الحرب النظامية، لكنّ أشكالا مختلفة من نمط حرب العصابات أو المزيد من الاغتيالات والتفجيرات ستكون وسيلة من وسائل مواجهة فصائل المعارضة لنظام الأسد.

وإذ تؤكد مصادر غربية أنّ ظاهرة تمدد نفوذ القوى الإسلامية المتشددة ستبرز أكثر فأكثر كلّما بدا أنّ المجتمع الدولي سيحامي عن فكرة بقاء الأسد في السلطة، وسيقدم مشروع المواجهة العسكرية ضد الإرهاب على التسوية السياسية والتأسيس لنظام ديمقراطي، وبالتالي فإنّ الشرخ سيتنامى بين النظام ومعارضيه، وستشكل السمة المذهبية اختصارا للمواجهة في الداخل السوري.

قبل نحو ثلاث سنوات كان الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبعد سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، من أوائل الذين أعلنوا أنّ عملية الخلاص من داعش لها بعدان أمني وسياسي ولا يمكن الفصل بينهما، مشيرا إلى أنّ مواجهة هذا التنظيم تتطلب تسوية سياسية داخلية في العراق تكون السبيل لتوفير البديل عن داعش في البيئات التي نجح هذا التنظيم في استغلال حالة القهر داخلها.

لم يقل أوباما في حينها إنّ ذلك يتطلب جهدا دوليا وأميركيا يتجاوز التحليل إلى الممارسة. من هنا تبدو سوريا مثالا لما يمكن أن يصبح عليه الحال في المستقبل كلما تمسكت إيران وروسيا ببقاء النظام. فهذا بحد ذاته سيكون عنصر تفجير دائم في المشهد السوري، وعنصر استثمار دولي وإقليمي، بحيث سيدرك الجميع أنّ الحرب ستستمـر وأنّ الاستنـزاف سيستمر، في غياب أيّ تسـوية سياسية تنطـوي على تغيير سياسي ملموس ومقنع للسوريين. فالحرب على الإرهاب ليست شعارا في نموذج تطبيقاته في العراق وسوريا، ولكنه يشكل مدخلا لبناء استقرار سياسي في هاتين الدولتين، خصوصا وأنّ التطبيقات على الأرض لا تـزال تظهـر أنّ القهـر السياسي مستمر لفئات واسعة من المجتمع، ولم تزل وسائل الحرب المذهبية والطائفية، هي الأداة التي تتحلـق حولها فصائل الحرب، فيمـا يغيب عمليا أيّ مشروع سياسي وطني جامع وقادر على معالجة أسباب القهر تلك التي شكلت، ولا تزال، أرضا خصبة لنشوء جماعات الإرهاب والتطرف.

تسقط حلب الشرقية بالمعنى العسكري لكن عبر سحق كل ما يتصل بقيم الإنسان وحق الحياة وحق التعبير والاعتراض وحق التغيير الديمقراطي. يتمّ ذلك من دون أن يشكل ذلك تحديا للمجتمع الدولي، بل يكافأ نظام الأسد وحلفائه بالمزيد من تشجيعه على ممارسة أبشع الجرائم.

فما فعله هؤلاء طيلة أكثر من خمس سنوات يتناساه العالم اليوم، بل يشجع أكثر على المزيد من التورط في الإجرام والتهجير. أوَ ليس هذا ما رأيناه في سوريا، فكلما أوغل الأسد في القتل والتدمير كلما صار العالم مقرّا بأهمية بقائه ووجوده على رأس النظام.

هذا العالم لم يزل على عهده في بلادنا. هو عالم يحترم من يقتل أكثر من شعوب المنطقة. كانت إسرائيل في زمن مضى، أمّا اليوم فثمة من تفوق بدرجات عليها في القتل والتدمير ويستحق أن يبقى ما دام يحسن قتل الشعوب وقمعها.

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٦
الثورة تواجه الأسد وحلفاءه في حربي السلاح والاعلام.. إدلب مثالا

تزامناً مع الحرب العسكرية التي تشنها قوات الأسد والميليشيات الشيعية على أحياء مدينة حلب المحاصرة، وبعد معارك طاحنة تكبدت فيها الميليشيات مئات القتلى والخسائر والتي لم تفصح عنها حتى لا تؤثر بشكل سلبي على معنويات عناصرها والطائفة المؤيدة للنظام، كانت الحرب الإعلامية والنفسية أحد أكبر الركائز التي اعتمدت عليها في إدخال الخوف للمدنيين، وخلق حالة من الفوضى الشعبية العارمة بين النفوس ساهمت بانهيارها لحد كبير.


يضاف لذلك تكثيف القصف الجوي والمدفعي والمجازر اليومية على مدار أشهر التي كان لها الأثر الكبير في رغبة المدنيين بالخروج من الأحياء المحررة للنجاة، ومع ذلك صمدت حلب لأشهر طويلة رغم الحصار الخانق ورغم منع أي قافلة مساعدات طبية أو غذائية من الدخول، ومن المعروف أن حرب المدن تختلف بشكل كبير عن حرب الأرض المفتوحة في المناطق الريفية والجبلية، حتى أن حدة الضربات الجوية تكون أخف وأقل تأثيراً عنها كما في المدن المكتظة بالسكان.


ومع تراجع الأوضاع التي وصلت إليها حلب بسبب تخاذل المجتمع الدولي أولاً، وعجز فصائل الثوار خارج حلب عن تقديم أي دعم، بعد فشل معركة فك الحصار الثانية، رغم كل الخسائر التي أمنيت بها قوات الأسد والميليشيات الشيعية في المعارك التي شهدتها منطقة الكاستيلو والملاح وحندرات ومعركة الراموسة التي أرهقت إيران وحزب الله، ومعركة فك الحصار الثانية، بسب عدم توازن القوى وامتلاك قوات الأسد دعم كبير جداً من عشرات الميليشيات الشيعية التي حضرتها لمعركة حلب، هذا بالإضافة مع القصف الروسي والدعم الروسي الكبير جواً وبراً.


بالتزامن مع ذلك ومع بدء المرحلة الأخيرة من معركة حلب المدينة بعد تضييق الحصار بشكل كبير على ما تبقى من أحياء تكتظ بعشرات الألاف من المدنيين ما يجعل المقاومة أمراً مستحيلاً، بدأ الحديث عن المرحلة الثانية للمعركة التي ستقودها إيران وروسيا باتجاه " إدلب" في محاولة لكسب المعركة إعلامياً لا عسكرياً وذلك مستغلين حالة الغضب الشعبي تجاه الفصائل الثورة التي وقفت عاجزة عن نصرة حلب، وسط غيابها عن الساحة واستمرار عمليات التناحر والتشرذم بين الفصائل دون اتخاذ التدابير للمرحلة القادمة والإعداد لها بشكل صحيح.


هذه الحرب النفسية والتي بات الإعلام بوجهييه المؤيد والمعارض يتداوله من شأنها أن تخلق حالة من الانهيار النفسي لدى المدنيين في محافظة إدلب، وبالتالي تحقيق الهدف المراد من التويج الإعلامي لمعركة إدلب، والمساهمة في مساندة العدو في ارهاق السكان والحاضنة الشعبية نفسياً لا عسكرياً، وعليه فإن المرحلة الراهنة تتطلب وعي إعلامي حذر يواجه الترويج المضاد، ويعمل على توعية الشارع الثوري في إدلب، لعدم الانجرار وراء الحملات التي تهدف لإضعافه وارهاقه نفسياً، والسعي لتوحيد الخطاب الجماهيري في مطلب الوحدة، والضغط على الفصائل لذلك بالطرق السلمية المتاحة.


كما تتطلب المرحلة وعي عسكري تام لجميع الفصائل في الساحة بخطورة المرحلة، والعمل على اتخاذ التدابير اللازمة لرفع الحالة المنهارة لدى البعض، والعمل بجدية لإنشاء غرفة عمليات عسكرية موحدة وارسال تطمينات للمدنيين تؤكد وقوفهم في وجه أي تحرك كان، وعدم الاكتفاء بالصمت المطبق، وعدم التعامي عما يخطط له العدو، لأن المعركة طويلة وتحتاج لوعي ثوري عسكري ومدني متوازن.

اقرأ المزيد
١٤ ديسمبر ٢٠١٦
أقرب مما يتخيل أحد .. “إدلب” الهدف القادم و توقعات أمريكية بسقوطها خلال عام !!

ماهي الا لحظات قليلة تلت الانتهاء من معارك مدينة حلب ، حتى بدأ اسم ادلب يلمع في الأفق، و تتوجه الأنظار إليها ضمن خطة تلميع الأسد ومنحه القدرة على اعادة احتلال المناطق المحررة، في اطار استراتيجة استغلال كسب المناطق المحررة الواحدة تلو الأخرى ، بعد بدء العدوان الروسي منذ أيلول ٢٠١٥ و زيادة كبيرة بعدد وأنواع المليشيات الشيعية التي تتدفق إلى سوريا من كل حدب و صوب.

المبعوث الأممي إلى سوريا دي مستورا أعلن بالأمس عن صعود ادلب إلى رأس قائمة الأهداف ، مع وعود بالسعي لعدم حدوث سيناريو مشابه لحلب المدينة ، ولكن هناك توقعات أمريكية أن المساعي لن تؤتي نتيجة ، فالأمر شبه محسوم .

و يعزي الأمريكيين سبب عدم قدرة الفصائل الثورية على الصمود كثيراً في ادلب، يعود إلى الاستراتيجية الخاطئة التي تنتهجها هذه الفصائل، حيث  لا يمكنهم الاستمرار بمحاولة السيطرة على أراض كجيش تقليدي لأنهم ليسوا كذلك، وليس في مقدورهم التصدي للطيران الروسي، وفق للسفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد، الذي طالب الفصائل بإعادة التفكير بإستراتيجيتهم.

و يتوقع فورد أن بعد حلب ، فإن الأسد و حلفاءه سيلاحقون الفصائل في ادلب ، و لن تتمكن الفصائل من وقفهم ، محدداً الوقت لتحقيق أهداف الأسد سيكون خلال عام واحد.

في خضم ذلك، لاتزال إلى الآن الفصائل بمختلف مشاربها، لاتملك رؤية استراتيجية أو حتى آنية لمواجهة ما سيحدث، ورغم اليقين بأن الأمر قادم لامحال إلا أن الخلافات التي تعصف في البيت الداخلي لأغلب الفصائل، ولاسيما الاسلامية منها، يحد من القدرة على التفكير.

وتعاني الفصائل ، وإن كان الأمر يشمل الثورة السورية ككل، من غيابأشخاص قادرين على العمل ضمن خط استراتيجي أو التحضر لأسوء الأمور ، اذ الاعتماد في غالبية التشكيلات على عناصر و كوادر تتمتع بـ”الولاء” الايدلوجي للتنظيم أو التشكيل، دون الاهتمام بـ”الكفاءة”، اذ تم استبعاد آلاف الكفاءات و استبدالها بأصحاب “الولاءات” ولو كانت “كفائتهم” منخفضة حد الاضمحلال.

لم تملك الفصائل في أي مرحلة من مراحلها من سوية استراتيجية معينة، اذ دائماً تكون المراحل تسير وفق “ما يتيسر “ لا تبعاً “لما هو مفروض العمل به”، الأمر الذي يكلف السوريين الكثير و أمور تفوق حد الاحتمال ، كفاتورة بسيطة لعناد مبني على اتباع أعمى لقواعد بالية ، يقوم أساسها على انتهاج أساليب متحجرة ، تعب التاريخ من تكرارها و أثبت عدم كفائتها بالصيغة ذاتها، فـ"تبيئت" القواعد تبعاً للظروف مطلوب، لا تغيير البيئة و المحيط تبعاً للقواعد.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٦
سوق ‬تعرية ‬إيران

في‎ ‬سوق ‬السياسة –‬كما ‬في ‬أي ‬سوقٍ-مواسم ‬للربح ‬ومواسم ‬للخسارة، ‬والمتغيرات ‬المتوالية ‬تقول ‬إن ‬موسم ‬إيران ‬في ‬سوق ‬السياسة ‬يتجه ‬لخسائر ‬متعددة، ‬ويمكن ‬بناء ‬على ‬ذلك ‬رسم ‬استراتيجياتٍ ‬جديدةٍ ‬ومتكاملة ‬تستجيب ‬للتغيرات ‬الدولية ‬وتسعى ‬لتحجيم ‬إيران ‬وإعادتها ‬لوضعها ‬الطبيعي. الاستراتيجيات‎ ‬هي ‬أشبه ‬ما ‬تكون ‬بالكائن ‬الحي، ‬فهي ‬تنمو ‬وتتطوّر، ‬كما ‬تهرم ‬وتمرض، ‬وتموت ‬في ‬بعض ‬الأحيان، ‬وهي ‬فعل ‬دائم ‬التشكل ‬والتطور. يدفع‎ ‬مجموع ‬المعطيات ‬الحالية ‬باتجاه ‬واحد ‬هو ‬التغيير ‬القادم، ‬فسيتم ‬قريباً ‬إعادة ‬رسمٍ ‬للتوازنات ‬الدولية ‬والصراعات ‬الإقليمية، ‬وستخرج ‬عن ‬ذلك ‬آثار ‬وتأثيراتٌ ‬لم ‬يتنبأ ‬بها ‬أحدٌ، ‬ما ‬يعني ‬أن ‬ثمة ‬تشكلات ‬جديدة ‬للاستراتيجيات ‬الدولية ‬والإقليمية.

جزء‎ ‬مهم ‬من ‬بناء ‬الاستراتيجيات ‬يكمن ‬في ‬الفهم ‬والاستيعاب ‬المنظم ‬لما ‬يمكن ‬من ‬العناصر ‬التفصيلية ‬ومن ‬ثم ‬الخروج ‬بنتائج ‬كلية ‬متماسكة ‬وهذا ‬سبيله ‬العلم ‬والمعرفة ‬والإحصاءات ‬والأرقام، ‬ويبنى ‬عليه ‬صلابة ‬الوعي ‬وحدة ‬الرؤية ‬وهو ‬أمر ‬سقفه ‬رفعة ‬الطموح ‬وتعالي ‬الأمل، ‬وهو ‬ما ‬يستخلص ‬منه ‬عماد ‬الأهداف ‬المحددة ‬والغايات ‬المرجوة ‬في ‬الحاضر ‬والواقع ‬لدعم ‬القوة ‬والتأثير ‬والفاعلية.

إن‎ ‬الاستراتيجيات ‬المكتملة ‬العناصر، ‬واعية ‬كانت ‬أم ‬غير ‬واعية، ‬قادرة ‬على ‬تغيير ‬مسار ‬التاريخ، ‬بل ‬هي ‬التي ‬ترسمه ‬سواء ‬كانت ‬من ‬أفراد ‬أو ‬مجموعات ‬أو ‬دول، ‬وأحداث ‬التاريخ ‬خير ‬شاهد ‬على ‬طول ‬الزمان ‬والمكان، ‬يسميها ‬الناجح ‬رؤية ‬ويسميها ‬الفاشل ‬مؤامرة.

عوداً‎ ‬على ‬بدء، ‬فإيران ‬تعيش ‬اليوم ‬لحظة ‬تاريخية ‬تتجه ‬فيها ‬للخسارة ‬بعد ‬أرباحٍ ‬ساعدها ‬عليها ‬غيرها ‬من ‬أميركا ‬إلى ‬روسيا، ‬ويجب ‬لإعادة ‬التوازن ‬في ‬المنطقة ‬أن ‬تعود ‬مرة ‬أخرى ‬لتجرع ‬سم ‬الخسارة، ‬ويمكن ‬فعل ‬ذلك ‬على ‬عدة ‬مستوياتٍ ‬منها: ‬المستوى ‬الدولي، ‬المستوى ‬الإقليمي، ‬المستوى ‬الهوياتي، ‬المستوى ‬الإنساني.

دولياً، ‬فبعد ‬سنوات ‬من ‬محاولات ‬إدارة ‬الرئيس ‬أوباما ‬للتقارب ‬مع ‬إيران، ‬توحي ‬الإدارة ‬الجديدة ‬للرئيس ‬دونالد ‬ترامب ‬بوعي ‬أكبر ‬وفهم ‬أدق ‬للنظام ‬الإيراني، ‬كما ‬توحي ‬التعيينات ‬الجديدة ‬باتجاه ‬نحو ‬مواجهة ‬إيران ‬لا ‬التصالح ‬معها.

إقليمياً، ‬فالأزمة ‬السورية، ‬وفيها ‬شركاء ‬متشاكسون، ‬دولياً ‬وإقليمياً، ‬ولكنها ‬ستتجه ‬لخسائر ‬لإيران، ‬بناء ‬على ‬تفاهماتٍ ‬دوليةٍ ‬وإقليميةٍ ‬سيتم ‬بناؤها ‬قريباً، ‬وهو ‬ما ‬يحاول ‬النظام ‬السوري ‬وإيران ‬وروسيا ‬الانتهاء ‬منه ‬لاستباق ‬الأحداث، ‬ومن ‬هنا ‬تأتي ‬الجرائم ‬الدولية ‬الشرسة ‬بحق ‬حلب.

«هوياتياً»، ‬إيران ‬دولة ‬طائفية ‬بامتياز ‬بحكم ‬دستورها ‬وبحكم ‬سياساتها، ‬وهي ‬تبنت ‬على ‬مراحل ‬نشر ‬الصراعات ‬الطائفية ‬كسلاحٍ ‬سياسيٍ، ‬ورعت ‬كافة ‬أنواع ‬الميليشيات ‬وتحالفات ‬مع ‬الأصوليات ‬الحديثة، ‬ودعمت ‬تنظيمات ‬الإرهاب. ‬وحوّلت ‬بوعي ‬الأقليات ‬التابعة ‬لها ‬إلى ‬أقليات ‬متوحشة ‬في ‬العراق ‬وسوريا ‬ولبنان ‬واليمن، ‬وسعت ‬لاستهداف ‬الأقليات ‬المسالمة ‬وتحويلهم ‬لضحايا، ‬كالأزيديين ‬والمسيحيين ‬وغيرهم.

إنسانياً، ‬فقد ‬كسبت ‬إيران ‬كثيراً ‬عبر ‬تبني ‬الإرهاب، ‬كسبت ‬في ‬العراق ‬ولبنان، ‬وأفغانستان، ‬واليمن ‬وسوريا، ‬وهي ‬تسعى ‬لكسب ‬المزيد ‬عبر ‬خلايا ‬التجسس ‬والإرهاب، ‬وكانت ‬معادلتها ‬الدائمة ‬تقوم ‬على ‬قاعدة «‬الإرهاب ‬يحولك ‬إلى ‬لاعب ‬دولي»‬ وسيكون ‬على ‬داعميها ‬الغربيين ‬من ‬وسائل ‬إعلامية ‬وحقوقية ‬أن ‬يعترفوا ‬بالتضليل ‬الذي ‬اتبعوه ‬في ‬الفترة ‬الماضية.

ومن‎ ‬ضمن ‬ما ‬يمكن ‬فعله ‬العمل ‬إعلامياً ‬وثقافياً ‬وفنياً ‬وغيرها ‬بمعنى ‬استخدام ‬القوة ‬الناعمة ‬في ‬فضح ‬الوجه ‬الحقيقي ‬لقساوة ‬وعنف ‬النظام ‬الإيراني، ‬مع ‬التأكيد ‬الدائم ‬على ‬التفريق ‬بين ‬إيران ‬النظام ‬وإيران ‬الشعب، ‬وكذلك ‬إبراز ‬السياسة ‬التوسعية ‬لإيران.

المرشد ‬الإيراني، ‬هو ‬مرشد ‬أصولي ‬وديكتاتور ‬ينتمي ‬للقرون ‬الوسطى ‬المظلمة، ‬كما ‬أن ‬الحرس ‬الثوري ‬يمثل ‬المنظمة ‬الإرهابية ‬الرسمية ‬للدولة ‬الإيرانية، ‬وما ‬يخصه ‬من ‬استثمارات ‬ضخمة ‬وميليشيات ‬شيعية ‬وتنظيمات ‬أصولية ‬سُنية ‬ك«الإخوان» ‬و«حماس» ‬ونحوهما، ‬وتنظيمات ‬إرهابية ‬سُنية ‬ك«القاعدة» ‬و«داعش» ‬كلها ‬تصب ‬في ‬نشر ‬خلايا ‬الإرهاب ‬والتجسس ‬في ‬دول ‬الخليج ‬كمثال، ‬الكويت ‬وخلية ‬العبدلي، ‬البحرين ‬وعدد ‬من ‬الخلايا، ‬السعودية ‬وآخر ‬الخلايا ‬الخلية ‬التي ‬تم ‬الحكم ‬عليها ‬هذا ‬الأسبوع ‬بأحكام ‬تفاوتت ‬بين ‬القتل ‬والسجن ‬والبراءة.

أخيراً، ‬فإيران ‬عاجزة ‬عن ‬التغيير، ‬بحكم ‬أيديولوجيتها، ‬وبحكم ‬تركيبة ‬نظامها، ‬وبحكم ‬هرم ‬قيادتها، ‬وبحكم ‬تجربتها ‬الرافضة ‬للتغيير.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٦
روسيا وثورة سورية... من تستنزف طاقته أولاً؟

تدمج روسيا في استراتيجيتها الحربية ضد ثوار سورية تجربتين حصلتا في العقدين الأخيرين، وفي إطار ظروف وبيئات تتقاطع مع بعض، وليس كل ما هو حاصل في سورية، وتذهب التقديرات الروسية إلى أن هذا المزيج كفيلٌ بإنهاء الثورة السورية، وإحداث واقع جديد يتطابق مع التصورات الروسية لسيطرتها في المنطقة.

الأولى، تجربة الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وهي التي استنسخها نظام الأسد، وجعلها الأساس لخطته الحربية، بإضافة تطويراتٍ تؤدي إلى تبيئتها في الواقع السوري. حينذاك، كان ينقص هذا الواقع وجود واضح للطرف الإسلامي المنظّم، وهو ما عمد إلى تركيبه في المشهد السوري بشكل عنفي، عبر جملة من التكتيكات الإستخباراتية التي عملت على حافة الحرب المذهبية، وصولاً إلى صناعتها واقعاً حقيقياً. بالنسبة للأسد، تعنيه التجربة الجزائرية من زاوية أنها جعلت العالم يتقبل الرواية الرسمية القائمة على محاربة الإرهاب، وتجاوز حقيقة أن القضية في أساسها اغتيال للديمقراطية، إذ يكفي وضع عنوان محاربة الإسلاميين، ثم تدوين ما شئت من ارتكابات ومجازر تحت هذا العنوان.

بالنسبة لروسيا، ما يهمها في التجربة الجزائرية أن السلطة أخرجت معارضتها من المدن والحواضر إلى الصحراء والأرياف، وهناك جرى التحكّم بهم عبر محاصرة خطوط الإمداد ووضعهم في ساحات مكشوفة، سهّلت من عملية تدمير هياكلهم، وبعثرة جهودهم، وتحويلها إلى مجرد عمليات صغيرة بلا فائدة إستراتيجية.

التجربة الثانية، هي تجربة روسيا نفسها في غروزني (الشيشان)، والتي غدت من التجارب الشهيرة في مجالات قمع الخصوم، عبر استخدام استراتيجية "السجادة المطوية" التي تقوم على تقسيم المدينة إلى مربعات، ثم تدميرها مربعاً بعد الآخر، إلى حين تحقيق الحسم، في مقابل عجز الثوار في غروزني عن التأثير في هذه الاستراتيجية، والسؤال: كيف يمكن مواجهة هذه الاستراتيجية في الواقع السوري، أم إن أوان مواجهتها قد فات؟

في السابق، راهن كثيرون من داعمي الثورة وأركانها على أن روسيا سيكون نفسها قصيراً، وستكون مستعجلة على إحداث تغييراتٍ على سطح الحدث، من أجل تحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية في مواجهة منافسيها الدوليين، وأنها لن تحارب كرمى لعيون الأسد. تبدو اليوم هذه الرهانات غير حقيقية، ومن التضليل الاستمرار في نشرها. ولم يعد مجدياً التركيز على البيانات الاقتصادية الروسية المتهاوية، وتراجع التنمية وهبوط سعر صرف الروبل، تلك مؤشراتٌ، على أهميتها، لا تنعكس على موقف روسيا وقوتها في سورية.

في المقابل، راهن ثوار سورية على قدرتهم على امتصاص الصدمة، ومرونة هياكلهم الثورية، وحجم انتشارهم. وفوق ذلك، قوّة الحق الذي تستند إليه قضيتهم ومحفّزات المظلومية التي يقاتلون تحت عنوانها، وقدرة ذلك كله على إنتاج دينامياتٍ ثوريةٍ، تنتصر على أي محاولة لكسرها.

غير أن المعطيات التي كرّستها كل من روسيا وإيران، عبر تغييرٍ ليس فقط معادلات الصراع من خلال الزجّ بقوتيهما إلى أقصى الحدود، بل ومن خلال التغيير المستمر لمسرح الصراع وحيثياته، عبر تأسيس حيثياتٍ لهما على الأرض، سواء على شكل قواعد ومرتكزات عسكرية، مثلما فعلت روسيا، أوعلى شكل إنشاء أهلّة استيطانية في المناطق الاستراتيجية الحاكمة للعاصمة والخواصر الحدودية مع لبنان، وقد ساهم ذلك كله في تدعيم توليد طاقتهما الصراعية، وخفض التكاليف إلى درجة متدنية، بما يجعلهما (روسيا وإيران) قادرتين على تحمل الصراع مدة أطول.

في المقابل، أسهمت إجراءاتهما الحثيثة بنزع طاقة السوريين بدرجةٍ كبيرة على الاحتمال، فقد حطمت الحواضن الاجتماعية، واستنزفت قدرتها على توليد الفعل الثوري، والاستمرار بالصمود، حتى باتت هذه المجتمعات مستعدةً للقبول بتسوية مع النظام، ولو على حساب الثورة.

إذاً، التحدي المطروح اليوم أمام الثورة السورية، كيف يمكن الحفاظ على الطاقة التشعيلية للثورة، وكيف يمكن ابتداع محرّكات جديدة لاستمرارية الثورة، شريطة تحقيق الجدوى وتقليل حجم الاستنزاف، بما يؤدي إلى عكس الأزمة إلى الطرف الآخر.
طالما راهن الثوار على كثافتهم العددية أكثر من رهانهم على أسلوب العمل وطرائقه، وقد استطاع الطرف الآخر إلغاء هذه الميزة من خلال استقطابه آلافاً مقابلة من دول الجوار، أو من خلال استخدام الكثافة النارية التي تضمن تعطيل فاعلية الأعداد وإلحاق الأضرار الكبيرة بها. وبالطبع، من الإجحاف القول إن التكتيكات التي استخدمها الثوار فشلت. هذا جلد للذات غير حقيقي، بدليل أن الثورة استنزفت قوة نظام الأسد، ومن خلفه إيران وحزب الله والمليشيات العراقية، وإنْ لم يكن هذا هدف الثورة، ولا طموحها، بقدر ما كان تحقيق الانتصار على نظام الاستبداد.

تتغير المعطيات اليوم، وتنقلب المعادلات، بما يحتّم على الثوار تغيير الإستراتيجيات، وعلى الثوار أن يوظّفوا معطيات كثرتهم العددية، ومحرّك الحماسة لعدالة قضيتهم في إطار الصياغة الجديدة لاستراتيجياتهم، لا أن يركنوا عليها عناصر وحيدة للنصر.

وعلى الرغم من أن ثمة فوارق بين التجربتين، الجزائرية والشيشانية، والتجربة السورية، وبالتالي، استحالة انطباق نتائجهما على سورية، وخصوصاً لفرق المساحة مقارنة بالشيشان، وحجم التسليح والدعم والعدد، مقارنة بتجربة الجزائر، إلا أن روسيا تحاول ليّ عنق المعطيات وسحبها بهذا الاتجاه، ولا يمكن تغيير الموجة وعكسها إلا من خلال ضخ مزيد من الطاقة في شرايين الثورة، ولعل البداية تكمن في إنهاء تشتت القوى الثورية، وتنظيم الموارد البشرية المقاتلة، وتوجيهها ضمن خطط تعكس رؤية استراتيجية للميدان السوري بكليته.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٦
الثورة باقية ما بقي النظام

مضى على معركة القصير أكثر من ثلاث سنوات، حيث خاض حزب الله بشكل رئيس حرباً ضد قواتٍ معارضةٍ محليةٍ، واستطاع، بعد أكثر من شهر، دخول المدينة الصغيرة، ورفع شعار "ثارات الحسين" فوق مسجدها الرئيسي. كانت الصحافة، بكل أنواعها وتوجهاتها، تطرح تساؤلاتٍ عن نهاية الثورة بشكل مسايرٍ للمعارك الدائرة في شوارع القصير، وتربط بين الاستمرارية ونتائج الحرب، ويوحي بعضها بأن نتيجة المعركة هي نتيجة الثورة النهائية، مع تركيزٍ شديدٍ على ألوان الطيف المذهبية للمعركة.

على الرغم من أهمية المدينة الواقعة على مقربةٍ من عقدة طرق استراتيجية، وملاصقتها الحدود اللبنانية، حيث الوجود المكثف لحزب الله، إلا أنها لم تكن إلا مدينة صغيرة ضمن مدنٍ كثيرة يتطابق وضعها العسكري مع القصير، لكن ربط مصير الثورة بمصير القصير كان مريباً وملحاً حتى صدّقه بعضهم.

بشكلٍ مشابه، أصر الإعلام على متابعة معركة حلب الشرقية، باعتبارها مصيراً نهائياً للثورة، وازداد الزخم الإعلامي على شكل تغريداتٍ وتعليقاتٍ، مع تقدّم قوات النظام في أحياء القاطرجي والصاخور وكرم الشعار، حتى أصبح وقوع حلب تحت مظلة النظام حقيقة واقعة. تعالت النغمة مع نتائج مؤتمر أصدقاء سورية الذي تمخض عنه قبول للمفاوضات "بدون شروط مسبقة"، عبر عنه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، "متعهد" الثورة، وورد على لسان رئيس وفد التفاوض، رياض حجاب. وقد ساد شعور عام بأن نتائج الثورة صارت مجرد ما قد يتركه النظام لوفد التفاوض، هذا إن ترك شيئاً. وأصبحت حلب مركز مواجهة، الغلبة فيها ستكون للأقوى، ومفهوم الأقوى مرتبطٌ بعناصر موضوعية كثيرة، يتعلق غالبها بالتحالفات والاتفاقيات، ومصالح كبرى وصغرى، يتحكّم فيها أطراف ليسوا سوريين بالضرورة. يتعلق هذا المنطق بنتائج حروب مرحلية، وليس له علاقة بنتائج الثورات التي لها سياقات مختلفة، وهدفها إجراء تغيير كلي.

في حلب وفي القصير وفي غيرهما، كان الصراع عسكرياً محضاً، هدفه كسب الأرض، تمهيداً للمعركة التالية. والكتائب المعارضة، ومعظمها إسلامي الطابع والهوية والهدف، تُغرق القطاع الواقع تحت سيطرتها بشعارات الشرعية وحكم الله، أما النظام فيستعيد ما خسره، ويعيد سيرته في تطبيق ما يعرفه من دروس القمع والانتقام، لكنه أيضاً لا يمانع في السيطرة على بقعةٍ فارغةٍ من السكان. هذه السلوكيات العسكرية تجعل مفهوم الحرب الأهلية يطفو على السطح، ويفرض نفسه على وسائل الإعلام، وعلى عقلية الدبلوماسي الغربي الذي يشاهد بمنظارٍ مقرّبٍ، ويعتقد بأنه يساهم بفعالية عند تطبيق عقوباتٍ على هذا الشخص أو ذاك، فيما يدور على الأرض شيء مختلف، يدخل في تركيبته طبيعة النظام ورغبة السوريين وإرث طويل من المعاناة والإقصاء.

بدأت الثورة السورية مع مجموعة أشخاص ثاروا بمظاهرة غاضبة في سوق الحريقة، وجدت مغامراً يصوّرها بأصابع وجلة ومستعجلة، تبعتها سريعاً مظاهرات درعا التي ألهمت جميع المدن السورية، وكان التعبير فيها واضحاً ومباشراً. وعلى الرغم من الطبيعة غير المنظمة للمظاهرات عموماً، ومن ثم إخمادها بشكل نهائي، إلا أن الوعي بما لم يعد مقبولاً كان حاضراً، ولا يزال يحتل العمق والقوة نفسيهما، وهذا لا يرتبط بمعركة ولا بتسليح ولا بدعم دولي، ولا يأبه بفيتو في مجلس الأمن، ولا بإجماع في الجمعية العامة. ولا علاقة للشعور الذي يحمل طبيعةً اجتماعيةً تغييريةً بوجود قوى إسلامية متطرفة وإرهابية، ولا يلغيه توالد شخصياتٍ سياسيةٍ انتهازيةٍ، تستغل الظروف لمصالح شخصية.

الثورة إرادة جماعية عامة، حدثت بشكل قصدي، وتجذّرت طوال سني الحرب، ولعل الوقت الطويل زاد في تعميق جذورها، لأنها لا تقتات على المعارك، ولا على السلاح، ووجودها مربوط بوجود النظام وطبيعته الهمجية، وهي باقية ما بقيا. وخسارة المعارك الجانبية محطات بسيطة تزيد في شحنها. والنظام الذي رفض وجود معارض واحد طوال عقود حكمه وصل إلى مرحلة أوجد فيها نداً أخلاقياً جارفاً، اكتسب عنفاً وقسوةً، ولن يتوقف حتى يراه جثة هامدة.

اقرأ المزيد
١٣ ديسمبر ٢٠١٦
انتصار الدمار على سورية

اكتظت حلب (وريفها) بمختلف أشكال الجيوش؛ فبعد أن كانت بعض الدول داعمةً للفصائل المقاومة للنظام، فإن موقفها تغيّر، وأصبحت في موقع "الحياد"، وهذا يسري على تركيا ودول أخرى. سهّل الموقف المذكور على إيران بالتحديد ومليشياتها التقدمَ في أحياء حلب الشرقية. انخفضت نسبة مشاركة قوات النظام فيها عن 15 بالمائة، وفق بعض الإحصائيات، والغطاء الجوي الروسي توقّف، أو اقتصر على طلعات محدودة أخيراً. وبالتالي، تنتصر إيران في حلب، وتخسر أميركا وتركيا، وطبعاً الفصائل المقاتلة، وكذلك يتقلص هامش تحرّك النظام؛ بل إن روسيا نفسها تشعر بتخوّفٍ كبيرٍ من التقدّم الميداني للإيرانيين. ومن هنا، نلاحظ الضربات الروسية المستمرّة والمتقطعة للمناطق التي تعدّ مواليةً موالاة كاملة لإيران، كالضربات الموجهة لنبّل والزهراء وسواهما، وكذلك الإنذارات الروسية للنظام، بأن يفعل ما تأمره هي به، ويمكن قراءة دخول "داعش" مجدّداً إلى تدمر رسالةً روسية للنظام كذلك.

سيعني انتصار إيران دعماً لموقف النظام في مواجهة الضغوط الروسية، وكذلك في مواجهة العالم وإجباره على الاعتراف بدوره في المرحلة المقبلة، وهو ما يلحظ في أي نقاشات دولية عن سورية، فبقاء الأسد أصبح لا جدال فيه؛ ولكن ماذا حصل في حلب وبقية المدن السورية.

الانتصار في حلب يعني انتصار الدمار في كل سورية، فقبل ذلك هناك مدينة القصير وقراها، وحمص وريف دمشق الغربي، وهناك بلدات كثيرة، وأخيراً حلب.

من الخطأ، عدم رؤية اللوحة السورية كاملة، فهناك الآن مناطق واسعة في درعا وحمص الشمالية وحماه وإدلب ودير الزور والرقة والبوكمال والمناطق التي فيها وجود كردي كبير، وكلّها خارج النظام، ويتطلب إنهاؤها زمناً طويلاً، وبالتالي، يساوي الانتصار في حلب دماراً وقتلاً، وليس من شيء آخر. يمكن القول إن انتصار حلب سيُدخل إيران لاعباً أساسياً في غرب دمشق وفي الشمال السوري، لكن هذا ليس نهاية المطاف، وإذا كان التخلص من الثورة الهدف الرئيسي للدول الإقليمية والعظمى، فإن الاستقرار السياسي يتطلب أخذ مصالح كل الدول المحيطة بسورية، أو المتدخلة بالشأن السوري. الخلاصة، هنا، أن إيران لن تُسعدَ بدمارِ سورية، وأن تلك الدول سيكون لها حصصها كذلك.

الحرب الإيرانية في حلب هي، في وجهٍ منها، تكملةً للحرب في الموصل بقيادة الحشد الشعبي، وإذ تداعب مخيلة القادة الإيرانيين أنهم أصبحوا مالكين أربع عواصم عربية، ويتوهمون إنشاء قاعدة عسكرية بحرية على الشاطئ السوري، فذلك كله سينتهي بمجرد الوصول إلى الحل السياسي. نقصد أن لروسيا استراتيجية مختلفة في الهيمنة على سورية، ولا يمكن تخيّل وجود احتلالين لدولة واحدة، وكذلك فروسيا اعتمدت على جيوش إيران لإخماد الثورة، ولا سيما أن إيران أقرّت بفشلها في دحر الثورة، وفاوضت الروس للمجيء إلى سورية. روسيا وكي لا تتورّط في حربٍ برية فاشلة، وبالتالي، هناك سياسات أخرى، سيُعمل بها بعد سقوط حلب، أي تحجيم إيران. تساعد في ذلك التسريبات الخاصة بالسياسة الأميركية، والتي ترفض التمدد الإقليمي لإيران في الدول العربية، وإن ليس لصالح تركيا، أو السعودية كذلك، أو أية دولة عربية.

كانت المشكلة الحقيقية هي الثورة بالنسبة للدول المتدخلة، وبتحجيمها بعد كل هذا الدمار والتهجير والقتل والمآسي، فإن الأمور إمّا أن تعود إلى سابق عهدها، أو سيتشكل حكمٌ يُراعى مصالح الأغلبية السورية. ومن دون ذلك، ستندلع حرب عصابات، أو ستظهر مليشيات أكثر تطرّفاً وجهادية. وبالتالي، هناك شروط واقعية يجب تحققها، لإخماد أسباب الثورة، ولمنع اندلاع التطرّف بشكل أوسع، وبطريقةٍ قد تكون حرب العصابات، وهذا يعني تحقّق مقدار معين من المشاركة الشعبية في كل مؤسسات الدولة، وتحجيم إيران بالضرورة، بل ووضع تواقيت زمنية لخروج الروس أنفسهم من سورية.

ساهمت التنظيمات الجهادية في تدمير الثورة وسورية، وإذا كان الإجماع الكوني على أن "داعش" يفرض اجتثاثه، فإن بقية التنظيمات الجهادية لعبت دوراً مركزياً في "واقعية" الحرب ضد تلك الجماعات. وفي الوقت نفسه، تمنع أية دولة إقليمية من الدفاع عنها بشكل علني، وبالتالي، هناك ضرورة سياسية تقع على المعارضة، وهي التبرؤ الكلي من أية جماعات جهادية وسلفية وإسلامية، تتناقض مع أهداف الثورة السورية ومصالح السوريين، ولها أهدافها الفئوية، والتي لا تتطابق مع العصر، وتستقي قوتها من الفوضى العارمة في الثورة السورية، وهي بكل الأحوال أداة سياسية لصالح النظام، وكل الدول المتدخلة في سورية. وقد أكدت تحليلات كثيرة "صناعة" التنظيمات المتطرفة، وبغرض تخريب الثورة، ومنع انتقالها إلى دول عربية أخرى.

بعد دمار حلب، ستكون معركة إدلب، وسيتم تدميرها بحجة جبهة النصرة أو فتح الشام، وكون الأخيرة مشمولة بقراراتٍ دوليةٍ، كقوة إرهابية، وكذلك هناك الرقة ودير الزور، وسيتم إكمال تدميرهما أيضاً؛ يهم مقالي هذا القول: إن التدمير سياسة النظام وحلفائه، بما يخص المناطق الثائرة والخارجة عن النظام. السياسة هذه لن تُخرجَ النظام قوياً، فهو ضعيفٌ وفاقد القدرة، وإيران وروسيا هما اللتان تقودان المعارك والدمار.

يمكن تسمية الخيار الأمني خياراً تدميرياً لسورية؛ وهو ما جرى ويجري. المستقبل السوري إذاً أمام حالتين، ولا شيء أكثر، الذهاب نحو حلّ سياسي يُنصف المناطق المتضرّرة من دمار سورية، وبالتالي ستُراعى مصالح الدول الداعمة للمعارضة، وستضمن بالضرورة تحجيم إيران وسيطرة روسيا على سورية. أو حلّ يتجاهل حقوق الأغلبية الشعبية في سورية، ويستكمل حصار ودمار بقية المناطق أو إجراء مصالحات معها. ولن يشكل هذا الأمر بيئةً آمنةً للاستقرار السياسي، وسيفتح المجال لحروب مستمرة من الجهاديين وغير الجهاديين، وقابلية للتفجر العنفي، حيث ستكون قوات النظام مدعومةً بالقوات الإيرانية، هي المتحكمة أو ستكون مليشيات مرفوضة شعبياً هي المتحكمة.

لن يسمح خيار الدمار هذا لدولٍ كثيرة بتقديم دعمٍ ماليٍّ لإعادة الإعمار، وتأمين حاجات ملايين السكان. ونضيف إن التهجير الذي شمل ملايين السكان لن يؤمن وجود بيئةٍ "نظيفة" اجتماعياً ودينياً، وصامتة عما جرى في سورية؛ فالسوريون عامة سيكونون أمامهم حاجات متعدّدة الأوجه، وهذا ليس في مقدور النظام تأمينه، ولا روسيا ولا إيران. وبالتالي، يتطلب أي استقرار عام في سورية بالضرورة حلاً سياسياً يتجاوز السياستين، الروسية والإيرانية، وسياسة النظام؟ فهل هذا ممكن؟

اقرأ المزيد
١٢ ديسمبر ٢٠١٦
معضلة إيران بعد حلب

في سوريا يتجاوز عدد القوات الإيرانية سبعين ألفا - وهناك من يقدر أن الرقم ضعف ذلك. وتتشكل من قواتها مع ميليشيات تولت جلبها من أنحاء المنطقة وتقوم بدفع تكاليفها - تصارع منذ أشهر عديدة من أجل السيطرة على حلب، وهي توشك على ذلك أخيرا، من خلال تدمير شرق المدينة الصامدة، وتتقدم تحت القصف الروسي الذي يستهدف المدنيين، وكلفت طائرات نظام الأسد برمي قنابل كيماوية، وغاز الكلور من أجل إفراغ المناطق قبل التقدم واحتلالها.

وأنا هنا لست بصدد إنكار احتمال سقوط حلب، أو استحالة طرد الدواعش من الرقة، بل الهدف توضيح الواقع الحقيقي وليس الدعائي في سوريا. فالحرب في سوريا أعمق وأكثر تعقيدا.

وحتى لو استولى الإيرانيون، وقوات الأسد، على حلب الشرقية، فإن سوريا لن تستقر، ولن تستكين للنظام الذي يقاتل منذ خمس سنوات، لأن أمامه سنوات عديدة حتى يفرض وجوده، وهو المشكوك فيه. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الحكمة وراء تصرفات حليفي النظام السوري، أي إيران وروسيا. هل ينويان الاستمرار لسنين مقبلة في مساندة النظام على الأرض بنفس القوة والخسائر، من أجل أن يظل في الحكم؟ هل يفضلان الحرب لسنوات أخرى على الحل السياسي الذي يمثل تنازلا متبادلا، أي نظاما مختلطا، من القديم والمعارضة دون القيادة الحالية؟ مثلا، عند استيلائهما على حلب الشرقية المهدمة، نتيجة القصف المجنون، الذي أفرَغَها من معظم سكانها، ما الذي سيفعله الإيرانيون والروس لاحقا، هل سيمضيان عام 2017، الذي هو على الأبواب، في القتال للاستيلاء على ما تبقى من بلدات سوريا، بما فيها ريف دمشق الذي لا يزال جزء منه تحت سيطرة الثوار؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ كيف سيحكم النظام السوري دولة ممزقة، مليئة بالثارات ضده، وقواته لا تشكل سوى ثلاثين في المائة من القوات الحالية، حيث إن البقية هي قوات إيرانية، وميليشيات مجلوبة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان وغيرها! فهل تنوي إيران الإبقاء على ميليشيات أجنبية وطائفية بسوريا في السنوات المقبلة من أجل تثبيت حكم الأسد؟ من المؤكد أن بقاء الميليشيات الطائفية سيكون جاذبا للمزيد من المقاتلين من أنحاء المنطقة والعالم، وستستمر الحرب. هذه هي المعضلة التي لا بد أن النظام في طهران اكتشفها متأخرا، فهو إن انتصر ورحل سيسقط النظام في دمشق، وإن استمر في الوجود عسكريا ستستمر الحرب بتكاليفها ومخاطرها الداخلية عليه.

أما لماذا يبالغ الغزاة في احتفالاتهم في نواحي حلب هذه الأيام، ويوحون بأنها نهاية الحرب؟ السبب أنهم في حاجة إلى رفع معنوياتهم داخل بلدانهم: إيران، وروسيا، وميليشيات «حزب الله» اللبنانية، وعصائب أهل الحق العراقية، وغيرها. الدعاية موجهة لشعوبهم والعالم الذي يتفرج منذ زمن على هذا الصراع، والذي عجزوا فيه عن الانتصار رغم ضخامة تسلّحهم في وجه معارضة محرم عليها الأسلحة النوعية.

لكن يدرك الإيرانيون، أكثر من الروس، أنهم متورطون في هذه الحرب الفاشلة، التي حتى لو كسبوا فيها الجولات الحالية، فإنها ستستمر وستجبرهم أخيرا على القبول بما استمروا يعارضونه ويقاتلون ضده، وهو الحل السياسي. أما حلفاؤهم الروس، الذين ينظرون إلى القتال في سوريا من منظور الصراع الدولي، فلن يجدوا غضاضة في الانسحاب فجأة، كما دخلوا فجأة، دون الالتفات إلى نتائج ذلك على دمشق وطهران.

وتبدو السياسة الإيرانية الحالية في المنطقة مختلفة عن السابق، كما لو أنها تهتم بالمكاسب السريعة، بعد أن اشتهرت سابقا بأنها ذات الاستراتيجية البعيدة المدى. نرى ذلك في الإصرار الإيراني على الانخراط في دوائر القتال في المنطقة، في العراق وسوريا وكذلك اليمن، مع أنه لا يوجد في أي منها ما يضمن لها، أي لإيران، تحقيق انتصارات نهائية. في سوريا سيدوم الاقتتال، ولن يستتب السلام في العراق بسبب تبني إيران مشروع القوى الطائفية، كما أن الفريق الموالي لإيران في اليمن، أي الحوثي، أصغر من أن يحقق الانتصار في النزاع هناك، وإن كان قادرا على إحداث الفوضى.

دول المنطقة الأخرى، قد تسكت على الهزيمة في حلب لكنها تعلم جيدا أن الحفرة السورية عميقة، ولن تخرج منها إيران إلا بثمن مكلف.

اقرأ المزيد
١٢ ديسمبر ٢٠١٦
هل أنقذ بوتين الأسد؟

عملياً سقطت حلب في يد النظام السوري بدعم روسي استكمل دعماً إيرانياً كان يؤذن بالفشل. حصل ذلك بانكفاء أميركي متعمد شكّل عملياً غطاء سياسياً للتدخل الروسي. في هذه الأثناء بدأ الرئيس بشار الأسد يتحدث عن نصر قادم، وعن إعادة الإعمار، وتوزيع شهادات الوطنية على السوريين. قال الخميس الماضي في حديث لصحيفة «الوطن» السورية إن «من يربح في دمشق أو حلب يحقق إنجازاً عسكرياً كبيراً». هذا لا يعني، كما يقول «نهاية الحرب في سورية، لكنه محطة كبيرة في اتجاه هذه النهاية». يبدو من حديث الرئيس، ومعه جوقة إعلام «الممانعة»، أنه تم إنقاذه، وأنه يقترب من تحقيق نصر نهائي على «الإرهابيين». هل هذا ما حصل؟ أو ما يمكن حصوله قريباً؟ هذا سؤال ينبغي للرئيس قبل غيره أن يتوقف عنده ملياً، وهو الأعرف بما حصل، وبحجم التدخلات الأجنبية في الحرب السورية ودوره في ذلك، وبخفايا ما يقال، وما يحدث وراء الكواليس الإقليمية والدولية. لا أظن أنه يغيب عن بال الأسد أن السؤال أكثر تعقيداً مما يبدو عليه.

ربما أن التدخل الإيراني والروسي، وقتال الميليشيات الأجنبية إلى جانبه، أنقذ الأسد من مصير مشابه لما حصل للعقيد معمر القذافي، أو للرئيس المصري حسني مبارك، أو التونسي زين العابدين بن علي. ربما أن مصيره سيكون أقرب لما انتهى إليه الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وربما سيكون مختلفاً عن كل ذلك. في كل الأحوال إذا كانت سورية سوف تولد من جديد بفعل الثورة والحرب التي انتهت إليها، فالأرجح أن بشار الأسد سيبقى جزءاً من ماضي الشام، وليس من مستقبله. حديث الرجل الخميس الماضي يشير بوضوح باذخ إلى أنه إما في حالة إنكار لما حصل، أو أنه يحاول تجاهل ذلك وكأنه لم يحصل. في هذا الحديث الذي استهلك أكثر من عشرة آلاف كلمة، كان الأسد يتحدث بذهنية النظام القديمة، كأنه لم تحدث ثورة، ولا حرب أهلية، ولا أحد مسؤول عما حصل. في مقابل ذلك تبدو سورية ما قبل الثورة شيئاً من الماضي البعيد. كيف يمكن تجسير الهوة بين إنكار الرئيس، وواقع البلد؟

في مثل الحرب الأهلية السورية يصعب الحديث عن منتصر ومهزوم بين السوريين. لكن بشار الأسد هو الخاسر الأكبر، لماذا؟ لأنه الرئيس، المسؤول الأول الذي خان العهد وانتهك الدستور، اختار عن عمد، وتيمناً بتاريخ والده، الحل الأمني منذ اللحظات الأولى في وجه انتفاضة شعبية، لم يفكر في استيعابها، والاستجابة لمطالبها. كانت انتفاضة سورية صرفة، لا تطرح أكثر من مطالب إصلاحية، لم يتدخل فيها أحد من الخارج طوال سنتها الأولى. ثانياً: أنه اختار نموذج حماة الذي استخدمه والده عام 1982، أو نموذج الأرض المحروقة ضد شعبه. ثالثاً: أنه استعان في البداية بشبيحة سورية من الهوية الطائفية نفسها التي ينتمي إليها الرئيس نفسه، ما أضفى على المواجهة صبغة طائفية لم يعهدها السوريون. رابعاً: عندما فشل الحل الأمني استعان بإيران. وهذه كانت تدعم الأسد منذ اليوم الأول للانتفاضة بالأموال والسلاح، وعندما لم يثمر ذلك، بدأت بإرسال مقاتلين وجنرالات وخبراء إيرانيين، ثم ميليشيات بعضها عربي (من العراق ولبنان)، والبعض الآخر غير عربي (من أفغانستان)، لكنها جميعها من لون طائفي واحد (اللون الشيعي) لمواجهة ما اعتبره النظام والإيرانيون انتفاضة سنية ضده. عزز هذا اللجوء المنحى الطائفي لمشهد تحوّل مع الوقت إلى حرب أهلية. خامساً: عندما فشلت الاستعانة بإيران وميليشياتها، اضطر للاعتراف بأن قواته لم تعد قادرة على السيطرة على كل المناطق السورية، وأن الالتحاق بالجيش أخذ يتراجع بشكل كبير. كان ذلك بمثابة استغاثة في صيف 2015، في خطاب ألقاه الأسد أمام أعضاء ورؤساء «المنظمات الشعبية والنقابات المهنية». وجاءت الإغاثة من روسيا في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه.

السؤال في هذه الحالة، إذا افترضنا - جدلاً - أن الأسد انتصر، فعلى من انتصر؟ وبمن انتصر؟ انتصر على شعبه، وبقوات وميليشيات أجنبية ذات لون وهوى طائفيين. وإذا كانت مساعدة إيران للأسد جاءت لأنه علوي يعدّ بقاؤه - كما تراه القيادة في طهران - سداً منيعاً أمام غالبية سنية سورية قد تشكل تهديداً لهيمنتها في العراق، فإن مساعدة بوتين تأتي من طموح لإعادة روسيا إلى المنطقة، في سياق موجة يمينية تحتاج للأسد الديكتاتور رافعة أمام الإسلامي السياسي، والتوسّع الغربي في اتجاه روسيا، وهي موجة تتقاطع مع شعبوية غربية لا تخلو من عنصرية تجاه المختلفين دينياً وجنسياً وقومياً. كل ذلك سيفرض أثماناً باهظة على الأسد، وما هو الثمن المادي والسياسي الذي ستكتفي به هذه الأطراف الأجنبية؟

بعبارة أخرى، اختار الأسد حلاً أمنياً تبيّن أنه لا يملك القدرة على فرضه، وتسبب في حرب أهلية أضفى عليها بخياراته وسياساته طابعاً طائفياً أفقده السيطرة عليها في نهاية المطاف. وإذا كان إنقاذ الأسد وبقاؤه في الحكم على يد قوات أجنبية يلقي بظلال كثيفة على شرعية الرئيس، فإنه يعيد إلى الذاكرة أن هذا الرئيس وصل إلى الحكم بآلية التوريث من والده في نظام جمهوري، تم فرضه بالمؤسسة الأمنية. وإذا كانت بذور توريث الأسد الابن تفتقت من مذبحة حماة، فإن بذور الثورة زرعتها عملية التوريث ذاتها بمتطلباتها وأكلافها وما ترتب عليها.

من ناحية ثانية، لا يقدِّر الأسد كما يبدو ما حصل للوضع الاجتماعي والسياسي السوري بعد الثورة، كان السوريون قبل الثورة قد انتظموا في حالة استسلام لقدر استبداد النظام ودمويته الشرسة، وهي حالة استفاد منها الأسد الأب طوال حكمه. سمحت له بحصر مذبحة حماة داخل حدود المدينة، وعزل تأثيراتها عن بقية المجتمع. قيام الثورة وما أسفرت عنه من تضحيات غير مسبوقة، أخذت معها كل أو جل ما له صلة بما قبل الثورة. وانفجار الثورة بحد ذاته مؤشر على أن تلك الحالة تعرضت لتصدع كبير، وبالتالي، وبعد كل ما حصل هل يقبل غالبية السوريين أن يحكمهم رئيس وصل إلى الحكم بالطريقة التي وصل بها، لينتهي به الأمر بالاستعانة بقوات ومرتزقة أجانب لتثبيت حكمه فوق جثث مئات الآلاف، وعلى أطلال دمار حوّل أغلب مدن وقرى سورية إلى أشباح؟ من الواضح أن الأسد يراهن على أن جرأته على التدمير والقتل والتهجير ستعيد الرعب إلى مفاصل المجتمع السوري، وستعيد الشعب السوري إلى حظيرة الاستسلام للأجهزة الأمنية مرة أخرى.

لكنه يعرف أن زمن هذه المعادلة بات في موقع آخر على خط الزمن، كما يدرك الأسد أنه لم يحدث أن انتصر بالشعب وللشعب، ولا لحقوق السوريين، ولا بقوات سورية، ولا باسم القانون الدولي وشرعة الإنسان، ولا باسم البعث على رثاثته، ولا بالقومية العربية، ولا بشعار «المقاومة والممانعة» التي يفترض أنه ينتمي إليها. كان انتصاره دائماً لاستئناف حكم أبيه. وبالتالي يدرك أن الثورة سلبت منه شرعيته بعد استعانته بالأجانب لتدمير بلده وقتل شعبه. كان والده يستخدم العنف لتفادي مواجهة الشعب، أما هو فسقط في براثن نصائح حسن نصرالله والإيراني قاسم سليماني. فوق ذلك فقد بشار غطاءه العربي، وقد اشتكى من ذلك بشكل مباشر في حديثه المذكور، خصوصاً عن علاقة مصر به. وهو لا يحظى بأي دعم دولي حقيقي، عدا إيران وروسيا. من ناحيتهم تأكد السوريون أنهم تأخروا في الثورة كثيراً، ولأنها تأخرت شاءت الأقدار أن تأتي في توقيت باراك أوباما، وعلي خامنئي، وفلاديمير بوتين. لكن يعرف السوريون أيضاً أن الثورة لا ترتهن في الأخير لتوقيت أحد سوى توقيتها، وأنها بذلك باتت حداً تاريخياً فاصلاً بين ما قبل الثورة، وما بعد الثورة. ومن ثم فالسؤال الذي يجب أن ينشغل به الأسد هو: هل أنقذ الروس حكمه؟ أم أنقذوا رقبته؟ هنا يتبدى الاختلاف بين الروس والإيرانيين. يريد الإيرانيون إنقاذ حكم الأسد ورقبته معاً، الروس لا يمانعون في ذلك، لكنهم لا يرتهنون له مثل الإيرانيين، بين هذا وذاك فصلت الثورة الشعب السوري عن رئيسه. وفرضت طرح ملف النظام السياسي بتاريخه وطبيعته الدموية وما إنتهى إليه. بقي الشعب في مكانه وزمانه، وإنتهى الرئيس رهينة معادلات وتوازنات خارجية، وعليه بالتالي أن يستبد به القلق من هذا الفصل وذاك الطرح اللذين كانا خارج التداول من قبل.

اقرأ المزيد
١٢ ديسمبر ٢٠١٦
هل من «درس» جزائري للسوريين؟

أما الآن وقد شارفت مدينة حلب على السقوط كلياً في أيدي قوات الحكومة السورية، فإن من الطبيعي أن تسعى فصائل المعارضة، على اختلافها، إلى استخلاص العبر من نكستها هذه. سيقول معظمها، على الأرجح، أن اللوم في المقام الأول يقع على روسيا وإيران. فالأولى وفّرت الغطاء الجوي للقوات الحكومية، فيما وفّرت الثانية عشرات آلاف المقاتلين الشيعة من جنسيات مختلفة، إضافة إلى آلاف «المستشارين» من الجيش النظامي و "فيلق القدس". وزيادة على ذلك، هناك من سيقول أيضاً أن اللوم يقع كذلك على الغرب الذي امتنع عن تقديم السلاح «النوعي» للمعارضين.

كل ما سبق صحيح، بلا شك. لكن ألا يقع اللوم أيضاً، ولو في جزء منه، على المعارضة نفسها؟ ومحور التساؤل حول هذا «اللوم» هنا يتعلق تحديداً بالعلاقة بين ما يُعرف بـ «المعارضة المعتدلة» وتلك «الإرهابية»، ومدى تأثير ذلك في «نكسة حلب» لاحقاً. وعلى رغم أن الروس تحديداً، هم من جادل على مدى شهور بضرورة «الفصل» بين هاتين المعارضتين (لتوريطهما ربما في صراع مسلح)، فإن الأميركيين، حلفاء المعارضة المفترضين، لم ينفوا أبداً هذا الواقع، لكنهم جادلوا بأن الفصل «غير ممكن» عملياً.

وسواء كان الفصل ممكناً أم لا، فإن «المعارضة المعتدلة» لا بد أن تُقر بأنها عجزت في نهاية المطاف عن اتخاذ موقف من «المتشددين» في الوقت الملائم. ويعود ذلك بالطبع إلى اعتبارات مختلفة ليس هذا مجال تعدادها، وإن كان أبرزها عدم القدرة عسكرياً، وسياسات النظام نفسه التي دفعت، بوحشيتها، المعارضين إلى الارتماء في أحضان المتشددين، كونهم الأقدر على رد الصاع صاعين.

لكن أحداث الجزائر، في تسعينات القرن الماضي، كان يجب أن تشكّل عبرة للمعارضة السورية (ربما لم يفت بعد أوان الاستفادة منها). بدأت تلك الأحداث مطلع عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت بها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وسرعان ما تطورت إلى حرب أهلية. التحق آلاف الإسلاميين بالجبال وشكّلوا جماعات مسلحة سيطرت على مساحات شاسعة من الأرياف، ومدّت نشاطها إلى داخل المدن. وبحلول عام 1994 كان الإسلاميون يتحضرون للزحف إلى العاصمة. لكن خططهم وآمالهم سرعان ما انهارت لأسباب عدة بينها بلا شك فشل «المعتدلين» في فصل أنفسهم عن «المتشددين». والمقصود بـ «المعتدلين» هنا هم الذين حملوا السلاح لأن النظام حرمهم الفوز في الانتخابات. أما «المتشددون» فهم من حملوا السلاح لهدف مختلف تماماً كونهم لا يؤمنون أصلاً بالانتخابات والديموقراطية.

هذه الخلفية الجزائرية يمكن بسهولة إسقاطها إلى حد كبير على الحالة السورية، مع تغيير الأسماء. فـ «الجماعة الإسلامية المسلحة» هي «جبهة النصرة». وكما حصل مع مناصري «الإنقاذ» الذين رفضوا فصل أنفسهم عن «الجماعة» - على رغم تشددها - لمجرد أنها تقاتل النظام (الذي في الوقت ذاته اخترقها وتلاعب بها)، تكرر الأمر ذاته مع المعارضين السوريين الذين رفضوا تصنيف «النصرة» بالإرهاب بحجة أنها تقاتل النظام.

تسبب تطرف «الجماعة» الجزائرية في نهاية المطاف في إلحاق الهزيمة بـ «الإنقاذ» من خلال السماح للحكومة بالظهور بمظهر من يتصدى للإرهاب. وحتى عندما أدرك بعض قادة «الجماعة» خطأهم هذا في نهاية التسعينات وحاولوا تداركه من خلال «تغيير اسمهم» المرتبط بالتشدد (نشأت «الجماعة السلفية» بدل «الجماعة المسلحة»)، كانت الكفة قد مالت لمصلحة النظام الذي نجح في الوقت ذاته في إقناع شرائح من المسلحين الموالين لـ «الإنقاذ» بعقد هدن محلية وتسليم السلاح والمصالحة مع الحكومة. ويتكرر هذا الأمر اليوم في سورية من خلال عقد النظام هدناً محلية مع معارضين سلّموا سلاحهم و «نفوا» المصرّين على القتال إلى «قندهار إدلب». كما أن تغيير «النصرة» اسمها إلى «جبهة فتح الشام» لم يؤدّ، كما يبدو، إلى تغيير النظرة دولياً إليها بوصفها «إرهابية» نتيجة ارتباطها بـ «القاعدة».

ما نتيجة كل هذا السرد؟ النتيجة واضحة: خسرت «الإنقاذ» في الجزائر لأنها فشلت في أن تنأى بنفسها في الوقت الملائم عن «الجماعة».

هل تخسر المعارضة السورية اليوم نتيجة السبب ذاته، أي فشلها في النأي بنفسها عن «المتشددين»؟ سيقول بعضهم أن هؤلاء «المتشددين» هم من يحقق «الانتصارات» ضد الحكومة. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن «نكسة حلب» لا بد أن تستعيد «الدرس الجزائري»، فلعل في تجربة «الإنقاذ والجماعة» عبرة للسوريين.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٦ يناير ٢٠٢٥
من "الجـ ـولاني" إلى "الشرع" .. تحوّلاتٌ كثيرة وقائدٌ واحد
أحمد أبازيد كاتب سوري
● مقالات رأي
٩ يناير ٢٠٢٥
في معركة الكلمة والهوية ... فكرة "الناشط الإعلامي الثوري" في مواجهة "المــكوعيـن"
Ahmed Elreslan (أحمد نور)
● مقالات رأي
٨ يناير ٢٠٢٥
عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد
مقال بقلم: نور الخطيب
● مقالات رأي
٨ ديسمبر ٢٠٢٤
لم يكن حلماً بل هدفاً راسخاً .. ثورتنا مستمرة لصون مكتسباتها وبناء سوريا الحرة
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
٦ ديسمبر ٢٠٢٤
حتى لاتضيع مكاسب ثورتنا ... رسالتي إلى أحرار سوريا عامة 
Ahmed Elreslan  (أحمد نور)
● مقالات رأي
١٣ سبتمبر ٢٠٢٤
"إدلب الخضراء"... "ثورة لكل السوريين" بكل أطيافهم لا مشاريع "أحمد زيدان" الإقصائية
ولاء زيدان
● مقالات رأي
٣٠ يوليو ٢٠٢٤
التطبيع التركي مع نظام الأسد وتداعياته على الثورة والشعب السوري 
المحامي عبد الناصر حوشان