بدأت عدة منتديات عربية وإسلامية تقارن بين المأساتين السورية والعراقية من جهة، والمأساة الفلسطينية من جهة ثانية. ولا شك أن الأهوال الحاصلة من حيث الكم والكيف أفظع بما لا يقاس. فقد قُتل من السوريين والعراقيين زُهاء المليون خلال أقل من خمس سنوات، وتهجر حوالى السبعة عشر مليوناً داخل البلدين وخارجهما. بينما قُتل في المأساة الفلسطينية زُهاء الخمسين ألفاً، وتهجّر حوالى المليون.
ومع ذلك فالمقارنة تظل موضع نزاع، ليس لأنها مقارنة مع الفارق، بل ولأن الزمان غير الزمان، كما أن العدو غير العدو. فالشعب الفلسطيني كان عدده عام 1948 مليونين ونصف المليون، ومعنى ذلك أنه تهجر نصفه تقريباً، وحل محلَّهم يهود. أما لجهة العدو فهم الصهاينة في حالة فلسطين، وقد حلُّوا محلَّ الشعب الفلسطيني، وأقاموا دولةً يهوديةً لأنفسهم على أرضه. أما في حالتي سورية والعراق، فإن المخاصمين للشعب السوري في الأصل هم نظامه وإيران وميليشياتها العراقية واللبنانية والأفغانية. ولسنا ندري ما هدفهم من تهجير الناس من جوار دمشق وأريافها وحمص بالداخل والجوار، والآن بشرقي حلب، ومناطق أخرى كثيرة: يحاصرون المدينة أو البلدة ويجوعون سكانها حتى يستسلموا ويقبلوا بترك مواطنهم. وقد حلَّ محلَّهم في الزبداني وداريا شيعة عراقيون ولبنانيون. لكن مناطق التهجير هائلة الاتساع، ولذا فنحن لا ندري بالفعل ماذا ينوون فعله بها. هم لا يريدون بالقطع إعادة النازحين، بدليل أنّ بشار الأسد قال مراراً في المدة الأخيرة إن النسيج الاجتماعي في سورية صار أفضل بعد عام 2011. وهو يقصد أن أعداد الأكثرية السنية تراجعت، إذ تهجر منهم إلى خارج الحدود أكثر من ستة ملايين. فهل يريد الإيرانيون أن يقوموا في سورية والعراق، مثل ما قام به المستوطنون الصهاينة في فلسطين، أي الاستيلاء والاستيطان؟ الواضح حتى الآن أنهم يريدون دفْع سكان المدن والبلدات إلى الأرياف، أي إخراجهم من «سورية المفيدة» التي تمتد من درعا في الجنوب عبر دمشق والقلمون وهي المناطق المحاذية للنواحي الشيعية في لبنان، ومن هناك باتجاه حمص ووادي النصارى على الحدود مع لبنان، ثم باتجاه حلب واللاذقية وحماة. وبذلك تبقى المناطق البترولية في الرقة ودير الزور فإدلب شرقاً، وتدمر باتجاه الصحراء، كل هذه المناطق تبقى خارج «سورية المفيدة»؟ تركيا تقول الآن إنها تهيئ مخيماً على حدودها وبالداخل التركي لنحو مائة ألف مهجَّر من حلب، أما الآخرون الذين يريدون الذهاب إلى غربي حلب، في مناطق سيطرة النظام، فالإيرانيون يريدون منعهم من ذلك، وقَودهم إلى نواحي إدلب الخاضعة للمعارضات المسلحة، كما حصل من قبل مع الكثيرين من سكّان جوار دمشق.
ثم إنّ الرائحة الكريهة والعنصرية التي نشرها الصهاينة في فلسطين عبر الإصرار على يهودية الدولة، واعتناق أيديولوجيا «الترانسفير» موجودة أيضاً في أخلاد الإيرانيين وتصرفاتهم. فهم يفخرون بتشييع الناس، ونشر مذهب أهل البيت بين الفقراء وذوي الحاجة. وبعد التشييع يأتي التجنيد في ميليشيات مسلَّحة، يقودها شيعةٌ قُدامى، تأتمر بأمر خامنئي، وتخرّب العمران، وتقتل الإنسان. وعندما عجز الجيش (العربي) السوري، والجيش الإيراني وسائر المتأيرنين عن حماية بشار ونظامه، هبَّ لنجدتهم الروس، ودمرَّوا بطائراتهم خلال عام، ما عجز «جنود آل البيت» عن تدميره. ويقال إنّ الروس يريدون منافسة الأميركان على مناطق النفوذ. إنما الواضح أنّ أوباما ما كان من همه منافسة الروس ولا الإيرانيين!
ماذا عن نظام الحكم في سورية؟ منطق الإيرانيين ووسائل إعلام النظام أنّ الأسد باقٍ للأبد. وقد أعطونا دليلاً لا يُدحَضُ على شجاعته أنه خاض عدة معارك بنفسه سراً، «وأطلق أكثر من ألف طلقة»! أما الروس فيقولون بغموض إنه بعد حلب سيبدأ الحلُّ السياسي!
ولنعد إلى المقارنة المتنازَع عليها كما سبق القول. منذ عام 1974 على الأقلّ ما نزال ننتظر الحلَّ السلميَّ والعادل للقضية الفلسطينية. فكم سننتظر نحن والشعب السوري الحلَّ السياسيَّ في سورية؟ وهل يكون شاملاً أم أنه خاص بـ«سورية المفيدة»؟ ثم كيف يتم الحلُّ السياسي، بغياب نصف الشعب السوري في القبور والمنافي؟! وهل تبقى المقارنة صحيحة أو هل تصبح صحيحة، لأنّ أكثر من نصف الشعب الفلسطيني غائب عن فلسطين؟ فيا لسوريا ويا لفلسطين ويا للعرب!
في الداخل اللبناني، يتظاهر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بأنّه يريد التفاهم مع الجميع وأن لا همّ له سوى استعادة اللبنانيين وحدتهم في حين أنّهم منقسمون على نفسهم أكثر من أيّ وقت.
يتجاهل أن هذا الانقسام عائد أوّلا وأخيرا إلى ممارسات “حزب الله” وإلى كونه ميليشيا مذهبية مسلّحة وضعت نفسها في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني القائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية ولا شيء آخر غير ذلك.
من الواضح أنّ نصرالله متضايق إلى حدّ كبير، على الرغم من تظاهره بالعكس، من الثنائي المسيحي الجديد، أي تحالف “القوات اللبنانية” و”التيّار الوطني الحر” الذي شمل تفاصيل كثيرة تتجاوز الانتخابات النيابية المقبلة، التي هي استحقاق لا مفرّ منه.
ستكون انتخابات حتى لو حصل تأجيل ذو طابع تقني لموعدها. مثل هذا التأجيل محتمل لسبب في غاية البساطة يعود إلى أن ليس هناك طرف لبناني يقبل بالعودة إلى ما يسمّى قانون الستّين (الذي جرت على أساسه الانتخابات الأخيرة) من جهة وإلى صعوبة الاتفاق على قانون جديد من جهة أخرى.
يجهد “حزب الله” الذي يمتلك جيشا حقيقيا يفرض إرادته على اللبنانيين، خصوصا على أبناء الطائفة الشيعية إلى جعل هذه الانتخابات تخدم مصالحه المتمثلة في السيطرة على مجلس النوّاب المقبل عبر قانون يكون على مقاسه وليس على مقاس النظام الديمقراطي الذي ميّز لبنان طوال سنوات وسنوات ومكّنه من تجاوز الكثير من المحن.
ما كشفه التأخير في تشكيل حكومة لبنانية برئاسة سعد الحريري الذي حصل على ثقة الأكثرية الساحقة من النواب، لدى حصول الاستشارات “الملزمة” قبل ما يزيد على شهر، أنّ “حزب الله” يسعى إلى تغيير النظام في لبنان خطوة خطوة.
لم يكن تأخير انتخاب رئيس للجمهورية سنتين ونصف السنة سوى دليل على وجود نيات مبيتة تستهدف الأسس التي يقوم عليها النظام اللبناني. فرض الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني والشريك في المذبحة التي يتعرّض لها الشعب السوري، مرشّحه.
رفض السماح لمجلس النوّاب بانتخاب رئيس للجمهورية بطريقة طبيعية. وضع البلد أمام خيارين. إمّا انتخاب الرئيس الذي يريد وإمّا لا رئيس ولا جمهورية بعد الآن. كان اللبنانيون الحريصون على المؤسسات أن يختاروا المحافظة على الجمهورية بدل البقاء إلى ما لا نهاية في أسر الفراغ الرئاسي.
لك بعبدا ولنا لبنان
كان الأمل كبيرا في أن يؤدي الانتهاء من الفراغ الرئاسي إلى عودة مؤسسات الدولة إلى العمل، خصوصا أن البلد في حاجة إلى الكثير، بدءا بمعالجة الوضع الاقتصادي، وصولا إلى أزمة النفايات، مرورا، طبعا، بالانفتاح على العالم العربي واستعادة العلاقات الطبيعية والتقليدية مع دول الخليج.
المؤسف أنّ لدى “حزب الله” ومن يقف خلفه في إيران أجندة أخرى مختلفة كليّا. ليس وضع العراقيل في وجه تشكيل الحكومة سوى جزء من هذه الأجندة التي تشمل المزيد من التورّط في الحرب على الشعب السوري وعلى المدن والبلدات والقرى السورية بحجة محاربة “داعش”. هناك استخدام لـ”الانتصارات” التي تتحقّق على الشعب السوري وكان آخرها “الانتصار” على حلب من أجل مزيد من “الانتصارات” على لبنان واللبنانيين.
يعمل “حزب الله” على تشكيل الحكومة اللبنانية بما يؤكد أنّه صار صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلد. بكلام أوضح، حلّت الوصاية الإيرانية على لبنان بديلا من الوصاية السورية. صار للبنان “مرشد”، في حين يمكن وصف العلاقة بين الرئيس اللبناني و”المرشد” بأنّها شبيهة بالعلاقة القائمة بين علي خامنئي ورئيس “الجمهورية الإسلامية” حسن روحاني.
لا يعترض “المرشد” الإيراني على تصرّفات معيّنة تصدر عن روحاني أو عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف، بما في ذلك العلاقة التي أقامها مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ما دام كلّ شيء يجري بإشراف “المرشد” ورعايته.
أمّا في لبنان، فمسموح لرئيس الجمهورية، حسب “المرشد” المحلي أن يزور البلد الذي يشاء وأن يبدأ جولاته الخارجية بالتوجّه إلى المملكة العربية السعودية. ما ليس مسموحا به هو أن يشكل رئيس مجلس الوزراء المكلّف الحكومة بـ”التعاون” مع رئيس الجمهورية كما ورد في نص الدستور.
تلقي معركة حلب التي يخوضها “حزب الله” بظلالها على الوضع اللبناني. إذا كانت هذه المعركة، التي انتهت بتهجير أهل المدينة وتدمير الجزء الأكبر منها بفضل البراميل المتفجرة وسلاح الجو الروسي، دلّت على شيء فهي تدلّ على أن الدور الإقليمي لـ”حزب الله” يتوسّع.
إنّه دور إيراني قبل أيّ شيء آخر منطلقه لبنان. فمن لبنان يؤدي “حزب الله” الدور المطلوب منه إيرانيا في أماكن عدة من بينها سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت والمملكة العربية السعودية. وليس مستبعدا وصوله إلى دول شمال أفريقيا أيضا.
من يقوم بكلّ هذه الأدوار وأدوار أخرى، ألا يحقّ له تشكيل الحكومة اللبنانية وتذويب الثنائي المسيحي الجديد في حكومة سعد الحريري عن طريق فرض وزير مسيحي تابع لحزب معروف بأنّه على علاقة مباشرة بالأجهزة السورية، بل إنّه طفل أنبوب من اختراع هذه الأجهزة؟
كشفت عملية تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس ميشال عون أن “المرشد” اللبناني يضع نفسه في موقع ما كان عليه حافظ الأسد في مرحلة ما بعد فرض الوصاية السورية الكاملة على لبنان ابتداء من الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1990 تاريخ إخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا.
يسعى حسن نصرالله في 2016، مع عودة ميشال عون إلى القصر رئيسا، إلى لعب الدور نفسه الذي لعبه الرئيس الراحل الذي ضمن وقتذاك غطاء دوليا لكلّ تصرفاته في كلّ لبنان بعد مشاركة جيشه، ولو رمزيا، في عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي إلى جانب القوات الأميركية وغير الأميركية.
هناك بكل صراحة استقواء على لبنان الذي يقاوم الوصاية الإيرانية، مثلما قاوم الوصاية السورية. لا يدلّ على ذلك رفض الرئيس سعد الحريري الرضوخ لإملاءات “حزب الله” فحسب، بل هناك أيضا كلام صريح يصدر عن “تيّار المستقبل” يؤكد أن جريمة حلب في حجم جريمة تهجير الفلسطينيين من فلسطين، أي في حجم “النكبة”.
هناك من يسمّي الأشياء بأسمائها. هناك من يرفض أن تكون لجريمة حلب ترجمتها في بيروت، أي أن يفرض “حزب الله” على اللبنانيين الحكومة التي يريدها مستخدما غطاء من هنا وآخر من هناك لتغطية الجريمة الأخرى التي ترتكب في حقّ لبنان عن طريق الكلام الجميل عن إعطاء رئيس الجمهورية حرية زيارة البلد الذي يريده..
روسيا. إيران. بشّار الأسد. حزب الله وأبو الفضل العبّاس. المجمّع القوميّ - اليساريّ.
هؤلاء هم الذين قتلوا ويقتلون المدنيّين في حلب. هؤلاء، حتّى لو صدّقنا روايتهم للأحداث عن مكافحة الإرهاب، وعن صدّ المؤامرة، يطالبوننا بالكثير من الغباء كي نصدّق علاجهم الهمجيّ عبر التطهير السكّانيّ والهندسة الاجتماعيّة.
الغرب، الأميركيّ والأوروبيّ، ضالع؟ نعم، في حدود أنّه، في كبوته الديموقراطيّة الراهنة، لم يقدّم للسوريّين الدعم الذي كان ينبغي تقديمه. لكنّ هذا الغرب المقصّر لم يشارك في أعمال الذبح، ولم يقدّم لها التبرير، ولم يحتفل بها.
ضعف الغرب مقلق وخطير. قوّة هؤلاء هي المقلقة والخطيرة. هذان بعض ما كشفته مأساة حلب ممّا يستحقّ أن يُبنى عليه للمستقبل.
وهؤلاء، جزّارو حلب، هم إيّاهم كما عرفناهم من قبل بوجوه أخرى. لكنّ العجب العجاب أنّهم كلّهم كانوا ذات مرّة مثار إعجاب بعضنا. حتّى مؤيّدو الثورة السوريّة كان بينهم من يُكنّ لهم الإعجاب، ويفسّرون أفعالهم بالصدف الغريبة:
حزب الله كان حزب مقاومة لإسرائيل ثمّ انقلب حزب عدوان على السوريّين.
روسيا كانت الاتّحاد السوفياتيّ، صديق الشعوب الصدوق، وانقلبت إلى حمم تصبّها السماء على رؤوس السوريّين.
نظام إيران كان نتاج الثورة على الشاه وعلى الإمبرياليّة، إلاّ أنّه انقلب مصدر قتل للسوريّين ودعم لقاتلهم.
الحركات الشيعيّة الراديكاليّة كانت حركات مظلوميّة وقهر، ثمّ انقلبت حركات ظلم وعدوان.
المجمّع القوميّ - اليساريّ كان يسعى، وفق زعمه، إلى «تحرير فلسطين» و «الوحدة» و «الاشتراكيّة»، ثمّ انقلب مروّجاً لـ «تحرير حلب» ومهلّلاً له.
هل يعقل أن يكون هؤلاء كلّهم تغيّروا بسبب انقلابات طاولت أدوارهم؟ ألا تصير الصدف حين تتكرّر بهذه الكثرة قانوناً؟
ما تزعمه هذه الأسطر أنّ ما من انقلاب حصل في الأدوار، وأنّ تلك الأرحام خبّأت دائماً هذه الغيلان. الطبيعة واحدة وثابتة، والظروف المحيطة وحدها المتحوّلة. أمّا عدم إدراك الضحايا هذه الحقيقة فيضاعف المأساة ويضيف إلى الموت الجهل بأسبابه، فيجعله موتين.
أغلب الظنّ أنّ ترتيباً كهذا سيكون أدقّ من منظومة الوعي السابق - الحاليّ:
القوى المذكورة أعلاه يجمع بينها أنّها ضدّ الحرّيّة. حين كانت تقول «الاستعمار» كانت تقصد الحرّيّة والتواصل الحرّ مع العالم. حين كانت تقول «التحرّر» و «المقاومة» كانت تقصد إضعاف أو إخضاع جماعة أخرى في مجتمعها.
من الاتّحاد السوفياتيّ إلى روسيا بوتين، ومن الخميني إلى خامنئي، ومن تدمير لبنان وإلحاقه بإيران باسم مقاومة إسرائيل إلى تدمير سوريّة وإلحاقها بإيران، ومن الاعتداد بعبد الناصر - الذي كان الأصرح، منذ 1954، في رفضه الحرّيّة - إلى النوم تحت حذاء بشّار الأسد، ثمّة استمراريّة لا تنقطع إلاّ في الشكل والتعبير. أمّا المضمون فواحد: ضعف التكوين الديموقراطيّ عند هذه القوى، أمس واليوم، وانعدام التطلّب الديموقراطيّ.
هذه الخديعة الإيديولوجيّة التي آن أوان التحرّر منها هي التي دُشّنت مع زعماء مناهضة الاستعمار حين غُضّ النظر عن ارتكاباتهم بحقوق الإنسان. مذّاك والخديعة تشتغل بهمّة تتعاظم وأسماء تتغيّر. لقد اكتسبت الخديعة هالة القداسة ووُصم الذين لا ينخدعون بالخيانة والضلال.
الاتّحاد السوفياتيّ الذي سلّح أنظمتنا العسكريّة، إيران، حزب الله، جمهور الكتلة القوميّة - اليساريّة لم يتغيّروا. الحرّيّة التي كرهوها سمّوها أسماء شتّى، وطوّروا أنفسهم ضدّيّاً حيالها وحيال القوى التي تحملها أو ترمز إليها. أمّا البندقية فيمكن لفوهتها أن تستدير في أيّ اتّجاه لأنّ الحرّيّة تقيم في الاتّجاهات كلّها، وتُذبَح في الأمكنة كلّها، وآخر الأمكنة وأهمّها وأشدّها ملحميّة: حلب.
يتغير وجه الشرق الأوسط بناء على تطورات الوضعين السوري والعراقي نظرا إلى الموقع المركزي للبلدين في قلب المشرق والعالم العربي. وتدخل سوريا والإقليم بعد إخضاع حلب مرحلة جديدة من الحرب والدبلوماسية ملأى بالتساؤلات: لمن سيهدي فلاديمير بوتين “إنجازه”؟، أي أفق للشراكة الروسية – الإيرانية في رسم مستقبل سوريا ما بعد منعطف حلب؟، كيف ستتصرف واشنطن دونالد ترامب إزاء الغلبة الروسية في شرق المتوسط؟، ما هي ردود فعل اللاعبين الإقليميين الآخرين وأبرزهم تركيا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية؟، وأخيرا هل بقي من أدوار للقوى الأوروبية في الشرق بعد قرن على اتفاقية سايكس – بيكو؟
أصبح فلاديمير بوتين “رئيس العالم”، حسب ما اتضح من مجريات مؤتمر باريس حول سوريا (في العاشر من ديسمبر الحالي) حسب وصف أحد الحاضرين، الذي سخر من المايسترو جون كيري واعتبره ممثل العراب سيرجي لافروف.
وهكذا فإن سقوط شرق حلب لم يكن ليتم لولا التخلي الأميركي عن الحراك الثوري السوري منذ صفقة السلاح الكيميائي في سبتمبر 2013، بالإضافة إلى الاستدارة التركية نحو موسكو، معطوفة على الانقسام العربي والضعف الأوروبي.
بينما يعلو القيصر في الرتب على أنقاض حلب، يستعد باراك أوباما لمغادرة البيت الأبيض تصحبه مأساة سوريا وحصاده الهزيل في مجمل السياسة الخارجية. لقد سلم باراك أوباما المنطقة للاختراق الاستراتيجي الروسي والتوسع الإيراني، وفي موازاة فشله في أي إنجاز على المسار الإسرائيلي – الفلسطيني، أصبح الشرق الأوسط فريسة منظومات عابرة للحدود مع الحرس الثوري الإيراني ومحوره، وتنظيم داعش، وحزب العمال الكردستاني.
وهكذا يغادر أوباما منصبه بينما الشرق الأوسط في أسوأ حال، إذ أن العالم العربي أصبح ساحة مفتوحة للفوضى التدميرية والشكل الجديد من الحرب الباردة والحروب بالوكالة. ترك سيد البيت الأبيض مدينة حلب لمصيرها من دون أن ينبس ببنت شفة وهذا يؤكد على إرثه السلبي وأنه يشبه فعلا يوضاس، خاصة إذا كان بشار الأسد (الذي تكلم عن الشعب الحلبي وكأنه لا يعترف بالشعب السوري) يحاول أن يضع الإنجاز الذي كان فيه لاعبا ثانويا في مصاف الرسالات السماوية ومنعطفات التاريخ الكبرى، ولو كانت إيران تركز على “الانتصارات الربانية”.
إنه إذن الشرق الأوسط الجديد، موئل الفوضى غير الخلاقة التي انطلقت من بين الركام العراقي بعد سقوط بغداد في أبريل 2003. إنه أيضا مختبر انتقام روسيا من إهانتها بعد الحرب الباردة، ومنطقة الصعود الجهادي والحرب الإسلامية – الإسلامية.. وفيه يتفاعل “الاطمئنان” الاستراتيجي الإسرائيلي للتفكك والضعف العربي مع فرض الأكراد أنفسهم في المعادلة الإقليمية.
بينما تنتظر معركة الرقة تتمات عمليتي “درع الفرات” و“غضب الفرات” والتجاذبات الأميركية – التركية – الكردية والدخول الروسي على خط الأكراد، لا تزال واشنطن تراهن على إنهاء معركة الموصل قبل دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يبرز الفشل الروسي مع استعادة داعش لمدينة تدمر الاستراتيجية، بينما كانت معركة حلب في خواتيمها. ولذا سيكون مستقبل الحدود والكيانات مرتبطا بالتنسيق أو التجاذب الأميركي – الروسي في ما يسمى الحرب ضد الإرهاب.
على الصعيد السوري، ينتظر ستيفان دي ميستورا معركة إدلب بينما تتعثر عمليات الإجلاء من شرق حلب، ويبرز التناقض بين القوتين النافذتين على الأرض أي روسيا وإيران. وعلى الأرجح سيسري ذلك على خط المعارك القادمة أو خارطة الحل السياسي وفق الرؤية الروسية. ومما لا شك فيه أن الاجتماع الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني في موسكو، في 27 ديسمبر الجاري، سيكون فرصة لرصد توجهات بوتين وأولوياته. ربما تفضل طهران ودمشق استكمال الاندفاعة العسكرية نحو دوما وريف حمص ودرعا ومحافظة إدلب مفتاح سهل الغاب، لكن الحسابات الروسية يمكن ألا تتطابق مع ذلك والأرجح أن يكتفي بوتين بإنجازه الحلبي، وأخذه إلى طاولة الحوار مع ترامب.
يتضح أن إخضاع حلب لن يضع حدا لحراك الشعب السوري من دون حل سياسي واقعي يترجم متغيرات ما بعد 2011، ويحفظ ما أمكن الدولة السورية، خاصة إذا استخلصت روسيا عبرة من العراق حيث تستمر النزاعات منذ 2003 ولم تنجح القوتان الأميركية والإيرانية في تطبيع الوضع فيه لفشلها في إقامة الدولة التعددية والعادلة.
على صعيد أشمل، لا يمكن أن يبزغ فجر شرق أوسط جديد على أسس إنكار الحقوق والغلبة والقهر والإقصاء والتطرف، إنما على أساس عودة منطق التسوية والمواطنة وقبول الآخر بدل الاحتلال والطائفية والمذهبية، وهذا يفترض عدم إبقاء هذه المنطقة ساحة لعبة كبرى بين الأطراف الدولية والإقليمية على حساب الشعوب ودولها وحضارتها.
في الوقت الذي تدور فيه رحى الموت و الذل على من تبقى من أهالي حلب الثائرين على الطغيان، تدور طواحين “دونكشوتية” حول الاندماجات و الدعوات لمواجهتها، في المحيط القريب و البعيد، من تلك المدينة التي باتت محتلة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى من قبل احتلال طائفي لن يبقي أو يذر أي مَعلِم من معالمها الحقيقة لتتحول محافظة له و لطائفته و قوميته.
يتداعى القادات الذين كانوا صامتين طوال شهر كامل على المحرقة في حلب، ليسربوا بعض “المسكنات” ذات طابع “مهدئ إسعاد” ، حول اندماجات “عظيمة” ستخلص الأمة من وبال التشتت، الذين هم من اصطنعه و أسسه و قوّى عزيمته، أعداد متضاربة و تتزايد في كل لحظة .
أنا : خمسة
هو : لا بل عشرة
تلك : صمت فأنت مخطئ بل هم ١٤ فصيلاً
ذلك : فلتذهبوا للجحيم هم ١٦ فصيلاً أيها الأفاكون..
في خضم خلافنا العددي، نقف سعداء تحت مسمى “الهيئة الاسلامية السورية”، و نتطلع لدور محوري لها، ونتمنى متابعة انتشال الأمة من حضيضها نحو العلياء، و تجاربنا مع مسميات مشابهة كالجبهة و التجمع و المجلس و التحالف و أسماء الجيوش، تجعلنا من الفرح بمكان نتابع عمليات “القرص” للوجنتين بأن لا يكون حلماً عابراً.
تضيق المساحات أمام القائمين على الوضع في سوريا ، ليصروا على مواصلة ذات النهج المبني على عِند غير مفهوم و لا متناسق مع المحيط الدول و الاقليمي الذي ربط بين “الاسلام” و الارهاب ، وكذلك النسيج الواقعي للمجتمع السوري، التي يتسم بتعدد هائل من القوميات و الأديان و المذاهب، و التي ان شاء من شاء و أبى من أبى ، هم سوريون في النهاية، و سيكون لهم دور ما بعد الثورة، و مجرد الاستمرار بذات النهج، هو بمثابة دفع نحو عزل الثورة عن محيطها أكثر ، فأكثر .
يصر القائمون (وهم ذات الوجوه تقريباً و بذات التوجه حتماً منذ خمس سنوات ) على أن هذا النهج هو الأسلم و الأنجح، اذ لا تواجه النار إلا بالنار و الحديد يصفع بالحديد، و لكن نسوا أن نارهم قد أكلت ذاتها، و باتت الحاجة لسياسة شرعية تقوم على الاحاطة بالنار التي تمتد لا مواجهتها مباشرة، و إحاطة النار بالنار ، هي طريقة عملية لايقاف النيران (من باب العلم بالشيء لا أكثر).
و لافائدة من انتقاد تسمية تشكيل حافظ على ذات الوجوه مع ما يسبقها من عبارات التبجيل ، فالجسم “المرّوج” له هو عبارة عن شيء وهمي أرى فيه أنه خدعة جديدة لتبرير ما حدث بحلب ، و حتى إن تم فسيكون بنطاق من الضيق ، يجعله غير موجود، وغير مؤثر ، لا بالعكس هو سبب بتقسيم المقسم و تجزأتهم بشكل أكبر.
في خضم سجالات “هيئتنا الاسلامية الجديدة”، تقفز الوجوه المتسترة بالعلمانية ، عبر شاشات التلفزة لتعلن الحرب على الاسلاميين المتشددين، و تجد فيهم سبب التفرقة و الخلاف ، مع المطالبة بصريح القول بابعادهم و نبذهم ، و الترحيب بمعاديهم ، ولو دعى “المرحب بهم” إلى التفلت و التبرج (قولاً وفعلاً و شكلاً) .
الرحى تدور بسرعة قياسية على أجساد السوريين في مكان ، ولكن طواحين المتسكين بالشكليات و الرافضين للآخر هي بدورها تدور و تشتد ، في مشهد يؤكد إن ما يحث هو نوع من التصفية الذاتية لأوبئة الجسد السوري ، فمن أخطأ و يواصل اليوم خطأه، هو ملفوظ لا محال ، و لكن بعد مرور الأيام القليلة القادمة، فالمرحلة الحالية بات لديها شعار ، لا مكان لرايات أو أفكار أو أساليب حياة إلا وطنية من بنية السوريين ذاتهم .
الأسد باق لفترة طويلة. هذه واحدة من حقائق سوريا ما بعد حلب، والمكابرة عليها ليست أكثر مكابرة.
في سوريا، كما في أكثر من بقعة عربية وشرق أوسطية، المواجهة قائمة بين مشروع إيراني في الغالب الأعم، وبين لا مشروع عربي ما زال في إطار رد الفعل، ورد الفعل اللفظي في الغالب. هذه حقيقة أخرى والمكابرة عليها ليست أكثر من مكابرة.
بعد يومين، يكون قد مرّ عام على صدور القرار الأممي 2254، حول سوريا، الذي دعا حينها إلى بدء «محادثات السلام» في يناير (كانون الثاني) 2016، العام نفسه الذي يقفل على واحدة من أبشع تجارب حرب المدن منذ الحرب العالمية الثانية. وكأن حلب هي تفسير بشار الأسد وإيران وروسيا لـ«محادثات السلام» أو في الحد الأدنى، هي توطئة لا بدّ منها قبل هذا «السلام»!!
في مقابلته الأخيرة مع صحيفة «الوطن» الموالية له كان الأسد فجًا في التعبير عن هذا التفسير للسلام، وفي تحديد الشركاء فيه.
قال الأسد: «أعتقد اليوم أن البنية الاجتماعية للمجتمع السوري أصبحت أكثر صفاءً من قبل الحرب»، ويستطرد ليقول: «قبل الحرب كانت هناك شوائب طائفية وعرقية تنتشر بشكل خفي في عمق المجتمع، أما الآن فهذا المجتمع أصبح أكثر صفاءً». أيًا كان المحمل الذي ستُحمل عليه تصريحات الأسد، إلا أنها في العمق تعبير دقيق عن عملية التدمير الممنهج للتركيبة السكانية السورية ما قبل الثورة، وتعبير دقيق عن الإرادة الواعية خلف استراتيجية تدمير الحيز المديني، بما يمنع عودة النازحين والمهجرين من أماكنهم، ما يوصل إلى «الصفاء» الذي يبتغيه الأسد! هكذا وببساطة يفهم الأسد عملية «محادثات السلام»، وما بعد حلب، تبدو لي فترة مديدة من التعايش القسري مع نتائج جريمته المتمادية وفق خريطة طريق قد تمتد سنوات.
مرّ عام ولم تبدأ هذه المحادثات المنصوص عليها في القرار 2254، والحقيقة أنها لن تبدأ، نتيجة الإلغاء العملي لما يسمى المعارضة السورية، حتى وإن بقيت كجسم معترف به هنا أو هناك! فلم يعد الشعب السوري أو مكوناته جزءًا من معادلة عملية السلام والعملية الانتقالية في سوريا. أقله أنهم ليسوا جزءًا أو شرطًا من شروط انطلاقها.
المصير السوري معلق على تفاهم فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والسرعة التي سيبدأ بها هذا التفاهم والسرعة التي سينمو بها نحو تفاهمات نهائية. وهو معلق أيضًا على قدرة هذا التفاهم على تعطيل الشغب الإيراني عليه وتجاوز حسابات إيران ومشروعها الذي يقف خلف فكرة حمايته لنظام الأسد في الأساس.
أي افتراض واقعي، سيأخذ بعين الاعتبار أن ترامب سيتسلم الرئاسة الأميركية في العشرين من يناير، وسيحتاج في الحد الأدنى إلى مائة يوم لتتضح لديه ولدينا الاتجاهات الاستراتيجية لإدارته في الملف السوري وعموم ملف الشرق الأوسط بأوراقه الكثيرة. نكون قد وصلنا إلى 20 أبريل (نيسان) 2017.
والافتراض الواقعي سيأخذ بعين الاعتبار أيضًا، أنه منذ لحظة التفاهم الروسي الأميركي، إن حصلت، سننتظر ثمانية عشر شهرًا للوصول إلى انتخابات تأخذ سوريا إلى مرحلة جديدة وفق المادة الرابعة من القرار الأممي 2254، فلو حسبنا هذه المدة أنها تبدأ بعد مرحلة المائة يوم لترامب في البيت الأبيض نكون قد وصلنا إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2018، لإجراء انتخابات في سوريا وفق دستور جديد يكون قد تم إقراره خلال هذه الفترة. حتى انتهاء المأساة السورية وفق هذا الجدول الزمني يبدو مبنيًا على تفاؤل لا تسنده الوقائع. وليس مستبعدًا أن يُكمل الأسد ولايته حتى منتصف عام 2021.
فواحدة من الاستراتيجيات الضمنية لبوتين، هي إنهاء فكرة تغيير أي نظام عبر القوة العسكرية، وأن آخر نظام ستسمح موسكو بتغييره هو نظام معمر القذافي!
حلب لن تكون نهاية الثورة السورية، وهي لم تكن بدايتها. فطوال الأشهر الأولى من الثورة كانت أكثر السجالات رواجًا على ألسن أنصار النظام أن المدن الكبرى أي حلب ودمشق لا تزال خارج الثورة. ولطالما استخدم ذلك كدليل على ضعف الحاضنة الشعبية للثورة السورية. شهدت حلب في بدايات الثورة مظاهرات أسبوعية كما في بقية أنحاء سوريا لكنها بقيت دون الزخم الاحتجاجي في مناطق أخرى لا سيما حمص. ثم أعلنت تنسيقيات الثورة يوم الخميس 30 يونيو (حزيران) 2011 «بركان حلب» الذي شهد ارتفاعًا في حدة المظاهرات. وفي 12 أغسطس (آب) 2011 شهدت حلب المظاهرة الأكبر حتى ذاك التاريخ تحت شعار «جمعة لن نركع إلا لله». وقد استمر النمو الاحتجاجي يتصاعد إلى حين وصوله لنقطة تحوله الكبرى يوم الثلاثاء 6 سبتمبر (أيلول) إذ نجح الحلبيون في تحويل جنازة تشييع مفتي حلب إبراهيم السلقيني الذي كان قد توفي قبلها بيوم، إلى أكبر المظاهرات السورية ضد النظام.
أيًا يكن ما جرى في حلب، فهو محطة في درب الجلجلة السورية الطويل. ويوم يرحل الأسد، لن يكون قد بقي من سوريا إلا ذكرى وطن ومن السوريين إلا بقايا شعب سكن إحدى أقدم بقاع العالم في التاريخ.
غدت سورية مقبرة جماعية، يقف العالم مكتوف الأيدي متفرجا على المذبحة والدمار فيها. يلتحف العالم الخجل وحلب تسوى بالأرض، مع غياب المساءلة الجادة لنظام الأسد وحلفائه الذين ضلعوا في جرائم الحرب وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشبان، وتدمير سورية وتهجير ملايين من السوريين. حلب التي تعد موقعا حضاريا واستراتيجيا تحولت إلى مجرد مشهد لأنقاض أمام القصف المتواصل وشن الغارات على ما تبقى من الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة شرقي حلب، بإعدام جماعي ورمي بالرصاص. هذا عوضا عن الجثث التي ما زالت تحت الأنقاض. ولا شك أن قصف حلب أحد أكثر جرائم الحرب فظاعة في العصر الحديث.
ويمكن قراءة أن القصف المتواصل في الأشهر الأخيرة من هذا العام يعبر بطبيعته عن خطة متسارعة للخروج بنصر أشمل وليس مجرد مفاوضات سياسية. إذ على ما يبدو وبناء على هذه الحسابات، هناك محاولة مستميتة لكسب الوقت واستغلال الشهر الأخير قبل تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب في 20 كانون الثاني (يناير)، وذلك باستغلال المرحلة الانتقالية كي تتم مواجهة الرئيس الجديد بواقع سوري جديد قد يكون مجبرا على قبوله. إلا أن هذا الواقع لن يغفل على أي حال نفوذ إيران الضار ولا ضلوعها في كل نزاعات المنطقة من دمشق إلى العراق واليمن. وهذا ما يعول عليه من موقف الإدارة الأمريكية الجديدة كيفما يكن موقفها من الحل السياسي في سورية أو من تماه في وجهات النظر مع روسيا، ولاسيما أن التقديرات الأخيرة حول القوة الإيرانية المشاركة لقوات الأسد على الأراضي السورية، والمكونة من الحرس الثوري وحزب الله والميليشيات التابعة الأخرى تقدر بنحو 60 ألف شخص، وهي ميليشيات لا شك متورطة في جرائم حرب أيضا. ومن المهم وضع خطوط عريضة تحت مشاركة إيران بجرائمها في سورية، وإن كانت ليست الجبهة الوحيدة التي تزعزع فيها إيران المنطقة وتهدد أمنها ومصالحها كما الغرب. إذ إن تدخل إيران في اليمن ودعمها ميليشيات الحوثي أيضا سبب في تدهور وضع اليمن.
كان الثوار قد استولوا على شرق حلب عام 2012، وبدأت القوى تتراجع أمام الدعم الجوي الروسي لقوات الأسد المهترئة إضافة لميليشيات إيرانية أو مدعومة إيرانيا كحزب الله اللبناني كما من العراق وأفغانستان. ومع هذا القصف الانتقامي الأعمى، قد يستعيد الأسد أجزاء رئيسة في سورية إلا أن مساحات أخرى ستبقى خارج السيطرة، فهذا النصر الصغير لا يعد شيئا بعد ست سنوات من الحرب في أرض خربة. وتبقى بعد ذلك ملاحقة الأسد وحلفائه بتهم جرائم الحرب ضرورة حتمية، خاصة أن الأدلة التي جمعتها المفوضية الدولية للعدالة والمحاسبة وغيرها من المنظمات الحقوقية جميعها تشير للاستهداف "المتعمد" للمدنيين والأطفال ولقوافل الإغاثة الإنسانية. لذا فجرائم الحرب في سورية ملف لا بد أن يتم التعامل معه بجدية على المستوى الدولي، طالت أعمار النظام وحلفائه أم قصرت.
لم يفعل رئيس النظام السوري بشار الأسد في حلب، وقبلها في حمص وحماه وريف دمشق وغيرها، سوى ما ردّده أتباعه دائماً وبصوت عال منذ انطلاق الثورة السورية قبل ست سنوات: «الأسد أو نحرق البلد». إلا أن جديده، بعد هذه الأعوام من التدمير اليومي للبشر والحجر، أنه وضع اللافتة التي لم يكن يقبلها عقل بشري أو منطق سياسي، في صيغة «الأسد... ونحرق البلد» معاً وفي الوقت ذاته.
والأيام الأخيرة في حلب من جهة، واحتفالات الأسد وأتباعه ومؤيديه بـ»الانتصار» من جهة ثانية، تقول ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شك. فالهدف، كما لم يعد خافـيـاً من وقـائع الأيـام الأخيـرة لإحـدى أهم المدن في سورية وأعرقها، ليس «بقاء الأسد» في السلطة وفي «محور الممانعة» الروسي - الإيراني المشترك فقط، إنما أيضا، وربما قبل ذلك، «إحراق البلد» وإبادة شعبه. وإلا، فما طبيعة «الانتصار» الذي يحتفل به الأسد مع أتباعه في دمشق (وبيروت وبغداد وصنعاء!)، كما حليفاه في موسكو وطهران؟ وإلا كذلك، لماذا هذه الهمجية غير المسبوقة في التاريخ، والتي وصفها أحد أبناء حلب بـ«يوم القيامة»، بعد أن شاهد بأم عينيه «شبيحة» الأسد يدخلون أحد أحياء المدينة ويعدمون كل من وجدوه في طريقهم... مسلحاً كان، أو حتى من دون سلاح؟
أكثر من ذلك، فالواقع أن الأسد لم يهدد بإحراق سورية بعد انطلاق الثورة الشعبية على نظامه فحسب، بل إنه قال قبلها وعلى الدوام، كما عمل بكل قواه منذ ذلك الحين، على أن يبقى الحاكم الفرد (آخر مواعيده حتى عام 2021) من دون أي حد من التغيير، أو الإصلاح، في بنية النظام الذي ورثه عن والده قبل ست عشرة سنة، وبعد ثلاثين سنة كاملة من حكم الوالد الفردي والقمعي والاستبدادي، كما بيّنت جولات الحوار ومبادرات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرهما للتوصل الى حل سلمي للحرب على امتداد الفترة السابقة. قبل الثـورة عـلى النـظام، كان الشعـار «الأسـد الى الأبد»، وبعدها بات «الأسد أو نحرق البلد»، ليتحول بعد ذلك الى «الأسد... ونحرق البلد»، بما يعني أن الحريق السوري قائم، سواء بقي الأسد الابن في السلطة أو أزيح عنها.
هل تشي هذه الحال بغير إبقاء البلد على شاكلة النظام الذي أقامه الأسد الأب والابن: أحكمكم أو أقتلكم، أو أحكم سورية أو أدمرها؟ وألا يتحدث عشرات بل مئات الآلاف من السوريين المطرودين من وطنهم، والخائفين من الاعتقال أو القتل في حال العودة إليه (آخرهم الكاتب والمفكر والمصلح صادق جلال العظم الذي توفي الأسبوع الماضي في المنفى)، عن غير هذه الحقيقة بأجلى صورها وأقبحها.
ليس ذلك وحده، فلم يكتشف العالم الخارجي كما يبدو إلا أخيراً، ما قاله السوريون على الدوام، من أن الإرهاب في سورية هو صنيعة الأسد نفسه، وحجته في الوقت عينه لتبرير ما قام به ضد الشعب السوري منذ مطلع آذار (مارس) 2011. هو الذي أفرج من سجونه ومعتقلاته عن العديد ممن وصفوا لاحقاً بـ «قادة المحاور الإسلاميين»، وحتى أنه زوّدهم بالأسلحة اللازمة ليفعلوا ما فعلوه، وليسيئوا عملياً الى الثورة وقادتها الميدانيين سواء في دمشق وريفها أو حمص أو حلب أو الرقة وإدلب. وهو الذي نسّق مع مقاتلي «داعش» على الأرض، فلم يدخل معهم في معركة واحدة، كما لم يدخلوا هم بدورهم في معركة معه. وكثيرة هي الأنباء والتقارير التي تحدثت عن شرائه النفط من المنابع التي احتلها «داعش» ولا يزال يحتل بعضها حتى الآن.
الجديد الآن جاء من تدمر، التي كان الأسد (بخاصة حليفه بوتين المولع بالموسيقى الكلاسيكية، والذي استقدم فرقة من موسكو للعزف على أطلالها) احتفل قبل نحو عام بتحريرها من «داعش»، والتي أعاد التنظيم احتلالها مجدداً في الفترة ذاتها التي كانت تجري فيها مأساة حلب. في التقارير الدولية، ومعلومات البنتاغون بالذات، أن قوات الأسد التي كانت في المدينة لم تتصدّ لمقاتلي «داعش» عندما شنوا هجومهم عليها، بل انسحبت منها بهدوء يدعو الى التساؤل والريبة من ناحية، لكنها إضافة الى ذلك تركت أسلحتها في أماكنها ليأخذها التنظيم من ناحية ثانية.
ماذا يعني ذلك غير المزيد من الشيء ذاته: إبقاء الحرب على حالها، ومواصلة إحراق سورية وقتل شعبها... أو حتى، كما أصبح بادياً للعيان، تهجير الغالبية منها وإحداث تغيير ديموغرافي يلائم سلطة الأسد على ما يسميه «سورية المفيدة»، ومعها مخططات حليفه الإيراني لها ولغيرها من دول المنطقة؟
ما يبقى أن تدمير حلب، بهذا الأسلوب والى هذا المستوى من الإبادة الجماعية، هو خطوة على الطريق الذي رسمه الأسد وخامنئي منذ البداية. وقد يكون الأمر مفهوماً، في ظل ما بات مؤكداً عن استراتيجيتهما (عفواً، استراتيجية خامنئي وحده)، لكن ما ليس مفهوماً البتة هو موقف حليفهما الثالث، فلاديمير بوتين، الذي يشارك في إيقاد النار، وطبعاً مصلحته الآنية، أو حتى الاستراتيجية، في الحريق الذي يجتاح سورية من أقصاها الى أقصاها.
بعد الموصل تنتقل الميليشيات الإيرانية إلى حلب لإنهاء الفصل الثاني من هذه المأساة التي تُركت قرابة نصف مليون من سكان حلب مسفوحي الدم ومنزوحي الوطن. ستة «فيتوهات» ضد الهدنة بأي شكل، يعني استمرار سياسة حرق الأرض بمن وما عليها وخلق أزمة طويلة المدى يصعب من خلالها الوصول إلى أي مطلب مشروع للمعارضة مما أقر به العالم وعلى رأسه عملية الانتقال السياسي السلمي التي وَضع لها أخيراً شرطاً بلا شروط.
الجديد في المعادلة وفق المنظور الروسي السوري هو اتهام المعارضة المعتدلة بالإرهاب، وهذا ما جاء واضحاً صراحة على لسان وزير الخارجية الروسي عندما أشار إلى أن المسلحين «الذين يرفضون مغادرة حلب سيتم التعامل معهم كإرهابيين، وسندعم أي عملية للجيش السوري ضدهم»، وهذا ما عبر به النظام السوري أيضاً في بيان صادر عن وزارة خارجيته أكد رفضه لأي اتفاق لوقف إطلاق النار ما لم يغادر من تصفهم بالإرهابيين الجزء الشرقي من حلب. وقال المندوب البريطاني ماثيو رايكروفت إن استخدام روسيا للفيتو يعني أنها وداعميها «وافقوا على حصار مئات الآلاف من الأبرياء من النساء والرجال والأطفال الذين يتحملون الجحيم الآن في حلب»!
العالم كله يتحدث في وادٍ ورأس النظام يتحدث في وادٍ آخر بعيد عن أي نبرة لانتقال سياسي، وهو ما أكده بشار قبل فترة وجيزة عندما قال: «إن بوتين لم يتحدث مطلقاً معه عن ترك السلطة»، ورغم الضغوط التي تمارسها واشنطن لرحيله، لم يصدر من بوتين أو لافروف أبداً كلمة واحدة في هذا الشأن. وأضاف أنه لا يساوره قلق من أن يعقد بوتين وكيري اتفاقاً للإطاحة به من السلطة، وقال: «لأن السياسة الروسية لا تقوم على إبرام الصفقات. إنها تستند إلى القيم»، وهذه القيم هي التي ساهمت في إزاحة نصف الشعب السوري من وطنه إلى المجهول، والنظام الذي استدعى قوى الخارج للحفاظ على الكرسي ولو ضاع الوطن ثمناً له.
فللنظام في تاريخه سهم ضارب في ذلك منذ أزمة «حماة» في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي عندما كان رأس النظام آنذاك مستعداً لإبادة سوريا من أجل الحفاظ على الطائفة العلوية الحاكمة. نعم أخمدت الثورة هناك بالتضحية بما يقارب أربعين ألف سوري واليوم قيمة المساومة ليست الطائفة العلوية، بل سوريا بأكملها وليس «حماة» الثمانينيات. قد تكون ثمة مساومة مقبلة ولكنها ستكون بشعة وخطرة وتتم على قبور أكثر من 400 ألف شخص ممن قُتلوا في السنوات الأخيرة من حكم الأسد الابن، وإن من أنقاض حلب سيخرج مقترب جديد للنزاع سيسمّم السياسة العالمية، كما أشارت إلى ذلك إحدى الصحف الأجنبية في هذه الأيام، فهل يضحي أي عاقل بالبيت كله من أجل البقاء على الكرسي فيه سالماً وهل هذا هو خير مغنم؟
سياسياً، انتصار روسيا وإيران والنظام الحاكم في سوريا على المعارضة المعتدلة البعيدة عن الإرهاب المتطرف، من «داعش» وغيره من المنظمات التي توزعت سموم أفكارها في أرض الشام، ليس في صالح النظام العالمي الذي احتفى بالفوضى الخلاقة لسلسلة من الأزمات المتداخلة ومن الوصول إلى نقطة نظام من بعدها أمن واستقرار وأمان.
إن عودة النظام الحاكم ومن يدعمه إلى العام 2010 أقرب إلى حالة من الانتحار السياسي لكل من وضع يده سلباً ونهباً وقتلاً وسحلاً وتشريداً أو نزوحاً ولجوءاً إلى حيث العدم في الرؤية والمسارات، فالحرب حتى لو وضعت أوزارها الكارثية في حلب، فإنها مستمرة بوقود الطائفية البغيضة فهي مشتعلة وإن انتهت في حلب فشراراتها ما زالت متقدة وآثارها التدميرية لا تقارَن مع أي سلاح آخر استُخدم في هذه الإبادة الجماعية لمكونات الشعب السوري الذي عاش في وطن لم يرفع للطائفية يوماً رأساً، لا للحرب ولا للحربة.
فاليوم قد يراهن النظام ومن حوله من القوى التي استباحت كل الوطن السوري على معركة الفصل في حلب كأنها هي المصير الذي يحدد مستقبل سوريا في الفترة المقبلة، ولكن هذا رهان قاصر وقصير النظر، بكل المقاييس.
ليس في المنظور القريب شيء اسمه سوريا العام 2010، وليس لهذا التاريخ أثر في أي مشروع مستقبلي للرجوع إلى الخلف فلم يحدث ذلك في الماضي حتى يقع الآن والحال عصيٌّ على الوصف الأدبي، فكل أدبيات السياسة الإقليمية والعالمية تذهب تجاه التقسيم الذي لا يستقيم إلا على ركن الحرب المستدامة، وهذا ما نقلته «رويترز» أخيراً عن مسؤول أميركي في قوله: «تسقط حلب لكن الحرب تستمر»!
هذه الحرب العدمية التي قتلت روح الإنسانية في الإنسان وحطمت فيه مساحة التسامح والتعايش البعيد عن نبرة الانتقام المباشر والعنف المضاد تحت أسماء برّاقة بالحقد والبغض وحرق الأخضر في كل قلب والأبيض في كل نفس، فلا حكم في هذه الصورة يدوم ولا كرسي يصمد أمام هذا الطوفان السياسي المشحون برائحة الدم والصديد الذي يُمنع فيه استخدام المراهم والأدوية المباحة لإحداث المزيد من الآلام والجراح المفتوحة في أرض الملحمة غير المتكافئة إقليمياً ودولياً، فالعجز أصاب الجميع بما فيهم قوى الاعتدال.
منذ البداية قالت الثورة السورية لكل محبيها ومعاديها ومحايديها أن النيران التي اشتعلت داخل جدران البيت السوري لن تبقى حبيسة الحدود السورية, وأن امتداداتها ومآلاتها وكل من يعمل على تأجيجها وعدم نصرة الشعب السوري الحر سيناله نصيباً من مآسيها, وأن الجميع إن لم يكن عاملاً يوقف القتل عن الشعب السوري فإنه سيحترق بتشظيها وأكثر من تهددهم نيرانها هم جيرانها.
المتابع للشأن اللبناني يدرك أن سياسة "النأي بالنفس" التي طرحتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة كانت شعاراً أكثر مما هي تطبيقاً في السياسة الداخلية والخارجية وعلى كامل مدار سنوات الثورة السورية.
فالعلاقة التي تربط لبنان بسورية هي أكثر من علاقات اقتصادية أو علاقات دبلوماسية أو حتى علاقات بلدان متجاورة بالحدود, وعلى مر التاريخ القريب والبعيد للبلدين كان الشأن اللبناني في خضم السياسة السورية والعكس أيضاً صحيح.
السفير الأسدي في لبنان "علي عبد الكريم" الذي يٌفترض أنه يقوم بمهام التمثيل الدبلوماسي لمصالح السوريين في بيروت كما تقتضي الوظيفة الموكلة إليه, لكن واقع الحال يقول أنه أضاف مهاماً أخرى لمكاتب سفارته تمثلت بمهام أمنية وملء الفراغ الذي كانت تشغله الشخصيات الأكثر تأثيراً في الشأن الداخلي اللبناني أيام الاحتلال السوري من أمثال اللواء "غازي كنعان" واللواء "رستم غزالة" مع كامل الطابور الأمني الذي تحكم بحياة اللبنانيين على مدار عقود من الزمن, وبعد طراد النظام السوري من "لبنان" يبدو أن هناك شخصيات من النظام الأمني السوري (أمثال اللواء علي مملوك) استطاعت أن تعيد بناء شبكة مصالح مع شخصيات لبنانية كي تضمن بقاء القرار اللبناني في الحضن السوري, تلك الشخصيات اللبنانية التي اعتادت أن تبقى تابعة ومن مخلفات نظام "الأسد" واعتادت أن تعيش بعبودية لعصابة "الأسد" ولتثبت مقولة: أن السماء لو أمطرت حرية لحمل العبيد المظلات.
وعبر متابعة مفاصل الثورة السورية للشأن اللبناني وفي محاولة لبناء جسر من الترابط مع الشعب اللبناني برزت قناعات من أن هناك اختراقاً أمنياً كبيراً لبعض أعضاء تيار المستقبل من قبل الأمن "الأسدي" ومن قبل أعداء الشعب السوري في لبنان المتمثلين بحزب الله اللبناني والحزب القومي السوري أو حزب التوحيد لوئام وهاب أو التيار الوطني أو أذناب فرع حزب البعث في لبنان إضافة إلى تيار المردة, وتلك الأحزاب والتيارات لا تشغل بال المواطن السوري طالما اعتاد عليها كتوابع وأذناب لسياسة نظام "الأسد" على مر العقود في السيطرة على الشارع اللبناني وفي تمرير سياسات إيران في المنطقة.
لكن ما دخل في حيز الاستغراب أن يكون هناك وزير الداخلية "نهاد المشنوق" التابع لتيار المستقبل من حيث توزيع المحاصصة والتمثيل السياسي الذي يحكم تركيبة نظام الحكم في لبنان, والاستغراب الأكبر كان من خلال سياسة وزارة الداخلية اللبنانية التي اتضح أنها تعاني من انحراف كبير في مسيرة ونهج وطريقة تعاملها وبناءً على تعليمات الوزير وبما يخالف التوجهات السياسية لتيار المستقبل بزعامة سعد رفيق الحريري وبما يتعارض مع سياسة النأي بالنفس التي اعتمدها لبنان وبما يخالف كل التوقعات بأن تكون تلك الوزارة المحسوبة على تيار المستقبل قد أصبحت تكن العداء للثورة السورية وتضيق على اللاجئين والناشطين السوريين بل وأصبحت أحد أهم أركان "حزب الله" في الشارع اللبناني وفي تطبيق سياسة الحزب الأمنية وكأنها أصبحت أحد مكاتب إيران في لبنان.
بعض الشخصيات اللبنانية لم تٌبدِ أي استغراب بسياسة وتصريحات وعمل وزارة الداخلية في لبنان, وهم يعتبرون على حد قولهم أن الوزير "المشنوق" بحكم المنشق عن سياسة تيار المستقبل منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأنه ساهم بوقف الكثير من الإجراءات التي تخص المحكمة الدولية وأنه تماهى لحد التطابق مع سياسة حزب الله المعادية والمعاكسة لتوجهات تيار الرئيس "سعد الحريري", وهذا الأمر كان مسار نقاش داخلي لدى كوادر المعارضة السورية ومؤسساتها الثورية التي شعرت بالغضب نتيجة ممارسات المشنوق ووزارته والتي وصلت لحد التضييق الأمني (المقصود) على نشاطات الثورة في لبنان وعلى الناشطين السوريين وأطراف المعارضة السورية خلال الأعوام الثلاث لتسلم المشنوق مهامه كوزيراً للداخلية في لبنان, وعدم قدرة أي هيئة معارضة معترف بها دولياً من افتتاح تمثيل لها في "بيروت" وخاصة فيما يتعلق بمكاتب الإغاثة أو مكاتب لمتابعة شأن أكثر من مليون ونصف سوري لاجئ في لبنان لقناعة مطلقة وصلت إليها المعارضة السورية من أن الداخلية اللبنانية لن تكون المدافعة أو الحامية لتجاوزات حزب الله (المتوقعة) على تلك المكاتب في كامل أراضي لبنان.
من خلال المتابعة يظهر للعلن مدى التورط الذي تعاني منه الداخلية اللبنانية وبتعليمات من الوزير "مشنوق", فالنشطاء السوريين الذين كانوا يتدافعون للاشتراك بأي فعالية ينظمها تيار (14 آذار) فضلوا الانزواء والابتعاد لعلمهم المسبق بتعليمات صدرت من "الداخلية" للتعامل بقسوة وخارج القانون مع أي سوري يتم ضبطه ضمن تلك الفعاليات وخدمة لمشغليه من "حزب الله" وضباط الأمن "الأسدي", بل زاد الأمر عن ذلك من خلال تسهيل الداخلية اللبنانية وبغطاء من حزب الله لشبيحة "الأسد" الذين أصبحوا يصولون ويجولون داخل شوارع لبنان وبأسلحة فردية يحملونها ويحاولون بها استفزاز أي سوري يعرفون أنه ينتمي للمعارضة السورية أو حتى لاجئ داخل الأراضي اللبنانية, إضافة إلى عشرات بل مئات المعتقلين في سجون الداخلية اللبنانية ومخابرات الجيش وبتهم أقل ما يقال عنها أنها خلبيه غايتها فقط التضييق على كل معارضين نظام "الأسد".
كل المعطيات التي توافرت لأطراف المعارضة وبكل مكاتبها تدلل وبما لا يدع مجالاً للشك أن هناك اجتماعات حصلت بين الوزير "مشنوق" وبين اللواء "علي مملوك" مدير مكتب الأمن القومي في نظام "الأسد" وصاحب السلطات الواسعة وأن هناك تنسيق عالي المستوى حصل بين الأمن "الأسدي" والوزير "مشنوق" بما يخص تبادل المعلومات ومعطيات حول تحركات وعمل المعارضة السورية أو بمراقبة تحركات الناشطين السياسيين السوريين على الأراضي اللبنانية وتنسيق عمل الخلايا الأمنية "الأسدية" داخل لبنان, والمعلومات التي أكدتها جهات مختلفة لأطراف من المعارضة السورية أن خدمات الوزير "المشنوق" للأمن "الأسدي" وصلت لحد تأمين سيالة معلومات (داتا معلومات) وتقارير تخص مراقبة تيارات وحركات سياسية وأحزاب وقيادات لبنانية مساندة للثورة السورية ومعادية لنظام "دمشق" وإرسالها لمكاتب المخابرات "الأسدية" في لبنان وفي سورية.
ما رشح من دوائر مطلعة دللت عن وساطة للمخابرات المصرية والتي ترتبط بعلاقات وثيقة مع اللواء " علي مملوك" ساهمت بتامين لقاءات (مباشرة وغير مباشرة) بين الوزير مشنوق وبين جهاز الأمن "الأسدي" جرت في القاهرة, في البداية تمت بين المشنوق والعميد في مكتب الأمن القومي سامر بريدي، والذي يعتبر اليد اليمنى للمملوك ثم توالت اللقاءات لتجمع "مملوك" بالـ"مشنوق", وهذا الأمر لم يفاجئ العارفين بنهج الوزير "مشنوق" الذي استهل عمله باستقبال القيادي الأمني في حزب الله الحاج "وفيق صفا" وبحضوره لاجتماعات أمنية رسمية مما أثار الاستياء الشديد في صفوف تيار المستقبل الشعبية لتأتي بعدها عدة تصرفات منفردة من "المشنوق" غردت خارج سرب السنة في لبنان وخارج توجهات وسياسة جمهور المستقبل سواءً كان بالترشيح المبكر للجنرال "عون" لرئاسة الجمهورية أو عبر متابعة جلسات الحوار مع "حزب الله" لدرجة أن البعض أصبح يعتبره وزيراً لحزب الله وليس لتيار المستقبل.
طعن الوزير "نهاد المشنوق" بحاضنته السنية وبتيار المستقبل ليس بجديداً على سياسته, فقد أعلن يوماً أنه ينتمي للـ"حالة الحريرية" وليس لتيار المستقبل, واستقالته من وزارة العدل كانت طعنة مفاجئة أيضاً خصوصاً أنها أتت دون تنسيق مع الرئيس "الحريري" وعلى أنقاض رفض الوزير "مشنوق" لإحالة ملف "ميشال سماحة" إلى المجلس العدلي وهو (سماحة) المدان بإدخال عشرات العبوات والمتفجرات من مكتب "علي مملوك" عبر الحدود إلى "بيروت" للقيام بعمليات اغتيال وتخريب ومن ثم الإفراج عنه لفترة قصيرة قبل أن يٌعاد سجنه لعشر سنوات تحت ضغط الحالة الشعبية.
من المؤكد أن السياسي الناجح لا يبني علاقاته على طفرات عابرة قد تزول, ومن المؤكد أن الرؤى السياسية أكثر ما تعتمد على الحالة الشعبية والاستقراء السياسي الصحيح لمآلات المستقبل, لكن من المؤكد أيضاً أن الوزير "نهاد مشنوق" لم يقرأ التاريخ جيداً وهو الحاصل على دبلوم الدراسات السياسية والذي بدأ الكتابة الصحافية في منتصف السبعينات في صحيفة "بيروت المساء" التي أسسها الراحل عبد الله المشنوق، ثم عمل في مجلة "الحوادث" الأسبوعية والكثير من الصحف وتخصص في قضايا الصراع العربي الإسرائيلي، وكان له علاقات وثيقة بالقيادات الفلسطينية وغيرها من القيادات العربية.
لقد كان على الوزير "مشنوق" ألا يمثل حالة استمرار للوصاية الأسدية على الشعب اللبناني وأن يحترم قدسية الدماء اللبنانية التي سالت في شوارع بيروت وطرابلس وصيدا والجبل وقصر بعبدا على يد عصابات "الأسد" أيام الاحتلال السوري للبنان, وكان عليه قبل أن يتموضع في حضن اللواء "مملوك", أن يعلم أيضاً أن مصير الحكومات الأمنية والديكتاتوريات إلى زوال, وأن البقاء أبداً ودائماً هو للشعوب.
التاريخ لن يرحم المتآمرين ومحكمة السماء لن تغفر لهؤلاء إن غابت محكمة الأرض, والشعب السوري الذي يٌكن كل التقدير والاحترام لكل مواطن لبناني أو عربي وغيرهم ممن يقفون إلى جانب قضيته لن يتسامح أيضاً مع عبيد ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات قتل واضطهاد خدمة لأجندات "أسدية" سلطوية إجرامية.
منحت التعطيلات الايرانية المتتالية، للاتفاق الروسي - التركي حول اخلاء حلب، دفعة قوية لخطة استراتيجية كانت قيد التنفيذ البطيء، تقضي باعادة رسم خطوط السيطرة في سوريا، عبر أدوات معتدلة ومضبوطة يكون قوامها الجيش الحر، تنطلق من مناطق درع الفرات إلى الحدود التي تنتهي عندها “سوريا المفيدة” من وجهة النظر الروسية.
قبل فترة ليست ببعيدة، كانت مصادر خاصة قد أكدت أن المناطق التي تتوسع حاليا (ببطيء في الآونة الأخيرة)، على الحدود السورية التركية في عملية “درع الفرات”، ستكون المنطلق الجديد لاعادة بلورة الثورة السورية، وتخليصها من كل ما شابها من تشدد و سوء تنظيم و ادارة، و تحويلها من ثورة مغطاة بـ”فصائل” مشتتة ، إلى ثورة قريبة من شكل “دولة” ذات كيانات واضحة.
و تقضي الخطة ، التي أذّكر مرة أخرى أنها ذات نوع استراتيجي بعيد نسبياً، أن يتم مأسسة الثورة بادارة مدنية و عسكرية يرتقي إلى ما يقارب الدولة، وتركز في مرحلة قد تصل لستة أشهر على عملية التنظيم ، وصولاً لانطلاق المرحلة التالية ، والمتمثلة بالتوسع في العمق لحدود تصل إلى ٨٠ كم ، وهي المساحة التي تكفي تركيا ، وترضي روسيا، و يخرجهما راضين عن معارك وصدامات امتدت لست سنوات.
كان بالحسبان طوال الوقت “ايران”، التي تملك مشروع ذو نزعة توسعية مستمرة مبني على أهداف طائفية بعيدة المدى، الأمر الذي لا يناسب سواء روسيا التي تتهرب من فخ تكرار “المستنقع” كما حدث في أفغانستان، و كذلك تركيا التي تعتبر نفسها جزء من تحالف كبير يمثل الجانب “السني” في العالم، اضافة إلى القضية “الكردية” بكل تشابكاتها التي تشكل رعب لايمكن القضاء عليه إلا بمشروع في العمق السوري.
ايران استشعرت بالخطر و لامست الخطة ميدانياً ، فعززت صفوفها بآلاف المقاتلين، وبدأت ترتيبات المواجهة، عبر تسريع وتيرة القتال في حلب من جهة ، مع تنغيص الاتفاق التركي - الروسي، فتم قصف الجنود الأتراك في تشرين الثاني عبر طائرات تتبع لها ، و من ثم الايغال في القتل بحلب ، وصولاً إلى تعطيل الاتفاق على اخلاء حلب من الثوار، و أتمت الأمور بارسال أكبر ارهابيها قاسم سليماني إلى الميداني، للتحضير للمواجهة القادمة.
قوات “درع الفرات” ، التي تواجه نوعاً من تشويه الصورة (التي قد تكون محقة في بعض الأحيان)، يعتبر المنفذ الجديد للعودة إلى حلب ، والأمر ليس بالتوقيتات التي جرى الاتفاق عليها مسبقاً، و لكن بأوقات أكثر قرباً، فالتمادي الايراني، والاصرار على السيطرة في مناطق لم ينص الاتفاق الأوسع “التركي - الروسي”، يجعل واجب التأديب موجوداً .
بانتظار ما ستفضي إليه اللقاءات المقررة بين الثلاثي “ايران - روسيا - تركيا” في روسيا ٢٧ الشهر الجاري، والتي يطمح الشركاء “الروس - الأتراك” لاقناع ايران بالالتزام بالاتفاق بشكل سياسي مع تهديد مبطن باستخدام القوة.
منذ الأمس بدأت تركيا اسباغ وصف جديد على الميليشيات التي تقودها ايران بالقول أنهم “إرهابيين أجانب”، في تمهيد لمواجهة فعلية قد تضطرها الظروف للدخول بها، بالتزامن مع تعهدات بنقل مقاتلين منتقين من الخارجين من مدينة حلب، إلى مناطق “درع الفرات” استعداداً للمواجهة، التي يبدو أنها حاصلة لامحالة، سيما أن ايران بدأت اليوم عمليات القصف على عندان و حريتان لتوسيع مواقع نفوذها في حلب و ريفها ووصل حلب بـ”نبل و الزهراء”.
الخريطة تدخل مرحلة جديدة من التعقيدات و العقد المتعددة ، و يبدو أن الحل لايمكن بالقوة الناعمة “السياسة”، بل بحاجة لـ”مقص” يزيل العقد ويعيد الوصل بشكل جديد.
ماذا بعد معركة حلب وما فعلته بموازين القوى الإقليمية والدولية على وقع انهيار المعايير والأعراف والقوانين الإنسانية؟ روسيا أوضحت منذ البداية أن لا خيار سوى الانتصار في حلب مهما كلّف الأمر حتى ولو تمّ ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. إنما ماذا ستفعل روسيا بانتصارها الملوّث؟ هل جهّزها هذا الإنجاز، وفق ما تراه، للبدء في التفاوض مع الولايات المتحدة على الصفقة الكبرى؟ أم إن هذا مجرد فوز بمعركة وليس كسب حرب، ما يجعل الصفقة بعيدة المنال ويوحي بأن النزيف مستمر في سورية المفككة؟
ما يُعرف بالفترة الضائعة بين الفوز في الانتخابات الأميركية وتسلّم الرئيس المنتخب مفاتيح البيت الأبيض شكّل فرصة للمحور الذي يضم روسيا وإيران وميليشياتها إلى جانب النظام في دمشق، وتدعمه الصين أيضاً - فرصة، الفرز الدموي ميدانياً لتثبيت موازين عسكرية وفرضها بثقة في أن الولايات المتحدة غائبة عن القرار أثناء الوقت الضائع - حتى إزاء ارتكاب المجازر - ولن تتحرك. هكذا، هيّأ المحور أرضية جاهزة للرئيس المنتخب دونالد ترامب تتلاءم مع رغبته في التخلص والتملص من ملف سورية بعدما كان المحور قد استفاد كثيراً من تردد الرئيس باراك أوباما وتلكؤه في المسألة السورية.
فكلا الرئيسين انعزالي في هذا المجال، وهذا ما قوّى عزم أقطاب المحور على حسم معركة حلب بأي كلفة ومهما كان الثمن. إيران تعتبر حلب فوزاً لها وانتكاسة للدول العربية الخليجية المعارضة لها، بالذات للسعودية. مواقف دول مجلس التعاون الخليجي متباينة، شعوبها منشغلة بمستقبلها وطموحاتها ولا تريد الانجرار إلى الحروب في البقع العربية من سورية إلى ليبيا - وحتى اليمن. لذلك، هناك ذلك المقدار من الضبابية في المواقف الخليجية الرسمية والشعبية وهناك انفصام وانفصال عن المنطقة العربية غير الخليجية. سواء كان بعض الأدوار الخليجية في الدول الملتهبة خطأ أم لا، فما يريده الخليجيون الآن هو الحفاظ على تلك الواحة الباردة في خضمّ اللهيب. أما شعوب الدول التي تلقّت الوقود وسكب الزيوت عليها، فإنها تشعر بأنها ضحية الاستخدام الخاطئ والمسيء الذي أدّى إلى أفغنتها وتمزيق نسيجها البنيوي. فما هو المشهد أمامنا؟
دول مهمة مثل الصين التي تلعب في الساحة العربية من وراء الكواليس، التحقت علناً أخيراً بالحرب الشاملة على الإرهاب، وفق ما بدأ مبعوثوها التعبير عنه صراحة وعلناً. إنها تنظر إلى معارك الموصل في العراق وحلب في سورية على أنها جزء واحد من الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي، وهي شريك استراتيجي لروسيا في هذا الموقف. الصين الصامتة تقليدياً باتت في الفترة الأخيرة تجاهر بمواقفها السياسية لا بالأفعال اللوجيستية العسكرية التي تقدمها على أرض المعركة في سورية بالذات.
أول أربع مرات، استخدمت فيها الصين الفيتو سوية مع روسيا في مجلس الأمن لمنع الحلول المطروحة دولياً يبررها المسؤولون الصينيون بأنها كانت رفضاً لمحاولات إزالة بشار الأسد عن الرئاسة «لأنه مُنتخب» كما يقولون. أما الفيتو الخامس فإنه الفيتو ضد الإرهاب، كما يبررون، تأكيداً للخطاب الروسي - الإيراني - السوري الحكومي الذي حوّل المسألة السورية التي بدأت بالمطالبة بالإصلاح إلى حرب على الإرهاب. إذاً، هناك اليوم شراكة روسية - صينية في تحديد مستقبل سورية عنوانها مكافحة الإرهاب، حقيقتها في صلبها تقوم على ضمان المصالح الاستراتيجية للحليفين في المنطقة العربية، بالذات في مواجهة مصالح الغرب والولايات المتحدة ونفوذهما.
ماذا تريد روسيا في سورية؟ كل شيء. تريد روسيا كل شيء، من القواعد العسكرية، إلى الاستفادة الاقتصادية لمرور النفط والغاز إلى أوروبا، إلى الاستثمار وربما إعادة البناء، إلى استخدام النفوذ في سورية للمقايضة في أماكن أخرى مع الولايات المتحدة وأوروبا في الصفقة الكبيرة إن لم يكن في الصفقة الكبرى.
روسيا هادنت تركيا والصفقة بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان لها أكثر من عنوان. أردوغان دخل ساحة الحرب في سورية لتنظيفها من الخطر الآتي إليه من الأكراد فاستخدمها لسحق المنظمات الكردية التي يصنّفها إرهابية بمعونة الأمر الواقع من روسيا. في المقابل، أتى الصمت الرهيب من تركيا ومصر والدول الخليجية على المعركة الروسية في حلب بكل تجاوزاتها في إحدى أكبر المدن السنيّة. هكذا، عاونت تركيا روسيا كأمر واقع كما تلقت منها المعونة في مسألة الأكراد.
ستضمن إيران لنفسها الجغرافيا التي تريدها في سورية وتوصلها مع «حزب الله» في لبنان. إنه جزء من ذلك «الهلال الفارسي الشيعي» الذي أراده المحافظون الجدد في الولايات المتحدة ليربط إيران بإسرائيل في علاقة تهادنية بحيث يكون أحد القواسم المشتركة بينهما ذلك العدو العربي. لذلك، فإن إسرئيل لا تحتج على الإنجازات الجغرافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية وهي لا ترى في ذلك تهديداً لها، وإلا لسمعنا دوي احتجاجها في كل مكان.
الدول الخليجية أيضاً لا تبدو مذعورة أبداً إزاء الامتداد الإيراني عبر العراق وسورية ولبنان إلى البحر المتوسط. فهي واثقة في أن ذلك الشق المتعلق بالمنطقة الشرقية السعودية في الهلال الفارسي لن يرى النور تحت أي ظرف كان. أما ما يحدث في الجغرافيا غير الخليجية، فإنه ليس أولوية خليجية. هكذا كان جليّاً في جولة خليجية شملت قمة مجلس التعاون في البحرين ومؤتمر مؤسسة «فكر» في أبو ظبي التي عقدت تحت عنوان «التكامل... هدفاً»، والمقصود التكامل العربي.
واقعياً، إن التكامل الوحيد هو الذي بين دول مجلس التعاون الخليجي وليس مع باقي الدول العربية التي تتسم العلاقة معها اليوم بالانفصام وانعدام الثقة المتبادلة. أحد المشاركين في المؤتمر وهو من المخضرمين السعوديين أسرع إلى القول: «يجب علينا أن ننكمش في موضوع سورية» لأن تدخلنا في المسألة السورية كان «خطأ» و «سياسة خرقاء»، ويجب أن يكون الآن «لا دخل لنا في سورية لأنها مسألة بين الغرب وروسيا ولا شأن لنا فيها بعد الآن».
رأي هذا الخليجي المخضرم هو أنه «لسنا مسؤولين عن العرب في كل مكان. نحن مسؤولون عن شعبنا وتطويره وتعليمه وتأمين أمنه وسلامته وصحته. علينا التركيز على أوطاننا في الخليج لنواجه انخفاض أسعار البترول والعجز في الموازنة وابتداء تراكم الديون... فلقد آن الأوان لنكون مجتمعاً متحضراً». أما رأيه في ما يسمى بفوز إيران بسورية هو أنه «استنزاف آتٍ لإيران فيما هي في وضع اقتصادي هش... ففي النهاية، هي التي ستعاني وليس نحن، لا سيما أنها في بحر من العرب غير الراضين». يضيف أنه ليس صحيحاً القول أن الدول الخليجية انهزمت في سورية «فنحن لم نرسل الجيوش ولم ندخل طرفاً في الحرب وإنما استجبنا للنداء فقط وساعدنا السوريين. إيران هي التي تملك أجندة. لا أجندة لنا. فهذه ليست هزيمتنا. إنها هزيمة للمواطن السوري».
مزاج الخليجيين هو الانكماش، لا سيما بعد خيبة الأمل بالتدخلات الخليجية في سورية والعراق وبالمحاولة الخليجية بالذات السعودية والإماراتية لصقل علاقة تحالف مع مصر لتشكل وزناً عربياً في موازين القوى الإقليمية. مصر اختارت التوجه نحو روسيا وإيران في المسألة السورية بعدما استنتجت أن هناك تحوّلاً سعودياً نحو القبول بـ «الإخوان المسلمين» وصوغ علاقة تحالفية مع تركيا. هكذا، انهارت العلاقة المنشودة والمهمة لموازين القوى الإقليمية. والنتيجة، المزيد من الانكماش الخليجي في البقعة العربية.
هناك رأيان في شأن ردود الفعل السعودية - القطرية - التركية نحو التطورات في سورية: رأي يصر على أن هذا الثلاثي ماضٍ بمواقفه ضد بشار الأسد ولن يقبل بما أفرزته معركة حلب ولذلك سيستمر بدعم ما تبقى من المعارضة السورية المسلحة. ورأي آخر يقول أن هذه الدول الثلاث واقعية وبراغماتية وهي تقرأ الرسائل الدولية بوعي وتدرك أن إدارة دونالد ترامب لن تسمح بدعم المعارضة السورية وتريد، بدلاً من ذلك، طي الصفحة في سورية ببشار الأسد الآن. ثم لكل حادث حديث.
هناك من يشير إلى ما حدث لصدام بعدما تهيّأ له أنه انتصر في حروبه، بالذات عندما قررت الولايات المتحدة التوقف بعيداً من بغداد في حرب الخليج الأولى بدلاً من المضي إليها وإنهاء الحرب بإنهاء صدام. يقول هذا البعض أن الدول الكبرى تحسن اختيار الزمان والمكان والأهداف وأنه من الجهل الإسراع إلى إعلان منتصر ومنهزم في حرب سورية الآن.
بغض النظر عن التأويلات والتوقعات، فإن ما حدث في معركة حلب يبقى مصيرياً بامتياز، وأن الردود الدولية على ما حدث في حلب إنما مزّقت الادعاءات بالمحاسبة على الجرائم ضد الإنسانية وعرّت خمول الرأي العام العربي والعالمي على السواء. وانحطاط القيم وقواعد الانضباط الأخلاقي أتى عبر حلب ولم يعد يحق لأحد التظاهر بالتمسك بأدنى متطلبات الأسس الإنسانية.
هل تأتي الصفقة الكبرى على أنقاض الإنسانية في حلب، أم إن هذه مجرد محطة في تموضع فلاديمير بوتين وهو يتخذ الاستعدادات لعملية التفاوض على صفقة مع دونالد ترامب؟ الواضح أن الرجلين راغبان في الجلوس إلى طاولة إبرام الصفقات ليتمكن كل منهما من الزهو بقدراته على ضمان الصفقة التي يريدها. قد يُعجَب بعضهما ببعض ويختالا بزهو أمام العالم، لكن المصالح الكبرى للولايات المتحدة ولروسيا قد تفرض على كل منهما الاستمرار في الشك في الآخر فيما يجمع كل منهما أوراقه التفاوضية.
معركة حلب وصمة على جبين الأسرة الدولية سيسرع الجميع إلى مسحها بذريعة الحرب على الإرهاب. وإلى حين وضوح التموضع إلى طاولة الصفقات، فإن معركة حلب ليست بالضرورة خريطة طريق انتهاء الحرب السورية. فالفوز بمعركة شيء، والانتصار في حرب شيء آخر.