تضع الفضائية السورية، منذ أكثر من عشرة أيام، عبارة "حلب الانتصار" عنواناً عريضاً على شاشتها، أي منذ أن تخلَّى العالم أجمع عن مدينة حلب، وعن المعارضة السورية المسلحة الموَرَّطة،ِ المورِّطة، في الأصل، على هذا النحو، أو ذاك، وتركها لاتفاقات دولية، ولتقاسم نفوذ ومصالح بين الضواري الدولية والإقليمية، ممن تدخلوا في الشأن السوري على نحو مباشر أو غير مباشر، ومنذ أن قرّر الروس، ومعهم المليشيات الإيرانية/ استباحة حلب، والتمثيل بأهلها، بالمطلق.
لم تنتصر حلب، بحسب ما يزعم النظام وأنصاره، وأعوانه، وحلب التي أعنيها هنا، هي الوطن السوري، هي الأمة السورية بأكملها، سواء على سبيل المجاز أم الحقيقة..! نعم إنَّ حلب لم تنتصر، بل تمكَّن الأجنبي، أو مكّنه النظام منها، منذ اختياره الحل الأمني أسلوباً وحيداً للتعامل مع شعبه الذي هبَّ، منذ قرابة ست سنوات، يطالب، سلمياً، بحقوقه المهدورة على غير صعيد! نعم إنها الحقيقة البيِّنة لكل ذي عين مبصرة، يؤكد ذلك ثلاثة أمور. أولها: جرى الاتفاق الأميركي الروسي، أخيراً، حول خروج المدنيين، والمسلحين من حلب، بمعزل عن النظام السوري.. بحسب الإعلام السوري نفسه، لا غيره! إذ نفى المسؤولون السوريون أن يكون لهم علم بهذا الاتفاق، لكن المعنيين الروس صفعوهم بتأكيده، وكأنما قالوا لهؤلاء المسؤولين ساخرين: ومتى كان لكم علم أو دراية بالشأن السوري؟ ثم ما دخلكم؟! وبالطبع لا تغير من الأمر شيء تلك المراوغات التي قام بها كل من النظام والإيرانيين على السواء، حول تنفيذ الاتفاق، تحت مزاعم باطلة.
يتجلى الأمر الثاني بتلك الفظائع، أي الإعدامات الميدانية الجماعية التي ارتكبتها المليشيات المختلفة بحق أكثر العائلات الحلبية عراقة، وأصالة.. أما الأمر الثالث فأكثر ما ظهر في وقوف المليشيات الإيرانية بوجه تنفيذ الاتفاق من منطق طائفي، تبريراً لعدوانها ولأطماعها، وتثبيتها ما حصلت عليه من نفوذ حتى الآن، ومنها تنصيبها النفس "وكيلاً حصرياً" عن شيعة الأرض كلّهم..! على ذلك أقول: إنَّ حلب، بما ترمز إليه، لم تنتصر، كما يزعم الزاعمون الراقصون على أشلائها بناءً وبشراً، بل انكسرت، نعم انكسرت حلب، وانكسرت لأجلها قلوبٌ كثيرة، قلوبٌ لا تزال مفعمةً بشيء من حب وضمير إنسانيين، وهذا أمر واقع، وحقيقة جلية، لكنَّ الانكسار غير الاندحار أو السقوط، بل هو وقفة مع الذات، وقراءة للأسباب التي أدت إليه، المباشرة وغير المباشرة.. وإذا ما أردت إيجاز الأسباب، فلن آتي بجديد عما قيل سابقاً، ويقال الآن، وربما سيظل يقال: عن عسكرة الثورة السورية بإرادة النظام ذاته، ورعونة التطرّف الديني، والإسلام السياسي عموماً، إن لم أقل بأشياء أخرى كثيرة دخيلة على الثورة والثوَّار، لكني أتابع فأقول: وكذلك بإغماض عين القوى العلمانية واليسارية والديمقراطية عموماً عن هذا الأمر، واستمرار ذلك، على الرغم من رؤية نواقص كثيرة سادت عملية العسكرة والمتعسكرين، إضافة إلى الأحقاد القديمة التي طغت على التفكير العقلاني، ليس في مواجهة الاستبداد وحسب، بل في عدم قراءة موازين القوى، الداخلية منها والخارجية، قراءة صائبة، قراءة لم تستند إلى عقل سياسي حصيف. وفوق هذا وذاك، تأتي فرقة الصف، لا بين ذوي التفكير المختلف أصلاً، بل بين أصحاب الرأي الواحد أو الرؤية الواحدة..! ولم تستطع المعارضة تقديم نفسها للعالم، ولجمهورها السوري على نحو خاص، لا سياسياً ولا فكرياً، ولم تقدم رمزاً لها من بين شخوصها الكثيرين!
لست الآن، على كل حال، في مجال الندب والنواح على ما جرى، ولا في تحميل أسباب هذا الانكسار لهذا الجانب أو ذاك، فما جرى لا يعدو أن يكون كبوةً، وانكساراً عابراً، يستفاد من دروسه، على طريق ما يهدف إليه الشعب السوري، ولعلَّ المهمة أمام الشعب السوري، اليوم، وإن صارت أكثر صعوبةً، فإنها أكثر وضوحاً، إذ أضاف نظام الاستبداد إلى موبقاته مبررات ومرتكزات كثيرة لمتابعة الكفاح ضده.. فإذا كانت مبرّرات الثورة السورية قائمة قبل العام 2011، وتتلخص بكم الأفواه، ومجابهة أصحاب الرأي المخالف بالسجون والمعتقلات والتصفيات عموماً، إضافة إلى مصادرة السياسة بالمطلق، وبسط النفوذ على مؤسسات الدولة الغائبة مدنياً وإدارياً، وخصوصاً على القضاء والإعلام والتربية والتعليم بمراحله كافة. ناهيكم عن النهب المنظم والمبرمج للمال العام عبر خواص الخواص، والشركاء الكبار، وبالتوغل الأمني الذي كان شبحه يطول الجميع ودونما استثناء..
أقول: إذا كانت كل هذه المبرّرات الفاقعة قائمة موضوعياً، فإنها اليوم أشد وأقسى بما أضيف إليها من خرابٍ وأوجاع وبؤس اقتصادي غير مسبوق. ويأتي فوق ذلك كله الاحتلال بأشكاله كافة، نعم الاحتلال الذي لا أحد يستطيع أن يعطيه اسماً آخر، الاحتلال الذي لم يقبله الشعب السوري على مدى تاريخه الحيث، ليقبله الآن. فمهما قيل من مبرّرات عن أسباب مجيء الروس والإيرانيين، ومختلف المليشيات المدججة بالأسلحة والأحقاد الطائفية والنهم إلى الدم، فإنها اليوم تشكل احتلالاً فاق في وحشيته كل ما فعله أي مستعمر آخر مرَّ على سورية، إذ يصل، في بعض حالاته، إلى الاستعمار الاستيطاني. أشير هنا إلى المليشيات الإيرانية والأفغانية وحزب الله تحديداً، وإلى تصريح سابق لرأس النظام، يفيد بما معناه: "إنَّ الوطن لمن يحميه، ويدافع عنه". وأعتقد أن هذا الأمر غير غائب عن أحد، فإحساس السوريين تجاه المستعمر قوي نقي، لا يقبل حلولاً وسطاً.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ النظام نفسه الذي أتى بكل هذه الأوزار، وما تحمله من أثقالٍ، لم يعد قادراً معها على الاستمرار في الحكم، ومن بينها وزر مقتل مئات الضباط، وآلاف العسكريين من الطائفة العلوية ذاتها..!
ثمّة مرحلة جديدة تبدأ، صعبة وشاقة، مرحلة إكمال المشوار الذي بدأته جماهير الشعب السوري في النصف الثاني من مارس/ آذار عام 2011، مرحلة تمتزج فيها مسألة التحرّر الوطني، وتطهير الأرض من أرجاس المحتلين، وتنزع نحو دولةٍ مدنيةٍ تسود فيها ديمقراطية حقة بقوانينها الموضوعية التي تأخذ بالحسبان أطياف الشعب السوري، قومياً ودينياً وطائفياً، لتوظفها في إعادة إعمار الوطن السوري، وتنميته، وحماية أمنه وسلامه.
من المحزن أن نقرأ في وسائل إعلام أوروبية عديدة موالية للسياسة الروسية في سورية عناوين رئيسية، تدعو إلى الدهشة، لانعدام الجانب الموضوعي والإنسانيّ، مثل "التنظيمات الإسلامية تسلب أحذية وملابس سكّان حلب للحيلولة دون هربهم من المدينة"، وغيرها عناوين كثيرة لا تشير، من قريب أو بعيد، إلى حجم المعاناة في المدينة السورية العتيدة المنكوبة، وحقيقة سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، سواءً منتعلين أحذية أو حفاة. هل يمكن لعدم توفّر الأحذية والملابس أن يكون ذريعةً لهدم المباني والطرق، وتنفيذ كلّ هذه المجازر، وتحميل مسؤولية القتيل جريمة قتله؟ هل من المعقول اتّهام الشعب السوري بمفارقة الحياة لعدم قدرته على القفز بعيدًا عن مسار القذيفة، وتوجيهها إلى معاقل التنظيمات الإسلامية مثلا؟ هل من المعقول محو المعارضة نهائيًا، ومعاقبة كلّ من يتجرأ على رفض سلطة الأسد المقدّسة، الصغير قبل الكبير، والمرأة قبل الرجل؟ الحقيقة أنّ الشامتين بمأساة حلب من المتحدثين بالعربية أيضًا يبدون أكثر تشدّدًا، وأقلامهم تنزّ ديناميت ورصاصاً، بما يبزّ التيارات السياسية الأوروبية الساعية إلى حماية مصالحها في الإقليم، وتناولها القضية، في نهاية المطاف، على مبدأ "فخّار يكسّر بعضه".
في أوكرانيا
بعد محادثاتٍ صعبة وشديدة التعقيد، صادق قادة المنظومة الأوروبية في بروكسل على ضمّ أوكرانيا إلى معاهدة التجارة الحرّة. وجاء في خلاصة الاتفاقية، الصادرة في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2016، ولا تعني الاتفاقية، بأيّ حالٍ، ترشيح أوكرانيا للانضمام للاتحاد الأوروبي، ولا تعني كذلك وعدًا بضمّها في المستقبل أيضًا، ما يعتبر إشارة سيّئةً للغاية تجاه كييف، أخذًا بالاعتبار أنّ مجرّد بدء المحادثات لضمّ أوكرانيا لمعاهدة التجارة الحرّة، وإمكانية ترشّحها للانضمام للاتحاد الأوروبي، أدّى إلى تدخّل روسيا العسكري في شرق أوكرانيا، وضمّ شبه جزيرة القرم. ليس هذا فحسب، بل يؤكد الموقف الأوروبي عدم وجود أيّة توجّهات عملية لتقديم مزيد من الدعم المالي لأوكرانيا، أو تقديم ضماناتٍ أمنيةٍ ووعود بالتدخّل العسكري، لضمان (وحماية) سيادة أوكرانيا على كامل حدودها، ما راق لروسيا التي باتت على قناعةٍ بعدم وجود أيّ تهديدات أو عوائق أمام سياستها الخارجية العدائية.
جاءت هذه النصوص الرافضة دعم أوكرانيا، نتيجة إصرار هولندا التي عقدت استفتاءً شعبيًا مع بداية عام 2016 ضدّ انضمام أوكرانيا للمنظومة، وصوّت ضدّ مشروع دعم أوكرانيا وضمها نحو 18% من الناشطين (لم تتجاوز نسبة المشاركين في التصويت 32% فقط)، وعلى الرغم من أنّ النتيجة ليست ملزمةً للحكومة الهولندية، لانخفاض نسبة المشاركين، إلا أنّ الحكومة الهولندية ترغب بإرضاء الفئة الرافضة، واتّخذت موقفًا حاسمًا أدّى إلى النتائج المذكورة أعلاه. ومع ذلك، سمحت بروكسل لمواطني أوكرانيا بالسفر إلى دول المنظومة من دون تأشيرة دخول، واستثناء حملة جوازات السفر الروسية. وحاولت هولندا جاهدةً للحيلولة دون توقيع معاهدة التجارة الحرّة مع أوكرانيا، إلا أنّ بروكسل تمكّنت من تمرير معاهدةٍ مشروطةٍ في الوقت الراهن.
كما نرى، فإنّ معظم المحادثات التي شغلت زعماء الدول الأوروبية، أخيراً، تناولت الأزمة الأوكرانية، وتردّي العلاقات المشتركة مع روسيا، ما أدّى إلى اتخاذ قرار أوروبي بتمديد العقوبات الاقتصادية ضدّ موسكو ستّة أشهر أخرى من العام 2017، لعدم التزامها بالشروط الواردة في اتفاقية مينسك، ووقف العمليات العسكرية في شرق أوكرانيا.
تزامنًا مع ذلك، أعلن السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، عن عقد الاجتماع الثالث لمجلس "ناتو – روسيا" خلال عام 2016، لمناقشة الأزمة الأوكرانية، حسب "رويترز". وقد صرح ستولتنبرغ أنّ هناك ضرورة قصوى لاستمرار المحادثات الثنائية المباشرة مع روسيا، مع ارتفاع معدّل التوتّر والصراع. وقد أعرب الممثل الروسي في الحلف، ألكسندر غروشكو، عن قلق بلاده بشأن خطط الحلف لعام 2017، لرفع وجوده العسكري في دول البلطيق وبولندا. تجدر الإشارة إلى أنّ "الناتو" أوقف أوجه التعاون مع روسيا إثر ضمّها شبه جزيرة القرم عام 2014، ليجدّد الحلف هذه المحادثات مع بداية عام 2016.
في سورية
لم تتمكّن المنظومة الأوروبية من تبنّي خطوات جادّة تجاه الأزمة الإنسانية في سورية، وخصوصاً المجازر البشعة التي يرتكبها النظام السوري وحليفته إيران والمليشيات العراقية والقصف الوحشي الروسي لمدينة حلب، سوى الاستنكار والإدانة، كما حال الأنظمة العربية في أحسن الأحوال. واكتفت بروكسل بحثّ التحالف الذي يستهدف المعارضين من دون إيلاء أي اكتراث بالمدنيين في حلب، وضمان خروجهم الآمن من المدينة، والسماح للأطقم الطبية بدخول الطرف الشرقي من المدينة، لتقديم المساعدة للجرحى والمصابين. وقد اكتفى رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، وهو الذي يعتبر بمثابة رئيس الاتحاد الأوروبي، بالقول بعد انتهاء أعمال القمّة، أخيراً، "ما قدمناه لا يرقى إلى ما نرغب بتقديمه". الآلية الوحيدة الممكنة في المرحلة المقبلة هي الإبقاء على الحصار والعقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا التي باتت غير مجديةٍ، بل ومرفوضة من العديد من رؤساء الدول الأوروبية وزعمائها.
وعلى الرغم من أنّ حلف شمال الأطلسي (الناتو) لم يتدخّل، بصورة مباشرة، في الصراع العسكري فوق الأراضي السورية، واستفادة روسيا، إلى حدّ كبير، من التردّد الأميركي في هذا الصراع، متذرّعة بمواجهة الإرهاب، لتقصف كلّ من فكّر أو يفكّر بمعارضة الرئيس بشار الأسد، ما أدّى إلى تدمير البنى التحتية لمدن عديدة، ولأماكن وجود المعارضة، والقيام بمجازر شنيعة.
أخيراً، وبعد ورود أخبار مؤكّدة عن وقوع خسائر جسيمة في الأرواح في مدينة حلب، صرّح السكرتير العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، وحسب وكالة "Sputnik" فإن الحلف سيتحفّظ عن التدخّل العسكري في سورية. ويرى ستولتنبرغ أنّ القيام بعمليات عسكرية في سورية سيؤثّر سلباً على الأوضاع في البلاد، وأضاف "نرى حجم الكارثة الإنسانية في سورية. لكن، أحيانًا، تكون فوائد الوقوف على الحياد أكبر من التدخّل العسكري المباشر، ونتّفق على أنّ تدخّل حلف الناتو العسكري سيزيد من حجم الكارثة". بهذا، يعلن حلف شمال الأطلسي عن إفساح المجال، وترك الساحة مفتوحةً لروسيا، لتصول وتجول في سورية.
من المقرّر، كذلك إرسال نحو 1600 دبّابة إلى هولندا، حسب إكسبرس، بهدف رفع وجود قوات حلف شمال الأطلسي في أوروبا، بما يزيد عن القوّة العسكرية التي كانت موجودة في الإقليم في ذروة الحرب الباردة. وترغب الولايات المتّحدة الأميركية، من خلال ذلك، بردع أيّة محاولات روسية للتوسّع، أو القيام بعمليات عسكرية في الإقليم، وستخزّن الدبابات في قاعدة عسكرية قرب قرية إيجلسهوفن الهولندية. كما صادق الكونغرس الأميركي على تقديم 2.7 مليار دولار لدعم وجود "الناتو" في أوروبا. ومن المتوقّع تأسيس مزيد من المخازن العسكرية، لتكديس الذخيرة والآليات في ألمانيا وبلجيكا وبولندا. وهناك توتّر على حدود دول البلطيق والوجود القويّ لحلف الناتو في هذا الإقليم، سيؤخذ، من دون شكّ، بالاعتبار، قبل إقدام روسيا على القيام بعمليات عسكرية خاطفة هناك.
تباين في الموقف الفرنسي
يبدو موقف رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، فرانسوا فيون، الفائز في الانتخابات الأولية لليمين التقليدي، والمرشّح للفوز في انتخابات الرئاسة الفرنسية في عام 2017، قريباً من الكرملين، فلا يرى فيون أنّ موسكو تشكّل تهديدًا لفرنسا وأوروبا، ويصرّح بضرورة أنّ يكون الكرملين شريكًا في تطوّرات الملف السوري، ويطالب كذلك برفع العقوبات الاقتصادية ضدّ موسكو.
وقد رحب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالطبع بفوز فيون في الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية، وذكّر بالعلاقات الطيّبة التي تربطه بالأخير. وتربط فيون ببوتين علاقات صداقة جيّدة منذ سنوات، وغالبًا ما يقوم فيون بزيارات عمل للمشاركة في المنتديات التي تنظّمها موسكو، ولن يتوانى بوتين لحظة عن اهتبال الفرصة لرفع العقوبات المفروضة ضدّ بلاده، بدعم من حلفائه وأصدقائه الأوروبيين. من جهة أخرى، يخاطر فيون بتأليب المعارضين، واتهامه بالضعف السياسي أمام موسكو، لعلاقته المميزة مع بوتين، في وقتٍ تعارض فيه فرنسا، وتُدين التدخّل العسكري الروسي السافر في سورية. وقد أوضح وزير الخارجية الفرنسية، جان مارك إيرلوت، في هذا السياق، عن ضرورة الإبقاء على المحادثات بصورة متواصلة مع روسيا، مع استمرار الحصار الاقتصادي ضدّها، وهذا هو جوهر القضية.
وتهدف المحادثات إلى رفع الحصار الذي فرض، ليس اعتباطاً، ولكن للضغط على روسيا، للالتزام بالاتفاقيات الدولية، ولا توجد طريقة أخرى للتعامل مع الأحداث المتفجّرة في أوكرانيا وسورية سوى هذا المبدأ. وقد انتقد ألن جوبيه، المنافس القويّ لفيون في الانتخابات الأوليّة في فرنسا، الأخير لتعامله الليبرالي المتسامح مع بوتين. أمّا زعيمة اليمين المتطرّفة، مارين لوبين، والمنافس القويّ لفيون في الانتخابات النهائية للعام المقبل، فهي كذلك تتبنّى مواقف قريبة من روسيا، ويعارض الاثنان بشدّة انضمام جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، لكنّ لوبين تميل إلى دعم انضمام دول البلطيق إلى الحلف.
وربما يكون وزير الخارجية، إيرلوت، الوحيد بين السياسيين الفرنسيين الذي اتّخذ موقفًا حازمًا بشأن التدخّل الروسي، واتهم موسكو بالكذب المتواصل بشأن مواجهتها الإرهاب في سورية، وهي التي سمحت لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بدخول تدمر مجدّدًا. وقد أعرب عن خيبة الأمل لفشل المحادثات الروسية الأميركية لحلّ الأزمة السورية، وقال إنّ روسيا مصرّة على مواصلة النفاق والكذب، بشأن كلّ ما يحدث فوق الأراضي السورية.
حلب وانهيار الإنسانية
طاولت الأزمة الإنسانية في حلب مئات آلاف من المواطنين، حسب بيانات الأمم المتحدة الذين حرموا من المساعدات الطبية والإنسانية، والقدرة على مواجهة وتائر القتال، قبل اقتحام قوات الجيش السوري المدينة وبعده، مع نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. ووصف المتحدّث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، يانس لاركيه، الأحداث التي شهدتها حلب في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري بأنّها "انهيار كامل للمعايير والقيم الإنسانية"، وأفادت المنظمة الأممية عن ورود معلوماتٍ تفيد بأنّ الجيش السوري وحلفائه قد نفّذوا أحكام إعدام رميًا بالرصاص بحقّ مواطنين عديدين في القسم الشرقي من المدينة في الشوارع في أثناء محاولتهم الهرب من المدينة.
التيارات السياسية في اليمين واليسار الأوروبي متناقضة في مواقفها، ولا توجد سياسة موحّدة تفرض مسارًا سياسيًا خارجيًا، وقد تعارض أحزاب سياسية المواقف الروسية، وتطالب بمزيد من العقوبات ضدّ موسكو. لكن، مع تسارع وتائر الانتخابات وسقوط الحكومات المبكّر في دول عديدة، قبل استيفاء ولاياتها، نجد المواقف قابلةً للتغيير تباعًا لمصلحة موسكو. جدير بالذكر أنّ الأخيرة تمتلك رؤية واضحة وسياسة خارجية، لا تقبل الجدل تجاه أوكرانيا وسورية، وتعرف جيّدًا كيف تدافع عن مصالحها الخاصّة، بشتّى الوسائل الممكنة، على الصعيدين، العسكري والدبلوماسي، وبادرت موسكو، كما هو معروف، إلى إرسال المقاتلات والآليات العسكرية إلى الإقليم، ولم تتردّد لحظة في تدمير الأهداف المعارضة لسياستها الاستراتيجية في سورية، كما استخدمت حقّ الفيتو في مجلس الأمن ضدّ أيّ مشروع لإدانة النظام السوري.
ليس من المتوقّع تعديل الموقف الأوروبي على الصعيد الاستراتيجي الخارجي، ويصعب المراهنة على موقفٍ كهذا، لعدم امتلاك المنظومة عوامل فعلية حقيقية، قادرة على ممارسة ضغوط مباشرة ضدّ موسكو وسياستها في أوكرانيا وسورية، باستثناء العقوبات الاقتصادية التي باتت غير قادرة عمليًا على تحقيق أيّ أهداف استراتيجية، من دون الاستهانة بأثرها الاقتصادي.
ما يجري في سوريا حرب، وفي الحروب نعرف كيف تبدأ، لكن لا أحد يجزم كيف ستنتهي.
حلب، كبرى المدن، بدأت بانتفاضة من أهلها، وانتهت بسقوطها في الأيام الماضية في قبضة تحالف نظام دمشق مع الإيراني والروسي. لكن الحرب لم تنته؛ حيث بقيت نحو نصف أراضي البلاد خارج سيطرتهم، فلا يستعجلن أحد النهايات مهما بالغوا في الدعاية والاحتفالات.
وحلب بالفعل كانت معركة مهمة تستوجب المراجعة، وسقوطها لا يعبر عن انتصار حلف الأسد بل عن فشل حلف الثوار وحلفائه في إدارة الأحداث؛ فقد انتفضت المدينة مبكرًا، منذ يوليو (تموز) عام 2012، واستمرت جبهة مشتعلة، ورمزًا للثورة السورية، ونجح الثوار في ربطها برًا بمدينة حماه، مما أعطى تأكيدًا على جدية الانتفاضة.
وخلال أربع سنوات لم تعش هذه المدينة ليلة هادئة مع محاولات النظام استعادتها، مدركًا أن حلب قد تصبح مركزًا لحكومة المعارضة وقيام بداية دولة بديلة. النظام لجأ إلى حيلة تخويف العالم من الإرهاب فأفرج عن معتقلي الجماعات المتطرفة، زاعمًا أن المعارضة ليست إلا «القاعدة»، وبالفعل تأسست جماعات متطرفة مسلحة موازية للمعارضة. «داعش» بكل تأكيد هو امتداد لتنظيم الزرقاوي (القاعدة)، وقد كرر النظام السوري خبرته وتجربته؛ حيث إنه كان الراعي للمعارضة العراقية، خاصة المتطرفة المحسوبة على «القاعدة». «داعش» ظهر بقوة، وبدعاية صاخبة، بإعداماته الاستعراضية البشعة التي روعت ونفرت العالم مما يحدث في سوريا.
لكن تنظيمات أخرى متطرفة ولدت لاحقًا، أبرزها «جبهة النصرة»، أيضًا هي امتداد لتنظيم «القاعدة»، لم تكن محسوبة على النظام السوري. وبكل أسف وجدت تأييدًا من أطراف إقليمية، وسمح لمقاتليها بالعبور، ووجدت الرعاية الإعلامية. كان من المؤكد أن دخول تنظيمات دينية متطرفة مسلحة سيخدم النظام وسيخيف الحكومات الإقليمية والدولية. فالأردن الذي كان ممرًا ومقرًا تراجع وقلص دوره. السعودية شنت حملة كبيرة تطارد كل من تثبت له علاقة بدعم هذه الجماعات أو يحاول السفر للالتحاق بها. انشق معسكر حلفاء المعارضة السورية إلى فريقين؛ فريق مع الجيش الحر، وهو يمثل المعارضة الوطنية، وفريق مع التنظيمات المتطرفة، اعتقادًا أنها أسرع وأقوى، وهي رد على تحالف قوات النظام الوحشي. بدت سوريا كما لو أنها ساحة تنافس على القيادة الإقليمية، فتكررت أخطاء لبنان، عندما انقسمت القوى الإقليمية بين مؤيد لـ«حزب الله» ومناصر لفريق «المستقبل»، في معركة عززت وضع إيران ومكنت الأسد وحلفاءه من اغتيال العديد من القيادات المعتدلة والهيمنة على لبنان.
الذين دعموا «جبهة النصرة»، وبقية التشكيلات المتطرفة، عمليًا ساندوا النظام السوري وسهلوا على إيران وروسيا وميليشياتهم الوجود بحجة مقاتلة الإرهابيين.
حرب السنوات الخمس في سوريا دارت وتدور بين فريقين رئيسيين؛ بين قوى تمثل غالبية الشعب السوري، والنظام الأمني العسكري، وفيها أيضا الجيوب الإرهابية التي تمثل خطأ استراتيجيا خطيرا. ولا يبرر تحالف النظام مع «داعش»، خاصة في الرقة، وشراء البترول منه، اللجوء إلى «جبهة النصرة»، لأن مشروع الثورة ومشروعيتها يتناقضان مع الاعتماد على جماعات متطرفة. وإلى عام 2015 كان الجيش السوري الحر الذي يهيمن على معظم سوريا، وكانت مظلته السياسية (الائتلاف الوطني)، قد برهن على التنوع والتعددية وتمثيل مكونات المجتمع السوري.
بكل أسف، وبسبب التنافس، تم التضييق إقليميًا على الجيش الحر من الحلفاء أنفسهم. ومع ظهور الجماعات الإرهابية على جانبي المعركة وجدت الدول الغربية حجة تبرر لنفسها منع المعارضة من الحصول على الأسلحة النوعية مما سهل على النظام تنفيذ عمليات القصف الوحشية والإبادة والتهجير للتجمعات البشرية في المدن.
هذه الأخطاء ليست وحدها وراء سقوط حلب، وتقلص المناطق المحررة، حيث إن دخول إيران وروسيا الحرب، وتساهل الإدارة الأميركية مع قيام هذا التكتل الضخم، تسببا في الوضع المأساوي الذي نراه اليوم.
مع هذا فإن المعادلة القائمة على الأراضي السورية التي مكنت النظام وحلفاءه من التفوق لا يمكن أن تدوم لأسباب سورية داخلية، حيث لا تزال الأغلبية معادية للنظام رغم نجاحه في تهجير خمسة ملايين سوري إلى خارج البلاد، وكذلك بسبب ضرورات التوازن الإقليمي الذي لا يحتمل التمدد الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
صفقت أيادي الكُثر، لقاتل السفير الروسي، يوم أمس، بعد أجهز مهمته تحت عنوان "حلب"، في حين أن الحادثة أتت في شهر للعلاقة التركية-الروسية، بعد سنوات الحرب الست في سوريا، التي تذبذت فيها المشاعر بين البغض والكره والعداوة العلنية، وصولاً لدخول قفص الشراكة في اقتسام الأرباح.
تتداعى الأسئلة مع لحظات قتل السفير في فكر كل من تابع هذه الحادثة، فيقفز السؤال الأقوى، لم لا تكون روسيا نفسها هي من قتله؟ ففلاديمين بوتين الذي سيلتقي طيب رجب أردوغان، في أستانا، لدعمهما التفاوض بين ممثلي النظام السوري وممثلي المعارضة لإيجاد تسوية سياسية، تميز بالمكر والحيلة، ولربما قتل سفيره على أراضي أردوغان، تجعل من الأخير محرجاً أو ممتناً للتجاوز الذي لحق ب”الدب” الروسي على الأراضي التركية، ما يجعله يتغاضى عن الجرائم التي ارتكبها القيصر في سوريا أو في حلب مؤخراً على أقل تقدير.
لم يمر في ذاكرتي حين شاهدت القاتل، إلا سيناريوهات داعش والقاعدة، التي خلقتها أمريكا وعدة أجهزة مخابرات، اذ من الممكن أن يكون "مولود مرت ألطن طاش"، بدايةً لصناعة تنظيم جديد، ولكن هذه المرة من انتاج روسي خالص ، لتثبيت تواجده في سوريا ، وفي أي مكان يريد في المستقبل.
هناك سيناريو آخر قد يكون ممشوق القوام أيضاً، فهل يعقل أن تكون تركيا على علم بهذا الاغتيال؟ ربما ! ليكون هذا العمل نخزة أنقرة في خاصرة موسكو ما قبل الاجتماع الذي عقد بينهما اليوم، كرسالة لروسيا لتعرف حددوها.
ما يثير الجدل هو الهدوء الذي عم المكان بعد مقتل السفير الروسي، بعد أن قام شاب من قوات مكافحة الشغب، ذو 22 عاماً، بعملية الاغتيال هذه، في ظل اجراءات أمنية تعتبر في أوجها على الأراضي التركية، وعلى الرغم من صراخ الشاب لم نرى في التصوير أي صخب او رعب من أحد المتواجدين في المعرض الفني، والأمر الواضح في تلك اللوحة المسرحية أن القاتل كان لديه تأثير سمعي وبصري درب عليه بشكل واضح، ما جذب معظم المشاهدين الى صراخه وهتافاته التي نادت لأجل "حلب"، الذي اعتبره الجميع بطلاً
القاتل نجح في انجاز المهمة الموكلة إليه، وتركيب سيناريو "هوليوودي"، جعل الاعلام والأكثرية يتوجهون بالصفير لشهامة هذا الشاب، واعتبار أن الحمية والانسانية هما من دفعاه لقتل السفير وانهاء حياته، ولعل هذا السيناريو هو أبعد السيناريوهات عن الواقع، ولم ولن يكون بمقدور شخص أن ينفذ العملية جراء انسانية دبت في مشاعره تعاطفاً لأجل حلب، وان كان الأمر صحيحاً فأين كانت مشاعره ماقبل حلب؟
ومهما كان السيناريو الحقيقي، فإن الاجتماع المقرر بين الروس والأتراك للمفاوضات بشأن سوريا في أستانا، لن يؤجل ولن يقف عند مسرحية شاب قتل سفير، وبالمجمل كلاهما ماهما إلا ضحايا خطة احدى الجهات، وربما كان مقتلهما هو نخب بدء ساعة العمل الجدي والجهود المشتركة بين البلدين من أجل إطلاق العملية السياسية الحقيقية لحل الأزمة السورية، بحسب ما أكد رئيسي الإمبراطوريتين العثمانية والسوفيتية.
ما جرى في حلب كان خذلاناً مهينًا وامتحانًا مريرًا للضمير العالمي، فقد سقطت أقنعة حقوق الإنسان ومجلس الأمن أمام جريمة الإبادة التي يتعرض لها الشعب السوري، ولم تتحرك القوى العالمية لإيقاف المجزرة الإنسانية، وما حدث كان سيناريو مكررًا لما حدث في البوسنة، لكن لأسباب سياسية وقف العالم مكتوفي الأيدي أمام حرب الإبادة، ولم يتدخل مثلما حدث في سراييفو.
تحاول بعض الأطراف المؤيدة للحل الجهادي التكفيري تحميل الدول والشعوب العربية السنية مسؤولية الخذلان في حلب، وكان واضحًا غياب الغضب الشعبي في المجتمعات العربية السنية، بالرغم من تحول الخطاب السياسي للطائفية بسبب سقوط دولة إيران تحت حكم ملالي الشيعة المتطرفين، وهو ما أدى لاحقًا إلى ظهور الاستقطاب الشيعي السني في المنطقة..
كان من نتائجه صعود أزمة الفكر الجهادي التكفيري، وبروز مواقفهم العدائية لمجتمعاتهم، فهم يعتقدون أن لهم دون الآخرين حق الحكم الشرعي، لأنهم مخولون من الله عزّ وجلّ، كما هو الحال مع ملالي إيران، وأن لهم حق التفسير الشرعي للدين، ومن يخالفهم فهو كافر في النار، وكانت سوابقهم في تفجير المجتمع العربي مثالاً للنظرة العدائية للجميع.
أزمة تيارات الإسلام السياسي السني أنها تتقن توزيع الاتهامات المعلبة لكل المخالفين لأطروحاتهم وكل من يقف ضد مشروعهم السياسي، ومخالفيهم إما كفار مرتدون أو منافقون، وهو ما أفسد مشروعات المصالح الكبرى للمجتمعات، ومن خلال مراجعة قصيرة لخطابهم الإعلامي ستكتشف أخي القارئ لغتهم العنيفة والمتطرفة والقمعية ضد المجتمع.
يقف خلف تلك المواقف اعتقادهم المطلق أنهم الموقعون باسم الله على وجه الأرض، وأنهم نواب الشعوب المعينون من السماء، ومن يخالفهم منافق وعلماني وعميل للغرب، وقد استغل النظام السوري المستبد والطائفي تلك الفجوة بين تيارات الإسلام السياسي السني والمجتمع العربي والغربي، ثم استدرجهم لساحة الصراع السوري ليبرر حروب الإبادة للشعب السوري بعد الاستعانة بالقوات الخارجية والأطراف الشيعية المصدرة للكراهية في المجتمع العربي.
من أجل مواجهة الخطر الإيراني ودخوله إلى المنطقة العربية من أوسع أبوابها، لا بد من مراجعة الخطاب الإسلامي السياسي بكافة اتجاهاته، والعمل على النزول إلى الأرض وإيقاف النبرة الإقصائية لفئات المجتمع، والاتفاق على مبادئ مشتركة بين الجميع، واستخدام لغة عصرية مواكبة لهذا الزمن مع عدم الإخلال بثوابت الدين والهوية.
إذا استمر الإسلاميون في لغتهم الفوقية التي تخون وتكفر من يخالفهم، فلن نخرج من الأزمة الحالية، وستسقط الأرواح البريئة بسبب التهور في الاعتقاد، فهم يعتقدون جازمين أن الله عزّ وجلّ سيرسل لهم ملائكة من السماء تنصرهم على الأعداء، وتنتشر في الإرث الإسلامي تلك القصص، ويتم سردها في شكل مؤثر على العامة، ولكن دائمًا ما تكون عواقبها كارثية.
لا تخلو الثقافات الأخرى من هذه التوجه، وتنتشر جماعات مماثلة في المسيحية، كان آخرها حركة دوفيد كوروش، أو الفرع الداوودي أو الفرقة الداوودية، وهي فرقة من 600 فرقة دينية في أمريكا، وتبشر بارتباطها بالخالق، وبنهاية العالم، ودائمًا ما تعمل من خلال فكر متهور وغير عقلاني، وتكون نهاياته مأساوية، لكن الفرق هو تطور المجتمعات الغربية وتجاوزها لخطابهم غير العقلاني.
أكتب هذه الكلمات وأنا مدرك أن ما أطالب به لن يكون له صدى، لأن خطاب التطرف الديني ما يزال له بعض القبول في الشارع بالرغم من الكوارث، وسيستمر في تهوره وطغيانه، وكأن لديه علمًا مرسلاً من رب العالمين..الله المستعان..
نشطت وسائط الإعلام ذات التعددية المصدرية في الأسبوعين المنصرمين، بالتزامن مع عملية التهجير الوحشية للحلبيين من مدينتهم «حلب». ووجدنا التبشير الإيراني في أحد المساجد بأن «حلب تحررت من الكفر، حيث انتصار المسلمون عليهم»، أي على الكفار، حيث ظهرت في الوقت ذاته أقوال إيرانية تعلن أن روسيا لن تلجأ إلى الحل السلمي في ذلك.
ما يلفت الانتباه هو القول الوارد بأن حلب أخيراً، بدأت تتحرر من «الكفر» يداً بيد مع «انتصار المسلمين على الكفار»، مما يوجب التوقف أمام ما سينتج عن ذلك. إذ ماذا بعد؟ هذه نقطة حاسمة في «الصراع» السوري العربي، بحيث يتعين على عملية «إنهاء الكفر» أن تكون بداية لتحرر السوريين مما «أصيبوا به» من هرطقات تتصل بالتاريخ الإسلامي، خصوصاً منه ما يتصل بالدعوات المذهبية الطائفية الإيرانية. وعودة إلى الحلبيين وخصومهم من الطائفيين الشيعيين الفارسيين، فنحن هنا لا نفضل إنساناً على إنسان آخر، ولا شيعياً على سنياً، ولا هذا على ذلك، الدين الإسلامي يمتلك سمة خاصة قد تمتلكها الأديان الأخرى، نعني تعددية القراءات الدينية، ما يُميز هذه بين بعضها، وما يوحد بينها على أساس البنية، على كل حال، نحن هنا في موضع التمييز النسبي في «أفهام» البشر لدى تناولهم النص المقدس.
وفي كل الأحوال، فإن نشأة التعددية في قراءة النص المذكور، إنما تأتي من تعددية مواقعهم وأفهامهم في المجتمعات البشرية، مع بقاء النص الأصل تامّ البنية الأولية.
من هنا، نجد أمامنا مكاناً واسعاً للتعبير عن الاستغراب الذي يثير القول بواحدية النص إياه وتعددية أو احتمال تعددية الفهم والدلالة والرمزية، والعودة إلى هذه المنظومة من المفاهيم، والمصطلحات الدينية الإسلامية تشكل حقلاً منفتحاً ومفتوحاً، على نحو يستطيع الباحث فيه أن يجد في النص الأصلي حقلاً فسيحاً من القراءات والتأويلات، وذلك على نحو ينبغي على الباحث الحصيف فيه ألا يستكين بمقتضاه، بمثل تلك الاعتقادات المذكورة التي أتينا فيها على صيغة تكفيرية لها مؤوّلة بالدلالة الشيعية.
ومع ذلك كله، فالباحث المدقق لا يتوقف عند نقطة أو أخرى يجد فيها قصده النهائي ورغبته. ونود هنا أن نضع الصيغة الدينية، التي أتينا عليها بغاية استخدام في سبيل تكفير المهجّرين الحلبيين، من قبل أيديولوجيي الشيعة المعاصرين الذين يرون ذلك الرأي في الحلبيين العنيين في الدراسات التاريخية المقارنة عربياً وربما بأفق آخر، لا نجد مجال مقارنة بين أنماط القتل، التي واجهناها أو عايشناها في حلب، وبين تلك التي ظهرت في البلدان المقابلة، أن ترى نساء وأطفالاً تُضرم النار في أجسادهم، وهم موجودون على أنقاض بيت مدمر أو مدرسة محطمة، أن ترى أطفالاً تشتعل النار بأجسادهم الصغيرة. أما النساء والشابات منهن خصوصاً، فلا يدرين ما مصائرهن، حين يرغمن على الدخول إلى مكان مغلق يغتصبن فيه وتقصص جلودهم بسكاكين. وشابة في عمر الورود تؤخذ من مكان لتغتصب وتقتل ويمثل بها، ليموت معها الأب العاجز والأم المرمية في الزريبة. الآن آن الأوان كي يكتشف البشر كيف يختارون طرق موتهم!
مدينتان من أبرز المدن العربية، حلب والموصل، تحولتا إلى خرائب أو هما.. على وشك! المحزن فوق ذلك، ليس ما نرى اليوم فحسب من حجم الدمار الهائل، وقسوة الموت، وعذاب الأحياء من سكانهما المهجرين والقتلى وأشباه القتلى، بل وكذلك ما ينتظر البلدين، سورية والعراق من حروب وانقسامات، فلا أحد يجزم بأن سقوط المدينتين أو دمارهما الشامل، حتى لو كان ذلك كدمار برلين ووارسو.. سينهي الحرب.
كنا نضبط أنفسنا في العالم العربي على نجاتنا من دمار المدن الذي عرفته أوروبا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي دُمرت فيهما إلى جانب المباني والمنازل، والمناطق التاريخية التي دمرت وغيرها. ويبدو أن ما يجري في المدن والمناطق والبلدان العربية، في المشرق وشمال أفريقيا، نصيبنا من تينك الحربين، كان مخبأ لنا في طيات التاريخ والقدر.
لم تشهد دولة قدراً من العمليات الإرهابية والانتحارية في السنوات الأخيرة كالعراق، ولا أحد يريد أن يتصور الثمن الجسدي والنفسي والاقتصادي للكوارث التي توالت على وادي الرافدين خلال السنوات العشر الماضية أو أكثر.
وفي سوريا تقول الكاتبة السورية «سميرة المسالمة»، أن «ثمة ما يقرب من ثمانية ملايين سوري يعانون من إعاقة جسدية، ونحو ثلاثة ملايين طفل سوري تحت سن الخامسة أفاقوا على الحياة في ظل الصراع المسلح، و7 ملايين طفل فقير، وما يزيد على مليون طفل محرومين من التعليم. كما تم تدمير نحو ثلث مدارس سورية بالقصف كلياً أو جزئياً، وزاد على ذلك تدمير كل مدارس حلب الشرقية أيضاً خلال الشهر الماضي، وهناك 13 مليون إنسان بحاجة إلى المساعدات بينهم 5 ملايين و800 ألف من الأطفال، وما يقارب نصف الشعب السوري تركوا منازلهم منذ ربيع 2011، وغير ذلك من أرقام مرعبة عن نسبة الفقراء في سوريا التي تجاوزت 80 في المئة».. ميليشيات إيرانية وعراقية، وحتى فلسطينية، ولبنانية، وأفغانية، وبحرينية.. تحارب مع الرئيس الأسد! ويقول الباحث البريطاني من معهد بروكينج «شارلز ليستر» المتخصص في الحركات الإرهابية والإسلام السياسي، «أن النظام السوري يتكل على أكثر من 66 كتيبة ولواء ومجموعة، أكثرها من الأجانب، لمواجهة داعش والمعارضة السورية».
تقول صحيفة التايمز إنه «لا يمكن السماح بانتصار إيران»، وتؤكد أن هذا موقف الرئيس الأميركي الجديد «دونالد ترامب»، حيث تضم حكومته العديد من المحاربين المخضرمين الحذرين من إيران، وستركز بالتالي على دق اسفين بين موسكو وطهران. يرى البعض أن اقتحام الإرهاب والإسلام السياسي والحركة الكردية القومية قد أجهض الثورة السورية، بينما يرى الكاتب الفلسطيني السوري ماجد كيالي «أزمة في الثورة السورية»!
وبخاصة بعد غلبة الصراع المسلح صيف عام 2012 على أشكال الكفاح الشعبية، «وهو ما تم بطريقة غير طبيعية وغير مدروسة»، وهكذا بدأت مرحلة التخبط في مسيرتها إذ «لم تعد لها رؤية سياسية واضحة ولا استراتيجية عسكرية مدروسة، واعتمدت العفوية والمزاجية والقدرية والارتهان للخارج في طرق عملها وبناها وصراعها المسلح، ما أضعف صدقيتها أمام شعبها وأمام العالم».
ويضيف «كيالي» أن الثورة بعد ستة أعوام من قيامها لم تنجح «في إنتاج كيان سياسي مقنع يشكل بديلاً للنظام، ولا تشكيل جيش وطني، ولا في جذب غالبية السوريين واستقطابهم، ولا في طرح نفسها كبديل». ما الذي أدخل الثورة السورية في هذه المتاهات والطرق المسدودة؟ يقول كيالي إن لذلك أربعة أسباب: تفجر الهويات الدينية والمذهبية والاثنية، وهو ما بذل النظام جهده فيه ولم تفعل المعارضة ما عليها لإفشاله، انزلاق الثورة إلى الصراع المسلح بتشجيعات خارجية دون تدرج واستعداد، «تعفن الصراع السوري بحكم طول مدته»، وهو ركود استفادت منه إيران وميليشياتها، وروسيا وأساطيلها البحرية والجوية، وأخيراً خروج الشعب من معادلات الصراع مع النظام بعد إزاحة أشكال النضال الشعبية. ويرى كاتب سوري آخر «وائل السواح»، أن معركة حلب «ستؤسس لحقبة جيدة». فإذا انتصر النظام، سيكون قد نجح في تحقيق هدفه بحشر كل خصومه من معارضين وطنيين ومن متطرفين إسلاميين في بقعة صغيرة هي «إدلب». أما إذا خسر النظام رهانه، فإن الرابح في هذه الحالة لن يكون المعارضة السياسية ولا الهيئة العليا للمفاوضات، بل ستكون التنظيمات المتطرفة التي ستحكم قبضتها على المدينة. ويعتبر الكاتب الخيارين «أحلاهما مرّ».
وهذا بعض ما تضمنه حديث القائد في الجيش السوري الحر العقيد «عبدالجبار العكيدي»، الذي أشار إلى اعتصار الثورة وانصهارها بين عنف النظام وأسلمة الثورة. وكان مما قاله: «إن إجرام النظام السوري وأسلمة الثورة لعبا دوراً كبيراً في تشويه صورتها، وأن الجيش السوري الحر ليس جيشاً، وإنما مجموعة من الفصائل لا يجمع بينها جامع. وأضاف أن هيئة الأركان الخاصة بهذا الجيش لم تكن لها يوماً الكلمة الفصل في قيادته، لأن أحداً من الداعمين لم يتعامل معها على أساس أنها هيئة أركان، وإنما ساعي بريد لإيصال المساعدات العسكرية للفرق المحسوبة على هذا الطرف أو ذاك».
ونتساءل بين الخوف والرجاء: ماذا بانتظار سورية فوق كل هذا البلاء!؟
لنقر أننا كدول لم نملك ورقة بديلة غير ورقة دعم بعض الفصائل السورية، وبما أنه كان دعمًا مقيدًا رهنًا بالتفاهمات الدولية فإننا فقدناها بسهولة ولم تعد لنا كلمة فيما يحدث في سوريا، على عكس من رمى التفاهمات الدولية خلف ظهره وتقدم لأنه أدرك أنها مرحلة تشكل نظامًا دوليًا جديدًا الكلمة فيه للأمر الواقع لا لما هو مفروض وواجب.
تمكنت روسيا من الدخول في الوقت المناسب وإزاحة الفرق السورية المتصارعة المتقاتلة بما فيها النظام الذي يحتفظون به كدمية إلى أن يحين دوره، وفرض أمر واقع على الجميع بما فيهم التحكم في القرار الأميركي المعطل سواء بسبب الحقبة الأوبامية الكارثية أو بسبب الفترة الانتقالية الحالية للحكم.
روسيا تدخلت في سوريا وتتحكم في المشهد الكلي لا في حلب فحسب، فروسيا دخلت لتبقى لا لتعود، ولم تدخل لمحاربة الإرهاب أو لحماية نظام الأسد.. دخلت لتصل لخط الأنابيب النفطية وللوصول للبحر المتوسط، وهي اليوم تحقق ما سعت إليه دون اعتبار لأي طرف متصارع.
اتضح من مشهد تهجير أهالي حلب وجثث الموتى ملقاة على قارعة الطرقات، المدى الذي ممكن أن تذهب إليه روسيا لمد نفوذها إلى البحر المتوسط، مدى متوحش لم يعبأ باحتجاجات المجتمع الدولي بأسره، وذلك ثمن عالٍ جدا راهنت فيه روسيا بجميع مصالحها مع أميركا والدول العربية وأوروبا وبالأخص مع فرنسا، فهل هي على استعداد بعد هذا الثمن أن تمنح إيران على سبيل المثال جزءًا من الكعكة مجانًا، أو تمنحه لتركيا؟
القوات الإيرانية تتململ؛ تريد الاستفادة من الأرض المحروقة التي هيأها الطيران الروسي، فهل ستدعها روسيا تقطف الثمار؟ نشك في ذلك.
موسكو تسعى جاهدة لحرق الأرض السورية قبل أن تنتهي مراسم الاحتفالات بانتقال السلطة في البيت الأبيض مزيحة الجميع من طريقها، فمرحلة التفاوض تحتاج إلى أكبر قدر من المساحة على الأرض كي تساوم عليها، وإيران تنظر للفترة الانتقالية الأميركية بنفس القدر من التوجس وتسعى لوضع اليد على أي فراغ ينجم عن مغادرة الفصائل السورية المعارضة.
ففي تقرير لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية أكد أن «الاستخبارات الروسـية تدخلـت لمنـع (حزب الله) وقــوات النظــام مــن بنــاء منشــآت عســكرية رسميــة كانــت قــد بــدأت ميليشــياته في تشــييدها بالقــرب مــن مرتفعــات الجــولان التــي تحتلهــا إسرائيـل، وذلـك حرصـًا علـى العلاقـات الجيـدة مـع رئيـس الـوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كـما وقعــت اشــتباكات بين الــروس والإيرانيين أيضًـا بســبب الخــلاف حــول الحــرس الشــخصي للأسد، الــذي يضــم سوريين وإيرانيين من وحدة المهدي».
كما قامت موسكو بمنـع إيـران مـن تشـييد المزيـد مـن القواعـد؛ وقامت في الوقـت نفسـه بتعزيـز قدراتهـا في مناطـق مختلفـة مـن البـلاد، حيـث أشـار تقريـر أمنـي إلى قيـام مهندسـين من القـوات الجوية الروسـية ببنــاء قاعــدة جويــة أخــرى في أختريــن شمال شرقي حلــب، وأشــار التقريــر إلى قيــام فــرق عمــل روســية بوضــع مــدارج جديــدة لمقاتــلات القـوات الجويـة والقاذفـات وبنـاء مرابـض لبطاريـات الصواريـخ المتقدمـة والمضادة للطائرات. (المرصد الاستراتيجي).
وروسيا صدت محاولة التمدد التركي حول مدينة الباب التي تعتبر مدخلاً لمدينة حلب وتقع على مشارف خطوط المنطقة الآمنة للحدود التركية، فوصلت الرسالة واضحة أن الباب خط أحمر، إنما يبقى الحلم الأناضولي قائمًا رغم أن تركيا ليست في وضع يسمح لها بالمناكفة فمشاكلها الداخلية أشغلتها بنفسها.
في سوريا إذن ترسم ملامح النظام الدولي الجديد على أشلاء المدن العربية بغداد وطرابلس وصنعاء ودمشق وبيروت.
نحن نشهد إذن مقدمات لصراع نفوذ إيراني روسي على التقسيمات السورية الكلمة الفصل فيه لروسيا (فالسماء) لها، أما «دمية الأسد» فستبقى موجودة رهنًا بسيناريو الفصل الختامي الذي ستضعه موسكو، إن شاءوا أبقوها لقص الأشرطة والاحتفالات، وإن شاءوا اغتالوها، ولن تكون أبدًا موضع خلاف بين الروس والإيرانيين.
الروس تركوا الجميع يلعبون في الساحة السورية حتى أنهكوا وجاءوا يقطفون الثمار وحدهم، وقد كانوا أذكى من الأميركيين الذين اختار لهم أوباما الانسحاب من المشهد الدولي. المضحك المبكي فيما يحدث في سوريا أن تنظيم داعش غائب تمامًا عن المشهد لا نرى له قتلى ولا نسمع له حسًا أو بيانًا أو تصريحًا، لأنه منشغل بإخلاء المناطق لقوات النظام السوري الواحدة تلو الأخرى، لتتضح الصورة أكثر أنه وجد ليكون ذريعة لهذا الفصل المسرحي.
إنما السؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذا التشكل الجديد للنظام الدولي، هل نحن نشهد الفصل الأخير منه، أم أننا نشهد المشهد الأخير في الفصل الأول فحسب؟ هل تم استدراج روسيا وإيران؟، أم أن الصراع ما زال قائمًا وأميركا ترامب ستكون لها كلمة في هذا التشكل؟
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما أثر هذا الصراع الروسي الإيراني في الأراضي السورية على أمن دول مجلس التعاون بشكل خاص وعلى أمن الدول العربية – أو ما تبقى منها - بشكل عام؟ وما أثر التحالفات البريطانية الخليجية الجديدة على ذلك الصراع الدائر في الأراضي السورية؟ وما أثر التهديدات الإيرانية لما بعد حلب على الأمن في المنطقة الخليجية؟
بدأت عدة منتديات عربية وإسلامية تقارن بين المأساتين السورية والعراقية من جهة، والمأساة الفلسطينية من جهة ثانية. ولا شك أن الأهوال الحاصلة من حيث الكم والكيف أفظع بما لا يقاس. فقد قُتل من السوريين والعراقيين زُهاء المليون خلال أقل من خمس سنوات، وتهجر حوالى السبعة عشر مليوناً داخل البلدين وخارجهما. بينما قُتل في المأساة الفلسطينية زُهاء الخمسين ألفاً، وتهجّر حوالى المليون.
ومع ذلك فالمقارنة تظل موضع نزاع، ليس لأنها مقارنة مع الفارق، بل ولأن الزمان غير الزمان، كما أن العدو غير العدو. فالشعب الفلسطيني كان عدده عام 1948 مليونين ونصف المليون، ومعنى ذلك أنه تهجر نصفه تقريباً، وحل محلَّهم يهود. أما لجهة العدو فهم الصهاينة في حالة فلسطين، وقد حلُّوا محلَّ الشعب الفلسطيني، وأقاموا دولةً يهوديةً لأنفسهم على أرضه. أما في حالتي سورية والعراق، فإن المخاصمين للشعب السوري في الأصل هم نظامه وإيران وميليشياتها العراقية واللبنانية والأفغانية. ولسنا ندري ما هدفهم من تهجير الناس من جوار دمشق وأريافها وحمص بالداخل والجوار، والآن بشرقي حلب، ومناطق أخرى كثيرة: يحاصرون المدينة أو البلدة ويجوعون سكانها حتى يستسلموا ويقبلوا بترك مواطنهم. وقد حلَّ محلَّهم في الزبداني وداريا شيعة عراقيون ولبنانيون. لكن مناطق التهجير هائلة الاتساع، ولذا فنحن لا ندري بالفعل ماذا ينوون فعله بها. هم لا يريدون بالقطع إعادة النازحين، بدليل أنّ بشار الأسد قال مراراً في المدة الأخيرة إن النسيج الاجتماعي في سورية صار أفضل بعد عام 2011. وهو يقصد أن أعداد الأكثرية السنية تراجعت، إذ تهجر منهم إلى خارج الحدود أكثر من ستة ملايين. فهل يريد الإيرانيون أن يقوموا في سورية والعراق، مثل ما قام به المستوطنون الصهاينة في فلسطين، أي الاستيلاء والاستيطان؟ الواضح حتى الآن أنهم يريدون دفْع سكان المدن والبلدات إلى الأرياف، أي إخراجهم من «سورية المفيدة» التي تمتد من درعا في الجنوب عبر دمشق والقلمون وهي المناطق المحاذية للنواحي الشيعية في لبنان، ومن هناك باتجاه حمص ووادي النصارى على الحدود مع لبنان، ثم باتجاه حلب واللاذقية وحماة. وبذلك تبقى المناطق البترولية في الرقة ودير الزور فإدلب شرقاً، وتدمر باتجاه الصحراء، كل هذه المناطق تبقى خارج «سورية المفيدة»؟ تركيا تقول الآن إنها تهيئ مخيماً على حدودها وبالداخل التركي لنحو مائة ألف مهجَّر من حلب، أما الآخرون الذين يريدون الذهاب إلى غربي حلب، في مناطق سيطرة النظام، فالإيرانيون يريدون منعهم من ذلك، وقَودهم إلى نواحي إدلب الخاضعة للمعارضات المسلحة، كما حصل من قبل مع الكثيرين من سكّان جوار دمشق.
ثم إنّ الرائحة الكريهة والعنصرية التي نشرها الصهاينة في فلسطين عبر الإصرار على يهودية الدولة، واعتناق أيديولوجيا «الترانسفير» موجودة أيضاً في أخلاد الإيرانيين وتصرفاتهم. فهم يفخرون بتشييع الناس، ونشر مذهب أهل البيت بين الفقراء وذوي الحاجة. وبعد التشييع يأتي التجنيد في ميليشيات مسلَّحة، يقودها شيعةٌ قُدامى، تأتمر بأمر خامنئي، وتخرّب العمران، وتقتل الإنسان. وعندما عجز الجيش (العربي) السوري، والجيش الإيراني وسائر المتأيرنين عن حماية بشار ونظامه، هبَّ لنجدتهم الروس، ودمرَّوا بطائراتهم خلال عام، ما عجز «جنود آل البيت» عن تدميره. ويقال إنّ الروس يريدون منافسة الأميركان على مناطق النفوذ. إنما الواضح أنّ أوباما ما كان من همه منافسة الروس ولا الإيرانيين!
ماذا عن نظام الحكم في سورية؟ منطق الإيرانيين ووسائل إعلام النظام أنّ الأسد باقٍ للأبد. وقد أعطونا دليلاً لا يُدحَضُ على شجاعته أنه خاض عدة معارك بنفسه سراً، «وأطلق أكثر من ألف طلقة»! أما الروس فيقولون بغموض إنه بعد حلب سيبدأ الحلُّ السياسي!
ولنعد إلى المقارنة المتنازَع عليها كما سبق القول. منذ عام 1974 على الأقلّ ما نزال ننتظر الحلَّ السلميَّ والعادل للقضية الفلسطينية. فكم سننتظر نحن والشعب السوري الحلَّ السياسيَّ في سورية؟ وهل يكون شاملاً أم أنه خاص بـ«سورية المفيدة»؟ ثم كيف يتم الحلُّ السياسي، بغياب نصف الشعب السوري في القبور والمنافي؟! وهل تبقى المقارنة صحيحة أو هل تصبح صحيحة، لأنّ أكثر من نصف الشعب الفلسطيني غائب عن فلسطين؟ فيا لسوريا ويا لفلسطين ويا للعرب!
في الداخل اللبناني، يتظاهر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله بأنّه يريد التفاهم مع الجميع وأن لا همّ له سوى استعادة اللبنانيين وحدتهم في حين أنّهم منقسمون على نفسهم أكثر من أيّ وقت.
يتجاهل أن هذا الانقسام عائد أوّلا وأخيرا إلى ممارسات “حزب الله” وإلى كونه ميليشيا مذهبية مسلّحة وضعت نفسها في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني القائم على الاستثمار في الغرائز المذهبية ولا شيء آخر غير ذلك.
من الواضح أنّ نصرالله متضايق إلى حدّ كبير، على الرغم من تظاهره بالعكس، من الثنائي المسيحي الجديد، أي تحالف “القوات اللبنانية” و”التيّار الوطني الحر” الذي شمل تفاصيل كثيرة تتجاوز الانتخابات النيابية المقبلة، التي هي استحقاق لا مفرّ منه.
ستكون انتخابات حتى لو حصل تأجيل ذو طابع تقني لموعدها. مثل هذا التأجيل محتمل لسبب في غاية البساطة يعود إلى أن ليس هناك طرف لبناني يقبل بالعودة إلى ما يسمّى قانون الستّين (الذي جرت على أساسه الانتخابات الأخيرة) من جهة وإلى صعوبة الاتفاق على قانون جديد من جهة أخرى.
يجهد “حزب الله” الذي يمتلك جيشا حقيقيا يفرض إرادته على اللبنانيين، خصوصا على أبناء الطائفة الشيعية إلى جعل هذه الانتخابات تخدم مصالحه المتمثلة في السيطرة على مجلس النوّاب المقبل عبر قانون يكون على مقاسه وليس على مقاس النظام الديمقراطي الذي ميّز لبنان طوال سنوات وسنوات ومكّنه من تجاوز الكثير من المحن.
ما كشفه التأخير في تشكيل حكومة لبنانية برئاسة سعد الحريري الذي حصل على ثقة الأكثرية الساحقة من النواب، لدى حصول الاستشارات “الملزمة” قبل ما يزيد على شهر، أنّ “حزب الله” يسعى إلى تغيير النظام في لبنان خطوة خطوة.
لم يكن تأخير انتخاب رئيس للجمهورية سنتين ونصف السنة سوى دليل على وجود نيات مبيتة تستهدف الأسس التي يقوم عليها النظام اللبناني. فرض الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني والشريك في المذبحة التي يتعرّض لها الشعب السوري، مرشّحه.
رفض السماح لمجلس النوّاب بانتخاب رئيس للجمهورية بطريقة طبيعية. وضع البلد أمام خيارين. إمّا انتخاب الرئيس الذي يريد وإمّا لا رئيس ولا جمهورية بعد الآن. كان اللبنانيون الحريصون على المؤسسات أن يختاروا المحافظة على الجمهورية بدل البقاء إلى ما لا نهاية في أسر الفراغ الرئاسي.
لك بعبدا ولنا لبنان
كان الأمل كبيرا في أن يؤدي الانتهاء من الفراغ الرئاسي إلى عودة مؤسسات الدولة إلى العمل، خصوصا أن البلد في حاجة إلى الكثير، بدءا بمعالجة الوضع الاقتصادي، وصولا إلى أزمة النفايات، مرورا، طبعا، بالانفتاح على العالم العربي واستعادة العلاقات الطبيعية والتقليدية مع دول الخليج.
المؤسف أنّ لدى “حزب الله” ومن يقف خلفه في إيران أجندة أخرى مختلفة كليّا. ليس وضع العراقيل في وجه تشكيل الحكومة سوى جزء من هذه الأجندة التي تشمل المزيد من التورّط في الحرب على الشعب السوري وعلى المدن والبلدات والقرى السورية بحجة محاربة “داعش”. هناك استخدام لـ”الانتصارات” التي تتحقّق على الشعب السوري وكان آخرها “الانتصار” على حلب من أجل مزيد من “الانتصارات” على لبنان واللبنانيين.
يعمل “حزب الله” على تشكيل الحكومة اللبنانية بما يؤكد أنّه صار صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلد. بكلام أوضح، حلّت الوصاية الإيرانية على لبنان بديلا من الوصاية السورية. صار للبنان “مرشد”، في حين يمكن وصف العلاقة بين الرئيس اللبناني و”المرشد” بأنّها شبيهة بالعلاقة القائمة بين علي خامنئي ورئيس “الجمهورية الإسلامية” حسن روحاني.
لا يعترض “المرشد” الإيراني على تصرّفات معيّنة تصدر عن روحاني أو عن وزير الخارجية محمد جواد ظريف، بما في ذلك العلاقة التي أقامها مع وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ما دام كلّ شيء يجري بإشراف “المرشد” ورعايته.
أمّا في لبنان، فمسموح لرئيس الجمهورية، حسب “المرشد” المحلي أن يزور البلد الذي يشاء وأن يبدأ جولاته الخارجية بالتوجّه إلى المملكة العربية السعودية. ما ليس مسموحا به هو أن يشكل رئيس مجلس الوزراء المكلّف الحكومة بـ”التعاون” مع رئيس الجمهورية كما ورد في نص الدستور.
تلقي معركة حلب التي يخوضها “حزب الله” بظلالها على الوضع اللبناني. إذا كانت هذه المعركة، التي انتهت بتهجير أهل المدينة وتدمير الجزء الأكبر منها بفضل البراميل المتفجرة وسلاح الجو الروسي، دلّت على شيء فهي تدلّ على أن الدور الإقليمي لـ”حزب الله” يتوسّع.
إنّه دور إيراني قبل أيّ شيء آخر منطلقه لبنان. فمن لبنان يؤدي “حزب الله” الدور المطلوب منه إيرانيا في أماكن عدة من بينها سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت والمملكة العربية السعودية. وليس مستبعدا وصوله إلى دول شمال أفريقيا أيضا.
من يقوم بكلّ هذه الأدوار وأدوار أخرى، ألا يحقّ له تشكيل الحكومة اللبنانية وتذويب الثنائي المسيحي الجديد في حكومة سعد الحريري عن طريق فرض وزير مسيحي تابع لحزب معروف بأنّه على علاقة مباشرة بالأجهزة السورية، بل إنّه طفل أنبوب من اختراع هذه الأجهزة؟
كشفت عملية تشكيل الحكومة الأولى في عهد الرئيس ميشال عون أن “المرشد” اللبناني يضع نفسه في موقع ما كان عليه حافظ الأسد في مرحلة ما بعد فرض الوصاية السورية الكاملة على لبنان ابتداء من الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1990 تاريخ إخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا.
يسعى حسن نصرالله في 2016، مع عودة ميشال عون إلى القصر رئيسا، إلى لعب الدور نفسه الذي لعبه الرئيس الراحل الذي ضمن وقتذاك غطاء دوليا لكلّ تصرفاته في كلّ لبنان بعد مشاركة جيشه، ولو رمزيا، في عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي إلى جانب القوات الأميركية وغير الأميركية.
هناك بكل صراحة استقواء على لبنان الذي يقاوم الوصاية الإيرانية، مثلما قاوم الوصاية السورية. لا يدلّ على ذلك رفض الرئيس سعد الحريري الرضوخ لإملاءات “حزب الله” فحسب، بل هناك أيضا كلام صريح يصدر عن “تيّار المستقبل” يؤكد أن جريمة حلب في حجم جريمة تهجير الفلسطينيين من فلسطين، أي في حجم “النكبة”.
هناك من يسمّي الأشياء بأسمائها. هناك من يرفض أن تكون لجريمة حلب ترجمتها في بيروت، أي أن يفرض “حزب الله” على اللبنانيين الحكومة التي يريدها مستخدما غطاء من هنا وآخر من هناك لتغطية الجريمة الأخرى التي ترتكب في حقّ لبنان عن طريق الكلام الجميل عن إعطاء رئيس الجمهورية حرية زيارة البلد الذي يريده..
روسيا. إيران. بشّار الأسد. حزب الله وأبو الفضل العبّاس. المجمّع القوميّ - اليساريّ.
هؤلاء هم الذين قتلوا ويقتلون المدنيّين في حلب. هؤلاء، حتّى لو صدّقنا روايتهم للأحداث عن مكافحة الإرهاب، وعن صدّ المؤامرة، يطالبوننا بالكثير من الغباء كي نصدّق علاجهم الهمجيّ عبر التطهير السكّانيّ والهندسة الاجتماعيّة.
الغرب، الأميركيّ والأوروبيّ، ضالع؟ نعم، في حدود أنّه، في كبوته الديموقراطيّة الراهنة، لم يقدّم للسوريّين الدعم الذي كان ينبغي تقديمه. لكنّ هذا الغرب المقصّر لم يشارك في أعمال الذبح، ولم يقدّم لها التبرير، ولم يحتفل بها.
ضعف الغرب مقلق وخطير. قوّة هؤلاء هي المقلقة والخطيرة. هذان بعض ما كشفته مأساة حلب ممّا يستحقّ أن يُبنى عليه للمستقبل.
وهؤلاء، جزّارو حلب، هم إيّاهم كما عرفناهم من قبل بوجوه أخرى. لكنّ العجب العجاب أنّهم كلّهم كانوا ذات مرّة مثار إعجاب بعضنا. حتّى مؤيّدو الثورة السوريّة كان بينهم من يُكنّ لهم الإعجاب، ويفسّرون أفعالهم بالصدف الغريبة:
حزب الله كان حزب مقاومة لإسرائيل ثمّ انقلب حزب عدوان على السوريّين.
روسيا كانت الاتّحاد السوفياتيّ، صديق الشعوب الصدوق، وانقلبت إلى حمم تصبّها السماء على رؤوس السوريّين.
نظام إيران كان نتاج الثورة على الشاه وعلى الإمبرياليّة، إلاّ أنّه انقلب مصدر قتل للسوريّين ودعم لقاتلهم.
الحركات الشيعيّة الراديكاليّة كانت حركات مظلوميّة وقهر، ثمّ انقلبت حركات ظلم وعدوان.
المجمّع القوميّ - اليساريّ كان يسعى، وفق زعمه، إلى «تحرير فلسطين» و «الوحدة» و «الاشتراكيّة»، ثمّ انقلب مروّجاً لـ «تحرير حلب» ومهلّلاً له.
هل يعقل أن يكون هؤلاء كلّهم تغيّروا بسبب انقلابات طاولت أدوارهم؟ ألا تصير الصدف حين تتكرّر بهذه الكثرة قانوناً؟
ما تزعمه هذه الأسطر أنّ ما من انقلاب حصل في الأدوار، وأنّ تلك الأرحام خبّأت دائماً هذه الغيلان. الطبيعة واحدة وثابتة، والظروف المحيطة وحدها المتحوّلة. أمّا عدم إدراك الضحايا هذه الحقيقة فيضاعف المأساة ويضيف إلى الموت الجهل بأسبابه، فيجعله موتين.
أغلب الظنّ أنّ ترتيباً كهذا سيكون أدقّ من منظومة الوعي السابق - الحاليّ:
القوى المذكورة أعلاه يجمع بينها أنّها ضدّ الحرّيّة. حين كانت تقول «الاستعمار» كانت تقصد الحرّيّة والتواصل الحرّ مع العالم. حين كانت تقول «التحرّر» و «المقاومة» كانت تقصد إضعاف أو إخضاع جماعة أخرى في مجتمعها.
من الاتّحاد السوفياتيّ إلى روسيا بوتين، ومن الخميني إلى خامنئي، ومن تدمير لبنان وإلحاقه بإيران باسم مقاومة إسرائيل إلى تدمير سوريّة وإلحاقها بإيران، ومن الاعتداد بعبد الناصر - الذي كان الأصرح، منذ 1954، في رفضه الحرّيّة - إلى النوم تحت حذاء بشّار الأسد، ثمّة استمراريّة لا تنقطع إلاّ في الشكل والتعبير. أمّا المضمون فواحد: ضعف التكوين الديموقراطيّ عند هذه القوى، أمس واليوم، وانعدام التطلّب الديموقراطيّ.
هذه الخديعة الإيديولوجيّة التي آن أوان التحرّر منها هي التي دُشّنت مع زعماء مناهضة الاستعمار حين غُضّ النظر عن ارتكاباتهم بحقوق الإنسان. مذّاك والخديعة تشتغل بهمّة تتعاظم وأسماء تتغيّر. لقد اكتسبت الخديعة هالة القداسة ووُصم الذين لا ينخدعون بالخيانة والضلال.
الاتّحاد السوفياتيّ الذي سلّح أنظمتنا العسكريّة، إيران، حزب الله، جمهور الكتلة القوميّة - اليساريّة لم يتغيّروا. الحرّيّة التي كرهوها سمّوها أسماء شتّى، وطوّروا أنفسهم ضدّيّاً حيالها وحيال القوى التي تحملها أو ترمز إليها. أمّا البندقية فيمكن لفوهتها أن تستدير في أيّ اتّجاه لأنّ الحرّيّة تقيم في الاتّجاهات كلّها، وتُذبَح في الأمكنة كلّها، وآخر الأمكنة وأهمّها وأشدّها ملحميّة: حلب.
يتغير وجه الشرق الأوسط بناء على تطورات الوضعين السوري والعراقي نظرا إلى الموقع المركزي للبلدين في قلب المشرق والعالم العربي. وتدخل سوريا والإقليم بعد إخضاع حلب مرحلة جديدة من الحرب والدبلوماسية ملأى بالتساؤلات: لمن سيهدي فلاديمير بوتين “إنجازه”؟، أي أفق للشراكة الروسية – الإيرانية في رسم مستقبل سوريا ما بعد منعطف حلب؟، كيف ستتصرف واشنطن دونالد ترامب إزاء الغلبة الروسية في شرق المتوسط؟، ما هي ردود فعل اللاعبين الإقليميين الآخرين وأبرزهم تركيا وإسرائيل والمملكة العربية السعودية؟، وأخيرا هل بقي من أدوار للقوى الأوروبية في الشرق بعد قرن على اتفاقية سايكس – بيكو؟
أصبح فلاديمير بوتين “رئيس العالم”، حسب ما اتضح من مجريات مؤتمر باريس حول سوريا (في العاشر من ديسمبر الحالي) حسب وصف أحد الحاضرين، الذي سخر من المايسترو جون كيري واعتبره ممثل العراب سيرجي لافروف.
وهكذا فإن سقوط شرق حلب لم يكن ليتم لولا التخلي الأميركي عن الحراك الثوري السوري منذ صفقة السلاح الكيميائي في سبتمبر 2013، بالإضافة إلى الاستدارة التركية نحو موسكو، معطوفة على الانقسام العربي والضعف الأوروبي.
بينما يعلو القيصر في الرتب على أنقاض حلب، يستعد باراك أوباما لمغادرة البيت الأبيض تصحبه مأساة سوريا وحصاده الهزيل في مجمل السياسة الخارجية. لقد سلم باراك أوباما المنطقة للاختراق الاستراتيجي الروسي والتوسع الإيراني، وفي موازاة فشله في أي إنجاز على المسار الإسرائيلي – الفلسطيني، أصبح الشرق الأوسط فريسة منظومات عابرة للحدود مع الحرس الثوري الإيراني ومحوره، وتنظيم داعش، وحزب العمال الكردستاني.
وهكذا يغادر أوباما منصبه بينما الشرق الأوسط في أسوأ حال، إذ أن العالم العربي أصبح ساحة مفتوحة للفوضى التدميرية والشكل الجديد من الحرب الباردة والحروب بالوكالة. ترك سيد البيت الأبيض مدينة حلب لمصيرها من دون أن ينبس ببنت شفة وهذا يؤكد على إرثه السلبي وأنه يشبه فعلا يوضاس، خاصة إذا كان بشار الأسد (الذي تكلم عن الشعب الحلبي وكأنه لا يعترف بالشعب السوري) يحاول أن يضع الإنجاز الذي كان فيه لاعبا ثانويا في مصاف الرسالات السماوية ومنعطفات التاريخ الكبرى، ولو كانت إيران تركز على “الانتصارات الربانية”.
إنه إذن الشرق الأوسط الجديد، موئل الفوضى غير الخلاقة التي انطلقت من بين الركام العراقي بعد سقوط بغداد في أبريل 2003. إنه أيضا مختبر انتقام روسيا من إهانتها بعد الحرب الباردة، ومنطقة الصعود الجهادي والحرب الإسلامية – الإسلامية.. وفيه يتفاعل “الاطمئنان” الاستراتيجي الإسرائيلي للتفكك والضعف العربي مع فرض الأكراد أنفسهم في المعادلة الإقليمية.
بينما تنتظر معركة الرقة تتمات عمليتي “درع الفرات” و“غضب الفرات” والتجاذبات الأميركية – التركية – الكردية والدخول الروسي على خط الأكراد، لا تزال واشنطن تراهن على إنهاء معركة الموصل قبل دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يبرز الفشل الروسي مع استعادة داعش لمدينة تدمر الاستراتيجية، بينما كانت معركة حلب في خواتيمها. ولذا سيكون مستقبل الحدود والكيانات مرتبطا بالتنسيق أو التجاذب الأميركي – الروسي في ما يسمى الحرب ضد الإرهاب.
على الصعيد السوري، ينتظر ستيفان دي ميستورا معركة إدلب بينما تتعثر عمليات الإجلاء من شرق حلب، ويبرز التناقض بين القوتين النافذتين على الأرض أي روسيا وإيران. وعلى الأرجح سيسري ذلك على خط المعارك القادمة أو خارطة الحل السياسي وفق الرؤية الروسية. ومما لا شك فيه أن الاجتماع الثلاثي الروسي – التركي – الإيراني في موسكو، في 27 ديسمبر الجاري، سيكون فرصة لرصد توجهات بوتين وأولوياته. ربما تفضل طهران ودمشق استكمال الاندفاعة العسكرية نحو دوما وريف حمص ودرعا ومحافظة إدلب مفتاح سهل الغاب، لكن الحسابات الروسية يمكن ألا تتطابق مع ذلك والأرجح أن يكتفي بوتين بإنجازه الحلبي، وأخذه إلى طاولة الحوار مع ترامب.
يتضح أن إخضاع حلب لن يضع حدا لحراك الشعب السوري من دون حل سياسي واقعي يترجم متغيرات ما بعد 2011، ويحفظ ما أمكن الدولة السورية، خاصة إذا استخلصت روسيا عبرة من العراق حيث تستمر النزاعات منذ 2003 ولم تنجح القوتان الأميركية والإيرانية في تطبيع الوضع فيه لفشلها في إقامة الدولة التعددية والعادلة.
على صعيد أشمل، لا يمكن أن يبزغ فجر شرق أوسط جديد على أسس إنكار الحقوق والغلبة والقهر والإقصاء والتطرف، إنما على أساس عودة منطق التسوية والمواطنة وقبول الآخر بدل الاحتلال والطائفية والمذهبية، وهذا يفترض عدم إبقاء هذه المنطقة ساحة لعبة كبرى بين الأطراف الدولية والإقليمية على حساب الشعوب ودولها وحضارتها.