مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٢٥ ديسمبر ٢٠١٦
مجرمو الحرب في سورية إلى تحقيق أُممي

تطورٌ غير مسبوق جرى ليلة 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري بتوقيت المنطقة العربية، حين أقرّ أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك مسودة مشروع قرار طرحته قطر وليختشتاين، وتبنته 38 دولة من أعضاء الجمعية قبل طرحه للتصويت، وهو يقضي، في أهم وأبرز ما جاء فيه، بإنشاء آلية دولية مستقلة وغير مُنحازة للمساعدة في التحقيق ومقاضاة المسؤولين عن ارتكاب جرائم خطيرة، وفق مقتضيات القانون الدولي في سورية منذ مارس/ آذار 2011، تحت مظلة الأمم المتحدة.

وشدّدت الفقرة الرابعة من القرار على ضرورة تعاون الآلية الجديدة مع اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق حول سورية، في سياق جمع ومطابقة وحفظ وتحليل الأدلة على وقوع انتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتحضير ملفات لتسهيل وتسريع إجراءات "تقاضٍ" جنائية مستقلة وعادلة، طبقاً لمعايير القانون الدولي، سواء في المحاكم الوطنية أو الإقليمية أو الدولية، أو المحاكم الخاصة المُنشأة وفقاً لمتطلبات القانون الدولي، والتي من الممكن أن تكون صاحبة الولاية، الآن أو في المستقبل، لمحاكمة هذه الجرائم.

وطالب القرار الأمين العام للأمم المتحدة بالقيام، في غضون عشرين يوماً، بالإعداد للإطار المرجعي الذي يحكم عمل الآلية الجديدة، بالتنسيق مع مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. كما طلب، في فقرته السادسة، من جميع "أطراف النزاع" والمنظمات غير الحكومية التعاون مع الآلية الجديدة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتزويدها بالوثائق والمعلومات المتوفرة (حول الانتهاكات).

والقرار غير مسبوق، أولاً لكونه القرار الأممي الأول من نوعه الذي يتناول حصراً مسألة العدالة والمُحاسبة على جرائم الحرب، وغيرها من الجرائم، والتي قد يشمل بعضها جرائم ضد الإنسانية، في سورية. وهو كذلك ثانياً، بسبب أن إطاره الزمني تجاوز الأحداث الراهنة، ومنها، مثلاً، حصار مدينة حلب من قوات حكومة دمشق مدعومةً بالمليشيات المتحالفة معها، والوضع اللاإنساني فيها طوال فترة الحصار، والذي انتهى على نحو تراجيدي بسقوط الجزء الشرقي منها الذي كانت تسيطر عليه المعارضة المسلحة في قبضة قوات الحكومة، وما تخلل ذلك من استخدامٍ غير مشروع للقنابل البرميلية والقصف الجوي غير التمييزي (لا يُميز بين الأهداف العسكرية والمدنيين) واستهداف المستشفيات والكادر الطبي إلى قطع طرق الإمدادات الإنسانية والطبية.

وتعكس العودة في إطار عمل الآلية الجديدة إلى 2011 دلالاتٍ في غاية الأهمية، وترد الأزمة إلى جذورها القريبة المعاصرة، وبالتحديد إلى اندلاع التظاهرات السلمية في أرجاء سورية، بهدف المطالبة بالديمقراطية والإصلاح ورحيل الرئيس بشار الأسد، والتي قوبلت بقمعٍ غير مسبوق، تخلله قتل المتظاهرين والإمعان في التعذيب واخفاء الناشطين وترويع السكان.

ويُشكل القرار الجديد القاضي بإنشاء آلية مستقلة للتحقيق والإعداد لمقاضاة مجرمي الحرب في سورية تحدياً متعدّد المستويات، على الرغم من حقيقة أنه جاء في لحظة فراغ وقنوط دولي إزاء إمكانية وقف طوفان الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في سورية.
ويبرز التحدّي الأول في الطرائق الفنية التي ستعمل بها آلية التقصّي الجديدة. ففي الوقت الذي عارضت فيه حكومة دمشق القرار وصوّتت ضده، إلى جانب حلفائها الأساسيين، مثل روسيا وإيران، فإن المتطلب الفني الأساسي لعمل آلية التحقيق والتقصّي، كما أشار القرار في فقرته السادسة، يكمن في إتاحة الوصول إلى المعطيات والبيانات والمعلومات المتعلقة بوقوع الانتهاكات، وجمع الأدلة حولها، ومطابقتها وتحليلها في سياق موضوعي، بهدف تقديمها "بينةً" جُرمية، من الممكن استخدامها لاحقاً في مجريات عملية التقاضي، أينما وكيفما انعقدت مجريات المحاكمة، إلا أن ما يُرجّحُ حول امتناع حكومة دمشق عن التعاون مع الآلية، ومنعها أو إعاقتها من التجول في الأراضي السورية التي تسيطر عليها، وعدم السماح لها بمقابلة مسؤولين ترغب في الحصول على إفاداتهم، أو منعها من التوصل إلى سجل وثائق لدى الهيئات الحكومية والعسكرية؛ من شأنه أن يُشكّل تحدياً بارزاً.

ومن ناحيةٍ أخرى، يتوجّب على الآلية الجديدة والفريق الذي سيعمل بموجب إطار مرجعيتها تصميم "منهجية عمل"، تسهم في تسهيل جمعها الأدلة والحصول على المعلومات التي من شأنها الوصول إلى هذه الأدلة. ويبرز هنا تحديان أساسيان، سيعيقان عمل الآلية، بغض النظر عن تعاون حكومة دمشق من عدمه. ويتلخص الأول في عامل "مرور الزمن" الذي يتجلى في التغير المضطرد لحالة الأماكن والقرى والبلدات والمدن التي كانت مسرحاً للقتال، والحصار، والتجويع، وغيرها من الأفعال التي انطوت على جرائم وانتهاكات، بالنظر إلى أن الإطار الزمني الذي تنظر الآلية فيه يمتد منذ مارس/ آذار 2011 إلى اللحظة الراهنة. وعلى الرغم من أن الإطار الزمني المنظور ليس طويلاً، إلا أن ضراوة الفعل العسكري وتعدّد فاعليه راكمت بحراً من التفاصيل التي سيتوجب على الفريق العامل التدقيق فيها.

كما يتلخص التحدّي الأساسي الثاني في عامل "حالة شهود العيان"، وهو بكل بساطة بقاء من عدم بقاء شهود العيان على حصول ما حصل من جرائم وانتهاكات في الفترة المذكورة. وقد أحدثت موجة النزوح الداخلي والخارجي واللجوء والتهجير وضعاً مُعقداً، على الأقل من الناحية اللوجيستية، فيما يتعلق بحصر أماكن وجود الشهود، إن كانوا على قيد الحياة، والحصول على إفاداتهم.

ومن الخيارات المتاحة أمام فريق عمل الآلية الجديدة، فيما يتعلق بالتعامل مع الشهود واستقصاء المعطيات، وفي حال عدم التمكّن من دخول الأراضي السورية، جمع إفاداتٍ من الأشخاص الذين غادروا البلاد، وإجراء مقابلات مع أشخاص، والاتصال بالضحايا بطرق مختلفة عبر الإنترنت وغيره من الوسائل، بالإضافة إلى تفحص صور وتسجيلات فيديو وصور الأقمار الصناعية، على غرار ما قامت به لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سورية، مثلاً، في تقريرها الذي نظرت به الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أغسطس/ آب 2012.

وأمام فرق عمل الآلية الدولية تحدياتٌ أخرى على الصعيدين، الفني واللوجيستي، فيما يتعلق بإعداد منهجية عملها، فهي مُطالبةٌ بمراعاة الاتساق، وبأن تنسجم الطرائق التي تجمع فيها المعلومات مع الغاية من استخدامها. والحال هنا أن هذه المعلومات والهادفة إلى الحصول على دليل ذي طابع جنائي، يصعب الحصول عليها في سياق الوضع القائم في سورية وخارجها، بما يعنيه ذلك من إمكانية إطالة فترة عمل هذه الآلية إلى أمد أبعد مما يتوخّاه الداعمون للقرار الأممي الذي أنشأ الآلية. كما أن الأسس التي يقوم عليه التحرّي الدقيق لانتهاكات حقوق الإنسان تقوم على مبدأ التماسّ المباشر مع مصادر المعلومات وتجنب الوساطة، وهذا كذلك معقدٌ وشاق.

إلا أن عدداً من الجوانب التي ستسهم إيجاباً في دفع عمل الفريق العامل ضمن إطار الآلية الجديدة يتمثل في وجود عدد غير قليل من المنظمات السورية غير الحكومية والمستقلة التي عملت منذ سنوات على توثيق الجرائم المرتكبة، وتدوين أسماء الضحايا، وتسجيل حالة الأماكن التي تعرّضت لهجمات غير تمييزية، وقدمت خرائط، وإفادات ومعطيات عديدة أخرى. وتقدم هذه المنظمات أصلاً هذه المعلومات للجمهور بشكل عام عبر مواقع إلكترونية.

كما أن العمل الذي قامت به منظمات حقوق الإنسان الدولية المستقلة لتوثيق الجرائم المرتكبة والانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان بعد مارس/ آذار 2011، وإلى بدايات العام 2103، تشكل مرجعاً مهماً غنياً بالمعلومات، وبالتحديد لأن هذه المعلومات توفرت لهذه المنظمات في فترةٍ كان ما يزال مُتاحاً لها دخول الأراضي السورية وإجراء تحقيقاتها المستقلة.

ويتلخص الهدف العام للآلية الجديدة، بمعزل عن انتظار الإطار المرجعي الذي على الأمين العام للأمم المتحدة إنجازه في الفترة القريبة المقبلة، في إيجاد الحقائق المتصلة بانتهاكات حقوق الإنسان المزعومة، وتحديد المسؤولين عن ارتكاب هذه الانتهاكات، بهدف تحميلهم المسؤولية، ولاستخدامها في سياق إجراءات تقاضٍ جنائية الطابع، من ضمن أهدافها من دون ريب إنصاف الضحايا.

اقرأ المزيد
٢٥ ديسمبر ٢٠١٦
هل انتصرت إيران في سوريا؟

على الرغم من دعايتها في الداخل والخارج، ومحاولتها فرض الشروط على ثوار حلب الشرقية لإخلاء المدينة، فإن إيران العمائمية لا تزال بعيدة عن تحقيق طموحاتها الكاملة في سوريا، وهناك مسافة كبيرة تفصلها عن الانتصار النهائي. في الأيام الأخيرة، سعت إيران من خلال وسائلها الإعلامية والمؤسسات التابعة للحرس، لتصوير علائم النصر في شوارعها من خلال توزيع الحلوى والبهجة المتقطعة، ولكنها عجزت عن إيصال فرحة هذا «النصر المزعوم» إلى عامة الناس. وعلى الرغم من وجود إعلام انطوائي وأحادي الجانب في إيران، والتهويل بـ«حقانية» حاكم دمشق، وتكفير المعارضين، فإن الرأي العام الإيراني حتى الآن لم يقبل القصة التي يسردها النظام يوميًا عن أحداث سوريا.

بعيدًا عن الأجواء الإعلامية، ومن حيث الاستراتيجيات، توسع إيران في شرق حلب جاء في ظروف داخلية وإقليمية ودولية استثنائية. على صعيد الداخل قوة النيران الهائلة التي استخدمتها المقاتلات الروسية من جانب، وتشتت قوات الثوار بين معتدل ومتشدّد، ساعد النظام السوري والحرس الثوري الإيراني وميليشياته في التحرك تجاه مناطق شرق حلب. وفيما يرجع إلى المعادلات الإقليمية، ضغط الإرهاب وتعاظم الورقة الكردية في سوريا، دفع أنقرة إلى تغيير سياساتها في دعمها للثوار في حلب، والاقتراب والتنسيق مع روسيا، والتفاوض حول المصالح المتقاطعة مع إيران. أما على الصعيد الدولي، وفي ظل تحرك المحور الروسي الغالب في سوريا، فهناك غياب جلي للولايات المتحدة والدول الحليفة لها، وبخاصة في الفترة الانتقالية الحالية بين الرئيسين.

إذن، هل ستستمر هذه الظروف الاستثنائية لصالح إيران واستحواذها على الأمور في سوريا؟ على أقل تقدير، دور الولايات المتحدة في سوريا في عهد ترامب المقبل، لم يبق كما كان في عهد سلفه أوباما. في الأيام الأخيرة كرّر ترامب شعاره الانتخابي حول إنشاء منطقة آمنة في سوريا. هذه المنطقة بالتأكيد ستزعج إيران وحليفتها روسيا كثيرًا، ليس من حيث تقاسم الأجواء السورية مع الولايات المتحدة فقط، وإنما من حيث تكوين منطقة آمنة لملايين السوريين الفارين من ويلات الحرب، الذين سعى النظام ومن ورائه إيران وروسيا، إلى شطبهم من الوجود. هؤلاء اللاجئون، ومعظمهم من السنة، سيلعبون دورًا مهمًا في أي انتخابات قادمة في سوريا، وكيفية اختيار الحاكم الاحتمالي في البلد. إيران ستواجه مشكلات كبيرة مع هؤلاء اللاجئين لو تم توفير الأقل من إمكانيات الحياة لهم في منطقة معينة داخل سوريا.

وعلى الصعيد الاقتصادي بذلت إيران مليارات الدولارات في حربها في سوريا للاحتفاظ ببشار الأسد. ولكن التكلفة الأساسية ستبدأ بعد استحواذها على المُدن المدمرة والأراضي المحروقة، وفي مقدمتها شرق حلب. من أجل تقديم نظام بشار الأسد كـ«دولة»، على إيران بناء مؤسساته الحكومية في المناطق المدمرة وتوفير المقومات الاقتصادية الأساسية، لإضفاء شريان الحياة في مُدن محروقة أساسًا، وميتة إنسانيًا واقتصاديًا. مقومات الاقتصاد السوري كانت مبنية على قطاعات الصناعة والسياحة والزراعة. الصناعة والسياحة السوريتان، بعد الأزمة السياسية في البلاد، تم تدميرهما بشكل شبه كامل، والزراعة تعطلت في أنحاء كبيرة من البلاد. وفقا إلى التقارير المقربة من النظام، خسائر الأزمة السورية، منذ بدئها في 2011 وحتى يومنا هذا، تتراوح بين 20 إلى 70 مليار دولار. وعلى سبيل المثال في حلب فقط تم تدمير أكثر من 10 آلاف معمل، وهذه المدينة وحدها تحتاج إلى 6 مليارات دولار كي تتعافى. ووفقا للتقارير المنتشرة في داخل إيران، فإن النظام السوري في الوقت الحاضر يحتاج إلى مساعدة مالية فورية قدرها 4 مليارات دولار، ناهيك عن الصورة المنشورة في موقع «العالم» التابع للنظام الإيراني، حيث يتحدث عن تكلفة 250 مليار دولار لإعمار سوريا بعد الحرب.

في حال بقاء بشار الأسد في السلطة، فإن من المرجح ألا تقبل الدول الغربية ولا الغنية في المنطقة، المشاركة في إعادة إعمار سوريا. من جانب آخر، تنظر روسيا إلى سوريا بمثابة إحدى قلاعها الجيوسياسية ومحل تمددها العسكري والسياسي في المنطقة. لا تظهر رغبة لدى حكام موسكو في أنهم يريدون بذل أموال جديدة لإعمار سوريا. الصين الدولة الأخرى التي ربما ستدخل في ساحة اقتصاد سوريا في المستقبل بعد إنهاء الحرب الدائرة هناك، ولكن الصين لن تستثمر أكثر مما تكسبه. أما إيران فستبقى وحيدة في مجال بناء دولة بشار الأسد من جديد. إيران خلافًا لما وسعته في المجال العسكري من تنظيمات ميليشياوية إلى منظومة الصواريخ، مرورًا بالأجهزة المخابراتية، للتدخل في شؤون دول المنطقة، فإنها ستكون دولة ضعيفة في الاقتصاد لا تستطيع تلبية مطالب شعبها الابتدائية، ناهيك عن بناء اقتصاد لدولة أخرى في المنطقة. الشعب الإيراني يعيش وضعًا مأساويًا في جميع ساحات الاقتصاد، وحكومة حسن روحاني قابعة تحت ضربات التضخم والبطالة والفساد الإداري والفقر الجماعي، ولا يمكن لها أن تغامر ببناء اقتصاد بشار الأسد.

بهذه الأسباب نستطيع القول إن إيران ستكون الفاشل الأكبر في تحقيق أهدافها الاستراتيجية في سوريا، ولا يمكن لها أن تعود كما كانت عليه قبل 2011، ناهيك عن الغضب الجماهيري الذي يطاردها في الشارعين العربي والإسلامي. بالمختصر والمفيد يمكن تلخيص الوضع الإيراني في سوريا في الجملة التالية: «إيران تكسب المعارك، ولكن ستخسر الحرب».

اقرأ المزيد
٢٥ ديسمبر ٢٠١٦
ما سيكون بعد سقوط حلب ليس كما كان قبله

أخص بهذا العنوان الفصائل الإسلامية المتشددة التي تتحارب على الساحة السورية، والتي ينطبق عليها قول ميكيافيلي: الدين ضرورة لا من أجل الفضيلة بل للسيطرة على الناس".

لا حاجة بنا لأن نؤكد أن الأصابع الخارجية كان لها دور كبير في استزراع تلك الفصائل وإنباتها عبر دغدغة المشاعر الدينية عند الناس مترافقة مع الدولار الأخضر، بانتظار أن تصبح تلك الفصائل كشجر العوسج الشوكي.

في البداية لا ننكر أن جزءاً من المجتمع السوري، تَقبّل هذا المنهج الديني في الثورة السورية، نظراً لإيمانهم العميق بقدرة الله تعالى في نصرة المؤمنين المظلومين، ووضعَ الأمل الأكبر في تلك الفصائل الدينية لإسقاط سلطة الأسد ونظامه الطاغي.

لكن تلك الفصائل مع السف أخذت تنهج منهجاً مغايراً لإرادة الشعب، فعاماً بعد عام بدأت رياحها تهبّ على طريقة تخالف تماماً ما تشتهيه سفن الشعب السوري، فكل فصيل بدأ يدير ظهره لرغبات الناس، ولا يلتفت إلى إرادتهم وطموحاتهم، بل صار يفرض عليهم بقوة الغلبة والسلاح مغالاته الدينيةَ التي ليست هي من الدين في شيء.

ثم بعد أن هيمن هذا الفصيل أو ذاك على عقول الناس ومقدراتهم، راح يكشف عن نواياه المتجسدة بالاستئثار والتمدد، سواء على حساب سلطة النظام، أو على حساب الفصائل الأخرى، ولاسيما الجيش الحر الذي كان المتضرر الأكبر من تلك الفصائل، فقد انهارت معظم قواته على يد تلك الفصائل التي تدعي أنها خرجت لتحارب سلطة الأسد.

من هنا بدأت مرحلة الانحدار الثوري أو الجهادي، فكان الصراع والاقتتال فيما بينهم سمة قبيحة تجري بين حين وآخر، وفي هذا المكان أو ذاك، والمؤلم أن ذلك الاقتتال الداخلي كان يجري في الوقت التي تكون فيه المعارك ضد سلطة الأسد على أشدّها، وفي أحلك الظروف.

كل ذلك كان يجري والشعب السوري يعضّ على النواجذ ويصبر، أملاً في أن يصلح الله الأحوال، وتعود تلك الفصائل إلى الطريق السوي، لكنها كانت تتمادى في غيها وتبتعد أكثر فأكثر عن الطريق المأمول، فيخرج الشعب بالمظاهرات الاحتجاجية المطالبة، إما بعدم الاقتتال أو الاندماج في جيش ثوري واحد، وكان المتظاهرون يرفعون علم الثورة رمزاً لوحدة الشعب ووحدة الثورة، لكن بعض الفصائل المتزمتة كانت تمزّق راية الثورة، كلما رأوها ترفرف عالياً في فضاء الوطن. أما لماذا.!؟. فلأن أفكار تلك الفصائل لا تريد تلك الراية ولا تريد الشعب ولا الوطن.. إنهم فقط يريدون تنفيذ المخططات التي وضعتها لهم الأصابع الخارجية، ومن أجل ذلك ساهموا مع النظام بتدمير الشعب والوطن، وهذا مختصر الكلام.

في تلك الأثناء اغتنم أعداء الإسلام الفرصة لمحاربة المسلمين باسم محاربة الإرهاب، فكل من يرفع السلاح ضد " حكومة الأسد الشرعية.!! "، هو إرهابي. وكان أول المتحمسين لذلك روسيا وإيران وأتباعها، دون أن ننسى أميركا وأوروبا وبعضاً من الحكام العرب.

والمشكلة أن تلك الفصائل بمسمياتها المفتعلة لم تأخذ بمبدأ سد الذرائع المعروف في الفقه الإسلامي، بل استمرت أيضاً في غيّها وطغيانها ضد الشعب السوري طمعاً في مصالح ذاتية تخص قيادة هذا الفصيل أو ذاك. وليس ما جرى في محافظة حوران والغوطة الشرقية أو في الشمال السوري ببعيد عنا، وهو يرتقي إلى الخيانة العظمى ضد الشعب والوطن.

وهذه الخيانة العظمى جعلت د. رياض حجاب المنسق العالم لهيئة المفاوضات، يخرج عن تحفّظه المعهود حين قال في إحدى تغريداته: الذين طعنوا إخوانهم من الخلف أو انسحبوا دون مقاومة يجب أن لا يكون لهم دور في أي كيان جديد ". في إشارة منه إلى جيش فتح الشام ( النصرة ) وأحرار الشام بشكل خاص.

وكان من نتيجة ذلك كله أن بدأت الثورة السورية في الانحدار، ولا أريد أن أقول الانهيار. وأصبح الأسد وأسياده الإيرانيون والروس يتمددون على حساب الأراضي المحررة، مع ما ترافق ذلك من قتل وتدمير، هو الإبادة التامة للإنسان والعمران، وكانت الطامّة القصوى وقوع حلب كلها فريسة بيد الأسد نظرياً، وعملياً بيد الإيرانيين بدعم روسي فاضح، وموافقة أمريكية مخاتلة وصمت عربي مريب.

وقد ساعد فيما وقعت فيه الثورة ذلك الشرخُ الهائل بين الفصائل المتزمتة من جهة وأعضاء الائتلاف المعارض من جهة أخرى، فليس هناك أية نقطة مشتركة بين الطرفين، ولا بينهم وبين الشعب السوري الذي تسلقوا على أكتافه. ولكن فيما يبدو أن أعضاء الائتلاف بعد سقوط حلب أقروا بعجزهم، وهم راضون بذلك، لأنهم مقتنعون بما استحصلوا عليه من مكاسب شخصية وفيرة طوال عمر الثورة، وها هم الآن يفكرون ويتحركون، وخير دليل على ذلك قيام البعض بإعلان انسحابهم من الائتلاف المعارض، ربما كخطة غير ذكية للبحث عن موطئ قدم في المرحلة القادمة، حتى لو كانت في ظل بقاء الأسد.  

والغريب أن الفصائل التي نتحدث عنها سارعت " بعد خراب البصرة " إلى تمثيل مسرحية هزيلة، وهي إعلان " الاندماج التام " فيما بينها، لكن بالعودة إلى ما نشر حول هذا الموضوع، وإلى ما صرح به بعض مسؤولي تلك الفصائل، لا يرى المتابع أي تغيير في نوايا تلك الفصائل ولا في مواقفها وأهدافها، وإنما هو نوع من ذر الرماد في العيون ولغو فارغ، كما في قول أحد القادة في إشارة إلى اندماج الفصائل: " نبشر أمتنا أن هممنا عالية وبأسنا شديد وصفنا واحد ". نعم هذا هو اللغو الفارغ، فأين كانت هممهم العالية وبأسهم الشديد وصفهم الواحد عندما كانت حلب الشرقية تباد وتستصرخ ضمائرهم المفقودة.!؟.

على أية حال، إن من يتابع الإعلام، ولا سيما في التواصل الاجتماعي، يدرك أن الغضب ضد هذه الفصائل بلغ ذروته القصوى، فالمظاهرات الشعبية التي تخرج والأفكار والمواقف التي تُطرح، هي خير دليل على أن الشعب السوري بدأ ينبذ ويرفض تلك الفصائل المتزمتة وكذلك الائتلاف المتثائب البالي، وأن رياح التغيير الشعبي بدأت تتجمع في النفوس، ولابد أن تنطلق عاجلاً أو أجلاً بثورة نقية ضد الثورة المنافقة، لتواصل الصمود ثم النصر على سلطة الأسد وأسياده. وهذا ما عبّرت عنه إحدى اللافتات التي رفعها بعض المتظاهرين:

" حلب ليست النهاية..

حلب بداية النصر. ".

 

 

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٦
من حماة إلى حلب

في شتاء عام 1982 كانت حماة على موعد مع الأسد الأب ومدفعيته وطيرانه. وفي شتاء عام 2016 كانت حلب على موعد مع براميل الأسد الابن، ومعه ستين فصيل طائفي ومن فوق تحلق طائرات السوخوي الروسية ملقية الصواريخ الفراغية والقنابل العنقودية والفوسفوية.

نفس القصة القبيحة المكررة، مسلحون يتحصنون خلف جدر، أمام عدو لا يرقب فيهم إلا ولا ذمة، ولا تهمه روح إنسان ولا حيوان، كما لا يعبأ بمشفى ولا مدرسة.

نفس الخطأ لهؤلاء الثوار يكررونها بعد مرور ثلاثة عقود، دون الاستفادة من درس التاريخ. هذه المرة تحالف الأسد الابن مع دولة عظمى، وأدخل الدب إلى كُرمه.

في حماة كانت مذبحة عارمة أخذت إلى المقابر أكثر من عشرين ألف ضحية. وحسب الصحفي باتريك سيل، فإن رفعت الأسد فضّل إنهاء المذبحة بفصل درامي، حين أخرج بقية سكان المدينة ثم قتلهم أمام بيوتهم. يقال إنهم كانوا خمسة آلاف أضيفوا لمن سبقهم إلى المقابر. وفي هذا يمكن قراءة كتاب «السوريون الأعداء»، لفواز حداد، وهو مسيحي من أهل مدينة حماة نجا من الموت بإعجوبة، بعد أن كتب في صحيفة الأموات.

ومع كتابة هذه الأسطر يرتج العالم بأخبار الخروج الكبير لأهل حلب من بيوتهم. ليس أمامي سوى أن أقوم متهجداً في ظلام الليل، أدعو لأهل حلب بالرحمة، فقد اجتمعت عليهم ملل ونحل الأرض لنحرهم، في جريمة كاملة بيد قصاب روسي وتغطية أميركية، وحملقة أوروبية بعيني ضفدع!

نحن هنا أمام خرائط دم جديدة، وتفريغ ديموغرافي، وأشياء مرعبة تحاك خلف الكواليس، لا نعرف عنها الكثير، كما في قصة «داعش» الذي ولد على غير موعد، واضحة مجهولة، من شباب مغفلين متحمسين، يقادون بايد دهاة مدربين على دفع الأفئدة للمحرقة!

في مذبحة حماة كنت مع جزائري مدعواً إلى حضور احتفال طهران بالذكرى الثانية لثورتها، وكان حماسنا لها شديداً كونها الثورة الإنسانية الكبرى! كان صديقي يقفز مثل قرود البابون وهو يهتف: «عجل الله فرجه». هنا عرفت أن برمجة العقل الإنساني شيء عجيب، «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا».

كانت رائحة الثورة في قم طائفية بامتياز. كان ثمة عقلاء بينهم، وعرفت أن ثورة «علي شريعتي» هي غير ثورة الخميني وخامنئي الذي اعتبر سقوط حلب انتصاراً على «الكفار» (كذا). كان الجو كله طائفياً بامتياز. هنا أدركت أننا أمام ثورة «لا إنسانية»، ورأينا الدليل في استقبالهم البهيج لطاغية رومانيا (تشاوسسكو)، ثم تحالفهم مع طاغية دمشق في خلطة سامة بين شيعي وشيوعي وعلماني!

يومها والمذبحة شغالة في حماة، التقيت عضواً من مجلس الشورى الإيراني، قلت له: الناس يقتلون في حماة، وصديقكم الأسد هو صاحب الساطور، فهل من شفاعة؟ قال: يستحقون القتل!

حين أتذكر صدّام، وما فعل، وكيف فتح ثقب يأجوج ومأجوج هذا على العرب، أدرك أنه لولا انهيار نظام صدام على يد بوش الابن لما تم التهام العراق، ولا ضاعت حلب في شتاء عام 2016. لكن صدام كان طاغية ومن رماده خرج ألف صدام وصدام وضاع العراق، وتفشت المذهبية في حرب مائة عام جديدة، كما كانت يوماً بين العثمانيين والصفويين.

خرائط الدم هذه لم تنته بعد، ومن أعجب ما يرى الإنسان كيف أن مصير سوريا يقرر في روسيا، بأيدي ثلاثة فرقاء ليس منهم سوري واحد، بل لافروف القيصري، وظريف الفارسي، ومولود العثماني. فأي ولادة تنتظر سوريا على أيدي ثلاثة شركاء متشاكسين؟!

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٦
سورية واللاعبون الثلاثة

يشكّل اجتماع موسكو في 20 ديسمبر/ كانون الأول الحالي منعطفاً رئيسياً في المسألة السورية لعدة أسباب. الأول أن اقتصاره على وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا يعني أن الأطراف الثلاثة هي المعنية مباشرةً بإدارة الموقفين، الميداني والسياسي، في سورية، وأن ما صدر عنها (إعلان موسكو) سيتم اعتماده خريطة طريق. والثاني إبعاد الولايات المتحدة والأمم المتحدة كطرفين أساسيين معنيين بالمجريات السورية منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011. واللافت هنا استعجال موسكو لوضع القضية السورية في مسارٍ جديد. ومن هنا، كانت صريحةً، حين أعلنت قبل أيام عن وقف عملية التفاوض مع واشنطن بشأن تسوية الوضع في سورية. وفي ختام الاجتماع، قالت وزارة الخارجية الروسية إن الوزير سيرغي لافروف اتصل مع نظيره الأميركي، جون كيري، وأبلغه نتائج اجتماع موسكو.

وأضافت أن المفاوضات، التي تتوسط فيها الأمم المتحدة في جنيف وصلت إلى طريقٍ مسدود، بسبب شروط المعارضة السورية في المنفى، وصار واضحاً حسب "إعلان موسكو" أن البديل لمرجعية جنيف 1، التي جرت على أساسها المفاوضات السابقة، هو قرار مجلس الأمن 2254 الذي اعتمده قبل عام، وتعرّض لانتقادات واسعة من المعارضة التي اعتبرت أنه أسقط مسألة رحيل الرئيس السوري، بشار الأسد.

أما السبب الثالث فهو غياب العرب والأوروبيين كلياً عن الترتيبات الجديدة، ولم يصدر عن موسكو، التي دعت إلى الاجتماع ورعته، أية إشارة إلى أنها تواصلت مع (أو أبلغت) الأطراف الإقليمية العربية المنخرطة في الأزمة، مثل السعودية وقطر، أو الأطراف الأوروبية كفرنسا التي تقف وراء قرار مجلس الأمن الجديد، الذي جرى التصويت عليه بالإجماع يوم الإثنين الماضي، ولم تعترض عليه روسيا، كاسرةً بذلك القاعدة التي سارت عليها طوال السنوات الماضية، إذ صوّتت، للمرة الأولى، لصالح قرارٍ دولي في مجلس الأمن من أجل نشر مراقبين دوليين في حلب، ولكنها ضغطت لتعديل النص بصيغته الفرنسية وأخرجته بشروطها، وتحديداً جعلت تنفيذ بند نشر المراقبين مربوطاً بالنظام السوري.

والسبب الرابع أنها تعاملت مع النظام السوري طرفاً في الأزمة، وليس الطرف الحصري، وهذا ما يفسر إبعاده عن طاولة المفاوضات الثلاثية، وقرّرت موسكو، مع الطرفين الإيراني والتركي، الخطوط العريضة "لاستئناف العملية السياسية في سورية وفقا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254"، ونصّ الإعلان الذي صدر عن الاجتماع أن الدول الثلاث "تعبر عن استعدادها لتسهيل التفاوض بين الحكومة السورية والمعارضة، وتصبح الضامن لأي اتفاق".

جاء اجتماع موسكو في خضم التطورات الميدانية السورية، فعمليات التهجير من حلب لم تكن قد بلغت نهايتها، كما أن الصورة غير واضحة على صعيد الخارطة العسكرية التي تشهد تداخلاتٍ كثيرة، من الجنوب مروراً بريف دمشق وحتى إدلب والرقة والحسكة. وبالتالي، هناك جملة من المهام العسكرية التي تحتاج إلى تسويةٍ قبل الدخول في أي حل سياسي.

ومع أن الوضع السوري يحفل بتعقيداتٍ لا حصر لها، فإن الدول الثلاث قرّرت أن تتخذ من اتفاقها حول حلب قاعدةً لاتفاقٍ يشمل سورية ككل. ومن هنا، يأتي حديث "الإعلان" عن "توافق الوزراء على توسيع وقف إطلاق النار"، وهي تطمح إلى أن يشمل كل سورية، الأمر الذي تعترضه عقباتٌ سياسيةٌ، منها على الخصوص تحديد من هي المعارضة السورية المدعوة للمفاوضات مع النظام، ووضع آلية لتطبيق القرار المذكور، وموقع الأسد من التسوية.

على الرغم من أن "إعلان موسكو" وضع خريطة طريق، إلا أن الصورة غامضة جدا، وحتى روسيا التي باتت الطرف الأقوى في المعادلة السورية، فإنها لا تمتلك أجوبةً محددةً عن الترتيبات اللاحقة، ودور كل طرف فيها. هذا في الوقت الذي تقف فيه تركيا وإيران على طرفي نقيض.

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٦
هل يمثل إعلان موسكو صدى لسقوط حلب؟

بعد أكثر من أربع سنوات من سيطرة فصائل المعارضة السورية على الجزء الشرقي من مدينة حلب، تمكّنت قوات النظام السوري والمليشيات الطائفية الأجنبية المتحالفة معها، وبغطاءٍ جوي روسي كثيف، من تحقيق تقدم سريع ضد تلك الفصائل، أدّت، في نهاية المطاف، إلى إجلاء مقاتليها والمدنيين عن آخر الجيوب التي تحصّنت بها في المدينة. وبعد ذلك مباشرةً، دعت روسيا إلى عقد اجتماعٍ في موسكو ضمّ وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، وخرج الاجتماع، حسب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بـ "إعلان موسكو" الذي تضمّن خريطة طريقٍ لحلّ الأزمة السورية.


أسباب الانهيار في حلب
حاولت فصائل المعارضة السورية مرتين فكّ الحصار الذي فرضته قوات النظام السوري وحلفاؤها على الأحياء الشرقية من مدينة حلب، منذ تمكّنت الأخيرة في يوليو/ تموز الماضي من إغلاق معبر "الكاستيلو"، وهو طريق الإمداد الوحيد لها. وعلى الرغم من تمكّنها، في المرة الأولى، في أغسطس/ آب الماضي، من كسر الحصار ومحاصرة قوات النظام داخل المدينة، فإن التدخل الجوي الروسي كان يدفعها، في كل مرة، إلى التقهقر.

وبعد فشل وقف إطلاق النار الذي جرى التوصل إليه بين وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، في التاسع من سبتمبر/ أيلول الماضي، دعا الأخير إلى اجتماع في موسكو في 28 أكتوبر/ تشرين الأول ضم، إضافة إليه، وزيري خارجية النظام السوري وليد المعلم، والإيراني جواد ظريف، ومسؤولين عسكريين يمثلون الحلفاء الثلاثة. وقد وضع المؤتمرون خطةً للإجهاز على حلب، وبدأ تنفيذها مباشرةً بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني، والتي أسفرت عن فوز دونالد ترامب. وأدت الحملة التي أدارتها روسيا إلى انهيار سريع في صفوف المعارضة السورية. وتعود أسباب هذا الانهيار إلى جملة من العوامل أهمها:
1. القوة النارية الهائلة التي استخدمتها روسيا لضرب المعارضة، إذ قامت روسيا خلال الشهرين الماضيين بتعزيز قواتها العسكرية بشكل كبير في سورية. وفضلاً عن إرسال مزيد من طائراتها القاذفة، أرسلت موسكو أسطول الشمال إلى السواحل السورية الذي يضم عشرات السفن الحربية، وفي مقدمه حاملة الطائرات الوحيدة التي تملكها روسيا، وهي الأميرال كوزينتسوف التي قصفت مناطق في حلب بصواريخ كروز من البحر الأبيض المتوسط.

2. اتباع النظام وحلفائه إستراتيجية "الجوع أو الركوع"، في مواجهة نحو 300 ألف مدني أطبق عليهم الحصار في القسم الشرقي من المدينة، ودفع فصائل المعارضة نتيجة لذلك إلى التفاوض على الخروج منها، كما حصل في حمص عام 2014.

3. الخلافات والانقسامات بين فصائل المعارضة التي استمرت، على الرغم من الهجوم الكبير الذي تعرّضت له حلب، وتمثل بصورة خاصة في القتال الذي دار بين حركة نور الدين زنكي من جهة وتجمع فاستقم من جهة أخرى، وكذلك بين جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا)، وكل من "فيلق الشام" و"جيش الإسلام" من جهة أخرى. وقد انعكس ذلك بوضوح على الأوضاع الميدانية لقوات المعارضة. في المقابل، بدت جبهة النظام التي تضم أيضًا الروس والإيرانيين والمليشيات التابعة موحدةً ومتناغمةً، على الأقل حتى تم الإعلان عن الاتفاق التركي - الروسي لإجلاء المقاتلين والمدنيين من حلب.

4. انشغال جزءٍ من فصائل المعارضة في معركة "درع الفرات" التي أطلقتها تركيا في أغسطس/ آب الماضي، لإخراج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من مناطق غرب الفرات، ومن ثمّ تفويت الفرصة على وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة أميركيًا من وراثة تنظيم الدولة في معقله الرئيس في مدينة الباب ومحيطها، كما حصل في منبج من قبل.

5. ضعف الموقف الأميركي وموقف حلفاء المعارضة عمومًا، وحصول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على ما يشبه الغطاء لإطلاق معركة استعادة حلب، بعد فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية، وإعرابه عن رغبته في دخول شراكةٍ مع روسيا في سورية للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية. وكان لافتًا أن استئناف الغارات الروسية واستخدام الأسطول الروسي الجاثم في البحر المتوسط في قصف حلب جاء بعد اتصال بوتين بترامب لتهنئته بالفوز، وإعلان الكرملين أن الحديث بين الطرفين تناول محاربة الإرهاب والمتطرّفين في سورية.

6. تحول الموقف التركي من طرفٍ في الصراع وداعمٍ للمعارضة إلى وسيطٍ بينها وبين روسيا، وقد استضافت تركيا، خلال عملية السيطرة على حلب، مفاوضاتٍ بين روسيا وفصائل المعارضة الموجودة شرق حلب، للتوصل إلى اتفاقٍ يؤدي إلى خروج الأخيرة من المدينة، وهو مطلب روسيا. وكان التحول في الموقف التركي تجاه تطبيع العلاقات مع روسيا قد بدأ منذ إطاحة رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، في مايو/ أيار الماضي، لكنه تسارع بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز، وقد رافق ذلك تغيير في الموقف التركي باتجاه التحول نحو دور الوساطة في الصراع السوري. وكان من الواضح أن روسيا لم تعلق على العملية التركية مع المعارضة السورية، لمنع تغلغل القوات الكردية في ريف حلب الشمالي الشرقي، كما أن تركيا لم تقم بأي فعلٍ لمعارضة العملية الثلاثية التي قادتها روسيا للاستيلاء على حلب.


الاتفاق التركي - الروسي والموقف الإيراني
مع اشتداد الضغط العسكري على المعارضة، واستهداف المدنيين بالقصف العنيف، وتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بحق سكان الأحياء التي سيطر عليها حلفاء النظام من المليشيات الأجنبية، وفي ظل رفض المقاتلين الاستسلام، تعالت المواقف الدولية المندّدة بما تتعرّض له مدينة حلب التي تعد واحدة من أقدم الحواضر الإنسانية من عنف دموي. ومع تنامي المخاوف من احتمال وقوع مجازر على نمط سبرينيتسا (البوسنية)، وافق الروس على مقترحٍ تركي بتوفير معابر آمنة، تسمح بخروج قوات المعارضة ومن يرغب في الخروج من المدنيين من الأحياء المحاصرة للمدينة.

فاجأ الاتفاق طهران التي ساءها تجاهل الروس دورها، فقامت بتعطيل تنفيذه عن طريق أذرعها على الأرض، وخصوصاً عبر مليشيا حزب الله اللبناني والنجباء العراقية، من خلال احتجاز الخارجين من المدينة، وإعادة آخرين بعد خروجهم منها. كانت إيران، ويؤيدها النظام السوري في ذلك، تسعى إلى القضاء على جميع فصائل المعارضة المحاصرين في المدينة، بدلًا من تركهم يخرجون لاستئناف القتال ضدها في مناطق أخرى، رافضةً التمييز بين معتدلين ومتشدّدين، باعتبار أن كل من رفع السلاح في وجه النظام يعد إرهابيًا. وفي محاولةٍ لعرقلة الاتفاق، اشترطت إيران للسماح بخروج المقاتلين والمدنيين من شرقي حلب، خروج الموالين لها من بلدتين في ريف إدلب، هما كفريا والفوعة، يحاصرهما جيش الفتح التابع للمعارضة السورية منذ استيلائه على مدينة إدلب في ربيع 2015. وبناءً عليه، بدأت عمليات الإجلاء المتبادلة التي دخل على خط تنفيذها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من خلال مشروع قرار فرنسي، يدعو إلى إرسال مراقبين دوليين لضمان حسن سير الخارجين من حلب وسلامتهم، وهو المشروع الذي اعترضت عليه روسيا، قبل أن تعود وتوافق عليه، بعد إدخال تعديلاتٍ عليه، وحمل رقم 2328 بتاريخ 19 ديسمبر/ كانون الأول 2016، وهو القرار الذي انتقدته إيران بشدة على لسان أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، معتبرًا أنه جاء لـ "مصلحة الأعمال التخريبية، ويوفر الأرضية لدخول العناصر الأمنية والعسكرية الداعمة للإرهاب تحت غطاء المراقبين الدوليين".


إعلان موسكو
سارعت موسكو إلى الاستثمار سياسيًا في التغييرات الميدانية التي قادتها على الساحة السورية، وتمثلت بسقوط حلب في يدها، وكذلك في الغياب الكامل للولايات المتحدة عن المشهد الإقليمي نتيجة الحالة الانتقالية التي تعيشها بين إدارتين، فدعت إلى اجتماعٍ سداسيٍّ، يضم وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، ولم تعطله حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة عشية انعقاده.

ناقش المجتمعون مصير سورية والحل السياسي فيها، بغياب النظام الذي يدّعي تمثيلها، وخرجوا ببيانٍ أطلقوا عليه اسم "إعلان موسكو"، يتضمّن، كما قال لافروف، خريطة الحل السياسي في سورية، ويشمل توسيع وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في حلب، ليشمل الأراضي السورية كافة وجميع الأطراف، باستثناء جبهة فتح الشام (النصرة) وتنظيم الدولة الإسلامية. والتركيز على محاربة الإرهاب، والدفع باتجاه تسويةٍ سياسيةٍ بين النظام والمعارضة، تكون روسيا وتركيا وإيران الأطراف الضامنة لتنفيذها. وقد نص البيان الذي جرى نشر مضمونه على عدم "وجود حل عسكري للأزمة في سورية"، وكان لافتًا إشارته إلى ضرورة الاعتداد "بالقرارات التي صدرت عن المجموعة الدولية لدعم سورية، وإزالة العوائق أمام تطبيق الاتفاقات الواردة فيها، مثل قرار مجلس الأمن 2254. وتتجه موسكو إلى توزيع الاتفاق الثلاثي على مجلس الأمن، وتضمينه خطوات محددة لتسوية العقبات التي تعرقل التوصل إلى وقفٍ شامل للأعمال القتالية واستئناف عملية التسوية السياسية.

وعلى الرغم من محاولات المضيفين الروس إضفاء أجواء توافقية على اجتماعات موسكو، برزت تناقضات مهمة في مواقف الطرفين، التركي والإيراني. فبينما قال وزير الخارجية الروسي إن الأطراف الثلاثة اتفقت على ضرورة اتخاذ إجراءاتٍ عمليةٍ لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، لجهة مطالبته بوقف وصول المساعدات الخارجية إلى الجماعات الإرهابية، وهو الأمر الذي أكد الوزير التركي الاتفاق بشأنه، مع إشارته إلى أن "ثمة جماعات أخرى مرتبطة بالنظام السوري، ومن الضروري قطع الدعم عنها أيضًا"، وبينها حزب الله، معتبرًا ذلك "ضروريًا لضمان وقف إطلاق نار مستقر". لكن وزير الخارجية الإيراني ردّ عليه إن الحديث في الاتفاق الثلاثي الذي جرى التوصل إليه في موسكو "يدور عن الفصائل المصنفة في قرارات مجلس الأمن منظمات إرهابية" (يقصد جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية فقط).

أما في اجتماع وزراء دفاع الدول الثلاث، فقد أشاد وزير الدفاع الإيراني بالتنسيق الروسي - الإيراني الذي تبدّت نتائجه في حلب، ما مثّل تناقضًا واضحًا مع نص البيان الذي أقرّ بعدم وجود حل عسكري للصراع في سورية.

خاتمة
على الرغم من أجواء التفاؤل التي حاولت أن تبثها موسكو من خلال الإعلان عن خريطة الطريق لحل الأزمة السورية، والتي تحاول عبرها ترجمة تدخلها العسكري إلى نفوذ دبلوماسي لتأدية دور راعية عملية سلام، بوصفها دولة عظمى، ما زالت العقبات التي تعترض التوصل إلى الحل المنشود غير متوفرة، بدليل وجود خلافاتٍ كبيرة بين أطراف الاتفاق الثلاثي نفسها. فالأسباب التي حالت دون تطبيق قرارات مجلس الأمن السابقة (خصوصاً القرارين 2118 و2254) والعقبات التي أدت إلى فشل مفاوضات جنيف 2 و3 ما زالت قائمة. كما أن أسئلةً كبرى بحاجة إلى إجاباتٍ عنها، مثل: كيف يمكن إنهاء الصراع إذا ظلت روسيا وإيران مصرّتين على بقاء الأسد بعد كل ما جرى؟ وكيف يمكن الحديث عن حلٍّ في غياب دور عربي؟ وماذا سيكون عليه الموقف الأميركي الذي بدا معزولًا في ظل أخذ الدول الإقليمية الفاعلة في الصراع السوري زمام المبادرة بعيدًا منه؟ وماذا سيكون موقف فصائل المعارضة المسلحة من طروحات الحل التي تركّز على قضية الإرهاب، وتتناسى الأسباب التي أدت بالشعب السوري إلى الثورة والخروج على النظام؟

في غياب إجابات حقيقية عن بعض هذه الأسئلة، أو كلها، يصعب الحديث عن التوصل إلى حل قريب للصراع في سورية؛ ما يعني أن الصراع سيستمر فترةً أطول، ريثما تتوفر عوامل إنهائه بحدها الأدنى. الدول الثلاث المذكورة قادرة على التوصل إلى وقف إطلاق النار، وتوسيع نطاقه ليشمل مناطق أكبر، كما أن دور الوسيط يغري روسيا باتخاذ مسافةٍ، ولو قصيرة، من الإيرانيين، بعد مرحلةٍ من التحالف الكامل والتطابق في المواقف. ففي النهاية، تريد روسيا أيضًا التوصل إلى حل ما في سورية، ولا يمكنها مواصلة القتال إلى الأبد. ولكنّ قوى المعارضة السورية المسلحة وحلفاءها غير قادرين على التأثير وفرض عناصر الحل العادل بحدها الأدنى على من يريد التقدّم نحو الحل. فهذه المهمة تتطلب قدرةً على وضع الإستراتيجيات الموحدة والالتزام بها، وإقناع العالم والشعب السوري ليس فقط بطغيان نظام الأسد ووحشيته، بل أيضًا بوجود بديلٍ قادر على إدارة البلد والحفاظ على وحدته وأمنه، ولم تقدّم الفصائل المسلحة حتى الآن نموذجًا ناجحًا لهذا الغرض.

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٦
إنجاز معركة حلب هدية بوتين إلى ترامب

الثلاثي «الضامن» لتسوية سياسية في شأن سورية تطيح أسس ما يسمى ببيان جنيف ومبادئه وعملية فيينا، هو الثلاثي الميداني في الحرب السورية الذي يعتبر المعادلة العسكرية جاهزة لبدء تقاسم النفوذ واقتسام الكعكة في صفقة ثلاثية غيّبت الولايات المتحدة وأوروبا والدول الخليجية والأمم المتحدة. وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا اجتمعوا هذا الأسبوع في لقاء ما بعد حلب لرسم خريطة طريق سياسية تلغي ما كان تم الاتفاق عليه لعملية انتقالية لهيئة حكم ذات صلاحيات كاملة تنتهي بانتخابات رئاسية. الثلاثي «الضامن» يضمن أكثر ما يضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة كامل الصلاحيات يلبي المطالب الروسية والإيرانية والتركية. تمَّ استبعاد الدول العربية عن المسألة السورية، بالذات الدول الخليجية التي وثقت بعلاقة مميزة مع تركيا. واضح أن تركيا استبدلت هذه العلاقة بانضمامها إلى روسيا وإيران في استراتيجية خبيثة. طورت أنقرة استراتيجية تكريس الأدوار الروسية والإيرانية في سورية، فضمنت لنفسها مقعداً في حلف «الرابحين»، في رأيها، غير آبهة بالتزاماتها ووعودها لدول الخليج. وفّرت تركيا الغطاء السُنّي لموسكو لتهرب من تهمة التحالف الروسي– الشيعي في معركة حلب، إحدى أكبر المدن السنّية العربية. فماذا عن موسكو بعد حلب؟ ماذا عن تركيا بعد الصفقة مع روسيا في شأن حلب والكرد في سورية؟ ماذا عن إيران بعد فوزها بحلب؟ وماذا ستفعل الدول الخليجية والدول الأوروبية والولايات المتحدة بعد حلب؟

استبعاد روسيا وإيران وتركيا الولايات المتحدة من لقاء موسكو يأتي استطراداً لاستبعادها نفسها من ساحة الحرب السورية وتلبية لرغبات إدارة أوباما بالاستبعاد. يأتي هذا اللقاء الثلاثي أيضاً استعداداً لمرحلة دونالد ترامب وتهيئة لأرضية التعامل معه انطلاقاً من التربة السورية.

عنوان تلك المرحلة، وفق اقتناع روسي وإيراني وتركي ومصري، هو «بوتين وترامب»، فلقد نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصوير نفسه أهم شريك للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، على أساس رغبتهما المتبادلة في التعايش معاً والتمتع بفن إبرام الصفقات. إيران قررت أن ركوب القافلة الروسية هو أفضل الطرق إلى البيت الأبيض، فقدّمت نفسها حليفاً استراتيجياً وشريك حرب ميدانياً يصعب على روسيا الاستغناء عنه. مصر رأت في علاقة بوتين وترامب موقع تموضع استراتيجي لها تعززه علاقاتها الاقتصادية الجيدة مع الصين، فركبت الحافلة الروسية في سورية. أما تركيا، فوجدت مصلحتها مكرّرة بأضعاف في القافلة الروسية المتوجهة من حلب إلى البيت الأبيض برسالة تطمئن دونالد ترامب.

أميركا الغائبة طوعاً عن سورية تبدو مهمشة وهزيلة وهي تكتفي بابتسامة وزير الخارجية الضعيف جون كيري ومصافحته نظيره القدير سيرغي لافروف. إدارة أوباما تغادر واشنطن، وحلب تطاردها، فلقد ساهم الرئيس الأميركي المغادر في مأساة سورية الإنسانية عبر امتناعه عن الانخراط، نائياً بالولايات المتحدة عمداً عن سورية، وموفّراً الأرضية لروسيا لتعيد بناء نفوذها في الشرق الأوسط، مكافئاً راديكالية إيران ومباركاً تدخلها العسكري في سورية حتى قبل إبطال قرارات مجلس الأمن التي حظرت عليها أي وجود عسكري خارج حدودها. وللتذكير، إبطال هذه القرارات جاء جزءاً من رزمة التفاهمات مع طهران على الصفقة النووية التي أدت إلى هوس باراك أوباما بإنجازها حتى على حساب القيم الأميركية الأساسية. باراك أوباما يغادر البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة يتأبط ملفّين لهما عنوان الخط الأحمر الذي تراجع الرئيس الأميركي عنه، هما إنذاره في شأن استخدام دمشق السلاح الكيماوي وإعلانه أن على الرئيس السوري بشار الأسد أن يرحل.

الرئيس المنتخب دونالد ترامب بدأ يمارس الرئاسة الأميركية قبل أن يتسلم المنصب رسمياً، فمن أجله أسرع فلاديمير بوتين إلى أقصى استخدام لما يسمى الفترة الضائعة بين إدارتين أميركيتين، فصعّد عسكرياً في حلب، ونسّق سياسياً وعسكرياً مع الدولتين اللتين تشاركت إحداهما معه حليفاً ميدانياً في الحرب السورية، ودخلت الأخرى ساحة الحرب السورية ضمن صفقة معه.

فلاديمير بوتين أراد أن يقدّم إلى دونالد ترامب هدية ثمينة مصنوعة في سورية غلّفها بعنوان القضاء على «داعش» و «جبهة النصرة» وكل من له علاقة بهذا الإرهاب. بوتين قدّم إلى ترامب إنجاز معركة حلب كي لا يرثها الرئيس الجديد في مطلع عهده وكي يريحه منها. بوتين قرر أن صديقه المحبب إليه ترامب لا يستسيغ التعقيدات وإنما يفضل لعبة ذكية عند إبرام الصفقات، لذلك أراد بوتين استكمال «تنظيف» حلب قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.

إنما استراتيجية بوتين لا تقتصر على إجراءات الترحيب بدونالد ترامب رئيساً أميركياً صديقاً له. إنه يتهيّأ للصفقة الكبرى بعدما يثبّت عودة روسيا العظمى إلى الساحة الدولية عبر البوابة السورية.

تأتي الانتصارات الروسية العسكرية في سورية وسط عداء متنامٍ ضد روسيا الجديدة العائدة إلى الشرق الأوسط. فلاديمير بوتين –مهما نفى ومهما غلّف مع تركيا ومصر– يبقى الرئيس الروسي الذي عقد صفقة تحالف استراتيجي مع إيران، بالذات في سورية. فعل ذلك وهو يصيح أنه ضد الإسلام الراديكالي وضد صعود الإسلام إلى السلطة، فتبيّن أنه كان يقصد السُنَّة وليس الشيعة، الذين أتوا بأول جمهورية تفرض الدين على الدولة عبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه ضد الإسلام الراديكالي السُنِّي إنما مع الإسلام الراديكالي الشيعي. هكذا، أعاد فلاديمير بوتين روسيا إلى الشرق الأوسط عبر الباب المذهبي ليساهم جذرياً في تأجيج الصراع السنّي– الشيعي كما سبق أن فعلت إدارات أميركية عدة. لم تأتِ العودة الروسية إلى المنطقة العربية وسط ترحيب وتقدير واحترام لدورها في سورية، وإنما العكس. هذا استثمار روسي محوط بعلامة استفهام كبيرة، لا سيما أن شبح الانتقام سيلازم روسيا.

العلاقة الروسية– الإيرانية ستكون موقع مراقبة وترقّب بعدما كان واضحاً تماماً أن الشراكة الميدانية بينهما في سورية تحالفية بامتياز. وهذه رسالة واضحة للدول الخليجية، التي ترى موسكو أنها على مواقف متباينة في شأن العلاقة معها، كما في شأن إيران. لذلك، حرصت روسيا ودولة الإمارات، مثلاً، على صوغ علاقة ثنائية مميزة على رغم أي اختلاف بينهما في شأن إيران، بل إن العلاقات الروسية– السعودية، مثلاً، لم تتدهور بسبب انحياز روسيا الواضح لمصلحة إيران استراتيجياً وسورياً، وذلك بسبب التعويض عن ذلك في ساحة الحرب اليمنية، حيث روسيا تمتنع عن التدخل أو التعطيل أو التشويش.

أي علاقة ستبرز بين موسكو وطهران بعد حلب؟ ستبقى أسس العلاقة التحالفية الاستراتيجية ثابتة بالتأكيد. إنما سيكون هناك تفاوت في المواقف المبدئية ستضطر روسيا وإيران إلى معالجته، حمايةً للعلاقة التحالفية من الاهتزاز. فروسيا راغبة في إنهاء دورها العسكري المباشر والحيوي في حرب سورية، بينما إيران عازمة على توسيع أدوارها العسكرية في الحرب السورية. روسيا تريد تقوية الجيش النظامي في سورية بصفته ركناً أساسياً للنظام والدولة، أما إيران فإنها تريد تطبيق نموذج «الحرس الثوري» في سورية، كما في العراق، إضعافاً للجيش النظامي في وجه القوات غير النظامية. هذه اختلافات جذرية وليست تجميلية. إنما هذا لا يعني أن التحالف بين روسيا وإيران أصبح هشاً، فعندما يتحوّل قاسم سليماني مزهوّاً بالانتصار في حلب في خضم الإحراج الروسي لن يكون الجنرالات الروس راضين أبداً. لكن صنّاع القرار في روسيا لن يحتجوا علناً، لأنهم يدركون أن إيران عقدت العزم على تحرير الأراضي السورية والعراقية من «داعش» كي تسترجع مشروع «الهلال الفارسي»، ذلك أن تنفيذ هذا المشروع أولوية استراتيجية إيرانية يتم بمعونة روسية وأميركية.

الأولوية التركية مختلفة لأنها تصب في حماية السلطة للرئيس رجب طيب أردوغان. تركيا أقفلت ممرات إيصال السلاح والنفوذ الخليجي إلى سورية بعدما كان ممر العراق أُقفِلَ أيضاً بشراكة أميركية– إيرانية. وضعت أنقرة مصالحها العليا في السلَّة الروسية، وتخلّت -عملياً- عن موقفها الداعي إلى إسقاط بشار الأسد، بل إنها في انتمائها إلى الثلاثي «الضامن» تؤمّن الشرعية للأسد.

روسيا حصلت على الكثير من تركيا في صفقة بوتين وأردوغان، بما في ذلك ربما تخلي أردوغان عن مشروعه الأكبر، وهو إنماء «الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط وآسيا، فالثلاثي الضامن أشار في بياناته وتصريحاته إلى سورية «العلمانية»، المرفوضة تقليدياً من جانب تركيا، وهذا لافت. تحدث الثلاثي عن وحدة أراضي سورية في الوقت الذي تعمل إيران، ميدانياً، على جغرافية النفوذ والتواصل مع «حزب الله» في لبنان، بينما تركيا تعارض قيام كيان كردي في سورية، لا سيما أن قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق بات حتمياً،

فالمنطقة الرمادية في البقعة السورية ما زالت كبيرة، إنما الواضح أن روسيا عقدت العزم على صوغ خريطة طريق عسكرية وسياسية تلغي التفاهمات القديمة وتهيئ الأرضية لشراكة روسية– أميركية جديدة نوعياً تعطي تعبير الصفقة الكبرى معنًى آخر كلياً.

اقرأ المزيد
٢٤ ديسمبر ٢٠١٦
ترامب و الخيار الصعب في سوريا !

تسعى قوات النظام السوري المدعومة من سلاح الجو الروسي و المليشيات الطائفية المساندة له براً الى تصفية كل أشكال المعارضة المعتدلة على طول و عرض الخارطة السورية و ذلك قبيل وصول الرئيس الأمريكي المنتخب حديثاً " دونالد ترامب " الى البيت الأبيض , من حلب شمالاً الى قرى و بلدات وادي بردى جنوباً تستعر نيران الاسد في سباق واضح و جلي مع الزمن لانهاء معاقل المعارضة المعتدلة و ترحيل مقاتليها باتجاه الشمال ليغرقوا في صراعات الفصائل المتشددة .

أيام معدودة ليسدل الستار على وصول الرئيس الأمريكي الجديد الى سدة الحكم , و المعارضة السورية المعتدلة في أسواء حالاتها حيث خسرت في الأشهر القليلة القادمة أبرز معاقلها و التي كان أخرها مدينة حلب و مدن و بلدات الغوطة الغربية و من قبلها مدينتي داريا و المعضمية و قريباً قرى و بلدات وادي بردى ليكون الرئيس الأمريكي امام خيارات لا يحمد عقباها على الشعب السوري , فأما ان يختار تنظيم الدولة الإسلامية "داعش " المسيطر على أجزاء من مدينة دير الزور و مدينة الرقة و حيثاً عاد الى تدمر , او جبهة فتح الشام " جفش " المسيطرة على اجزاء واسعة من مدينة ادلب السورية و ينتشر عدد من مقاتليها في القلمون و ريف درعا و ريف حمص أو نظام الأسد الذي بدء يسيطر على اجزاء واسعة من البلاد خلال الستة أشهر الماضية .

أغلب المناطق السورية التي لطالما اعتبرت حاضنة شعبية لقوات الجيش السوري الحر و فصائل المعارضة المعتدلة باتت شبه خالية من مقاتليها بسبب الضغط الكبير الذي تعرضت لهُ على مدار الستة شهر الماضية ضمن نفس السيناريو المستخدم من قبل قوات النظام المتمثل بالتجويع و القصف و القتل و من ثما الضغط حتى الاستسلام , حلب , التل , خان الشيح , المعضمية ,  داريا , الزبداني و مضايا و غيرهم من المناطق المحيطة بريف دمشق باتت خارج اللعبة لصالح قوات النظام .

المبعوث الاممي الى سوريا "ستيفان دي ميستورا " طالب من خلال مؤتمر صحفي اجراه بالامس  كافة الأطراف للعودة الى طاولة المفاوضات في الثامن من شباط المقبل في  جنيف من أجل التوصل الى حل سياسي يهدف الى ارساء عملية السلام , و حتى ذلك التاريخ و بحسب المؤشرات و المعطيات على الارض فان أغلب مناطق المعارضة المعتدلة المتبقية في ريف دمشق و درعا و ريف حمص  و ريف حماة ستكون تحت سيطرة  قوات النظام في ظل عجز المجتمع الدولي عن وضع حد لهُ و لاجرامه , و عدم قدرة أصدقاء الشعب السوري على حسم قرارهم في ظل تشتت المعارضة  السورية و تشرذمها .

مع تصاعد الحراك العالمي سواء في مجلس الامن او الجمعية العامة لأمم المتحدة ستكون المعارضة السياسية السورية  في موقف ضعف خلال الأشهر القليلة القادمة مع تعويم أي مبادرة لإنهاء الازمة السورية مع الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها القوات المحسوبة عليها  في اغلب مناطقها .

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٦
اندماج سيقضي على سورية

قرّرت فصائل عسكرية الاندماج في جسم عسكري واحد، سيضم إلى جانب جبهة فتح الشام، تنظيم أحرار الشام، وحركة نور الدين زنكي، وأجناد الشام، وجيش السنة، والحزب التركستاني، وفصائل صغيرة. في المقابل، شاع أن هناك مشروعاً لإدماج جيش الإسلام، وصقور الشام، ورايات الإسلام (داريا) وتجمع أهل الشام، وفيلق الشام، والجبهة الشامية، وجيش المجاهدين، تحت مسمى واحد هو "الجيش السوري الحر" الذي سيتبنى علم الثورة رايةً موحّدة له. ويقال أيضاً إن بعض أمراء "فتح الشام" هدّدوا من سيشكلون "الجيش السوري الحر" بالتعامل معهم، وفق ما أسموها "سياسة المتغلب" التي تعني إعلان الحرب، يريدون لنتائجه أن تتيح لهم الانفراد بالعمل العسكري في ما بقي من أرض سورية خارج قبضة الأسد والاحتلال الروسي/ الإيراني.

ثمّة تساؤلات متنوعة حول صحة اندماج "أحرار الشام" في تنظيمٍ واحد مع جبهة النصرة، بعد إسقاط حلب ودور جبهة النصرة فيه، وما كانت تنظيمات عديدة قد تعرّضت له من تدمير على يديها. ويزيد هذه التساؤلات شرعية ما يعيشه التنظيم القاعدي من خلافات، ويبديه قادة الأحرار من تجاهلٍ لقاعدة سياسيةٍ وعسكريةٍ صحيحةٍ هي أن تنظيماً في طور انقسام وتحولٍ، لا يجوز أن يقدم على الاندماج مع تنظيمٍ آخر، يمر بدوره في تحول وانقسام، قد يسوق فئات منه إلى مواقف داعشية، تقف وراء "سياسة المتغلب"، التي يمكن أن تزج الأحرار في حربٍ لا يريدها قطاع واسع فيهم ضد "الجيش السوري الحر"، بما يمكن أن يترتب على ذلك من انهيار عام للوضع الاندماجي والعسكري. فكأن الأحرار لم يتعلموا درس حلب، ولم يدركوا معنى الاقتتال الذي وقع فيها قبل "ملحمة حلب الكبرى" وخلالها، ولعب دوراً خطيراً في إسقاط المدينة، وسيسقط تجدّده ما بقي من مناطق خارج سيطرة النظام، والأحرار أنفسهم.

هذا الجانب من "اندماج" الجبهة والأحرار الذي يرجّح أن تسبقه وتليه صراعاتٌ داخليةٌ شديدة فيهما، يطرح السؤال التالي على الأحرار: إذا كان من المحال بنسبة مائة بالمائة إقامة نظام إسلامي من خلال القوة والتغلب، في سورية، وكان هناك قرار دولي جامع/ مانع بالتصدّي لهذا الاحتمال بالقوة، وكان من المستحيل أن يصمد أي تحالف أو اندماج مع "النصرة" في مواجهة العالم، ناهيك عن إحراز انتصار عليه، وكان لنا عبرة في تجربة حلب، وما تعرّضت له "النصرة" وحلفاؤها من هزيمةٍ ساحقةٍ أنزلت كارثةً حقيقية بشعب المدينة، ما الفائدة المرجوة من اندماجكم الموعود مع "النصرة" غير سحقكم معها، وإنزال كوارث مرعبة بالعدد الكبير جدا من السوريين، العائشين في مدينة إدلب وريفها؟ أليس من الأفضل والأجدى لكم ولسورية الاندماج في "الجيش السوري الحر" الذي تعلمون أنه سيحظى بدعمٍ حقيقي من الشعب الذي انفكّت قطاعاته الواسعة عن "النصرة" وعنكم بعد كارثة حلب، ويرفض ما تعتزمون القيام به، ويريد أن تكونوا في الاندماج الآخر الذي سيرفع علم الثورة، ويلتزم بحرية جميع السوريين ومساواتهم، ويرجح جدا أن يكون مقبولاً من العالم أيضاً، لاتفاق أهدافه مع ما تم إقراره في وثيقة جنيف وقرارات دولية عديدة، في حين سيوحد اندماجكم مع "النصرة" العالم ضد السوريين، بشراً وحقوقاً ودولةً ومجتمعا؟

في المقابل، لا يجوز أن يتجاهل شعبنا ما يُعد له من كوارث، باسم اندماجٍ لن يرى الخير على يديه، يستغل رغبته في توحيد القوى المقاتلة، كي يوحّد من لا يجوز توحيدهم، في حين يجب أن يحل النصرويون تنظيمهم، وينهوا وجوده في سورية، إن كانوا حريصين حقاً على حياة الشعب السوري ومصالحه. مثلما لا يجوز أن يتجاهله أيضا من عطلوا، قبل أسبوعين، ومن دون أي مبرّر، إصدار قرار عن "الائتلاف" يرفع غطاءه السياسي عن "النصرة"، على الرغم من موافقة شبه إجماعية من أعضاء هيئته العامة على هذا القرار.

ثمّة اندماجان مرتقبان، يهدّد أحدهما سورية، دولةً ومجتمعاً، بإجهازه المحتمل على تنظيماتٍ، أبرزها "أحرار الشام". ومع أنني سأكون سعيداً جداً إذا ما اختفت جميع الفصائل، فإنني لا أعتقد أن اندماج بعضها مع "النصرة" سيفضي إلى إقامة كيانٍ مقاومٍ، ملتزم بثورة الحرية وقيمها، وأعتقد جازماً أنه محاولة مكشوفة للالتفاف على دور "النصرة" في كارثة حلب، وما ترتب عليها من رفض سوري لنهجها الذي يرفض اليوم أيضا الثورة، وما يحتّمه انتصارها من وحدةٍ وطنية.

هل من المعقول والمقبول أن يكون رد بعض الفصائل على كارثة حلب رفض تشكيل "جيش سوري حر"، والاندماج في "النصرة"؟.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٦
هل يعاود «الفونيكس الروسي» النهوض حقًا؟

في وقت سابق من الشهر، أحيى الروس الذكرى الـ25 لسقوط الإمبراطورية السوفياتية، ودار حديث كثير حول أن ما يدعي الكثيرون داخل موسكو أنه «فترة انتقالية» أوشكت الآن على نهايتها، بمعنى أنه عام 1992، لم تعد روسيا، التي شكلت القوة الجوهرية داخل الاتحاد السوفياتي، قوة عظمى، لكنها شرعت الآن في استعادة مكانتها بفضل فلاديمير بوتين.

ويدعم أصحاب الادعاء أن «الفونيكس الروسي» يعاود النهوض من بين ركام الإمبراطورية السوفياتية ادعاءهم بالنجاح الذي حققه بوتين في ضم القرم واقتطاع جزء من شرق أوكرانيا وأطلق عليه نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، بجانب ابتلاعه 20 في المائة من مساحة جورجيا، وتحويله إيران إلى دولة عميلة تخدم مصالحه، وصعود روسيا عاملاً محوريًا داخل سوريا التي تمزقها الحرب.

وربما يكون الأهم من ذلك أن مكانة روسيا الجديدة لاقت اعترافًا علنيًا من قبل إدارة أوباما، وبخاصة مع مناقشة وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع «شركائنا الروس» مجموعة متنوعة من القضايا، بدءًا من الاتفاق النووي الزائف مع إيران وصولاً إلى المأساة السورية.
وطالما أن شعار «صعود الفونيكس» لا يرمي إلا لبث الارتياح في صفوف بعض الروس، فإنه لا غضاضة في ذلك، وبخاصة أن الأمم، مثل الأفراد، بحاجة إلى بعض الخيال لإضافة نكهة طيبة إلى الحياة.

بيد أن الخطر يكمن في التعامل مع هذا الادعاء على محمل الجد، الأمر الذي قد يخلف نتائج كارثية على روسيا وباقي العالم. وربما يخدم موسكو إلقاء نظرة متعمقة على حقيقة موقفها الحالي من أجل تجنب الوقوع في الخطأ الكلاسيكي المتمثل في المبالغة في تقدير قوة المرء الذاتية.

في الواقع، إن محاولة تقدير القوة الحقيقية لموسكو شكل تحديًا كبيرًا أمام صانعي السياسات داخل موسكو وعواصم أوروبية منذ عصر الحروب النابليونية على الأقل.

ومع هذا، فإنه من المنظور الجيوسياسي، تبدو نقاط القوة الروسية واضحة، فمن حيث مساحة الأراضي، يمتد الاتحاد الروسي عبر قارتين، ويعتبر الدولة الأكبر على وجه الأرض. ومن حيث السكان، تأتي روسيا في المركز العاشر، خلف بنغلاديش مباشرة.

وفيما يتعلق بالقوة الصلبة، نجد أن روسيا لا يتفوق عليها بين الدول سوى الولايات المتحدة فقط. وتملك روسيا قوة نيران تكفي لتدمير الكوكب عدة مرات.

وفي غضون السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي يعود جزء من الفضل فيه إلى نجاح أوباما في الحيلولة دون اضطلاع الولايات المتحدة بدور قيادي، تمكنت روسيا من استعراض قوتها. وفي الوقت الذي تعمد روسيا فيه إلى استغلال القوة القليلة المتاحة لديها، نجد أميركا تحت قيادة الرئيس أوباما ممنوعة من استغلال ولو جزء يسير من القوة الهائلة التي تتمتع بها.

إلا أنه عند إمعان النظر نجد أن إنزال الهزيمة بالجيش الجورجي الوليد لم يكن بالمهمة الصعبة. كما أن القصف المكثف للمدنيين في حلب الذين ليس بوسعهم الانتقام لأنفسهم، كان مهمة أكثر سهولة.

ومع ذلك، ربما لا يكون الوحش الروسي بهذه القوة الضخمة التي قد يبدو عليها، فمع تراجع معدلات المواليد يبدو المستقبل الديموغرافي لروسيا مظلمًا. وهذا الأمر يحمل أهمية كبيرة؛ لأنه على مر التاريخ كان من العناصر الرئيسية الواجب توافرها في أي إمبراطورية صاعدة تمتعها بهرم ديموغرافي نشط.

إضافة لذلك، يعاني الاقتصاد الروسي من وضع متردٍ، فمع تراجع العائدات النفطية وتنامي تكلفة ضم أراضي جديدة للبلاد والمبالغ الضخمة المطلوبة لتدمير سوريا وإبقاء بشار الأسد في الرئاسة، مع مستوى غير مسبوق من هروب رؤوس الأموال والفساد الهيكلي والعقوبات الغربية وانحسار الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كانت المحصلة النهائية موجة من الانهيار الاقتصادي.

وتبعًا لتقديرات صندوق النقد الدولي لهذا العام، فإن روسيا تأتي في المرتبة الـ17 عالميًا كأكبر اقتصاد بإجمالي ناتج داخلي يقدر بـ1.267 تريليون دولار، في تراجع كبير عن ذروته البالغة 2.2 تريليون دولار عام 2013، عندما كانت أسعار النفط نحو ضعف ما هي عليه الآن.

وعليه، فإن البعض يرى أن بوتين يعمد إلى استعراض القوة بمناطق ضعيفة في محاولة لتشتيت الأنظار بعيدًا عن المشكلات الداخلية التي تعانيها بلاده. ومن بين المؤشرات على ذلك الضجة الضخمة التي أثيرت حول حصول موسكو على توقيع الأسد على اتفاقية تضمن لروسيا استغلال قواعد بحرية وجوية دائمة على امتداد السواحل السورية لمدة 49 عامًا. في المقابل، فإن القليلين داخل موسكو تساءلوا حول ما إذا كان الأسد نفسه سيبقى في الحكم لمدة 49 عامًا من الآن، بل وهل ستبقى سوريا ذاتها في الوجود؟

ربما يؤدي سلوك بوتين إلى تغيير في الرأي العام بدول حلف شمال الأطلسي «ناتو»، وربما حتى في الصين واليابان لاستهلاك مزيد من الأسلحة.

يبلغ متوسط الإنفاق على الأسلحة بدول الناتو 1.25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي من الدول الأعضاء بالحلف، التي يبلغ عددها 28 دولة، وتسعى إدارة ترامب الجديدة إلى زيادة تلك النسبة لتصبح 2 في المائة. إن حدث ذلك، وفي حال حاول بوتين التواؤم مع ذلك في سباق تسلح غير معلن، فسوف يتعين عليه أن يخصص 45 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الروسي لهذا الغرض.

أخر مرة حدث فيها شيء مثل هذا، كان في الاتحاد السوفياتي السابق في عهد ميخائيل غورباتشوف، وكانت النتيجة أن الإمبراطورية انهارت بفعل التناقضات والضغوط التي مارستها على نفسها.

وحتى الآن، فإن الوحدات العسكرية الروسية تتمدد من سواحل النرويج إلى أقصى حدود سيبيريا، في عرض يشبه فيلم «صحراء التتار»، وفي بحث عديم الفائدة عن غزاة من وحي الخيال.

في نفس الوقت، احتلت الصين سيبيريا في هدوء تام، وفي عام 2015، كان يقدر عدد المستوطنين الصينيين بنحو 3.4 مليون نسمة، والعدد في ازدياد. زلة أخرى من زلات بوتين الاستعمارية تمثلت في فشل روسيا في استقطاب أي حلفاء، ناهيك عن فلول النظام البعثي في دمشق، وحتى ملالي إيران رفضوا الدخول في تحالف رسمي مع موسكو، فقد رد بوتين الجميل بأن أبطل مطلبهم الانضمام إلى مجموعة شنغهاي، والمجموعة نادٍ تقوده بكين وموسكو من المفترض أن يحارب الإرهاب.

فرغم أن روسيا ليس لها حلفاء، فإن حلفاء الولايات المتحدة كثر، أغلبهم أو ربما جميعهم جرى تجاهلهم أو معاداتهم خلال فترة حكم أوباما. فباستثناء حلفاء الناتو الـ27، فالولايات المتحدة لها معاهدات عسكرية مختلفة وقعتها مع 46 دولة حول العالم، وقواعد عسكرية في جميع القارات.

فأحلام إمبراطورية بوتين زلة أخرى. فقلة قليلة من الغرباء، باستثناء إدوارد سنودن، يرغبون في الاستقرار في روسيا أو إيداع أموالهم في بنوكها. وعلى النقيض، حتى الآن يهاجر الآلاف من الروس إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية كل عام، ومن لم يهاجر منهم يقوم بإرسال أمواله إلى لندن أو فرانكفورت أو نيويورك، ومؤخرًا إلى قبرص.

لديّ اقتراح، هو أن تترك دول الغرب الديمقراطية الحبل لروسيا حتى نهايته لتشنق نفسها به، فتكلفة إعادة إعمار سوريا تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار، وبناء الإمبراطوريات عادة مقيتة، وباهظة الكلفة في وقتنا الحالي.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٦
العالم و«هولوكست» في إدلب!

لم أفاجأ بما حدث في حلب، فقد حوربت الثورة السورية بضراوة وغيّب مشروعها الوطني في بناء دولة مدنية تحقق لشعبها الحرية والكرامة والديموقراطية أمام سيل من التنظيمات الدينية التي سرعان ما ظهرت بشعارات لا تمت للثورة بصلة، ولكنها اختطفت راياتها وشعاراتها وحاربت كل من نادى بالمشروع الوطني، ولن ننكر أن ساحات الموت كانت بيئة قابلة لفكر ديني حين يواجه الكوارث، ولكن هذا الفكر شكل عبر إدارة خبيثة منعطفاً سهلاً لتعبئة متطرفة داعبت مخيلة الحالمين بخلافة إسلامية أو بإمارة دينية، وهؤلاء الواهمون الحالمون فريقان أحدهما ينفذ مخططاً للتمويه على الثورة وحرف بوصلتها وامتلاك ناصيتها، ليقدم النموذج المشوه للإسلام الحضاري الذي برع أهل الشام في تقديمه منذ قيام دولة بني أمية المدنية، وكثير من التصرفات الغريبة كانت توحي بالقصد العمد، حيث لم تستطع هذه التنظيمات المتطرفة أن تقدم للناس ما يقنعهم فكرياً أوعملياً. وأما ثاني الفريقين، فهو حشد من بسطاء الناس ومن المهمشين الذين ثاروا على ما رأوا من ظلم، وقادتهم تلك التنظيمات عاطفياً تحت لافتة الإسلام، وقدمت لهم الحماية ووسائل العيش حين اشتد ضيقه، وغاب عنهم أن يقرؤوا العالم الذي يعيشون فيه، وأن يفهموا التوازنات الدولية، وقد ظن بعضهم أن العالم سيقبل دولة سُنية دينية كما قبل إيران سابقاً، وهي دولة دينية شيعية يحكمها الولي الفقيه ريثما يظهر الإمام المنتظر، ولم يفهموا وظيفة تلك الدولة رغم أن ملامحها قد باتت شديدة الوضوح، بعد أن تمكنت من لبنان والعراق وسوريا وهي تمد أذرعها في اليمن.

وليس سراً أن النظام وحلفاءه أسهموا بقوة في تنمية المشهد الديني المتطرف للتعمية على مطالب الشعب، وقد أعلن النظام عن قيام إمارة إسلامية قبل أن يطلق سراح المعتقلين من الإسلاميين المتشددين لديه، وكانت أكذوبة استنكرها الشعب كله. ولكن النظام الأمني تمكن من أن يقدم القضية السورية على أنها نظام علماني عصري يواجه منظمات إرهابية، ولم يكن يخطر على بال المتظاهرين في درعا وباقي المحافظات أنهم سيواجهون إيران النووية ومئات الآلاف من متطرفي الشيعة الذين جاؤوا من كل صوب وأسهموا في دفع الناس إلى التشبث بالفكر الديني السني المواجه، ولاسيما حين دخل «حزب الله» إلى القصير برايات ثأرية، جعلت أهل السُنة يتذكرون أنهم (سُنة)، وقد نسوا هذا التصنيف الطائفي وتجاهلوه عبر تاريخهم المعاصر لصالح المشروع الوطني والقومي التحرري، الذي جعلهم يرون في حسن نصر الله قائداً إسلامياً ورمزاً من رموز المقاومة قبل أن تتكشف الحقائق.

واليوم بعد أن تمكنت إيران من غزو حلب وإخراج الآلاف من سكانها واقتلاعهم من بيوتهم يتابع النظام وإيران تجميع المهجرين قسرياً في إدلب، وإعلان موسكو الأخير يتحدث عن وقف إطلاق النار ويستثني إدلب، ولا يتحدث عن حماية المدنيين وهم الضحايا نساء وأطفالاً ومرضى وعجزة، رآهم العالم يهرولون هاربين من الموت الذي يلاحقهم في حلب رغم الوعود بأن لهم معابر آمنة، ومن المتوقع أن يقوم الفرس باجتياح إدلب وارتكاب مجزرة كبرى فيها، وعدد سكان المحافظة اليوم يقارب ثلاثة ملايين نسمة، قد تتم التضحية بهم لإعلان انتصار نهائي على الشعب السوري، وطي ملف الثورة وتمكين نظام الأسد، ورغم دعوة الروس إلى مفاوضات في «أستانة» فإن الحسم العسكري سيبقى سيد الموقف، وأي اتفاق سيكون مجرد إذعان، وليس بوسع قوى المعارضة المعتدلة أن تهزم موسكو وإيران وحشود الميليشيات الطائفية التي يقودها سليماني وتغطي سماءها أعتى الأسلحة الروسية التي خلت لها الساحة الدولية، وبدا المجتمع الدولي عاجزاً عن إيقاف جرائمها ضد الشعب السوري. ندرك أن إيران والنظام لا يريدان حلاً سياسياً، وسيشهد العالم مجزرة كبرى في إدلب، ولئن كان المجتمع الدولي قد اكتفى بالإدانة لما حدث في حلب، فعليه أن يجنب إدلب مصيراً أشد قسوة، ولابد من إيجاد حلول أخرى غير سفك المزيد من الدماء التي ستجعل الحرب مفتوحة تتوارثها الأجيال.

اقرأ المزيد
٢٣ ديسمبر ٢٠١٦
لعنة حلب…

لا يجرّ العنف سوى العنف، ولا يأتي الإرهاب سوى بالمزيد من الإرهاب. لم يكن اغتيال السفير الروسي في أنقرة، أندريه كارلوف، سوى عمل إرهابي يعبّر عن شعور باليأس لدى الكثيرين داخل سوريا وخارجها بعد الإرهاب الذي تعرّض له الآلاف من المواطنين السوريين منذ العام 2011 تحديدا عندما قامت ثورة سلمية في البلد. قُمعت هذه الثورة بالحديد والنار والبراميل المتفجّرة من دون صدور إدانة روسية لهذا الفعل الجبان والمتوحّش في آن. شاركت روسيا في الأعمال الإرهابية التي يتعرّض لها الشعب السوري للأسف الشديد. أدخلت نفسها في دوامة كانت في غنى عنها لا أكثر.

تناوب على قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم النظام نفسه والميليشيات المذهبية التابعة لإيران، وأخيرا سلاح الجوّ الروسي الذي استهدف مدارس ومستشفيات وأحياء مدنية. مثلهم مثل الإيرانيين وأتباعهم، لم يوفّر الروس وسيلة، بما في ذلك استهداف النساء والأطفال والمدنيين من كلّ الأعمار من أجل زرع الرعب في نفوس السوريين، وتهجير أكبر عدد منهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم. كانت روسيا التي تعرّضت بدورها لعمل إرهابي، شريكا في الإرهاب الذي استهدف شعبا لم يطلب سوى استعادة كرامته.

اعتمد الإيرانيون وأتباعهم، والروس لاحقا، الوسائل التي لجأ إليها النظام السوري منذ سنوات طويلة لإخضاع السوريين وإذلالهم. إنّها الوسائل نفسها التي لجأ إليها النظام السوري في لبنان منذ قرّر الهرب من أزماته الداخلية إليه. كلّ مدينة من المدن اللبنانية شاهدة على إرهاب النظام السوري. بيروت وطرابلس وصيدا وزحلة، كلّها شاهدة. الدامور شاهدة أيضا. الأشرفية، وهي جزء من بيروت، شاهدة. كلّ القرى المسيحية القريبة من الحدود اللبنانية ـ السورية شاهدة على ما ارتكبه النظام السوري، من القاع… إلى العيشية. كان الهدف الدائم تهجير المسيحيين من منطقة الحدود إلى الداخل اللبناني، وذلك خدمة لحلف الأقلّيات الذي نادى به النظام العلوي في سوريا دائما.

لن ينقذ الإرهاب النظام السوري من مصيره المحتوم. خرج النظام السوري من لبنان ذليلا بعدما اعتبر أن التخلّص من رفيق الحريري بواسطة شريكه الإيراني سيضمن له البقاء في البلد إلى ما لا نهاية.

لا تبرير من أيّ نوع لاغتيال السفير الروسي. لكنّ هذا النوع من الإرهاب سيزداد في حال بقي الوضع في سوريا على حاله، خصوصا في حلب. ستلاحق لعنة حلب كلّ من مدّ يده على المدينة بهدف تهجير أهلها وخلق واقع جديد يسمح لبشّار الأسد بالكلام عن أنّه “يكتب التاريخ”. أيّ كتابة لأيّ تاريخ باستثناء الاستثمار في الإرهاب وتشجيعه والعمل على تمدّده لتبرير البقاء في السلطة في ظلّ استعمارين روسي وإيراني؟ لا يحسن بشّار الأسد سوى هذا النوع من الكتابة التي يدفعه إليها حقد أعمى على سوريا ولبنان، وعلى اللبنانيين والسوريين.

ليس مفهوما لماذا ارتكبت روسيا كلّ الأخطاء التي كان يمكن تفاديها في الشرق الأوسط. هل سيجعلها اغتيال السفير في أنقرة تتعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، بما في ذلك التورط مع نظام سوري أخذ العرب إلى حرب 1967، أو إلى توريط العرب جميعا في تلك الحرب التي قضت على جمال عبدالناصر بكلّ ما كان يمثّله من حسنات وسيئات لا تحصى.

يضع اغتيال السفير الروسي في أنقرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام واقع يرفض الاعتراف به. يتهرّب من هذا الواقع معتقدا أنّ في الإمكان تجاوزه عن طريق القصف وإخلاء المدن السورية من أهلها، لا لشيء سوى لأنّهم من أهل السنّة الذين وقفوا منذ خمسين سنة في وجه حزب البعث بكلّ ما يمثله من تخلّف، وفي وجه النظام العلوي الذي استخدم البعث للوصول إلى حكم سوريا معتمدا الحديد والنار والإرهاب بكلّ أشكاله وألوانه.

مؤسف أن روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، كانا دائما في خدمة نظام استخدم الإرهاب للسيطرة على سوريا والتحكّم برقاب السوريين.

مرّة أخرى، لا سبب يدعو إلى تبرير اغتيال السفير الروسي في أنقرة. هذا عمل إرهابي مدان بكلّ المقاييس والأشكال. خسرت روسيا سفيرها. هل يمكن أن تستفيد من تلك التجربة القاسية من منطلق أنّ الاستثمار في الإرهاب لا يمكن أن يقضي على الإرهاب. ما فعلته روسيا في سوريا، خصوصا في حلب، هو ممارسة للإرهاب ستدفع إلى المزيد من ردود الفعل من نوع اغتيال السفير كارلوف. دفع الرجل من حياته ثمنا لسياسة روسية قامت على اعتبار النظام السوري في حرب مع الإرهاب. هذه كذبة كبيرة لا أكثر، لا يصدّقها سوى ساذج أو من يمتلك نيّات سيئة. هل فلاديمير بوتين ساذج أم إنّه من ذوي النيّات السيئة؟ الأكيد أنّه ليس ساذجا بأيّ شكل. على العكس من ذلك، عرف، تماما، كيف يستغل نقاط الضعف لدى إدارة باراك أوباما وتوظيفها لمصلحته. ولكن إلى أين أوصله ذلك؟ لم يوصله سوى إلى اغتيال سفيره في أنقرة. هذه بداية وليست نهاية. يفترض في مثل هذه البداية أن تدعو الرئيس الروسي إلى التعقّل وإعادة النظر في حساباته السورية.

قبل كلّ شيء، إن سوريا ليست غروزني التي دمّرها فلاديمير بوتين على رؤوس أهلها. سوريا جزء من العالم العربي وهي تشكّل نقطة توازن في هذا العالم. من يسعى إلى اتباع سياسة تقوم على قهر السوريين وإبقائهم تحت حكم بشّار الأسد، إنما يعادي العالم العربي كلّه. لا يمكن البناء على نظام سوري مرفوض من الأكثرية الساحقة من شعبه بغية تحويل سوريا منطقة نفوذ روسية. على العكس من ذلك، يمكن لروسيا استعادة تعاطف السوريين في حال لعبت دورا في التخلص من نظام لا مستقبل له، لا داخليا ولا إقليميا. استنفد هذا النظام الهدف الذي وجد من أجله. دمّر سوريا على أبنائها. هجّر السوريين من سوريا ودمّر المدن الكبيرة فيها. كل ذلك لا يمكن أن يبقيه في السلطة، تماما مثلما أن تدميره للبنان وتهجيره مسيحيي الأطراف ومحاربته السنّة في المدن الكبيرة، ثمّ تغطيته لاغتيال رفيق الحريري لم يحل دون انسحابه، في نهاية المطاف، من الأراضي اللبنانية.

ستبقى سوريا تقاوم، مهما فعلت إيران ومهما اشترت من الأرض السورية ومهما أرسلت مستوطنين إلى دمشق ومحيطها وإلى مناطق أخرى. عاجلا أم آجلا سيرحل النظام السوري. لدى فلاديمير بوتين فرصة لا تعوّض لإعادة النظر في موقفه من سوريا والسوريين. لن ينفع إرهابه لا في حلب، ولا في غير حلب. الإرهاب لن يجرّ سوى المزيد من الإرهاب مهما بلغت درجة التعاون والتنسيق مع تركيا وإيران. كلّما تعقّلت موسكو في سوريا واقتنعت أن النظام جزء لا يتجزّأ من الإرهاب، كلما ساعد ذلك في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا. مثل هذا التعقّل لا يمكن إلا أن ينعكس إيجابا على العلاقات الروسية ـ العربية.

ما حدث في أنقرة ليس مجرّد اغتيال لسفير على يد مجرم تحرّكه الغريزة المذهبية. ما حدث كان أبعد من ذلك بكثير. إنّه مؤشر لما ينتظر المنطقة في حال لم يحصل تغيير في السياسة الروسية، وهو تغيير سيصبّ في مصلحة هذا البلد، الطامح إلى دور يفوق حجمه وقدراته، في المدى الطويل.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
١٣ يونيو ٢٠٢٥
موقع سوريا في مواجهة إقليمية محتملة بين إسرائيل وإيران: حسابات دمشق الجديدة
فريق العمل