الثلاثي «الضامن» لتسوية سياسية في شأن سورية تطيح أسس ما يسمى ببيان جنيف ومبادئه وعملية فيينا، هو الثلاثي الميداني في الحرب السورية الذي يعتبر المعادلة العسكرية جاهزة لبدء تقاسم النفوذ واقتسام الكعكة في صفقة ثلاثية غيّبت الولايات المتحدة وأوروبا والدول الخليجية والأمم المتحدة. وزراء خارجية ودفاع روسيا وإيران وتركيا اجتمعوا هذا الأسبوع في لقاء ما بعد حلب لرسم خريطة طريق سياسية تلغي ما كان تم الاتفاق عليه لعملية انتقالية لهيئة حكم ذات صلاحيات كاملة تنتهي بانتخابات رئاسية. الثلاثي «الضامن» يضمن أكثر ما يضمن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة كامل الصلاحيات يلبي المطالب الروسية والإيرانية والتركية. تمَّ استبعاد الدول العربية عن المسألة السورية، بالذات الدول الخليجية التي وثقت بعلاقة مميزة مع تركيا. واضح أن تركيا استبدلت هذه العلاقة بانضمامها إلى روسيا وإيران في استراتيجية خبيثة. طورت أنقرة استراتيجية تكريس الأدوار الروسية والإيرانية في سورية، فضمنت لنفسها مقعداً في حلف «الرابحين»، في رأيها، غير آبهة بالتزاماتها ووعودها لدول الخليج. وفّرت تركيا الغطاء السُنّي لموسكو لتهرب من تهمة التحالف الروسي– الشيعي في معركة حلب، إحدى أكبر المدن السنّية العربية. فماذا عن موسكو بعد حلب؟ ماذا عن تركيا بعد الصفقة مع روسيا في شأن حلب والكرد في سورية؟ ماذا عن إيران بعد فوزها بحلب؟ وماذا ستفعل الدول الخليجية والدول الأوروبية والولايات المتحدة بعد حلب؟
استبعاد روسيا وإيران وتركيا الولايات المتحدة من لقاء موسكو يأتي استطراداً لاستبعادها نفسها من ساحة الحرب السورية وتلبية لرغبات إدارة أوباما بالاستبعاد. يأتي هذا اللقاء الثلاثي أيضاً استعداداً لمرحلة دونالد ترامب وتهيئة لأرضية التعامل معه انطلاقاً من التربة السورية.
عنوان تلك المرحلة، وفق اقتناع روسي وإيراني وتركي ومصري، هو «بوتين وترامب»، فلقد نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصوير نفسه أهم شريك للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، على أساس رغبتهما المتبادلة في التعايش معاً والتمتع بفن إبرام الصفقات. إيران قررت أن ركوب القافلة الروسية هو أفضل الطرق إلى البيت الأبيض، فقدّمت نفسها حليفاً استراتيجياً وشريك حرب ميدانياً يصعب على روسيا الاستغناء عنه. مصر رأت في علاقة بوتين وترامب موقع تموضع استراتيجي لها تعززه علاقاتها الاقتصادية الجيدة مع الصين، فركبت الحافلة الروسية في سورية. أما تركيا، فوجدت مصلحتها مكرّرة بأضعاف في القافلة الروسية المتوجهة من حلب إلى البيت الأبيض برسالة تطمئن دونالد ترامب.
أميركا الغائبة طوعاً عن سورية تبدو مهمشة وهزيلة وهي تكتفي بابتسامة وزير الخارجية الضعيف جون كيري ومصافحته نظيره القدير سيرغي لافروف. إدارة أوباما تغادر واشنطن، وحلب تطاردها، فلقد ساهم الرئيس الأميركي المغادر في مأساة سورية الإنسانية عبر امتناعه عن الانخراط، نائياً بالولايات المتحدة عمداً عن سورية، وموفّراً الأرضية لروسيا لتعيد بناء نفوذها في الشرق الأوسط، مكافئاً راديكالية إيران ومباركاً تدخلها العسكري في سورية حتى قبل إبطال قرارات مجلس الأمن التي حظرت عليها أي وجود عسكري خارج حدودها. وللتذكير، إبطال هذه القرارات جاء جزءاً من رزمة التفاهمات مع طهران على الصفقة النووية التي أدت إلى هوس باراك أوباما بإنجازها حتى على حساب القيم الأميركية الأساسية. باراك أوباما يغادر البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة يتأبط ملفّين لهما عنوان الخط الأحمر الذي تراجع الرئيس الأميركي عنه، هما إنذاره في شأن استخدام دمشق السلاح الكيماوي وإعلانه أن على الرئيس السوري بشار الأسد أن يرحل.
الرئيس المنتخب دونالد ترامب بدأ يمارس الرئاسة الأميركية قبل أن يتسلم المنصب رسمياً، فمن أجله أسرع فلاديمير بوتين إلى أقصى استخدام لما يسمى الفترة الضائعة بين إدارتين أميركيتين، فصعّد عسكرياً في حلب، ونسّق سياسياً وعسكرياً مع الدولتين اللتين تشاركت إحداهما معه حليفاً ميدانياً في الحرب السورية، ودخلت الأخرى ساحة الحرب السورية ضمن صفقة معه.
فلاديمير بوتين أراد أن يقدّم إلى دونالد ترامب هدية ثمينة مصنوعة في سورية غلّفها بعنوان القضاء على «داعش» و «جبهة النصرة» وكل من له علاقة بهذا الإرهاب. بوتين قدّم إلى ترامب إنجاز معركة حلب كي لا يرثها الرئيس الجديد في مطلع عهده وكي يريحه منها. بوتين قرر أن صديقه المحبب إليه ترامب لا يستسيغ التعقيدات وإنما يفضل لعبة ذكية عند إبرام الصفقات، لذلك أراد بوتين استكمال «تنظيف» حلب قبل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض.
إنما استراتيجية بوتين لا تقتصر على إجراءات الترحيب بدونالد ترامب رئيساً أميركياً صديقاً له. إنه يتهيّأ للصفقة الكبرى بعدما يثبّت عودة روسيا العظمى إلى الساحة الدولية عبر البوابة السورية.
تأتي الانتصارات الروسية العسكرية في سورية وسط عداء متنامٍ ضد روسيا الجديدة العائدة إلى الشرق الأوسط. فلاديمير بوتين –مهما نفى ومهما غلّف مع تركيا ومصر– يبقى الرئيس الروسي الذي عقد صفقة تحالف استراتيجي مع إيران، بالذات في سورية. فعل ذلك وهو يصيح أنه ضد الإسلام الراديكالي وضد صعود الإسلام إلى السلطة، فتبيّن أنه كان يقصد السُنَّة وليس الشيعة، الذين أتوا بأول جمهورية تفرض الدين على الدولة عبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنه ضد الإسلام الراديكالي السُنِّي إنما مع الإسلام الراديكالي الشيعي. هكذا، أعاد فلاديمير بوتين روسيا إلى الشرق الأوسط عبر الباب المذهبي ليساهم جذرياً في تأجيج الصراع السنّي– الشيعي كما سبق أن فعلت إدارات أميركية عدة. لم تأتِ العودة الروسية إلى المنطقة العربية وسط ترحيب وتقدير واحترام لدورها في سورية، وإنما العكس. هذا استثمار روسي محوط بعلامة استفهام كبيرة، لا سيما أن شبح الانتقام سيلازم روسيا.
العلاقة الروسية– الإيرانية ستكون موقع مراقبة وترقّب بعدما كان واضحاً تماماً أن الشراكة الميدانية بينهما في سورية تحالفية بامتياز. وهذه رسالة واضحة للدول الخليجية، التي ترى موسكو أنها على مواقف متباينة في شأن العلاقة معها، كما في شأن إيران. لذلك، حرصت روسيا ودولة الإمارات، مثلاً، على صوغ علاقة ثنائية مميزة على رغم أي اختلاف بينهما في شأن إيران، بل إن العلاقات الروسية– السعودية، مثلاً، لم تتدهور بسبب انحياز روسيا الواضح لمصلحة إيران استراتيجياً وسورياً، وذلك بسبب التعويض عن ذلك في ساحة الحرب اليمنية، حيث روسيا تمتنع عن التدخل أو التعطيل أو التشويش.
أي علاقة ستبرز بين موسكو وطهران بعد حلب؟ ستبقى أسس العلاقة التحالفية الاستراتيجية ثابتة بالتأكيد. إنما سيكون هناك تفاوت في المواقف المبدئية ستضطر روسيا وإيران إلى معالجته، حمايةً للعلاقة التحالفية من الاهتزاز. فروسيا راغبة في إنهاء دورها العسكري المباشر والحيوي في حرب سورية، بينما إيران عازمة على توسيع أدوارها العسكرية في الحرب السورية. روسيا تريد تقوية الجيش النظامي في سورية بصفته ركناً أساسياً للنظام والدولة، أما إيران فإنها تريد تطبيق نموذج «الحرس الثوري» في سورية، كما في العراق، إضعافاً للجيش النظامي في وجه القوات غير النظامية. هذه اختلافات جذرية وليست تجميلية. إنما هذا لا يعني أن التحالف بين روسيا وإيران أصبح هشاً، فعندما يتحوّل قاسم سليماني مزهوّاً بالانتصار في حلب في خضم الإحراج الروسي لن يكون الجنرالات الروس راضين أبداً. لكن صنّاع القرار في روسيا لن يحتجوا علناً، لأنهم يدركون أن إيران عقدت العزم على تحرير الأراضي السورية والعراقية من «داعش» كي تسترجع مشروع «الهلال الفارسي»، ذلك أن تنفيذ هذا المشروع أولوية استراتيجية إيرانية يتم بمعونة روسية وأميركية.
الأولوية التركية مختلفة لأنها تصب في حماية السلطة للرئيس رجب طيب أردوغان. تركيا أقفلت ممرات إيصال السلاح والنفوذ الخليجي إلى سورية بعدما كان ممر العراق أُقفِلَ أيضاً بشراكة أميركية– إيرانية. وضعت أنقرة مصالحها العليا في السلَّة الروسية، وتخلّت -عملياً- عن موقفها الداعي إلى إسقاط بشار الأسد، بل إنها في انتمائها إلى الثلاثي «الضامن» تؤمّن الشرعية للأسد.
روسيا حصلت على الكثير من تركيا في صفقة بوتين وأردوغان، بما في ذلك ربما تخلي أردوغان عن مشروعه الأكبر، وهو إنماء «الإخوان المسلمين» في الشرق الأوسط وآسيا، فالثلاثي الضامن أشار في بياناته وتصريحاته إلى سورية «العلمانية»، المرفوضة تقليدياً من جانب تركيا، وهذا لافت. تحدث الثلاثي عن وحدة أراضي سورية في الوقت الذي تعمل إيران، ميدانياً، على جغرافية النفوذ والتواصل مع «حزب الله» في لبنان، بينما تركيا تعارض قيام كيان كردي في سورية، لا سيما أن قيام الدولة الكردية المستقلة في العراق بات حتمياً،
فالمنطقة الرمادية في البقعة السورية ما زالت كبيرة، إنما الواضح أن روسيا عقدت العزم على صوغ خريطة طريق عسكرية وسياسية تلغي التفاهمات القديمة وتهيئ الأرضية لشراكة روسية– أميركية جديدة نوعياً تعطي تعبير الصفقة الكبرى معنًى آخر كلياً.
تسعى قوات النظام السوري المدعومة من سلاح الجو الروسي و المليشيات الطائفية المساندة له براً الى تصفية كل أشكال المعارضة المعتدلة على طول و عرض الخارطة السورية و ذلك قبيل وصول الرئيس الأمريكي المنتخب حديثاً " دونالد ترامب " الى البيت الأبيض , من حلب شمالاً الى قرى و بلدات وادي بردى جنوباً تستعر نيران الاسد في سباق واضح و جلي مع الزمن لانهاء معاقل المعارضة المعتدلة و ترحيل مقاتليها باتجاه الشمال ليغرقوا في صراعات الفصائل المتشددة .
أيام معدودة ليسدل الستار على وصول الرئيس الأمريكي الجديد الى سدة الحكم , و المعارضة السورية المعتدلة في أسواء حالاتها حيث خسرت في الأشهر القليلة القادمة أبرز معاقلها و التي كان أخرها مدينة حلب و مدن و بلدات الغوطة الغربية و من قبلها مدينتي داريا و المعضمية و قريباً قرى و بلدات وادي بردى ليكون الرئيس الأمريكي امام خيارات لا يحمد عقباها على الشعب السوري , فأما ان يختار تنظيم الدولة الإسلامية "داعش " المسيطر على أجزاء من مدينة دير الزور و مدينة الرقة و حيثاً عاد الى تدمر , او جبهة فتح الشام " جفش " المسيطرة على اجزاء واسعة من مدينة ادلب السورية و ينتشر عدد من مقاتليها في القلمون و ريف درعا و ريف حمص أو نظام الأسد الذي بدء يسيطر على اجزاء واسعة من البلاد خلال الستة أشهر الماضية .
أغلب المناطق السورية التي لطالما اعتبرت حاضنة شعبية لقوات الجيش السوري الحر و فصائل المعارضة المعتدلة باتت شبه خالية من مقاتليها بسبب الضغط الكبير الذي تعرضت لهُ على مدار الستة شهر الماضية ضمن نفس السيناريو المستخدم من قبل قوات النظام المتمثل بالتجويع و القصف و القتل و من ثما الضغط حتى الاستسلام , حلب , التل , خان الشيح , المعضمية , داريا , الزبداني و مضايا و غيرهم من المناطق المحيطة بريف دمشق باتت خارج اللعبة لصالح قوات النظام .
المبعوث الاممي الى سوريا "ستيفان دي ميستورا " طالب من خلال مؤتمر صحفي اجراه بالامس كافة الأطراف للعودة الى طاولة المفاوضات في الثامن من شباط المقبل في جنيف من أجل التوصل الى حل سياسي يهدف الى ارساء عملية السلام , و حتى ذلك التاريخ و بحسب المؤشرات و المعطيات على الارض فان أغلب مناطق المعارضة المعتدلة المتبقية في ريف دمشق و درعا و ريف حمص و ريف حماة ستكون تحت سيطرة قوات النظام في ظل عجز المجتمع الدولي عن وضع حد لهُ و لاجرامه , و عدم قدرة أصدقاء الشعب السوري على حسم قرارهم في ظل تشتت المعارضة السورية و تشرذمها .
مع تصاعد الحراك العالمي سواء في مجلس الامن او الجمعية العامة لأمم المتحدة ستكون المعارضة السياسية السورية في موقف ضعف خلال الأشهر القليلة القادمة مع تعويم أي مبادرة لإنهاء الازمة السورية مع الخسائر الكبيرة التي تتعرض لها القوات المحسوبة عليها في اغلب مناطقها .
قرّرت فصائل عسكرية الاندماج في جسم عسكري واحد، سيضم إلى جانب جبهة فتح الشام، تنظيم أحرار الشام، وحركة نور الدين زنكي، وأجناد الشام، وجيش السنة، والحزب التركستاني، وفصائل صغيرة. في المقابل، شاع أن هناك مشروعاً لإدماج جيش الإسلام، وصقور الشام، ورايات الإسلام (داريا) وتجمع أهل الشام، وفيلق الشام، والجبهة الشامية، وجيش المجاهدين، تحت مسمى واحد هو "الجيش السوري الحر" الذي سيتبنى علم الثورة رايةً موحّدة له. ويقال أيضاً إن بعض أمراء "فتح الشام" هدّدوا من سيشكلون "الجيش السوري الحر" بالتعامل معهم، وفق ما أسموها "سياسة المتغلب" التي تعني إعلان الحرب، يريدون لنتائجه أن تتيح لهم الانفراد بالعمل العسكري في ما بقي من أرض سورية خارج قبضة الأسد والاحتلال الروسي/ الإيراني.
ثمّة تساؤلات متنوعة حول صحة اندماج "أحرار الشام" في تنظيمٍ واحد مع جبهة النصرة، بعد إسقاط حلب ودور جبهة النصرة فيه، وما كانت تنظيمات عديدة قد تعرّضت له من تدمير على يديها. ويزيد هذه التساؤلات شرعية ما يعيشه التنظيم القاعدي من خلافات، ويبديه قادة الأحرار من تجاهلٍ لقاعدة سياسيةٍ وعسكريةٍ صحيحةٍ هي أن تنظيماً في طور انقسام وتحولٍ، لا يجوز أن يقدم على الاندماج مع تنظيمٍ آخر، يمر بدوره في تحول وانقسام، قد يسوق فئات منه إلى مواقف داعشية، تقف وراء "سياسة المتغلب"، التي يمكن أن تزج الأحرار في حربٍ لا يريدها قطاع واسع فيهم ضد "الجيش السوري الحر"، بما يمكن أن يترتب على ذلك من انهيار عام للوضع الاندماجي والعسكري. فكأن الأحرار لم يتعلموا درس حلب، ولم يدركوا معنى الاقتتال الذي وقع فيها قبل "ملحمة حلب الكبرى" وخلالها، ولعب دوراً خطيراً في إسقاط المدينة، وسيسقط تجدّده ما بقي من مناطق خارج سيطرة النظام، والأحرار أنفسهم.
هذا الجانب من "اندماج" الجبهة والأحرار الذي يرجّح أن تسبقه وتليه صراعاتٌ داخليةٌ شديدة فيهما، يطرح السؤال التالي على الأحرار: إذا كان من المحال بنسبة مائة بالمائة إقامة نظام إسلامي من خلال القوة والتغلب، في سورية، وكان هناك قرار دولي جامع/ مانع بالتصدّي لهذا الاحتمال بالقوة، وكان من المستحيل أن يصمد أي تحالف أو اندماج مع "النصرة" في مواجهة العالم، ناهيك عن إحراز انتصار عليه، وكان لنا عبرة في تجربة حلب، وما تعرّضت له "النصرة" وحلفاؤها من هزيمةٍ ساحقةٍ أنزلت كارثةً حقيقية بشعب المدينة، ما الفائدة المرجوة من اندماجكم الموعود مع "النصرة" غير سحقكم معها، وإنزال كوارث مرعبة بالعدد الكبير جدا من السوريين، العائشين في مدينة إدلب وريفها؟ أليس من الأفضل والأجدى لكم ولسورية الاندماج في "الجيش السوري الحر" الذي تعلمون أنه سيحظى بدعمٍ حقيقي من الشعب الذي انفكّت قطاعاته الواسعة عن "النصرة" وعنكم بعد كارثة حلب، ويرفض ما تعتزمون القيام به، ويريد أن تكونوا في الاندماج الآخر الذي سيرفع علم الثورة، ويلتزم بحرية جميع السوريين ومساواتهم، ويرجح جدا أن يكون مقبولاً من العالم أيضاً، لاتفاق أهدافه مع ما تم إقراره في وثيقة جنيف وقرارات دولية عديدة، في حين سيوحد اندماجكم مع "النصرة" العالم ضد السوريين، بشراً وحقوقاً ودولةً ومجتمعا؟
في المقابل، لا يجوز أن يتجاهل شعبنا ما يُعد له من كوارث، باسم اندماجٍ لن يرى الخير على يديه، يستغل رغبته في توحيد القوى المقاتلة، كي يوحّد من لا يجوز توحيدهم، في حين يجب أن يحل النصرويون تنظيمهم، وينهوا وجوده في سورية، إن كانوا حريصين حقاً على حياة الشعب السوري ومصالحه. مثلما لا يجوز أن يتجاهله أيضا من عطلوا، قبل أسبوعين، ومن دون أي مبرّر، إصدار قرار عن "الائتلاف" يرفع غطاءه السياسي عن "النصرة"، على الرغم من موافقة شبه إجماعية من أعضاء هيئته العامة على هذا القرار.
ثمّة اندماجان مرتقبان، يهدّد أحدهما سورية، دولةً ومجتمعاً، بإجهازه المحتمل على تنظيماتٍ، أبرزها "أحرار الشام". ومع أنني سأكون سعيداً جداً إذا ما اختفت جميع الفصائل، فإنني لا أعتقد أن اندماج بعضها مع "النصرة" سيفضي إلى إقامة كيانٍ مقاومٍ، ملتزم بثورة الحرية وقيمها، وأعتقد جازماً أنه محاولة مكشوفة للالتفاف على دور "النصرة" في كارثة حلب، وما ترتب عليها من رفض سوري لنهجها الذي يرفض اليوم أيضا الثورة، وما يحتّمه انتصارها من وحدةٍ وطنية.
هل من المعقول والمقبول أن يكون رد بعض الفصائل على كارثة حلب رفض تشكيل "جيش سوري حر"، والاندماج في "النصرة"؟.
في وقت سابق من الشهر، أحيى الروس الذكرى الـ25 لسقوط الإمبراطورية السوفياتية، ودار حديث كثير حول أن ما يدعي الكثيرون داخل موسكو أنه «فترة انتقالية» أوشكت الآن على نهايتها، بمعنى أنه عام 1992، لم تعد روسيا، التي شكلت القوة الجوهرية داخل الاتحاد السوفياتي، قوة عظمى، لكنها شرعت الآن في استعادة مكانتها بفضل فلاديمير بوتين.
ويدعم أصحاب الادعاء أن «الفونيكس الروسي» يعاود النهوض من بين ركام الإمبراطورية السوفياتية ادعاءهم بالنجاح الذي حققه بوتين في ضم القرم واقتطاع جزء من شرق أوكرانيا وأطلق عليه نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، بجانب ابتلاعه 20 في المائة من مساحة جورجيا، وتحويله إيران إلى دولة عميلة تخدم مصالحه، وصعود روسيا عاملاً محوريًا داخل سوريا التي تمزقها الحرب.
وربما يكون الأهم من ذلك أن مكانة روسيا الجديدة لاقت اعترافًا علنيًا من قبل إدارة أوباما، وبخاصة مع مناقشة وزير الخارجية الأميركي جون كيري مع «شركائنا الروس» مجموعة متنوعة من القضايا، بدءًا من الاتفاق النووي الزائف مع إيران وصولاً إلى المأساة السورية.
وطالما أن شعار «صعود الفونيكس» لا يرمي إلا لبث الارتياح في صفوف بعض الروس، فإنه لا غضاضة في ذلك، وبخاصة أن الأمم، مثل الأفراد، بحاجة إلى بعض الخيال لإضافة نكهة طيبة إلى الحياة.
بيد أن الخطر يكمن في التعامل مع هذا الادعاء على محمل الجد، الأمر الذي قد يخلف نتائج كارثية على روسيا وباقي العالم. وربما يخدم موسكو إلقاء نظرة متعمقة على حقيقة موقفها الحالي من أجل تجنب الوقوع في الخطأ الكلاسيكي المتمثل في المبالغة في تقدير قوة المرء الذاتية.
في الواقع، إن محاولة تقدير القوة الحقيقية لموسكو شكل تحديًا كبيرًا أمام صانعي السياسات داخل موسكو وعواصم أوروبية منذ عصر الحروب النابليونية على الأقل.
ومع هذا، فإنه من المنظور الجيوسياسي، تبدو نقاط القوة الروسية واضحة، فمن حيث مساحة الأراضي، يمتد الاتحاد الروسي عبر قارتين، ويعتبر الدولة الأكبر على وجه الأرض. ومن حيث السكان، تأتي روسيا في المركز العاشر، خلف بنغلاديش مباشرة.
وفيما يتعلق بالقوة الصلبة، نجد أن روسيا لا يتفوق عليها بين الدول سوى الولايات المتحدة فقط. وتملك روسيا قوة نيران تكفي لتدمير الكوكب عدة مرات.
وفي غضون السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي يعود جزء من الفضل فيه إلى نجاح أوباما في الحيلولة دون اضطلاع الولايات المتحدة بدور قيادي، تمكنت روسيا من استعراض قوتها. وفي الوقت الذي تعمد روسيا فيه إلى استغلال القوة القليلة المتاحة لديها، نجد أميركا تحت قيادة الرئيس أوباما ممنوعة من استغلال ولو جزء يسير من القوة الهائلة التي تتمتع بها.
إلا أنه عند إمعان النظر نجد أن إنزال الهزيمة بالجيش الجورجي الوليد لم يكن بالمهمة الصعبة. كما أن القصف المكثف للمدنيين في حلب الذين ليس بوسعهم الانتقام لأنفسهم، كان مهمة أكثر سهولة.
ومع ذلك، ربما لا يكون الوحش الروسي بهذه القوة الضخمة التي قد يبدو عليها، فمع تراجع معدلات المواليد يبدو المستقبل الديموغرافي لروسيا مظلمًا. وهذا الأمر يحمل أهمية كبيرة؛ لأنه على مر التاريخ كان من العناصر الرئيسية الواجب توافرها في أي إمبراطورية صاعدة تمتعها بهرم ديموغرافي نشط.
إضافة لذلك، يعاني الاقتصاد الروسي من وضع متردٍ، فمع تراجع العائدات النفطية وتنامي تكلفة ضم أراضي جديدة للبلاد والمبالغ الضخمة المطلوبة لتدمير سوريا وإبقاء بشار الأسد في الرئاسة، مع مستوى غير مسبوق من هروب رؤوس الأموال والفساد الهيكلي والعقوبات الغربية وانحسار الاستثمارات الأجنبية المباشرة، كانت المحصلة النهائية موجة من الانهيار الاقتصادي.
وتبعًا لتقديرات صندوق النقد الدولي لهذا العام، فإن روسيا تأتي في المرتبة الـ17 عالميًا كأكبر اقتصاد بإجمالي ناتج داخلي يقدر بـ1.267 تريليون دولار، في تراجع كبير عن ذروته البالغة 2.2 تريليون دولار عام 2013، عندما كانت أسعار النفط نحو ضعف ما هي عليه الآن.
وعليه، فإن البعض يرى أن بوتين يعمد إلى استعراض القوة بمناطق ضعيفة في محاولة لتشتيت الأنظار بعيدًا عن المشكلات الداخلية التي تعانيها بلاده. ومن بين المؤشرات على ذلك الضجة الضخمة التي أثيرت حول حصول موسكو على توقيع الأسد على اتفاقية تضمن لروسيا استغلال قواعد بحرية وجوية دائمة على امتداد السواحل السورية لمدة 49 عامًا. في المقابل، فإن القليلين داخل موسكو تساءلوا حول ما إذا كان الأسد نفسه سيبقى في الحكم لمدة 49 عامًا من الآن، بل وهل ستبقى سوريا ذاتها في الوجود؟
ربما يؤدي سلوك بوتين إلى تغيير في الرأي العام بدول حلف شمال الأطلسي «ناتو»، وربما حتى في الصين واليابان لاستهلاك مزيد من الأسلحة.
يبلغ متوسط الإنفاق على الأسلحة بدول الناتو 1.25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي من الدول الأعضاء بالحلف، التي يبلغ عددها 28 دولة، وتسعى إدارة ترامب الجديدة إلى زيادة تلك النسبة لتصبح 2 في المائة. إن حدث ذلك، وفي حال حاول بوتين التواؤم مع ذلك في سباق تسلح غير معلن، فسوف يتعين عليه أن يخصص 45 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الروسي لهذا الغرض.
أخر مرة حدث فيها شيء مثل هذا، كان في الاتحاد السوفياتي السابق في عهد ميخائيل غورباتشوف، وكانت النتيجة أن الإمبراطورية انهارت بفعل التناقضات والضغوط التي مارستها على نفسها.
وحتى الآن، فإن الوحدات العسكرية الروسية تتمدد من سواحل النرويج إلى أقصى حدود سيبيريا، في عرض يشبه فيلم «صحراء التتار»، وفي بحث عديم الفائدة عن غزاة من وحي الخيال.
في نفس الوقت، احتلت الصين سيبيريا في هدوء تام، وفي عام 2015، كان يقدر عدد المستوطنين الصينيين بنحو 3.4 مليون نسمة، والعدد في ازدياد. زلة أخرى من زلات بوتين الاستعمارية تمثلت في فشل روسيا في استقطاب أي حلفاء، ناهيك عن فلول النظام البعثي في دمشق، وحتى ملالي إيران رفضوا الدخول في تحالف رسمي مع موسكو، فقد رد بوتين الجميل بأن أبطل مطلبهم الانضمام إلى مجموعة شنغهاي، والمجموعة نادٍ تقوده بكين وموسكو من المفترض أن يحارب الإرهاب.
فرغم أن روسيا ليس لها حلفاء، فإن حلفاء الولايات المتحدة كثر، أغلبهم أو ربما جميعهم جرى تجاهلهم أو معاداتهم خلال فترة حكم أوباما. فباستثناء حلفاء الناتو الـ27، فالولايات المتحدة لها معاهدات عسكرية مختلفة وقعتها مع 46 دولة حول العالم، وقواعد عسكرية في جميع القارات.
فأحلام إمبراطورية بوتين زلة أخرى. فقلة قليلة من الغرباء، باستثناء إدوارد سنودن، يرغبون في الاستقرار في روسيا أو إيداع أموالهم في بنوكها. وعلى النقيض، حتى الآن يهاجر الآلاف من الروس إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية كل عام، ومن لم يهاجر منهم يقوم بإرسال أمواله إلى لندن أو فرانكفورت أو نيويورك، ومؤخرًا إلى قبرص.
لديّ اقتراح، هو أن تترك دول الغرب الديمقراطية الحبل لروسيا حتى نهايته لتشنق نفسها به، فتكلفة إعادة إعمار سوريا تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار، وبناء الإمبراطوريات عادة مقيتة، وباهظة الكلفة في وقتنا الحالي.
لم أفاجأ بما حدث في حلب، فقد حوربت الثورة السورية بضراوة وغيّب مشروعها الوطني في بناء دولة مدنية تحقق لشعبها الحرية والكرامة والديموقراطية أمام سيل من التنظيمات الدينية التي سرعان ما ظهرت بشعارات لا تمت للثورة بصلة، ولكنها اختطفت راياتها وشعاراتها وحاربت كل من نادى بالمشروع الوطني، ولن ننكر أن ساحات الموت كانت بيئة قابلة لفكر ديني حين يواجه الكوارث، ولكن هذا الفكر شكل عبر إدارة خبيثة منعطفاً سهلاً لتعبئة متطرفة داعبت مخيلة الحالمين بخلافة إسلامية أو بإمارة دينية، وهؤلاء الواهمون الحالمون فريقان أحدهما ينفذ مخططاً للتمويه على الثورة وحرف بوصلتها وامتلاك ناصيتها، ليقدم النموذج المشوه للإسلام الحضاري الذي برع أهل الشام في تقديمه منذ قيام دولة بني أمية المدنية، وكثير من التصرفات الغريبة كانت توحي بالقصد العمد، حيث لم تستطع هذه التنظيمات المتطرفة أن تقدم للناس ما يقنعهم فكرياً أوعملياً. وأما ثاني الفريقين، فهو حشد من بسطاء الناس ومن المهمشين الذين ثاروا على ما رأوا من ظلم، وقادتهم تلك التنظيمات عاطفياً تحت لافتة الإسلام، وقدمت لهم الحماية ووسائل العيش حين اشتد ضيقه، وغاب عنهم أن يقرؤوا العالم الذي يعيشون فيه، وأن يفهموا التوازنات الدولية، وقد ظن بعضهم أن العالم سيقبل دولة سُنية دينية كما قبل إيران سابقاً، وهي دولة دينية شيعية يحكمها الولي الفقيه ريثما يظهر الإمام المنتظر، ولم يفهموا وظيفة تلك الدولة رغم أن ملامحها قد باتت شديدة الوضوح، بعد أن تمكنت من لبنان والعراق وسوريا وهي تمد أذرعها في اليمن.
وليس سراً أن النظام وحلفاءه أسهموا بقوة في تنمية المشهد الديني المتطرف للتعمية على مطالب الشعب، وقد أعلن النظام عن قيام إمارة إسلامية قبل أن يطلق سراح المعتقلين من الإسلاميين المتشددين لديه، وكانت أكذوبة استنكرها الشعب كله. ولكن النظام الأمني تمكن من أن يقدم القضية السورية على أنها نظام علماني عصري يواجه منظمات إرهابية، ولم يكن يخطر على بال المتظاهرين في درعا وباقي المحافظات أنهم سيواجهون إيران النووية ومئات الآلاف من متطرفي الشيعة الذين جاؤوا من كل صوب وأسهموا في دفع الناس إلى التشبث بالفكر الديني السني المواجه، ولاسيما حين دخل «حزب الله» إلى القصير برايات ثأرية، جعلت أهل السُنة يتذكرون أنهم (سُنة)، وقد نسوا هذا التصنيف الطائفي وتجاهلوه عبر تاريخهم المعاصر لصالح المشروع الوطني والقومي التحرري، الذي جعلهم يرون في حسن نصر الله قائداً إسلامياً ورمزاً من رموز المقاومة قبل أن تتكشف الحقائق.
واليوم بعد أن تمكنت إيران من غزو حلب وإخراج الآلاف من سكانها واقتلاعهم من بيوتهم يتابع النظام وإيران تجميع المهجرين قسرياً في إدلب، وإعلان موسكو الأخير يتحدث عن وقف إطلاق النار ويستثني إدلب، ولا يتحدث عن حماية المدنيين وهم الضحايا نساء وأطفالاً ومرضى وعجزة، رآهم العالم يهرولون هاربين من الموت الذي يلاحقهم في حلب رغم الوعود بأن لهم معابر آمنة، ومن المتوقع أن يقوم الفرس باجتياح إدلب وارتكاب مجزرة كبرى فيها، وعدد سكان المحافظة اليوم يقارب ثلاثة ملايين نسمة، قد تتم التضحية بهم لإعلان انتصار نهائي على الشعب السوري، وطي ملف الثورة وتمكين نظام الأسد، ورغم دعوة الروس إلى مفاوضات في «أستانة» فإن الحسم العسكري سيبقى سيد الموقف، وأي اتفاق سيكون مجرد إذعان، وليس بوسع قوى المعارضة المعتدلة أن تهزم موسكو وإيران وحشود الميليشيات الطائفية التي يقودها سليماني وتغطي سماءها أعتى الأسلحة الروسية التي خلت لها الساحة الدولية، وبدا المجتمع الدولي عاجزاً عن إيقاف جرائمها ضد الشعب السوري. ندرك أن إيران والنظام لا يريدان حلاً سياسياً، وسيشهد العالم مجزرة كبرى في إدلب، ولئن كان المجتمع الدولي قد اكتفى بالإدانة لما حدث في حلب، فعليه أن يجنب إدلب مصيراً أشد قسوة، ولابد من إيجاد حلول أخرى غير سفك المزيد من الدماء التي ستجعل الحرب مفتوحة تتوارثها الأجيال.
لا يجرّ العنف سوى العنف، ولا يأتي الإرهاب سوى بالمزيد من الإرهاب. لم يكن اغتيال السفير الروسي في أنقرة، أندريه كارلوف، سوى عمل إرهابي يعبّر عن شعور باليأس لدى الكثيرين داخل سوريا وخارجها بعد الإرهاب الذي تعرّض له الآلاف من المواطنين السوريين منذ العام 2011 تحديدا عندما قامت ثورة سلمية في البلد. قُمعت هذه الثورة بالحديد والنار والبراميل المتفجّرة من دون صدور إدانة روسية لهذا الفعل الجبان والمتوحّش في آن. شاركت روسيا في الأعمال الإرهابية التي يتعرّض لها الشعب السوري للأسف الشديد. أدخلت نفسها في دوامة كانت في غنى عنها لا أكثر.
تناوب على قمع السوريين وقتلهم وتهجيرهم النظام نفسه والميليشيات المذهبية التابعة لإيران، وأخيرا سلاح الجوّ الروسي الذي استهدف مدارس ومستشفيات وأحياء مدنية. مثلهم مثل الإيرانيين وأتباعهم، لم يوفّر الروس وسيلة، بما في ذلك استهداف النساء والأطفال والمدنيين من كلّ الأعمار من أجل زرع الرعب في نفوس السوريين، وتهجير أكبر عدد منهم من مدنهم وبلداتهم وقراهم. كانت روسيا التي تعرّضت بدورها لعمل إرهابي، شريكا في الإرهاب الذي استهدف شعبا لم يطلب سوى استعادة كرامته.
اعتمد الإيرانيون وأتباعهم، والروس لاحقا، الوسائل التي لجأ إليها النظام السوري منذ سنوات طويلة لإخضاع السوريين وإذلالهم. إنّها الوسائل نفسها التي لجأ إليها النظام السوري في لبنان منذ قرّر الهرب من أزماته الداخلية إليه. كلّ مدينة من المدن اللبنانية شاهدة على إرهاب النظام السوري. بيروت وطرابلس وصيدا وزحلة، كلّها شاهدة. الدامور شاهدة أيضا. الأشرفية، وهي جزء من بيروت، شاهدة. كلّ القرى المسيحية القريبة من الحدود اللبنانية ـ السورية شاهدة على ما ارتكبه النظام السوري، من القاع… إلى العيشية. كان الهدف الدائم تهجير المسيحيين من منطقة الحدود إلى الداخل اللبناني، وذلك خدمة لحلف الأقلّيات الذي نادى به النظام العلوي في سوريا دائما.
لن ينقذ الإرهاب النظام السوري من مصيره المحتوم. خرج النظام السوري من لبنان ذليلا بعدما اعتبر أن التخلّص من رفيق الحريري بواسطة شريكه الإيراني سيضمن له البقاء في البلد إلى ما لا نهاية.
لا تبرير من أيّ نوع لاغتيال السفير الروسي. لكنّ هذا النوع من الإرهاب سيزداد في حال بقي الوضع في سوريا على حاله، خصوصا في حلب. ستلاحق لعنة حلب كلّ من مدّ يده على المدينة بهدف تهجير أهلها وخلق واقع جديد يسمح لبشّار الأسد بالكلام عن أنّه “يكتب التاريخ”. أيّ كتابة لأيّ تاريخ باستثناء الاستثمار في الإرهاب وتشجيعه والعمل على تمدّده لتبرير البقاء في السلطة في ظلّ استعمارين روسي وإيراني؟ لا يحسن بشّار الأسد سوى هذا النوع من الكتابة التي يدفعه إليها حقد أعمى على سوريا ولبنان، وعلى اللبنانيين والسوريين.
ليس مفهوما لماذا ارتكبت روسيا كلّ الأخطاء التي كان يمكن تفاديها في الشرق الأوسط. هل سيجعلها اغتيال السفير في أنقرة تتعلّم من تجارب الماضي القريب والبعيد، بما في ذلك التورط مع نظام سوري أخذ العرب إلى حرب 1967، أو إلى توريط العرب جميعا في تلك الحرب التي قضت على جمال عبدالناصر بكلّ ما كان يمثّله من حسنات وسيئات لا تحصى.
يضع اغتيال السفير الروسي في أنقرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام واقع يرفض الاعتراف به. يتهرّب من هذا الواقع معتقدا أنّ في الإمكان تجاوزه عن طريق القصف وإخلاء المدن السورية من أهلها، لا لشيء سوى لأنّهم من أهل السنّة الذين وقفوا منذ خمسين سنة في وجه حزب البعث بكلّ ما يمثله من تخلّف، وفي وجه النظام العلوي الذي استخدم البعث للوصول إلى حكم سوريا معتمدا الحديد والنار والإرهاب بكلّ أشكاله وألوانه.
مؤسف أن روسيا، وقبلها الاتحاد السوفياتي، كانا دائما في خدمة نظام استخدم الإرهاب للسيطرة على سوريا والتحكّم برقاب السوريين.
مرّة أخرى، لا سبب يدعو إلى تبرير اغتيال السفير الروسي في أنقرة. هذا عمل إرهابي مدان بكلّ المقاييس والأشكال. خسرت روسيا سفيرها. هل يمكن أن تستفيد من تلك التجربة القاسية من منطلق أنّ الاستثمار في الإرهاب لا يمكن أن يقضي على الإرهاب. ما فعلته روسيا في سوريا، خصوصا في حلب، هو ممارسة للإرهاب ستدفع إلى المزيد من ردود الفعل من نوع اغتيال السفير كارلوف. دفع الرجل من حياته ثمنا لسياسة روسية قامت على اعتبار النظام السوري في حرب مع الإرهاب. هذه كذبة كبيرة لا أكثر، لا يصدّقها سوى ساذج أو من يمتلك نيّات سيئة. هل فلاديمير بوتين ساذج أم إنّه من ذوي النيّات السيئة؟ الأكيد أنّه ليس ساذجا بأيّ شكل. على العكس من ذلك، عرف، تماما، كيف يستغل نقاط الضعف لدى إدارة باراك أوباما وتوظيفها لمصلحته. ولكن إلى أين أوصله ذلك؟ لم يوصله سوى إلى اغتيال سفيره في أنقرة. هذه بداية وليست نهاية. يفترض في مثل هذه البداية أن تدعو الرئيس الروسي إلى التعقّل وإعادة النظر في حساباته السورية.
قبل كلّ شيء، إن سوريا ليست غروزني التي دمّرها فلاديمير بوتين على رؤوس أهلها. سوريا جزء من العالم العربي وهي تشكّل نقطة توازن في هذا العالم. من يسعى إلى اتباع سياسة تقوم على قهر السوريين وإبقائهم تحت حكم بشّار الأسد، إنما يعادي العالم العربي كلّه. لا يمكن البناء على نظام سوري مرفوض من الأكثرية الساحقة من شعبه بغية تحويل سوريا منطقة نفوذ روسية. على العكس من ذلك، يمكن لروسيا استعادة تعاطف السوريين في حال لعبت دورا في التخلص من نظام لا مستقبل له، لا داخليا ولا إقليميا. استنفد هذا النظام الهدف الذي وجد من أجله. دمّر سوريا على أبنائها. هجّر السوريين من سوريا ودمّر المدن الكبيرة فيها. كل ذلك لا يمكن أن يبقيه في السلطة، تماما مثلما أن تدميره للبنان وتهجيره مسيحيي الأطراف ومحاربته السنّة في المدن الكبيرة، ثمّ تغطيته لاغتيال رفيق الحريري لم يحل دون انسحابه، في نهاية المطاف، من الأراضي اللبنانية.
ستبقى سوريا تقاوم، مهما فعلت إيران ومهما اشترت من الأرض السورية ومهما أرسلت مستوطنين إلى دمشق ومحيطها وإلى مناطق أخرى. عاجلا أم آجلا سيرحل النظام السوري. لدى فلاديمير بوتين فرصة لا تعوّض لإعادة النظر في موقفه من سوريا والسوريين. لن ينفع إرهابه لا في حلب، ولا في غير حلب. الإرهاب لن يجرّ سوى المزيد من الإرهاب مهما بلغت درجة التعاون والتنسيق مع تركيا وإيران. كلّما تعقّلت موسكو في سوريا واقتنعت أن النظام جزء لا يتجزّأ من الإرهاب، كلما ساعد ذلك في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في سوريا. مثل هذا التعقّل لا يمكن إلا أن ينعكس إيجابا على العلاقات الروسية ـ العربية.
ما حدث في أنقرة ليس مجرّد اغتيال لسفير على يد مجرم تحرّكه الغريزة المذهبية. ما حدث كان أبعد من ذلك بكثير. إنّه مؤشر لما ينتظر المنطقة في حال لم يحصل تغيير في السياسة الروسية، وهو تغيير سيصبّ في مصلحة هذا البلد، الطامح إلى دور يفوق حجمه وقدراته، في المدى الطويل.
أربكت الأحداث الدائرة في سوريا العالم بأسره، فهي من حيث الشدة كارثة شهدت ولا تزال حجماً هائلاً من القتل والتدمير والتهجير، ومن حيث التعقيد نجدها عقدة للاصطفافات والمصالح الإقليمية والدولية، ويبدو أن الجميع باتوا مقتنعين بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.
حجم الكارثة وتعقيد ملفاتها ومقدار الضخ الإعلامي، بما فيه من تحليلات وأخبار وسرديات، جعل القراءة «المنطقية» أمراً عصيّاً، ما أسقط كثيراً من الناس في فخ العدمية أو الفوضى التحليلية البعيدة عن الواقع أو المنطق.
وساهم اتساع مجال النشر وتعدد المنابر والمواقع التي تنشر الأخبار والمقالات والتحليلات -بما لها من أجندات وبما تلعبه من أدوار- في تزايد الطلب على «الكتّاب»، وخلقت فرصاً أمام كثيرين ليكونوا من أصحاب «القلم»، إضافة إلى ذلك وفي إطار التنافس على استقطاب القرّاء وتوجيههم، بات من الضروري للمواد وعناوينها أن تكون لافتة، بل فضائحية في بعض الأحيان، حتى ولو وردت في إطار «مقال رأي».
في هذا السياق، وأثناء مراجعاتي المستمرة للمقالات الناقدة للمعارضة السورية ومؤسساتها، ورغم إيماني بأن النقد أمر صحي وطبيعي، وأن من الطبيعي أيضاً أن يبحث «الكاتب» عن مواضيع ساخنة تجذب القارئ، وأن من الطبيعي فوق ذلك أن يسوّق بعض «الكتّاب» أنفسهم كأقلام «حرة»، تعمل على إيصال «الحقيقة» للقارئ؛ فإن مطالعتي لبعض ما ينشر في هذا الشأن ولّد لدي جملة من «التساؤلات».
تساءلت بداية عن لقب الـ«كاتب»، وارتباط هذا المصطلح بالأخلاق والمصداقية، والمسؤولية أمام الذات والمجتمع، فناقل الفكرة كناقل الصحة أو المرض، ويفترض به أن يتحمل مسؤولية ذلك، وكما يتوجب على المرء أن يجتهد كي يصبح طبيباً، وأن يعقم نفسه وأدواته قبل أن يشق بمبضعه جسد مريض، فهكذا أيضاً يجب أن يكون شأن الكاتب الحقيقي.
كما أن التمييز بين النقد والتهكم في الكتابة، أو بين الحقيقة والخيال، بين الكاتب المدعي والكاتب الذي يكتب ليصحح المسار؛ كان من جملة تساؤلات خطرت في بالي.
لا حرج بالطبع من الانتقاد، بل هو أمر مطلوب، سواء جاء عبر مقال أو عمود أو حتى بضع كلمات على صفحة شخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، وسواء جاء من شخص قريب، أو من شخص يعيش في قارة أخرى، لكن جانباً من هذه التساؤلات يتعلق بمدى قرب أو بعد الانتقاد من الحقيقة والصواب، هل هو قيل عن قال؟ وهل هو نتيجة تحليل جدي أم خيال، هل نجم عن عمل وبحث وتحقيق؟
أتوقف هنا لأؤكد، دون مواربة ودون تردد، أن هناك كتّاباً حقيقيين مخلصين، كتّاباً عهدناهم صادقين مع أقلامهم، نبحث عنهم لنسير مع كلماتهم، فكلنا في حاجة لرأي آخر، لنقد مخلص وبنّاء على صعيد حياتنا بكل تفاصيلها، والثورة تحتاج اليوم إلى القلم الحر والصادق، فهو ركيزة في استمرارية وصون فكرها ومبادئها.
للمتابعة من هنا لا بدَّ من الإقرار أن حرية الرأي والتعبير وكذلك حق النقد، كل هذه المبادئ، تحظى بنوع من القداسة، وتحاط بهالة من التقدير والإجلال، ولو كان ذلك في إطار نظري في معظم الأحيان، وتكاد لا تذكر هذه العناوين في أي سياق سلبي على الإطلاق، فطرحها في هذا السياق كفيل بتصنيف صاحب الطرح في خانة الرجعية واتهامه بتكميم الأفواه وربما، بالإرهاب، لم لا؟
وبالطبع، وكما يقر كثيرون، فإن أهم شعارات وأهداف الثورات والربيع العربي كله، أعني الحرية، تتصل بهذا الجانب بشكل يكاد يكون عضوياً.
لكن، ومتابعة لتساؤلاتي حول الكتابة و”الكتّاب”، أليس هنالك فرق بين التحقيق الصحفي الذي يكشف الفساد من جهة، وبين التقرير الذي يوثق ذلك الفساد من جهة أخرى، وبين مقال الرأي الذي يحلل واقعة الفساد من جهة ثالثة؟
هل من المعقول إلغاء دور التحقيق الصحفي.. والاكتفاء بتوجيه اتهامات خطيرة في سياق مقالات يفترض أنها مقالات رأي؟ هل يجوز للصحفي أن يورد رأياً في خبر دون أن ينسبه إلى مصدر، أو أن يورد كاتب المقال خبراً دون أن ينسبه كذلك لمصدره؟
هل هناك فرق بين تحقيق صحفي يبذل صاحبه كل جهد ممكن لكشف فساد مؤسسة ما؟ وبين مقال رأي يوجه التهم ذاتها دون تقديم أدلة قادرة على الصمود أمام مساءلة منطقية؟ بالتأكيد سينطبق الفرق ذاته على المزاعم التي تتحدث عن صلاح وحسن إدارة مؤسسة ما وتكيل المدائح لزعيمها، دون تقديم دلائل على ذلك أيضاً.
سأنتقل بهذه التساؤلات إلى مستوى آخر… حيث يمكن تصنيفها باعتبارها نقداً حراً لحرية النقد أو حرية التعبير.
ندرك جميعاً، باعتبارنا دعاة للحرية، ومناضلين في سبيلها، بأن من أبسط مبادئها ألّا تتعارض مع حرية الآخرين، وألّا تتعارض كذلك مع القوانين، ولا حاجة لضرب أمثلة في هذا السياق، وإلا سنقع في فخ التساؤل الممقوت الذي تم طرحه في بداية الثورة من قبل أتباع النظام: “ما هي هذه الحرية التي تريدونها؟!”.
فهل نسمح بالسب والشتم في سياق حرية التعبير؟ هل نسمح بشهادة الزور باعتبارها مجرد حرية في التعبير؟ هل نسمح باستخدام عبارات مهينة ذات طابع جنسي أو عنصري أو طائفي؟ هل يعتبر أي قانون يفرض شروطاً تجاه ذلك مناهضاً للحرية؟
تنظر القوانين إلى الطرف المحرض على ارتكاب جريمة ما باعتباره شريكاً فيها رغم أن دوره لا يتعدى “الكلام”؟ هل يعاقب من يرمون المحصنات إلا بجريرة كلام خرج من أفواههم؟
مهما يكن من أمر، وإذا كان من واجب الناقد وصاحب الرأي أن يدرك الهدف الحقيقي لفعله وهو الإصلاح والتقويم، وأن يصوغ نقده بأسلوب يتيح له فرصة تحقيق أهدافه، فما هو الموقف المنتظر ممن يتلقى سهام نقد مسمومة؟ ألا يمكنه أن يستفيد من ذلك النقد حتى لو كان مسموماً؟
وأخيراً ورغم أنني تجنبت في سياق المقال إصدار الأحكام أو المبادرة إلى تقديم النتائج، مكتفياً بطرح التساؤلات، ورغم أن ملامستي لهذه المبادئ الأصيلة، والجديرة بالاحترام والتقدير، قد تبدو مجروحة وغير حيادية بسبب موقعي السياسي الراهن، إلا أنني، ومهما يكن من أمر، أرجح أنها مغامرة جديرة بالخوض، خاصة وأن الأسئلة التي يتمكن الإنسان من طرحها، تحمل في بالذات جزءاً من الإجابات التي أبحث عنها.
لعلهم يعقلون .
أربعة التباسات عمت أوساط السوريين والمعارضة، في تفسير مسار الصراع السوري وآفاقه، بعد الانتصار العسكري للنظام وحلفائه في مدينة حلب.
أولاً، وضع إشارة مساواة بين الهزيمة العسكرية لجماعات المعارضة المسلحة في حلب وبين هزيمة مشروع التغيير السياسي، وكأن ما حصل يؤبد الاستبداد ويرسخ مناخ القمع والعنف، بينما الحال، أن إرادة «المنتصر» وأساليبه القهرية ستبقى عاجزة عن رسم المستقبل السوري، ليس استقواءً بما ارتكب، أو بالحتمية التاريخية وبديهية انتصار الحق والعدل على الظلم والتمييز حتى لو تأخر الزمن، أو بحقيقة دوام الصراع بوجوهه المختلفة في مناطق واسعة لا تزال خارجة عن سيطرة نظام، أضعفته سنوات الصراع الدامي وما استجره من قوى خارجية، وليس لأن من انهزم وفشل هي جماعات مسلحة تحمل أجندة إسلاموية ليس لها علاقة بالثورة السورية وحلمها الديموقراطي، وإنما لأن الأسباب التي دفعت الناس لرفض واقع القهر والفساد لا تزال قائمة بل ازدادت حدة ووضوحاً وعمقاً، فأنّى لمجتمع ظلم وفكك وشرد أن يسترد عافيته وتماسكه من دون إحداث تغيير سياسي يفتح الباب أمام سلطة عادلة، لا تفرضها لغة العنف والإرهاب بل سعيها إلى إنصاف الناس ونيل ثقتهم ورضاهم، كشرط لنيل ثقة المجتمع الدولي ومن دونها يصعب معالجة مخلفات الصراع وملفاته الإنسانية.
ثانياً، قيل إن «الهزيمة يتيمة وللنصر مئة أب»... يحضر هذا المثل الشعبي اليوم للدلالة على تنصل بعض رموز المعارضة، الذين صدمتهم نتائج معركة حلب، مما جرى وتحميل المسؤولية لبقية المعارضين وكيل الاتهامات جزافاً بحقهم.
هو أمر مفهوم ومبرر أن يمارس النقد بشدة بعد أي هزيمة أو انكسار لكشف مواطن الخلل والضعف، لكن ما ليس مفهوماً هو استسهال تحميل المعارضة المسؤولية الكاملة وتوجيه كلمات إدانة وتحقير بحقها، وما ليس مبرراً اعتبار ما تعانيه من تباينات تنظيمية واختلافات في المواقف والرؤى، هو السبب الوحيد لما وصلنا إليه، ما يعني، وبغض النظر عن النيات، إغفال الشروط الموضوعية التي حكمت مسار الصراع، ما يضع علامة استفهام حول دوافع هؤلاء المتهجمين، حين يدينون الضحية وليس الجاني، ويتجاهلون المسؤولية الأساس التي تقع على عاتق السلطة وحلفائها بإصرارهم على عنف مفرط طلباً لحسم عسكري، ربطاً بعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين وفرض خطة للمعالجة السياسية.
ومع إشهار الشروط الموضوعية التي أحاقت ولا تزال بالثورة السورية وقوى التغيير، يصح التوقف عند مسؤولية المعارضة، إن لجهة استمرار تشرذمها وتشتت خطابها وخلافاتها البينية وإن لجهة تراجع أدائها عند تصاعد الحاجة إليه في قيادة الحراك الشعبي ومحاصرة تنامي التيارات الأصولية! ليصح أن نغمز من هذه القناة إلى انحسار مساهمتها في الحفاظ على الوجه السلمي للثورة، وفي التواصل مع الحراك الشعبي ومده بالخبرة، وإلى مبالغتها في الرهان على دعم الخارج والخضوع لإملاءاته، وإلى ضعف دورها السياسي والإعلامي في إثارة أوجاع السوريين لزيادة تعاطف الرأي العام العالمي مع محنتهم، بغرض إحراج المجتمع الدولي وإكراهه على البحث عن مخارج وحلول لوقف الفتك والتنكيل، والأهم عدم مجادلتها لإظهار نفسها كبديل موثوق، يحترم التنوع والتعددية وأمين لثقافة الديموقراطية وقواعدها.
ثالثاً، التمييز بين المجتمع السوري الحي وبين التنظيمات الجهادية وما خلفته من أضرار على الثورة حين سارعت إلى استثمار النهوض الشعبي لفرض أجندتها الخاصة، فأقامت الإمارات، وألزمت بشراً منهكين، بنمط حياتها تحت طائلة أشد العقوبات.
«سورية حرة والنصرة تطلع برة» هو هتاف رفعه متظاهرون في حلب وإدلب وحماة وتكرر في مدن أخرى رداً على محاولات جبهة فتح الشام مصادرة شعاراتهم واعتقال الناشطين المدنيين واغتيال بعضهم، ما يدل على أن الشعب السوري لم يكن راضياً عن الجماعات الجهادية ودورها، وإن غض النظر عنها، فتحت وطأة العنف والاستفزازات الطائفية، فكيف الحال وقد اكتشف أن بعضها لم يقاتل إلا تلبية لما تمليه مصادر تمويله، أو من أجل تحسين مواقعه ومغانمه، بينما بادر بعضها الآخر لعقد صفقات للنجاة عندما استشعر بالخسارة، تاركاً الناس لمصيرهم.
ما سبق يطرح أسئلة تشغل بال الجميع عن احتمال تكرار ما حصل في حلب؟ كيف سيتم الدفاع عن المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؟ هل يفضي الإصرار على منطق السلاح وتغطية الجماعات المتطرفة إلى تمكين المسار الثوري أم العكس؟ وهل لا يزال بالإمكان الرهان على معارضة سياسية ونخب ثقافية مستعدة لتحمل مسؤولية نبذ العنف وإعادة بناء ثقة الناس بوحدتهم وبقدرتهم على دفع نضالاتهم بصورة رئيسة، نحو أطوار مدنية، طلباً لحريتهم وحقوقهم؟!.
رابعاً، الخلط بين الثورة التي نهضت كحاجة موضوعية لتغيير الواقع السوري جذرياً ونقضاً للاستبداد والوصاية والفساد ومسوغاتهم الإيديولوجية وبين ما آلت إليه الأمور، بما هو خلط بين ثورة السوريين لنيل حقوقهم وقد تعرضت طلائعها لمختلف وسائل الفتك والتنكيل، قتلاً وسجناً وتهجيراً، وبين ظواهر تغذت من المظالم الشعبية وساقت الصراع نحو أفق إسلاموي لا علاقة له بشعارات الحرية والكرامة، وتالياً التحسب من الانجراف نحو إدانة الثورة كفعل تاريخي مشروع لأن نتائجها لم تأتِ كما نرغب ونشتهي، بما هو تبرئة العنف السلطوي مما أحدثه قاصداً، وإعفاء الذات من مسؤوليتها كما الأدوار الإقليمية والعالمية التي حاصرت الثورة وشجعت على تشويهها.
«راجعين يا حلب» عبارة ملأت ما تبقى من جدران المدينة المنكوبة في مواجهة ما تروجه القوى المضادة بأن انتصارها العسكري نهائي وثابت وعنوان لتعزيز سلطانها... عبارة، تظهر عمق ما أحدثته سنوات الثورة من تحولات، وأن ما رسخ في النفوس والعقول كفيل بتجديد العزم وبلورة قوى للتغيير تسترد روح الثورة وتنفض ما يشوب دورها وآليات عملها من مثالب لتقارع تحديات الراهن السوري مهما اشتدت مصاعبه.
روسيا وإيران والنظام السوري، ثلاثي سيبقى في ذاكرة العالم أنه دمّر حلب، ولعل الشريك الرابع في المسؤولية هو الولايات المتحدة التي بذلت الكثير من أجل بلوغ هذا اليوم، فالتفاهم الروسي - الاميركي على إخلاء حلب كان واضحاً. هذه ليست مجرد مدينة بل حاضرة انحفرت في التاريخ بتجربتها الانسانية الخاصة، المغرقة في القدم، المتواصلة بفضل أهلها لا بجهد محتلّيها القدامى الذين لم يرحّلوا أهلها منها، وستستمرّ بعودة أهلها وليس اعتماداً على محتلّيها الجدد، الذين لم يكن لهم أي دور في بناء عزّها، وانما كان لهم الدور كلّه في تخريبها وإعدام مقوّمات العيش فيها. ليست صدفة أن يكون قاسم سليماني أول متفقّدي الركام الذي ترقص فوقه عناصر ميليشياته، بل أراد الجنرال الإيراني أن يوقّع «انتصاره» بقدميه، كما فعل مراراً في العراق. كثيرون تذكروا صورة آرييل شارون في بيروت خلال اجتياح لبنان قبل أربعة وثلاثين عاماً، إذ رأوا تحدّياً متماثلاً في الحدثَين، الإسرائيلي غازياً في عاصمة عربية، والإيراني معربداً في حلب بعد دمشق.
جاء سليماني للتصوّر في قلعة حلب فيما كانت طهران تقيم الاحتفالات بـ «أولى الفتوحات». ما الذي أراده الإيرانيون؟ مواجهة «المؤامرة الكونية» أم محاربة التكــفيريين، كما ادّعوا ويدّعون؟ ما حصل في حلب كان بإرادة الروس وبموافقات متفاوتة من دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو وحتــى من رجب طيب أردوغان وإن مضطرّاً وعلى مضض، فلو لم تقدّم أنقـــرة سكوتها خلال العملية العسكرية لما فاوضـها الــروس بل لما وافقوا على التفاوض مـع الفـــصائل لوضع ترتيبات إجلاء المدنيين والمقـــاتلين. لم يكن الإيرانيون يريدون وقـــفاً للنار ولا خروجاً آمناً للمدنيين، كان مقاتلو ميليشياتهم تلقوا شحناً نفسياً على مـــدى أسابيع هدفه «قتل كلّ من في حلب»، لذلك أوقفوا الباصات ونكّلوا بالمغادرين ونهبوا أموالهم وقتلوا منهم مَن قتلوا. ثم عطّلوا الإجلاء لإجراء إجلاء متـــزامن من قريتَي الفوعة وكفريا الشيعيتين المحاصرتين في محافظة ادلب، على رغم أن مــعاناة حلب وأهلها كانت أكثر عجلةً وإلحــاحاً. كانت روسيا تحت ضغط دولي لأن هـــذه الميليشيات - حليفتها - باشرت تصفـية المدنيين باقتحام البيوت وإخراج العائلات منها حتى أنها أقدمت على تعذيب أطفال قبل استجوابهم ثم قتلهم، وقد تولّت الأمم المتحدة كشف هذه الجرائم.
لم تكن معركة حلب ضد «المؤامرة» ولا ضد الارهاب بل كانت معركة لزرع كل الأحقاد التي يمكن أن تنتج العنف المتطرّف المقبل. الواقع أن ما أراده الإيرانيون هو تسجيل أول واقعة سقوط مدينة «سنّية» وأول انتصار خالص في الحرب الشيعية - السنّية، الدائرة بالأحـــرى مـــن جانـــب واحد، إذ لم يتبنَّ السنّة هــذه الحرب ولم يرغبوا في خـــوضها بل رفضوها ويرفضونها، في حين أن إيران استثمرت فيها الكثير وما انفكّت تدفع الشيعة اينما كانوا الى استعداء الســـنّة بثقافة عدائية بات واضحاً بعد حلـــب أنها تحلل قتلهم، فإيران مصرّة على الحرب والعرب مصرّون على المسالمة، لكن المحارب يخوض حربه وينتصر ويعيث فساداً. وقد أظهر وجود قاسم سليماني في الوقت الذي أقدم «إرهابيون أجانب موالون للنظام السوري» (كما باتت التسمية الدولية للميليشيات الإيرانية) على قتل أربعة عشر مدنياً، مدى استهتار القادة الإيرانيين بأخلاقيات القتال، اذ لم يعد هناك فارق بينهم وبين «شبّيحة» النظام. بل إن وجود سليماني في تلك اللحظة تسبّب بحماسٍ اميركي مفاجئ ومتأخر لإثارة قضيّته في مجلس الأمن، وليس مؤكداً أن واشنطن ستفعل، لأنها سبق أن باركت الدور الإيراني في سورية ولم تعترض عليه إطلاقاً.
لم تحسم معركة حلب الصراع في سورية، إلا أنها مرشحة لإطلاق ورشات البحث عن حلول بعيدة المدى. عندما ظهر رأس النظام ليعلن عن «انتصاره الإلهي» كان يؤكد أنه ربح رهان بقائه في السلطة، لكنه يجهل على الأرجح لماذا سيبقى، طالما أنه لم يعد مؤهلاً لتوحيد الشعب والبلاد. المؤكّد أن بقاءه لا يفيد سوى إيران وروسيا. وإذ كشفت طهران بعض أوراقها في شأن ما تريده مما بعد حلب، فإن الأهم عندها أن تضمن عدم مشاركة النواة الصلبة السنّية في أي حكومة تنبثق من أي «حل سياسي»، وهي تتمسّك ببشار الأسد باعتباره المدافع الأول عن مصالحها والحريص على استمرار وجودها لأنه سيحتاج الى ميليشياتها لفترة طويلة. أما موسكو فتعتبر أنها ربحت لتوّها ورقة «بقاء النظام» أو ما تسميه «الحفاظ على الدولة والمؤسسات»، لكنها كانت ولا تزال تعلم أنها تتحدّث عن كذبة أو عن شيء وهمي، وما يبرّر تمسكّها بالأسد هو حاجتها الى «شرعية» تغطّي دورها في سورية، رغم علمها بأن هذه «الشرعية» الورقية لا تعني شيئاً بالنسبة الى بقية دول العالم. تراهن موسكو على «حل سياسي» مبنيّ على وجود الأسد في شكل أساسي ومشاركة «المعارضات الموالية» التي رعتها هنا وهناك بغية إشراكها في إعادة ترميم شرعيته.
لكن تبقى المعارضة الحقيقية، المتحالفة مع الفصائل المقاتلة، التي شارك النظام وروسيا وإيران في مقاتلتها، كما شاركت أميركا في خداعها، هذه المعارضة هي التي يعتقد الجميع أنها هُزمت في حلب، ويريدونها بالتالي أن تستسلم وتعلن «انتهاء الثورة». وقد نصحها جون كيري بأن تذهب الى أي مفاوضات وتوافق على المشاركة في «حكومة وحدة وطنية برئاسة الأسد» قائلاً إن هذا «أفضل ما يمكن أن يُعرَض عليها الآن، والأرجح أن ما سيُعرض عليـــها مــع ادارة دونالد ترامب سيكون أقلّ وأســوأ»... وبطبيعة الحال فإن المعارضة ستجد نفسها في مأزق محتمل، سواء مع داعميها أو مع الذين منحوها ملاجئ ومنابر وتســـهيلات طالما أن وجودها على الأرض السورية كان دائماً مستحيلاً. هنا ستجد تركـــيا نفسها تحت ضغوط روسية وإيرانية وحتى أميركية ومن بعض أوروبا، اذ يراهن عليها الروس لتضغط على المعارضة المتمثلة خصوصاً بـ «الائتلاف» لتأمين مشاركتها وقبولها الصيغة المقترحة. وللحصول على تعاون أنقرة كثّفت موسكو التعاون معها في الفصول الأخيرة من عملية شرق حلب، كما أن الاجتماع الثلاثي في شأن سورية، وهو الأول من نوعه بين روسيا وتركيا وإيران، يكرّس المرجعية الروسية بالتوافق مع واشنطن.
ليس مؤكّداً أن روسيا ستكون محايدة بين الطـــرفين الآخرين، أذ تبقى حالياً أقرب الى إيـــران التي تتقاسم معها الكثير من الأهداف في سورية وأهمها دعم نظام الأسد، على رغم الخلافات المتزايدة بينهما على الأرض، التي أظهرت تباعداً في مسائــــل استراتيجية ستتفاعل في المراحل المقبلة، منـــها مثلاً متطلبات الحل الأمني والسياسي ووجود الميليشيات متعددة الجنســـية التابعة لإيران. أما تركيا التي خســـرت الكثير من طموحات النفوذ التي أبدتها سابقاً فيبدو أن روسيا ماضية في تعويضها تلك الخسارة، من خلال الدور الـــذي تلعـــبه فـــي عملية «درع الفرات»، لكـــن يبقى أن تنال ما يطمئنها بتقنين دور أكـــراد حزبي «الاتحاد الديموقراطي» و «العمال الكردستاني» وعدم تشجيع قيـــام كيان كردي انفصالي في شمال شرقي ســـورية. ومن الواضح ان ثمة مساومة بدأت، بدليل أن وزير الخارجية التركي أثار علناً مسألة «قطع الدعم عن بعض المجموعات الوافدة إلى سورية من الخارج مثل حزب الله اللبناني والمجموعات الأخرى».
قد لا تكون إيران مرتاحة الى هذه الصيغة الثلاثية، لكنها فهمت أن هناك شيئاً من التسليم الدولي لروسيا في ادارة الأزمة السورية، وبالتالي عليها أن تتعامل مع هذه الصيغة طالما أنها لا تمسّ بمصالحها، وقد أصبحت الميليشيات جزءاً من تلك المصالح. يكفي أن يكون لقاء موسكو تطرّق الى «حزب الله» ليشكّل ذلك انذاراً لطهران بأن قضية الميليشيات من شأنها أن تتفاقم اذا لم تبادر الى اتخاذ خطوات في شأنها. لكن المرحلة المقبلة قد تبيّن للإيرانيين كم كان مخطئاً ذهاب سليماني للاستعراض في حلب، وكم كان مخطئاً اعتداء «النجباء» على المغادرين، إذ إن ممارساتهم اضطرت الروس للتهديد بإطلاق النار على من يعرقل عمليات الإجلاء، ثم اضطرتهم الى القبول بمراقبين دوليين.
كانت حلب الأجمل والأقدم، ويكفيها أن ابنها عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902) أول من واجه الاستبداد بشقيه الديني والسياسي، وجعل الدِّيني أكثر فداحة من الثاني، بل وسبباً له (طبائع الاستبداد)، مستقبلاً إنقاذ المنطقة بنظام متمدن، فالخلافة العثمانية حينها آيلة للسقوط. أخبرني سلام الكواكبي ببيروت قبل أسابيع، أن ما جُمع من آثار جده قد احترق بحريق المنزل، ومنها القلم الذي كتب به «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد».
كم كانت حلب راقية بفكر أبنائها، وتعدد أديانها، وتلك ميزة جعلتها تنشأ على التسامح، ولا أجد غرابة أن يبرز فقيهها ومؤرخها ابن العديم (ت 660هـ) مدافعاً عن أبي العلاء (ت 449هـ)، وفي زمن لا يزال فيه صوت مَن اعتبر المعري أحد الزنادقة (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء) مدوياً! جاء دفاع في كتابه «الإنصاف والتَّحري في دفع الظُّلم والتَّجري عن أبي العلاء المعري»: «فابتدرْتُ دونه مُناضلاً، وانتصبتُ عنه مجادلاً، وانتدَبتُ لمحاسنه ناقلاً، وذكرتُ في هذا الكتاب مولِده ونسبَه، وتحصيله للعلم وطلبه، ودينه الصحيح ومذهَبه، وورعه الشديد وزُهده، واجتهاده القوي وجِدّه، وطعن القادح فيه وردّه، ودفع الظُّلم عنه وصدّه. وسميته كتاب الإنصاف.. وبالله التوفيق والعصمة».
كانت حَلَب على فقه الإمامية أيام الحمدانيين، وبعدها تحولت إلى المذاهب الأربعة مع الأيوبيين (الحموي، معجم البلدان). وتبادل المواقع في السلطة لم يجر على أساس المذهب، وإنما السياسة والتَّغلب. ومثل هذا التبدل المذهبي جرى لكثير من البلدان، فقيل: «الناس على دين ملوكهم» (الفخري، في الآداب السُّلطانية). أقول فعلامَ رفع الرايات بطائفية شرسة، والناس تبادلوا المواقع عبر الأجيال من شيعي إلى سني ومن سُني إلى شيعي، فُرض المذهب وأصبح يتوارث. فتعالوا إلى نزاعات حلب وخرابها وانظروا كيف تُسوق؟!
كانت حلب بلدة تعايش عبر التاريخ، بظاهرها مقام لإبراهيم الخليل، يُنذر له «ويُصبُ عليه ماء الورد والطّيب ويشترك المسلمون واليهود والنصارى في زيارته» (معجم البلدان)، بلا تدافع. قيل في اسمها كان للخليل غُنيمات يحلبُها ويتصدق بحليبها، فسميت بحَلَب (ابن جُبير، الرِّحلة). لا جدال في قِدمها، وقيل أشير إلى اسمها في «التَّوراة» بـ«إرم صُوبة» (بنيامين، الرِّحلة).
كنا نحن العراقيين المعارضين لنظامنا السابق، نأخذ موقفاً حاداً ممَن يقف معه ويعترض على سقوطه، وعُذرنا أن الآخرين لا يحسون بمعاناتنا، خصوصاً السوريين المعارضين منهم لنظامهم، والذين وجدوا في نظامنا ملجأً لهم، مثلما كان المعارضون العراقيون مع النظام السوري.
نسأل أنفسنا الآن: لماذا لا نعطي السوريين الحق في أن يشعروا بهذا الشعور، بأننا لا ندرك قسوة دكتاتورية نظامهم، وحزب «البعث» في النظامين واحد؟ أقول هذا، لأن هناك مِن العِراقيين مَن سره خراب حلب، في أن يحكمها «البعث» ولو ظلت حجارة، وقيل في المثل «الإمارة ولو على حجارة».
مثلما طلبنا مِن السوريين والفلسطينيين والعرب جميعاً، وكنت أحد الذين وقعوا بياناً مثل هذا، غداة سقوط النظام السابق، أن يتركونا مع نظامنا، لا يعينوا علينا بالسيف أو القلم، طلب ديمقراطيون ومثقفون سوريون مثل هذا الطلب، إذا لم يعنهم أحد، فلا يعن عليهم، فليسوا كلهم «قاعدة» أو «داعش» أو «جبهة نصرة».
كذلك إذا كانت الأحزاب الدِّينية الشِّيعية تعتقد أن العراق كان محكوماً مِن أقلية سُنية، ويجب أن تأخذ الأكثرية حقها، لنوافق على هذا الطرح في سوريا. أليس مِن حق الأكثرية السُّنية السورية أن تدعي بأنها محكومة مِن أقلية علوية، ولها أن تأخذ حقها كأكثرية؟ مع يقيننا أن لا شيعة تحكم ولا سُنة، فالطوائف مخطوفة بالسياسة والحزبية. ناهيك عن أن المعارضتين، سابقاً ولاحقاً، تجاهد ضد حزب واحد، نظريةً وتأسيساً، وعندما سقطت سلطة «البعث» ببغداد حمل قيادات البعثيين أغراضهم إلى دمشق، وأُعينوا بالمال والسلاح، لأنه حزب واحد. فما عدا مما بدا كي يسر البعض خراب حلب ويعتبرونه انتصاراً، وبطرفة عين أعفي النظام السوري من تفجيرات طالت آلاف العراقيين، عندما كان التدريب يتم بعنايته.
كلما خربت مدينة من ذوات التاريخ قلنا: ما بعده خراب! غير أن الناظر في أشباح حَلب يظن الطَّواعين كانت أرحم بها مما يجري عليها الآن. فمِن عادة الطواعين أن تترك الحجر والشجر، وها هي منازل حلب كهوف فاتحة أبوابها للموت. وقد استوقفتني عبارة الحموي (ت 622هـ) فيها، وقد زارها: «وما في حلب موضع خراب أصلاً»، وبعد ثمانية قرون ليس فيها موضع عامر. فما قيمة السُّلطة على بلدة دُثرت تحت التُّراب، وبشر توزعوا بين مخيمات وحفر، غدت منطلقاً إلى كراهيات لا تنتهي. لم تعد حلب ابن العديم والكواكبي مثلما تركها أبو بكر الصَّنوبري (ت 334هـ): «حَلَب بَدرُ دُجّى أن/جمها الزُّهر قراها/فهي تسقي الغيثَ إن لم/يسقها أو إن سقاها» (معجم البلدان).
زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إرولت بيروت اليوم، تحمل معاني كثيرة في هذه الظروف الحالكة في منطقة مشتعلة. فإرولت بادر بطرح مشروع قرار في مجلس الأمن كي يواكب المراقبون الدوليون خروج المدنيين من حلب لحمايتهم من المجازر. وقد مارس السفير الفرنسي فرانسوا دولاتر في نيويورك كل حنكته الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية مع الجانب الروسي الذي بدأ بالرفض كي يحصل على المزيد من التنازلات. وموقف فرنسا مع ضعف تأثيره دولياً بسبب تخلي باراك أوباما وتراجعه، تجب الإشادة به، لأن الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند لم يتراجع يوماً عن موقفه من النظام السوري ووحشيته، كما أنه حاول التحاور والتحدث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، عكس ما يقوله البعض في المعارضة الفرنسية، وفي طليعتهم المرشح الرئاسي لحزب الجمهوريين فرانسوا فيون.
وفرنسا واكبت وانتظرت أن يتم الانتخاب الرئاسي في لبنان وتشكيل الحكومة كي يزور وزير الخارجية بيروت اليوم ويهنئ الرؤساء ميشال عون وسعد الحريري ونبيه بري ويدعو عون إلى زيارة فرنسا والنظر في كيفية مساعدة لبنان بعقد اجتماع داعم لهذا البلد.
نقل السفير الفرنسي في لبنان إيمانويل بون إلى النواب الفرنسيين انطباعاً إيجابياً عما جرى منذ انتخاب عون قائلاً إنه سيحمي سيادة لبنان. وهذا أمر مهم جداً للخارج. ولكن المشكلة أن «حزب الله» سيحاول باستمرار نزع هذه السيادة. فهو يجر أبناء لبنان الشيعة إلى حرب خاسرة لمصلحة حماية نظام فاسد ومجرم وحليفه الإيراني. إن مهمة الرئيسين عون والحريري حماية السيادة والنأي بالنفس عما يحصل في سورية بالغة الصعوبة، فحرب «حزب الله» في سورية ليست ضد الإرهاب، ولو كان ذلك صحيحاً لما تُركت لإرهاب «داعش» يدمرها، وشباب «حزب الله» يقاتلون المعارضين للنظام وليس الإرهابيين. وهم يقاتلون إلى جانب قوات روسية تنسق مع إسرائيل بشأن تدخلها في سورية، فأي سيادة لبنانية هذه التي يذهب خيرة شباب الشيعة الذين اعتقدوا أنهم ينتمون إلى ما يسمى مقاومة ليقتلوا شباناً عرباً مثلهم يقاومون نظاماً فاسداً؟ لقد دخل «حزب الله» مستنقع سورية، ومحاولته أخذ لبنان معه الى هذا المستنقع تنبغي مكافحتها من جانب عون والحريري. لكن السؤال: كيف يكون ذلك مع حزب هو أقوى من الدولة؟ وعلى رغم كل هذه التساؤلات التي تطرح دولياً، فإن فرنسا وأوروبا عازمتان على دعم لبنان ومؤسساته. صحيح أن إدارة هولاند في نهاية عهدها والمرشحون المحتملون قد يغيرون سياساتهم إزاء لبنان وسورية، حيث قال المرشح اليميني الأوفر حظاً بالفوز فرنسوا فيون، مرات عدة سابقًا إنه يريد التقارب مع إيران و «حزب الله» والتعامل مع بوتين واختيار الأسد. ولكن هناك تقليدياً استمرارية في الحرص على المصالح في الشرق الأوسط ولبنان من أي رئيس فرنسي. والأمل أن لا تتغير سياسة فرنسا في الشرق الأوسط. لكن المقلق أنه كثيراً ما ترتبط مواقف فرنسا بالولايات المتحدة الحليفة، ومجيء دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية أمر غير مطمئن على هذا الصعيد. ولكن إدارة هولاند ستبقى حتى إشعار آخر مهتمة بلبنان مستقل وسيد، وستسعى إلى مساعدته على النهوض. لكن النجاح في هذه المهمة يتطلب وقتاً أطول ولسوء حظ لبنان والشعب السوري فإن أمام إدارة هولاند أقل من ستة أشهر، وهي مهلة قصيرة للنجاح ولكن على الأقل ستبقى المؤسسات الفرنسية ساعية للمساعدة.
يختفي مع خروج الثائر الأخير ، الذي تم منذ قليل ، من أرض حلب الشهباء ، صوت “الحرية” الذي ظلّ حاضراً طوال السنوات الأربع و النصف الماضية على هذه المدينة ، لتغيب عن المشهد و تنضم لقائمة المدن المحتلة ، بعد أن تحولت من عاصمة الثقافة و التجارة لمدينة الركام و الدمار ، مدينة المكلومين والجرحى ، صاحبة الرقم الأعلى من المهجرين والمبعدين عن أراضيها.
اليوم في ٢٢ كانون الأول ٢٠١٦ ، تطوي حلب صفحة من تاريخها لتدخل في دهاليز الظلام المتعدد الرايات ، في ممرات المحتلين المتنوعين في الأشكال و المتحدين في المصالح و الأهداف ، والتي تدور حول محور واحد ألا وهو “التدمير” و “التهجير” و من ثم “التغيير”.
دفعت اليوم حلب بعد أربع سنوات ونيف من القتال ، الثمن الأكبر بشرياً و مادياً و اجتماعياً ، اذ بفقدها تختل التوازنات ، وتتيه معها الحسابات ، في قوائم تتبدل تبعاً لتبدل آراء الدول ومصالحها، ولكن هذا التبدل لم يجعل من حياة السوريين إلا أكثر بؤساً و أفدح خسارة .
بين صيف ٢٠١٢ و شتاء ٢٠١٦ ، صنعت حلب تاريخها الثوري بكل تفاصيله، رونقه وبياضه وصفاءه و ارثه الغني ، وشهدت سواده ومسالبه و أخطاءه القاتلة ، شهدت ولادة “متعسرة” للثورة و انتهاء أشد “عسرة” ، فضحّت في الولادة والوأد بما لايحتمله أي مدينة ، حملت في طياتها مئات الآلاف من الأبناء ، إلى جانبهم عشرات الآلاف من القبور و أسّرة الجرحى و كراسي المقعدين.
بين الصيف و الشتاء كان الأمل يتنقل بربيعه و خريفه ، وكانت الأمور تتطور لتلامس الحلم الكامل ، وتخبو حد اليأس بأن لا امكان للحياة .
حلب اليوم بعيدة عن الحرية ، بُعداً شديداً ، مغلقة على ذاتها في قوقعة يعتليها “عمامة” ذات شكل اسلامي ، تخفي حقد عمره أكثر من ألف عام ، بين كسر الفرس و زراعة الحقد الطائفي ، فهي النموذج لحجم “الغل” على العرب و المسلمين ، عبر مر السنين.
حلب هي أكثر من خُذل من قبل الجميع ، طعنت من الداخل عشرات المرات و من الخارج آلاف المرات ، شهدت أشنع الصفقات الدولية و أكثرها فجاجة ، لينتهي صوت “الحرية” مؤقتاً وسط طغيان طبول الأهازيج من شقها الثاني (المحتل ) ، هو طغيان مؤقت لادوام فيه ، فالباطل لايدوم و قد تكون العودة أقرب أو أفضل في القريب .