لا شك في أن حلب ستكون نقطة فارقة في تاريخ الثورة السورية. لكن على عكس ما يتصوّر البعض، فإن نقطة التحول هذه ستكون في مصلحة الثورة. ولو وضعنا جانباً العنصر العاطفي في التحليل، سنجد أن الانتصار الوحيد الذي حققه النظام معنوي داخلي ودولي ساهم بعض الثوار، من دون قصد، في الترويج له عندما صوروا معركة حلب على أنها «أم المعارك»، وهذا خطأ عسكري وإعلامي على حد سواء، لأننا كنا أمام معركة حصار، ومعارك كهذه، كما خبرنا على مدى الثورة وكما أشار إليه كلاوسفيتز وماكيافلي وغيرهما، يجب عدم تحميلها ثقلاً كبيراً إعلامياً أو معنوياً، سواء في حالة الدفاع أو الهجوم، لأنها معارك غرمها عظيم ومغنمها قليل واحتمالات نجاحها ضئيلة، خصوصاً أنها لم تكن معارك استراتيجية من الناحية العسكرية.
تمكّن النظام من تصوير حلب إعلامياً على أنها «نصر تاريخي» وفق توصيف رأس النظام، ساعده في ذلك صحافيون يعملون في الإعلام الغربي من جهة، وعاطفية بعض الإعلام الثوري من جهة أخرى، ناهيك عن سذاجة البعض، لكن ما حقيقة هذا النصر »التاريخي»؟
حلب لم تسقط ولم يتم «تحريرها» كما زعم النظام، بل تم تدميرها، وتهجير أهلها الذين هربوا من النظام بدلاً من أن يذهبوا إليه، ولم يبق منهم في حلب الشرقية إلا من عجز عن الخروج، لا سيما بعد أن رأوا كيف يعامل النظام وحلفاؤه الطائفيون من يعود ولو مكرهاً الى «حضن الوطن!»، وما رشح من أنباء عن إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية وحالات اغتصاب بحق المدنيين في حلب الشرقية. وما يجب التذكير به، أن هذا «النصر التاريخي» الإجرامي المزعوم تم بفضل الميليشيات الشيعية والغطاء الجوي الروسي، فأي نظام هذا، وأي مستقبل ينتظر سورية والمنطقة في ظل مثل هذه المنظومة الإجرامية الطائفية.
معركة حلب كشفت أموراً كثيرة ، بينها أن النظام في أسوأ حالاته عسكرياً وسياسياً. من الناحية العسكرية، فإن قوات النظام فضلاً عن عجزها عن تحقيق أي نصر حقيقي في السنة الأخيرة، فإنها في أعلى حالات الترهل والتفكك وانخفاض الروح المعنوية. وكما تشير تقارير روسية، فإنه من الأسهل بناء جيش جديد بدلاً من محاولة إعادة هيكلة الجيش الحالي وترميمه، ولعل أبرز هذه التقارير ذلك الذي كتبه العقيد الروسي المتقاعد ميخائيل خودارينوك، الصادر في أيلول (سبتمبر) هذه السنة، وأثنى ضباط روس في الخدمة على هذا التقرير واعتبروا أن الواقع أكثر قتامة مما جاء فيه. وأعقب التقرير الروسي تقرير لـ «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) في كانون الأول (ديسمبر) حول جيش النظام، يؤكد هذا الانطباع الذي ما فتئت الفصائل الثورية تعلنه للمجتمع الدولي منذ أكثر من سنة: إن النظام انتهى عسكرياً والعالم ما زال يبقي على حياة مريض مات سريرياً.
لا شك في أنه كان في إمكان الفصائل الثورية عند نقطة معينة، النجاح بتحرير حلب الغربية وتوجيه ضربة قاسية إلى النظام وحلفائه، لكن معارك حلب كشفت عن أخطاء عسكرية وقصور في الجانب الميداني لدى الفصائل الثورية المسلحة يجب تلافيه وإصلاحه في شكل فوري، فضلاً عن سلوك نمطي بدأ يتفشى بين بعض الفصائل هو أقرب الى سلوك أهل الغلو. لكن بعد فشل محاولات فك الحصار عن حلب الشرقية التي لم تكن لتحقق نتائج طويلة الأمد، وبعد تحوّل حلب الشرقية إلى منطقة ساقطة عسكرية، فإن الخروج منها حرر كتلة عسكرية كبيرة للثوار قوامها حوالى خمسة آلاف مقاتل سيتم استثمارهم في معارك استراتيجية وسيرفع عن الفصائل عبء ومسؤولية الاستمرار في محاولات مستقبلية لفك الحصار عن حلب، ويسمح لها بتوجيه قواتها باتجاه معارك تحدث فارقاً حقيقياً في الساحة، فالميدان الآن هو الفيصل أكثر من أي وقت مضى، مع عدم إغفال باقي محاور الصراع.
يجب أن نرسخ انطلاقاً مما سبق، أن النظام لا يملك معارك حاسمة وفاصلة ينهي فيها المعارضة، بل نستطيع القول - بلا أدنى شك - أن المعارضة تملك هذه المعارك، في دمشق والساحل، وحتى لو قُضيَ كلياً على المعارضة بالمفهوم العسكري البحت، فالمعارضة في إمكانها اللجوء إلى أنواع أخرى من الحروب، إضافة إلى الحرب المفتوحة، لأن المعارضة تتمتع بمزايا المنظمات غير المركزية والمفتوحة وفق نظرية أوري برافمان مقابل الهيكلية المركزية المترهلة للنظام الأشبه بـ «بيت العنكبوت» الواهن. والأهم من ذلك، يجب ترسيخ أن الهزيمة لا تكون إلا بفقدان الدافع والإرادة نحو القتال وليس في خسارة الأراضي أو قلة السلاح وقوة العدو. وما دامت العقيدة القتالية حاضرة ومع عبقرية هذا الشعب وإبداعه، سنجد دائماً طريقة لقتال العدو وهزيمته بإذن الله.
سياسياً، كشفت حلب تضارب المصالح الروسية والإيرانية في سورية ودرجة التوتر العالية بينهما. فقد سعت إيران الى إفساد مشروع أي اتفاق يُبرم بين روسيا والثوار حول حلب الشرقية أو أي بقعة أخرى في سورية، ما دفع بالروس الى تهديد إيران والنظام في صورة مباشرة بقصف قواتهم في حال حاولوا تعطيل الاتفاق الأخير الذي أدى إلى خروج أهالي حلب الشرقية مع الفصائل الثورية المسلحة.
لا شك في أن هناك تناقضاً صارخاً بين المشروع الروسي القائم على فكرة سورية موحدة تُدار من حكومة مركزية قوية وفق مشروع غير طائفي، وبين المشروع الإيراني القائم على إضعاف الحكم المركزي وإنشاء مناطق نفوذ وسطوة إيرانية كاملة تؤمن لها معبراً برياً من إيران إلى لبنان، هذا كله ضمن مشروع طائفي صريح يتضارب مع رؤية روسيا. والسؤال هنا: هل سيتمكن الثوار من استثمار هذه التناقضات؟
تلك التناقضات جعلت النظام ينقسم على نفسه بين موال لإيران ومشروعها وموال لروسيا ومشروعها وبين من بدأ يشعر بأن سورية ضاعت بسبب حماقات رأس النظام الذي مارس «المناورة» السياسية مع الروس حيناً، وزواج المصلحة الأيديولوجي مع إيران حيناً آخر، في الوقت الذي يقتل «شعبه» ويدمر سورية للحفاظ على كرسيه. روسيا لم تعد ترى في رأس النظام شريكاً حقيقياً، وبدأت تبحث عن البديل الذي يضمن مصالحها وسط استياء عميق من فشله العسكري وعجزه عن إدارة الصراع وتعنّته وميله الى الطرف الإيراني، وهو الطرف نفسه الذي لن يعارض استبداله في حال توصلت القوى الإقليمية والدولية إلى حل مرضٍ للأطراف، لا سيما بعد اعتراف الروس رسمياً بالفصائل الثورية المسلحة كطرف شرعي في الحرب في سورية. طبعاً هذا لا يغير حقيقة أن روسيا ارتكبت جرائم حرب ضد السوريين وسترتكب المزيد، لكن يعكس تحولاً جديداً مهماً في الساحة، لا سيما مع تنامي الدور التركي.
ولعل المعركة السياسية التي تنتظر الثورة والتي بدت ملامحها في الهدنة الشاملة التي تحاول روسيا فرضها كجزء من الحل السياسي الشامل لسورية، لن تقل ضراوة عن المعركة العسكرية التي ستتضح معالمها في الأسابيع المقبلة، وسنعرف إلى أي مدى ستدفع روسيا عسكرياً قبل أن تقرر أن موسم الحصاد السياسي قد حان، وإن كانت المؤشرات والأحداث تشير إلى أن الروس بدأوا الحصاد، وهذا لن يروق للنظام الذي يأمل بالحسم العسكري الكامل. ولعل أخطر ما سينجم عن أي عملية سياسية ترعاها روسيا هو محاولة نقل الصراع من حرب بين ثوار بشرعية شعبية ضد نظام مستبد ساقط إلى نزاع بين معارضة وحكومة شرعية تحت «سقف الوطن». وبغض النظر عن التحديات وتضارب مصالح أعدائنا، سنظل كثورة عاجزين عن مواجهة التحديات واستثمار التناقضات والفرص المتاحة ما لم نتبنّ خطاباً جديداً ورؤية موحدة وندفع بقيادات جديدة على مستوى الحدث.
كشفت حلب عيوباً وأخطاء عميقة في أداء الفصائل الثورية المسلحة في شكل عام، والثورة مطالبة الآن بمراجعات سريعة وقاسية وصادقة تتمخض عنها رؤية جديدة وخطاب جديد، ويصحبها تطوير نوعي للعمل العسكري والسياسي بما يتناسب مع المرحلة المقبلة، غير أن حلب - في الوقت نفسه - قد تعطي الثورة الفرصة للتحرر من قيود الماضي، وكسر القوالب والانطلاق بزخم متجدد إذا تمكنت من اتخاذ القرارات الصحيحة، وعلى رأسها الوصول إلى النموذج الصحيح لتوحيد الساحة عسكرياً وسياسياً، ولتعمل في شكل مستعجل على طرح خطاب ثوري وطني يحمي هوية سورية، خطاب حرب تحرير واستقلال شاملة يتم فيه حشد كامل الطاقات الثورية تحت سقف مشروع واحد، برؤية مشتركة واضحة تعيد الأمل إلى الحاضنة وتقدم الثورة السورية إلى العالم بحلة جديدة تعود بها إلى جذورها الثورية الصادقة بعيداً من أي أيديولوجية، فالثورة لن تكون قادرة على الاستمرار ما لم تنتج قيادة جديدة موحدة عسكرية - سياسية قادرة على استثمار الفرص واللعب على التناقضات الدولية، وبمرجعية شرعية تعكس التنوع الفكري في سورية في صورة حقيقية وصادقة.
أثبتت الثورة قدرة هائلة على امتصاص الصدمات والنهوض من بين الرماد، ولن تكون حلب استثناء، وعلى العالم أن يترقب عودة الفصائل بقوة وشراسة أكبر، لكن هامش الأخطاء انتهى، والقرارات التي سيتم اتخاذها في الأسابيع المقبلة قد تكون مصيرية على الأقل للمرحلة المقبلة. النظام انتهى فعلياً، إلا أنه يجب على الثورة أن تجيب عن أسئلة ملحّة وتتّخذ إجراءات سريعة وشجاعة وربما مؤلمة، وأن تعي أن المعركة الحقيقية الآن إلى جانب المعركة العسكرية والسياسية هي معركة الحاضنة والشرعية الداخلية والدولية.
الأرجح أن روسيا ستحصد في شرق ليبيا بعضاً من ثمار انتصارها العسكري في حلب، فهي تشتغل منذ أكثر من سنة على تعزيز مواقعها في الشرق الليبي لبناء تحالفات تزيد من فرصها للعودة بقوة إلى الساحة الليبية. ويعتبر الروس أن الغربيين وضعوا لهم مقلباً لدى الاقتراع على قرار مجلس الأمن الرقم 1973 الذي أباح التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا في آذار (مارس) العام 2011، إذ أوهموهم أن الهدف من التدخل هو منع كتائب القذافي من سحق الانتفاضة في بنغازي، لكي يضمنوا عدم استخدامهم حق النقض، فيما كان الهدف الحقيقي إطاحة النظام والقضاء على زعيمه معمر القذافي.
وظلت موسكو، التي أخرجتها انتفاضة 17 شباط (فبراير) 2011 من أحد معاقلها الأخيرة على ضفاف المتوسط، تتحين الفرص لقلب الطاولة على غرمائها، الذين اســـتفردوا بالملف الليبي، وهم فرنسا وإيطاليا وبريـــــطانيا وألمانيا وإسبـــانيا بالإضافة للولايات المتحدة. وفي أعقاب الشرخ الذي أحدثته الانتخابات البرلمانية في 2014 وأسفر عن وجود حكومتين متنافستين واحدة في طرابلـــس (غرب) والثـــانية في البيضاء (شرق)، راهن الروس على قوتين حليفتين تتمـــثلان بأنصار القذافي من جهة ومعارضيه الســـابقين الرافضين للتيارات الســلفية من جهة ثانية، وفي مقدم هؤلاء قائد الجيش المُعين من البرلمان خليفة حفتر ورئيس البرلمان نفسه عقيلة صالح. وإذا تابعنا الخط البياني للعلاقات بين موسكو وحفتر، الذي يحتفظ أيضاً بعلاقات متينة مع الأميركيين إذ أقام بينهم أكثر من عشرين عاماً، نلحظ تسارعاً في نسق اللقاءات والتصريحات الإيجابية المتبادلة على امتداد السنة الفائتة. فقد دعا الروس حفتر إلى موسكو في حزيران (يونيو) الماضي، وهم يُدركون أنه الشوكة التي تمنع حكومة الوفاق المُعترف بها دولياً، برئاسة فائز السراج، من التقدم في اتجاه معاودة بناء الدولة.
وعلى رغم التكتُّم الذي أحيط بلقاءات حفتر مع وزيري الخارجية سيرغي لافروف والدفاع سيرغي شويغو والسكرتير العام لمجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف (أي المربع المحيط بالرئيس بوتين)، فالأرجح أن في مقدم المسائل التي تم بحثها تسليح الجيش الذي يقوده حفتر وتأمين قطع الغيار له بالنظر إلى أن غالبيته من صنع روسي. وعاد حفتر لزيارة موسكو الشهر الماضي واجتمع مجدداً مع الشخصيات نفسها، لكنه اكتفى لدى تطرقه لمسألة التسليح بالقول في تصريح إلى وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك» إن كثيراً من الخبراء العسكريين الليبيين درسوا في روسيا، «ولكن في المستقبل، عندما يتم رفع حظر تصدير السلاح، ويبدأ وصول الأسلحة الحديثة، سنكون في حاجة لخبراء أسلحة روس من أجل التدريب العسكري».
لم يمض أسبوع على زيارة حفتر حتى حل في موسكو حليفُه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح واجتمع أيضاً مع لافروف وباتروشيف. ونفى أن يكون طلب أسلحة من الروس، إلا أنه أبدى في تصريح إلى «الحياة» عزمه على الإعلان عن «خريطة طريق سياسية جديدة» بديلة من حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات، والتي انتهت ولايتها في 17 من الشهر الماضي أي بعد سنة على تشكيلها وفق الاتفاق. وأقرَ صالح في التصريح نفسه بوجود «تفهُم روسي واسع» لخطة البرلمان البديلة من الحل الذي فشل المجتمع الدولي في فرضه على الميدان. وأشار بعد اجتماعه مع لافروف إلى «أن هناك مجالاً كبيراً جداً لتطوير العلاقات القديمة الجديدة بين روسيا وليبيا، فهناك علاقات قديمة في كل المجالات، النفط والغاز والسكة الحديد والزراعة وغيرها، ونحتاج إلى روسيا في إعادة إعمار البلاد وتدريب الجيش بالذات، لأن قادة الجيش تدربوا جميعاً بدورات في روسيا وعلى السلاح الروسي ويتكلم معظمهم اللغة الروسية».
على هذه الخلفية يمكن اعتبار الانتصار الروسي في سورية حافزاً كبيراً على المضي في طريق استعادة النفوذ السابق في ليبيا، وتحقيق أحد أحلام الإستراتيجيين الروس بإيجاد منافذ إلى موانئ المتوسط الدافئة. وفي هذا السياق ثمة نقطة بالغة الأهمية في تصريحات صالح في موسكو وهي المتعلقة بتعهُد يبدو أنه قطعه للروس بالتزام العقود والاتفاقات الموقعة مع روسيا قبل العام 2011، إذ قال «نحن نلتزم كل الاتفاقات السابقة وسنبرم اتفاقات جديدة».
وبالإضافة إلى موسكو تدعم باريس حفتر أيضاً، وإن توخت أسلوب التقية في علاقاتها معه، إلا أن مصادر فرنسية مختلفة أكدت أنها تدعمه بالطيران والمعلومات الاستخبارية والتدريب.
على الطرف المقابل من المشهد الليبي تقف عواصم غربية وازنة داعمة لحكومة السراج، وترى ضرورة منحها مزيداً من الفرص على رغم تعثّرها وفقدها السيطرة على الميليشيات المتحكمة برقبة العاصمة. وشكلت معركة استعادة سرت من «داعش» اختباراً لاستمرار الدعم الغربي للسراج، الذي خاضت قوات «البنيان المرصوص» المعركة بتفويض منه، وإن كان اسمياً. وتجلى ذلك في الضربات التي كان الطيران الأميركي يُوجهها لمواقع «داعش» في سرت، والتي بلغ عددها 470 ضربة جوية بين أول آب (أغسطس) وأول كانون الأول (ديسمبر)، وكان ذلك رسمياً بطلب من الحكومة المعترف بها دولياً. وهذا يعني أن اتفاق الصخيرات عاود تشكيل عناصر الصراع الليبي فانتقل من تنازع على الشرعية بين حكومتي عبدالله الثني وخليفة الغويل، ومن ورائهما المؤتمر الوطني العام المنحل (في طرابلس) ومجلس النواب (في طبرق)، إلى صراع بين مؤيدي حكومة الوفاق ومعارضيها، مع وجود فرقاء آخرين ذوي اتجاهات مختلفة في المعسكرين. ومن هذه الزاوية يُنظر إلى اللاعبين المؤثرين الآخرين، وهم بالأساس أنصار القذافي الذين بدأوا يظهرون أكثر فأكثر على الساحة، وكذلك القيادات القبلية التي استعادت دورها السياسي مثلما أثبتت ذلك لدى إطفاء الصراع الذي اندلع في سبها (جنوب) بين قبيلتي القذاذفة وأولاد سليمان. واللافت أن هذه المُكونات السياسية والقبلية تملك مختلف أنواع الأسلحة، ما يجعل خطر الاحتكاك والصدام وارداً في أي وقت. لذا فالخطوة الأولى نحو إرساء نظام سياسي جديد، طبقاً لمخرجات اتفاق الصخيرات، تتمثل في العمل على توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية، كي لا تبقى حكومة الوفاق بلا شوكة ولا قدرة على تنفيذ قراراتها. وتتمثل الخطوة الثانية في جمع الأسلحة من الميليشيات كي تحتكر الدولة السلاح، مع دمج عناصر تلك الميليشيات في مؤسسات الخدمة المدنية.
من الأكيد أن أي سيناريو سيرجح بين الاحتمالات الواردة في 2017 سيُؤثر حكماً في استقرار المنطقة وفي أمن بلدان الجوار، فاستمرار الحرب في ليبيا يُزعزع الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا ويوجد بيئة حاضنة لتمدُد الجماعات الإرهابية. وإذا كانت الدول الغربية الكبرى تشعر بهذا الخطر فإن تذبذب مواقفها وكثرة المناكفات بينها يشلان قدرتها على التأثير. ومن الواضح أن سياسة البيت الأبيض بعد وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة ستكون مختلفة عن سياسة سلفه أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، التي كان إخفاقها في ليبيا أحد أسباب هزيمتها الانتخابية. لذا من غير المُرجّح أن تعاود الإدارة الأميركية المراهنة على تنظيمات الإسلام السياسي لقيادة المسار الانتقالي في شمال أفريقيا، وفي ليبيا تحديداً، بل الأرجح أنها ستعمل على حمل الفرقاء على البحث عن أرضية مشتركة لوضع بنود اتفاق الصخيرات موضع التنفيذ، بعد مراجعة بعضها، مع العمل على إشراك الجميع في الحل، بمن فيهم أنصار القذافي والمعارضون السابقون المناوئون للجماعات الأصولية.
ءصدق الكاتب بهذه الجريدة، الباحث الكويتي المعروف، الدكتور محمد الرميحي، حين قال بمقاله الأخير، إن «الزمن» في سوريا، مع كوارث حلب، هو، على المدى البعيد، ضد نظام بشار الأسد، ومن يعاونه.
في العدد نفسه أيضًا كتب المعارض والباحث الإيراني، كريم عبديان بني سعيد، مؤكدًا عجز النظام الخميني عن الوفاء بفاتورة المأساة السورية، خاصة فاتورة إعادة البناء الاقتصادية، حيث تحدثت أرقام عن نحو تريليون دولار، وأكثر، تكلفة تعمير الخراب السوري، المادي والإداري والقانوني... إلخ.
أضيفُ لهذا، الإشارة لعجز الخمينية الهائجة، عن مصادمة حقائق راسخة، وهي أن الشيعة أقلية في العالم الإسلامي، الذي بنسبته العظمى هو من السنة، كما أنها أقلية في المحيط العربي، وإن كان الوضع اليوم «رديئًا» بسبب تشتت العرب، وخذلان أميركا أوباما، وصلف روسيا، وكارثة «داعش»، فإن كل ذلك «وضع مؤقت»، وسرعان ما ستكون هذه الغزوات الإيرانية والتدخلات الروسية المتتابعة، مدعاة للاستجابة، وتأليف رد مناسب، مع تزايد الغضب الشعبي العام، وتقيح الجراح، وجراحة الكرامة والدفاع عن الذات.
كثر هم من تحدثوا عن تهور الخميني والروسي، مع أدواتهما العراقية واللبنانية، وفلاحي أفغانستان وباكستان، من الأقليات الشيعية، في الجحيم السوري والعراقي، ومنهم، أستاذ القانون الدولي، الأميركي العارف بالعراق وسوريا، نوح فيلدمان.
بالنسبة للغرب، فما يعنيه من حرائق الشرق الأوسط، حجز اللاجئين، خلف حدود القارة العجوز، خوفًا على الهوية الأوروبية، وذعرًا من الذئاب الداعشية المتسللة، كما جرى مع قاتل شاحنة برلين الأخيرة.
لكن ردّ هذه المخاطر عن أوروبا لن يكون بالسلبية، أو النظرة الأمنية القاصرة أو أخذ جانب الروسي وتسليمه الملف السوري، كما في مفاوضات الآستانة بكازاخستان، الانقلابية حتى على مرجعية جنيف.
الحل هو بطرق البيوت من أبوابها، وهي أن المعضلة في النهاية، معضلة قمع ممنهج لغالبية السكان، بنفَس طائفي حقود، وإمبراطوري سلافي عتيد.
حتى شيعة المنطقة، من العرب وغير العرب، مطلوب منهم الانتفاض في وجه المغامرات الخمينية، بحرق الشيعة في فرن المصالح الإيرانية، بل إن قائد حرس الثورة الخمينية، محمد جعفري، قال قبل أيام إن حلب هي خط الدفاع الأمامي عن إيران، طبعًا بدماء شبان من لبنان والعراق وبلاد العجم!
هذا ربما، ما جعل أمين عام «حزب الله» الأسبق الشيخ صبحي الطفيلي يخبرنا، مؤخرًا، في خلاصة حزينة أن السياسة الإقليمية والدولية: «مكّنت طهران من التفرد بأبناء الطائفة الشيعية في المنطقة».
الزمن كما قال الرميحي، ضد بشار ومن يمّده في الغي مدّا.
«الولايات المتحدة لن تتدخل لمقاتلة حزب الله، فحزب الله لم يعلن الحرب على الولايات المتحدة، ولم يتآمر ضدها بخلاف (داعش) و(النصرة)».
ما الرابط بين تلك العبارة وعنوان هذا المقال؟ لعل هذا السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم الذي ستترك له المساحة ليفك طلاسم ذلك الربط، ولكن بعد أن نسير معه في السطور التالية.
إنه عام 2003، الولايات المتحدة تغزو العراق، وأحد محاور الشر كما تطلق عليه (النظام الإيراني) يسهم في نجاح ذلك الغزو. تدبّ الفوضى في العراق وتزداد سوءًا بعد إعلان بول بريمر حلّ الجيش العراقي. الفراغ الأمني تزداد ملامحه شيئًا فشيئًا، وينطلق النظام الإيراني بواجهته «فيلق القدس» وقائده قاسم سليماني لتعزيز النفوذ الإيراني وتأثيره في العراق.
يزداد الوضع تدهورًا في العراق وتزداد معه الخسائر الأميركية.
إنه 2005، تصنف الولايات المتحدة الأميركية قاسم سليماني على أنه داعم للإرهاب الدولي، وتفرض عليه عقوبات عززها القرار الأممي رقم 1747 في 2007 يحظر بموجبه مجلس الأمن السفر على قاسم سليماني، ويعد أي بلد يسمح له بالعبور أو السفر متحديًا العقوبات المفروضة.
إذن العراق دولة ذات حدود دولية معترف بها، وبالتالي وجود سليماني فيها يعتبر انتهاكًا لتلك العقوبات.
ولكن..
عداد الخسائر الأميركية ما زال مستمرًا. ما العمل؟ القوات الأميركية في العراق تنسق الترتيبات الأمنية مع النظام الإيراني، وبالتالي لا بد من أن يكون لـ«فيلق القدس» وقائده دور ملموس في ذلك.
وأين إذن تلك العقوبات المفروضة على قاسم سليماني؟ يتساءل القارئ.
من جديد، في 2011، الولايات المتحدة تفرض على قاسم سليماني العقوبات مرة أخرى مع الرئيس السوري بشار الأسد وغيره من كبار المسؤولين السوريين، بسبب تورطه في تقديم دعم مادي للحكومة السورية. الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) 2011 يدرج ثلاثة من قادة الحرس الثوري الإيراني بينهم قاسم سليماني في قائمة العقوبات، لتوفيرهم أدوات للجيش السوري لغرض قمع الثورة السورية.
يبدو أن قاسم سليماني في مأزق، فهل هذا صحيح؟
تجتهد المحاولات للحصول على صورة لقاسم سليماني في العراق. يبدو الأمر صعبًا.
وفجأة.. صور قاسم سليماني تغص بها وسائل الإعلام المختلفة. ما الذي حدث؟
إنه صيف 2014، تنظيم داعش الإرهابي يجتاح شمال العراق، فرصة ذهبية للنظام الإيراني. كيف ذلك؟ يتساءل القارئ. الإجابة لدى وزير الخارجية الإيراني بقوله إن إيران الدولة الوحيدة القادرة على محاربة الإرهاب في المنطقة. حديث يثلج صدور الغرب لمواجهة الخطر العالمي الذي يهددهم.
صور لقاسم سليماني محمولاً على الأكتاف في عدد من المدن العراقية، وأثناء المعارك وأثناء وضع الخطط مع قادة الحشد الشعبي والجيش العراقي.
أين الحظر المفروض على قاسم سليماني وأين الموقف الأميركي من ذلك؟ يستذكر معي القارئ تصريح وزير الخارجية الأميركي وغيره المرحب بمشاركة إيران في محاربة الإرهاب. من سيتقدم لذلك غير «فيلق القدس» وبالتالي قاسم سليماني.
الوضع يشتد تأزمًا على الحليف السوري، لا بد من التحرك لإنقاذ محور المقاومة من قِبل النظام الإيراني. إذن لا بد من اتخاذ خطوات تجاه ذلك. يتجه قاسم سليماني قبل قرابة سنة نحو سوريا لدعم قوات النظام السوري والميليشيا الموالية له.
هل غاب هذا الأمر عن أجهزة المخابرات الأميركية؟ بالطبع لا، فصور قاسم سليماني التي أشار إليها المتحدث باسم الخارجية الأميركية أخيرًا لم تكن غائبة، لا عن الساحة العراقية ولا السورية.
من جديد أين موقف الولايات المتحدة من ذلك؟
إنه صيف 2015، يطل علينا قاسم سليماني من روسيا وزيارة تبعها مزيد من الوجود والحضور الروسي المؤثر على الساحة السورية. الموقف الأميركي ينفض الغبار عنه، ويستذكر أخيرًا أن هناك عقوبات مفروضة على قاسم سليماني.
يتبرأ المتحدث باسم الخارجية الأميركية بالقول إن زيارة قاسم سليماني إلى روسيا تعتبر انتهاكًا للعقوبات الأممية. ولذا ستطلب واشنطن من مجلس الأمن التحقيق في أمر هذه الزيارة.
إذن قاسم سليماني على وشك التعرض لمزيد من الضغوط، ولعل ذلك يدفع بأن يستذكر الجانب الأميركي أن وجود قاسم سليماني في العراق هو في الإطار ذاته وخرق للعقوبات مثلما هو الحال عندما يسافر لروسيا.
«تمت مناقشة هذا الأمر مع المسؤولين الروس، لكن الخارجية الأميركية لم تتلقَّ ردًا حازمًا من الحكومة الروسية»، كان ذلك تصريح المتحدث باسم الخارجية الأميركية.
يحاول القارئ معي الرجوع بالذاكرة لعل الولايات المتحدة أخذت موقفًا من ذلك. لا وجود لأي موقف.
انقضى عام ونيف على ذلك، وكحال الخطوط الحمراء، لا موقف ملموسًا تجاه خرق قاسم سليماني لحظر السفر. وتكاد تتناسى الذاكرة ذلك..
وفجأة..
المتحدث باسم الخارجية الأميركية يطل علينا من جديد بعد انتشار صور لقاسم سليماني في حلب، ليعلن أن الولايات المتحدة تعتزم الذهاب إلى مجلس الأمن لإثارة قضية وجود قاسم سليماني في مدينة حلب السورية، باعتبار ذلك انتهاكًا للقرارات الدولية.
وماذا عن وجوده المستمر في العراق؟ يتساءل القارئ من جديد.
نعود من جديد هنا للربط بين عنوان المقال وما ذكرناه من تصريح في بداية هذا المقال، فقائله هو وزير الخارجية الأميركي الذي يعلم جيدًا أن حزب الله مدرج في القائمة الأميركية بوصفه تنظيمًا إرهابيًا، لكن منظوره لهذا التنظيم في سوريا أتى وفق اعتبارات أخرى.
فهل المنظور الأميركي لقاسم سليماني سواء في العراق أو سوريا وخرقه لحظر السفر واتخاذ موقف جدي من عدمه يسير وفق ذلك؟
دعوة للتمعن.
ما عاد مفهوم السيادة الوطنية يعني شيئاً بالنسبة إلى بشار الأسد وحلفائه وداعميه. بقاء النظام هو الأهم. لذلك لا يتوقف أحد من حاملي شعار «سيادة سورية وحرية قرارها» عند مشهد عناصر الشرطة العسكرية الروسية (بين 300 و400 جندي) يتجولون الآن في أحياء حلب، التي يفاخر النظام السوري بـ «تحريرها» من مواطنيها، أو بالأحرى بـ «تنظيفها»، كما قال بشار، مستخدماً تعابير من القاموس التقليدي الذي لجأ إليه منذ بدايات الثورة، عندما كان يتحدث عن المتظاهرين السلميين، ولا يرى فيهم سوى «جراثيم» يجب تنظيف المستنقعات منها كي لا تنتشر وينتشر معها داء الثورة، فيأخذ النظام معه.
حلب، عاصمة سورية الثانية، وأعرق المدن العربية، حلب التاريخ وسيف الدولة وأبي فراس وقصائد المتنبي، «يحررها» الروس والإيرانيون من أهلها، ويفاخر رأس النظام السوري بأن ما بعد هذا «التحرير» لن يكون كما قبله. أي أن سورية التي كنا نعرفها لن تعود على يد بشار الأسد كما كانت قبله.
في شهر آذار (مارس) الماضي أجرت إحدى المحطات الألمانية حديثاً مع الرئيس السوري. سأله المراسل إذا كان قلقاً من التدخلات الخارجية، الروسية والإيرانية، على سيادة سورية. أجاب بشار إن «السيادة مصطلح نسبي». ولم ينسَ أن يضيف أنه باق في الحكم بإرادة السوريين!
مفاتيح القرار السوري، السياسي والعسكري، هي اليوم في يد فلاديمير بوتين وعلي خامنئي. لذلك لم يجد بشار الأسد حرجاً في شكر بوتين والإيرانيين على مساعدته على «تحرير» حلب، أي على طرد أهلها منها. اعتبر الأسد أن «الانتصار» في حلب هو «انتصار» أيضاً لموسكو وطهران. وصنّفه في مستوى الأحداث التي سيؤخر لها التاريخ. نجح الرئيس السوري وأعوانه في إعادة رسم الخريطة الديموغرافية السورية. السنّة يتم نقلهم إلى المناطق ذات الأكثرية السنية، التي لا يعتبر النظام نفسه معنياً بأمورها، بل هي مرشحة لدمار مقبل، مثلما هو الوضع التعيس الذي ينتظر محافظة إدلب مثلاً. أما الشيعة فيُنقلون إلى مناطق ذات أكثرية شيعية، ليشكلوا هناك نواة «سورية المفيدة»، التي لا يجد نظام بشار الأسد سواها للاعتماد عليه.
موسكو تخطط أيضاً لما تسميها تسوية سياسية للأزمة السورية، بناء على «انتصار» حلب، من خلال محادثات تجرى في آستانة، عاصمة كازاخستان، في منتصف الشهر المقبل، تشارك فيها روسيا وإيران وتركيا ونظام الأسد، مع استبعاد المعارضة السورية والأطراف الإقليمية الداعمة لها والولايات المتحدة، في التفاف واضح على محادثات جنيف التي تجرى برعاية دولية وبمشاركة كل الأطراف. وبطبيعة الحال سيكون أي حل للأزمة يخرج من محادثات كهذه، إذا عقدت، حلاً يراعي مصالح موسكو وطهران، ويكرس بقاء النظام السوري الحالي في خدمة الراعي الإقليمي والقوة الدولية التي وجدت في دمشق مسرحاً مناسباً لعرض عضلاتها وعودة نفوذها.
كم كان مخزياً في هذا المجال ذلك المشهد الذي رأيناه في موسكو قبل أيام، عندما اجتمع سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف وجاويش أوغلو حول الطاولة ليرسموا مستقبل سورية، الذي تصنعه قواتهم على الأرض، فيما بشار الأسد وحليفه أمين عام «حزب الله» يفاخران بأن النظام لم يسقط لأنه، كما قال نصرالله، «نظام موجود وقوي وفاعل ولا يقدر أحد في العالم أن يتجاهله»... حبذا لو أبلغ هذه الرغبة بعدم تجاهل النظام للوزير الإيراني!
هذا في السياسة، أما عسكرياً، فتنوي روسيا تحويل قاعدتها البحرية في طرطوس إلى قاعدة عسكرية دائمة إلى جانب القاعدة الجوية في حميميم، ما يحقق لها هيمنة كاملة على الساحل السوري ووجوداً عسكرياً طويل الأجل في منطقة البحر المتوسط.
من يحضر السوق يبيع ويشتري، كما يقول المثل. هكذا أدرك فلاديمير بوتين أن الغياب الأميركي عن التدخل لإنقاذ السوريين، وحاجة النظام إلى الدعم بعد أن شارف على الانهيار على رغم الدعم الإيراني، يشكلان فرصة ثمينة لا تفوّت. كانت الساحة مفتوحة للجميع فاقتحمها بوتين ونجح، ليس فقط في تثبيت القواعد الروسية على الأرض السورية، بل فوق ذلك في تحويل سورية إلى جمهورية روسية، كما لم تكن مرة من قبل.
هل تعرفون أننا -السوريين- نتشاجر على طريقة كتابة اسم بلدنا “سوريا، سورية”، وعندما نصل إلى طريق مسدود بالنقاش الذي ينتهي سريعًا، يحذف أحدنا الآخر من حسابه في الفيسبوك، والفيسبوك يا سادة هو النافذة الوحيدة التي يطل منها السوري على بقية أبناء وطنه.
هل تعرفون أننا -السوريين- نحمل كمًا من الحقد يساوي تمامًا كم الحب للباص الأخضر، وكلما حضرت صوره هربنا منها، أو لجأنا إليها، وكلا الهارب واللاجئ إليه سوري، الأول شرده النظام وقتل عائلته، والثاني قدم له النظام المأوى وأعطاه دية قتلاه.
هل تعرفون أننا -السوريين- لبسنا جميعنا، من دون استثناء، ثيابًا داخلية من مجمع استهلاكي حكومي اسمه “سندس”، وخلعناها كلنا في لحظة واحدة، خوفًا من أن يكون العدو السوري يرتدي الثياب نفسها التي يرتديها العدو الأول، فلبس المؤيد الثياب الإيرانية والروسية، وبقي المعارض عاري الصدر، لا يستر جسده إلا دمه.
هل تعرفون أننا -السوريين- لا نعرف بعضنا بعضًا، فالشامي لا يتعامل مع ابن دير الزور، والحلبي لا يعرف الدرعاوي، والحمصي والحموي جيران، لكنهما لم يكونا قبل 2011 جيران الرضا، وفجأة -بعد 2011- بدأنا نتعرف إلى بعضنا، واكتشفنا كم نحن مختلفون ومتناقضون، وأدرك معظمنا -فجأة- أن الشامي ليس تاجرًا فحسب، وأن اللهجة الحلبية لها موسيقاها، والدرعاوي والديري والرقاوي والحموي، يا إلهي.. كم لبثنا في بلد واحد؟
هل تعرفون أننا -السوريين- أنشأنا خلال 6 سنوات ما لا يعد ولا يحصى من الدكاكين الثورية، أولها الائتلاف، وليس آخرها كيان غريب أطلق على نفسه لقب مدني، ظهر في إدلب، إدلب التي تحكمها الفصائل الإسلامية المتشددة، إدلب التي سجنت شبابًا من داريا خرجوا بالباص الأخضر لاجئين إليها؛ لأن أحدهم -بحسب قول السجانين- “أساء إلى الذات الإلهية”.
هل تعرفون أننا -السوريين- لم نسمع بتعبير “أساء إلى الذات الإلهية” إلا اليوم، ولم نكفّر بعضنا بعضًا إلا اليوم، ولم نقتل أو نرجم امرأة إلا اليوم، ولم نكتشف أن الجيش أسدي، وأن الفساد سببه الأسد، وأن الله تركنا منذ زمن بعيد إلا اليوم.
هل تعرفون أننا نحن -السوريين- اختلفنا على ألوان العلم، فصار لسورية علمان، وهل تعرفون أننا لم نشعر يومًا بأن لدينا علم، ولم نرفع التحية له من قلبنا ولا مرة، ولم يكن يعنينا أن معظم الأعلام المعلقة على المدارس مهترئة وألوانها باهتة، وأننا اليوم نحمل علمًا جديدًا يحمل نجماته الثلاث، ويتخلى عن اللون الأحمر، وأنه كلما رفعناه في إدلب نتلقى الرصاص.
هل تعرفون أننا -السوريين- نصل إلى بلد اللجوء، ونتمنى أن يغلَق الباب وراءنا، وأننا نتحدث مع أهلنا في سورية؛ فنبكي على “السكايب”، ثم نتناول العشاء مع صديق أوروبي، وأننا استخدمنا داعش وإرهابها للحصول على اللجوء، وتجاهلنا الأسد وجرائمه وإرهابه، ثم في آخر الليل وبعد كأس من الشاي أو البيرة، نعلن من خلف الشاشة الفضية أننا مستمرون حتى آخر قطرة دم؛ فداء لسورية.
هل تعرفون أننا -السوريين- نحتال على بعضنا، ونمارس كل ما تعلمناه من سنوات الصمت الأربعين من طرق تذاكي؛ لكي نسرق الفرص من أمام بعضنا، وأن من حق غضبنا التظاهر بكل أنواع الشتم والسب الجنسي؛ وأن مثقفينا سطحيون، وفنانينا يشعرون بأهمية الثورة؛ لأنهم التحقوا بها، وأن فقيرنا مهان خارج وداخل سورية، وأن تجارنا شربوا من دمنا قبل أن يشربوا الماء.
هل تعرفون أننا -السوريين- نبكي كل يوم، ونضحك كل يوم، ونبتز كل يوم، ونكتشف كم ضحك علينا سياسيون ومثقفون ومقاتلون ودول ومجالس وهيئات، وأننا في كل مرة نكتشف ذلك، نكتفي بالسباب واللعن، ونهرول إلى الضاحكين ليوظفونا بينهم.
هل تعرفون أننا -السوريين- لسنا شعب الله المختار، ولم نقم بالثورة لنموت، ولا نستمتع بمنظر الدم، ولسنا شعبًا واحدًا، ولا عَلم لدينا، ولا نشيد وطني، كل المتاح لنا اليوم هو الباص الأخضر، الذي يسعى العالم كله؛ ليضع سوريتنا برمتها فيه.
هل تعرفون أننا -السوريين- حتى اليوم لم نكتشف لماذا اختارنا الله وقادات العالم لهذه المجزرة، وأننا لن نخرج منها إلا يوم نعرف أننا لسنا طوائف وأديان وقوميات، وأن لا الباص الأخضر، ولا الذقون المرسلة هي مصيرنا، وأننا أناس عاديون نحب ونكره ونغار ونخطئ ونصيب، والثورة ليست معصومة عن الخطأ، ولسنا جلادين؛ لنمارس أحكام الإعدام على كل من يقول رأيًا مخالفًا.
هناك مقالة عن المحنة التي يمر بها الشعب السوري عقاباً له على ثورته الشعبية. لا نعرف من كتبها، ولا أين نشرت في الأصل. لا نعرف إلا أنها ظهرت في إحدى الصحف العربية، ومنها انتقلت إلى صحيفة عربية أخرى. هي مقالة قصيرة لا يتجاوز حجمها 400 كلمة، ولا تنطوي على أية أهمية سياسية أو فكرية. تكمن أهميتها في أمرين. الأول جرأة يحسد عليها كاتبها في الدفاع عن وحشية نظام سياسي عربي في التعامل مع معارضيه، إلى حد الاستعانة بالأجانب لسحقهم. الأمر الثاني هو إعادة نشرها في صحيفة «الشروق» المصرية يوم الجمعة الماضي تحت زاوية «صحافة عربية». ربما أن هدف «الشروق» هو التعريف بمثل هذا النوع من الأدبيات العربية الهابطة. وربما لسبب آخر لا نعرفه. بل ربما أنه لهذا السبب أو ذاك لم تذكر الصحيفة المصرية من أي صحيفة عربية نقلت هذه المقالة، ولا اسم كاتبها. مهما يكن الدافع وراء كل ذلك، فإن تقديم المقالة على هذا النحو يخلق مساحة بينها وبين القارئ بما يجعل من الممكن قراءتها والتعامل معها مباشرة، بمعزل عن معرفة كاتبها ومكان نشرها الأصلي. وبالتالي الاقتراب من حمولتها السياسية والأيديولوجية بشيء من الموضوعية.
عنوان المقالة - وهو طويل جداً - يختصر كل شيء تقريباً عن مضمونها ورسالتها. يقول: «عندما يتقدم نتانياهو بعرض لعلاج جرحى حلب ويصمت بعض العرب تواطؤاً وخذلاناً... إنها قمة المهانة». أول ما يلفت النظر في هذا العنوان وبقية المقالة، أنه يتحدث عن «جرحى حلب» فقط، وليس عن قتلاها، ولا عن جرحى سورية وقتلاها أيضاً الذين أصبح عددهم بالملايين. ولا عمن اختفى من السوريين في زنازين النظام، أو في قبور جماعية تنتظر من يكتشفها وينشرها للعالم. يشعر صاحب المقالة، كما يقول بـ «قمة المهانة» بأن، نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، هو من تقدم «بعرض لعلاج جرحى حلب»، في مقابل صمت «بعض العرب تواطؤاً وخذلاناً». هل صمت هؤلاء العرب فعلاً، ولم يقدموا أي مساعدة؟ لا أتوقع إجابة عادلة ومهنية من كاتب وصف في مقالته الأردن ولبنان بأنهما من «دول الجوار العربي»، وأنهما الدولتان الوحيدتان اللتان استقبلتا لاجئين سوريين. تجاهل بذلك تركيا عن عمد، كما تجاهل أو يجهل أن في السعودية وحدها من بين من يصفهم «ببعض العرب» أكثر من 2.5 مليون سوري، ولا يعاملون كلاجئين، بل كمقيمين. لنضع هذا جانباً ونسأل: لماذا اقتصر اهتمام الكاتب على «صمت بعض العرب»، وتجاهل صمت النظام السوري أمام هذه المأساة؟ أليس هو المعني قبل غيره برعاية مواطنيه، أو من يفترض أنهم كذلك؟ ثم من المسؤول عن سقوط هؤلاء الجرحى ابتداء؟ يمتلك صاحب المقالة جرأة يحسد عليها بتجاهل هذا السؤال. الأرجح أنه فعل ذلك لأنه يعرف يقيناً أن النظام السوري هو من اختار طواعية منهج العنف والقتل مع شعبه. ويعرف أن هذا النظام باستعانته بالروس والإيرانيين ومرتزقة الميليشيات، هو المسؤل الأول والأخير ليس فقط عن سقوط جرحى حلب، بل عن محنة السوريين برمتها. تجاهل صاحب المقالة كل ذلك يشير إلى أن شعوره بالمهانة والخذلان شعور مزيف لحرف الانتباه عن أصل الجرم وفصله.
يتبين الزيف من استحضار الكاتب نموذج تعامل الحكومة الإسرائيلية مع الفلسطينيين وهم تحت الاحتلال في مقابل تجاهله التام نموذج تعامل النظام السوري مع الشعب السوري الذي يفترض أنه ليس تحت الاحتلال. تعامل الحكومة الإسرائيلية مع الشعب الفلسطيني أقل ما يوصف به أنه جرم موصوف. لكن هل يختلف هذا عن نموذج النظام السوري في تعامله مع السوريين؟ كلاهما يستخدم العنف المفرط في وحشيته، ويطبق مبدأ العقوبة الجماعية على معارضيه بالأسلوب المتوحش ذاته. المفارقة أن إسرائيل تطبق نموذجها المتوحش على من تعتبرهم أعداءها الوجوديين من الشعب الفلسطيني. كيف يقدم صاحب المقالة هذه الحقيقة؟ يقول إن «نتانياهو الذي يترأس حكومة في دولة تحتل أراضي عربية .... قتلت وذبحت، ولا تزال تقتل وتذبح عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف من العرب والمسلمين...». إسرائيل بحكم تكوينها وطبيعتها مستعدة لقتل ما هو أكثر من مئات الآلاف من العرب والمسلمين. لكن ليس هناك ما يثبت أن ضحاياها وصلوا إلى هذا الرقم بعد أكثر من 60 سنة من الصراع. وحتى يثبت صاحب المقالة عكس ذلك بالأرقام، فإن ما قاله هنا هو نوع من المبالغة والكذب لأهداف سياسية في مكان آخر. في المقابل يتجاهل أنه في أقل من ست سنوات، وصل حجم ضحايا النظام السوري، وفقاً لأرقام الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة الدولية، إلى أكثر من نصف مليون قتيل، ومئات الآلاف من الجرحى والمغيبين، وملايين المهجرين، مضاف إلى ذلك تدمير أغلب المدن والقرى السورية. يهدف صاحب المقالة من ذلك إلى التمويه على تشابه النموذجين، وعلى مفارقة أن حجم الفرق بين ضحايا كل منهما لمصلحة إسرائيل. بل إن إسرائيل تطبق نموذجها المتوحش على من تعتبرهم أعداء وجوديين لها. أي أنها تنفذ سياسات وفقاً لما تعتبر أنه في مصلحة مواطنيها. أما النظام السوري فيطبق النموذج المتوحش ضد مواطنيه في شكل حصري، ولما يعتبر أنه في مصلحة بقاء الحاكم، ومصلحة حلفائه الروس والإيرانيين. وذلك في تعدٍ سافر على مصالح الشعب السوري وحقوقه.
إذا كان نتانياهو تقدم بعرض لعلاج جرحى حلب- من الواضح أنه عرض انتهازي- فإن الرئيس السوري بشار الأسد، لم يتقدم بأي عرض سوى الإصرار على تهجير أبناء حلب من جرحى وغيرهم عن مدينتهم استمراراً لسياسة التغيير الديموغرافي التي ينتهجها ترسيخاً لنموذج نظامه السياسي. الأنكى من ذلك أنه شبّه فعلته هذه بميلاد السيد المسيح (عليه السلام)، ونزول الوحي على النبي محمد (صلّى الله عليه وسلم). كم كان صاحب المقالة في غنى عن استحضار النموذج الإسرائيلي في سياق دفاعه عن النظام السوري. هذا أسلوب عرّته الأحداث في شكل مخجل. وكم كانت صحيفة «الشروق» في غنى عن نشر مقالة هابطة في مستواها، وغير نبيلة في هدفها.
ليس هناك صورة تعبر عن مأساة الحرب السورية أفضل من المفارقة التي أظهرت سعادة النازحين، لحظة خروجهم من حصار الجوع والموت، بينما كانوا على طريق الموت الآخر الذي ينتظرهم في مخيمات التشرد واللجوء وعواصف الثلج على حدود بلدهم. أمام هذا المشهد، تظهر محدودية ما حصل في الأيام الأخيرة من "مكتسبات"، سواء أتجسد في اتفاق وقف إطلاق النار، أو إعلان موسكو الذي يشير إلى بداية تفاهم روسي تركي إيراني، أو تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على آليةٍ لتوثيق جرائم الحرب وملاحقة المسؤولين عنها. ومع ذلك، ما من شك في أن هذه المكتسبات الصغيرة بدأت تثير آمال سوريين كثيرين سئموا الموت، وأصبحوا، مثل إخوانهم الذين وجدوا أنفسهم فرحين بخروجهم من تحت الحصار والقصف، مع معرفة ما ينتظرهم في حياة التشرّد من عذاب وضياع، كالمستجير من الرمضاء بالنار. فهل تنجح موسكو في إخماد نيران الحرب التي ساهمت في تمديد أجلها، وتحصد ثمار جهودها، أم سوف تغرق في وحولها، كما يتمنى لها منافسوها، ليس في الغرب فحسب، ولكن في منطقة الشرق الأوسط أيضا؟
سورية بين التسوية الروسية والحرب الدائمة الإيرانية
نجحت موسكو في فرض نفسها على جميع الأطراف المنافسة لها في سورية، وهي تتصرّف تجاههم، كما لو كانت قوة انتداب رسمية حاصلة على تفويض دولي لإدارة الأزمة السورية، وإيجاد مخرج لها. وقد عزّز موقفها في الأشهر الأخيرة نجاحها في إسقاط حلب بالتاكيد، لكن أيضاً، من طرف آخر إجبار حليفها الايراني على قبول وقف النار وفتح المعابر للنازحين، وتمريرها يوم 19 من ديسمبر/ كانون الأول الجاري قرار مجلس الأمن القاضي بإرسال قوات مراقبة دولية إلى حلب، وإعلانها أخيراً عما يشبه خطة طريق، حتى لو كانت تبسيطية، لإطلاق عملية مفاوضاتٍ تبدأ بوقف شاملٍ لإطلاق النار على كامل الأراضي السورية، قبل إطلاق مفاوضاتٍ تهدف إلى التوصل إلى تسويةٍ سياسية في ظل بقاء الأسد ومشاركة المعارضة، في إطار تعديلٍ متفق عليه للدستور وإصلاح تدريجي في بنية السلطة وأساليب الحكم.
على الرغم من تواضعه، يتعارض هذا المشروع، مع مخططات طهران بشكل قاطع. فليس لطهران أي مصلحةٍ بوقف الحرب السورية. وبينما تريد موسكو استثمار سقوط حلب لتعزيز فرص إيقاف الحرب، تطمح طهران إلى تحويل سقوط حلب إلى فرصة لانقلابٍ شاملٍ في علاقتها بسورية والمنطقة، وتحويل سورية إلى عراقٍ ثانٍ تتحكّم به مليشياتها وحرسها الثوري. وهذا ما أكّده سعي هذه المليشيات، حتى اللحظة الأخيرة، إلى تعطيل الاتفاق في حلب، على أمل إفشال الخطط الروسية بأكملها. ما حدا بموسكو إلى مراجعة خططها، ودعوة طهران إلى لقاء ثلاثي بحضور أنقرة، ومع استبعاد الأطراف الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية، الطرف العربي الرئيسي المنخرط منذ البداية في المسألة السورية.
مشكلة طهران أنها، وهي الطرف الذي استثمر أكثر من أي طرف آخر في الحرب ضد الثورة السورية، وبذل المال والسلاح، وخسر سياسياً وأخلاقياً كما لم تخسر أي دولة أخرى، لا تزال بعد مرور ست سنوات على الحرب الطرف الأكثر افتقاراً من أي طرف آخر متورّط فيها لقاعدةٍ قانونية أو سياسيةٍ، تضمن لها الحفاظ على نفوذها وتوسيعه في المستقبل. رهانها الوحيد هو على توسيع دائرة قاعدتها الطائفية أو المذهبية، وهذا ما لا يزال يحتاج إلى عمل وتحضيرات طويلة. لذلك، تشعر طهران أن دخول النظام السوري، أو إدخاله، في المفاوضات الآن، وبرعاية روسية يصعب تحدّيها، يجري على حسابها، وهو يهدّد بأن يسحب منها القرار السوري الداخلي، ويهدر استثماراتها الطويلة، ويدين سياسة المرشد الأعلى السورية بالفشل والإفلاس السياسي والأخلاقي الذي لا يعادله سوى الإفلاس الذي عرفته سياسة ألمانيا النازية المجنونة في الحرب العالمية الثانية.
لذلك، ليس لطهران، التي تراهن على إبقاء سورية جزءا عضويا من إمبرطوريتها، بعد تمويل حربٍ وحشيةٍ لكسر إرادة شعبها، خيار أفضل من استمرار الحرب، وتوسيع دائرة الفوضى والخراب، كما هو الحال في العراق، حتى تحصل على الوقت الضروري لبناء قواعد نفوذها، سواء بتغيير النسيج السكاني جزئياً، أو بالتحكّم بمؤسسات الدولة وأجهزتها، على مستوى أوسع مما حققته حتى الآن. وهي تراهن من أجل البقاء في سورية، وإبقائها رهينةً لها، على تجنيد مجموعاتٍ مرتبطة بها، مذهبياً واجتماعيا، مستفيدةً من الأقليات المذهبية المحلية القريبة منها، ومن الجاليات الجديدة التي تريد توطينها في المواقع الاستراتيجية حول حلب ودمشق وحمص، كما تراهن على التعطيل المديد لعمل الدولة، وإلغاء أي احتمالٍ لإعادة بنائها، في ما يشبه نموذج عمل الحركة الحوثية في اليمن، ما يفتح أمامها إمكانية العمل بهدوء وحرية على تغيير الوقائع الاجتماعية والديمغرافية والمذهببية.
لم تكن التسوية السياسية، أو وقف النار، هما ما كانت تنتظره طهران من سقوط حلب أو إسقاطها، وإنما تكريس الانتصار الكامل، وإلغاء فكرة التسوية نفسها التي لا ترى مكاناً لها مع معارضةٍ تصف جميع منتسبيها بالإرهابيين، وفي أحسن الأحوال، بالصهيو أميركيين. ومهما حاولت موسكو أن تطمئنها، ستظل طهران تشعر بأن القوة الروسية التي أنقذت مشروعها من الهزيمة، عندما تدخلت عسكرياً لصالحها وصالح الأسد عام 2015، هي التي تسرق الانتصار منها، وتحرمها من رسملة استثماراتها وتحول بينها وابتلاع فريستها المستحقة، كما كانت تنتظر بثقةٍ كاملة. تشعر طهران، من دون شك، كما لو أن موسكو، بقصد أو من دون قصد، تحاول أن تخطف اللقمة من فمها. وما يؤرقها أكثر أن الوقت يداهمها، ولم يعد لديها فرصٌ كثيرةٌ للمناورة قبل قدوم الإدارة الجديدة، التي يتميز عديدون من شخصياتها، إن لم يكن معظمهم، بمعاداتهم الشديدة سياسات النظام الإيراني. ومن المفترض أن يعزّز التفاهم الأميركي الروسي المحتمل موقف موسكو، ويجعلها أكثر قدرةً على الوقوف في وجه المشاريع الإيرانية في سورية.
هناك أكثر من عاملٍ يدعو إلى التصادم بين السياستين، الروسية والإيرانية، في سورية. أولها اختلاف الأجندات. فبينما تعتقد موسكو أنها في أفضل وضع لحصاد ما زرعته، وإن أي إضاعةٍ للوقت يهدّد مكاسبها، تشعر طهران بأنها بالكاد انتهت من نصب الفخ للطريدة، فكل ما فعلته، في السنوات السابقة، كان تمهيداً لحل عرى المجتمع وتفكيكه وتدمير الدولة. والآن، جاء أوان الزرع ووضع البذار، أي العمل على شرعنة المليشيات، وتشييع جزءٍ من المشرّدين والمحتاجين وقلب المجتمع رأساً على عقب. ولذلك، هي بحاجة إلى أكثر ما يمكن من الوقت لتحقيق أهدافها وتكريس مكاسبها. وثانيها الهدف، فبينما تنتظر روسيا من مناورتها السورية تغيير نوعية علاقتها المختلة مع الغرب، وإعادة موضعة نفسها قوةً أو قطباً رئيسياً في صياغة أجندة السياسة الدولية. وبالتالي، اكتساب اعتراف الغرب وشراكته. وتريد أن تنجح في تقديم نفسها دولةً قادرةً على المساهمة في حل الأزمات الدولية. وتنظر إيران إلى سورية فريسة تريد ابتلاعها، لتكبير نفسها وتعظيم قوتها وتحسين فرص صراعها الوجودي مع الغرب في المشرق وفي ما وراءه. وثالثها الاستراتيجية. فما تطمح إليه موسكو هو استخدام نجاحها في سورية، بحسم الحرب عسكرياً أو ما يشبه حسمها لصالح النظام، ودفع الأطراف إلى القدوم إلى طاولة المفاوضات، وربما التوصل إلى تسويةٍ تنهي الثورة والنزاع معا، إلى إعادة بناء الدولة التي أصبحت أكبر قاعدةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ لها خارج روسيا، وتأمين إدارتها السياسية. وتراهن ايران، بالعكس، على خراب سورية والشرق الأوسط بأكمله، ونشر الفوضى والفراغ الاستراتيجي فيه، لترويع الغرب وتهديده وانتزاع اعترافه بنظامها ومكتسباتها، وهيمنتها الإقليمية.
مأزق الاحتلال الإيراني
لا يعني هذا أن التحالف الروسي الإيراني مهدّد بالتفكّك، فليس هناك أي مصلحة لطهران أو موسكو في إنهاء تحالفهما المفيد من نواحٍ عديدة أخرى. فموسكو لاتزال تحتاج إلى القوة البرية الإيرانية لإحكام قبضتها على سورية، تماما كما تحتاج طهران إلى المظلة الجوية والسياسية الروسية، للتمكّن من البقاء، وترسيخ حضورها في سورية الآن، وفي أي تسوية قادمة. لكن الحفاظ على التحالف أو السعي للحفاظ عليه لا يلغي الخلاف في المصالح، ولا يعني انتفاء التنازع على الأولويات. وهذا هو الحال في ما يتعلق بتصوّر صيغة الخروج من الحرب المدمرة السورية والمهدّدة لجميع الأطراف، باستثناء طهران التي تحرّك الخيوط من بعيد، وتراهن على قوى محلية وإقليمية أكثر مما تزجّ نفسها في المعارك اليومية. ولا علاقة لما تخشاه طهران بروسيا، أو بمصالحها المباشرة مع روسيا، ولكن بمشروع روسيا في سورية. فمصلحة روسيا تقتضي التوصل إلى حل سياسي للازمة، أو على الأقل إظهار قدرتها وإرادتها على إيجاده، يعزّز ما تطمح إلى تكريسه دوراً إقليمياً ودولياً، ويضاعف نفوذها في المشرق وفي دول الخليج العربي أيضاً، ولا مصلحة لها بالاصطفاف وراء إيران أو الالتصاق بها. وهذا يتطلب منها أن لا تسمح لطهران بأن تكون الرابح الأول أو الأكبر في سورية، بل أن تسعى، بالعكس، إلى الحد ما أمكن من أطماعها للحفاظ على علاقاتها الإقليمية، واكتساب موقع الدولة العالمية.
في المقابل، تطمح طهران إلى أن تحول نهاية المواجهة في سورية انتصاراً تاريخياً على الغرب من خلال انتصارها على العرب ودول المنطقة القريبة منه أو المحسوبة عليه، وأن تجعل من إلحاقها سورية بها غنيمة حرب، تحتكر فيها وحدها النفوذ والسيطرة والقرار. سورية المحرّرة من شعبها الثائر هي، في نظر طهران الخامنئية، خط دفاع استراتيجي عن أمن إيران القومي، لا يهم من يسكنها، وما مصير شعبها، تماماً كما هو الحال في العراق ولبنان.
بعبارةٍ أخرى، يستند نجاح موسكو، في تحقيق أهدافها في الاعتراف الإقليمي والدولي بها، قوةً عالميةً إيجابية، وترسيخ وجودها، ليس في سورية فحسب، وإنما في المشرق والشرق الأوسط كله، بوصفها قوة استقرار وأمن وسلام، يمكن الاعتماد عليها، والارتقاء بنفسها إلى مصافّ الدولة العالمية الحضور، كما كانت في العهد السوفييتي السابق، على قدرتها على وقف الحرب. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون تسويةٍ سياسية، وتفاهمٍ بين السوريين، حتى لو ربحت عسكرياً. فالنظام السوري لم يعد موجودا بالفعل، ولا بد من إيجاد بديلٍ له، والطغمة التي قادت الدولة إلى الهلاك لا يمكن أن تكون هي نفسها البديل، ولا سبيل لتحقيق الحد الأدنى من التفاهم السوري السوري من دون إجراء تعديلاتٍ دستوريةٍ وإصلاحات سياسية ومشاركة لجميع الأطراف في الحكم الجديد. أما طهران التي تعرف أن نظام الأسد قد انهار وتفكّك، ولم يبق منه شيء، فهي تريد أن تعد نفسها ومليشياتها لتكون النظام الوريث، أي أن تبني نظاماً يستند كليا إليها، وتحرّكه روح التبشير المذهبي والعداء لشعوب الإقليم ذاته الذي يحرّكها، وهي لا تتمسك بالأسد إلا قناعاً تخفي به نظام الاستعمار والإحلال الحقيقي الذي تسعى إلى إقامته بديلاً لنظامه .
من هنا، يبدو لي أن من الصعب أن تتجنب طهران الصدام مع ما لا ينبغي وصفه بأكثر من مشروع التهدئة الروسية في سورية، ما لم تقبل بتخفيض سقف توقعاتها وإعادة تعريف مصالحها وأهدافها التي دفعتها إلى غزو سورية، تحت قناع الدفاع عن نظام الأسد، أو النجاح في إثارة نزاعات أو صراعات جانبية، وربما مع تركيا بشكل رئيسي، لإجهاض العملية السياسية. وهي لم تصرّ على حضور اللقاء الثلاثي في موسكو، وتوقع على بيانه، إلا كي تتمكّن من الانقضاض عليه في مرحلة تالية وتعطيل أي تسوية سورية.
على الرغم من شراكتها الكاملة في تحطيم آمال السوريين، ومن تواطؤها مع الأسد وطهران، لحرمانهم من حقهم في تقرير مصيرهم، أي من الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال، ما زال من الممكن لموسكو أن تلعب دوراً في مساعدة السوريين على الخروج من المحنة. ولا يمكن أن يتجسّد هذا الدور في المساهمة في التغيير السياسي، وبناء النظام الجديد الديمقراطي الذي ينشده السوريون، فهو ليس من أهدافها، ولا من أولوياتها، وليست قادرة عليه، وإنما في العمل على وضع حدٍّ للحرب التي كانت طهران، ولا تزال، الواقد الرئيسي والأول في نارها.
ساهمت كل الأطراف التي انخرطت في الأزمة السورية، بشكل أو آخر، في إطالة معاناة السوريين، بعضها بسبب تآمره، وبعضها بسبب تجاهله وتخاذله، وبعضها بسبب أخطائه وسوء إدارته وبعضها لقلة حيلته، وبعضها، كما هو الحال بالنسبة للمعارضة السورية، لضعف تنظيمه وانقسامه وتنازعه. لكن، ما كان لهذه المأساة أن تصل إلى ما وصلت إليه من الوحشية وزرع الشر والدمار، ولا أن تدوم هذه السنوات الطويلة، من دون إرادة الهيمنة المرضية التي تتغذّى من مشاعر التفوق العنصري، وروح الانتقام من العرب والغرب التي تحرّك النخبة التيوقراطية الإيرانية الحاكمة اليوم. ولا أعتقد أن من الممكن إنقاذ المشرق من محنة الحرب الدائمة التي تدفعه إليها طهران من دون لجم هذه الإرادة، ووضع حد لنظام السلطة الأبوية والبابوية "الصليبية" التي تخضع لها الدولة الايرانية، والتي تفرض على الشعب الإيراني الضحية طريقاً واحداً لتحقيق ذاته وتطلعاته: هو طريق الحرب والتوسع والجهاد الطائفي. ما تطمح إليه طهران الخامنئية، باسم نشر الثورة الإسلامية، هو فتح مضاد يلغي نتائج الفتوح العربية الإسلامية، ويعيد إلى الامبرطورية البائدة مجدها وهيمنتها. لكن، لن تكون عواقب هذه السياسة، في نهاية المطاف، سوى انهيار إيران وخراب الإسلام دينا ودنيا في الوقت نفسه.
هل تنجح موسكو في كبح جماح الهيمنة الإيرانية، واحتواء وحش التوسعية القومية والمذهبية المتعطش لمزيدٍ من الدماء والعظمة والانتصارات؟
في الإجابة الإيجابية عن السؤال تكمن مهمة روسيا التاريخية وفرصة موسكو الوحيدة للنجاح في وضع نهايةٍ للحرب السورية، وللحروب العديدة الأخرى التي ولدت من صلبها، وعلى هامشها، بما فيها الحروب الداعشية، وهذا بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي الذي سوف ينجم عن السلام.
يتوضّح أكثر بعد معركة حلب أن روسيا تسير في خيار الحسم العسكري، وإنْ كانت تعمل على ذلك بـ "هدوء"، أو بـ "بطء". فقد سكّنت الجبهة الجنوبية بالاتفاق مع النظام الأردني. وأخذت تقطف ثمار الحصار الطويل لكل المدن والبلدات في محيط دمشق، من خلال تحقيق "المصالحات" التي تقتضي خروج المقاتلين والسكان منها. وقرّرت حسم الصراع بالقوة في حلب وإدلب والشمال عموماً، بعد أن سمحت لتركيا بالسيطرة على شريطٍ من حدودها مع سورية في حرب ضد "داعش". وهي غير مهتمة بـ"داعش" ومناطق سيطرته، لأنها تستطيع استعادتها بـ "هدوء" حين تريد، لأنها تخدمها من خلال السيطرة على مناطق النفط التي باتت من حصة الشركات الروسية، وحيث تتحكّم في جزء منها هناك. لهذا لم تقاتل مسلحي "داعش"، على الرغم من "الأفلام" التي نشاهدها بين حين وآخر.
ويبدو أنها تريد الآن تشكيل "معارضة معتدلة"، تقبل الاتفاق مع النظام، لكي تقول إنها أنهت الصراع الطويل في سورية، وأعادت الهدوء إلى هذا البلد.
يتمثل المنظور الروسي في حسم الصراع بالقوة وفرض بقاء بشار الأسد ونظامه. ولهذا، يستخدم قواته الجوية والبرية، ويعتمد على مليشيا طائفية من بلدان عديدة. هذه هي، باختصار، الإستراتيجية الروسية التي استخدمت سورية حقل تدريب لجيشها، وتجريب سلاحها الجديد، واستعراض قوتها لكي تزيد من مبيعات سلاحها. وهي تريد احتلال سورية من أجل مسائل عديدة. أولها استراتيجي، يتعلق بأن سورية مرتكز توسيع السيطرة على "الشرق الأوسط" الذي يعيش حالة انسحاب أميركي. وثانيها عسكري، يتعلق بتوفير قواعد بحرية في سورية من أجل الهيمنة على البحر المتوسط، وقواعد جوية وبرية لـ "حماية مصالحها" في سورية و"الشرق الأوسط". وثالثها الحصول على مصالح اقتصادية، تتعلق بالنفط وإعادة الإعمار ومشاريع تقطف ثمارها الشركات الروسية. ورابعها التحكّم بخطوط النفط والغاز، لكي تمنع كل إمكانية لمد خطوط عبر سورية، تنافس روسيا في أوروبا.
ولا شك في أن ذلك كله "مصيري" وحاسم لروسيا، البلد الإمبريالي الذي يريد الأسواق، لكنه يريد كذلك منع التنافس، كي يُبقي أوروبا في حاجةٍ إليه في ما يتعلق بالنفط والغاز. لهذا، تسعى إلى فرض احتلال على سورية، وليس فقط إقامة علاقات متميزة، لأن هذا هو ما يضمن لها ذلك كله، ولأن ضرورة إقامة قواعد عسكرية يعني فرض الاحتلال، كما أرادت وتريد أميركا في العراق. وتدفعها كل هذه الأمور إلى الحسم العسكري، والسيطرة على كل سورية (وهنا، يصبح كل حديث عن التقسيم لعبة مسلية، هدفها تشتيت النقاش وتضييع الحقائق). لكن، لنفترض أن روسيا استطاعت، بكل تفوقها العسكري، أن تسيطر على كل الأرض السورية، فهل تستطيع ضمان قدرة النظام على الحكم؟
السؤال نابع من ملاحظة بسيطة، هي أن النظام لم يعد يمتلك جيشاً، وهذا ما اعترف به بشار الأسد في صيف سنة 2015 مقدمة لطلب التدخل الروسي، حيث هناك بقايا جيش، وعصابات تسمى "الجيش الوطني"، وحتى فرق الجيش باتت تتشكل من هذه العصابات، بعد فرار أغلبية الجيش أو انشقاقه، وهروب الذين يُطلبون إلى الخدمة العسكرية، ومقتل آلاف منه. ولهذا، من يقاتل الثورة "قوى خارجية". هكذا بالضبط، وهي حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية والأفغانية والباكستانية، والحرس الثوري الإيراني، ومرتزقة من فلسطين ولبنان وغيرهما. وبالتالي، كيف يمكن أن يحكم بعد تحقيق "الانتصار"؟
أمام روسيا خياران. الأول الاعتماد بشكل مستمر على هذه القوى التي هي خاضعة لإيران، وهذا يعني أن على روسيا أن تقاسم إيران في "الغنائم"، ومنها القبول الروسي بمدّ خط أنابيب الغاز الذي وقعته مع بشار الأسد سنة 2010، وضمان مشاريع اقتصادية لها، وسداد ديون النظام لها. وأيضاً أن تقبل سياسات إيران التي تستغلّ حزب الله من أجل التفاوض، حيث تريد السيطرة على سورية ولبنان (والعراق واليمن) كما يصرّح قادتها. ويتناقض هذا الأمر مع تحالف روسيا مع الدولة الصهيونية التي تريد إنهاء وجود حزب الله، وإبعاد إيران عن حدودها. ولا شك في أن ذلك كله يتناقض مع مصالحها هي، حيث تريد السيطرة الأحادية على سورية، ومدّ سيطرتها إلى "الشرق الأوسط". والخيار الثاني أن تأتي بقواتها هي، لكي تصنع أرجلاً لنظامٍ تريد استمراره، وهذا يورّطها في حرب طويلة، وهي حربٌ ستحدث، حتى وإنْ اعتمدت على قوى إيران.
تحتاج إعادة بناء جيش سوري إلى زمن طويل، وربما لا يكون ممكناً ذلك نتيجة "غياب الشباب" الذي يقبل الخدمة العسكرية، بعد أن جرى تهجير أكثر من نصف السكان، وفرار شبابٍ كثيرين من مناطق النظام، وحتى من "داعميه". بالضبط لأنهم لا يريدون المشاركة في هذه الحرب القذرة، بعد أن فقدت تلك المناطق عشرات آلاف الشباب في حرب النظام ضد الشعب، ومن أجل إجهاض الثورة. والعجز عن بناء جيشٍ جديد يعني أن على روسيا إما أن تقبل بتقاسم مع إيران، وهو تقاسم غير مضمون النتائج، أو تزيد من قواتها البرية، وهذا أمر يغرقها في أفغانستان جديدة. فهل تقبل أن تبقي المعادلة الحالية بعد أن تحسم الأمور؟
هذه هي معضلة روسيا في سورية، ذلك أن "انتصارها" لن يكون مكتملاً، وسوف يخضع لظروفٍ تقلل من قدرتها على السيطرة واحتكار سورية. وأشير إلى ذلك انطلاقاً من بديهية واضحة، هي أنه حتى وإنْ استطاعت روسيا السيطرة على كل سورية، فإن الحرب ضدها وضد النظام لن تتوقف، وإنْ اتخذت أشكالاً جديدة، فليس من انتصارٍ حاسم ممكن لها في كل الأحوال. ولا شك في أن تمسّكها ببشار الأسد، وببنية النظام كما هي، من دون أن تقدم "تنازلاً" واحداً، سوف يفرض عليها أحد الخيارين السابقين، أي الاعتماد على قوات إيران وملحقاتها أو إرسال قواتها. لا بد، في الحالة الأولى، من أن تقدّم تنازلاتٍ لإيران، وهو ما لا تستطيعه، أو إرسال قواتها، وهذا سيدخلها في أفغانستان جديدة، ربما أسوأ من السابقة، خصوصاً أن الوضع العالمي يعاني من سيولةٍ وتحوّلٍ في التحالفات، يمكن أن تقود إلى تصارع مصالح في سورية، يعزّز من الصراع ضدها. والأهم هنا هو أن الشعب الذي ثار لن يقبل الهزيمة التي تتمثل ببقاء بشار الأسد ومجموعته. وبالتالي، سوف يستمر العمل المسلح ضد النظام وحامليه من إيران إلى روسيا، ولسوف يتخذ أشكالاً أفضل مما جرت ممارسته منذ ثلاث سنوات. فحرب العصابات هي التي ستكون الرد المناسب على وضعيةٍ مفروضةٍ من بقايا نظام وسلطة احتلال وأدوات طائفية. ولكن، يمكنها تحويل وجهة الصراع من روسيا في حالةٍ واحدة فقط، هي إنهاء سلطة بشار الأسد ومجموعته، وإعادة بناء الدولة على أسس تشاركية. فهذا هو المدخل الوحيد لبناء قوى عسكرية تحمي الدولة، حيث إنها الخطوة التي تسمح بعودة عشرات آلاف الفارّين من الجيش، وتهدئة القوى التي تقاتل الآن ضد النظام، وتحقيق "قبول شعبي" بشكلٍ ما. على الرغم من أن الصراع سوف يستمر بأشكال أخرى، نتيجة الحاجة لتحقيق مصالح الشعب، الاقتصادية والسياسية، فالشعب يريد العيش الكريم والديمقراطية، هذا هو ملخص الحرية التي يريدها، وطرحها منذ البدء.
لا بد من قول بعض الجمل حول أسباب تركي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في هذه اللحظات المهمة من المعركة الدائرة حول وطننا وداخله.
وكنت قد انتسبت إلى "الائتلاف" في ظرفٍ بدا معه أن دخول "كتلة ديمقراطية" قوية إليه سيمثل إضافة نوعية للعمل في سبيل الثورة السورية. حينها، كنت أعتقد أن علينا، كديمقراطيين، تدارك ما في الثورة من نواقص خطيرة، كافتقارها إلى قيادةٍ تعترف بها جميع أطرافها، وإلى خطةٍ استراتيجية، وبرامج تفصيلية تغطي سائر جوانبها، وخطط تتفيذية تحدّد وتوقّت مساراتها، وتلعب دورها في نقل أعمال "الائتلاف" وأنشطته من دورٍ يلحق بالأحداث إلى دور يستبقها ويوجهها إلى حيث تخدم الثورة، وتقوّض النظام الأسدي إلى جانب توحيد الجهود السياسية والعسكرية، وإخضاع الثانية منهما لما ترسمه القيادة السياسية من خطط، وتصدره من أوامر وتقرّه من برامج، وكذلك استعادة رهان الثورة على الحرية، من خلال عملٍ منظم يقاوم النزوع إلى العسكرة والطائفية والمذهبية، لدى النظام وبعض التنظيمات الجديدة، كالقاعدة و"داعش"، و"أحرار الشام" (قبل تحولهم نحو رؤية فيها عناصر وطنية)، والسعي إلى توطيد تماسك الحاضنة الاجتماعية المعادية للنظام، عبر سياساتٍ متكاملةٍ تشجعها على التمسك بحراكها اليومي والسلمي.
من أجل هذا البرنامج، كتبت ورقةً أقرّتها الهيئة السياسية (ولم ينفذ منها شيء) تتضمن رؤيتي لطرق إنجاز هذه المهام، قصدت بها دفع "الائتلاف" إلى وضعٍ يمكّنه من إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في بنيته وسياساته، وتعزيز قدرته على ملاقاة التطورات والتحكم بها، طالبت فيها بإعطاء الأولوية في عمله للداخل باعتباره ساحة الحسم التي يتوقف نجاح الثورة وفشلها على تعبئتها وتنظيمها وربطها بالثورة التي كان جلياً أنها ستستمر فترة طويلة. وقلت إن الرهان على الخارج يبعد تضحيات السوريين عن هدفها: الحرية للشعب السوري الواحد، ويحولها إلى أداة تخدم تصفية حسابات متنوعة، تمارسها القوى الدولية عامة، وأميركا خصوصاً، من خلال سورية التي تتحوّل من مكان للثورة إلى ساحةٍ تدور فيها مختلف أنواع الصراعات والتدخلات التي لا تمت لها، أو لمطالب الشعب السوري بصلة. وأكدت على ضرورة بقاء "الائتلاف" مستقلاً، ومنتجَ عمل وقرارٍ وطني يواجه من خلاله الصراعات الإقليمية والدولية المتزايدة الانخراط في بلادنا، والتي أسهم ظهور التطرّف المسلح معها في الانزياح الجدّي الذي يأخذ بدوره الثورة إلى العسكرة والتطييف والتمذهب، ويتبع السياسي للبندقية عوض أن يخضع البندقية للسياسي، ويقوّض بصورة متزايدة قدرة "الائتلاف" على امتلاك تمثيل وطني مستقل يحترمه الآخرون، يقنع الأشقاء العرب والعالم بالخيار الديمقراطي، خياراً يضمن وحده أمنهم وسلامهم، ويرد عن سورية وعنهم مخاطر (وجرائم) الإرهاب، القاعدي والداعشي، ويؤسس البيئة السياسية الضرورية لإسقاط الأسد ونظامه. وفي هذا السياق، يجعله وضعه الذاتي رقماً صعباً يستحيل على الآخرين تحقيق مصالحهم في سورية، من دون تحقيق مطالبه، وفي مقدمتها تطبيق القرارات الدولية التي تدعو إلى الانتقال الديمقراطي الذي يأخذ سورية إلى الحرية والعدالة والمساواة والكرامة.
ومع أنني كتبت مجموعةً كبيرةً من الأوراق التي تعالج هذه القضايا، ووضعت برنامجاً تفصيلياً لإصلاح العمل الوطني، وليس "الائتلاف" وحده، فإن عائد جهودي كان محدوداً إلى أبعد حد، وضاع في التحزبات والخلافات والصراعات الانتخابية، والتدخلات الخارجية المتعدّدة الأطراف، بينما كان "الائتلاف" يبتعد أكثر فأكثر عن دوره المفترض قائداً للثورة، ويكتفي بصفته التمثيلية التي تقلصت، بمرور الوقت، إلى اتصالاتٍ خارجية، ازدادات تدنياً وهامشية، وعلاقات داخلية برّانية، أخذت دوماً صورة أحاديث مرسلة مع العسكر، لم تترتّب عليها أية نتائج عملية بالنسبة لنظرتهم إليه، أو إلى أنفسهم وأدوارهم. أما الأسباب فترجع إلى أن التنظيمات المسلحة الكبيرة لم تعترف به، وبمشروع الحرية الذي أعلن تبنيه، لكن إكراهاتٍ عمليةً ألزمته بمراعاة الواقع الميداني/ الداخلي الذي تسيطر هي، وليس هو، عليه. وبما أن معظم هذه التنظيمات كان معادياً لمشروع الثورة الأصلي، أي للحرية، فقد أحجم "الائتلاف" عن مواجهتها، ومارس حيالها موقفاً جعل مشروعه الثوري كلامياً، وأرغمه على التساهل في تبنيه فعلياً وعملياً، وفي النضال من أجل انفراده بالساحة، مع أن الموقف منه كان وسيبقى الموقف من الثورة الذي يجب أن يوضع في مرتبةٍ أعلى من أية علاقة جزئية أو دنيا، يقيمها مع أية تنظيمات، فكيف إذا كانت إرهابية.
هذا الواقع الذي افتقر إلى قيادة وخطط وبرامج ثورية، واتسم بالتفكّك السياسي والعسكري، وخالطته نزعة إرهابية قوّضت طابعه الثوري الحر، بدا عصياً على أي إصلاح، ناهيك على التغيير، وأقنعني، منذ أعوام، أن دوري في "الائتلاف" لا يفي بالغرض الوطني الذي من أجله انتسبت إليه، وأن دخولى إليه تحوّل من فعل تغييري مزمع إلى واقع احتوائي مفروض ومرفوض، لكنني كنت أعد نفسي دوماً بجهة تفي بوعودها حول تطبيق برنامجٍ متفقٍّ عليه، وتشكيل فريق استشاري حول الهيئة الرئاسية يضفي شيئاً من المشاركة على أنشطتها وقراراتها، يغطي جميع أوجه الواقع السوري، بعد إعادة هيكلته بوصفها عملاً متخصصاً وخبيراً. وفي النهاية، كان لا بد من قرار، خصوصاً بعد اجتماع الهيئة العامة أخيراً، والذي طالبت فيه أغلبية ساحقة من أعضاء "الائتلاف" برفع غطائه السياسي عن جبهة فتح الشام (جبهة النصرة)، لكن جهةً ما عطّلت إصدار القرار الذي اتخذ، الأمر الذي أثار لدي ولدى عدد كبير من الأعضاء الانطباع بأن هناك اليوم أكثر من ائتلاف، وأن الجهة التي تتخذ قراراته مطبخية وسرية، وما عداها لا حول له ولا طول، وإنها تمتلك من الآليات ما يمكّنها من فعل ما تريد. لذلك لن يكون البقاء في "الائتلاف" غير تغطية لأعمالها وقراراتها التي تتعارض مع قناعاتي، وليس من الإنصاف أن أتحمل مسؤوليتها، وخصوصاً في حالة جبهة النصرة، الجهة التي تتعارض أفعالها تعارضاً جذرياً من المصالح الوطنية والعليا للشعب السوري، ومع الثورة وقيمها، وتدمر فرص نجاحها، في واقع دولي يجد نفسه منذ أعوام أمام المفاضلة بين إرهابي يقتل شعبه هو المجرم بشار الأسد، وإرهابيين سيقتلون شعوب العالم كافة، إن أسقطوا حكمه. وقد اختار العالم الإرهابي الذي يقتل السوريين، لاعتقاد قادته (غير الصحيح طبعا) أن خياره هذا يحمي شعوبه. بما أن "الائتلاف" لم يفعل شيئاً ضد هؤلاء الإرهابيين الذين يخشاهم العالم، فقد بدا وكأنه يؤيدهم أو يناصر قضيتهم، وليس صادقاً في عزوه إرهابهم إلى النظام، وإلا لما أحجم عن التنصل منهم ومحاربتهم، ولما رفض، رفع غطائه السياسي عنهم.
واليوم، وقد بدأ الخط المتعسكر/ المتمذهب بالانهيار، وصار من الضروري أن نعمل كي لا يتحول سقوطه إلى سقوط للثورة، يكون على كل وطني محب للشعب العمل لاستئناف ثورته الأصلية كثورة حرية وكرامة لجميع السوريين، من دون أي استثناء. وبالنظر إلى أن "الائتلاف" رفض، بعد كارثة حلب، اتخاذ قرارٍ يدين "النصرة" بالإرهاب، ويتنصّل من أعمالها ويضعها خارج الثورة، فقد كان من الضروري أن أغادره لأشارك، من الآن، في الجهد الوطني الذي سيتركّز على استئناف ثورة الحرية للشعب السوري الواحد، ويتطلب نجاحه جعل المعركة ضد الإرهاب استراتيجية قائمة بذاتها، تحفز بنجاحاتها الحراك الثوري/ السلمي/ الوطني الذي سيقترن بما نراه من انفكاك قطاعاتٍ شعبية واسعة عن الإرهابيين وتنظيماتهم، وتوجه لدى شابات وشبان سورية نحو استعادة دورهم المفصلي في ثورة الحرية والكرامة التي صار إحياؤها مسألةً إنقاذية، من غير الجائز التساهل فيها أو تجاهلها. لو كان "الائتلاف" مؤهلاً للقيام بهذه المهمة، أو عازماً على الخروج من هامشيته الراهنة، عبر التصدّي لقيادة هذه المحاولة الإنقاذية، لكنت خادماً صغيراً له، لكنه لا يقوم بما يوحي أنه أدرك أهمية السانحة المتاحة، ويريد التصدّي لمهامها.
عندما أبلغت "الائتلاف" بانسحابي منه، تمنيت له النجاح، هذا ما أتمناه له اليوم أيضاً، وسأتمناه له دوماً.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
لأن الشعب هو الذي يدفع ثمناً فادحاً من دمائه لتصحيح أخطاء حمقى السياسة والسلاح، ولأنه لا يستشار في أيّ شأن من الشؤون التي تفضي إلى هلاك بناته وأبنائه، فرادى وجماعات، في حالاتٍ كثيرة على أيدي (أو بسبب) من يدّعون تمثيله والقتال دفاعاً عنه، يصير من غير الجائز أن يعلو أي صوت، بعد اليوم، على صوته، أو تسمو أية إرادة على إرادته. في المقابل، لا يحق للشعب مغادرة الشارع من الآن فصاعداً. وعقب كارثة حلب التي فضحت واقع المعارضة السياسية والمسلحة، وفضحت ما يشوبه من تشوهاتٍ بنيوية إن استمرت، غدا تجاهلها فوق طاقة السوريين، وحلت الهزيمة بالثورة، بعد أن أباد نظام الإجرام الأسدي وأعطب الملايين منهم، وأذاق الأحياء منهم شتى صنوف القتل والتجويع والحصار والتهجير والاعتقال والتعذيب، بينما لم يقصّر أمراء الحرب وتجارها في قمع ما يسمونها، نفاقاً وكذباً، "الحاضنة الشعبية" وقهرها وتجويعها وقتلها، وأكملوا سياسات الأسد وبطانته وجرائمهما، فمزقوا المجتمع وشتتوه، وأخضعوه لأنماط من الاستبداد المذهبي، لا تقل وحشيةً عن استبداد نظام الأسد الطائفي، مدّعي العلمانية، حتى ليصدق القول إن مذهبة ثورة الحرية نقل شعب سورية من "تحت الدلف إلى تحت المزراب"، حسب قول مثل شعبي، يصف تعاظم مآسي من يريد التخلص من مصيبة فيقع في مصيبة أشد وأدهى منها.
مرت الثورة في مرحلة أولى: مجتمعية/ شعبية، طالبت سلمياً بالحرية لشعب سورية الواحد. تلتها مرحلة ثانية: تعسكرت وتمذهبت وتطيفت فيها، رسم النظام ملامحها وساعده مذهبيون على تحقيقها بحجة الدفاع عن الدين والمسلمين. واليوم، وقد صارت علامات انهيار هذه المرحلة واضحةً للعيان، لا بد من استئناف مشروع الثورة الأصلي، بقواها المجتمعية الواسعة، ونخبها المدنية الحديثة، كي لا يكون فشل العسكرة والتمذهب فشلاً لها، ومن الضروري أن يستعيد الشعب الشارع، مثلما فعل بعد إعلان هدنة شهر فبراير/ شباط الماضي، إذ عمّت مظاهراته كل مكان، ورفع من جديد شعاره العظيم "الحرية للشعب السوري الواحد". سيرتبط مصير الثورة، من الآن، بنزول الشعب إلى الشوارع وأنشطته المتنوعة فيه، وبمبادرات شاباته وشبانه وحراكه اليومي داخل وطنه وخارجه. وأخيراً، بتحويل طرده المأساوي من وطنه إلى كارثة تحل بالأسدية، بإظهار حقيقة ثورته، وما تريده من حرية وكرامة إنسانية، ومن عدالةٍ لجميع مواطني سورية الذين ستضمن لهم حقوقاً قانونية ومتساوية، ومن سلمية تجافي الإرهاب وترفضه فكراً وممارسةً، وبالنتيجة من تغيير موقف العالم من نظام الإرهاب الأسدي الذي فتك بالملايين منهم، ودمر وطنهم: أحد أكثر بلدان التاريخ حضارة وثقافة، وشعبهم المنتج/ المبدع الذي أسهم في بناء واحدةٍ من أزهى حضارات البشر، ويبيده منذ أعوام رهط من المجرمين، يرفض أي حل سياسي سلمي للمأساة التي أنزلها به.
بعد حلب، لم يعد بالإمكان ترك الثورة لتنظيمات سياسية فشلت في قيادة الثورة، وعسكرية تبنى معظمها مشروعاً معادياً لمشروعها، لم يخدم أحداً غير النظام وبطانته المجرمة، لا يجوز بعد حلب السكوت عليها، وإلا سمح السوريون لها بسوقهم إلى الهزيمة، بعد ما قدّموه من تضحياتٍ تضيعها تنظيماتهم. لا بد أن يستعيد الشعب ثورته، وأن يدافع عنها بحراكه الكثيف، وأن تصحح نخبه المدنية مسارها، لتخلصها من الأخطاء القاتلة التي ترتكب باسمها، وفي مقدمها الجنون المذهبي، وإخضاع السياسة لسلاح جهلة ومنحرفين وطنياً وأخلاقياً.
بعد حلب، لن يكون لدى السوريات والسوريين من خيارٍ غير استئناف ثورة الحرية أو الهزيمة، فإن كان الخيار هو الثورة، وجب عليهم العمل بكامل قدراتهم، ولحظة بلحظة لطي صفحة التمذهب والتعسكر المتأسلم، وفتح صفحة الوطنية الجامعة التي ستضم قواها المتنوعة جميعها، التي ستشق لنا الطريق إلى قصدنا الوحيد: دمشق الحرة.
كلما تصاعدت أسهم بقاء نظام بشار الأسد، بسبب أولوية القضاء على إرهاب خصومه، تصاعد الجدل حول اختلال المعايير الدولية، وتظهر مظلومية تتعجّب من تركيز العالم على الإرهاب السُني، لا الشيعي.
وعلى الرغم من اختلال المعايير الدولية قطعاً من الجوانب الأخلاقية، وأبسط أخطائها عدم فرض منطقة حظر جوي لحماية المدنيين السوريين، لكن هناك أنواعاً أخرى من الأسباب السياسية تفسر اختلاف التعامل، خصوصاً أنه بالعكس كان موقف الغرب الأساسي ضد بشار الأسد، وحصل معارضوه على دعمٍ وصل إلى التدريب والتسليح لبعضهم.
أول هذه الأسباب اختلاف طبيعة الفاعلية الدولية بين المعسكرين، الشيعي والسني، بمعنى أن إيران أثبتت قدرتها على السيطرة على حلفائها ومليشياتها، وبالتالي يعرف المفاوض الغربي أن بإمكانه عقد صفقةٍ تشمل الملف النووي، والعراق وسورية واليمن ولبنان، وهذه ممارسةٌ سياسيةٌ يفهمها العقل الغربي، ويحترمها حتى لو كره أطرافها.
على الجانب الآخر، تتشتت الفصائل السُنية بين مئات القادة وعشرات الممولين، ويستحيل أن يُعقد اتفاقٌ مع السعودية أو تركيا تلتزم به "داعش" و"النُّصرة" أو فصائل أقلّ منهما. لا ممارسة سياسية، وهذا لا يحترمه العقل السياسي الغربي الذي يعمل بالحسابات المباشرة. هل لو تم التوصل إلى حلٍّ ينصّ على رحيل بشار في مقابل تسويةٍ سياسيةٍ ما يمكن للمعسكر السني إنفاذ ذلك؟ إيران لا ترغب، بينما السعودية لا تستطيع.
وكما تختلف الفاعلية الدولية، يختلف الطموح الدولي أيضاً. أهداف المليشيات الشيعية إقليمية فقط، حقاً تستخدم خطاباً طائفياً متطرّفاً، وتمارس كل أفعال الإجرام بما فيها الذبح، لكن ذلك كله موجهٌ نحو الآخر السُني القريب فقط.
لم يختطف تنظيم شيعي رهائن غربيين ويذبحهم أمام الكاميرات، لم يقتل شيعي رواد مسرح في فرنسا، أو مرتادي سوق في ألمانيا، ولم تنفذ خليةٌ شيعية تفجيراً إرهابياً في مطار بروكسل. هذه كلها أفعال تنظيمات سُنية فقط، وهي فقط من تنادي بعودة خلافةٍ من أولوياتها فتح هذه البلاد الكافرة، فليس العجيب هنا أن يكون رعب الشعوب والحكومات الغربية وأولويتها ضد الإرهاب السُني، بل كان سيكون عجيباً لو لم يفعلوا.
جانب مهم آخر هو توافق صورة نظام بشار مع النظام العالمي، بعكس صورة "داعش"، صورة بشار ذي البذلة الفاخرة، وزوجته العصرية الأنيقة، تظهر مقابل صور اللحى الشعثاء واللغة التي تحمل مصطلحاتٍ غريبة من خارج التاريخ.
يظهر بشار متحدّثاً بالإنكليزية بلباقة الطبيب الواثق من نفسه، لينفي كل شيء ويزايد أخلاقياً. مثلا، يضحك وهو يجيب بهدوء "ليست لدينا براميل أو ربما أواني المطبخ". وعلى الرغم من أن كل الجهات الدولية وثقت مقتل آلاف المدنيين بالبراميل، فإن أثر إعدام "داعش" حرقاً رهينةً واحدة يؤثر دولياً وشعبياً أضعاف الضحايا المحروقين ببراميل الأسد. هذه قواعد هيمنة الصورة.
في عيد الأضحى الماضي، أصدر كل من نظام بشار وداعش فيلمين دعائيين متزامنين، عرض التلفزيون الرسمي السوري مشاهد من صلاة بشار ورجاله في مدينة داريا، التي اكتمل خروج أهلها جميعاً منها بعد سحقها.
يستمع بشار لخطبة العيد من خطيب سُني ذي عمامة بيضاء ناصعة، ليؤكد صورة الدولة الوطنية الحامية كل مكوناتها، ويستخدم عبارات عاطفية بعدها: "هذه ليست رسالة للسوريين، فأنا وكل السوريين نعيش حالة واحدة".
في المقابل، نشر تنظيم داعش تصويراً لذبح 19 شاباً داخل مسلخ مخصص للمواشي. نستمع لصوت البغدادي يخاطب رجاله "تقبل الله ضحاياكم بمرتدّي الصحوات"، ونشاهد ببطء عملية ذبح الشباب، وتعليقهم من أرجلهم بالسلاسل الحديدية حتى تصفية دمائهم، ثم سحبهم على الأرض.
على الرغم من أن حجم الضرر لا يُقارن، فنظام بشار قتل الآلاف من أهل داريا، وتم تهجير كامل سكان المدينة، ودُمرت 90% من مبانيها التي تعرّضت خلال عام 2015 فقط للقصف بـ 3430 برميلاً، لكن هذه قواعد عصر الصورة، وقواعد النظام العالمي. كُن جزاراً كدولة، وليس كمنظمة إرهابية.
نتمنى عيداً بلا جزاري بشر، أياً كانت فعاليتهم السياسية، وأياً كان التزامهم بقواعد الصورة.