عندما يعلو صوت السلاح، تصبح المعارك المسلحة ومشاهدها الدامية أكثر استحواذاً على اهتمام المتابعين من الاتصالات السياسية. وهذا أمر طبيعي من زاوية أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى.
لكن الامتداد المقصود هنا يحمل معنى التفاعل، وأحياناً التداخل، وليس بالضرورة معنى التتابع الزمني. صحيح أن الحرب تبدأ حين تفشل السياسة في منعها. غير أن نشوب الحرب لا يؤدي في كل الحالات إلى توقف السياسة، إلى أن يقول السلاح كلمته. ولا يقتصر دور السياسة خلال الحرب على الجهود التي تُبذل سعياً إلى حل أو تسوية، بل يشمل عقد صفقات قد لا تكون لها علاقة بمثل هذه الجهود، ولكنها تؤثر في مسار المعارك الدائرة.
ولذلك لا تُعد معركة حلب فريدة من حيث إن متغيرات سياسية أتاحت عقد صفقات أثرت في مسارها وساهمت في حسمها عسكرياً، وأتاحت لنظام بشار الأسد والميليشيات التي تُدَّعمه تحقيق ما عجزت عنه منذ أن بدأت تلك المعركة للمرة الأولى في يوليو 2012. فقد اقترن الحسم العسكري في شرق حلب بصفقات سياسية عدة بين قوى دولية وإقليمية منخرطة في الأزمة السورية بدرجات متفاوتة وفي اتجاهات مختلفة، إلى جانب نظام الأسد الذي منحه هذا الحسم «قُبلة الحياة».
لم تكن تلك الصفقات سهلة، ولا هي مُرضية بدرجة كافية لكل أطرافها، خصوصاً إيران والميليشيات التابعة لها، والتي اضطلعت بالدور العسكري الرئيس على الأرض في معركة حلب. ويمكن أن نتبين ملامح الصفقات التي أثرت في مسار هذه المعركة اعتماداً على قراءة تضاريس الجغرافيا العسكرية لمحافظة حلب في مجملها، حيث توجد ثلاث مجموعات أساسية من القوى المسلحة. تستحوذ المجموعة الأولى على القسم الأكبر من المحافظة، وهي قوات نظام الأسد والميليشيات المحلية والأجنبية التي تسيطر على مدينة حلب وريفها الجنوبي، وبعض المناطق في ريفها الشمالي الغربي.
وتضم المجموعة الثانية عدة فصائل من «الجيش السوري الحر» مدعومة بقوات تركية على الأرض في إطار ما تسميه أنقرة «عملية درع الفرات». وهي تسيطر على مناطق في ريف حلب الشمالي والغربي، وتتقدم بخطى حثيثة لانتزاع مدينة الباب في ريف حلب الشرقي من تنظيم «داعش».
وتقود القوات المسماة «قوات سوريا الديمقراطية» المجموعة الثالثة التي يُعد «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» محورها الرئيس، ومعه فصائل محلية أغلبها كردية وبعضها عربية. وهي تسيطر على جزء يُعتد به من أرياف حلب، وتتطلع للتمدد في محافظة الرقة معقل تنظيم «داعش» في سوريا، بعد أن سيطرت على منطقة واسعة في الريف الغربي لهذه المحافظة.
وتفيد قراءة تطور دور تركيا في شمال حلب خلال الفترة الأخيرة أنها قررت التخلي عن ورقة حلب التي كانت تستخدمها للمساومة، عندما ضمنت تدخلاً روسياً وأميركياً لإلزام «قوات سوريا الديمقراطية» بالتراجع إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، والتخلي بالتالي عن سعيها إلى تواصل جغرافي للأقاليم الكردية. وهذا يفسر لماذا استقدمت تركيا قسماً كبيراً من القوات الموالية لها التي كانت موجودة في حلب الشرقية ضمن تحالف «فتح حلب»، وضمتها إلى عملية «درع الفرات»، وأوقفت بالتالي دعمها للمسلحين، الأمر الذي ساهم في إضعافهم وعجَّل بانهيارهم.
ورغم أن صفقات سياسية نجحت على هذا النحو في إعادة رسم الخريطة العسكرية في حلب، فإنها لم تفتح طريقاً واضحاً للخروج من النفق السوري المظلم.
لذلك لن يكون هناك مفر في النهاية من التفاوض رغم كل الصعوبات التي تواجه إطلاق مسار سلمي جاد، وأهمها عدم استعداد نظام الأسد، ومن ورائه إيران، لأي حل سياسي لا يقوم على استسلام كامل للمعارضة. كما أن الفصل بين قوات «جفش» (النصرة سابقاً) وفصائل مسلحة يصعب التوصل إلى حل سياسي بدونها أصبح أكثر صعوبة.
فقد نُقلت مشكلة «فصل القوات» من حلب إلى إدلب، التي صارت مكتظة بمسلحين توافدوا عليها من مناطق عدة أُخرجوا منها، وأعداد يصعب حصرها من المدنيين الذين نزحوا إليها، فضلاً عن سكانها الأصليين والقوى المسلحة الموجودة فيها من البداية.
لذلك ربما نشهد سباقاً بين السياسة التي قد يكون إعلان موسكو الثلاثي الصادر الأسبوع الماضي (الروسي –الإيراني –التركي) هو عنوانها في الفترة المقبلة، وبين السلاح الذي قد تكون محافظة إدلب هي وجهته القادمة.
يا لخيبة الزعماء العرب الذين أمضوا أكثر من خمسة وثلاثين عاماً تحت وطأة الرعب من تصدير الثورة الإيرانية إلى بلادهم.
حدث ذلك، منذ العام 1979، عقب انتصار ثورة إيران، وكان أول ما وعد به الخميني الشعوب العربية تصدير نسخ متطابقة من ثورته إليهم، للخلاص من "طغاتهم"، فكان أن أصبحت إيران العدو رقم واحد لمعظم الأنظمة العربية، باستثناء نظام حافظ الأسد الذي أدرك المقصد من التلويح الإيراني بـ"تصدير الثورة"، فتحالف مع أصحاب الثورة في عقر دارهم، وآزرهم على الحكام العرب الآخرين، وفي مقدمتهم صدام حسين، في أثناء حربه الطويلة مع إيران.
كان الأسد الراحل يدرك خفايا ثورة الملالي في إيران، وأبعادها، وطبيعة تركيبتها، ففهم جيدًا أن المقصود هو تصدير ثورة الحكام على الشعوب، وهو عين ما يرنو إليه طغاة العرب، فعقد حلفًا لم تنفصم عراه مع ملالي إيران، لأنه كان يدرك أن نظامه المستبد سيحتاج، يومًا، إلى ثمرات هذه المؤازرة التي محضها لإيران من دون حساب.
وإذا كان القدر لم يسعف الأسد الأب في جني ثمرات تحالفه الطويل مع إيران، فقد حظي الابن بها، في "ثورته" على شعبه الذي تجرأ على المطالبة بحريته، فكان أن أصبح دوام بشار على رأس السلطة معركةً مصيريةً لنظام الملالي في إيران الذي صدّر، هو الآخر، "ثورته"، بكل ما فيها من أسلحة وعتاد، وفيالق كانت معدّة "لتحرير القدس"، غير أن الأولويات تغيّرت، فأصبح تحرير طاغية الشام من شعبه هو المصير كله.
وقبل بشار، كان نوري المالكي في العراق، والنظام الطائفي من بعده، إذ تم تصدير "عبوات" من الثورة الإيرانية، محشوةٍ بما لذ وطاب من الحرس الثوري الإيراني الذي أسهم بترسيخ الطائفة على حساب الوطن، وجعل القرار العراقي كله محكومًا بخيمة المرشد الأعلى في طهران... وهكذا أسهمت إيران بتصدير ثورةٍ عكسية أخرى، لتثبيت طغاة جدد في بغداد.
على المنوال نفسه، آزرت إيران الرئيس الذي خلعته ثورة الشعب اليمني في صنعاء، علي عبدالله صالح، فصدّرت إليه "عبوة ثورة"، من لدن فائضها، لتعيده إلى الحكم من نافذة الفتن الطائفية التي أيقظتها مع الحوثيين، وها هو اليمن يرزح تحت وطأة حربٍ أهلية ضروس، بفضل النسحة الإيرانية من الثورة التي وصلت إليه بالبريد المستعجل.
على هذا النحو، اكتشفنا، نحن الشعوب العربية المخدوعة بثورة الملالي، معنى تصدير الثورة الإيرانية، وهي الثورة التي صفقنا لها، قبل أزيد من ثلاثة عقود، وآزرها بعضنا حتى في حربها مع العراق، وظننا أن "عبوات الثورة" لا بد ستأتي عما قريب، لتحرّرنا من طغاتنا، فإذ بها "عبوات ناسفة" لكل طموحاتنا بالحرية، وبأنها ثوراتٌ علينا لا لنا، فبشار الأسد الذي كان موشكًا على السقوط قبل عام لم تنقذه غير الثورة الإيرانية المصدّرة، و"طالح" اليمن تعيده إلى رقاب اليمنيين، نسخة أخرى من هذه الثورة، والعراق الذي حلم بالثورة على الظلم أجهضت ثورته "ثورة" أخرى مضادة قادمة من إيران، وكأن الثورة الإيرانية كلها ما كانت، منذ مهدها، إلا مشروعًا مؤجلاً لقطع الطريق على الربيع العربي.
أيضاً فهمنا أن الثورة الإيرانية برمتها، ماتت في مهدها، وفي بلد الثورة نفسها، حين عمد الخميني وأنصاره إلى تكريس اللون الأسود الواحد في نظام الحكم، وأعني به عباءة الملالي، أما مصير التيارات الأخرى من يمين ووسط ويسار، فكانت الإعدامات والسجون والاغتيال حتى في بلاد المهجر، على الرغم من أن بعضهم كان أطول باعاً وعمرًا في مناهضة نظام الشاه، على غرار حزب تودة.
أما الزعماء العرب الآخرون، المخدوعون عكسيًّا بالثورة الإيرانية المصدرة، فإن جلّ ما أخشاه أن يكتشفوا حقيقة هذه الثورة المزيفة، فيسارعون إلى استدراك ما فاتهم من تحالفاتٍ معها، لمؤازرتهم في رحلة الطغيان المستمرة، على غرار ما فعله ثالوث برمودا: الأسد وصالح والمالكي، وعندها سيكون على هذه الشعوب المبتلاة أن تعقد ثورتين في الآن نفسه، واحدة ضد طغاتها، وأخرى ضد الطغيان المصدر إليها في عبوات مسماة زورًا "الثورة الإيرانية".
كتب الدكتور عبدالكريم بكار مقالاً أجاب فيه عن حقيقة دفاع روسيا عن سورية، فقال: «التقيت به البارحة قادماً من سورية منذ أشهر قليلة، سألته عن عمله هناك، قال لي: أعمل في تمديد خطوط الغاز والنفط تصميماً وتنفيذاً وإشرافاً!
سألته أين؟ قال: في تدمر وبلدية حمص والرقة... سألته مستغرباً ولصالح من تعمل؟ أليست هذه أرض تحت سيطرة «داعش»؟! قال: نعم... هي كذلك... أما انا فأعمل عند النظام... ثم قال: لا تستغرب يا أخي، فمن رأى ليس كمن سمع... نعم في أرض الدواعش وحمايته وتقديمهم خدمات وتسهيلات العمل والدعم اللوجستي.
ثم قال لي: وأقول لك سراً آخر، ستندهش له أكثر... هل تعرف شيئاً عن مشروع التويتان...؟ إنه مشروع ضخم بدأ العمل به ما قبل العام 2008 ولم ينته بعد... إنه معمل لتصنيع الغاز ونقله تقوم بتنفيذه شركة روسية بتكلفة تقدر بأكثر من عشرين مليار ليرة، ويعتبر ثاني اكبر بئر للغاز في العالم والعمل فيه تحت حماية الدواعش، والعمال الروسيون يقومون بأعمالهم وكأن لا شيء حولهم!! ألا ترى بأن الدواعش والنظام وحزب الله يستقتلون للوصول إلى منطقة القلمون، وأنها أهم لديهم من دمشق؟ إن الذي لا يعرفه الكثيرون هو أنها منطقة تحتوي على مجموعة ضخمة من آبار الغاز وأن هناك تفاهماً بين النظام وروسيا كي تستثمر روسيا هذه الآبار لقاء حصة لعصابة الأسد!!
قلت له: ولكن «داعش» سيطر على مناطق عسكرية للنظام هناك وقتل المئات بعد معارك ضخمة!!
ضحك صديقي بصوت عالٍ ثم قال: لا معركة حدثت في اي مكان وقد كنت هناك وعايشت الوضع وإنما انسحابات للنظام لكل الجنود العلويين وأبقى جنود السنة مع أوامر بعدم إطلاق النار أبداً، فدخل الدواعش وقتلوا من قتلوا وأسروا من أسروا!
ألا تلاحظ أن روسيا لم تنفذ طلعاتها الجوية على مناطق الدواعش ألم تتساءل كيف تحرك «داعش» في صحراء مكشوفة إلى تدمر ويسيطر عليها؟ روسيا صنعت «داعش» بالاتفاق مع النظام وإيران، وتوسع «داعش» كان بتخطيط مسبق بينه وبين النظام بهدف تأمين خطوط وآبار الغاز... روسيا جاءت تطالب بحقها في هذا المشروع بناءً على بيع النظام لها وبشكل سري قبل الثورة.
عزاؤنا للعويهان!
نتقدم بأحر العزاء لعائلة العويهان وعائلة القعود على مصابهم الجلل، فمن يتصور أن عائلة كبيرة ذهبت للنزهة البحرية ثم تصاب بتلك النكبة التي بادت أكثر أفرادها!! ولكن ذلك هو قدر الله، ولا نملك إلا أن نقول: «إنا لله وإنا اليه راجعون، اللهم أجرهم في مصيبتهم واخلف لهم خيراً منها».
ونذكّر الأخوة المصابين بأن من مات محروقاً أو غريقاً فهو شهيد في سبيل الله.
رجاؤنا من أجهزة وزارة الداخلية التشديد على سير القوارب واللنشات في البحر لمنع الحوادث التي تكررت في الآونة الأخيرة بسبب الإهمال والرعونة!
قلت في مقال سابق إن كانت مذبحة رابعة أسقطت القناع عن الليبراليين العرب، وكشفت للشعوب حقيقة التيارات القومية وزيف إيمانها بالديموقراطية، فإن مجازر حلب كشفت قساوة قلوب بعض الطائفيين وأتباع الغير، الذين لم تهز مشاعرهم مناظر القصف العشوائي لطائرات بوتين وبراميل بشار، ولم يحرك إنسانيتهم صراخ الأطفال ومناظر الثكالى من النساء!
مع الأسف أن نقرأ ونسمع من أبناء جلدتنا اليوم من يطالب بعدم نقاش موضوع مجازر حلب في مجلس الأمة! ويدعي انقسام الشعب الكويتي تجاه هذه القضية، وهو ادعاء باطل، فلا يجوز لكائن من كان أن يساوي بين الجزار والضحية، ونحن الكويتيين أكثر الشعوب إحساساً بمرارة الظلم وقسوة التشريد من الأوطان، فلا يجوز أن أعطي اعتباراً للأصوات الشاذة من الشعوبيين والطائفيين، وهم قلة في هذه القضية، إذ إن غالبية الشعب، حتى الشيعة العقلاء، يستنكرون ما يفعله نظام بشار وزبانيته في سوريا ويرفضون سكوت الأمة عن هذه المآسي الإنسانية، خصوصاً بعد أن تبين للجميع تورط أميركا وروسيا وإيران، بل والأمم المتحدة في هذا الواقع المر، حيث كان جل اهتمامهم محاربة الإرهاب كما يدعون وهم من يرعاه ويدعمه بدعم الجلاد على حساب ملايين المشردين ومئات الألوف من الجثث والأشلاء!
اليوم لا بد أن نبين للعالم أن الكويتيين، الذين رفضوا غزو صدام لبلدهم وحشدوا العالم لنصرتهم، يرفضون ما يجري لأشقائهم السوريين، ويطالبون العالم الحر بأن يتحمل مسؤولياته الإنسانية والأخلاقية لوقف هذه المجازر والمهازل.
استغرب ممن يتشفى من رؤية بكاء الأطفال والنساء ويفرح لأخبار انتصار الدب الروسي على الحلبي والحموي!
وهنا لا يسعني إلا أن أشكر القياده السياسية وحكومتنا الرشيدة بموقفها العقلاني من هذه المأساة الإنسانية ورفضها لكل مجازر النظام المجرم هناك، وأشكر مجلس الأمة على تحسسه لمشاعر إخوانه السوريين ومشاركته آلامهم وآمالهم.
كم كنت أتمنى لو أن الأخ رئيس مجلس الأمة قال كل من يتعمد أن يخرج عن المألوف سأضطر لإخراجه من القاعة أو إسكاته بدلاً من القول كل من سيخرج عن الجلسة سأضطر إلى رفعها. وكأنك نبهت أعداء الإنسانية إلى كيفية التخلص من الجلسة التي ستكشف للجميع كم هي متحجرة بعض القلوب.
كل ما يجري اليوم على الساحة العربية يثبت أن الأمة في حاجة إلى تيار إسلامي وسطي، يعيد إليها أمجادها، ويوقف الزحف والتيار التغريبي فكرياً وثقافياً، ولكن، مع الأسف، إن هذا التيار تتم شيطنته اليوم بدلاً من إفساح المجال له ليلعب دوراً تعجز عنه حكومات المنطقة وأحزابها من الجاميين والليبراليين وغيرهم، وهذا الموضوع لنا معه جولة أخرى بإذن الله.
يستحق الرئيس التركي إردوغان وبجدارة أن يلقب بـ"موحد الأيديولوجيات"، الأيديولوجيات العربية تحديداً، وكلكم يعلم أن الأيديولوجيات العربية كالليبرالية والإسلامية واليسارية اتفقت على ألا تتفق، وبينها خلاف ذو بأس شديد و"جامد" من ألف بابا نويل إلى ياء بابا غنوج مروراً بمثاليات السياسة وانتهاء بمثليي البشر، ولكن هذا الجورجي المتربع على عرش الأناضول جعل، وعلى غير العادة، المشرقي الليبرالي يجتمع مع اليساري المغربي بضيافة حيص بيص الإسلاميين، ليتحلقوا جميعا حول وليمة الهجوم الدسم والضاري عليه! فسبحان من جمع شتات الأيديولوجيات بعدما ظننّا كل الظن أن لا تلاقيا!
إردوغان رئيس منتخب جاء من رحم الصناديق وبانتخابات شهد العالم بنزاهتها، وهو بعظمة لسانه قال إنه يحكم دولة علمانية، والانتخابات والعلمانية وما بينهما من حريات وإرادة شعبية ومبادئ دستورية تعتبر جوهر مطالبات الليبراليين، ولكن رغم هذا قلما تجد ليبرالياً ينظر بعين الرضا لإردوغان ونظامه!
إردوغان حسّن ظروف الأرياف والعمال وجعلهم على سطور الحياة، بعد أن كان الريف على هامش اهتمامات الدولة التركية، يعاني سوء الخدمات وسوء منقلب حقوقه الوطنية، وأهل الريف والعمال أو "البروليتاريا" بحسب التعريف الاشتراكي هم جمهور إردوغان الأكبر، فقد اكتسج الريف خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة وبصورة "نعم" لا تقبل القسمة على صندوقين، وأيضا رغم هذا لا يرضى عنه اليساريون، وينظرون له بعين الريبة رغم أنف سعادة البروليتاريا محبوبة إردوغان وسر نجاحه.
إردوغان أكثر من ساعد الشعب السوري، وكل خطبه وتصريحاته تكون بنكهة الخطاب الإسلامي، كما أن حزبه ذو توجه إسلامي واضح، والرجل حرص طوال مسيرته على نفض الغبار عن آخر خلافة إسلامية حكمت الشرق-الخلافة العثمانية- وأعاد الروح لتاريخها، والخلافة وتبني قضايا الشعوب الإسلامية، بالإضافة للقافية الإسلامية في الخطاب هي جل مبشرات الإسلاميين، وذروة سنام أدبياتهم، ولكن أيضا أغلب الإسلاميين يرون إردوغان المسيح الدجال للأيديولوجيا الإسلامية، وقلما يمدحونه أو يدافعون عنه، طبعا باستثناء الإخوان المسلمين الذين لهم فيه مآرب أخرى، أما قصة إخوانية إردوغان وحزبه فهي من خزعبلات السوشيال ميديا، فالمتابع للتاريخ يعلم أن التجربة الإسلامية في تركيا تجربة تركية خاصة وفريدة، وهي أقدم بكثير وأكبر من أن يحويها فكر الإخوان أو غيرهم رغم تقاطع بعض خطوط المصالح بينهم.
لا أخفيكم علماً بحثت كثيرا عن سر هذا الاتفاق الأيديولوجي الشذري مذري حول إردوغان فوجدت أن هذه الأيديولوجيات العربية رغم اختلاف أسباب كرهها لإردوغان وحّدها شيء واحد فقط، وهو "النموذج الإردوغاني في تركيا".
النموذج التركي الإردوغاني مرعب فعلا لكل الأيديولوجيات العربية، فهو ينسف الجمل الليبرالية واليسارية الكبرى التي تجعل تجارب الغرب الليبرالية والشرق الاشتراكية قبلتها الأولى ومحرابها الأوحد، التجربة الإردوغانية نسفت الخطاب الليبرالي واليساري ونبذته في يمّ واقع شاهدنا فيه كيف تطورت تركيا بتجربة نابعة من ذات الشعب، وكيف صعدت اقتصاديا ودستوريا عبر ديمقراطية كاملة الدسم تدعمها الجماهير المسحوقة وبقيادة حزب إسلامي، هذا النموذج ذاته هو من أرعب الإسلاميبن أيضا لأنه يخرج النظرية الإسلامية في الحكم إلى التطبيق، في حين هم يريدون من النظرية أن تقر في بيتها إلى أن يأتي فارس الأحلام على حصان التاريخ، فيخطفها نحو "قصر نظر تاريخي" مشيد في بطون الكتب، بعيداً عن سهول الواقع، ليعيشا بسبات ونبات ويخلفوا قصص وروايات ومحاضرات وخطب!
أغلب الظن أن ما يقال عن خلافات بين الروس والإيرانيين، ومعهم بالطبع نظام بشار الأسد، فيه بعض الصحة إن لم يكن كلها، فقد بات من الواضح والمؤكد أن الرئيس فلاديمير بوتين لا يريد حرباً بلا نهاية في سورية، وأنه، في الوقت ذاته، لا يملك القدرة المطلوبة للقضاء على المعارضة السورية، ولذلك فإنه بعد "النصر"! الذي حققه في حلب، بات مضطراً لإيجاد حل يكون معقولاً بالنسبة إليه، حتى إن اضطر إلى التخلي عن شروطه السابقة التي أعلنها وزير خارجيته سيرغي لافروف، في لحظة كان التفوق العسكري فيها إلى جانبه وجانب حلفائه الإيرانيين، ويأتي لاحقاً هذا النظام الذي يبدو أن نهايته الكارثية أصبحت واضحة ومحققة لا محالة.
إن هذا ما غدا يريده الروس الذين لم يعد يهمهم سوى الحفاظ على قواعدهم العسكرية التي أقاموها على الأراضي السورية، في ظل غياب الشعب السوري والانهيار الفعلي والمعنوي لبشار الأسد ونظامه، أما بالنسبة إلى الإيرانيين، فإن المعروف، وهذا ما أعلنوه مراراً وتكراراً، أنهم يريدون هيمنة دائمة على العراق وسورية واليمن وبالطبع على لبنان، وأنهم يريدون مجالاً حيوياً سياسياً وعسكرياً مريحاً في دول عربية أخرى، وهذا ما صرحت به طهران التي "غلَّفت" هذا التوجه بالقول إنها تسعى إلى مناطق تماس لبلادها مع العدو الصهيوني، وبالطبع فإن هذه حجة لم تنطل حتى على أصحاب أنصاف العقول من عرب ومن عجم... ومن غيرهم!
ربما من غير المتوقع أن يكون هناك صدام قريب بين الإيرانيين ومعهم الأسد من جهة، والروس من جهة أخرى، فالمصالح المشتركة لاتزال تفرض على هؤلاء وأولئك كظم غيظهم أكثر من اللزوم، والاستمرار بهذا التحالف الشيطاني، ولو على أساس المعادلة القائلة: "رؤوس مؤتلفة وقلوب مختلفة"، لكن في النهاية فإنه لابد من الفراق، وخصوصاً أن روسيا كما هو معروف دولة عظمى، حساباتها لا تتطابق في كثير من الأحيان مع حسابات إيران لا من قريب ولا من بعيد.
ثم إن الروس بحكم خبرتهم الطويلة التي ورثوها عن الاتحاد السوفياتي، وقبل ذلك يعرفون أن دولة كإيران لا يمكن المراهنة عليها "إستراتيجياً"، وذلك لأنها دولة أمزجة متغيرة، ولأن أي خلل طارئ في تركيبة هذه المجموعة الحاكمة سيجعل هذه الدولة، التي يرى البعض أن بنيتها أوهى من خيوط العنكبوت، تغير توجهاتها في رمشة عين، فيصبح أصدقاؤها أعداء، بينما يصبح الأعداء أقرب الأصدقاء!
قد يكون من المبكر البناء على هذه الاستنتاجات لاستخلاص مواقف سياسية ثابتة، لكن حقائق الأمور تشير إلى أن كل لقاءات وتحالفات المصالح العابرة لابد أن تكون أعمارها قصيرة جداً، وهذا يعني أن التقارب الروسي – الإيراني الذي بني على المصالح العابرة سيكون عمره قصيراً، وأنه سينتهي حتماً، إن لم يكن الآن وفي هذه اللحظة التاريخية، فخلال فترة قريبة.
ولهذا فإنه علينا أن ننتظر لنرى ما تحمله إلينا وإلى هذه المنطقة الأيام والليالي المقبلة!
لا شك في أن حلب ستكون نقطة فارقة في تاريخ الثورة السورية. لكن على عكس ما يتصوّر البعض، فإن نقطة التحول هذه ستكون في مصلحة الثورة. ولو وضعنا جانباً العنصر العاطفي في التحليل، سنجد أن الانتصار الوحيد الذي حققه النظام معنوي داخلي ودولي ساهم بعض الثوار، من دون قصد، في الترويج له عندما صوروا معركة حلب على أنها «أم المعارك»، وهذا خطأ عسكري وإعلامي على حد سواء، لأننا كنا أمام معركة حصار، ومعارك كهذه، كما خبرنا على مدى الثورة وكما أشار إليه كلاوسفيتز وماكيافلي وغيرهما، يجب عدم تحميلها ثقلاً كبيراً إعلامياً أو معنوياً، سواء في حالة الدفاع أو الهجوم، لأنها معارك غرمها عظيم ومغنمها قليل واحتمالات نجاحها ضئيلة، خصوصاً أنها لم تكن معارك استراتيجية من الناحية العسكرية.
تمكّن النظام من تصوير حلب إعلامياً على أنها «نصر تاريخي» وفق توصيف رأس النظام، ساعده في ذلك صحافيون يعملون في الإعلام الغربي من جهة، وعاطفية بعض الإعلام الثوري من جهة أخرى، ناهيك عن سذاجة البعض، لكن ما حقيقة هذا النصر »التاريخي»؟
حلب لم تسقط ولم يتم «تحريرها» كما زعم النظام، بل تم تدميرها، وتهجير أهلها الذين هربوا من النظام بدلاً من أن يذهبوا إليه، ولم يبق منهم في حلب الشرقية إلا من عجز عن الخروج، لا سيما بعد أن رأوا كيف يعامل النظام وحلفاؤه الطائفيون من يعود ولو مكرهاً الى «حضن الوطن!»، وما رشح من أنباء عن إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية وحالات اغتصاب بحق المدنيين في حلب الشرقية. وما يجب التذكير به، أن هذا «النصر التاريخي» الإجرامي المزعوم تم بفضل الميليشيات الشيعية والغطاء الجوي الروسي، فأي نظام هذا، وأي مستقبل ينتظر سورية والمنطقة في ظل مثل هذه المنظومة الإجرامية الطائفية.
معركة حلب كشفت أموراً كثيرة ، بينها أن النظام في أسوأ حالاته عسكرياً وسياسياً. من الناحية العسكرية، فإن قوات النظام فضلاً عن عجزها عن تحقيق أي نصر حقيقي في السنة الأخيرة، فإنها في أعلى حالات الترهل والتفكك وانخفاض الروح المعنوية. وكما تشير تقارير روسية، فإنه من الأسهل بناء جيش جديد بدلاً من محاولة إعادة هيكلة الجيش الحالي وترميمه، ولعل أبرز هذه التقارير ذلك الذي كتبه العقيد الروسي المتقاعد ميخائيل خودارينوك، الصادر في أيلول (سبتمبر) هذه السنة، وأثنى ضباط روس في الخدمة على هذا التقرير واعتبروا أن الواقع أكثر قتامة مما جاء فيه. وأعقب التقرير الروسي تقرير لـ «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) في كانون الأول (ديسمبر) حول جيش النظام، يؤكد هذا الانطباع الذي ما فتئت الفصائل الثورية تعلنه للمجتمع الدولي منذ أكثر من سنة: إن النظام انتهى عسكرياً والعالم ما زال يبقي على حياة مريض مات سريرياً.
لا شك في أنه كان في إمكان الفصائل الثورية عند نقطة معينة، النجاح بتحرير حلب الغربية وتوجيه ضربة قاسية إلى النظام وحلفائه، لكن معارك حلب كشفت عن أخطاء عسكرية وقصور في الجانب الميداني لدى الفصائل الثورية المسلحة يجب تلافيه وإصلاحه في شكل فوري، فضلاً عن سلوك نمطي بدأ يتفشى بين بعض الفصائل هو أقرب الى سلوك أهل الغلو. لكن بعد فشل محاولات فك الحصار عن حلب الشرقية التي لم تكن لتحقق نتائج طويلة الأمد، وبعد تحوّل حلب الشرقية إلى منطقة ساقطة عسكرية، فإن الخروج منها حرر كتلة عسكرية كبيرة للثوار قوامها حوالى خمسة آلاف مقاتل سيتم استثمارهم في معارك استراتيجية وسيرفع عن الفصائل عبء ومسؤولية الاستمرار في محاولات مستقبلية لفك الحصار عن حلب، ويسمح لها بتوجيه قواتها باتجاه معارك تحدث فارقاً حقيقياً في الساحة، فالميدان الآن هو الفيصل أكثر من أي وقت مضى، مع عدم إغفال باقي محاور الصراع.
يجب أن نرسخ انطلاقاً مما سبق، أن النظام لا يملك معارك حاسمة وفاصلة ينهي فيها المعارضة، بل نستطيع القول - بلا أدنى شك - أن المعارضة تملك هذه المعارك، في دمشق والساحل، وحتى لو قُضيَ كلياً على المعارضة بالمفهوم العسكري البحت، فالمعارضة في إمكانها اللجوء إلى أنواع أخرى من الحروب، إضافة إلى الحرب المفتوحة، لأن المعارضة تتمتع بمزايا المنظمات غير المركزية والمفتوحة وفق نظرية أوري برافمان مقابل الهيكلية المركزية المترهلة للنظام الأشبه بـ «بيت العنكبوت» الواهن. والأهم من ذلك، يجب ترسيخ أن الهزيمة لا تكون إلا بفقدان الدافع والإرادة نحو القتال وليس في خسارة الأراضي أو قلة السلاح وقوة العدو. وما دامت العقيدة القتالية حاضرة ومع عبقرية هذا الشعب وإبداعه، سنجد دائماً طريقة لقتال العدو وهزيمته بإذن الله.
سياسياً، كشفت حلب تضارب المصالح الروسية والإيرانية في سورية ودرجة التوتر العالية بينهما. فقد سعت إيران الى إفساد مشروع أي اتفاق يُبرم بين روسيا والثوار حول حلب الشرقية أو أي بقعة أخرى في سورية، ما دفع بالروس الى تهديد إيران والنظام في صورة مباشرة بقصف قواتهم في حال حاولوا تعطيل الاتفاق الأخير الذي أدى إلى خروج أهالي حلب الشرقية مع الفصائل الثورية المسلحة.
لا شك في أن هناك تناقضاً صارخاً بين المشروع الروسي القائم على فكرة سورية موحدة تُدار من حكومة مركزية قوية وفق مشروع غير طائفي، وبين المشروع الإيراني القائم على إضعاف الحكم المركزي وإنشاء مناطق نفوذ وسطوة إيرانية كاملة تؤمن لها معبراً برياً من إيران إلى لبنان، هذا كله ضمن مشروع طائفي صريح يتضارب مع رؤية روسيا. والسؤال هنا: هل سيتمكن الثوار من استثمار هذه التناقضات؟
تلك التناقضات جعلت النظام ينقسم على نفسه بين موال لإيران ومشروعها وموال لروسيا ومشروعها وبين من بدأ يشعر بأن سورية ضاعت بسبب حماقات رأس النظام الذي مارس «المناورة» السياسية مع الروس حيناً، وزواج المصلحة الأيديولوجي مع إيران حيناً آخر، في الوقت الذي يقتل «شعبه» ويدمر سورية للحفاظ على كرسيه. روسيا لم تعد ترى في رأس النظام شريكاً حقيقياً، وبدأت تبحث عن البديل الذي يضمن مصالحها وسط استياء عميق من فشله العسكري وعجزه عن إدارة الصراع وتعنّته وميله الى الطرف الإيراني، وهو الطرف نفسه الذي لن يعارض استبداله في حال توصلت القوى الإقليمية والدولية إلى حل مرضٍ للأطراف، لا سيما بعد اعتراف الروس رسمياً بالفصائل الثورية المسلحة كطرف شرعي في الحرب في سورية. طبعاً هذا لا يغير حقيقة أن روسيا ارتكبت جرائم حرب ضد السوريين وسترتكب المزيد، لكن يعكس تحولاً جديداً مهماً في الساحة، لا سيما مع تنامي الدور التركي.
ولعل المعركة السياسية التي تنتظر الثورة والتي بدت ملامحها في الهدنة الشاملة التي تحاول روسيا فرضها كجزء من الحل السياسي الشامل لسورية، لن تقل ضراوة عن المعركة العسكرية التي ستتضح معالمها في الأسابيع المقبلة، وسنعرف إلى أي مدى ستدفع روسيا عسكرياً قبل أن تقرر أن موسم الحصاد السياسي قد حان، وإن كانت المؤشرات والأحداث تشير إلى أن الروس بدأوا الحصاد، وهذا لن يروق للنظام الذي يأمل بالحسم العسكري الكامل. ولعل أخطر ما سينجم عن أي عملية سياسية ترعاها روسيا هو محاولة نقل الصراع من حرب بين ثوار بشرعية شعبية ضد نظام مستبد ساقط إلى نزاع بين معارضة وحكومة شرعية تحت «سقف الوطن». وبغض النظر عن التحديات وتضارب مصالح أعدائنا، سنظل كثورة عاجزين عن مواجهة التحديات واستثمار التناقضات والفرص المتاحة ما لم نتبنّ خطاباً جديداً ورؤية موحدة وندفع بقيادات جديدة على مستوى الحدث.
كشفت حلب عيوباً وأخطاء عميقة في أداء الفصائل الثورية المسلحة في شكل عام، والثورة مطالبة الآن بمراجعات سريعة وقاسية وصادقة تتمخض عنها رؤية جديدة وخطاب جديد، ويصحبها تطوير نوعي للعمل العسكري والسياسي بما يتناسب مع المرحلة المقبلة، غير أن حلب - في الوقت نفسه - قد تعطي الثورة الفرصة للتحرر من قيود الماضي، وكسر القوالب والانطلاق بزخم متجدد إذا تمكنت من اتخاذ القرارات الصحيحة، وعلى رأسها الوصول إلى النموذج الصحيح لتوحيد الساحة عسكرياً وسياسياً، ولتعمل في شكل مستعجل على طرح خطاب ثوري وطني يحمي هوية سورية، خطاب حرب تحرير واستقلال شاملة يتم فيه حشد كامل الطاقات الثورية تحت سقف مشروع واحد، برؤية مشتركة واضحة تعيد الأمل إلى الحاضنة وتقدم الثورة السورية إلى العالم بحلة جديدة تعود بها إلى جذورها الثورية الصادقة بعيداً من أي أيديولوجية، فالثورة لن تكون قادرة على الاستمرار ما لم تنتج قيادة جديدة موحدة عسكرية - سياسية قادرة على استثمار الفرص واللعب على التناقضات الدولية، وبمرجعية شرعية تعكس التنوع الفكري في سورية في صورة حقيقية وصادقة.
أثبتت الثورة قدرة هائلة على امتصاص الصدمات والنهوض من بين الرماد، ولن تكون حلب استثناء، وعلى العالم أن يترقب عودة الفصائل بقوة وشراسة أكبر، لكن هامش الأخطاء انتهى، والقرارات التي سيتم اتخاذها في الأسابيع المقبلة قد تكون مصيرية على الأقل للمرحلة المقبلة. النظام انتهى فعلياً، إلا أنه يجب على الثورة أن تجيب عن أسئلة ملحّة وتتّخذ إجراءات سريعة وشجاعة وربما مؤلمة، وأن تعي أن المعركة الحقيقية الآن إلى جانب المعركة العسكرية والسياسية هي معركة الحاضنة والشرعية الداخلية والدولية.
الأرجح أن روسيا ستحصد في شرق ليبيا بعضاً من ثمار انتصارها العسكري في حلب، فهي تشتغل منذ أكثر من سنة على تعزيز مواقعها في الشرق الليبي لبناء تحالفات تزيد من فرصها للعودة بقوة إلى الساحة الليبية. ويعتبر الروس أن الغربيين وضعوا لهم مقلباً لدى الاقتراع على قرار مجلس الأمن الرقم 1973 الذي أباح التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا في آذار (مارس) العام 2011، إذ أوهموهم أن الهدف من التدخل هو منع كتائب القذافي من سحق الانتفاضة في بنغازي، لكي يضمنوا عدم استخدامهم حق النقض، فيما كان الهدف الحقيقي إطاحة النظام والقضاء على زعيمه معمر القذافي.
وظلت موسكو، التي أخرجتها انتفاضة 17 شباط (فبراير) 2011 من أحد معاقلها الأخيرة على ضفاف المتوسط، تتحين الفرص لقلب الطاولة على غرمائها، الذين اســـتفردوا بالملف الليبي، وهم فرنسا وإيطاليا وبريـــــطانيا وألمانيا وإسبـــانيا بالإضافة للولايات المتحدة. وفي أعقاب الشرخ الذي أحدثته الانتخابات البرلمانية في 2014 وأسفر عن وجود حكومتين متنافستين واحدة في طرابلـــس (غرب) والثـــانية في البيضاء (شرق)، راهن الروس على قوتين حليفتين تتمـــثلان بأنصار القذافي من جهة ومعارضيه الســـابقين الرافضين للتيارات الســلفية من جهة ثانية، وفي مقدم هؤلاء قائد الجيش المُعين من البرلمان خليفة حفتر ورئيس البرلمان نفسه عقيلة صالح. وإذا تابعنا الخط البياني للعلاقات بين موسكو وحفتر، الذي يحتفظ أيضاً بعلاقات متينة مع الأميركيين إذ أقام بينهم أكثر من عشرين عاماً، نلحظ تسارعاً في نسق اللقاءات والتصريحات الإيجابية المتبادلة على امتداد السنة الفائتة. فقد دعا الروس حفتر إلى موسكو في حزيران (يونيو) الماضي، وهم يُدركون أنه الشوكة التي تمنع حكومة الوفاق المُعترف بها دولياً، برئاسة فائز السراج، من التقدم في اتجاه معاودة بناء الدولة.
وعلى رغم التكتُّم الذي أحيط بلقاءات حفتر مع وزيري الخارجية سيرغي لافروف والدفاع سيرغي شويغو والسكرتير العام لمجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف (أي المربع المحيط بالرئيس بوتين)، فالأرجح أن في مقدم المسائل التي تم بحثها تسليح الجيش الذي يقوده حفتر وتأمين قطع الغيار له بالنظر إلى أن غالبيته من صنع روسي. وعاد حفتر لزيارة موسكو الشهر الماضي واجتمع مجدداً مع الشخصيات نفسها، لكنه اكتفى لدى تطرقه لمسألة التسليح بالقول في تصريح إلى وكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك» إن كثيراً من الخبراء العسكريين الليبيين درسوا في روسيا، «ولكن في المستقبل، عندما يتم رفع حظر تصدير السلاح، ويبدأ وصول الأسلحة الحديثة، سنكون في حاجة لخبراء أسلحة روس من أجل التدريب العسكري».
لم يمض أسبوع على زيارة حفتر حتى حل في موسكو حليفُه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح واجتمع أيضاً مع لافروف وباتروشيف. ونفى أن يكون طلب أسلحة من الروس، إلا أنه أبدى في تصريح إلى «الحياة» عزمه على الإعلان عن «خريطة طريق سياسية جديدة» بديلة من حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات، والتي انتهت ولايتها في 17 من الشهر الماضي أي بعد سنة على تشكيلها وفق الاتفاق. وأقرَ صالح في التصريح نفسه بوجود «تفهُم روسي واسع» لخطة البرلمان البديلة من الحل الذي فشل المجتمع الدولي في فرضه على الميدان. وأشار بعد اجتماعه مع لافروف إلى «أن هناك مجالاً كبيراً جداً لتطوير العلاقات القديمة الجديدة بين روسيا وليبيا، فهناك علاقات قديمة في كل المجالات، النفط والغاز والسكة الحديد والزراعة وغيرها، ونحتاج إلى روسيا في إعادة إعمار البلاد وتدريب الجيش بالذات، لأن قادة الجيش تدربوا جميعاً بدورات في روسيا وعلى السلاح الروسي ويتكلم معظمهم اللغة الروسية».
على هذه الخلفية يمكن اعتبار الانتصار الروسي في سورية حافزاً كبيراً على المضي في طريق استعادة النفوذ السابق في ليبيا، وتحقيق أحد أحلام الإستراتيجيين الروس بإيجاد منافذ إلى موانئ المتوسط الدافئة. وفي هذا السياق ثمة نقطة بالغة الأهمية في تصريحات صالح في موسكو وهي المتعلقة بتعهُد يبدو أنه قطعه للروس بالتزام العقود والاتفاقات الموقعة مع روسيا قبل العام 2011، إذ قال «نحن نلتزم كل الاتفاقات السابقة وسنبرم اتفاقات جديدة».
وبالإضافة إلى موسكو تدعم باريس حفتر أيضاً، وإن توخت أسلوب التقية في علاقاتها معه، إلا أن مصادر فرنسية مختلفة أكدت أنها تدعمه بالطيران والمعلومات الاستخبارية والتدريب.
على الطرف المقابل من المشهد الليبي تقف عواصم غربية وازنة داعمة لحكومة السراج، وترى ضرورة منحها مزيداً من الفرص على رغم تعثّرها وفقدها السيطرة على الميليشيات المتحكمة برقبة العاصمة. وشكلت معركة استعادة سرت من «داعش» اختباراً لاستمرار الدعم الغربي للسراج، الذي خاضت قوات «البنيان المرصوص» المعركة بتفويض منه، وإن كان اسمياً. وتجلى ذلك في الضربات التي كان الطيران الأميركي يُوجهها لمواقع «داعش» في سرت، والتي بلغ عددها 470 ضربة جوية بين أول آب (أغسطس) وأول كانون الأول (ديسمبر)، وكان ذلك رسمياً بطلب من الحكومة المعترف بها دولياً. وهذا يعني أن اتفاق الصخيرات عاود تشكيل عناصر الصراع الليبي فانتقل من تنازع على الشرعية بين حكومتي عبدالله الثني وخليفة الغويل، ومن ورائهما المؤتمر الوطني العام المنحل (في طرابلس) ومجلس النواب (في طبرق)، إلى صراع بين مؤيدي حكومة الوفاق ومعارضيها، مع وجود فرقاء آخرين ذوي اتجاهات مختلفة في المعسكرين. ومن هذه الزاوية يُنظر إلى اللاعبين المؤثرين الآخرين، وهم بالأساس أنصار القذافي الذين بدأوا يظهرون أكثر فأكثر على الساحة، وكذلك القيادات القبلية التي استعادت دورها السياسي مثلما أثبتت ذلك لدى إطفاء الصراع الذي اندلع في سبها (جنوب) بين قبيلتي القذاذفة وأولاد سليمان. واللافت أن هذه المُكونات السياسية والقبلية تملك مختلف أنواع الأسلحة، ما يجعل خطر الاحتكاك والصدام وارداً في أي وقت. لذا فالخطوة الأولى نحو إرساء نظام سياسي جديد، طبقاً لمخرجات اتفاق الصخيرات، تتمثل في العمل على توحيد المؤسستين العسكرية والأمنية، كي لا تبقى حكومة الوفاق بلا شوكة ولا قدرة على تنفيذ قراراتها. وتتمثل الخطوة الثانية في جمع الأسلحة من الميليشيات كي تحتكر الدولة السلاح، مع دمج عناصر تلك الميليشيات في مؤسسات الخدمة المدنية.
من الأكيد أن أي سيناريو سيرجح بين الاحتمالات الواردة في 2017 سيُؤثر حكماً في استقرار المنطقة وفي أمن بلدان الجوار، فاستمرار الحرب في ليبيا يُزعزع الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا ويوجد بيئة حاضنة لتمدُد الجماعات الإرهابية. وإذا كانت الدول الغربية الكبرى تشعر بهذا الخطر فإن تذبذب مواقفها وكثرة المناكفات بينها يشلان قدرتها على التأثير. ومن الواضح أن سياسة البيت الأبيض بعد وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة ستكون مختلفة عن سياسة سلفه أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، التي كان إخفاقها في ليبيا أحد أسباب هزيمتها الانتخابية. لذا من غير المُرجّح أن تعاود الإدارة الأميركية المراهنة على تنظيمات الإسلام السياسي لقيادة المسار الانتقالي في شمال أفريقيا، وفي ليبيا تحديداً، بل الأرجح أنها ستعمل على حمل الفرقاء على البحث عن أرضية مشتركة لوضع بنود اتفاق الصخيرات موضع التنفيذ، بعد مراجعة بعضها، مع العمل على إشراك الجميع في الحل، بمن فيهم أنصار القذافي والمعارضون السابقون المناوئون للجماعات الأصولية.
ءصدق الكاتب بهذه الجريدة، الباحث الكويتي المعروف، الدكتور محمد الرميحي، حين قال بمقاله الأخير، إن «الزمن» في سوريا، مع كوارث حلب، هو، على المدى البعيد، ضد نظام بشار الأسد، ومن يعاونه.
في العدد نفسه أيضًا كتب المعارض والباحث الإيراني، كريم عبديان بني سعيد، مؤكدًا عجز النظام الخميني عن الوفاء بفاتورة المأساة السورية، خاصة فاتورة إعادة البناء الاقتصادية، حيث تحدثت أرقام عن نحو تريليون دولار، وأكثر، تكلفة تعمير الخراب السوري، المادي والإداري والقانوني... إلخ.
أضيفُ لهذا، الإشارة لعجز الخمينية الهائجة، عن مصادمة حقائق راسخة، وهي أن الشيعة أقلية في العالم الإسلامي، الذي بنسبته العظمى هو من السنة، كما أنها أقلية في المحيط العربي، وإن كان الوضع اليوم «رديئًا» بسبب تشتت العرب، وخذلان أميركا أوباما، وصلف روسيا، وكارثة «داعش»، فإن كل ذلك «وضع مؤقت»، وسرعان ما ستكون هذه الغزوات الإيرانية والتدخلات الروسية المتتابعة، مدعاة للاستجابة، وتأليف رد مناسب، مع تزايد الغضب الشعبي العام، وتقيح الجراح، وجراحة الكرامة والدفاع عن الذات.
كثر هم من تحدثوا عن تهور الخميني والروسي، مع أدواتهما العراقية واللبنانية، وفلاحي أفغانستان وباكستان، من الأقليات الشيعية، في الجحيم السوري والعراقي، ومنهم، أستاذ القانون الدولي، الأميركي العارف بالعراق وسوريا، نوح فيلدمان.
بالنسبة للغرب، فما يعنيه من حرائق الشرق الأوسط، حجز اللاجئين، خلف حدود القارة العجوز، خوفًا على الهوية الأوروبية، وذعرًا من الذئاب الداعشية المتسللة، كما جرى مع قاتل شاحنة برلين الأخيرة.
لكن ردّ هذه المخاطر عن أوروبا لن يكون بالسلبية، أو النظرة الأمنية القاصرة أو أخذ جانب الروسي وتسليمه الملف السوري، كما في مفاوضات الآستانة بكازاخستان، الانقلابية حتى على مرجعية جنيف.
الحل هو بطرق البيوت من أبوابها، وهي أن المعضلة في النهاية، معضلة قمع ممنهج لغالبية السكان، بنفَس طائفي حقود، وإمبراطوري سلافي عتيد.
حتى شيعة المنطقة، من العرب وغير العرب، مطلوب منهم الانتفاض في وجه المغامرات الخمينية، بحرق الشيعة في فرن المصالح الإيرانية، بل إن قائد حرس الثورة الخمينية، محمد جعفري، قال قبل أيام إن حلب هي خط الدفاع الأمامي عن إيران، طبعًا بدماء شبان من لبنان والعراق وبلاد العجم!
هذا ربما، ما جعل أمين عام «حزب الله» الأسبق الشيخ صبحي الطفيلي يخبرنا، مؤخرًا، في خلاصة حزينة أن السياسة الإقليمية والدولية: «مكّنت طهران من التفرد بأبناء الطائفة الشيعية في المنطقة».
الزمن كما قال الرميحي، ضد بشار ومن يمّده في الغي مدّا.
«الولايات المتحدة لن تتدخل لمقاتلة حزب الله، فحزب الله لم يعلن الحرب على الولايات المتحدة، ولم يتآمر ضدها بخلاف (داعش) و(النصرة)».
ما الرابط بين تلك العبارة وعنوان هذا المقال؟ لعل هذا السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم الذي ستترك له المساحة ليفك طلاسم ذلك الربط، ولكن بعد أن نسير معه في السطور التالية.
إنه عام 2003، الولايات المتحدة تغزو العراق، وأحد محاور الشر كما تطلق عليه (النظام الإيراني) يسهم في نجاح ذلك الغزو. تدبّ الفوضى في العراق وتزداد سوءًا بعد إعلان بول بريمر حلّ الجيش العراقي. الفراغ الأمني تزداد ملامحه شيئًا فشيئًا، وينطلق النظام الإيراني بواجهته «فيلق القدس» وقائده قاسم سليماني لتعزيز النفوذ الإيراني وتأثيره في العراق.
يزداد الوضع تدهورًا في العراق وتزداد معه الخسائر الأميركية.
إنه 2005، تصنف الولايات المتحدة الأميركية قاسم سليماني على أنه داعم للإرهاب الدولي، وتفرض عليه عقوبات عززها القرار الأممي رقم 1747 في 2007 يحظر بموجبه مجلس الأمن السفر على قاسم سليماني، ويعد أي بلد يسمح له بالعبور أو السفر متحديًا العقوبات المفروضة.
إذن العراق دولة ذات حدود دولية معترف بها، وبالتالي وجود سليماني فيها يعتبر انتهاكًا لتلك العقوبات.
ولكن..
عداد الخسائر الأميركية ما زال مستمرًا. ما العمل؟ القوات الأميركية في العراق تنسق الترتيبات الأمنية مع النظام الإيراني، وبالتالي لا بد من أن يكون لـ«فيلق القدس» وقائده دور ملموس في ذلك.
وأين إذن تلك العقوبات المفروضة على قاسم سليماني؟ يتساءل القارئ.
من جديد، في 2011، الولايات المتحدة تفرض على قاسم سليماني العقوبات مرة أخرى مع الرئيس السوري بشار الأسد وغيره من كبار المسؤولين السوريين، بسبب تورطه في تقديم دعم مادي للحكومة السورية. الاتحاد الأوروبي في يونيو (حزيران) 2011 يدرج ثلاثة من قادة الحرس الثوري الإيراني بينهم قاسم سليماني في قائمة العقوبات، لتوفيرهم أدوات للجيش السوري لغرض قمع الثورة السورية.
يبدو أن قاسم سليماني في مأزق، فهل هذا صحيح؟
تجتهد المحاولات للحصول على صورة لقاسم سليماني في العراق. يبدو الأمر صعبًا.
وفجأة.. صور قاسم سليماني تغص بها وسائل الإعلام المختلفة. ما الذي حدث؟
إنه صيف 2014، تنظيم داعش الإرهابي يجتاح شمال العراق، فرصة ذهبية للنظام الإيراني. كيف ذلك؟ يتساءل القارئ. الإجابة لدى وزير الخارجية الإيراني بقوله إن إيران الدولة الوحيدة القادرة على محاربة الإرهاب في المنطقة. حديث يثلج صدور الغرب لمواجهة الخطر العالمي الذي يهددهم.
صور لقاسم سليماني محمولاً على الأكتاف في عدد من المدن العراقية، وأثناء المعارك وأثناء وضع الخطط مع قادة الحشد الشعبي والجيش العراقي.
أين الحظر المفروض على قاسم سليماني وأين الموقف الأميركي من ذلك؟ يستذكر معي القارئ تصريح وزير الخارجية الأميركي وغيره المرحب بمشاركة إيران في محاربة الإرهاب. من سيتقدم لذلك غير «فيلق القدس» وبالتالي قاسم سليماني.
الوضع يشتد تأزمًا على الحليف السوري، لا بد من التحرك لإنقاذ محور المقاومة من قِبل النظام الإيراني. إذن لا بد من اتخاذ خطوات تجاه ذلك. يتجه قاسم سليماني قبل قرابة سنة نحو سوريا لدعم قوات النظام السوري والميليشيا الموالية له.
هل غاب هذا الأمر عن أجهزة المخابرات الأميركية؟ بالطبع لا، فصور قاسم سليماني التي أشار إليها المتحدث باسم الخارجية الأميركية أخيرًا لم تكن غائبة، لا عن الساحة العراقية ولا السورية.
من جديد أين موقف الولايات المتحدة من ذلك؟
إنه صيف 2015، يطل علينا قاسم سليماني من روسيا وزيارة تبعها مزيد من الوجود والحضور الروسي المؤثر على الساحة السورية. الموقف الأميركي ينفض الغبار عنه، ويستذكر أخيرًا أن هناك عقوبات مفروضة على قاسم سليماني.
يتبرأ المتحدث باسم الخارجية الأميركية بالقول إن زيارة قاسم سليماني إلى روسيا تعتبر انتهاكًا للعقوبات الأممية. ولذا ستطلب واشنطن من مجلس الأمن التحقيق في أمر هذه الزيارة.
إذن قاسم سليماني على وشك التعرض لمزيد من الضغوط، ولعل ذلك يدفع بأن يستذكر الجانب الأميركي أن وجود قاسم سليماني في العراق هو في الإطار ذاته وخرق للعقوبات مثلما هو الحال عندما يسافر لروسيا.
«تمت مناقشة هذا الأمر مع المسؤولين الروس، لكن الخارجية الأميركية لم تتلقَّ ردًا حازمًا من الحكومة الروسية»، كان ذلك تصريح المتحدث باسم الخارجية الأميركية.
يحاول القارئ معي الرجوع بالذاكرة لعل الولايات المتحدة أخذت موقفًا من ذلك. لا وجود لأي موقف.
انقضى عام ونيف على ذلك، وكحال الخطوط الحمراء، لا موقف ملموسًا تجاه خرق قاسم سليماني لحظر السفر. وتكاد تتناسى الذاكرة ذلك..
وفجأة..
المتحدث باسم الخارجية الأميركية يطل علينا من جديد بعد انتشار صور لقاسم سليماني في حلب، ليعلن أن الولايات المتحدة تعتزم الذهاب إلى مجلس الأمن لإثارة قضية وجود قاسم سليماني في مدينة حلب السورية، باعتبار ذلك انتهاكًا للقرارات الدولية.
وماذا عن وجوده المستمر في العراق؟ يتساءل القارئ من جديد.
نعود من جديد هنا للربط بين عنوان المقال وما ذكرناه من تصريح في بداية هذا المقال، فقائله هو وزير الخارجية الأميركي الذي يعلم جيدًا أن حزب الله مدرج في القائمة الأميركية بوصفه تنظيمًا إرهابيًا، لكن منظوره لهذا التنظيم في سوريا أتى وفق اعتبارات أخرى.
فهل المنظور الأميركي لقاسم سليماني سواء في العراق أو سوريا وخرقه لحظر السفر واتخاذ موقف جدي من عدمه يسير وفق ذلك؟
دعوة للتمعن.
ما عاد مفهوم السيادة الوطنية يعني شيئاً بالنسبة إلى بشار الأسد وحلفائه وداعميه. بقاء النظام هو الأهم. لذلك لا يتوقف أحد من حاملي شعار «سيادة سورية وحرية قرارها» عند مشهد عناصر الشرطة العسكرية الروسية (بين 300 و400 جندي) يتجولون الآن في أحياء حلب، التي يفاخر النظام السوري بـ «تحريرها» من مواطنيها، أو بالأحرى بـ «تنظيفها»، كما قال بشار، مستخدماً تعابير من القاموس التقليدي الذي لجأ إليه منذ بدايات الثورة، عندما كان يتحدث عن المتظاهرين السلميين، ولا يرى فيهم سوى «جراثيم» يجب تنظيف المستنقعات منها كي لا تنتشر وينتشر معها داء الثورة، فيأخذ النظام معه.
حلب، عاصمة سورية الثانية، وأعرق المدن العربية، حلب التاريخ وسيف الدولة وأبي فراس وقصائد المتنبي، «يحررها» الروس والإيرانيون من أهلها، ويفاخر رأس النظام السوري بأن ما بعد هذا «التحرير» لن يكون كما قبله. أي أن سورية التي كنا نعرفها لن تعود على يد بشار الأسد كما كانت قبله.
في شهر آذار (مارس) الماضي أجرت إحدى المحطات الألمانية حديثاً مع الرئيس السوري. سأله المراسل إذا كان قلقاً من التدخلات الخارجية، الروسية والإيرانية، على سيادة سورية. أجاب بشار إن «السيادة مصطلح نسبي». ولم ينسَ أن يضيف أنه باق في الحكم بإرادة السوريين!
مفاتيح القرار السوري، السياسي والعسكري، هي اليوم في يد فلاديمير بوتين وعلي خامنئي. لذلك لم يجد بشار الأسد حرجاً في شكر بوتين والإيرانيين على مساعدته على «تحرير» حلب، أي على طرد أهلها منها. اعتبر الأسد أن «الانتصار» في حلب هو «انتصار» أيضاً لموسكو وطهران. وصنّفه في مستوى الأحداث التي سيؤخر لها التاريخ. نجح الرئيس السوري وأعوانه في إعادة رسم الخريطة الديموغرافية السورية. السنّة يتم نقلهم إلى المناطق ذات الأكثرية السنية، التي لا يعتبر النظام نفسه معنياً بأمورها، بل هي مرشحة لدمار مقبل، مثلما هو الوضع التعيس الذي ينتظر محافظة إدلب مثلاً. أما الشيعة فيُنقلون إلى مناطق ذات أكثرية شيعية، ليشكلوا هناك نواة «سورية المفيدة»، التي لا يجد نظام بشار الأسد سواها للاعتماد عليه.
موسكو تخطط أيضاً لما تسميها تسوية سياسية للأزمة السورية، بناء على «انتصار» حلب، من خلال محادثات تجرى في آستانة، عاصمة كازاخستان، في منتصف الشهر المقبل، تشارك فيها روسيا وإيران وتركيا ونظام الأسد، مع استبعاد المعارضة السورية والأطراف الإقليمية الداعمة لها والولايات المتحدة، في التفاف واضح على محادثات جنيف التي تجرى برعاية دولية وبمشاركة كل الأطراف. وبطبيعة الحال سيكون أي حل للأزمة يخرج من محادثات كهذه، إذا عقدت، حلاً يراعي مصالح موسكو وطهران، ويكرس بقاء النظام السوري الحالي في خدمة الراعي الإقليمي والقوة الدولية التي وجدت في دمشق مسرحاً مناسباً لعرض عضلاتها وعودة نفوذها.
كم كان مخزياً في هذا المجال ذلك المشهد الذي رأيناه في موسكو قبل أيام، عندما اجتمع سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف وجاويش أوغلو حول الطاولة ليرسموا مستقبل سورية، الذي تصنعه قواتهم على الأرض، فيما بشار الأسد وحليفه أمين عام «حزب الله» يفاخران بأن النظام لم يسقط لأنه، كما قال نصرالله، «نظام موجود وقوي وفاعل ولا يقدر أحد في العالم أن يتجاهله»... حبذا لو أبلغ هذه الرغبة بعدم تجاهل النظام للوزير الإيراني!
هذا في السياسة، أما عسكرياً، فتنوي روسيا تحويل قاعدتها البحرية في طرطوس إلى قاعدة عسكرية دائمة إلى جانب القاعدة الجوية في حميميم، ما يحقق لها هيمنة كاملة على الساحل السوري ووجوداً عسكرياً طويل الأجل في منطقة البحر المتوسط.
من يحضر السوق يبيع ويشتري، كما يقول المثل. هكذا أدرك فلاديمير بوتين أن الغياب الأميركي عن التدخل لإنقاذ السوريين، وحاجة النظام إلى الدعم بعد أن شارف على الانهيار على رغم الدعم الإيراني، يشكلان فرصة ثمينة لا تفوّت. كانت الساحة مفتوحة للجميع فاقتحمها بوتين ونجح، ليس فقط في تثبيت القواعد الروسية على الأرض السورية، بل فوق ذلك في تحويل سورية إلى جمهورية روسية، كما لم تكن مرة من قبل.
هل تعرفون أننا -السوريين- نتشاجر على طريقة كتابة اسم بلدنا “سوريا، سورية”، وعندما نصل إلى طريق مسدود بالنقاش الذي ينتهي سريعًا، يحذف أحدنا الآخر من حسابه في الفيسبوك، والفيسبوك يا سادة هو النافذة الوحيدة التي يطل منها السوري على بقية أبناء وطنه.
هل تعرفون أننا -السوريين- نحمل كمًا من الحقد يساوي تمامًا كم الحب للباص الأخضر، وكلما حضرت صوره هربنا منها، أو لجأنا إليها، وكلا الهارب واللاجئ إليه سوري، الأول شرده النظام وقتل عائلته، والثاني قدم له النظام المأوى وأعطاه دية قتلاه.
هل تعرفون أننا -السوريين- لبسنا جميعنا، من دون استثناء، ثيابًا داخلية من مجمع استهلاكي حكومي اسمه “سندس”، وخلعناها كلنا في لحظة واحدة، خوفًا من أن يكون العدو السوري يرتدي الثياب نفسها التي يرتديها العدو الأول، فلبس المؤيد الثياب الإيرانية والروسية، وبقي المعارض عاري الصدر، لا يستر جسده إلا دمه.
هل تعرفون أننا -السوريين- لا نعرف بعضنا بعضًا، فالشامي لا يتعامل مع ابن دير الزور، والحلبي لا يعرف الدرعاوي، والحمصي والحموي جيران، لكنهما لم يكونا قبل 2011 جيران الرضا، وفجأة -بعد 2011- بدأنا نتعرف إلى بعضنا، واكتشفنا كم نحن مختلفون ومتناقضون، وأدرك معظمنا -فجأة- أن الشامي ليس تاجرًا فحسب، وأن اللهجة الحلبية لها موسيقاها، والدرعاوي والديري والرقاوي والحموي، يا إلهي.. كم لبثنا في بلد واحد؟
هل تعرفون أننا -السوريين- أنشأنا خلال 6 سنوات ما لا يعد ولا يحصى من الدكاكين الثورية، أولها الائتلاف، وليس آخرها كيان غريب أطلق على نفسه لقب مدني، ظهر في إدلب، إدلب التي تحكمها الفصائل الإسلامية المتشددة، إدلب التي سجنت شبابًا من داريا خرجوا بالباص الأخضر لاجئين إليها؛ لأن أحدهم -بحسب قول السجانين- “أساء إلى الذات الإلهية”.
هل تعرفون أننا -السوريين- لم نسمع بتعبير “أساء إلى الذات الإلهية” إلا اليوم، ولم نكفّر بعضنا بعضًا إلا اليوم، ولم نقتل أو نرجم امرأة إلا اليوم، ولم نكتشف أن الجيش أسدي، وأن الفساد سببه الأسد، وأن الله تركنا منذ زمن بعيد إلا اليوم.
هل تعرفون أننا نحن -السوريين- اختلفنا على ألوان العلم، فصار لسورية علمان، وهل تعرفون أننا لم نشعر يومًا بأن لدينا علم، ولم نرفع التحية له من قلبنا ولا مرة، ولم يكن يعنينا أن معظم الأعلام المعلقة على المدارس مهترئة وألوانها باهتة، وأننا اليوم نحمل علمًا جديدًا يحمل نجماته الثلاث، ويتخلى عن اللون الأحمر، وأنه كلما رفعناه في إدلب نتلقى الرصاص.
هل تعرفون أننا -السوريين- نصل إلى بلد اللجوء، ونتمنى أن يغلَق الباب وراءنا، وأننا نتحدث مع أهلنا في سورية؛ فنبكي على “السكايب”، ثم نتناول العشاء مع صديق أوروبي، وأننا استخدمنا داعش وإرهابها للحصول على اللجوء، وتجاهلنا الأسد وجرائمه وإرهابه، ثم في آخر الليل وبعد كأس من الشاي أو البيرة، نعلن من خلف الشاشة الفضية أننا مستمرون حتى آخر قطرة دم؛ فداء لسورية.
هل تعرفون أننا -السوريين- نحتال على بعضنا، ونمارس كل ما تعلمناه من سنوات الصمت الأربعين من طرق تذاكي؛ لكي نسرق الفرص من أمام بعضنا، وأن من حق غضبنا التظاهر بكل أنواع الشتم والسب الجنسي؛ وأن مثقفينا سطحيون، وفنانينا يشعرون بأهمية الثورة؛ لأنهم التحقوا بها، وأن فقيرنا مهان خارج وداخل سورية، وأن تجارنا شربوا من دمنا قبل أن يشربوا الماء.
هل تعرفون أننا -السوريين- نبكي كل يوم، ونضحك كل يوم، ونبتز كل يوم، ونكتشف كم ضحك علينا سياسيون ومثقفون ومقاتلون ودول ومجالس وهيئات، وأننا في كل مرة نكتشف ذلك، نكتفي بالسباب واللعن، ونهرول إلى الضاحكين ليوظفونا بينهم.
هل تعرفون أننا -السوريين- لسنا شعب الله المختار، ولم نقم بالثورة لنموت، ولا نستمتع بمنظر الدم، ولسنا شعبًا واحدًا، ولا عَلم لدينا، ولا نشيد وطني، كل المتاح لنا اليوم هو الباص الأخضر، الذي يسعى العالم كله؛ ليضع سوريتنا برمتها فيه.
هل تعرفون أننا -السوريين- حتى اليوم لم نكتشف لماذا اختارنا الله وقادات العالم لهذه المجزرة، وأننا لن نخرج منها إلا يوم نعرف أننا لسنا طوائف وأديان وقوميات، وأن لا الباص الأخضر، ولا الذقون المرسلة هي مصيرنا، وأننا أناس عاديون نحب ونكره ونغار ونخطئ ونصيب، والثورة ليست معصومة عن الخطأ، ولسنا جلادين؛ لنمارس أحكام الإعدام على كل من يقول رأيًا مخالفًا.