٨ يناير ٢٠١٧
حينما تدخلت في سورية، برّرته روسيا بمواجهة الإرهاب وسحق الإرهابيين "الشيشان" قبل أن يعودوا إلى روسيا، وهي الصيغة التي برَّر بها الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، غزو أفغانستان ثم العراق. ثم أوضحت أكثر أنها تدخلت لمنع سقوط النظام في لحظةٍ كان عاجزاً عن الاستمرار، وكان يجب أن يجري إبعاد المتحكّمين فيه في سياق حلّ سياسي، لتحقيق تغيير يؤسّس لوضع جديد. وربما جرى ترداد تبريراتٍ أخرى، منها أن "النظام الشرعي" هو الذي طلب التدخل الروسي.
لكن، ربما أوضح تصريح وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، الأمر من زاويةٍ أخرى، تنفي كل ما قيل قبلاً عن مبرّرات التدخل. قال، وهو يشير إلى "الضربات الجوية" التي أسفرت عن قتل 35 ألفاً "من الإرهابيين" أن روسيا "نجحت في وقف سلسلة الثورات في الشرق الأوسط"، وجزم أن "سلسلة الثورات التي انتشرت في أنحاء الشرق الوسط وأفريقيا انكسرت" (رويترز 22/12/ 2016). هو هنا يعلن "الهدف الأسمى" للتدخل في سورية، على الرغم من أن مصالح روسيا الاقتصادية والجيوإستراتيجية كانت في جوهر الأسباب التي دفعتها إلى التدخل وإقامة قواعد عسكرية، جوية وبحرية وبرية، لأجلٍ "غير محدَّد". ويوضح شويغو بالتأكيد شعور روسيا الإمبريالية بخطر الثورات وخطورتها عالمياً، وعلى روسيا خصوصاً. بالضبط، لأن الوضع الاقتصادي الروسي ليس في وضعٍ مريح، والشعب الروسي يعاني من الفقر والبطالة كذلك.
وإذا كان هذا التقدير ليس في مكانه، بالضبط لأن أساس نشوب الثورات لا زال قائماً، فإن هذا الإعلان الواضح بأن تدخّل روسيا ووحشيتها قد أدتا إلى "إخماد ثورات الشرق الأوسط" يعني أن روسيا كانت، أولاً، ضد كل الثورات العربية، وهو ما وَضُح في موقفها من ثورات تونس ومصر، ومن ثم اليمن وليبيا، حيث دافعت عن زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وغضّت النظر عن سحق مظاهرات البحرين، وقبلت الدور السعودي الذي كان يناور لإجهاض ثورة اليمن، ولم تكن مع الثورة في ليبيا بل ظلت تدافع عن معمر القذافي، على الرغم من أنها تقول إن "الغرب" قد خدعها، حين وافقت على قرار مجلس الأمن الذي يسمح بالتدخل العسكري "المحدود". لا يتعلق الأمر هنا، إذن، بالثورة السورية فقط، بل يصيب كل الثورات العربية، وكل الثورات الممكنة في العالم. ومن المنظار نفسه، كانت ضد ثورة أوكرانيا، وتدخلت عسكرياً لضم القرم، والسيطرة على شرقها. بمعنى أن روسيا الإمبريالية ضد كل الثورات، وهذا "طبيعي" لإمبرياليةٍ تريد السيطرة والاحتلال.
وثانياً تدخلت وهي مصممة على ممارسة كل الوحشية التي مارستها، من أجل إجهاض الثورة و"كسر" سلسلة الثورات التي بدأت من تونس. بالتالي، عملت على إكمال سياسات النظام، وإيران (وأدواتها) المتعلقة بالتدمير والقتل والترحيل، بكل الأسلحة المتطورة التي تمتلكها، من أجل تحويل الثورة إلى مجزرة. يوضح هذا التصريح أن السياسة التي وضعتها روسيا لتدخلها العسكري انطلقت من تدمير الثورة، بغض النظر عن الكلفة، ومن ثم كانت تعرف أن عليها، بالضبط، لأنها تواجه ثورة شعب، وليس إرهاب مجموعاتٍ صغيرة متحكَّم بها، أن تمارس كل الوحشية التي تجهض الثورة، بغض النظر عن عدد القتلى أو مستوى التدمير. ولا شك في أن إشارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حين لقائه كلاً من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في برلين، موحية هنا، حيث أشار إلى أنه سيمارس في حلب كما فعل في غروزني، أي ممارسة عملية التدمير الشامل بكل الأسلحة (البراميل المتفجرة من اختراع بوتين، ومورست للمرة الأولى في غروزني).
تعتبر روسيا هنا أنها، من أجل كسر سلسلة الثورات، كان لا بد لها من أن تمارس كل الوحشية التي توقفها، ليس في سورية فقط بل في "الشرق الأوسط". وهذا ربما يوضّح الأرقام التي أتى بها شويغو في التصريح نفسه عن قتل "35 ألف مسلح" أو "إرهابي"، بعد أن نفذ الطيران الحربي الروسي (فائق التطور) 18800 طلعة منذ سبتمبر/ أيلول من سنة 2015. وربما توضّح أسماء القتلى طبيعتهم التي يقول إنهم من الإرهابيين، ولقد نشرت الأرقام وصفات هؤلاء (وأكثر منهم) وأعمارهم في تقارير لمنظمات وهيئات سورية ودولية مستقلة، فهم في معظمهم من الشعب الذي يعتبره شويغو إرهابياً ما دام قام بالثورة (وشويغو يعترف بأنها ثورة). وجرى قتلهم عن عمدٍ، لأنهم قاموا بالثورة التي يعلن أنه كسرها، ليس في سورية فقط بل في "الشرق الأوسط وأفريقيا"... هو الرعب من الثورة إذن، من إمبرياليةٍ تريد النهب والسيطرة. وهو رعب الإمبرياليات الأخرى.
وثالثاً، أنها بهذا التدخل نفذت ما أرادت الإمبرياليات الأخرى، وكانت الأداة التي جرى استخدامها، ليس من أجل إجهاض الثورات فقط، بل وتحويلها، في سورية، إلى مجزرة تخيف شعوب العالم. وهذا يفسّر الموقف الإمبريالي الأميركي الذي كان يغضّ النظر عمّا فعل النظام من وحشيةٍ في القتل والتدمير واستخدام الأسلحة المحرّمة، وما فعلته روسيا بتدخلها. لقد أخافت سلسلة الثورات التي ظهرت كانفجار سريع وكبير يهدّد الرأسمالية كل الدول الإمبريالية، في لحظة أزمتها المستعصية على الحل، والتي فرضت سياسة التقشف التي تعني انهيار الوضع المعيشي للشعوب في البلدان الرأسمالية ذاتها، وتسريع نهب الأطراف وتدمير مقومات وجود شعوبها. لهذا، كان لا بد من مجزرة كبيرة تدمّر بلداً له تاريخ حضاري كبير (بعد أن دمرت الإمبريالية الأميركية العراق)، وموقع مميز، من أجل أن تعي شعوب العالم التي باتت تنهب بشراسة أن عليها قبول الموت الذي تعيشه، أو تنتظره من دون مقاومةٍ أو تمرّد أو ثورة، لأنها حينها ستدمر بكل العنف والوحشية. بالتالي، تقول هذه الإمبرياليات إن الموت البطيء أفضل من الموت الوحشي، على الرغم من أنه في الحالين موت، وأن الإحساس بالموت جوعاً هو الأساس الذي يفرض الثورات، مهما كانت النتائج، لأنه "رد الفعل الطبيعي" على الشعور بالموت هو الحركة، التمرّد، أي الثورة.
إذن، روسيا الإمبريالية هي ممثلة الإمبرياليات في السعي إلى سحق الثورات، وهي أداة هذه الإمبرياليات لهذا السحق. ولسخرية التاريخ أن يعاد كمهزلة، بعد أن كان تراجيديا حينما لعبت روسيا القيصرية دور "حصن الرجعية" (كما سماها ماركس) من أجل سحق ثورات سنة 1848 في أوروبا. إذن، يعود حصن الرجعية، لكنه هذه المرة مستفيداً من كل التطور التكنولوجي العسكري الذي أنجزته الاشتراكية مع الأسف، وليكون هو قوة الصدام المعلنة ضد ثورات الشعوب. وأن يسلّح بجيش "عرمرم" من "اليسار الممانع" في العالم كله، يقدّم له المبرّر الأيديولوجي لما يفعل، من خلال تشويه الثورات، و"القتال المستميت" للتأكيد على أنها "مؤامرة إمبريالية"، أو أنها ليست ثوراتٍ، لأنها بلا قيادة "ماركسية لينينية"، أو لأنها أتت بـ "الإرهابيين". هذا اليسار الذي فقد كل فهم، وكل معرفة، وكل إنسانية، وبات أداةً بيد "حصن الرجعية" في ضخّ الترهات حول الثورات، وقام بالتمهيد "النظري" لسحقها.
إذا كان سيرغي شويغو هو وزير حرب الإمبرياليات، فيمكن القول إن قدري جميل وكثيرين من "شيوعيي" العالم هم هيئة الأركان الأيديولوجية في الحرب التي تخوضها الإمبرياليات ضد الثورة. وليبدو أن الاتحاد السوفييتي لم يُنتج سوى هاتين "القوتين": حصن الرجعية العسكري وحصن الرجعية الأيديولوجي.
٨ يناير ٢٠١٧
يشغل خبر مؤتمر أستانة المقترح الحيّز الأكبر من مداولات مختلف أطراف الصراع السوري، وبينما تنفي المعارضة علمها بأية تفاصيل حوله، وتطرح الشكوك بشأن النوايا الروسية، وتؤكد أنها لم تتلق دعوة بخصوصه، تتوالى من هنا وهناك معلوماتٌ عن جدول أعماله، وأسماء المزمع مشاركتهم به، بل النتائج التي ستترتّب على انعقاده، في ظل تحضيراتٍ أمميةٍ لعقد جلسة تفاوضية جديدة في جنيف، نهاية الأسبوع الأول من فبراير/ شباط 2016.
لعل ذلك يؤكد من جديد اللا قرار الدولي، أو انعدام الحسم الدولي، بخصوص حل القضية السورية، حيث تسدّ فرص الحل السياسي، ليحل مكانها مجرّد تفاهمات جزئية هنا وهناك، وحيث يتلو الجميع ترانيم اللا حل بوسائل السلاح، بفعل التدخل العسكري الروسي والإيراني في حلب وريف دمشق، وتتابع عمليات التهجير القسري، ومعها تفاصيل "خريطة الطريق" الروسية التي أنتجت، حتى اليوم، مئات نقاط الهدن المحلية على امتداد الأرض السورية.
ما المطلوب من مؤتمر أستانة؟ وما الغاية التي تدعو موسكو إلى إشراك كل من تركيا، الدولة الصديقة للمعارضة السورية، وإيران التي ترى كل من يقف في مواجهة الأسد إرهابياً وعدواً لها؟ ومن هم الشركاء المحتملون الذين تود روسيا تسميتهم "معارضةً" من هذه الأطراف؟
ترى "معارضة موسكو"، بقيادة قدري جميل، أن الفرصة مواتية لها الآن لتتصدّر المشهد، لكن السؤال الملح هنا: إذا كانت روسيا ترى أنها هي المعارضة المناسبة للتفاوض مع النظام، وهي تحت جناحها أصلاً، فلماذا تدعو إلى مؤتمر في أستانة إذن؟ ومن جهتها، فإن "معارضة حميميم" التي تتنفس من خلال النظام، وتتحرّك بموافقةٍ منه، وتمارس نشاطها داخل نطاق سيطرته الأمنية، ومسار حركتها دمشق موسكو دمشق، ما حاجتها إلى مؤتمر أستانة، لتطرح تصوّرها حول سورية وحول النظام؟
فإذا كانت تلك الأطراف ليست الهدف من الجلسات الحوارية "التفاوضية"، المزمع عقدها في أستانة، فلا شك أن جمعها مع أطرافٍ من المعارضة المسلحة التي كانت هي أصلا تجرّمها وتضعها في خانة الإرهاب، هي الغاية التي تريد روسيا منها شرعنة من تسميهم "معارضة الداخل" أو تدجين من كانت تسميهم إرهابيين حتى لحظة انعقاد الاجتماع الثلاثي في موسكو، والذي خرج عنه ما تعتقده تلك الأطراف "المرجعية الجديدة للتفاوض".
لا شك أن معركة حلب، والمقتلة الكبرى التي حدثت خلالها، غيّرت موازين القوى على الأرض، فهي، وإن اعتبرناها بمثابة هزيمة للمعارضة المسلحة، إلا أنها، في الآن نفسه، ليست انتصارا للنظام، بل هزيمة له بالتساوي، كونها أخرجته هو أيضاً من معادلة الحل السوري، لتحلّ مكانها معادلة روسيا، وبالشروط التي تتأقلم مع مصالحها دولياً وإقليمياً، وحتى سورياً. هذه المصالح التي تتقاطع، في بعض محاورها، مع مصلحة تركيا، حيث الملف الكردي الضاغط عليها، والعلاقة المتأرجحة مع الإدارة الأميركية، وموجبات تحالفها مع روسيا.
أمام هذه المعطيات، يبدو أن مؤتمر أستانة مجرّد تلويح بالعصا للمعارضة السورية المتمثلة بـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" و"الهيئة العليا للتفاوض"، ومحاولة لتلزيم تركيا بفرض مشاركة فصائل المعارضة المسلحة العاملة على الأرض من خلال نافذتها، أو الحليفة لها، من جهة. ومن جهة ثانيةٍ تختبر روسيا حقيقة دور إيران بالنسبة لإمكانية اندماجها في "سياسي" يوقف أحلام حليفها الأسد بشأن حسم المعركة عسكرياً. وتالياً، تطويع كامل الأراضي السورية لسيطرته من جديد، الأمر الذي تراه طهران بات قاب قوسين أو أدنى. وثمّة أيضا الموقف الجديد للإدارة الأميركية، برئاسة دونالد ترامب (بعد أسابيع)، الضاغط على إيران، الذي يرى ضرورة إعادة النظر في الاتفاق النووي الذي فتح الأفق أمامها لاستعادة موقعها دوليا.
لا شك أن روسيا ضاقت ذرعا بمرجعية جنيف 2012 التي جعلت من "الائتلاف" ممثلاً عن المعارضة بداية، وبعده "الهيئة العليا للتفاوض"، وكلاهما في مركبٍ لا يصل إلى ما تريده،ولا يعمل وفق منظور الحل المقترح منها. كما أن روسيا كانت وراء "مؤتمر فيينا"، أصلا، ليحل مرجعية للقضية السورية بدل مرجعية جنيف 1. وهي أيضا تجد الآن أن من شأن ما نتج عن التفاهمات الروسية ـ الإيرانية ـ التركية أن يكون قاعدة انطلاق إلى ذلك الهدف، في ظل الصمت الأميركي المعبّر، في الظاهر، عن لا مبالاة الإدارة الأميركية كلياً في الملف السوري.
وفقا لذلك، قد تعتقد روسيا أن المرجعية الجديدة تتطلب كياناً موازياً، أيضاً، ربما يلغي بوجوده "الهيئة العليا للتفاوض"، من خلال دعوة شخصياتٍ من مكونات الهيئة، تتماهى مع المتطلبات الروسية للحل المنشود في سورية، وتقبل مرجعية موسكو، وبقرار مجلس الأمن 2254 حسب التفسير الروسي له، أي إلغاء وحدانية الطرف المفاوض للمعارضة، وقبول أطراف عديدة، بينها معارضات موسكو وحميميم وقوات سورية الديمقراطية، إضافة إلى منصة القاهرة والمنتج الجديد لمعارضة الداخل "الجبهة التقدمية".
تأسيساً على ما تقدم، يصبح مؤتمر أستانة المزمع انعقاده بعيداً عن الأطراف الفاعلة في المعارضة السورية مجرّد حجر لتحريك بركة راكدة، قد لا ينتج منه سوى رؤية أوساخها.
في المعارك ربح وخسارة، ونصر وهزيمة، وكذلك في جولات التفاوض. لكن، في الثورات التي تنطلق من لحظة الأزمة التاريخية للشعوب، هناك معبر واحد لا يمكن الرهان على فقدانه، وهو المضي نحو الهدف المنشود، أي إقامة نظام ديمقراطي يضمن حقوق كل المواطنين، ونفض كل ما علق به من أسلمة الثورة وتطييفها، ومن عسكرةٍ تحمل مشاريع الممولين بعيداً عن الهدف الوطني، وهو حماية الشعب السوري من تغوّل أجهزة القمع على مفردات حياته اليومية والمعاشية، وصولاً إلى نبذ كل مدّعٍ بأنه يمثل من لا يمثلهم حقاً.
مؤتمر أستانة المزمع عقده بمرجعية "بيان موسكو" ليس انقلاباً على شرعية المعارضة التي يسميها بعضهم "الخارجية"، وإنما هو، في شكله المعلن حتى الآن، وقبل أن يتلقى أي طرف معارض حقيقي دعوتها، ليس أكثر من توهّمات ألم ولادة بحمل كاذب. وعلى أية حال، ثمّة شكوكٌ مازالت تطرح، بل تتزايد، حول انعقاد هذا المؤتمر، وحول الأطراف المشاركة فيه، وحول جدواه... وعلى الأقل، لم تحسم المعارضة السورية حتى الآن أمرها في هذا الخصوص، بل إن انحسار الزخم الذي رافق بيان موسكو، وبعده إعلان أنقرة، يؤكد أن ما يحصل مجرّد حمل كاذب، أو طبخة بحص.
٨ يناير ٢٠١٧
لا ندري إن كانت قناة فرانس 24 دخلت أحياء حلب الشرقية بعد أن أنهى مقاتلو الأسد عملية تعفيش المنازل أم قبلها، ولا ندري إن كانت كاتبة التقرير الاخباري الذي عرض ضمن أخبار ليلة السبت 6 كانون الثاني عن أطفال حلب، تعرف شيئاً عن الشهباء، أم إنه وبكل بساطة، تم إرسال معلومات وصور وفيديو بالإيميل من قبل منتج النشرة في المحطة، مع مهمة محددة، "برجاء عمل تقرير عن أطفال حلب دون التطرق لأسباب ما يحدث لهم، ودون ذكر جيش الأسد إلا بالخير".
ما نعرفه فعلاً، أن تقريراً إخبارياً على قناة فرنسية يحول المذبحة العلنية التي حدثت في حلب على يد الأسد وداعميه، إلى حكاية سطحية ساذجة بطلها طفل عبر عن اشتياقه للمدرسة، هو تقرير يمكن تصنيفه بجرائم الإعلام ضد الإنسانية.
من يقول أن ثمة إعلام محايد تماماً يعرف أن كل من يسمعه يضحك في سره من وصف "محايد"، وإن كان السوريين لا يطلبون الحياد التام، ولا يأملون أن يتعامل الإعلام الغربي مع قضيتهم ووجعهم بالحياد الكامل، إلا أن أضعف الإيمان "ربما" بالنسبة لهم، أن لا يتحول القتيل إلى قاتل، والجريح إلى نكرة، والجائع والعطشان إلى المنكوب والمريض، واليتيم والأرملة إلى أشباح غير موجودين، في إعلامهم كما فعل تقرير القناة تحت عنوان "أطفال حلب".
"أطفال حلب" الذين حوصروا من قوات الأسد والميليشيات الشيعية المساندة لها، وقصفتهم روسيا فسقطت منازلهم على رؤوسهم ورؤوس أهلهم، ظهروا في فرانس 24 ضحايا "حرب"، والحرب التي تروج لها القناة وغيرها من المحطات التي تساند الأسد، هي حرب هائمة عائمة، لا يتم تجاهل ذكر بشار الأسد على أنه مسبب تلك المأساة فقط، وإنما تقترب الكاميرا من عنصر من ذلك الجيش وهو يربت على كتف طفل نزح من الأحياء التي دمرها هو بأوامر رئيسه، والكاميرا التي التقطت صورة الجندي، لم تقترب من أي وجه آخر من المدنيين النازحين، ربما خوفاً من أن تخونه كاميرته فتلتقط نظرة الألم الحقيقة لأناس خرجوا قبل موتهم بقليل، وتركوا جثث أحبائهم في الأحياء التي حاصرها من تؤيده القناة التي تسمي نفسها "حيادية".
وفي موقعها الألكتروني، تروج فرانس 24 لدخول حلب من قبل قوات النظام على أنه نهاية الماساة، والانتصار الأكبر، وبالطبع تتجاهل أخبارها حقيقة ما حدث في تلك المدينة من خراب، وتحوّل انتباه القارئ إلى أن أحياء حلب الشرقية انتقلت من حالة الموت إلى حالة الحياة بجهود بشار الاسد وجيشه، فلا ميليشيات شيعية ولا قصف روسي ولا حصار وتجويع، إذ أن كل ما يوجد في حلب بعد دخول جيش الأسد إليها هو منازل فرغت من سكانها بمحض إرداتهم، وآخرون جاؤوا برعاية الجيش ليتفقدوا منازلهم، وفي تقريرها التفصيلي عن حلب، "عمليات تمشيط في أحياء حلب الشرقية بعد سيطرة النظام عليها"، بعد الاجتياح الأسدي. وعلى طريقة دس السم في العسل، حمل الخارجون من أحياء حلب الشرقية الصفة العسكرية مع بعض المدنيين، بينما كل من خرج من الفوعة وكفريا مدنيون ومعظمهم أطفال ونساء.
بات واضحاً أن هناك استراتيجية إعلامية تعمل على تزوير المصطلحات وتهميش المأساة، فيتبنى هؤلاء تسمية إعلام الأسد للمقاتلين المعارضين، ويُطلق عليهم لقب "إرهابيين"، ويتعاونون في ترسيخ أفكار وتعابير وأحكام مسبقة عن المقاتلين في سوريا ضد نظام الأسد، ويتم كل ذلك عبر تفريغ الكلمات ذات المحتوى النبيل "ديموقراطية، إنسانية، حرية" من معناها الحقيقي، وإلباسها معاني جديدة تحمل ضدها في كثير من الأحيان، ليصبح بعض الإعلام أقرب للاحتلال، احتلال للعقول وللإنسانية وللاحترام.
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي تمارس فيها قناة فرانس 24 التشبيح المغلف بحق السوريين، وفي جولة سريعة على موقعها الألكتروني وتقاريرها التلفزيونية، يمكن كتابة تقارير كاملة عن المعلومات الغير صحيحة والتي لا تتبناها أي جهة إعلامية تلتزم بالحد الأدنى من المهنية الصحافية والموضوعية، وإن كان من الصعب الإحاطة بكل السقطات المهنية والإنسانية التي اقترفتها القناة، فإن ثمة إعلام من النوع الذي يمارسه نظام الأسد ومكاتبه الصحافية كفرانس 24، لا يمكن تصنيف أخباره وطريقة نقلها إلا بالجرائم الإعلامية التي يمكن أن يدرسها أطفال سوريون في الجامعات بعد سنوات، ولتكون بلدهم هي المثال الأوضح لهذه الجرائم.
٨ يناير ٢٠١٧
منذ أكثر من عام كتب أحدهم على صفحته في التواصل الاجتماعي عبارة قصيرة، لكنها تحمل الكثير من الألم والغضب، ولكي أورد العبارة لابد من أن ألطّف من صياغتها، بحيث تصبح على الشكل التالي: اللعنة على أول واحد تحدث عن الغنائم في الثورة السورية ".
إن المطلع على واقع الحال يدرك بسهولة ما يعنيه صاحب العبارة، فالحديث عن الغنائم والسعي لها قد أضر كثيراً بالثورة السورية منذ بدايتها وحتى الآن، نظراً لما آلت إليه الأمور بعد الأخذ بهذا المبدأ الحربي الذي كان سائداً في الماضي.
وللتوضيح فإن الغنائم بحد ذاتها ليست فرضاً من فروض الإسلام ولا واجباً من واجباته، وإنما هي نظام اقتصادي واجتماعي أملته الضرورة، لإعطاء المقاتل ثمرة جهده في أية معركة أو غزوة يشترك فيها، ثم بعدها يذهب ليمارس عمله المعتاد في حياته اليومية. هذا ما كان سائداً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وما بعده بقليل، ثم بدأ يتخذ أشكالاً تطبيقية أخرى مع تطور مؤسسات الدولة وترسيخها في أرض الواقع.
وتوزيع الغنائم لم يكن يتم بشكل عشوائي، كما قد يتصور البعض، وإنما كان له نظام خاص حدده الرسول الكريم، فبعد انتهاء المعركة والاستيلاء على الغنائم كان يطلب من "بلال" أن ينادي على المقاتلين، ليأتوا بغنائمهم فيقوم الرسول بتوزيعها بنفسه، بحيث ينال الراجل سهماً والفارس ثلاثة أسهم، والمتزوج سهمين وغير المتزوج سهماً واحداً. وفي حال أخفى أحد المقاتلين جزءاً من غنيمته، فسوف يحاسب عليه يوم القيامة حساباً عسيراً، وحتى إذا قتل في المعركة فلا يعد شهيداً. هذا هو مضمون هذا هو مضمون الغنائم حسبما جاء في السنة النبوية.
وبعد أن تطورت الدولة العربية الإسلامية، وتكونت الجيوش النظامية، وأصبح المقاتل جزءاً من الجيش في أيام الحرب والسلم، اختلفت الأمور، وأصبحت الغنائم تنقسم إلى ثلاثة أقسام " ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر ". يوضع في بيت مال المسلمين.
إن ما دفعني إلى هذه المقدمة المختصرة، هو ما حدث بعد قيام الثورة، فلأسباب معظمها خارجية تم دفع الثورة باتجاه "الأسلمة"، وفي جانب كبير منها كانت أسلمة متشددة. وكان من المغري أن يتم الأخذ بتطبيق مبدأ الغنائم، ولكنه مع الأسف كان تطبيقاً بعيداً جداً عما كان يجري في زمن الرسول أو بعده، فقد صار أشبه بالفوضى العارمة، حيث دخل على الخط الكثير من الطامعين بالغنائم، والقليل من الطامحين لتحرير الوطن من سلطة الأسد وأعوانه، فاغتنام بندقية أو رشاش أو قاذف، يعد غنيمة للشاب العاطل عن العمل، ولاسيما ممن لا يمتلك ثقافة دينية ووطنية.
وقد ساعد في ذلك عدم وجود أية ضوابط في الحصول على الغنائم ولا في توزيعها، لاسيما بعد أن تعددت الفصائل وتنافرت في الغايات والأهداف حتى أصبح التناحر سمة من سمات العديد من تلك الفصائل، والكل مدرك تماماً أن ذلك يشكل خطراً على الجميع من ثوار وشعب ووطن، فالعدو بأنواعه أخذ يستولي على مكتسبات الثورة جزءاً بعد آخر من الأرض المحررة نتيجة لهذا التناحر المقيت.
في محافظة إدلب انفلات أمني مخيف، وعلى الرغم من أنها مهددة بكارثة حربية محتملة أقسى وأشد من كارثة سقوط حلب، إلا أن الفصائل لا تزال تتقاتل فيما بينها، وتمارس مبدأ الاستيلاء على الغنائم بأية وسيلة ومن أية جهة كانت.
ومن تلك الوسائل ما نقلته وسائل الإعلام منذ مدة، ليست بالبعيدة، من هجوم شنه ملثمون على أحد المقرات التابعة لفيلق الشام في إحدى مناطق إدلب، وذكر الناطق باسم الفيلق أن الملثمين عمدوا إلى الاستيلاء على السلاح وخطفوا عناصر الموقع واقتادوهم إلى جهة مجهولة.
وفي بيان سابق اتهم فيلقُ الشام فصيلَ جند الأقصى في ريف حماة الشمالي، بممارسة أعمال " تشبيحية وأفعال همجية" قد تؤدي إلى سقوط هذه المناطق بيد قوات الأسد وانسحاب الثوار ". والمؤلم أن هذا الكلام من فيلق الشام يعد تمهيداً لانسحاب مرابطيه من بعض الخطوط الأمامية في حال استمرت هذه الاعتداءات على مقراته.!!.
ومع عدم إغفالنا ما يمارسه شبيحة الأسد من تعفيش مخجل في الأماكن المدنية التي وقعت في أيدهم، بشكل يدعو إلى السخرية قبل الاستنكار، ولكننا الآن نريد أن نركز على ما جرى في مناطق عدة في إدلب من ممارسات مؤلمة، فبحسب الوقائع المعروفة على الأرض قامت بعض الفصائل بالسطو على عشرات المنشآت العامة من صحية وخدمية وحتى من معامل ومصانع، ومنها معمل سكر جسر الشغور ومحطات توليد الكهرباء إضافة إلى المناطق الأثرية والمتاحف، وتفكيك عربات القطار التي كانت موجودة في محطة "محمبل".
كما قام مجهولون مؤخراً بتفكيك خط سكة الحديد لمسافة كبيرة، ونقل المحتويات إلى جهة مجهولة، في مشاهد وصفها البعض بأنها مرعبة حقاً، وسط غياب تام لأي رقابة من أية جهة، رغم وجود اتهامات مبطنة لفصائل بعينها تقوم بهذا الفعل تحت بند "الغنائم".!!.
وهكذا تحولت العقول "الثورية" أو بتعبير أدق "الجهادية" إلى عقول فاسدة ومفسدة ومنفلتة، في الوقت الذي يزعم أصحاب هذه العقول أنهم لا يفعلون إلا كما أمرهم الله، والله من معظم أفعالهم براء، ومع ذلك يصرون على أحقيتهم في امتلاك الغنائم، حتى ولو كانت من الأملاك العامة، دون أن يلتفتوا إلى الضوابط التي كانت سائدة في زمن الرسول الكريم وبعده، ودون أن يدركوا أن الغنائم، مثلها مثل الأنفال التي نُسخت بزوال أسبابها، من هنا انتفى تطبيق أسلوب الغنائم الحربية كما كان سائداً في عهد الرسول، نظراً لتوفر البدائل الأكثر نجاعة وفائدة، والأقل إرباكاً، ففي عهد الدولة الأموية وما بعدها أُحدثت دواوين الجند وغيرها من الدواوين التي تسهّل أمور الدولة وخدماتها المتنوعة، وأصبحت العطاءات المادية بديلاً عن توزيع الغنائم التي أخذت طريقها إلى مخازن بيت مال المسلمين، ثم تُصرف في الوجهة التي تتطلّبها المصلحة العامة، وليس الخاصة.
وهذا ما كان يجب على الفصائل المسلحة أن تفعله، ولكنه لم يحصل إلا نادراً، فالظروف القاسية التي عاشتها وتعيشها الثورة جعلت العديد من الفصائل تسلك طريق الفوضى، الغريبة، العجيبة، وتسيّدت الأنانية والغايات الشخصية على حساب الإيثار والمصلحة العامة.
وقد ساهم في كل هذه المآسي أسباب عديدة أُشبعت عّجناً وخَبزاً، ومنها فشلُ القائمين على الثورة في تشكيل قيادة عسكرية واحدة تجمع الفصائل المقاتلة في جيش ثوري واحد ينضوي تحت جناحيها، ولو كان حدث ذلك لأصبح الجيش الثوري المفترض قوةً فاعلة على الأرض، يمكن له أن يعالج الفوضى السائدة، ويجعل الانتصار ممكناً على من يدمر الوطن ويبيد الشعب، ومع ذلك ظل قواد تلك الفصائل يصرون على ضلالهم، ويتنصّلون من الانضواء تحت قيادة واحدة وراية واحدة، وهم يعلمون علم الأكيد بأن الكل مهددون بحياتهم ومصيرهم من قبل عدو لم تشهد بلاد الشام مثيلاً لحقده وطغيانه في تاريخها الطويل، مع أن غريزة البقاء تدفع أي إنسان وحتى أي حيوان إلى البحث عن طريق للنجاة، وليس إلى الغوص في مستنقع الهلاك.
٧ يناير ٢٠١٧
يشكل «إعلان أنقرة» عن اتفاق وقف النار بين النظام والمعارضة، بضمانة كل من روسيا وتركيا، مرحلة جديدة في تاريخ الصراع السوري، وفي مسار الثورة ضد نظام بشار الأسد. لا نقول ذلك فقط لأن ثمة شكوكاً أثيرت حول اختلاف نص الوثائق الموقّعة بين الطرفين، وليس لأن الاتفاق كان برعاية تركية وروسية بعيداً من أي دور لإيران، الضلع الثالث في «إعلان موسكو»، ولا لأن السوريين ينتظرون الاتفاق كمقدمة لإجراءات بناء الثقة التي يفترض أن تمضي قدماً نحو الحل السياسي للصراع الدائر منذ ستة أعوام، بل لأنه في حقيقته يشكل بداية جديدة لتموضع فصائل المعارضة العسكرية التي كان النظام وحلفاؤه يصفونها بالإرهابية، في الواجهة من جديد، بل ويتم إسباغ الشرعية عليها كممثلة للمعارضة، باتفاقهم معها على آليات تشكيل الوفد المفاوض إلى المؤتمر المزمع عقده في آستانة، أواخر هذا الشهر، والذي ربما تُعتمد نتائجه خطوة على طريق الحل السياسي الشامل، بحسب وثيقة المعارضة المعلنة، وكحل شامل للأزمة السورية بحسب وثيقة النظام.
قد تغدو هذه الجزئية عارضة جداً لكنها تعبر بطريقة ما عن أن الأجسام السياسية القائمة أصبحت تابعة في قرارها للكيانات الفصائلية العسكرية الموقعة على الاتفاق المذكور، والتي ستختار ما يتوافق مع رؤيتها للحل المنشود بعيداً من الرؤية السياسية للمعارضة، سواء تلك المعلنة في لندن في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، أو أي تعديلات كان يجري العمل عليها بين مكونات «الهيئة العليا للمفاوضات»، إذ لم تقدم الدول الراعية لعمل وفد المعارضة ما يوحي بالاستناد إلى هذه الرؤية، لدى إعداد «خريطة طريق» لحل الأزمة السياسية الداخلية في سورية، كما تصفها وثيقة النظام المودعة في الأمم المتحدة.
وفي الوقت الذي فهم المتفاوضون من جانب المعارضة أن الذهاب إلى آستانة قد يفضي إلى إخلاء الساحة من وفود «المعارضة» الأخرى، وإغلاق التفاوض على وفدين فقط، هما وفد المعارضة الذي سيشكَّل -بناء على رغبة الفصائل العسكرية- من «الهيئة العليا للمفاوضات» وممثلي الفصائل، في مقابل وفد نظام الأسد، فإن أي مراجعة لقرار مجلس الأمن رقم 2254 ستضعنا أمام الإشكالات ذاتها في ما يتعلق بوفد أو وفود المعارضة. وذلك يعني أننا سنجد أنفسنا في مواجهة حقيقة مفادها أن روسيا التي أضحت الآن على قناعة بأن مجريات اتفاق وقف النار وما رافقه من مفاوضات مع ممثلي الفصائل، أثمرت اتفاقاً يصفه كل طرف بأنه يحقق مطالبه الخاصة، يمكن أن تستثمر أيضاً تحت الوصاية والضمانة ذاتيهما، لإنجاز اتفاق سياسي شامل يحقق القدر ذاته من الرضا من طرفي المعارضة والنظام.
ولعل من المفيد عقد الآمال على أن قناعة الجانب الروسي بضرورة الحل السياسي سريعاً، قبل الدخول في مرحلة تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب صلاحياته التنفيذية، تجعل الخطوات العملية متقاربة، حيث حددت الوثائق 16 الشهر الجاري موعداً لالتزام المعارضة بتشكيل وفد للدخول في مفاوضات تسوية سياسية، على أن يبدأ العمل المشترك مع وفد النظام اعتباراً من 23 الشهر، أي وفق خريطة طريق منتظمة ومنظمة، بغض النظر عن تعبير «عمل مشترك» بدل «عملية تفاوض» الوارد في الوثيقة الموقعة. لكن على رغم ذلك، وليس من قبيل التعطيل، تبقى تساؤلات تطرح ذاتها. مثلاً، هل نحن فعلياً على عتبة تفاوض بين «طرفين»؟ وإن كان ذلك سيحدث حقيقة فما هو الدور الذي قامت به المعارضات الأخرى؟ وهل موسكو على أعتاب عملية تخلّ عما سمي بمعارضة موسكو وحميميم؟ أم أننا أمام عملية استدراج تبدأ بالعمل المشترك وتنتهي بحالة توأمة بين كل من ستسعى موسكو وإيران إلى إدراج أسمائهم لاحقاً؟
بيد أن شبهة «التخلي» لم تبدأ من موسكو فحسب إذ تقدمت الفصائل العسكرية على الكيانات السياسية، حتى في ما يتعلق بتشكيل الوفد السياسي، ناهيك عن عملية تفاوض طويلة جرت بعيداً من الائتلاف المقيم في إسطنبول، وعن «الهيئة العليا» التي أصرت على التأكيد، حتى قبل يوم واحد من إعلان الشكل النهائي للاتفاق على وقف إطلاق النار بأنها: «لا علم لها عن مفاوضات في أنقرة»! وإذا كانت موسكو تتبع سياسة الخطوة خطوة في شرعنة ما تريده، ومنه انتزاع اعتراف الفصائل العسكرية بمعارضة حميميم وموسكو، وإلزامها الجلوس على الجهة نفسها من طاولة المفاوضات مقابل النظام، وإحالة الأمر إلى مجرد حوار يفضي إلى حكومة مشتركة تعوِّم من خلالها رأس النظام، فإنها تتوخى من ذلك تحقيق ثلاثة أهداف:
أولاً: مرجعية قانونية جديدة للقضية السورية هي ما يتمخض عنه مؤتمر آستانة بدلاً من بيان جنيف1 (2012).
ثانياً: تشكيل وفد تفاوضي جديد بتراتبية جديدة، من تجمع للشخصيات المدعوة للمؤتمر المذكور، سواء من جانب الفصائل مع الهيئة العليا للمفاوضات أو من شخصيات مدعوة تحت مسميات مختلفة.
ثالثاً: نزع شرعية الكيانات والفصائل التي رفضت التفاوض تحت سقف الاتفاق الجديد.
ربما يكون مؤتمر آستانة إحدى ثمار عجز المجتمع الدولي، قبل المعارضة، عن إيجاد آلية مجدية لحماية المدنيين السوريين، وذلك بسبب تخلّي الإدارة الأميركية عن مهماتها كدولة عظمى وإفساحها المجال أمام روسيا لتولي هذه المسألة بالوكالة، تحت ذريعة أن ما يحدث في المنطقة لا يؤثر على أمنها وأمن أصدقائها، أو بسبب رغبة الولايات المتحدة في مزيد من توريط روسيا في مستنقع المجازر التي يرتكبها النظام السوري. وعليه، ففي كلتا الحالتين، يمكن اعتبار ما يجري بمثابة نتاج لتغير في موازين القوى على الأرض نتيجة معركة حلب الدامية، والمقتلة الكبرى التي حدثت خلالها، والأسرار التي ستتكشف تباعاً حولها، وهي وإن اعتبرناها بمثابة هزيمة للفصائل المسلحة التي خاضتها، وفقاً لعقليتها وطرق عملها، إلا أنها في الوقت ذاته لا يمكن احتسابها بمثابة انتصار للنظام، بل هي هزيمة له أيضاً، إذ أدت إلى خروجه كلياً من معادلة الحل السوري الذي لن يتواجد داخلها إلا بمقدار ما تسمح به مصالح كل من روسيا وإيران من جهة، وتحالفاتهما الإقليمية من جهة أخرى.
ومع كل ما تقدم، يبقى الطريق إلى مؤتمر آستانة مزروعاً بألغام قد تتفجر بين حين وآخر، ليس لأنه لا يحقق مطالب النظام فقط، بل لأن النظام يدرك تماما أن أي حل سياسي يعني نهاية حكم الوراثة الأبدي. فهل يمضي النظام في خروقاته للاتفاق للحفاظ على مسافة أمان عن أي حل سياسي شامل؟ أم آن الأوان لتكتشف روسيا حلفاء جدداً لها؟
٧ يناير ٢٠١٧
لم يكن اتفاق وقف إطلاق النار في سورية، الذي وُقِّع بين روسيا وتركيا وبعض فصائل المعارضة، الأول من نوعه، ولن يكون الأخير بالتأكيد. على رغم ما يحمله الاتفاق من إيجابيات تتصل بإعطاء السوريين فرصة للتنفس وتوقف سفك الدماء، إلا أن التجارب السابقة، وطبيعة الاتفاق والقوى الموقعة عليه، تطرح كلها علامات استفهام عن مدى صموده أولاً، وعن قدرته على فتح طريق لتسوية سياسية تنهي الحرب الأهلية. فالاتفاق محاط بألغام متعددة قابلة في أي وقت لتنفجر به وتجعله أشلاء.
في الشكل، وبعدما أمكن روسيا حسم معركة حلب، تقدم نفسها راعية لوقف إطلاق نار شامل على الأرض السورية، توجته بموقف دولي إجماعي من مجلس الأمن. لعل الدافع الرئيس الذي جعل روسيا توقف المعارك العسكرية عند مدينة حلب هو شعورها بأن الرمال السورية توشك أن توقع بها وتدخلها في أفغانستان أخرى. لذا تتصرف من موقع المنتصر القادر على فرض شروطه. أما تركيا، وبعد أن طاشت جعجعات أردوغان تجاه سورية، وانتقلت النيران الى أراضيه، رأى أن دخوله مع روسيا يعطيه في الشكل موقع صاحب نفوذ في الأزمة السورية، ويمكن أن يوقف الاندفاعة الكردية التي تهدد فعلياً تركيا من الداخل. خارج هذين الطرفين، هناك أسئلة عن موقع سائر القوى ذات الصلة بالأزمة السورية. تراقب الولايات المتحدة الوضع السوري وتطوراته من دون أن تحرق أصابعها في نيرانه. لم يبد على أميركا الاحتفاء بالاتفاق أو السعي الى تطبيقه. يصعب أن تترك أميركا الملعب كاملاً لروسيا، وسيكون في مقدورها تحريك قوى تطيح الاتفاق عندما ترى أنه تجاوز على مصالحها. حتى الآن، لا يبدو منها موقف سلبي يهدد بتفجيره من الداخل.
الألغام الكبرى تعود الى كل من النظامين السوري والإيراني والميليشيات التابعة لهما. في كل ما ظهر حتى الآن، لا يبدو أن النظام السوري موافق عملياً على الاتفاق، فهو يرغب في تواصل العمل العسكري والمزيد من التدخل الروسي في سائر المناطق السورية لهزيمة التنظيمات المسلحة و «تكنيسها» من الأرض وتسليم هذه المناطق الى النظام. لم يتأخر النظام في رفض الاتفاق عبر تواصل الهجمات على قوى المعارضة، ما دفعها الى إعلان وقف المحادثات المزمع حصولها في العاصمة الكازاخانية خلال هذا الشهر. قد يتدخل الروس لوقف الهجمات، لكن النظام سيظل قادراً على خرق الاتفاق بوسائل متعددة منها عبر الميليشيات التابعة له، ومن دون أن تكون أصابعه ظاهرة. في كل حال، كان تصريح وزير الخارجية وليد المعلم معبراً عن رفض الاتفاق حين قال: «إن الحديث عن الحلول السياسية مجرد عبث إضافي».
اللغم الآخر المؤثر هو الآتي من إيران التي أُبعدت عن الاتفاق، بل فرض عليها، واضطرت الى القبول به شكلاً. تتقاطع مصالح النظام السوري مع الإيراني في رفض الحلول السياسية والإصرار على الحسم العسكري، لأن ايران تعتبر أن ما بدأته على صعيد الفرز الديموغرافي وتسييج مناطق نفوذها بقوى مذهبية تشكل قاعدة سيطرتها في سورية، هذه المهمة لم تستكمل بعد، وتحتاج إيران الى مزيد من الصراع العسكري وتطهير مناطق معينة تدخل في مشروعها داخل سورية. لذا يمكن إيران وبواسطة ميليشياتها اللبنانية والعراقية، إطاحة الاتفاق في وقت تراه مناسباً. لا تقل الألغام التي تمثلها تنظيمات المعارضة خطورة عن إيران وسورية. في الأصل، هناك تساؤل عن مدى تمثيل الفصائل التي وقعت الاتفاق مجمل قوى المعارضة وتشكيلاتها المسلحة. كما يطرح سؤال سبق أن واجهه وقف إطلاق النار سابقاً حول مقاييس التمييز بين «داعش» و «النصرة» من جهة، وبين سائر التشكيلات العسكرية الموجودة على الأرض بأعداد غفيرة. فهل ستلتزم كل التشكيلات بما قررته بعض الفصائل وتوقف إطلاق النار؟ سؤال محيّر حول من يضمن هذا الالتزام. ويمكن الذهاب الى أن أحد الأهداف مما يجري هو تفجير حرب أهلية بين التشكيلات الموجودة، وبين من وقع على الاتفاق أو رفضه. حتى الآن، لا تبدو الصورة جلية لكيفية تنفيذ الاتفاق من جانب الميليشيات المناهضة. فالتشكيلات العسكرية متداخلة في شكل يصعب التمييز بينها، وهو ما سيجعل المعارك على تنظيمي «داعش والنصرة» تمتد لتطاول التنظيمات الأخرى، ومن بينها تلك الموقعة على اتفاق وقف إطلاق النار.
كما أثبتت التجارب السابقة سواء في سورية أو قبلها في لبنان، فإن قرارات وقف إطلاق النار هي في الأساس قرارات سياسية مع وجود بعد تقني لها. وإذا لم تكن هذه القرارات مسيّجة باتفاق سياسي يرضي مصالح جميع القوى على الأرض، فسيكون من الصعب جداً صموده. فهل سيشكل هذا الاتفاق مدخلاً لتسوية تنهي الحرب الأهلية في سورية؟ التوقعات السلبية لا تزال طاغية على أي توقعات إيجابية.
٧ يناير ٢٠١٧
هناك اليوم الكثير ممّا يوحي بنشأة حلف كبير لتدبير المشرق العربيّ وإدارة شؤونه: فلاديمير بوتين، دونالد ترامب، بنيامين نتانياهو، بشّار الأسد، حيدر العبادي، مع احتمال كبير بأن يلتحق بهم رجب طيّب أردوغان من موقع ضعيف بعد تذليل ما تبقّى من خلافات بينه وبين كلّ من علي الخامنئي والأسد. غالب الظنّ أنّ تقاسماً للعوائد والرشى، مصحوباً بكثير من الضجيج اللغويّ، سيرتّب الأمور.
وبانتظار أن تتّضح صورة العلاقة بين علي الخامنئي وكلّ من ترامب ونتانياهو، والتي قد يتعهّد بوتين إصلاحها، يبقى «داعش» الشرط الضروري لاشتغال الحلف هذا. فهو الخصم المعلن الذي يتّفقون عليه، كأنّه شرطهم أو حليفهم من موقع ضدّي.
وهؤلاء يتشابهون بوصفهم وجوهاً سلطويّة نافرة، فيما تتقاطع أنظمتهم عند حدّ أدنى شعبويّ، بعضهم تندمج شعبويّته في ديموقراطيّة انتخابيّة، غير ليبراليّة، وبعضهم لا يحتاج أصلاً إلى غطاء كهذا، فيمضي في سلطته المستمدّة من السماء، كالخامنئي، أو في التعويل على الأمن أساساً للسلطة، كالأسد.
لكنّهم كلّهم رجعيّون وقساة، لا يثقون بالحرّية طريقاً إلى التقدّم، ولا بالتقدّم، غير الممنوح من أعلى نُتفاً ومظاهرَ، طريقاً إلى الحرّية. وهم لا يرون إلاّ العنف، على تفاوت النسب، سبيلاً إلى توطيد الحكم والحاكميّة.
وهذا الحلف، في حال قيامه بعد نجاحه في تذليل تناقضاته، محكوم بأن يختار لتعذيبه شعبين يقع عليهما اضطهاده الأقصى: السوريّين والفلسطينيّين.
فالسوريّون هم الذين سينتخب لهم الحلف حاكمهم الذي أنزل بهم ما أنزل من خراب وقتل. وهو قد يُجري في جسدهم عمليّات جراحيّة يصعب أن تطابق واقع الحال، ويستحيل أن تستجيب موجبات العدل.
والفلسطينيّون هم من تهدّدهم إدارة ترامب بالقدس عاصمة موحّدة لإسرائيل، وبتأييد الاستيطان الذي تمضي فيه قدماً حكومة نتانياهو، غير عابئة باعتراض العالم وبشروط أيّ سلام لا يزال ممكناً.
وهجمة كهذه، على قسوتها، فرصة لمصالحة الحقّين السوريّ والفلسطينيّ اللذين تصادما في السنوات الأخيرة بفعل الموقف من الثورة السوريّة ومن النظام السوري بالتالي.
فهناك اليوم احتلال روسيّ - إيرانيّ لسوريّة سيتكيّف مع نتانياهو و»احتياجاته الأمنيّة»، وهناك تمدّد في القضم الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينيّة متكيّف مع العلاقات المزدهرة لإسرائيل بدول العالم القويّة، ومع علاقاتها الضمنيّة والمداورة بدول المنطقة.
وقد يكون دونالد ترامب الرمز الأكبر الذي تتجمّع فيه الاتّجاهات والميول هذه، تماماً بقدر ما تتجمّع الأهواء الرجعيّة ونوازع القسوة حيال شعبه وحيال العالم.
ومصالحة الحقّين والقضيّتين هي ما ينبغي أن يبدأ، وهي لا تبدأ إلاّ مع الاعتراف بأنّهما حقّان وقضيّتان لا يمثّل أيّ منهما الآخر، ولا ينطوي أيّ منهما في الآخر. ذاك أنّ البقاء عند خرافة «القضيّة القوميّة الواحدة»، بدل القضيّتين الوطنيّتين، يعاود رسم بشّار الأسد ممثّلاً للفلسطينيّين، فيُهينهم مجدّداً فيما يهين السوريّين حكماً.
ومعارضة ترامب وحلفه الدوليّ لا تخدمها العزلة عن العالم، ولا التعويل على حكّام وقوى من طينة الخصوم يكونون «معنا»، ولا ترداد الشعائريّات القديمة في رفض التدخّل الذي يدفع السوريّون والفلسطينيّون أكلاف عدم حصوله.
فهذا الحلف الكبير والقويّ ليس كلّ العالم، وهناك في بلدانه من يناهضونه حاملين الأفكار والمثالات التي يحملها السوريّون حين يناهضون الأسد، والفلسطينيّون حين يناهضون نتانياهو.
واليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، يبدو العالم عالمين: واحد عنوانه القوّة ونقص الديموقراطيّة، والآخر عنوانه الحقوق والمزيد من الديموقراطيّة. فإذا كان من أمل للسوريّين والفلسطينيّين، وللعالم، فهو في انتصار الأكثر ديموقراطيّة والأكثر تقدّماً فيه. هذا صعب بالتأكيد حيال تلك القوى الجرّارة، إلاّ أنّه وحده الأمل المتاح.
٧ يناير ٢٠١٧
تبدو روسيا جبّارة ورائدة وهي تصنع بمفردها المستقبل السوري بشراكات جديدة وعلى أسس جديدة، تملي ما تريد. هكذا يبدو. واقع الأمر أن سيّد الكرملين الرئيس فلاديمير بوتين حشر نفسه في زاوية الرفض لما يرسمه ليس فقط من قِبَل الدول الأوروبية والعربية المعنية بسورية، وإنما أيضاً من جهة حليفه الاستراتيجي في سورية، المرشد الإيراني علي خامنئي- ولكلّ أسبابه. الثنائي «الضامن»، روسيا وتركيا، لحل في سورية أتى بعدما رفضت إيران أن تكون الثالثة بين الضامنين إذا كان الشرط هو سحب القوات العسكرية التابعة لها من سورية، وبالذات «حزب الله» والميليشيات التي بإمرتها. مشكلة الثنائي الضامن هو أن لا تحالف صادقاً بين روسيا وتركيا وإنما هناك زواج الحاجة العابر لطرفين أحدهما هش، بعدما قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإجراءات التجويف الأمني رداً على المحاولة الانقلابية ضده وتَقَلَّبَ مراراً في السنوات الأخيرة في علاقاته مع مَن لتركيا مصلحة معهم، وبالذات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والدول العربية الخليجية، وكذلك مع المقاتلين في سورية. وثاني الطرفين (روسيا) ليس هشاً لكنه يغامر، وهو يبالغ بالثقة بنفسه وبالعلاقة مع واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب، وهذا حشد ضد مشاعر الغضب والتأهب للتربص بها في الأمم المتحدة كي لا تنجح في سحب البساط من تحت أقدام الأسرة الدولية، عبر إخراج قضية سورية من مجلس الأمن، وكي لا تمضي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الحرب السورية بلا محاسبة. وعليه، فإن مشهد القيادة الروسية للملف السوري معقّد، وقد يصطدم بعراقيل أساسية، فمن جهة الدول الغربية والخليجية، ما تقوم به روسيا هو التحايل على الأسس التي وافقت عليها الأسرة الدولية المعنية بالحلول السياسية لسورية، بما يرسّخ بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة بعيداً من أي عملية انتقالية. وبالنسبة إلى الشريك الميداني والحليف الاستراتيجي لروسيا في سورية، فإن ما تطلبه روسيا من سحب كامل للقوات الأجنبية، بما يشمل «حزب الله»، مرفوض عملياً وعقائدياً لدى إيران. وهذا التعقيد يضع علاقة التحالف في مرحلة حساسة إنما ليس بالضرورة على طريق الطلاق، فالرئاسة الروسية تراهن على الرئاسة الأميركية وسيلةَ تأثير على الجميع، بمن فيهم شريكها الإيراني، نظراً إلى حاجة إيران لروسيا مع الولايات المتحدة في ملف العقوبات والأسلحة النووية.
ما تصطدم به الديبلوماسية الروسية وستصطدم به أكثر، هو وضوح الإصرار الإيراني على صيانة ما حققته لمشروعها الإقليمي في الحرب السورية ولو أدى إلى فراق مع روسيا، ففي هذا الأمر إنها المصالح الحيوية على البحر الأبيض المتوسط لكل من إيران وروسيا، التي ستُصان -على الأرجح- بتفاهمات توفيقية، لأن القواسم المشتركة الميدانية مازالت ضرورية للطرفين.
مسألة «حزب الله» والميليشيات العراقية والأفغانية وغيرها كافة، وهي التابعة لـ «الحرس الثوري» بقيادة قاسم سليماني، مسألة حيوية وليست تجميلية. منطقياً، إن بقاء هذه القوات الأجنبية في سورية يعطِّل الحل السياسي الذي تريده روسيا وتركيا بصفتهما ضامنَين وقف النار وساعيَين للتوصل إلى الحل النهائي للصراع في سورية.
علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، نفى أن تكون التفاهمات في شأن وقف النار شملت خروج هذه المجموعات المسلحة، معتبراً الكلام عن تفاهم على خروج «حزب الله» من سورية «عارياً من الصحة ودعاية يطلقها العدو». قال إن هذه المجموعات المسلحة دخلت سورية «بطلب من حكومتها»، وشدد على أن إيران لها مواقف ثابتة، وهي «دعم محور المقاومة»، وأن سورية «ركيزة مهمة في هذا المحور، الذي يبدأ من إيران مروراً بالعراق، وصولاً إلى سورية ولبنان وفلسطين». وهذا ما يسميه آخرون «الهلال الفارسي» أو «الهلال الشيعي»، الذي يربط إيران بإسرائيل في علاقة تهادنية وليس بفلسطين عبر «محور المقاومة».
محورَ مقاومة كان أو محورَ تهادن، لا تبدو إسرائيل قلقة جداً مما جاء على لسان ولايتي لجهة ربط إيران بفلسطين، أو لجهة بقاء الميليشيات الإيرانية في سورية على البحر الأبيض المتوسط. البعض يعتبر أن الصمت وعدم الاحتجاج الإسرائيلي عائد إلى الخوف من ذلك المحور الذي أنجزته إيران، والبعض الآخر يعير منطق التهادنية ثقلاً أكبر، لا سيما أن هذه الفكرة أميركية الصنع، والدعم في زمن جورج دبليو بوش وعلى أيدي المحافظين الجدد آنذاك.
وهناك رأي يشير إلى العلاقة الروسية- الإسرائيلية القوية، ويؤكد أن رهان إسرائيل هو على تمكّن روسيا من «تنظيف» سورية من أي خطر على إسرائيل من ميليشيات أو من قوات نظامية أو شبه نظامية.
السؤال المطروح الآن حول إيران هو: هل هي جزء من الحل في سورية أو جزء من المشكلة؟ الأمم المتحدة، في عهد الأمين العام بان كي مون، أصرّت على ضرورة إدخال طهران طرفاً مباشراً في المسألة السورية بصفتها جزءاً من الحل، رامية جانباً كل التحفظات على هذا الإصرار ومتجاهلة وضوح الأجندة الإيرانية في سورية. كذلك فعلت عمداً الولايات المتحدة والدول الأوروبية، عندما وافقت على إيلاء دور أساس لإيران على طاولة الحلول السياسية لسورية تلبية لإصرار الديبلوماسية الروسية، بل إن إدارة باراك أوباما اتخذت قراراً استراتيجياً يُسمَح بموجبه لإيران ولقوات «الحرس الثوري» بالتوغل عسكرياً داخل سورية، وأعطتها غطاءً قانونياً من خلال إلغاء قرارات مجلس الأمن التي منعت إيران من هذه الأدوار العسكرية، وكل ذلك من أجل الاتفاق النووي مع إيران. وهكذا، كانت إدارة أوباما طرفاً خفياً في ساحة الحرب السورية لمصلحة بقاء بشار الأسد، نظراً إلى أن مهمة «الحرس الثوري» والميليشيات التابعة لإيران كانت وما زالت جليَّة، وهي: بقاء الأسد في السلطة.
لماذا قررت أميركا وأوروبا وروسيا والصين غض النظر عن طموحات طهران الإقليمية والتي كانت القيادة الإيرانية تجهر بها ولا تخفيها؟ الإجابة تتعدى ما يُزعَم من أن الاتفاق النووي كان حاجة ذات أولوية قاطعة، فالكل كان يدرك تماماً ما هي جغرافية الطموحات الإيرانية وسكت. لذلك، فإن المواجهة السياسية حول سحب القوات التابعة لإيران من سورية لافتة. فإما أن تكون هذه مجرد خلافات تكتيكية، أو أن إيران ستصنَّف جزءاً من المشكلة بعدما دللتها الأمم المتحدة وجميع هذه الدول بصفتها الجزء الأساسي من الحل.
عسكرياً، يُطرَح السؤال: لمَن الكفَّة الأقوى في موازين الضغوط الميدانية؟ لإيران أو لروسيا؟ المواجهة العسكرية بين الاثنين تكاد تكون مستبعدة تماماً، إنما في حال الاضطرار لكسب هذه المعركة، هل إيران قادرة بلا محاسبة على تعطيل مسعى روسيا عبر نسف وقف النار؟ أم أن روسيا ستضطر للتراجع أمام إيران وإصرارها على عدم سحب «حزب الله» وميليشياتها من سورية؟ وما هي لغة الحل الوسط إذا تم التوصل إليها، وهذا هو المرجَّح؟
تداخل علاقة روسيا بإيران مع علاقة روسيا بتركيا أمر مهم. فلاديمير بوتين في حاجة إلى الاثنين وقد يريدهما معاً في موقعٍ أضعف. بوتين يدرك تماماً أن هشاشة أردوغان سيف بحدين: فمن المفيد لبوتين أن يكون أردوغان في حاجة إليه يأتيه في حالة وهن، إنما من الضروري ألا ينتصر «داعش» وأمثاله من الناقمين والمنتقمين من أردوغان، وإلاّ دفع أردوغان ثمناً غالياً لصفقته الحلبية مع بوتين، وأن يبدو أردوغان قادراً على تحدي واستيعاب ما يعتبره خطراً كردياً آتياً إليه من الساحة السورية. بوتين يحتاج إلى أردوغان كغطاء سنّي بعدما تحالف عسكرياً مع إيران التي تفرض نفسها متحدثاً مستفرداً باسم الشيعة، لكن بوتين يصقل في الوقت ذاته علاقة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والسيسي يلبي، إذ إن مصر هي الدولة العربية شبه الوحيدة الداعمة للصيغة التي تعرضها روسيا لحل الأزمة السورية والقائمة على استفراد روسيا بالحل في آستانة عاصمة كازاخستان، بافتراق جذري عن المواقف الخليجية الرافضة لهذه الصيغة.
الخيوط الدينية والمذهبية التي يلعب بها فلاديمير بوتين لافتة ومخيفة. إنه يلعب على أوتار الخلاف التركي- المصري بسبب «الإخوان المسلمين» الذين دعمهم أردوغان في مصر كما في سورية. ويلعب على أوتار خلافات تركية- إيرانية باتت لها نكهة المذهبية في الأيام الأخيرة.
الرئيس الروسي يرى أن الوقت مناسب له لتحويل إنجازاته العسكرية في حلب إلى ذخيرة سياسية على عتبة تسلّم «صديقه» دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. إنه يريد حسم الفوز ضد «داعش» و «جبهة النصرة» وأمثالهما في سورية عبر تتويج الفوز بحلول سياسية، وهو يدرك أن بقاء ميليشيات إيران في سورية يمنعه من إعلان ذلك الفوز لأنه يحول دون إغلاق الصفحة ميدانياً. حتى محادثات آستانة معلّقة رهن القرار الآتي من المرشد الأعلى في طهران ومن قاسم سليماني في سورية.
بشار الأسد يترقب كيف ستتفق أو تختلف روسيا وإيران بشأن سورية. إنه واثق بأنه حيوي لكليهما ولن يتخلى عنه أي منهما، أقله في هذه الفترة. لكنه قد يكون أكثر ثقة بتمسك طهران به كأساس لمشروعها الإقليمي، وأقل ثقة بروسيا، مع أنها أهم رعاته دولياً. إنما إذا خذلها تخذله، فلدى روسيا خيوط قرارات دولية ليست متوافرة لدى إيران، أحدها يتعلق بما تعدّ له الدول الأوروبية في مجلس الأمن الدولي من خطط للمحاسبة على الانتهاكات في الساحة السورية من جرائم حرب إلى استخدام أسلحة كيماوية.
الكل يتأهب للتموضع عشيةَ ما يوحى أنه قد يكون الصفقة الكبرى بين روسيا والولايات المتحدة. فإذا كانت ثقة بوتين بنفسه وبدونالد ترامب رهاناً رابحاً، سيعتبر الرئيس الروسي نفسه جبّاراً ورائداً باستفراد أو بشراكة أميركية. إلى ذلك الحين، لن يكون سهلاً على روسيا حياكة العلاقات الإقليمية والدولية المعارضة لاستفرادها ولقفزها على التفاهمات، ولن يكون نزهةً لها اللعبُ بالخيوط المذهبية والعقائدية التي انطلقت من ذلك «الثلاثي» الضامن للتسوية في سورية.
٦ يناير ٢٠١٧
يبقى تحديد مصير الرئيس السوري، بشار الأسد، اللغز الرئيسي في العملية السياسية، التي من المفروض أن يتم وضع جدول أعمالها يوم 23 من شهر يناير/ كانون الثاني الحالي في أستانة، برعايةٍ روسيةٍ تركية، وفق ما جاء في "اتفاق أنقرة" لوقف إطلاق النار الذي جرى الإعلان عنه يوم 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي. ومثلما شكّل هذا الأمر نقطة الافتراق في كل جلسات المفاوضات منذ جنيف 1، فإنه يعتبر اللغم الجاهز للانفجار في كل لحظةٍ تتقدم فيها فرص الحل السياسي في سورية.
من دون جدال، يعتبر الأسد جزءاً من حصة إيران السياسية، فهي استثمرت الكثير منذ بداية الثورة السورية من أجل إبقائه في منصبه، وما كان لها أن تتدخّل بهذا القدر في المسألة السورية لو لم يتوفر لها، طوال السنوات الست الماضية، رجلٌ من طينة الأسد الذي سلم قراره السياسي ومصيره الشخصي لإيران، وبات يشكل، في نهاية المطاف، الضامن الوحيد لحصتها الجغرافية من سورية. وهذه الحصة صارت واضحة المعالم، وجرى العمل على رسم حدودها منذ معركة القصير في ريف حمص عام 2013 بالقتال الذي تكفل به حزب الله، ثم أتبعه بحرب التجويع والتهجير لأهالي ريف دمشق، وهذا ما يفسّر، حتى الآن، رفض المليشيات الإيرانية الالتزام بتطبيق وقف إطلاق النار في منطقة وادي بردى التي تعتبرها إيران ضمن دائرة غنائمها.
وحتى لا يبدو الحديث عن تحوّل الأسد إلى مجرد أداة في المشروع الإيراني، نورد هنا فقرات مما جاء في مذكرات جنرال الحرس الثوري الإيراني الذي قتل في سورية في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 حسين همداني، نائب قاسم سليماني وصاحب خطة إنشاء مليشيات الدفاع الوطني ( الشبيحة) في سورية التي لعبت دوراً هاماً في إطالة عمر النظام. وجاء في المذكرات التي صدرت حديثاً في طهران وبيروت بعنوان "رسائل إلى الأسماك"، قول همداني "نصحنا بشار الأسد في كيفية التعاطي مع التظاهرات بداية الأزمة، فلم يستجب، وأبدى الضباط السوريّون ممانعةً في التعاطي معنا، فأصر المرشد علي خامنئي على استمرار الدعم، لأن الوضع السوري يشبه المريض الذي يحتاج إلى دواء ولو رغماً عنه. وعندما أحسّ الرئيس السوري بالخطر؛ أرسل رسالة استنجادٍ بالمرشد، بدا فيها كـجندي يخاطب قائده، ثم أصبح الأسد وضباطه أكثر طاعةً لأوامر المرشد من بعض السياسيين في إيران". ويخلص إلى أن الأسد أوكل لهمداني إنشاء مليشيات "الدفاع الوطني" وإعادة هيكلة قواته، وإبرام "المصالحات" في المناطق المختلفة.
حصل هذا كله عندما كان الأسد يتشدّق بـ "رفض التدخل الأجنبي"، و"الحفاظ على السيادة الوطنية"، والإشادة بـ "بطولات الجيش العربي السوري الباسل". وينقل همداني عن المرشد "في أحد الاجتماعات، قال لنا خامنئي: بشار الأسد يحارب بالوكالة عن إيران، ويشارك في معاركنا بسورية".
كان الأسد، طيلة الفترة الماضية، موضوع خلاف مع المعارضة. ولكن، إذا أراد الروس والأتراك نجاح الاتفاق بلا مواربة، فإنه سوف يتحول من الآن فصاعداً إلى قضية خلاف روسي إيراني، حيث يبدو، في جميع المقاييس، استحالة تخلي طهران عنه، أو أن يتمكّن الروس فرض بقائه، ليس على السوريين فقط، بل على المجتمع الدولي. وإذا اقتضت الصفقات الدولية رفع مصير الأسد عن جدول الأعمال، فإن السوريين لن يقبلوا بأي حلٍّ يبقي على الأسد والفريق المحيط به، وخصوصاً العسكر الذين تلطخت أياديهم بالدماء، فهو حلٌّ غير مقبول، ولا يمكن، تحت أي ظرف، التنازل عن حق محاسبة الأسد ومساعديه أمام المحاكم الدولية على جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبوها في سورية. وفي حال حصل عكس ذلك، ستتحمل العدالة الدولية المسؤولية الأخلاقية عن قتل أكثر من مليون سوري على يد الأسد وفريقه.
٦ يناير ٢٠١٧
ليس مؤتمر آستانة المرتقب في 23 يناير (كانون الثاني) مؤتمرًا حول سوريا. الأدق أنه مؤتمر حول روسيا ودورها في الشرق الأوسط. التجاذبات المحيطة بالمؤتمر والتهيئة له، تحديدًا بين روسيا وإيران بشكل خافت، وإيران وتركيا بشكل علني، تعكس هذا المعنى الاستراتيجي للمؤتمر، أقله في التفكير الروسي.
سبق آستانة تفاهم تركي روسي على وقف لإطلاق النار، لا يزال صامدًا رغم هشاشته، ورغم أن أحدًا لا يتوقع له الصمود طويلاً. وهشاشته متأتية أصلاً عن الشغب الإيراني على الاتفاق وعلى مؤتمر آستانة نفسه.
حتى الآن ترفض إيران مطالبة تركيا (وروسيا) لها بممارسة الضغط على نظام بشار الأسد وحلفائه لوقف انتهاكات وقف إطلاق النار. الخارجية الإيرانية بلسان بهرام قاسمي، اعتبرت أن المطالب التركية «تعقد الأوضاع الحالية وتزيد المشكلات التي تواجه المخرج السياسي في الأزمة السورية». قبله، قال مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية إن الحديث عن خروج ميليشيا «حزب الله» من سوريا هو «ادعاء الأعداء ودعايتهم».
الفالق المركزي الذي تقف عليه مواقف الأطراف الثلاثة هو ما بعد آستانة. الرهان الإيراني أوضحه ولايتي وهو «حماية خط المقاومة وسوريا حلقة مهمة في هذا الخط؛ لذلك دعمناها منذ البداية في وجه المؤامرة التي تستهدفها». لتركيا حسابات أخرى. هاجسها الأساس ألا تلد سوريا الأسد سوريا فيدرالية يكون فيها للأكراد حكم ذاتي يخطو بالمسألة الكردية خطوة إضافية نحو حلم كردستان الكبرى! أما روسيا فتريد صرف استثماراتها العسكرية في سوريا، دورًا رياديًا في الشرق الأوسط من دون أكلاف إضافية، ومن دون المخاطرة بتحويل الحرب السورية إلى أفغانستان جديدة لموسكو. ولئن كانت روسيا وتركيا متفاهمتين على مصالح الأمن القومي الإسرائيلي في الإقليم؛ فهما أقدر على التفاهم بينهما، أكثر من تفاهم كل منهما مع إيران، التي لا تستطيع أن تخطو خطوات عملية كبيرة نحو إسرائيل أكثر من تجميد الأعمال الحربية معها!
إذ ذاك، لا تلتقي موسكو وطهران على ما بعد مؤتمر آستانة الذي تريده روسيا خطوة باتجاه عملية سياسية تثبت دورها في الشرق الأوسط؛ ما يعني سوريا بلا الأسد، فيما تريده إيران مؤتمرًا لتأبيد محور المقاومة ومنه بشار الأسد!! فروسيا لا تستطيع أن تستمر شرق أوسطيًا بالتناقض مع القوى السنية الرئيسية، العربية وغير العربية. وإيران لا تريد أن تستمر شرق أوسطيًا إلا بالتناقض مع القوى السنية الرئيسية، العربية وغير العربية.
الأمر الآخر، أن موسكو لا تمتلك الوقت والإمكانات لاستراتيجية النفس الطويل؛ فهي متورطة في سوريا بلحمها ودمها وأموالها ورأسمالها السياسي والعسكري والدبلوماسي، بخلاف إيران التي تقاتل بدماء الشيعة اللبنانيين والعراقيين والأفغان وغيرهم، من البيئات التي حولتها إلى جاليات في خدمة «الوكالة الخمينية»!
لا شك أن فلاديمير بوتين نجح حتى الآن في حجز موقع لموسكو في الشرق الأوسط والعالم. جيشه يقاتل في سوريا ويقرر الوقائع على الأرض. دبلوماسيوه يخيطون شبكة من العلاقات في المنطقة على أنقاض الانسحاب الأميركي منها. بات أقرب إلى إسرائيل من حليفتها التاريخية، الولايات المتحدة. يسعي للتمدد في أفريقيا عبر مصر وليبيا. وساهم في ولادة تفاهم نفطي إيراني سعودي، منع أسعار النفط من الهبوط إلى مستويات أدنى. جيشه الإلكتروني لعب دورًا لا تزال حدوده غامضة في الانتخابات الأميركية. وجيشه الدعائي يتناغم مع الأحزاب القومية الصاعدة في أوروبا. كل هذا صحيح. لكن بوتين نجح في جذب تغطيات إعلامية جبارة لهذه «الانتصارات» أو «الإنجازات» ما جعلها تبدو أكبر بكثير من أحجامها الفعلية.
لا توجد مثلاً أدلة جدية تثبت حجم التأثير الذي لعبه التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية في تقرير النتائج، لكن الإعلام جعل من بوتين الناخب الأول فيها، وسهم في مزيد من نفخ صورته الأسطورية. كما شهد المسرح السوري إخفاقات كبيرة لموسكو أقلها سقوط تدمر مجددًا بيد «داعش» بعد طرد «داعش» منها. كان إحياء فرقة أوركسترا مسرح «مارينسكي» الروسية الشهيرة حفلاً موسيقيًا في مدينة تدمر، تعبيرًا متعجلاً عن الحاجة إلى تثبيت صورة الانتصار، لكن الوقائع جاءت لتقول أن لا انتصار عسكريًا دائمًا في سوريا لأي طرف.
أضف أن كل هذه الاستعراضات عاجزة عن تغييب جسامة المشكلات البنيوية العميقة التي يعانيها الاقتصاد الروسي، واعتماده شبه المطلق على أسعار الطاقة المتهاوية، معطوفًا على الأكلاف المهولة للفساد والزبائنية، والتضخم الذي يقضي على مدخرات الشعب الروسي الهرم.
كل هذه وقائع تضع موسكو في زاوية ضيقة، وتبرز حاجتها إلى الخروج من التجربة السورية بإنجاز سريع، اختارت له حتى الآن إطار آستانة والحل السياسي. في المقابل، تملك إيران قدرات كبيرة للشغب على الرهانات الروسية وتعطيلها لحماية رهاناتها الاستراتيجية في سوريا.
مؤتمر آستانة هو امتحان للدور الروسي في الشرق الأوسط ومحدد لمصيره… والخصم الأول في التجربة هذه، هي إيران.
٦ يناير ٢٠١٧
يستغرب البعض من شلالات الحقد الأسود التي تنهمر من صدور المرتكبين من ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقي - الخميني.
من أين طاوعتهم النفوس على سحق طفل صغير تحت جنازير الدبابات، وحرق الضحايا، وطبخ الرؤوس، وشق البطون، وغير ذلك من صور البشاعة الهمجية؟
«داعش»، عرفنا لماذا تفعل مثل هذه الشنائع، وكل العالم، ونحن منه، ضدهم وأعداء لهم، وسنظل، حتى تقتلع شجرتهم الخبيثة.
لكن ماذا عن «داعش» الشيعية؟ أين صوت العالم المتحضر عنها، بل السياسة العاقلة التي تلجمها، حتى لا تكون سببًا في نشاط «داعش» السنية؟ خصوصًا أن «داعش» الشيعية مرعية من «دول» وبرلمانات، ألم يشرع البرلمان العراقي وضع «الحشد الشعبي»، ويضفي عليه بركات الدولة العراقية؟
ميليشيات يقودها أمثال أوس الخفاجي، الذي صرح مؤخرًا بأنه وجنوده يدخلون مناطق السنّة العراقيين، وصدورهم عامرة بالحقد؛ نعم قالها: الحقد، وكأنه يتعبد لله بهذا الحقد المقدس.
«الحشد الشعبي» العراقي - الخميني، مدان حسب منظمة العفو الدولية (أمنستي) التي دعت في تقريرها الأخير دول العالم لضبط توريد الأسلحة للحكومة العراقية، التي تعتبر قتلة «الحشد الشعبي» جزءًا من قواتها الشرعية.
نائب عصابات «الحشد الشعبي»، أبو مهدي المهندس، افتخر مؤخرًا بـ«حزب الله» اللبناني، وبأنه تلميذ عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، والأخيران، حسب قانون أميركا، من رموز الإرهاب الدولي، وفي الوقت نفسه أميركا أوباما تدعم حكومة بغداد المشرعنة للحشد الطائفي!
هذا الحقد الأعمى المقدس، له جذور تاريخية بالعراق، من أمثلته الشهيرة الانتقام العباسي، الهاشمي، الرهيب، من بني أمية، على يد الخليفة السفاح لعمه السفاح الآخر عبد الله بن علي.
تروي كتب التاريخ، أن شاعر الهاشميين، سديف، دخل مجلس الخليفة العباسي الأول، السفاح، وعنده لفيف من الأمويين، لوليمة غداء، فأنشده الشاعر قصيدة تحريضية، ختمها بالبيت الشهير:
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويًا
وأبو العباس يتميز غيظًا. فقال الأمير الأموي سليمان بن هشام لسديف: يا ابن الفاعلة ألا تسكت؟ فلما قال ذلك اشتد غضب أبي العباس. ونظر لرجال خراسان (الإيرانيين) وهم وقوف بالأعمدة، فقال لهم بالفارسية: «دهيد» يعني اضربوا، فشدخوا رؤوسهم بالأعمدة حتى أتوا على آخرهم، ثم جمعهم وأمر بالأنطاع (الجلود التي توضع عليها الذبائح) فبسطت عليهم، ثم جلس فوقهم، ودعا بالغداء فتغدى، وإن بعض القوم ليتحرك، وفيهم من يسمع أنينه!
إذن؛ فحقد أوس الخفاجي الحديث، متصل بالحقد القديم، لكن لم يفلح الحقد الأول، ولن يفلح الأخير، و«ليس كبير القوم من يحمل الحقدا».
٦ يناير ٢٠١٧
أعلنا في الهيئة العليا للمفاوضات أننا ملتزمون بمفاوضات تحت مظلة الأمم المتحدة، مبنية على بيان جنيف وعلى القرارات الأممية التي رسمت طريق الحل السياسي وحددت أهدافه، ولكن روسيا سارعت للدعوة إلى مفاوضات في أستانة، ويبدو أنها تريد أن تأتي بمعارضة مصنعة تكتفي بتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الأسد يشارك فيها بعض المعارضين الموالين للنظام، ومن الواضح أن تركيا أقنعت الروس بالتراجع عن اعتبار مفاوضات أستانة بديلة عن مفاوضات تشرف عليها الأمم المتحدة، وقد أعلن «ديمستورا» عن موعد جديد في الثامن من فبراير القادم لاستئناف المفاوضات في جنيف، كل ذلك واتفاق وقف إطلاق النار بدأ حبراً على الورق ولم يلتزم النظام والإيرانيون به، فقد ازدادت الهجمة على «وادي بردى» بهدف تهجير قسري لسكانه، وكانت الذريعة أن فيه مجموعة من الإرهابيين، وهذه الذريعة يمكن استخدامها في أي موقع يريد النظام وإيران هجوماً عليه، وهكذا أصبح وقف إطلاق النار معرضاً للفشل رغم حرص السوريين جميعاً على نجاحه ورغم الالتزام الفصائل به، وهذا ما تناقشته تركيا مع روسيا الآن بوصفهما الضامنين.
السوريون يدركون فوارق مهمة بين الموقف الروسي والموقف الإيراني، فإيران لديها مشروع توسعي، وهي تريد ضم سوريا إليها كما ضمت لبنان والعراق عبر النفوذ العسكري والسياسي المباشر، وتعمل في سوريا بجدية لإحداث تغيير سكاني في بعض المناطق التي تريد جعلها موالية لها وبخاصة في ريف دمشق لتحقق حزاماً أمنياً يتصل بجنوب لبنان. وإيران لديها عقيدة دينية مذهبية تريد نشرها، وهي تسارع لإقامة طقوسها الدينية في المساجد السُنية الكبرى في سوريا مشجعة على التشيع، وهذا ما يجعل الصراع السياسي يأخذ منحى طائفياً، وهو سر ظهور التطرف المضاد.
وإيران تريد إشاعة الفوضى في سوريا وإنهاء مؤسسات الدولة وتفتيت الجيش السوري كما حدث للجيش العراقي، لأن الفوضى والانهيار يتيحان لها أن تطفو على السيادة الوطنية كما فعلت في لبنان عبر «حزب الله» الطائفي، وقد بدأت بتشكيل ميليشيات في سورية بدل الجيش النظامي.
وإيران تريد تقسيم سوريا وهي صاحبة فكرة «سوريا المفيدة»، لجعل سوريا غير المفيدة منطقة الصراع مع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، حيث تقوم بحشد أهل السُنة في منطقة مستهدفة بوصفها تضم إرهابيين، وهذا ما يحدث في إدلب الآن حيث يقتلع أهل السُنة من بيوتهم وأراضيهم في حلب وريف دمشق ويتم تجميعهم في مخيمات في إدلب، ولا أحد يستبعد أن يتعرض كثير من هؤلاء لهولوكست قادم بذريعة مكافحة (فتح الشام). وإيران والنظام لا يخشيان من نفوذ «داعش» فالدلائل تشير إلى تنسيق وتفاهم منذ أن تم تسليم الرقة ثم الموصل ثم تدمر لتنظيم «داعش» دون عناء منه.
وإيران والنظام مرتاحان لما حققا عبر السنوات الفائتة من تهجير أكثر من عشرة ملايين من أهل السُنة، وبخاصة لمن اختاروا هجرة بعيدة، وقد عبر النظام عن هذا الارتياح حين تحدث عما حدث من توازن سكاني (وهو يعني انخفاضاً ضخماً لحضور الأغلبية السكانية في سوريا على أمل أن تصبح أقلية)، ويدرك النظام أن احتمالات عودة المهاجرين تصبح أقل بعد مرور خمس سنوات على الهجرة، ولن يكون مهماً بقاء ملايين من المهجرين في الخيام في الأردن ولبنان وجنوب تركيا، فقد بقي الفلسطينيون في الخيام عقوداً طويلة.
روسيا كما يبدو لي غير معنية بتقسيم سوريا، وهي تقول إنها تريد الحفاظ على الدولة وعلى المؤسسات والجيش، وليس لديها مشروع عقائدي أو مذهبي تريد نشره، وليس لديها مشروع توسعي بضم أراضٍ أو مستوطنات لها في سوريا كما تفعل إيران، وإنما هي تريد مواقع نفوذ وقواعد عسكرية ومصالح اقتصادية، وهذا كله يعني أنه من الممكن أن نتفاهم مع روسيا مستقبلاً، لكن التفاهم مع إيران محال ما دامت مصرة على العدوان.