مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
٦ يناير ٢٠١٧
آستانة... مصير موسكو في الشرق الأوسط

ليس مؤتمر آستانة المرتقب في 23 يناير (كانون الثاني) مؤتمرًا حول سوريا. الأدق أنه مؤتمر حول روسيا ودورها في الشرق الأوسط. التجاذبات المحيطة بالمؤتمر والتهيئة له، تحديدًا بين روسيا وإيران بشكل خافت، وإيران وتركيا بشكل علني، تعكس هذا المعنى الاستراتيجي للمؤتمر، أقله في التفكير الروسي.

سبق آستانة تفاهم تركي روسي على وقف لإطلاق النار، لا يزال صامدًا رغم هشاشته، ورغم أن أحدًا لا يتوقع له الصمود طويلاً. وهشاشته متأتية أصلاً عن الشغب الإيراني على الاتفاق وعلى مؤتمر آستانة نفسه.

حتى الآن ترفض إيران مطالبة تركيا (وروسيا) لها بممارسة الضغط على نظام بشار الأسد وحلفائه لوقف انتهاكات وقف إطلاق النار. الخارجية الإيرانية بلسان بهرام قاسمي، اعتبرت أن المطالب التركية «تعقد الأوضاع الحالية وتزيد المشكلات التي تواجه المخرج السياسي في الأزمة السورية». قبله، قال مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية إن الحديث عن خروج ميليشيا «حزب الله» من سوريا هو «ادعاء الأعداء ودعايتهم».

الفالق المركزي الذي تقف عليه مواقف الأطراف الثلاثة هو ما بعد آستانة. الرهان الإيراني أوضحه ولايتي وهو «حماية خط المقاومة وسوريا حلقة مهمة في هذا الخط؛ لذلك دعمناها منذ البداية في وجه المؤامرة التي تستهدفها». لتركيا حسابات أخرى. هاجسها الأساس ألا تلد سوريا الأسد سوريا فيدرالية يكون فيها للأكراد حكم ذاتي يخطو بالمسألة الكردية خطوة إضافية نحو حلم كردستان الكبرى! أما روسيا فتريد صرف استثماراتها العسكرية في سوريا، دورًا رياديًا في الشرق الأوسط من دون أكلاف إضافية، ومن دون المخاطرة بتحويل الحرب السورية إلى أفغانستان جديدة لموسكو. ولئن كانت روسيا وتركيا متفاهمتين على مصالح الأمن القومي الإسرائيلي في الإقليم؛ فهما أقدر على التفاهم بينهما، أكثر من تفاهم كل منهما مع إيران، التي لا تستطيع أن تخطو خطوات عملية كبيرة نحو إسرائيل أكثر من تجميد الأعمال الحربية معها!

إذ ذاك، لا تلتقي موسكو وطهران على ما بعد مؤتمر آستانة الذي تريده روسيا خطوة باتجاه عملية سياسية تثبت دورها في الشرق الأوسط؛ ما يعني سوريا بلا الأسد، فيما تريده إيران مؤتمرًا لتأبيد محور المقاومة ومنه بشار الأسد!! فروسيا لا تستطيع أن تستمر شرق أوسطيًا بالتناقض مع القوى السنية الرئيسية، العربية وغير العربية. وإيران لا تريد أن تستمر شرق أوسطيًا إلا بالتناقض مع القوى السنية الرئيسية، العربية وغير العربية.

الأمر الآخر، أن موسكو لا تمتلك الوقت والإمكانات لاستراتيجية النفس الطويل؛ فهي متورطة في سوريا بلحمها ودمها وأموالها ورأسمالها السياسي والعسكري والدبلوماسي، بخلاف إيران التي تقاتل بدماء الشيعة اللبنانيين والعراقيين والأفغان وغيرهم، من البيئات التي حولتها إلى جاليات في خدمة «الوكالة الخمينية»!

لا شك أن فلاديمير بوتين نجح حتى الآن في حجز موقع لموسكو في الشرق الأوسط والعالم. جيشه يقاتل في سوريا ويقرر الوقائع على الأرض. دبلوماسيوه يخيطون شبكة من العلاقات في المنطقة على أنقاض الانسحاب الأميركي منها. بات أقرب إلى إسرائيل من حليفتها التاريخية، الولايات المتحدة. يسعي للتمدد في أفريقيا عبر مصر وليبيا. وساهم في ولادة تفاهم نفطي إيراني سعودي، منع أسعار النفط من الهبوط إلى مستويات أدنى. جيشه الإلكتروني لعب دورًا لا تزال حدوده غامضة في الانتخابات الأميركية. وجيشه الدعائي يتناغم مع الأحزاب القومية الصاعدة في أوروبا. كل هذا صحيح. لكن بوتين نجح في جذب تغطيات إعلامية جبارة لهذه «الانتصارات» أو «الإنجازات» ما جعلها تبدو أكبر بكثير من أحجامها الفعلية.

لا توجد مثلاً أدلة جدية تثبت حجم التأثير الذي لعبه التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية في تقرير النتائج، لكن الإعلام جعل من بوتين الناخب الأول فيها، وسهم في مزيد من نفخ صورته الأسطورية. كما شهد المسرح السوري إخفاقات كبيرة لموسكو أقلها سقوط تدمر مجددًا بيد «داعش» بعد طرد «داعش» منها. كان إحياء فرقة أوركسترا مسرح «مارينسكي» الروسية الشهيرة حفلاً موسيقيًا في مدينة تدمر، تعبيرًا متعجلاً عن الحاجة إلى تثبيت صورة الانتصار، لكن الوقائع جاءت لتقول أن لا انتصار عسكريًا دائمًا في سوريا لأي طرف.

أضف أن كل هذه الاستعراضات عاجزة عن تغييب جسامة المشكلات البنيوية العميقة التي يعانيها الاقتصاد الروسي، واعتماده شبه المطلق على أسعار الطاقة المتهاوية، معطوفًا على الأكلاف المهولة للفساد والزبائنية، والتضخم الذي يقضي على مدخرات الشعب الروسي الهرم.

كل هذه وقائع تضع موسكو في زاوية ضيقة، وتبرز حاجتها إلى الخروج من التجربة السورية بإنجاز سريع، اختارت له حتى الآن إطار آستانة والحل السياسي. في المقابل، تملك إيران قدرات كبيرة للشغب على الرهانات الروسية وتعطيلها لحماية رهاناتها الاستراتيجية في سوريا.

مؤتمر آستانة هو امتحان للدور الروسي في الشرق الأوسط ومحدد لمصيره… والخصم الأول في التجربة هذه، هي إيران.

اقرأ المزيد
٦ يناير ٢٠١٧
الحشد... والحقد المقدس!

يستغرب البعض من شلالات الحقد الأسود التي تنهمر من صدور المرتكبين من ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقي - الخميني.

من أين طاوعتهم النفوس على سحق طفل صغير تحت جنازير الدبابات، وحرق الضحايا، وطبخ الرؤوس، وشق البطون، وغير ذلك من صور البشاعة الهمجية؟

«داعش»، عرفنا لماذا تفعل مثل هذه الشنائع، وكل العالم، ونحن منه، ضدهم وأعداء لهم، وسنظل، حتى تقتلع شجرتهم الخبيثة.

لكن ماذا عن «داعش» الشيعية؟ أين صوت العالم المتحضر عنها، بل السياسة العاقلة التي تلجمها، حتى لا تكون سببًا في نشاط «داعش» السنية؟ خصوصًا أن «داعش» الشيعية مرعية من «دول» وبرلمانات، ألم يشرع البرلمان العراقي وضع «الحشد الشعبي»، ويضفي عليه بركات الدولة العراقية؟

ميليشيات يقودها أمثال أوس الخفاجي، الذي صرح مؤخرًا بأنه وجنوده يدخلون مناطق السنّة العراقيين، وصدورهم عامرة بالحقد؛ نعم قالها: الحقد، وكأنه يتعبد لله بهذا الحقد المقدس.

«الحشد الشعبي» العراقي - الخميني، مدان حسب منظمة العفو الدولية (أمنستي) التي دعت في تقريرها الأخير دول العالم لضبط توريد الأسلحة للحكومة العراقية، التي تعتبر قتلة «الحشد الشعبي» جزءًا من قواتها الشرعية.

نائب عصابات «الحشد الشعبي»، أبو مهدي المهندس، افتخر مؤخرًا بـ«حزب الله» اللبناني، وبأنه تلميذ عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، والأخيران، حسب قانون أميركا، من رموز الإرهاب الدولي، وفي الوقت نفسه أميركا أوباما تدعم حكومة بغداد المشرعنة للحشد الطائفي!

هذا الحقد الأعمى المقدس، له جذور تاريخية بالعراق، من أمثلته الشهيرة الانتقام العباسي، الهاشمي، الرهيب، من بني أمية، على يد الخليفة السفاح لعمه السفاح الآخر عبد الله بن علي.

تروي كتب التاريخ، أن شاعر الهاشميين، سديف، دخل مجلس الخليفة العباسي الأول، السفاح، وعنده لفيف من الأمويين، لوليمة غداء، فأنشده الشاعر قصيدة تحريضية، ختمها بالبيت الشهير:
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويًا

وأبو العباس يتميز غيظًا. فقال الأمير الأموي سليمان بن هشام لسديف: يا ابن الفاعلة ألا تسكت؟ فلما قال ذلك اشتد غضب أبي العباس. ونظر لرجال خراسان (الإيرانيين) وهم وقوف بالأعمدة، فقال لهم بالفارسية: «دهيد» يعني اضربوا، فشدخوا رؤوسهم بالأعمدة حتى أتوا على آخرهم، ثم جمعهم وأمر بالأنطاع (الجلود التي توضع عليها الذبائح) فبسطت عليهم، ثم جلس فوقهم، ودعا بالغداء فتغدى، وإن بعض القوم ليتحرك، وفيهم من يسمع أنينه!

إذن؛ فحقد أوس الخفاجي الحديث، متصل بالحقد القديم، لكن لم يفلح الحقد الأول، ولن يفلح الأخير، و«ليس كبير القوم من يحمل الحقدا».

اقرأ المزيد
٦ يناير ٢٠١٧
سوريا والمشروع الإيراني

أعلنا في الهيئة العليا للمفاوضات أننا ملتزمون بمفاوضات تحت مظلة الأمم المتحدة، مبنية على بيان جنيف وعلى القرارات الأممية التي رسمت طريق الحل السياسي وحددت أهدافه، ولكن روسيا سارعت للدعوة إلى مفاوضات في أستانة، ويبدو أنها تريد أن تأتي بمعارضة مصنعة تكتفي بتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة الأسد يشارك فيها بعض المعارضين الموالين للنظام، ومن الواضح أن تركيا أقنعت الروس بالتراجع عن اعتبار مفاوضات أستانة بديلة عن مفاوضات تشرف عليها الأمم المتحدة، وقد أعلن «ديمستورا» عن موعد جديد في الثامن من فبراير القادم لاستئناف المفاوضات في جنيف، كل ذلك واتفاق وقف إطلاق النار بدأ حبراً على الورق ولم يلتزم النظام والإيرانيون به، فقد ازدادت الهجمة على «وادي بردى» بهدف تهجير قسري لسكانه، وكانت الذريعة أن فيه مجموعة من الإرهابيين، وهذه الذريعة يمكن استخدامها في أي موقع يريد النظام وإيران هجوماً عليه، وهكذا أصبح وقف إطلاق النار معرضاً للفشل رغم حرص السوريين جميعاً على نجاحه ورغم الالتزام الفصائل به، وهذا ما تناقشته تركيا مع روسيا الآن بوصفهما الضامنين.

السوريون يدركون فوارق مهمة بين الموقف الروسي والموقف الإيراني، فإيران لديها مشروع توسعي، وهي تريد ضم سوريا إليها كما ضمت لبنان والعراق عبر النفوذ العسكري والسياسي المباشر، وتعمل في سوريا بجدية لإحداث تغيير سكاني في بعض المناطق التي تريد جعلها موالية لها وبخاصة في ريف دمشق لتحقق حزاماً أمنياً يتصل بجنوب لبنان. وإيران لديها عقيدة دينية مذهبية تريد نشرها، وهي تسارع لإقامة طقوسها الدينية في المساجد السُنية الكبرى في سوريا مشجعة على التشيع، وهذا ما يجعل الصراع السياسي يأخذ منحى طائفياً، وهو سر ظهور التطرف المضاد.

وإيران تريد إشاعة الفوضى في سوريا وإنهاء مؤسسات الدولة وتفتيت الجيش السوري كما حدث للجيش العراقي، لأن الفوضى والانهيار يتيحان لها أن تطفو على السيادة الوطنية كما فعلت في لبنان عبر «حزب الله» الطائفي، وقد بدأت بتشكيل ميليشيات في سورية بدل الجيش النظامي.

وإيران تريد تقسيم سوريا وهي صاحبة فكرة «سوريا المفيدة»، لجعل سوريا غير المفيدة منطقة الصراع مع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، حيث تقوم بحشد أهل السُنة في منطقة مستهدفة بوصفها تضم إرهابيين، وهذا ما يحدث في إدلب الآن حيث يقتلع أهل السُنة من بيوتهم وأراضيهم في حلب وريف دمشق ويتم تجميعهم في مخيمات في إدلب، ولا أحد يستبعد أن يتعرض كثير من هؤلاء لهولوكست قادم بذريعة مكافحة (فتح الشام). وإيران والنظام لا يخشيان من نفوذ «داعش» فالدلائل تشير إلى تنسيق وتفاهم منذ أن تم تسليم الرقة ثم الموصل ثم تدمر لتنظيم «داعش» دون عناء منه.

وإيران والنظام مرتاحان لما حققا عبر السنوات الفائتة من تهجير أكثر من عشرة ملايين من أهل السُنة، وبخاصة لمن اختاروا هجرة بعيدة، وقد عبر النظام عن هذا الارتياح حين تحدث عما حدث من توازن سكاني (وهو يعني انخفاضاً ضخماً لحضور الأغلبية السكانية في سوريا على أمل أن تصبح أقلية)، ويدرك النظام أن احتمالات عودة المهاجرين تصبح أقل بعد مرور خمس سنوات على الهجرة، ولن يكون مهماً بقاء ملايين من المهجرين في الخيام في الأردن ولبنان وجنوب تركيا، فقد بقي الفلسطينيون في الخيام عقوداً طويلة.

روسيا كما يبدو لي غير معنية بتقسيم سوريا، وهي تقول إنها تريد الحفاظ على الدولة وعلى المؤسسات والجيش، وليس لديها مشروع عقائدي أو مذهبي تريد نشره، وليس لديها مشروع توسعي بضم أراضٍ أو مستوطنات لها في سوريا كما تفعل إيران، وإنما هي تريد مواقع نفوذ وقواعد عسكرية ومصالح اقتصادية، وهذا كله يعني أنه من الممكن أن نتفاهم مع روسيا مستقبلاً، لكن التفاهم مع إيران محال ما دامت مصرة على العدوان.

اقرأ المزيد
٥ يناير ٢٠١٧
هل يحمل 2017 بارقة أمل للسوريين؟

كان العام 2016 ثقيلاً على صدور السوريين، بل وكان مأساوياً وكارثياً أيضاً، حيث تغوّل النظام الأسدي كثيراً في جرائمه وانتهاكاته لحقوق السوريين، وقتلت قوى العدوان الروسي ومليشيات نظام الملالي الإيراني المذهبية وعصابات النظام عشرات آلاف المدنيين، معظمهم من فقراء المدن والمناطق والأرياف، ودمرت ما تبقى من البنى التحتية في المناطق التي تسيطر عليها فصائل الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية، وتمادت في قصف المشافي ومراكز الدفاع المدني والمدارس والمساكن، وخصوصاً في الشطر الشرقي من مدينة حلب، غير آبهة بحياة ساكنيها الذين هجّرتهم قسراً، ولا بمعالمها التاريخية والحضارية.

غير أن نهاية العام المنصرم حملت اتفاقاً على وقف إطلاق النار، جرى التوقيع عليه في أنقرة برعاية وضمانة مزدوجة، روسية وتركية، تمهيداً لإطلاق مفاوضات حلّ سياسي في العاصمة الكازاخية، أستانة، الأمر الذي أثار بارقة أمل لدى غالبية السوريين، داخل سورية وخارجها، وعكس مدى تلهفهم وتطلعهم إلى وقف حمام الدم، وتوْقهم إلى حل سياسي عادل ينهي هذه الكارثة التي ألمّت بهم وببلدهم، وسبّبها نظام مستبد وقاتل، لا يأبه بالبشر ولا بالحجر.

وبات الأمل بالخلاص من الوضع الكارثي عنواناً لتعويل وأمل سوريّين بأن يحمل العام 2017 بشائر الخلاص من النفق المظلم الذي أدخل النظام الأسدي السوريين فيه منذ أكثر من خمس سنوات، عقاباً على مطالبهم المشروعة في أن يكونوا بشراً أحرار، مثل سواهم، لا يسكنهم الخوف من ملاحقة أجهزة الاستخبارات، ولا يقبعون تحت المذلة وامتهان كرامتهم الإنسانية. وقد عبّرت مظاهرات السوريين في عشرات المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في أول يوم لوقف إطلاق النار عن استمرار ثورتهم، وتجديد عهودهم ومطالبهم، وعلى الرغم من كل ما أصابهم، وراحوا يهتفون "جنة جنة جنة جنة يا وطنّا.. يا وطن يا حبيّب يا بوتراب الطيب حتى نارك جنة..."

ويشكل الاتفاق، في حال نجاحه في وقف حمام الدم السوري نجاحاً للدبلوماسية التركية التي تمكّنت من فرض الجيش السوري الحر وبعض الفصائل الإسلامية محاوراً رئيسياً للروس، بعد أن سعوا، من قبل، إلى وضع فصيلين منهم على الأقل، هما أحرار الشام وجيش الإسلام في خانة المنظمات الإرهابية، الأمر الذي يعكس تغيراً في موقف الساسة الروس من الوضع في سورية بعد سقوط مدينة حلب.

ولعل صمود وقف إطلاق النار أمام خروقات عصابات الأسد ومليشيات نظام الملالي الإيراني سيتبعه فك الحصار وإدخال المساعدات إلى أكثر من ميلون ونصف سوري، بما ينهي معاناتهم من تبعات نهج الحصار والتجويع الذي فرضته قوات النظام والمليشيات المذهبية عليهم منذ أكثر من سنتين، وخصوصاً في مناطق الغوطة والزبداني ومضايا والوعر وسواها.

ما يجعل التفاؤل مهزوزاً بأن يحمل العام 2017 جديداً، ينهي معاناة السوريين، هو عدم الثقة بالروس، وبمخططات النظام الأسدي ونظام الملالي الإيراني، إذ عملت عصاباتهما المليشايوية والمذهبية من قبل على خرق اتفاقات عديدة لوقف إطلاق النار، أو ما كان يدعى وقف الأعمال العدائية، بل وحتى اتفاق حلب الذي حمل تهجيراً قسرياً لمن تبقوا من ساكني شرقيّها، خرقته هذه العصابات. لذلك يشكل اتفاق أنقرة لوقف إطلاق النار اختباراً للإرادة الروسية، ولمدى صدقيتها وجدية سعيها إلى إطلاق مفاوضات سياسية في أستانة.
ويبدو أن الساسة الروس بحاجة إلى دعم المجتمع الدولي لخطواتهم التنسيقية مع الساسة الأتراك في القضية السورية، ويريدون أن يظهروا أمام العالم أنهم جادّون في البحث عن حل سياسي. لذلك، توّجهوا إلى مجلس الأمن الدولي الذي أصدر، بالإجماع، القرار 3136 لدعم وقف إطلاق النار، وباتوا يملكون تفويضاً أممياً للسير في خطوات تثبيته، والسير في طريق التفاوض في أستانة، وما ينتج عنها عن إمكانية ردع المليشيات المذهبية، وخصوصاً حزب الله اللبناني، والدفع باتجاه مفاوضات حل سياسي في أستانة، مع التشديد على استكمالها في جنيف، حسب دعوة المبعوث الأممي لسورية، ستيفان ديمستورا.

ويمكن القول إن الأفق بات مفتوحاً، خلال العام 2017، أمام ممكنات إيجاد حلٍّ سياسي، إذا كانت الإدارة الروسية عازمةً على تثبيط سعي نظامي الملالي الإيراني والأسد السير نحو استكمال الحرب البشعة ضد غالبية السوريين، وبما يجعل هذا العام عاماً آخر من الحرب الذي بدأها النظام الأسدي منذ أكثر من خمس سنوات ضد الحاضنة الشعبية لثورة الحرية والكرامة.

وفي حال جدّية اختيار موسكو طريق إيجاد حل سياسي، بالاستفادة من أنها صاحبة اليد الطولى في سورية، المجسّدة في أساطيلها الجوية والبحرية وقواعها العسكرية، إضافة إلى قوتها الدبلوماسية، ودورها القوي في مجلس الأمن، فسيصطدم ذلك بأغراض نظام الملالي الإيراني ومخططاته، الهادفة إلى التغيير الديمغرافي في سورية، وإعادة هندستها الاجتماعية، بغية فرض هيمنتها وسطوتها عليها، بعد أن تمكّنت من تحقيق أهدافها في كل من العراق ولينان واليمن.

ولا شك في أن القيادة التركية تعي تماماً ما يخطط له نظام الملالي الإيراني في سورية، حيث طالب الرئيس، رجب طيب أردوغان، في أكثر من مناسبة، بأن يكف هذا النظام عن ممارساته المذهبية والتفتيتية، وحذّر من عمليات التغيير الديمغرافي. لذلك، أتت التفاهمات التركية الروسية في سورية، كي تشكل رداً كابحاً لمساعي أصحاب تلك المخططات، خصوصاً مع ارتفاع الأصوات التركية والروسية المطالبة بخروج جميع المليشيات من الأراضي السورية.

ويبقى أن الإشكال الأساسي لما سيؤول إليه المشهد السوري في العام 2017 هو مقدار الغموض الذي قد يعتري النتائج السياسية التي يمكن أن يفضي إليها مسار أستانة التفاوضي، لأن العقدة الأساسية هي مستقبل رأس النظام الأسدي، حيث لا مخرج من الكارثة السورية في ظل بقائه بأي شكل، على الرغم من أنه بات بحكم رئيس عصابة مليشيوية، ولم يكن له أي دور في الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، والسير في طريق التفاوض، وبإمكان ساسة موسكو تحجيم دوره إلى درجة تغييبه تماماً.

اقرأ المزيد
٥ يناير ٢٠١٧
سباق روسي - إيراني نحو اختطاف ما بعد حلب

بشار الأسد جاء بقاسم سليماني. الأسد وسليماني جاءا بـ «داعش». «داعش» و»النُصرة» جاءا بـ «التحالف الدولي» أي بالأميركيين. الأسد وسليماني و»داعش» و»النُصرة» جاؤوا بفلاديمير بوتين. بوتين جاء برجب طيّب أردوغان أو بالأحرى أعاده الى اللعبة بعدما كان لحاقه بالأميركيين أخرجه منها. الأميركيون والإسرائيليون لا ينافسون الروس ولا الإيرانيين، فجميعهم يريدون إبقاء الأسد بحجة أنه ونظامه «أقلّ سوءاً» من «داعش»، أي أنهم يسعون الى إنقاذ من صنع «داعش» وتسبّب بوجود «النصرة»، ويمهّدون لمساعدته على الإفلات من أي محاسبة ومعاقبة عبر ما يسمّى الحل السياسي، وإلا فما معنى القول أنه باقٍ حتى نهاية ولايته - كـ «رئيس منتخب»! - فكيف تتصوّر هذه القوى «حلاً» بوجود شخص محمّلٍ بكل الارتكابات المعروفة، وكيف يروَّج حالياً أن التنازل الذي يقدمه الأسد أنه لن يترشح للرئاسة في 2021 إفساحاً في المجال أمام «علويّ آخر أقل إثارة للانقسام»، كأن ستة أعوام من القتل والتدمير كانت مجرّد بحث عن «علويّ آخر» يختاره الروس ويوافق عليه الإيرانيون، وما على سورية وشعبها سوى أن يرضخا للأمر الواقع.

مثل هذا السيناريو «السياسي» كان مطلوباً من/ مطروحاً على روسيا منذ أواخر 2011 - أوائل 2012، لكنها لم تكن معترفة آنذاك بوجود أزمة ولا بوجوب التغيير، فالنظام وجيشه حليفان لها، ثم أنها عارضت إسقاط الأنظمة الذي دعمته الولايات المتحدة في ليبيا، وقبل ذلك في العراق. أصبح مؤكّداً الآن أن النهجَين الروسي والأميركي أفضيا الى نتائج متماثلة، إذ تركا الإرهاب يستشري، والانقسام الاجتماعي يدفع باتجاه التقسيم الجغرافي، وسهّلا لإيران المساهمة في صنع الفوضى ثم استغلالها لملء الفراغ بمشروع هيمنة طائفية وإرهاب ميليشيوي منظّم ونفوذ إقليمي لن تجد روسيا وأميركا مناصاً من تمكينه والاعتراف به لقاء استخدامه. كان الازدراء الروسي الدائم بالأسد دفع بالأخير الى الارتماء أكثر فأكثر في أحضان الإيرانيين، معتبراً أن صفقة روسية - أميركية على رأسه تبقى أكثر احتمالاً من صفقة إيرانية - أميركية. لكن التسوية الأميركية - الروسية لأزمة السلاح الكيماوي بمساهمة إسرائيلية (2013)، ثم انتشار تنظيم «داعش» بين العراق وسورية (2014)، فضلاً عن التقارب الأميركي - الإيراني قبل الاتفاق النووي وبعده (2015)، طمأنت طهران الى دورَيها السوري والعراقي والأسد الى بقائه في السلطة كنقيض/ بديل من «داعش». ولمزيد من التحوّط، عملت إيران على إقناع موسكو بأن الوقت حان للتدخّل المباشر، فالحرب على «داعش» الى تصاعد بقيادة أميركية وقد تتطوّر سورياً لتمسّ بمصالحها.

كان التدخّل الروسي في مثابة الجائزة الكبرى التي أحرزها الأسد والإيرانيون لأنفسهم، إذ غيّر موازين القوى في شكل فوري، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى وجدوا إسرائيل تمدّ خطوطها مع موسكو وتقاسمهم المكاسب على حسابهم. بل إن روسيا بذلت كل جهد للتوصّل الى صفقة مع أميركا في شأن سورية، إلا أن مساوماتهما الخاصة في أوكرانيا لم تفلح، ومع ذلك حافظت موسكو على تواصل وحدٍّ أدنى من التنسيق مع واشنطن حتى عشية حسم معركة حلب وما انطوت عليه من جرائم وقذارات. وإذ بدت هذه المعركة أو صُوّرت بأنها فاصلة في الصراع، وأن ما بعدها لن يكون كما قبلها، فإن تعاون موسكو وأنقرة على تنظيم نهايتها قطع الطريق على المجزرة الكبرى التي كان الثنائي الإيراني - الأسدي يرغب فيها، ثم إن مبادرة موسكو الى بلورة تفاهم ثلاثي (روسي - تركي - إيراني) لم تأتِ منسجمة مع سيناريوات طهران ودمشق لما بعد حلب، لا عسكرياً ولا سياسياً. فالأسد والإيرانيون أرادوا، ولا يزالون، متابعة الزحف على ادلب وحمص وحماة ووادي بردى والغوطة ودرعا، لاستكمال «نصرهم» العسكري، وتوقّعوا، ولا يزالون، تأجيل البحث في أي تفاوض الى ما بعد «السيطرة الكاملة» التي ستغيّر جذرياً مفهوم الحل السياسي ليكون عندئذ مستنداً فقط الى معطيات المعادلة الميدانية، ولا يكون أمام المعارضة المهزومة سوى خيار القبول بشروط «المنتصر».

خاض بوتين معركة حلب بتفاهم غير معلن مع دونالد ترامب وبتفهّم غير معلن من جانب إدارة باراك أوباما، لكنه أدرك أن ظروف تدمير غروزني الشيشان والصمت الدولي الذي واكبه كانت مختلفة عن التدمير العلني الذي ارتكبه في حلب تحت أنظار العالم وغضبه وإداناته، حتى أن عار حلب طبع عام 2016 أكثر مما ميّزه صعود الزعامة البوتينية. وأنهى الرئيس الروسي معركة حلب بتحاور عسكرييه واستخبارييه مع الفصائل المقاتلة التي كان يشارك الأسد والإيرانيين في اعتبارها «إرهابية»، بل إن الوقائع بيّنت له أن «محاربة الإرهاب» التي استخدمها لتبرير الفظائع كانت غطاءً واهياً. في تلك اللحظة، قرر بوتين أن مصلحته تقضي بتعزيز التقارب مع تركيا، لأن تحكّمه بالجو فحسب جعل إنجازه في حلب تحت رحمة العبث الأسدي والإيراني. لذلك بدا تصويته لإرسال مراقبين دوليين ثم إعلانه الوقف الشامل لإطلاق النار أشبه بمحاولة من الدب الروسي للخروج من غابة الميليشيات وعقليتها للعودة الى جلباب الدولة المسؤولة وجدّيتها. لم يشارك الأسد ولا الإيرانيون في التفاوض الروسي مع الفصائل ولا في التوقيع على اتفاق وقف النار، ووقع الروس كضامنين للنظام وحلفائه والأتراك كضامنين للمعارضة، أي أنه اتفاق ثنائي يضع دمشق وطهران أمام الأمر الواقع، عسكرياً وسياسياً، لكنهما تمرّدتا عليه.

إذا بقيت روسيا متفرّجة ومنتظرة ولم تبرهن سريعاً أنها قادرة فعلاً على ضمان انضباط النظام والإيرانيين، فإن الهجوم على وادي بردى سيُجهز على الهدنة، وبالتالي على محادثات آستانا. لماذا؟ لأن اتفاق موسكو مع أنقرة سيبدو امتداداً للاتفاقات الروسية - الأميركية السابقة، حين كان الدور الأميركي يقتصر على كبح المعارضة وتخديرها فيما يُبقي الروس النظام والإيرانيين متفلّتين وجاهزين لإسقاط وقف للنار علناً، وبالتالي فإن هذا الدور قد يكون في صدد الانتقال الى الأتراك لقاء تعويضهم بالمساهمة في الحرب على «داعش» للحدّ من توسّع الأكراد. أكثر من ذلك، وبعد التفاوض الروسي مع الفصائل، سيبدو الاتفاق كخدعة حربية روسية أخرى لتمكين النظام من استعادة السيطرة على مزيد من المناطق، فضلاً عن تغطية إيران في سعيها الى تطبيق أجندتها الطائفية.

ليس واضحاً ما اذا كانت روسيا سارعت الى تشكيل التفاهم الثلاثي بهدف ضبط تركيا أو إيران أو الاثنتين في آن، ولا واضحاً أيضاً لماذا تسرّعت بإعلان الاتفاق وتعمّدت إظهار أنها تفاوضت ووقّعت بالنيابة عن النظام والإيرانيين وبصفتها ضامنة لسلوكهم. فحتى بيان قيادة جيش النظام عن التزام وقف النار قد يكون صدر بإرادة روسية ورغماً عن رأس النظام، بدليل أن لا الأسد ولا أي مسؤول إيراني رحّب بالاتفاق كما فعل بوتين نفسه وأردوغان، فيما تُرك للوزير وليد المعلم أن يقدّم اجتهاداً لفظياً يتعلّق بشروط المفاوضات السياسية أكثر مما يُعنى بالهدنة التي وضعها في إطار «الاستثمار السياسي للنصر في حلب». وعلى رغم أن موسكو تعمل في ذلك «الاستثمار السياسي» أيضاً، إلا أنها وقّعت اتفاقاً مع تركيا التي دأب الأسد على اتهامها بدعم الإرهاب، ومع فصائل لا تزال دمشق وطهران تعتبرانها «إرهابية»، والأرجح أن موسكو لم تعد معتمدة هذا التصنيف، ما يعني أن «الاستثمار» يواجه خسارة أولية. لذلك، شدّد وزير الخارجية الإيراني على ربط وقف النار بـ «اقتلاع جذور الإرهاب»، فيما حرص مستشار المرشد علي أكبر ولايتي على تحديد شروط المشاركة في مفاوضات آستانا بحصرها بالمعارضة «المستعدة لترك السلاح والإرهاب « والتي «تؤمن بشرعية الحكومة السورية» الحالية.

الأكيد، أن الحديث عن المفاوضات السياسية، ومع وفد معارض يضم ممثلي الفصائل، هو أكثر ما يكرهه الأسد والإيرانيون، فهذه لحظة فضّلوا تأجيلها أو التفاهم المسبق عليها مع موسكو. والسؤال الماثل: ما بعد حلب يكون روسياً أم إيرانياً؟ من الصعب الجمع بين المفهومين، والأجندتان آخذتان أخيراً بالافتراق، وهذا منطقي ومتوقّع، في معزل عن أي مراهنات عربية متعجّلة.

اقرأ المزيد
٥ يناير ٢٠١٧
روسيا وإيران في سوريا!

ربما يكون وقف إطلاق النار الشامل المعلن الخميس الماضي برعاية موسكو وأنقرة، الاختبار الأكثر أهمية لكيفية إدارة الجوانب التنافسية في العلاقات الروسية الإيرانية في مرحلة جديدة ما زالت الدولتان بحاجة خلالها للتحالف الذي جمعهما في السنوات الأخيرة في سوريا، فهذا النوع من التفاعلات التي يمتزج التحالف فيها بالتنافس يعد الأكثر صعوبة في العلاقات الدولية، ولذلك يتيح هذا الاتفاق فرصة بالغة الأهمية لاختبار الافتراض الذي بدا منطقياً عندما بدأ التدخل العسكري الروسي يحقق ما عجز عنه التوغل الإيراني لدعم نظام الأسد، وهو أن سوريا ستوضع فعلياً تحت ما يشبه وصاية ثنائية، وأن قبضة روسيا عليها ستكون أقوى، فقد أظهرت التطورات السابقة على الاتفاق الأخير ما يبدو أنها نقطة ضعف في هذا الافتراض، وهي أنه لا ينسجم مع معطيات واقعية، أهمها أن إيران هي التي توجد على الأرض، وأن ميليشيات تابعة لها تسيطر على مناطق كاملة.

ورغم أن روسيا حاولت تعويض ضعف وجودها البري، واتفقت مع شركة عسكرية خاصة على العمل في سوريا، وسمحت لها بتوظيف جنود روس أنهوا خدمتهم الرسمية، فلا يزيد عدد هؤلاء على بضعة آلاف، فيما تُقدَّر أعداد الميليشيات الموالية لإيران بأكثر من مائة ألف.

وظهرت أهمية الوجود الكثيف على الأرض في عملية تنفيذ الاتفاق على إجلاء مسلحين ومدنيين من شرق حلب الشهر الماضي، فقد عقدت روسيا هذا الاتفاق بشكل ثنائي مع تركيا في 13 ديسمبر، ورحبت إيران به كما فعلت بشأن اتفاق الهدنة الشاملة.

لكن عندما بدأ تنفيذ اتفاق حلب في الساعات الأولى من 16 ديسمبر، تبين أن من يوجد على الأرض يستطيع التحكم أكثر في مجريات الأمور، فقد أوقفت الميليشيات التابعة لإيران تنفيذ الاتفاق وربطته بإجلاء مواز من بلدتي الفوعة وكفريا (الشيعيتين) اللتين يحاصرهما المسلحون في ريف إدلب، رغم أنه لم يتطرق إلى مثل هذه المقايضة أو غيرها في بنوده الأربعة، إذ نص على خروج المسلحين بأسلحتهم الفردية، وإجلاء المدنيين الراغبين في المغادرة مع ضمان سلامة خروجهم.

المهم هنا أن روسيا كانت قد أعلنت أنها تضمن الاتفاق، وأن «خبراءها» العسكريين يشرفون على تنفيذه، وأنها لن تسمح بأية محاولة لعرقلته مهما كان مصدرها، لكنها وقفت مكتوفة الأيدي عندما عرقلته ميليشيات تابعة لإيران، ولم تلبث أن رضخت لمطالبها، في الوقت الذي أرسل بوتين موفداً خاصاً إلى طهران (ألكسندر لافرينيستيف) للتفاهم حول تعديل الاتفاق، إلى جانب ترتيب اللقاء الثلاثي الذي حضرته تركيا في موسكو في 20 ديسمبر.

وحدث ذلك في وقت ما زالت إيران بحاجة للدور العسكري الروسي في سوريا. ولكن لأن اتفاق حلب كان جزئياً، أصبح اتفاق الهدنة الشاملة هو الاختبار الحقيقي لمدى نفوذ روسيا التي عقدته مع تركيا، وإيران التي رحبت به بطريقة فاترة، كما أنه المؤشر الأهم حتى اليوم لما سيكون عليه ميزان القوى بينهما في سوريا حين ينتهي دور روسيا العسكري الرئيسي، وتعود طائراتها من حيث أتت، ويصبح وجودها محصوراً في قاعدتين في اللاذقية وطرطوس، بينما القوات والميليشيات التابعة لإيران متغلغلة على نطاق أوسع.

فهل تكفي علاقة روسيا القوية بقيادة أركان جيش الأسد وبعض أجهزته الاستخباراتية لتعويض ضعف وجودها على الأرض؟ لقد دفعت روسيا باتجاه إنشاء فيلق جديد (رابع) في هذا الجيش، ولعبت دوراً رئيساً في تكوينه ليصبح أقوى من الفيالق الثلاثة القديمة التي أنهكتها الحرب، لكن ملابسات الإعلان عن فيلق خامس يضم «متطوعين» تُرَّجح أن إيران تقف وراء تأسيسه لكي توازن النفوذ الروسي داخل الجيش السوري.

وتزداد أهمية البحث في كيفية إدارة العلاقات بين موسكو وطهران عندما نتأمل تصريحات رسمية إيرانية قريبة عن إمكان إقامة قواعد بحرية في اليمن أو سوريا (محمد باقري رئيس الأركان في 27 نوفمبر)، أو عن أن إيران هي التي تُحدد مستقبل سوريا (محمد على جعفري قائد الحرس الثوري في 22 أكتوبر).

وإذ يصعب استبعاد افتراض أن تسعى إيران إلى إعادة إنتاج السيناريو العراقي في سوريا، فليس من السهل في الوقت نفسه تصور أن يكرر بوتين أخطاء بوش الابن عندما شن حرب 2003 التي كانت محصلتها النهائية هيمنة إيرانية ودوراً أميركياً ثانوياً في العراق.

اقرأ المزيد
٥ يناير ٢٠١٧
الأيلولة السورية

توشك الأزمة السورية أن تتحوّل إلى "أيلولة" القرن الحادي والعشرين، لجهة قدرتها على خلط التحالفات الإقليمية والدولية، وإعادة رسمها ليس مرة واحدة، بل مرات عدة. والأيلولة، لمن لا يعرفها، هي حرب الوراثة الإسبانية التي اندلعت عام 1701، واستمرت حتى 1714، وكانت من أعنف حروب القارة الأوروبية وأطولها عمراً في القرن الثامن عشر. وبدأت بوفاة آخر ملوك إسبانيا من سلاله الهابسبورغ، تشارلز الثاني، عام 1700 وتنازع فرنسا والنمسا وبروسيا على وراثة ملكه، لأنه لم يترك وريثاً.

لم تكن إسبانيا دولة مهمة، أو قوة معتبرة في ذلك الوقت، لكن انضمامها إلى أي من الدول المتنازعة كان سيخلّ بشدة بموازين القوة الأوروبية. بناء عليه، دخلت القوى الأوروبية الكبرى، بما فيها إنكلترا، في صراع مرير استغرق 13 عاماً لمنع أي طرفٍ من الظفر بإسبانيا. خلال هذه الفترة، تغيرت التحالفات مرات عديدة، حتى لم تبق قوتان في أوروبا إلا وتحالفتا ضد ثالثةٍ، قبل أن تعودا إلى الاقتتال من جديد. انتهت الحرب باتفاقية راشتات عام 1714، بتقسيم ممتلكات إسبانيا بين المتنازعين، حفاظاً على موازين القوى الأوروبية.

يشبه موقع سورية في موازين القوى الإقليمية موقع إسبانيا في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، ليست مهمةً بحد ذاتها، لكنها تغدو مهمةً جداً بتحالفها مع غيرها. لهذا السبب تحديداً، لم يكن ممكناً تصور أن يندلع صراعٌ على حكم سورية، من دون أن يتحوّل إلى صراع إقليمي، لكن المفاجأة كانت في تحوله إلى صراع دولي أيضاً. ونظراً لأهميتها وحجم الاستثمارات التي ضخها الجميع فيها، غيّرت الأزمة السورية التحالفات الإقليمية والدولية مرات عدة خلال السنوات الست الماضية، وتوشك أن تعيد خلطها اليوم من جديد، من دون ضمانةٍ بأننا وصلنا إلى خط النهاية.

مع بداية الأزمة، كان النظام السوري يتمتع بشبكة تحالفاتٍ إقليمية واسعة، أفسدها بدموية تعاطيه مع الحركة الاحتجاجية، فحوّل أقرب حلفائه خصوماً. خلال هذه الفترة، بدأت تختفي الخطوط الفاصلة بين ما كان يسمى محور الممانعة ومحور الاعتدال، لتظهر تحالفاتٌ جديدةُ جوهرها الموقف من التغيير والثورات العربية. وفيما كان موقف بعض الدول من قضية التغيير واضحاً منذ البداية، ناست دولٌ أخرى بين المحورين، فكانت إيران في المحور الداعم للثورات في تونس ومصر والبحرين وحتى في ليبيا، على الرغم من تحفظها على التدخل الغربي، إلى أن بلغ المد سورية، فنكصت على عقبيها. السعودية التي قادت معسكر الثورة المضادة، وقفت ضد الثورة في المبدأ، إلى أن بلغت سورية، فوقفت معها لاحتواء إيران.

ظهرت للاستقطابات الإقليمية حول المسألة السورية امتدادات دولية، وهذه ظاهرةٌ نادرة، لكنها ليست فريدةً في العلاقات الدولية (أن تتشكل محاور وتحالفات دولية انطلاقا من صراعات إقليمية أو محلية)، فوقفت الولايات المتحدة إلى جانب ثورات الربيع العربي حتى سبتمبر/ أيلول 2012، حين تم اقتحام سفارتها في بنغازي وقتل سفيرها فيها، لتأخذ موقفاً متحفظاً، أو أقرب حتى إلى معسكر الثورة المضادة. أما روسيا، ومعها الصين، فقد وقفت بالمبدأ ضد الثورة، وكانت الأكثر اتساقاً في مواقفها.

ومع احتدام الصراع، دخلت روسيا في علاقة تحالفية مع إيران، لمنع تركيا ودول الخليج العربية من الظفر بسورية التي لم تبد مهمة للأميركان. لكن، وبعد صراعٍ مرير تخلله احتكاك عسكري مباشر، حقّقت تركيا وروسيا تقارباً أقلق الإيرانيين، كما اتضح في اتفاقي حلب وأنقرة. أما السعودية فلم تبد مستاءة من تنامي النفوذ الروسي في سورية، إذا كان يتم على حساب النفوذ الإيراني.

مع دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، توشك سورية أن تخلط التحالفات من جديد، إذ يتوقع الرئيس الأميركي المقبل من نظيره الروسي أن يساعده في احتواء النفوذين، الإيراني في الشرق الأوسط، والصيني في شرق آسيا، وهو أمر قد لا يجد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، غضاضةً في فعله، إذا تمكن ترامب من التغلب على مقاومة "الاستبلشمنت" في واشنطن لتقارب روسي-أميركي، لكن هذا سيعني، في المقابل، تقارباً أكبر بين الصين وإيران. كل هذه وأكثر قد يحدث بانتظار "راشتات" سورية، يتوافق فيها الجميع على بقائها دولةً "واحدةً حرّة مستقلة، ومحايدةً في علاقتها بالقوى المتنافسة".

اقرأ المزيد
٤ يناير ٢٠١٧
ليلة رأس السنة السورية

مع إعلان وقف إطلاق النار الذي ضمنته روسيا وتركيا في سورية، وبعد الوعود التي تلقاها الشعب السوري بالنية على التفاوض بين النظام وسبعة فصائل مسلحة تمثل المعارضة، متجاهلةً باقي الشعب السوري وما يريد ويتمنى، خصوصاً أن عاماً انطوى بمرارته، وآخر جاء يحمّله الناس رغباتهم وأمانيهم. ومع الهدوء النسبي الذي عمّ معظم الجبهات، فتحت جبهاتُ جديدة في الأماكن التي يمكنها الاحتفال بليلة رأس السنة، كما بمناسبات أخرى، منها "الانتصار" الذي تحقّق ميدانياً في حلب، والذي كان ضحيته سقوط أبرياء مدنيين كثيرين، وتهجير الآلاف، وهدم الأحياء وما تلاه من ظاهرةٍ ازدهرت على هامش الحرب، أي "التعفيش" الذي يمارسه من كسبوا المعركة، فظنوا أنهم كسبوا الحرب والمستقبل.

في المناطق التي تخضع لإدارة النظام، حيث لا معارك، ما خلا بعض السيارات المفخخة أو الصواريخ التي يمكن أن تلقى على بعض المناطق، فتحصد أرواحاً بريئة أيضاً، كان هناك مهرجانٌ للعنف والموت، بادّعاء الفرح والاحتفال بقدوم عام جديد.

كانت أصوات الرصاص الذي انهمر كالوابل من السماء أكثر من ساعة، بل ربما ساعتين، وحدها كفيلة بإخراس أي صوت آخر، زهقت أرواح عديدة جرّاء هذا الرصاص الطائش الغادر، أعطبت آلياتٌ لا يمكن حصر عددها، هشّم زجاج كثير. كان مهرجاناً للاستعار المجنون الذي لا يمكن أن يناسب أي ادّعاء فرح أو احتفال، بل كان دليلاً دامغاً على الانحدار الرهيب نحو الغرائزية المدمرة لدى مجتمعٍ انتزع منه أغلب ملامحه الإنسانية، فلم يبقَ في وعيه أو ضميره مكان للمنطق أو الرحمة أو الإحساس بالحياة.

هي فرصةٌ لاستخدام السلاح. السلاح المتروك بين أيادٍ يدغدغ مشاعرها التي حقنت بما يكفي للتعبير عن حالةٍ وجوديةٍ متنازع عليها، إما نحن أو هم، فمن لم يستطع استخدام سلاحه في جبهة قتل، وبقي يتفقد جدارته، ويصونه طوال هذه المدة، كان لا بد أن يفرغ شحناته العاطفية بادّعاء الفرح والاحتفال. صار السلاح متوافراً في سورية أكثر من السلع الحياتية، ليس فقط منذ ست سنوات، ومع بدايات انتفاضة الشعب السوري، بل منذ عقود، سلعة رائجة في سوق التهريب التي كان لها أمراؤها المحميون بغطاء منيع من أركان النظام، أو ممن هم في السلطة، على الرغم من تقييد حيازة السلاح بالقانون، إذ لا يمنح السلاح الشخصي إلا بموجب ترخيصٍ يمنح للشخص بموجب بنود قانونية ومعايير تحدّد من يمكن له حيازته، إلا أنه بات متوافراً بسهولة، فكل الأفراد والعناصر المشتغلين بالأمن، على مختلف فروعه، وفي الشرطة والجيش، وكل الملحقين بهم في الظل كانت في حوزتهم أسلحة يفترض استخدامها فيما يتعلق بضرورات الوظيفة، لكن السلاح كان مثل غيره من لزوميات العمل الوظيفي، أو الواجب الوطني، اجتاز الحد الفاصل بين العام والخاص، مثلما كانت السيارات الحكومية تستخدم للخدمة الشخصية والمشاوير الخاصة وخدمة المنازل، صار السلاح أداةً شخصيةً يستعمله حامله في كل لحظات هيجانه الانفعالي، بل صار وسيلة تباهٍ وتفاخر بالسطوة والسلبطة، واستغلال الناس بحكم القوة والقدرة.

ازدهرت تجارة السلاح في السنة الأولى لانتفاضة الشعب السوري، مواكبة للقنابل الدعائية التي فجرتها كل المنابر الرسمية أو غير الرسمية، فالإشاعة من أهم المنابر التي تصنع الرأي العام والمواقف العامة، عندما بدأت الطوائف تشعر أنها مستهدفة، طوائف مستهدفة من النظام ومواليه وحلفائه، وأخرى مستهدفة من المسلحين القادمين بمشروع إقصائي يقوم على العنف، ورسالته القضاء على الكفار، ومن لا يشبهونهم. وصار السلاح متاحاً بشرعيةٍ يضمنها واقع أقوى من قانون منتهك منذ عقود، والسلاح أداة ستستعمل بمجرد توفرها بين الأيدي، فكيف إذا كان توفرها مرافقاً لحالةٍ كما التي وصلت إليها سورية؟

مع هذا التحول الدراماتيكي للواقع السوري، انحدر عيد رأس السنة، بكل تسمياته، إلى قاع العنف، فقد هويته التي كانت جزءًا أساسياً من هوية الشعب السوري التاريخية التي تميزت بالقدرة على الاحتفال بالحياة. قديماً كانت هناك طقوسٌ محليةٌ تخص مناطق عديدة في سورية، هي خليطٌ بين عادات وشعائر دينية ضاربة في القدم، مرتبطة بالميثولوجيا الغزيرة التي تتميز بها المنطقة، فهناك "أكيتو" رأس السنة عند الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين الذي يقع في اليوم الأول من شهر إبريل/ نيسان، ويستمر اثني عشر يوماً. وهناك عيد النيروز الذي يعتبره الكرد اليوم الذي انتفض فيه الأكراد تحت راية كاوه الحدّاد ضدّ الملك الضحّاك. جرت العادة في الريف الساحلي أن يتم الاحتفال بعيدٍ يوافق رأس السنة الميلادية، بحسب التقويم الشرقي، يدعى عيد القوزلي، يصادف في الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني. وكان لكل أسرة أن تربي جدياً لهذه المناسبة، حيث تجتمع العائلة مساءً، وتبدأ السهرة في ليلة الثالث عشر منه، يتزاور الناس، ويعقدون سهرات الغناء والطرب.

كانت معظم هذه الأعياد الضاربة في القدم في تقاليد السوريين مناسبة للاحتفالات الجماعية التي تظهر أنماطاً من الروح الجمعية المتكافلة التي تصنع الفرح، وتجدّد الهمة والنشاط، كما كان يشارك فيها كل الساكنين، ولا تخلو من العرض الجميل لكل أشكال الفعاليات الحياتية، والتراث الغنائي والفولكلوري، حتى الأزياء كانت لها هويتها، وإذا اتخذت بعض هذه الأعياد معنىً قومياً، مثلما هو النيروز لدى الكرد أو الأكيتو لدى الآشوريين، وغيرهم ممن يحتفلون به، فإنها لا تخلو من روح الطبيعة أو الروح الفلاحية التي تعود إلى البدايات التي انتهج فيها إنسان هذه المنطقة الزراعة، وتوطدت علاقته الوجدانية والروحية بالأرض والطبيعة، خصوصاً بالنسبة إلى عيد القوزلي الذي يعتبره بعضهم خطأً عيداً دينياً لدى الطائفة العلوية، بينما هو عيد فلاحي شكل ركناً من الهوية التاريخية.

لم يكن السلاح حاضراً إلّا في القرى المتناثرة البعيد عن بعضها بعضاً، كإعلان عن وقوع وفاة، أو قيام عرس لعدم توفر الرسائل السريعة التي توصل النبأ في وقت كان الناس فيه يجتمعون على الفرح والحزن. صار السلاح اللغة الوحيدة التي يجب أن تعبر عن الاحتفال في هذه المناسبات، خصوصاً عيد رأس السنة الميلادية، باعتباره عيداً يشترك العالم كله فيه، وعلى مظاهر الفرح الأخرى، أو لغاته، أن تخرس، مثلما خرست أصوات الشعب المنادية للحرية، منذ ما يقارب السنوات الست أمام صوت الرصاص والسلاح.

كانت ليلة رأس السنة مناسبةً جماعيةً تشيع جو الفرح والبهجة، وتضرم مشاعر العفو والغفران والتسامح، كما يضمر الأفراد فيها نياتٍ إيجابية واعدة ببدايات جديدة وتجاوزات لعثرات الماضي ما أمكن. ولم يكن هناك تمييز في هذه المناسبة بين الطوائف، فقد اكتسب هذا العيد معنىً وجودياً إلى حد كبير. لكن، مثلما كان المدنيون ضحايا الاقتتال في سورية، كانوا أيضاً ضحايا هذا الاحتفال العنيف، بعدما أخرس الرصاص صوت الفرح، وشحّ عدد السفن الراسية في المرافئ التي كانت تطلق أبواقها في مظهر احتفالي بهيج عند الثانية عشرة ليلاً. وأضيفت إلى المناسبة أسباب أخرى لإعلاء صوت الرصاص، مشاعر الانتصار في التحرير، تحرير حلب، حتى لو كان الثمن سقوط الوطن، وسقوط مواطنين أبرياء، هم إخوة في وطنٍ، لطالما ردّدت أجيالٌ، بشكل أجوف، شعارات التغني به وبالوطنية والقومية.

كان رأس السنة الجديدة في سورية دامياً، فقد حصد الرصاص أرواحاً عديدة، كانت تريد أن تفرح ليلة واحدة، فكان لعربدة الرصاص الأولوية. هذه سورية التي لم تعد "مفيدة".

اقرأ المزيد
٤ يناير ٢٠١٧
كوارث إيران في سوريا

ربما يعرف الكثيرون ما فعلته، ولا تزال، إيران في العراق، وهناك الكثير والكثير مما يقال على هذا الصعيد، ولكنني أقصد تحديدا ما يتعلق بتغيير الهندسة الديموغرافية لهذا البلد العربي العريق، فقد كانت تعقب تحرير أي مدينة أو محافظة عراقية من أيدي تنظيم “داعش” الإرهابي حملات تطهير مذهبية الطابع يقودها جنرالات الحرس الثوري الإيراني، وينفذها الحشد الشعبي، الذي يعرف الجميع هويته وتشكيله الطائفي البشع، وكونه ذراعا خبيثة لتنفيذ المؤامرة الإيرانية في العراق.

الجديد في خطط التوسع الطائفي الإيراني إقليميا، هو ما يحدث في سوريا حاليا، حيث يكرر جنرالات الحرس الثوري، بقيادة الجنرال قاسم سليماني، خططا استعمارية تستهدف إعادة الهندسة الديموغرافية في المدن السورية، والغـريب أنه رغم الدور الإيراني الخبيث والقبيح في آن واحد معا، فإن الرئيس السوري بشار الأسد يحتفل بتحرير المدن ولا ينظر إلى ما يحدث حوله، بل لا يهتم به من الأساس، فمن ضحى بأكثر من نصف شعبه، وتركه فريسة للتشرد واللجوء السياسي كي يعيش نظامه، لن يهتم بكل تأكيد بإعادة تموضع بضعة ملايين من هؤلاء السكان. العرب والعالم أجمع يتابعون كيف تقوم إيران بإعادة تقسيم سوريا فعليا وتهيئة الأرض لهذا التقسيم، الذي يتم وفق تخطيط تآمري طائفي بشع، ومؤخرا تفاوض جنرالات الحرس الثوري مع أحد التنظيمات الإرهابية بشأن مستقبل مدينة الزبداني الواقعة غرب دمشق، الواقعة تحت سيطرة هذا التنظيم، حيث عرض القادة الإيرانيون تفريغ المدينة من سكانها المسلمين السنّة واستبدالهم بآخرين، عبر نقل سكان قريتين شيعيتين إلى هذه المدينة.

إعادة الهندسة الديموغرافية في سوريا تستنسخ السيناريو العراقي، في تنفيذ لأحد أخطر أهداف إيران من التدخل في سوريا، وتعليقا على ذلك قال مسؤول لبناني “لا يريد الإيرانيون أي وجود للسنّة بين دمشق والحدود اللبنانية. هناك خطة واضحة لتغيير التركيبة الطائفية للسكان على طول الحدود”.

إيران لا تكتفي بإعادة توزيع سكان سـوريا تحت مرأى ومسمع من العرب والعالم كله، بل تقوم أيضا بتنفيذ استراتيجية متكاملة للتلاعب بهوية سوريا التاريخية، وتعتمد في ذلك على محاور عدة منها نقل شيعة عراقيين للسكن في سوريا، حيث تشير تقارير موثوقة إلى عمليات نزوح جماعية منهجية للآلاف من الشيعة العراقيين إلى مدن سورية بعينها. ومن هذه المحاور أيضـا تنفيذ سياسة تشبه سياسـة الاستيطان الإسرائيلية في بدايـاتها الأولى، وذلـك من خلال شراء الأراضي والعقـارات ورعاية النزوح الشيعي العراقي إلى هذه الأراضي والعقارات، لتأمين نقاط تمـركز ثم انتشار وكثـافة سكانية طـائفية في مـراحل لاحقة.

تحويل موازين القوى ديموغرافيا والتلاعب بالهندسة الديموغرافية للدول العربية، خطة تآمرية نفذتها إيران في العراق، وها هي تمضي على قدم وساق في سوريا، والكل يراقب ويتابع ويكتفي بالمشاهدة من دون أدنى تعليق.

الدول العربية لديها موقف رافض للاستيطان الإسرائيلي، والتلاعب بالهندسة الديموغرافية للأراضي الفلسطينية المحتلة، ويجب أن ينال ما تفعله إيران في سوريا الاهتمام ذاته، حتى الأشقاء العرب الذين يدعمون موقف النظام السوري، عليهم أيضا الانتباه إلى خطورة ما تفعله إيران في سوريا، فالأمر أخطر من مصير الأسد أو غيره، وما يحدثه جنرالات الحرس الثوري لن يعيد سوريا إلى ما كانت عليه، ولن يعيدها إلى الصف العربي كما يعتقدون، بل سنكون في مواجهة نظام موال تماما لإيران وراع قوي لمصالحها وتابع لأجندتها، سواء بقي الأسد أو غادر. تدرك إيران أن سوريا لن تعود دولة واحدة كما كانت، وتعد العدة لتقسيم تجري تهيئة الأرض له في واقع الأمر، وتستعد بإيجاد “كانتونات” شيعية تمثل مراكز لدويلة شيعية ربما تتواصل مع نظيرتها في العراق على المستوى الجغرافي وتكونان دولة واحدة، أو ربما تبقى دولة واحدة من الإرث السوري، والأمر يتوقف على طبيعة تفاهمات القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك كيفية تقسيم “كعكة” المصالح الاستراتيجية في هذا البلد العربي العريق.

إذا كانت إيران تستعد بهكذا سيناريوهات، وتخلق أمرا واقعا جديدا في الخارطة السورية، وتستغل في ذلك الحرب ضد تنظيمات الإرهاب، وتتدخل بقوة من أجل تنفيذ أجندتها الاستراتيجية بعيدة المدى في سوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول العربية، فهل هناك أمل في أن ننتظر موقفا عربيا جماعيا، حتى لو على مستوى الرفض والتنديد، بممارسات إيران في هذا البلد؟

أعتقد أن هناك ضرورة أيضا لفضح ممارسات إيران الطائفية في سوريا عالميا، فالملالي يستعيدون ذاكرة الاستعمار القديم، ويتصرفون على طريقته والعالم يقف موقف المتفرج، ثم يشكو الجميع من اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.

اقرأ المزيد
٤ يناير ٢٠١٧
عملية إسطنبول: إضعاف تركيا وتقوية إسرائيل

في مطلع العام الجديد كان لا بدّ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن يتهاتفا، لتجديد العهد على استمرار التنسيق الكامل بين دولتيهما بشأن الأزمة السورية. فبعد الحملة العسكرية الروسية التي أنقذت النظام السوري وحمت النفوذ الإيراني في سوريا، وفي سياق تنصيب روسيا نفسها كمرجعية بديلة عن المرجعية الدولية للحل المحتمل، يأتي هذا الاتصال في محاولة لتثبيت هذه المرجعية التي لا يمكن أن تترسخ بمعزل عن التنسيق مع إسرائيل.

التقاطع في المصالح الروسية والإيرانية والإسرائيلية والأميركية على صعيد الأزمة السورية، يكمن في حماية نظام بشار الأسد منذ انطلاقة الثورة السورية، هذا ما تؤكده الوقائع الميدانية والسياسية. فمنذ انكشاف استخدام السلاح الكيمياوي من قبل النظام السوري في العام 2013، واكتفاء الإدارة الأميركية بتسليم النظام السوري للمخزون الكيمياوي العسكري، بدل معاقبته على ارتكابه جريمة استخدامه، بدا واضحا أن مسألة تغيير النظام السوري مسألة ليست واردة في الحسابات الدولية، وهذا ما شجع النظام على الإيغال في ارتكاباته من الإبادة إلى التدمير والتهجير للملايين من السوريين.

ربما لم يخطر في بال الكثيرين من المعارضة السورية أن العالم يمكن أن يتجاوز هذه الارتكابات، وأنه مهما قيل عن دول أصدقاء الشعب السوري ورفضها لبقاء نظام بشار الأسد، اتضح المشهد على حقيقة أن مسألة تغيير النظام السوري أو رأس النظام ليست واردة عمليا، انطلاقا من الحسابات الإسرائيلية والتقاطعات التي تلتقي عند النظام بين طهران وموسكو وواشنطن.

من هنا تكمن خطورة الدخول التركي على معادلة المصالح والتقاطعات المشار إليها. ذلك أن الخطورة التي يتحسسها النظام السوري وطهران من التعاون التركي- الروسي، تكمن في احتمال أن يزعزع الدخول التركي صلابة المعادلة التي تحمي النظام السوري وتحصنه دوليا وإقليميا.

فتركيا التي أعادت ترتيب علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، بالتزامن مع تراجع في العلاقة والثقة مع واشنطن، اتجهت إلى توثيق علاقتها مع روسيا إلى الحدّ الذي يمكن اعتبار تركيا أكثر انسجاما مع الدور الروسي.

من هنا يأتي استهداف إسطنبول بعملية إرهابية في أحد ملاهيها، وأدّى إلى سقوط أكثر من 40 قتيلا والعشرات من الجرحى المدنيين، ليطرح التساؤل حول الأهداف التي تقف وراء هذا الاستهداف، وهو لا يمكن فصله في الحسابات الاستراتيجية عن سياق إضعاف الدور التركي في المعادلة الإقليمية والسورية تحديدا. وهو إضعاف يصبّ دوما في سياق حماية نظام الأسد من أيّ تغيير يوفره الدخول التركي على خط الحل أو التسوية ولو في شروط الأستانة.

إذ لا يمكن لأي مراقب منصف لخارطة عمليات تنظيم داعش الا ملاحظة أن مسار عمليات هذا التنظيم دائما ما كان يصب في مصلحة هذا التقاطع الرهيب في سوريا بين الأسد وطهران وتل أبيب وموسكو وواشنطن.

ولا سيما أن تنظيم داعش وأشباهه في الميدان السوري، لم تتعدّ وظيفته الاستراتيجية خلق مبررات لاستمرار النظام السوري وبقائه. فرغم الرقم القياسي الذي حقّقه نظام الأسد في القتل والتدمير والتشريد، تقوم وظيفة تنظيم داعش على محاولة تغطية جرائم الأسد بعمليات إرهابية تحاول من خلال عمليات حرق الأسرى أو قتلهم بإغراقهم وباستعراض إعلامي مشبوه، لا غاية له سوى محاولة يائسة للقول “نحن أكثر إجراما من الأسد”.

لذا كان هذا التنظيم، منذ نشأته، يسعى إلى تبييض صفحة الأسد الدموية من جهة، وتقويض البديل الموضوعي للنظام الذي يتمثل في الجيش السوري الحر وفصائل المعارضة من جهة ثانية. من هنا لا يمكن النظر إلى نتائج استهداف إسطنبول الأخير إلا في سياق حماية المعادلة التي تحمي الأسد من أي اهتزاز.

لقد شكل عنوان تأمين المصالح الإسرائيلية في سوريا المدخل الذي اعتمدته أطراف حامت عن مصالحها في سوريا. منها إيران على طريقتها وانطلاقا من نفوذها الكامل على الحدود اللبنانية الجنوبية، أو من خلال دعم خيار النظام السوري في حماية الاستقرار على الحدود مع الجولان، إذ يمكن ملاحظة أن كل شروط المحافظة على معادلة الهدوء والاستقرار على الحدود الإسرائيلية، متوفرة بشكل لا يصدق ولا سيما من قبل أطراف تخوض معارك شرسة باسم تحرير القدس. وهو ما يؤكد حقيقة جوهرية في حسابات إسرائيل أن أكثر من يستطيع حفظ الأمن على حدودها الشمالية هو الأكثر ادّعاء بمعاداتها.

هذه لعبة النظام السوري الذي حمى احتلال إسرائيل عمليا للجولان منذ العام 1974 وهي المعادلة نفسها التي اعتمدتها إيران على حدود لبنان الجنوبية منذ العام 2006. فإسرائيل باعتبارها خبرت كل أنواع المواجهات على حدودها مع لبنان منذ تجربة المقاومة الفلسطينية والمقاومة الوطنية اللبنانية، وقبلهما وجود الجيش اللبناني، أظهرت الوقائع أن وجود حزب الله على هذه الحدود هو الأكثر انسجاما مع مشروع الاستقرار على هذه الحدود.

وكلما امتدّ الخراب في سوريا وزاد القتل والتشريد والتهجير من قبل النظام السوري والميليشيات الإيرانية، يقابله المزيد من الهدوء والاستقرار على الحدود السورية مع إسرائيل، والمزيد من الهدوء في لحظة يفترض أن تشكل فرصة لأدعياء تحرير فلسطين أو الجولان لإطلاق أكبر عملية مواجهة مع إسرائيل.

طبعا هذا من المحال لأن المطلوب ليس تحرير الجولان ولا تحرير فلسطين، بل الهدف توفير الحماية للنفوذ الإيراني في سوريا ولبنان وحماية نظام الأسد، وإزاء هذا المطلب يمكن فعل أي شيء باستثناء المسّ بأمن إسرائيل. هذا ما سارت عليه روسيا بتعزيز تعاونها مع إسرائيل، وما التزمت به إيران التي أمعنت في تدمير سوريا لتدافع عن نظام الأسد، وكانت متورطة وشاهدة على أكبر مأساة في هذا القرن، طالت شعبا من شعوب العالم.

فالحقيقة المتحققة حتى اليوم في سوريا أن بلدا عربيا ودولة من دول العالم الإسلامي يمنع عليها أن تحظى بحق اختيار نظامها السياسي، ويفرض عليها أن تخضع لدكتاتورية لا شرعية لها بعدما فقدت القدرة على حكم سوريا إلا بقوة الخارج، وفقدت القدرة على الاستمرارية لتوفير مصالح هذا الخارج إلا بوجود جيوشه وميليشياته.

أزمة سوريا اليوم ومهما قيل عن أخطاء الفصائل المعارضة، تكمن في أننا أمام نظام سوري يتهالك ويتداعى وصار بحكم وظيفته، خلال مواجهة الثورة السورية، عبارة عن مجموعة مافيات مالية وعصابات قتل تفتقد الحدّ الأدنى من شروط القدرة على الاستمرار والبقاء. فالتقاطعات الإيرانية والإسرائيلية والروسية لم تعد كافية لمنع النظام من التداعي والانهيار.

من هنا تبدو روسيا مدركة لهذه الحقيقة، وهي التي تحاول من خلال التنسيق مع تركيا أن تحاول إعادة إنتاج الشرعية لهذا النظام. فالدخول التركي تحت المظلة الروسية في مقاربة الأزمة السورية هو مطلب روسي، فيما تدرك تركيا أن نظام مصالحها السوري رهن الإقرار بحتمية إحداث تغيير في النظام السوري. تغيير إن لم يحصل سيجعل تركيا، من منطلق مصالحها أيضا، عرضة لانتفاء دورها وتراجعه ليس على المستوى السوري فحسب، بل على المستوى الإقليمي والدولي بالضرورة.

اقرأ المزيد
٤ يناير ٢٠١٧
هل الآستانة هدنة أم استسلام سوريا؟

هناك حركة دبلوماسية كثيفة وسريعة بشأن الحل في سوريا منذ سقوط حلب، فقد تم التوقيع على عدة اتفاقات، وقسمت العملية السياسية إلى ثلاث مراحل، وحددت تواريخ ومدنا لعقد المفاوضات، 23 هذا الشهر يناير (كانون الثاني) في مدينة آستانة، للتفاوض على تثبيت الهدنة في حلب ووقف إطلاق النار في أنحاء سوريا، و27 الشهر المقبل، فبراير (شباط)، لعقد مفاوضات الحل السلمي في جنيف. وقد اتفق الإيرانيون والأتراك والروس ليكونوا ضامنين لوقف إطلاق النار. الإيرانيون رفضوا إشراك السعودية في مفاوضات الآستانة، وفق ما صرح به وزير الدفاع الإيراني، في حين اعتبر الروس مشاركة السعوديين مفصلية دون أن يوضحوا في أي مرحلة من خريطة الطريق.

ومؤتمر آستانة، العاصمة الكازاخستانية، لا يحظى بإجماع ولا شرعية دولية! تشكك فيه الأطراف الدولية المهتمة بالأزمة السورية، مثل ألمانيا وفرنسا، وكذلك يبدو أن دور الأمم المتحدة فيه محدود. فقد قرر الإيرانيون والأتراك والروس الاجتماع في الآستانة، وجلب المتقاتلين من نظام الأسد والمعارضة السورية المسلحة إلى طاولة الترتيبات الأولية في هذه المدينة المحسوبة على الروس. وبعدها بخمسة أسابيع يقول المنظمون إنهم سيسلمون الملف للأمم المتحدة لإجراء مفاوضات الحل السياسي في جنيف. فهل تكون الآستانة مؤتمرا لفرض توقيع الاستسلام على تركيا والقوى السورية المعارضة، مثل خيمة صفوان، التي وقع فيها صدام حسين وثيقة الهزيمة بعد حرب الكويت؟ أم أن آستانة مؤتمر ترتيبات هدنة ومصالحة أولية تسبق المفاوضات؟ المسألة مريبة حقا.

يزيدها ريبة إغلاق الستائر في الآستانة، وحجب الآخرين من المشاركة، وحتى من الحضور! فتركيا في وضع ضعيف قد لا تستطيع وحدها مواجهة الروس والإيرانيين ونظام الأسد عند فرض ترتيبات الهدنة. ومن العسير على تركيا أن تكون الضامن للفصائل السورية المسلحة، ذات التوجهات المختلفة. وهذا قد يفسر عملية الاستفراد الإيرانية الروسية بأنقرة، التي اشترطت فقط عدم إشراك «حماية الشعب الكردية»، وهي ميليشيا كردية سورية تحظى بدعم غربي. تركيا تعتبرها جماعة تريد بناء منطقة كردية داخل سوريا محاذية لحدود تركيا. كما تم الاتفاق بين الدول الثلاث على استبعاد تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة»، وهناك فصائل أخرى لم تدع ولَم يعلن عن استبعادها، وتم تجاهلها في الوقت الحاضر.

مؤتمر آستانة همه تثبيت وقف إطلاق النار في كل سوريا، الأمر الذي يهم النظام السوري في الوقت الحاضر حتى يتمكن من إعادة الانتشار ومحاولة السيطرة إداريا على البلاد التي أفلتت منه خلال خمس سنوات من الحرب. ووقف إطلاق النار لا يخدم المعارضة في شيء، لأن معظم الممرات أصبحت مغلقة، ويتم استهدافها فرادى من قبل تحالف النظام السوري المدعوم من قوات إيرانية وروسية وميلشيات «حزب الله» والميليشيات الطائفية الشيعية الأخرى التي تحت قيادة الحرس الثوري الإيراني. ويبدو أن الهدف الروسي الإيراني جر القوى السورية المسلحة المعارضة إلى مشروع تفاوضي بطيء في الوقت الذي يتمتعون فيه بحرية الحركة ويمارسون خرق وقف هدنة إطلاق النار في مناطق يختارونها للضغط على الجماعات المسلحة وإجبارها على القبول بشروطهم. كما أن تحالف نظام الأسد يعيد ترتيب موضعه على الأرض، حيث يتم تكليف القوات الروسية بالوجود في المناطق القريبة من تركيا، بما فيها حلب. أما إيران وميليشياتها فتتمركز جنوبا في درعا وبالقرب من الحدود الأردنية، وكذلك في مناطق الحدود مع العراق ومحيط العاصمة السورية، دمشق.

بقي نحو عشرين يوما على مفاوضات آستانة، وهي مهمة لأنها ستوضح لنا أكثر الدور الروسي، إن كان لا يزال متطابقا مع الإيرانيين أم يميل نحو منطقة سياسية متوسطة، لإقرار حل مقبول للجميع. أيضا، سيتبين لنا في المؤتمر موقف تركيا بعد تبدل مواقفها الأخيرة، إن كانت قد قررت التخلص من علاقتها بالثورة السورية والاعتراف بنظام الأسد أو أنها لا تزال تقود العملية السورية إلى جانب أغلبية الشعب السوري.

اقرأ المزيد
٤ يناير ٢٠١٧
لا شيء تغير .. “الجبهات مولعة .. طيران ما عم يهدي ... والهدنة بعدها متربعة عالطاولة المفاوضات معززة مكرمة”

تحاول "إيناس" ، هذه الأيام ، السير بالشوارع بشكل طبيعي ، دون حاجة لأن تسرّع الخطوات أو تلتفت بكل الاتجاهات بحثاً عن خطة هرب في حال بدأ القصف ، وتفكر ملياً بأن تبحث عن نزهة قد تكون بلا موت ، بعد أن تقرر أخيراً تطبيق "هدنة" تشمل مدينتها التي نالت من الموت ما يشبع الأرض.

لدى ايناس ، وهي ممرضة في أحد المراكز الطبية في الغوطة الشرقية ، تخوف من كلمة "هدنة" فهي تعني أنها مفتاح لمجازر دموية ، طريق مميز لتنفيذ مخططات خبيثة .

و دخلت سوريا في هدنة جديدة منذ ٣٠ كانون الأول الفائت ، بعد أن توصلت تركيا و روسيا لاتفاق يقضي، بالبدء بهدنة مؤقتة يتبعها في حال النجاح الدخول بمفاوضات حددت عاصمة كازخستان “الاستانة” مقراً لها ، وسط ضبابية في الرؤية و الكيفية التي ستظهر فيها هذه المفاوضات ، التي لاتعد جديدة أو نوعية ، اللهم إلا من تحكم دولتين (تركيا و رسيا) وحدهما فيها.

لم تخفي “ايناس” ارتياحها نفسياً مع سماعها كلمة “هدنة” ، رغم يقينها أن الهدنة لن تكون فاعلة، فالهدنة برأيها هي “ضحك” على المدنيين ، وتستهزئ ايناس بالهدنة بطريقة أهل الغوطة المعروقين بكثرة “المزاح” ، وتقول :”صوت القصف ماتغير ...بالعكس أشتد ...الجبهات مولعة نار ورصاص وقذايف.... طيران ما عم يهدي لا نهار ولا ليل ....والهدنة بعدها متربعة عالطاولة المفاوضات معززة مكرمة”.

الغوطة الشرقية لعبت دوراً محورياً في مفاوضات الهدنة التي استمرت لفترة ليست بالقصيرة في “أنقرة” ، إذ أصر الجانب الروسي على استثنائها من الاتفاق كما هو حال وادي بردى ، الأمر الذي رفضه ممثلو الفصائل المشاركين بالمفاوضات ، الأمر الذي أجبر روسيا استحياء ضمن المنطقتين ، و لكن عملية الضم كانت على الورق فقط اذا لازالت الغوطة تتعرض للقصف و محاولات الاقتحام من الأسد و حلفاءه و ذات الشيء و إن كان بسوية أعلى بكثير في وادي بردى.

خروقات الأسد و حلفاءه للهدنة ، سواء بالقصف أو غارات الطيران أم بالهجوم البري ، جعلت روتين حياة ايناس ، المقيمة في مدينة دوما وتعمل في مركزها الطبي كممرضة ، لا يتغير فرعايتها لبيتها و زوجها و كذلك قطتها ، فعجلة الحياة لا تتعطل وفقاً لها.

حصار الغوطة الشرقية الذي بدأ قبل أربع سنوات ، صعّب من حياة المدنيين الذين يقدر عددهم ، في تلك الرقعة الملاصقة لدمشق ، بـ ٤٠٠ ألف مدني ، فزوج ايناس يعمل طوال اليوم متجولاً على دراجته الهوائية، مع انعدام أي آفاق أخرى للعمل في منطقة مساحتها تتآكل بشكل مستمر نتيجة الهجمات التي لم تعرف التوقف عليها طوال السنوات الخمس الماضية.

و تسرد ايناس اللحظات القليلة التي سبقت الهدنة ، والتي شهدت مجزرة أودت بحياة ١٤ شهيد غالبيتهم من النساء و الأطفال ، وتقول ايناس أن أقسى مشهد حينها كان لجثمان طفلة لم تتجاوز الـ ١٢ عاما ، تم احضارها إلى المركز دون رأس ، ولا يكاد صوت أنين المرضى و المصابين يغادر آذانها طوال فترة دوامها الممتد من الثامنة صباحاً و حتى الرابعة عصراً ، وفق لنظام دوام ليس بيومي.

حرب النظام و حلفاءه على الشعب السوري التي تنهي عامها السادس ، لم تعرف التوقف أو الانخفاض بالدموية ، وباتت الحرب هي الكابوس الذي يعيشه السوريين ، وما “الهدنة” و لو “كاذبة” إلا فترة راحة من مواجهة الموت بلا أي درع إلا بقايا لباس .

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني