مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١٢ يناير ٢٠١٧
حلب وآستانة: ما بينهما وما بعدهما

تتكاثر الإشاعات هذه الأيام حول المستقبل الذي ينتظر سورية والسوريين، وحول طبيعة النظام السياسي الذي من المفروض أن يلملم أشلاء سورية أرضاً وشعباً. كما تتناول هذه الإشاعات أسماء الأشخاص الذين سيناط بهم إنجاز مهام المرحلة الانتقالية، أو أولئك الذين سيشاركون في مؤتمر آستانة الخ...

والإشاعات، بموجب معطيات علم النفس التطبيقي، تنتشر في ظل توافر عاملين أساسيين هما: الأهمية والغموض. فكلما ارتفعت درجة هذين العاملين تزايدت الإشاعات، وارتفعت وتيرة انتشارها، لا سيما إذا أخذنا في اعتبارنا واقع تقدّم وسائط التواصل الاجتماعي غير الخاضعة لأية ضوابط تمكّن المتعامل معها من التحقق من مصداقية الأخبار وأشباهها.

فالوضع السوري يمثّل أهمية قصوى بالنسبة إلى المواطن السوري الذي بات يتعلّق بقشة، كما يقال، للخروج من النفق المظلم. كما أن الوضع المعني يمتلك حيوية كبرى على المستويين الإقليمي والدولي لاعتبارات مختلفة تتمحور حول المصالح والهواجس والحسابات المستقبلية.

أما الغموض فباعثه الأساسي إبعاد السوريين، معارضة وموالاة، عن الاطلاع على بواطن الملف السوري وأسراره، وعـلى اتـخاذ القرارات المؤثرة في شأنه.

فالمعارضة بكل هيئاتها ووظائفها السياسية والميدانية مجرد موضوع منفعل، ماهيته ردود الأفعال تجاه الجهود الإقليمية والدولية. هذا في حين أن النظام سلّم أموره منذ زمن بعيد إلى الراعي الإيراني وأذرعه، ومن ثم إلى الحليف الروسي الذي يبدو أنه يتطلع إلى حصيلة مغايرة لتلك التي يرمي إليها النظام الإيراني ويعتمد سياسة لا تطمئن ولي الفقيه على طول الخط.

وقد بدأ الغموض يلف موضوع الحل السياسي في سورية مع بدايات الغزل الروسي - الأميركي، الذي تحوّل لاحقاً إلى عتب المحبين - المتخاصمين.

ومع ظهور نتائج الانتخابات الأميركية بمفاجأتها الكبرى، انتقلت إدارة أوباما إلى سياسة التصعيد المحدود المدى مع الروس، وذلك انتظاراً لمجيء الإدارة الجديدة بقيادة ترامب الذي يحيّر الجميع ويربكهم بغموض توجهاته، وسرعة انعطافاته، الأمر الذي يسمح بإطلاق العنان لمخيلات نسج الإشاعات وترويجها. هذا علماً أن إدارة أوباما بوعودها التبشيرية ونتائجها الواقعية الصفرية تظل المسؤولة الأولى عن انهيارات منطقتنا.

وفي أجواء ترقّب المقبل المجهول من جانب ترامب، قام الروس بتنسيق غير مسبوق مع الجانب التركي وسط مناخ يوحي بوجود توجه جدي روسي غير عادي في التعامل مع الملف السوري، وذلك عبر استثمار حصيلة ما بعد حلب، وتجاوزها في الوقت ذاته.

فقد حقّق الروس بإسقاط حلب جملة أهداف من الواضح أنها ستكون ركائز خطتهم الجديدة الخاصة بسورية تحديداً، وبعلاقاتهم الإقليمية والدولية في صورة عامة.

فقد أثبتوا مقدرتهم الميدانية بقوة نيرانهم الاستراتيجية في مواجهة مدينة محطمة، ومدنيين محاصرين، ومقاتلين تقرّر حرمانهم، بفرمان سياسي دولي، كل وسيلة للدفاع عن النفس في مواجهة الطيران.

كما تمكّنوا من انتزاع دور في الملف السوري معترف به، ولو على مضض إقليمياً ودولياً. واستطاعوا في الوقت ذاته إفهام الحليف المنافس، أي النظام الإيراني، أنه لن يكون الآمر الناهي في سورية مستقبلاً، سورية التي تحتل في لعبة التوازنات الدولية موقعاً أهم من أن يترك لقمة سائغة للمشروع الإيراني القائم على أساس التطويع السكاني والتغيير المذهبي، وفرض نهج ديني أوتوقراطي لا تستسيغه غالبية الطائفة العلوية نفسها، ناهيك عن المذاهب والأديان الأخرى، لا سيما السنّة، أي الغالبية الغالبة في بلاد لا يناسبها سوى الاعتدال والتعايش بين الجميع ومن أجل الجميع.

من ناحية أخرى، عزّز الروس وجودهم الدائم في المياه الدافئة، وهذا ما سيمنحهم فرصة أداء دور مستمر لعقود مقبلة في عملية ترتيب أو إعادة صياغة معادلات التوازنات الإقليمية.

ولإدراك الروس حساسية الملف السوري عربياً وإسلامياً، استغلوا اللحظة الحرجة مع استكمال السيطرة على حلب، وعملوا على إعطاء أنفسهم صورة مثالية عن أخلاقية المنتصر. فأجروا سلسلة اتصالات ومفاوضات مع القوى الميدانية، ومن بينها بعض تلك التي كانت روسيا تعتبرها إرهابية، وتقصفها إلى جانب المخابز والمشافي والمدارس.

ونجحوا عبر التنسيق والتفاهم مع تركيا، التي تنطلق هي الأخرى من ظروفها المتداخلة، وأولوياتها المستجدة، من الإعلان عن وقف لإطلاق النار، ومتابعة الاتصالات والمشاورات لتحديد هوية ووظيفة الذين سيشاركون في اجتماعات آستانة، التي يريد الروس لها أن تكون حاسمة قدر الإمكان، مع تيقّنهم من أن المآلات لن تكون وردية لمصلحتهم كما يرغبون، وإنما هناك قوى أخرى مهمة لها دورها المؤثر، وهي لم تقل كلمتها بعد. ويشار هنا عربياً إلى السعودية، ودولياً إلى الولايات المتحدة الأميركية ومعها حلفاؤها الأوروبيون.

النظام الإيراني قلق إلى أبعد الحدود مما يجري. فهو لا يمتلك أدوات الضغط الكافية لعرقلة التوجه الروسي، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن استمرار الأمور هكذا ربما كان مقدمة لبلورة ملامح التفاهم الروسي – الأميركي على أرض الواقع، وهو تفاهم من شأنه أن يحدّ من النفوذ الإيراني في سورية. وهذا النفوذ الذي يتمثّل في صيغة من تغلغل لافت في مفاصل الدولة والمجتمع، يثير عواطف السوريين جميعاً وهواجسهم، وفي اتجاهات مختلفة. فهو يثير امتعاض، أو ارتياح، مجموعة لا يستهان بها من الضباط السوريين الموالين للنظام ممن يرتبطون مع الروس بصلات عدة منها القرابة عبر الزواج، أو القدرة على التفاهم بفعل مشاركتهم في دورات تدريب روسية، أو عبر التقاء المصالح التي عادة يكون التوافق في شأنها مع قوة عظمى أسهل وأقل كلفة، وذلك قياساً بالتفاهم مع قوة أخرى توجهها عقلية تتدخل في تفاصيل التفاصيل.

روسيا تعد العدة لمؤتمر آستانة، وستشاركها تركيا وإيران أيضاً. وليس سراً أن حاجات حيوية قد جمعت بين هذه الدول في الوقت الحالي. لكن الأولويات والمنطلقات والمصالح متغايرة. كما أنه ليس سراً أن الجميع في انتظار الرئيس الأميركي المقبل. ولعل هذا ما يفسر الحرص الروسي على نيل مباركة مجلس الأمن، مقابل التأكيد بأن ما جرى وسيجري لن يكون بعيداً من الجهود الدولية لمعالجة الوضع السوري. ولهذا كانت الإشارة المقتضبة إلى بيان جنيف والقرارات الدولية، والزعم بأنها ستكون في الخلفية ففي صيغة ما. هذا مع أن ما يستشف من التسريبات والترتيبات يؤكد وجود نزعة تستهدف تغيير قواعد اللعبة عبر آستانة.

وتبقى المعارضة السورية بكل مسمياتها ووظائفها المعنية أكثر من غيرها بكل يُعمل عليه، لأن المصير في نهاية المطاف هو مصير سورية وشعبها. فهذه المعارضة مطالبة بالعمل الجدي من أجل توحيد الرؤية والموقف، وتحقيق التشابك الفاعل بين الجهود السياسية والعسكرية والإعلامية والديبلوماسية، حتى تتمكّن من امتلاك الحد الأدنى من مقوّمات الاستعداد لتحديات المرحلة الصعبة المقبلة.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
تكون المعارضة السورية أو لا تكون

مضت عجلة الحراك الثوري السوري إلى الأمام خلال ست سنوات طاحنة، تغيرت فيها ثوابت كثيرة، وشهدت تغييرات عديدة، وعلى المستويات كافة. ودخلت هذه العجلة في مراحل متعدّدة، اختلطت فيها لحظات الانتعاش مع الانكسار، الوجع مع الأمل، التمدّد والتقلص ...إلخ، وشهدت انعطافات وانتقالات متسارعة في مستويات عملها، واتسمت مآلاتها باحتمالات ظهور متغيّر، يمنحها هوامش عمل جديدة، يعيد خلط الأوراق، ويؤجل الحسم لأي طرفٍ كان، إلا أنه، وبعد زلزال حلب أخيراً، والتداعيات السلبية المتدحرجة على بنية المعارضة وتوجهاتها ووظائفها، وما لحقها من استثمار سياسي روسي، أنتج ما عرف بإعلان موسكو الذي يعرّف الملف السوري بالاتساق مع المخيال الروسي الصرف، فقد بات لزاماً على المعارضة السورية إدراك أزمتها العميقة، وطبيعة امتحاناتها الحالية والمؤجلة. حيث إنه، وعلى الرغم من أن أحد أهم قراءات نتائج معركة حلب بأنها نتاج طبيعي لتضافر (وتنامي) عدة سياقات، تتعلق بمفهوم "إدارة الأزمة"، أفرزت استفراداً روسيّاً أخلّ "التوازن النسبي" الذي كان متحكّماً في المعادلة العسكرية خلال سني الصراع المسلح، إلا أن أهم هذه القراءات وجوهرها يؤكد على العوامل الذاتية الكامنة وراء الخسارة الاستراتيجية لحلب، وفقدان عنصر التأثير في جيوب وجبهات كثيرة، لا سيما في الجنوب وحول العاصمة، وتتمثل في سياسة معظم فعاليات المعارضة (السياسية والعسكرية والمدنية والدينية) في دفع استحقاقاتها إلى الأمام، بغية التهرّب منها، لعدم امتلاكها القدرة على مواجهة تلك الاستحقاقات على المستوى البنيوي تارةً، ولعدم امتلاك القرار الوطني المفضي إلى مواجهة التحديات والامتحانات الداخلية تارات عدة.

وأمام أسئلة واقع "ما بعد حلب" التي لم تعد تقبل التأخير والتسويف والمماطلة، تتدافع ثلاث دوائر مهمة في المجال العام للمعارضة والثورة للإجابة عنها، فالأولى أتت من داخل الجسد العسكري، ولا سيما شقه الفصائلي "الإسلامي"، باحثاً عن "توحيد عابر للفصائلية"، إلا أنه يتجاهل قصداً تحديات الاندماج والتوحيد الفكري ومتطلبات مراجعة المستندات الناظمة لهذا العمل، فنجدها لا تزال تتجاوز الثورة لصالح مشاريع سلطة عقدية سياسية بديلة، ولا تراعي ما تكتنفه الجغرافية السورية من ارتكاساتٍ تتحمل بوصلات عمل هذه الفصائل الجزء الأهم منها، هذا البحث عن صيغ جديدة، بالمضامين الفكرية والسياسية نفسها، لا يخرج عن كونه حركة براغماتية ضيقة الأفق، ستجعل أسباب الحريق والتشظّي السوري مستمرة.

أما الدائرة الثانية فتنبع من الحواضن الشعبية المثقلة بالغضب والألم، وباتت تحت نصل "المصالحات" التي تبتزهم بملفات إنسانية مغرقة في البساطة، في وقت يصدّر النظام هذا التطويع والتجويع والتركيع على أنه "نصر مبين"، أو أمام فوهة البندقية المسلطة عليها من كل الأطراف الفاعلة أرضاً وبرّاً، إذ تجهد هذه الحواضن لتوسيع هوامش فاعليتها عبر الضغط باتجاه مأسسة العمل العسكري الثوري، وضرورة تماهيه مع الثورة ومطالبها؛ والدفع باتجاه اتباع استراتيجيات عمل بديلة، تجنب البنى المحلية أكبر قدرٍ ممكن من الأضرار، عبر تركها للفاعلين المدنيين، وتغيير طبيعة العناصر العسكرياتية المتبعة في "إدارة العمليات"، كتعزيز مفهوم التحصين والهندسة العسكرية، واتباع نهج المهام الخاصة وتكتيك التموضع المتبدل/ المرن، وتبقى سياسة الضغط تلك رهينة فواعل عسكرية، تتحمّل مسؤوليتها التاريخية في "استيعاب المرحلة" والانسجام وظيفياً مع متطلباتها، ويتحكّم بها هامش الزمن الضيق جداً لسياسة الاقتلاع والتهجير التي قد تطاول تلك الحواضن، وتلغي أثر أي ضغط لها.

والدائرة الثالثة، والتي تعد حركيّتها الأكثر خجلاً، والأقل إدراكاً لمآلات المشهد التي تنبئ بتجاوز سكة الحل التي ترتسم لبنيتها، وللأدوار المحتملة كافة، وهي دائرة الممثلين السياسيين، كالائتلاف والهيئة العليا والأحزاب والتيارات التقليدية على سبيل المثال، إذ اتسمت تلك الحركية بالتثاقل، نظراً لأسبابٍ تتعلق بكمون العطالة التي تكتنف هياكلها من جهة، والتسليم لمبدأ استلاب القرار الوطني من جهة أخرى. وكانت ردة فعلها محصورةً ما بين تنظير عبر الفضاء الإلكتروني بشكل يكرس فقدانهم آليات تفعيل الرؤى، أو الاستقالة الشخصية في محاولةٍ منهم للتبرئة من مسؤولية ما جرى، أو لفقدان الأمل في أية فعاليةٍ، ترتجى من تلك الأجسام. وفي المقابل، غاب عن هذه الدائرة أن هذه الأحداث فرصة حقيقية للبدء بامتلاك أدوات التمكين والمبادرة، وتصحيح التشويه الحاصل في العلاقة بين السياسي والعسكري، وإعادة تعريفها بشكلٍ يضبط الحركة العسكرية بعقارب القيادة السياسية، إذ كان متوقعاً منها أن تتبنى مبدأ "حسن إدارة الأزمة"، عبر تشكيل غرف عمليات مستمرة، تستطيع بها توظيف الإنجاز العسكري سياسياً، أو تقلل من تبعات الخسارة، عبر جولات تفاوضية تتيح لها هوامش حركةٍ ما، وتلك هي أبجديات العمل السياسي. أما الاستسلام الكلي لزخم الأحداث وعدم امتلاك القدرة على هضمها وإنتاج مقاربات مواجهةٍ ناجعة فيجعل شخوص هذه المؤسسات غير مؤهلين لقيادة مدرسة ابتدائية، وليس إدارة ملفات وطنية.

وما بين تلك الدوائر وصعوبة الآتي، ينتظر من المعارضة السورية في هذه المرحلة أن تدرك خطورة بقائها كما كانت عليه (سياسةً وأدوات وهياكل)، وأن تجهد في اتباع استراتيجيات ثلاث. الأولى استيعاب الأزمة، والعمل على احتوائها عبر إبداء "التوازن" السياسي للحركة العامة، وعدم الإغراق بجلد الذات بهدف جلد الذات فقط، والتمسّك بأوراق القوة المتبقية في حوزتها، كالشرعية التمثيلية، سواء على المستوى السياسي الدولي والإقليمي، أو على المستوى المحلي ونماذج الحكم المحلي الناشئة، أو حتى ما هو متعلقٌ بتوازن الردع في دمشق ومحيطها، والابتعاد عن اندماجات غير متسقةٍ ومتسرعةٍ، تحمل في طياتها أسباب الانحلال والتصدّع النهائي، وذلك كله بالتوازي مع تفويض مجموعة ورش عمل مغلقة للتقييم والمراجعات والحسم في تعريف العلاقة مع كل المشاريع العابرة للثورية، وللتباحث أيضاً في آليات التغيير، وتذليل كل أسباب العطالة، وامتلاك مقومات الصمود والاستمرار.

تنبع الاستراتيجية الثانية أولاً من ضرورات صد استراتيجية النظام التي تطمح لتركيع مناطق سيطرة المعارضة في الوسط والجنوب السوري، عبر سلاح المصالحات، وذلك بإعداد خطةٍ متكاملةٍ لتحويلها إلى هدن تتوازن فيها شروط كل الأطراف، وتقوم على عنصرين رئيسيين، تثبيت جبهات الصراع بإشراف دولي، ووحدة مصير المناطق المهادنة، والتي ستضمن عرقلة سياسة الاستفراد التي ينتهجها النظام، كما ترتبط هذه الاستراتيجية عضوياً بخيار المواجهة الوجودي مع المشروع الإيراني، والعمل على الاستمرار بضربه سياسياً وعسكرياً. بينما تتعلق الاستراتيجية الثالثة بخيارات المواجهة الدبلوماسية، وقبول كل التحديات المفروضة، وعدم ترك أي شاغر في سياق أي مفاوضات محتملة، واستكمال أي أعمال تتعلق ببرامج ورؤى وآليات تنفيذية، تسهم في التغيير والانتقال السياسي. وهذا نابعٌ من ضرورات الحضور التي تفرضه الواقعية أولاً، والانتقال إلى أدوات النضال السياسي، بحكم التقهقر العسكري ثانياً.

ولعلي أختم بالقول إن كتب مؤرخي التاريخ في صفحاتهم أن المعارضة السورية استطاعت عبور هذا النفق المظلم، فذاك حكماً سيكون مردّه تبلور مفهوم الارتقاء إلى مستوى الحدث ومسؤولياته، ولقدرتها على العودة، والالتحام مع ثورة شعبٍ، يستحق العزة والحرية والكرامة. وإن لم يكتب أولئك المؤرخون ذلك، فلا تلومن المعارضة إلا نفسها، لأنها أضاعت الفرصة، وفشلت في امتحانها الوجودي، وساهمت، بشكل أو بآخر، في مأساة الوطن والمواطن السوري.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
هل انتهت الثورة السورية؟

ما من شك في أن سقوط حلب، وما أعقبه من تراجع في إمكانية تحقيق إنجازات عسكرية استراتيجية للفصائل المقاتلة، قد نشر جواً من التخبط والتشاؤم في صفوف القوى الاجتماعية العديدة التي وقفت مع الثورة في مراحلها المختلفة، وقدّمت تضحيات هائلة من أجل نجاحها. ولأن العديد منها لم يعد واثقاً من ثمار هذه التضحيات، يسود إحباط كبير بين صفوف جمهورها والشعب الذي افتداها بكل ما يملك.

ويساعد هذا المناخ الغامض والمشكك الكثير من الأفراد والمجموعات التي تفتقر لوعي وطني أو التزام اجتماعي على أن تتقدم الصفوف، لتطبق أجنداتها الخاصة، وتجيّر الثورة لأهداف مختلفة عن أهدافها الأصلية.

أما تلك القوى التي لم يكن لها منذ البداية أمل كبير بالثورة، أو التي لم تؤمن بها، ولا تتعاطف مع شعاراتها ومشروعها، فهي تشعر اليوم بالفرح، إن لم نقل بالنصر أمام ما تشهده القوى الاجتماعية التي وقفت وراء الثورة من تقلب الأحوال والشك والانتظار. وأكثر فأكثر تبرز، من وراء الخطاب المحبط، الأطروحات التي تدعو إلى وقف الثورة أو الاعتراف بالهزيمة.

الثورة بين خياري الحرب والمواجهة
جرّت الثورة السورية وراءها، بعد أن عجز نظام الأسد عن كبح جماحها، تحالفاً واسعاً من الطبقات وقطاعات الرأي، ذات التطلعات والمطالب المتباينة، وأحياناً المتناقضة أيضاً التي جمع بينها شعار واحد، هو إسقاط النظام. وفِي ما وراء هذا الهدف الذي يمثل مطلباً عاماً ومشتركاً لم يحدّد التحالف الثوري المضمون الفكري والاجتماعي للنظام القادم، ولكنه أكّد على مبدأ الاحتكام للشعب، مؤكّداً مع ذلك، كما تظهر أسماء جمع التظاهر، على الطابع المدني والتعدّدي للدولة القادمة، واحترام مصالح جميع الأطياف القومية والطوائف على مستوى واحد. وهذا هو جوهر العهد غير المكتوب الذي اجتمعت من حوله قوى الثورة السورية في مظاهراتها السلمية، وهو أيضاً العنصر الأول في بناء النظم الديمقراطية، والأصل في ولادة الشعب بالمعنى السياسي، باعتباره مصدراً للسلطة. والواقع أنه، من دون فتح هذا الأفق الديمقراطي، كانت الثورة ستظل في أفق الهدم والسلبية، ولا ضمان تماسك التحالف الاجتماعي القائم من ورائها، ولا تقديم آلية سياسية للخروج بنظام جديد. الديمقراطية كاحتكام للشعب في كل القرارات المتعلقة بالحياة العامة هي التي تعيد تركيب النظام العام على أسسٍ جديدة، تضمن العدالة التي ثارت قوى متعدّدة ومتباينة المصالح من أجلها، وتساوي بين جميع أفرادها، بما في ذلك الذين لم يشاركوا في الثورة أو كانوا ضدها.

لكن هذا الأفق الديمقراطي الذي سيطر على جمهور الثورة في سنتها الأولى لم يحظ بالوقت، ولا التقى الشروط الكافية التي تسمح له بالرسوخ والتحول إلى خيار ثابت. وما لبث أن تراجع تدريجياً لصالح توجه إسلاموي سيطر على موقع القيادة والتوجيه، في صفوف الفصائل المقاتلة أولاً، ثم على فكر أكثرية المناصرين للثورة في ما بعد.

لم يكن إضعاف الخيار الديمقراطي لصالح الخيار الإسلامي في الثورة السورية مصادفة، ولا لأسبابٍ دينيةٍ أو مذهبيةٍ أو أيديولوجية، وإنما كان هدفاً استراتيجياً اشتغل عليه النظام بالوسائل العسكرية والدعائية معاً منذ اللحظات الأولى. وهذا ما كان مستهدفاً من إنكار حقيقة الثورة وربطها بالإرهاب والرد عليها بإطلاق حرب حياةٍ أو موت، والقضاء بأبشع الوسائل على جيل النشطاء الأول، بالقتل أو الاعتقال أو النفي، وإطلاق سراح زعماء السلفية الجهادية من سجونهم، والاشتغال المنهجي لأجهزة النظام وإعلام حلفائه أيضاً على تأجيج مشاعر الانقسام الطائفي والقومي، ونشر صور المعاملة المهينة والحاطّة بكرامة الإنسان التي تقوم بها قواته على أوسع نطاق، لإثارة رد فعل مماثل، ثم تحالفه مع قوى الحرب الطائفية في طهران، وتبني توجهاتها الجيوستراتيجية. وساهم في الدفع نحو هذا المنزلق أزمة هوية مستدامة في المنطقة وانتشار الأفكار السلفية واستيطان المنظمات المتطرفة (كالقاعدة) التي نشأت في سياق حروب النزاعات الدولية، والتي كانت تربطه علاقات قوية معها في العراق، وكثرة الجمعيات الإسلامية، بل السلفية، التي تتغذى من فوائض اقتصاد الريع النفطي. وأخيراً، الشرخ الذي نجح النظام، وأوساط سياسية يسارية، في شقه داخل جمهور الثورة بين إسلاميين وعلمانيين منذ الأشهر الأولى، متهما الإسلاميين بالسيطرة على الأطر السياسية للمعارضة.

فضّل النظام تفجير الحرب الإقليمية والمذهبية على الاعتراف بشرعية الاحتجاج والقبول بتعديل قواعد عمله وسلوكه. وكما اختار نقل المواجهة إلى المستوى الإقليمي، اختار عن قصد، وكجزء من استراتيجية الحسم العسكري، وتوسيع قاعدة التحالف الإقليمي والدولي لصالحه، خيار الحرب الطائفية والقتل على الهوية لجعل الحرب حرب وجود بين أقليات وأكثرية، ومسلمين وغير مسلمين. ووضع ثقله وثقل حلفائه جميعاً في الميزان في سبيل تحويل الثورة السياسية إلى حربٍ أهليةٍ والقضاء على الخيار الديمقراطي الذي يشكل المشروع السياسي الوحيد الجامع لقوى الثورة، أو القادر على جمعها، ومن ورائها تشكيل البديل المقبول من الشعب لنظام الأسد. وكما قادت هذه الاستراتيجية إلى احتلال المليشيات الطائفية، وزعيمها الولي الفقيه في طهران، مقدمة المسرح في صف الثورة المضادة، أدت أيضا إلى هيمنة الفصائل الإسلامية على معظم قوى الثورة وقياداتها، ودفعت إسلاميين كثيرين في العالم إلى التعاطف معها، والضغط لمذهبتها، وحكمت بالتراجع المتزايد لحلفائها الأوائل عنها.


إسقاط الخيار الديمقراطي
كما كان ينتظر النظام، ما كان للعسكرة إلا أن تقود إلى تغيير القاعدة الاجتماعية الأساسية للثورة، وإعادة صياغة توجهاتها وبرنامجها السياسيين، على حساب القيادة التي نظمت التظاهرات، والطبقات التي كانت وراءها، قبل أن تقضي، في وقتٍ لاحق، على تظاهرات الاحتجاج السلمي نفسها. ولم يكن من غير المتوقع أن يقود صعود الطبقات الشعبية إلى واجهة الصراع، في ظرف افتقار البلاد إلى أي حياةٍ سياسيةٍ خلال نصف قرن الماضي، وانعدام الخبرة التنظيمية ومفهوم الحوار الوطني نفسه، إلى بروز دور الوجاهات الدينية والعائلية على حساب رجال السياسة والثقافة. هكذا، أدت المواجهة الدموية التي فرضها النظام على الثورة إلى حرمان التحالف الشعبي الذي التأم وراءها من فرصة التبلور والتجذّر والاستمرار، وأظهرت هشاشة أسسه الفكرية والسياسية، وأجهضته قبل أن ينضج، فخبت دعوة الديمقراطية ومشروعها تدريجياً لصالح المنظور الإسلامي السلفي. وظهرت أول مرة محاولة ربط الثورة بمظلومية السنة، وتعريف من كانوا يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة أنفسهم كطائفة، حتى بدا وكأن الدولة الإسلامية، شعاراً ورؤية سياسية، أصبحت مشروعاً سياسياً خاصاً بهم، ولإنصافهم مقابل الدولة العلمانية التي ربط النظام وحلفاؤه بينها والأقليات المذهبية والدينية.

ما ساعد النظام وحلفاءه على تحقيق هذه الأهداف أيضاً عاملان. الأول ضعف مقاومة التيارات الإسلامية الإصلاحية لصعود السلفية وتشوشها بأفكارها، وذلك بسبب حداثة عهدها بالفكرة الديمقراطية وتبنيها السطحي لها، قبل أن تشعر، منذ عام 2016، بخطرها عليها. والثاني ضيق الأفق الذي طبع دائماً تيارات العلمانية العربية، والسورية خصوصاً، والذي حوّل العلمانية إلى عقيدةٍ خاصة إقصائية، وشجع أنصار العلمانية وجمهورها على الدخول في معركةٍ مع الإسلامية الإصلاحية في ذروة الصراع ضد وحشي الطغيان والسلفية الجهادية، بدل السعي إلى جذبها إلى صف الخيار الديمقراطي وقطع الطريق على استسلامها للسلفية.

وعلى مستوى آخر، لم يكن للخيار الديمقراطي، أو أفضل الشعبي، في الثورة السورية أي "حليفٍ" قوي حقيقي، لا داخل سورية، في صفوف النخب الحاكمة والسائدة، ولا في المحيطين، الإقليمي والدولي، ولم تكن أكثر القوى والدول، بما فيها التي أظهرت التأييد لمطالب الشعب، في عداء مع الأسد، ولا كانت لديها أي رغبة فعلية في تغيير النظام الاستبدادي. كانت مصالحها تقتضي امتصاص النقمة الشعبية والقيام بتنازلات جزئية، أي بإصلاحات من داخل النظام نفسه، في اتجاه تخفيف جرعة العنف الدموي التي يفرض على الشعب تجرعها، من أجل الحفاظ على الاستقرار والعلاقات القوية مع سورية. فالواقع أن النظام السوري لم يكن نظاماً سياسياً محلياً أو سورياً، يقوم بوظيفة الحكم، بصرف النظر عن نمط حكمه، داخل سورية وتجاه الشعب السوري فحسب، وإنما كان جزءاً من منظومة إقليمية، وله وظيفةٌ في حفظ التوازنات الجيوسياسية والاستراتيجية المشرقية والشرق أوسطية أيضاً، وربما كانت هذه الوظيفة الثانية الأهم والأصل في بقائه، وفي غض النظر عن أسلوب حكمه وتحكّمه الدمويين. بل إن هذا التحكم ذا الطابع الهمجي الذي لا يعير أهمية لمبدأ، ولا قاعدة ولا عرف، كان نقطة الضعف الرئيسية فيه، وكان بإمكانه لو توفرت له قيادة تثق قليلاً بنفسها ومستقبلها، وتتصرف باحترام أكبر ليس للقانون الوطني والدولي، وإنما لمظاهرهما السطحية على الأقل، أن يكون أكثر قبولاً وتأييداً خارجياً، من دون أن يتعرّض لأي تهديد، بالعكس كان ذلك سيبرّر للغرب والخليج أن يقدما له المزيد من الدعم والمساعدات المجانية.

وليس خافياً أن جميع الدول التي وجدت نفسها مسوقةً لدعم المعارضة كانت من أقرب الحلفاء لنظام الأسد، وأكثرها دعما له، من دول الخليج إلى تركيا إلى أوروبا الغربية. كانت بالأحرى تخاف عليه من الثورة الشعبية بمقدار ما تخاف من الثورة ذاتها على استقرارها و"استقرار" المنطقة، كما ظهر ذلك واضحاً أيضاً في تونس ومصر ودول الربيع العربي الأخرى. وكانت سياستها تقتضي لملمة الوضع، وإيجاد حل سريع يجمع بين النظام والمعارضة، أو ينزع فتيل ثورة عارمةٍ، ويفتح الطريق أمام تسويةٍ سياسيةٍ تؤمن بعض تطلعات الشعب الأساسية، وهي الكرامة المرتبطة بالتسليم بحد أدنى من الحرية الشخصية، أي الحدّ من استباحة النظام وأجهزته الأمنية لحرمة الإنسان وحقوقه الأساسية في الأمان على نفسه وأهله وملكه. وهذا كان مضمون المبادرة العربية التي ستتحول إلى مبادرة دولية، بلورها كوفي أنان في ست نقاط، وعرفت في ما بعد باتفاق جنيف 1. ولم تتحول إلى ثورة مسلحة داخلية، ومن ثم إلى حرب إقليمية تتواجه فيها الدول المؤيدة للأسد والمعادية لبقائه، إلا لأن النظام قرّر قطع الطريق على أي إصلاح، وقضى على أي تعبير عن رغبةٍ في الحوار في صفوفه نفسه، كما تشير إلى ذلك تصفية رجال خلية الأزمة، وفتح الأبواب واسعة أمام التدخل الإيراني المباشر.


من الحرب إلى السياسة
هل يعني هذا أن الثورة السورية قد انتهت، أو أن التحالف الشعبي الواسع الذي وقف وراءها، وضحّى من أجل انتصارها، ما لم يضح به شعب من قبل، قد تفكّك، وأن الخيار الديمقراطي لم يعد له أي أمل في استعادة المبادرة، ولم يبق غير الاستسلام والقبول بالأمر الواقع وإعادة تأهيل النظام؟

ينبغي القول، أولاً، إن الذي انتهى بالفعل هو النظام الذي تحول إلى أنقاض بمقدار ما حول الدولة والبلاد إلى أكوام من الركام والخراب. وأنقاض نظامه السياسي والإداري والفكري لا تختلف أبداً في حقيقة وجودها ومضمونه عن الأنقاض المادية التي نشهدها في المدن والبلدات والأحياء والقرى السورية العديدة المدمرة. وهذا يعني أنه فقد أي مقدرة على التماسك الذاتي وتنظيم نفسه وصياغة أجندة سياسية خاصة به، ولا يستمر في الوجود، على مختلف مستوياته العسكرية أو السياسية أو الفكرية، إلا بفضل ما تبثه فيه الدول الأجنبية المنتدبة باسمه، إيران وروسيا، من النظام والوحدة والاتساق. وقد سلم أمره طواعية، بما في ذلك على الصعيد العسكري، لهاتين الدولتين، وصار رهينة في يديهما. وليس لهذه الدول مصلحة في أن تعيد بناء النظام وتوازنات المصالح بما يساعد على إحيائه بعد موته، ولن تستطيع إحياءه حتى لو سعت إلى ذلك. إنما ستعيد بناء نظام يتفق مع المصالح التي اكتسبتها وتلك التي تراهن على اكتسابها.

وبصرف النظر عما يُشاع ويتداول في الصحافة اليومية، لن تقوم للنظام قائمة بعد الآن، كما لن يأتي أي حل من الأستانة. وليس ما يدور الصراع من حوله الآن بين الدول والقوى الداخلية والخارجية إعادة تأهيل نظامٍ لم يعد له وجود، وإنما هي تحتفظ به غلالة تخفي من ورائها صراعها على تقرير شكل النظام البديل الذي تطمح كل منها أن تجعله أقرب لأطماعها ومصالحها وأحلامها، وعرضياً على إيجاد الطريقة التي تمكن الأسد وبعض أزلامه من الخروج من دون حساب وعقاب، جائزة ترضية على مهمته وتسليمه لها بالقرار.
ثم إن نظام الأسد انتهى، لأنه لم يكن في أي فترة سابقة في وضع أسوأ مما هو عليه اليوم، للرد على مطالب الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية التي قاتلت ست سنوات متواصلة لإسقاطه. وإذا كان قد أفلس في إقناع الشعب به، والرد على حاجاته وهو في أحسن أوضاعه، الداخلية والخارجية، قبل الثورة، فكيف بإمكانه اليوم، بعد كل هذا الخراب والدمار، في الداخل والخارج، أن يعيد ترميم نفسه، ويرد على تطلعات الشعب الذي أدماه.

لن يوقف الثورة، بمعنى الخروج على نظام الأسد والسعي إلى إسقاطه، وربما اليوم أكثر الانتقام منه، شيء بعد الآن سوى سقوط الأسد بالفعل، ومعه طغمته وطرائق الحكم التي أوصلته إلى السلطة وقواعد ممارسته لها ومبادئه وتوجهاته. وهذا يعني أن الثورة سوف تستمر، والخروج على القانون يتحوّل قانوناً ما دامت الدولة أصبحت هي نفسها من دون شرعة ولا قانون. وإذا لم ينجح التحالف الشعبي الواسع في إسقاط الأسد بالضربة القاضية، نظراً لقوة الدعم الخارجي له، فقد قتله في حرب الاستنزاف الطويلة. وهذا ما حصل بالضبط. وما نراه اليوم هو جثته التي يحافظ عليها ورثته بماء العين لإخفاء الوجه القبيح للاحتلال الأجنبي.

لكن سقوط الأسد ونظامه لن يحل وحده المشكلة، ولن يجلب الأمن والاستقرار والازدهار، فبديله لن يكون سوى حكم الاحتلال والانتداب الأجنبي معاً، وبالتالي الاستمرار في الفوضى والنزاع. لن يحقق الاستقرار والأمن والعودة إلى الحالة الطبيعية وحكم القانون، وعودة الأعمال إلى ما كانت عليه، سوى النجاح في إقامة النظام الذي يمثل الشعب، ويستجيب لتطلعاته ويلبي حاجاته، وفي مقدمها الحاجة إلى الكرامة والحرية، أي إلى الاعتراف بسيادة الشعب وحقه في تقرير مصيره، وقبل ذلك بوجوده كياناً وهويةً وأصلاً، وإخضاع النخب الحاكمة له ولخدمته، لا العكس. وهذا هو المخرج الديمقراطي للثورة السورية، وهو المخرج الوحيد الذي يسمح بإعادة تشكيل التحالف الشعبي الذي ثار ضد الأسد، وتعزيز أركانه الفكرية والسياسية والاجتماعية، بما يساعد على تحويله إلى قطب رئيسي قوي، تدور من حوله الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، وقاعدة قوية لنظام سياسي اجتماعي متين وراسخ، يصمد لإغراءت الانقلابات على الدستور، عسكريةً كانت أم مدنية.

انتهت مرحلة أولى من الثورة السورية، وبدأت مرحلة ثانية يسيطر عليها العمل السياسي، من دون أن يعني ذلك التخلي عن المقاومة المسلحة، أو الاستهانة بدورها. وجوهر مهام هذه المرحلة إعادة تجميع وتوحيد القوى الشعبية التي شتتها القتال الوحشي والدامي، وترميم التحالف الديمقراطي الذي زعزع أركانه التدخل الأجنبي، وحل تناقضات المصالح بين جماعاته وطبقاته وتياراته، والذي يستطيع وحده إعادة وضع السياسة السورية على قدميها، والسماح للمجتمع السوري أن يدخل، أخيراً، في السياسة، بعد نصف قرن من الحرب، الباردة والدموية معاً، وما خلفته من جراحات وندوب وانقسامات مذهبية وقومية وضياع لا يمكن لأي سلاح قاتل أن ينجح في علاجه. وفي هذا الانتقال المنتظر من الحرب إلى السياسة، ليس هناك رهان سوى على جيل الشباب الجديد الذي عركته معارك الكفاح، من أجل التحرّر من العبودية، ولم تعد له علاقة بثقافة الماضي، ولا بأوهامه ومخاوفه. هو وحده المؤهل لاستعادة المبادرة.

فسورية القادمة إما أن تكون ديمقراطية أو لن تكون.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
وادي بردى مصالحات الماء

وادي بردى محاط بغوطة شديدة الخضرة تلامس ظهر دمشق، وتؤمن المجرى المائي الذي يروي أهالي العاصمة، تتوزّع قراه الثلاث عشرة على طول النهر، وتدنو بيوتها إلى أقرب نقطة من حوافِ الوادي وضفاف النهر. يمتلك الوادي كل المياه التي تحتاج لها دمشق، والتي يتم حصادها خلال موسم الشتاء من على المنحدرات الجبلية التي تحفّ بالوادي، وتنحدر خلال فصلي الربيع والصيف على طول المجرى، ولمسافة خمسة وثمانين كيلومترا. شكَّل وادي بردى رئة دمشقيةً وخزاناً مائياً عذباً، وصنِّفت مياهه بأنها من أعذب مياه الدنيا.

خرجت منطقة الوادي عن سلطة النظام في وقت مبكر من عمر الثورة وما زالت. لكن، لم يشكل امتلاك ماء الشام والقدرة على التحكم بمجراها طوق نجاة للسكان، فصبّ النظام حممه على الوادي، وحاصره وقتل عديداً من أبنائه.

بعد سيطرة الأهالي على قراهم، وخروج أجهزة النظام من وسط البلدات وتشكيل الجيش الحر، ضرب النظام حول القرى الحصار. ومع بداية عام 2012، هدّدت كتائب الجيش الحر بقطع مياه النبع عن دمشق، بعد الحصار الخانق على سكان المنطقة من النظام، فلمحوا إلى إمكانية إيقاف ضخ المياه من نبع الفيجة. أذعن النظام عندها، وخفّف من ضغطه على قرى الوادي، وجرى تسليم النبع وملحقاته الميكانيكية والفنية إلى جهةٍ تقنيةٍ متخصّصةٍ قامت بإدارته. جرت الحادثة الثانية في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014، فقطعت تنظيمات إسلامية ناشئة المياه فعلياً عن مدينة دمشق، وذلك بعد أن قصف النظام قرى الوادي، وبدأ سكان دمشق بالشكوى من شحّ المياه التي سرعان ما عادت، بعد أن أُجبر النظام على وقف القصف.

يرغب النظام المنتشي بعمليات التهجير التي يسميها مصالحة بتوسع استراتيجي حول دمشق، وتكبير نصف قطر أمانه الذي يحيط بالعاصمة. وقد بدأ، مع أواخر العام الماضي، بالتغلغل إلى الريف الغربي، فاسترجع داريا بعد حصار السنوات الخمس ثم المعضمية، ولا تزال قرى وادي بردى تشكل للنظام فضاءً متصلاً مع الريف الغربي، وتحقق له تواصلاً مع الحدود اللبنانية السورية، وتقفل القوس المفتوحة في الزبداني في أقصى الشمال المحاذي للحدود، هذا القطاع هو المكان الذي يتحرّك حوله حزب الله بحيوية، ولديه رغبة واضحة بالاستيلاء عليه، وربما محاولة الحزب منع الوفد الروسي الذي دخل إلى المنطقة، لعقد اتفاق إدخال ورشات الصيانة، هدفها تصعيد الضغط على الأهالي، من دون اعتبار لتعطيش سكان دمشق، الأمر الذي لا تلقي له مليشيا حزب الله بالاً، لكنها حاولت اتهام الطرف الآخر بهذا التعطيل من باب رفع العتب، فبالرجوع وراءً نجد أن المبادر في تحريك هذه الجبهات عسكرياً، وتعريض النبع للخطر، هو الجانب الذي يُحاصِر، والذي يمتلك الأسلحة الثقيلة القادرة على تدمير منشآت النبع المدنية والميكانيكية. وبعد أن تخسر فصائل المنطقة امكانية التحكم بالماء، سيصبح من السهل على النظام خنق الوادي، وفرض "المصالحة" التي يرغب بها.

الأخبار الآن متضاربة حول التوصل إلى اتفاق، واختراقات محدودة تتم بين ساعة وأخرى، ولكن الحقيقة أن دمشق بلا ماء منذ أكثر من أسبوعين، ولو حصل توافقٌ فسيكون نسخةً عما سبقه، وسيتضمن عمليات تهجير وإذلال وإحلال سكاني.

دمشق التي لطالما اعتمدت في حياتها على مياه النبع في خطرٍ حقيقي، وكتلة سكانية كبيرة تحت تأثير العطش، في ظل عدم توفر بديل عاجل، وهذه حجة سيضعها النظام في رصيده، عندما يتهم "الجماعات الإرهابية". وحتى بعد عمليات الإصلاح التي يفضل النظام أن يجريها حين يدخل بقوة السلاح إلى منطقة النبع، لن تكون دمشق في منأىً عن التهديد، حين يملأ جنود حزب الله الوادي من الزبداني وحتى الهامة. وعندها، سينضم نهر بردى ذاته إلى نبع الفيجة، في تقاسم خطر الاحتلال، وكل سكان دمشق سيصبحون رهائن ماءٍ في يد حسن نصر الله.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
دمشق أو حافظ بشار الأسد

أثبتت أحداث السنوات الماضية في سورية أن كل خسارة للثوار في دمشق ومحيطها تقرّب الثورة أكثر إلى شكلٍ من أشكال التمرّد، في حين أن أي ربح تحققه الثورة في بقية أنحاء سورية لا يعتد به، وليس له قيمة إستراتيجية مهمة في عملية إسقاط النظام.
لم تغير سيطرة المعارضة على مدن وأرياف واسعة في سورية من معادلة الحرب، بقدر ما تحوّلت تلك المساحات إلى أمكنة لإستنزاف الثورة والثوار، سواء على صعيد رصيدها من المقاتلين، أو من رصيدها لدى البيئات الحاضنة لها، والتي ذاقت الأمرين، ذلك أن أي منطقة سيطر عليها الثوار حوّلها النظام إلى جحيم أرضي، وشرّع بحقها كل أشكال العنف، من دون رحمة.

وفي ظل سيطرة سلاح الطيران على المعركة، وسهولة استهدافه أي منطقة، لم يكن من الممكن الاستفادة من الأراضي المحرّرة لبناء سلطةٍ بديلةٍ عن سلطة النظام ومؤسسات خدمية ومدنية، وهي من المفترض أن تكون جوهر عملية تحرير المناطق. وبالتالي، حوّل انتزاع هذه المهمّة عملية تحرير المناطق إلى استثمار مكلف ومحكوم عليه بالفشل المحتم.

في فترة سابقة، لم يبق تحت سلطة النظام أكثر من 16 بالمئة من مساحة سورية، بل وصل به الأمر إبداءه الاستعداد للتراجع عن مناطق في هذه المساحة في مقابل احتفاظه بالعاصمة دمشق وسيطرته عليها، فقد اختزل نظام الأسد سورية بها، ووضع فيها أكثر من نصف قوّته، ونخبة جيشه، إدراكاً منه أن الثورات تنجح عندما تسقط العواصم، وطالما بقيت بعيدةً عن العاصمة، فإنها تتآكل وتنتهي إلى صراعاتٍ بين أطرافها مع الزمن، فالثورات في الأقاليم هي تمرّدات، حتى وإن دامت عقوداً، كما أن نهايتها تكون على شكل مطالب خدمية للأقاليم، لا علاقة لها بالنظام السياسي وطبيعة الحكم وآلياته.

تلك كانت من أخطاء عديدة للثورة السورية، ولعلّ الخطأ الأكبر عدم اعتماد الإستراتيجيا بمعناها الحرفي، بعد أن تحوّلت الثورة إلى السلاح. والإستراتيجيا بهذا المعنى تعني رسم خطّة للوصول إلى الأهداف بأقصر مدى زمني، وبأقل قدر من التكاليف، فضلاً عن تنسيق العمل والتكامل بين عشرات، إن لم يكن مئات الفصائل، المقاتلة التي استمرت كل واحدة بالقتال وكأنها هي الثورة كلّها، فما هي الفائدة الإضافية التي جنتها جبهة اللاذقية من نظيرتها الحلبية، بل ما المكاسب التي حققتها جبهات غوطة دمشق الغربية من الجبهة الجنوبية الملاصقة لها؟ الواقع أن الثورة السورية لم تكن سوى مجموعة ثورات، كل واحدة تعمل لأهداف منفصلة، من دون أن يكون هناك تبادلية في المنافع، ولا تنسيق في الأدوار.

شكّلت العاصمة الاستثمار السياسي الأبرز لنظام الأسد وحليفتيه، روسيا وإيران، فمن خلال ضمان السيطرة عليها، ضمن نظام الأسد استمرار عمل مؤسساته التي جعلته الطرف الأكثر واقعيةً في الحكم وقدرة على إدارة شؤون سورية، وكان من غير الواقعي في نظر أميركا وأطراف دولية كثيرة إزاحة نظام يدير مؤسسات الدولة وإستبداله بأطرافٍ لم يسبق لها إدارة مثل هذه المؤسسات، ولم تثبت أنها قادرة على صناعة بدائل مناسبة.

واليوم، يبدو أن دمشق تفلت شيئاً فشيئاً من يد الثوار، خصوصاً في ظل الحديث عن هدنة بين الأطراف المتصارعة، ما يعني أن نظام الأسد وحلفاءه سيتفرغون لإحداث تغييرات في دمشق وغلافها، استكمالاً للإجراءات السابقة التي قاموا بها، وكان لها أثر كبير في تفكيك المخاطر المحيطة بالنظام.

كيف لم ينتبه ثوار سورية إلى أن الجهود والموارد التي ضيّعوها في الأطراف كانت كافيةً لطرد نظام الأسد من العاصمة، وإن لم يكن إسقاطه فتحويله مع حلفائه إلى طرفٍ مثل "داعش" وجبهة النصرة في أحسن الأحوال، وسيطرة الثوار على العاصمة، بعدما انهار جيش النظام، كانت كفيلةً بضمان إنهيار قواته على الجبهات كافة، كما أنها ستضعه أمام خيارات وبدائل سيكون أفضلها التقهقر إلى جبهة الساحل، وحتى المليشيات الحليفة، القادمة من العراق ولبنان، ستضطر إلى تقليص أهدافها بالدفاع عن بيئة الأسد في مناطقها، وحتى روسيا نفسها لن تخوض حينها معركة على هذا الاتساع، في ظل تقلّص مساحات انتشار قوات الأسد.

ولكن، على الرغم من ذلك، هناك فرصة لتحقيق شيء من هذه الإستراتيجية، فعلى الرغم من كل ما حقّقه النظام من تقدم في محيط العاصمة، لا يزال هناك عديد قوات ثورية في الغوطة الشرقية، يقدّره بعضهم بخمسين ألف مقاتل، بالإضافة إلى مقاتلي الجبهة الجنوبية (35 ألف مقاتل)، وآلاف من مقاتلي القلمون، ويمكن تغذية جبهة العاصمة بآلاف من مقاتلي الجبهات الأخرى، كما أن الفصائل ما زالت تسيطر على مساحات من العاصمة نفسها (جوبر، القابون، مخيم اليرموك)، يمكن أن تشكل كل منها مداخل لتفعيل العمل ضد نظام الأسد، وتستطيع القوات في هذه المناطق تحقيق التحامات سريعة من شأنها تعطيل فعالية القوّة الروسية، على اعتبار أن مساحة دمشق ورقعة انتشار السكن فيها أصغر بكثير من المساحة في حلب التي تساوي أضعاف مساحة دمشق.

إذا استطاع الأسد أن يقضي على الثورة في محيط العاصمة، فعلى السوريين التجهز لحكم نجله حافظ بعد زمن. وإذا قضى على الثورة هناك، فستنتهي كل المناطق إلى نهاية حلب وحمص، إن لم يكن في هذا العام فبعد عامين أو ثلاثة. في حال استطاع تحطيم قوى الثورة وإفراغ محيط دمشق من الثوار، سيعمل نظام الأسد على تغيير هويتها إلى الأبد، عبر تغيير تركيبتها السكانية، وستنتهي أي إمكانية للثورة في دمشق.

اقرأ المزيد
١١ يناير ٢٠١٧
«الفيلق الخامس»... «جيش الشرق» الروسي لقمع رفاق السلاح وتثبيت السلم

يواصل الجيش الروسي الضغط على حلفائه في دمشق لاستعجال تشكيل «الفيلق الخامس - اقتحام» ليكون عموداً عسكرياً في النفوذ الروسي في سورية يشبه إلى حد كبير «جيش الشرق» الذي أسسته فرنسا خلال الانتداب على سورية بداية القرن الماضي مع احتمال أن التشكيل الجديد يرمي إلى مواجهة النفوذ المتصاعد لـ «قوات الدفاع الوطني» وميليشيات مدعومة من إيران وتثبيت السلم بعد قمع ما تبقى من جيوب للمعارضة.

وفي نهاية ٢٠١٢ ومع تراجع عدد القوات النظامية جراء الانشقاقات والتهرب من الالتحاق بالخدمة الإلزامية إلى حوالى مئة ألف، نجحت طهران في إقناع دمشق بتنظيم «اللجان الشعبية» في «قوات الدفاع الوطني» بإشراف وتدريب وتمويل الـ «باسيج» وباتت منتشرة في معظم مناطق النظام وجبهات القتال ليصل عددها إلى حوالى ٧٠ ألفاً من السوريين وغير السوريين بينهم أفغان وباكستانيون وعراقيون بإشراف مباشر من ضباط «الحرس الثوري الإيراني»، ما ساهم في وقف تقدم فصائل معارضة في مناطق عدة.

وبعد التدخل العسكري الروسي المباشر في نهاية أيلول (سبتمبر) ٢٠١٥، أعلن رئيس الأركان في الجيش السوري العماد علي أيوب في تشرين الأول (أكتوبر) من القاعدة العسكرية الروسية في حميميم نية تشكيل «الفيلق الرابع - اقتحام» بهدف «تحرير جميع البلدات والقرى». لكن لم تنجح محاولات موسكو دمج حوالى ١٨ فصيلاً مدعوماً من طهران ضمن «الفيلق الرابع - اقتحام» وبقي التنسيق العسكري بالحد الأدنى بأولويات مختلفة.

في تشرين الثاني (نوفمبر) وبالتوازي مع تغلغل ضباط الجيش الروسي في المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية في دمشق ومدن «سورية المفيدة»، وزّع بيان تضمن تشكيل «الفيلق الخامس» بـ «تمويل وتدريب من روسيا» ويضم حوالى ٤٥ ألف عنصر موزعين في وحدات مشاة وهندسة وآليات واقتحام «بعد تدريب على حرب العصابات في مناطق محمية روسياً»، بحسب مسؤول مطلع على تفاصيل المشروع.

وإذ أعلنت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة «تشكيل فيلق جديد من المقاتلين المتطوعين، باسم «الفيلق الخامس - اقتحام»، بهدف القضاء على الإرهاب»، دعت «جميع المواطنين الراغبين في الانضمام للفيلق إلى مراجعة مراكز الاستقبال في المحافظات، وتقع في قيادة المنطقة الجنوبية، وقيادة موقع دمشق، وقيادة الفرقة العاشرة في قطنا، وقيادة المنطقة الوسطى في حمص، وقيادة موقع حماة، وكلية الشؤون الإدارية في مصياف، وقيادة المنطقة الشمالية في حلب، وقيادة موقع طرطوس، وقيادة المنطقة الساحلية في اللاذقية، وقيادة الفرقة الخامسة في درعا، وقيادة الفرقة 15 في السويداء»، من دون أن يشمل ذلك مناطق سيطرة المعارضة السورية أو «داعش». وشملت الدعوة «غير المكلفين بخدمة العلم أو فارين منها ممن أتموا 18 سنة من عمرهم والراغبين ممن أدوا خدمة العلم من جميع الفئات ضباط وصف ضباط وأفراد إضافة إلى الراغبين من العاملين في الدولة بموجب عقد لمدة سنة قابل للتجديد شرط الحصول على موافقة الجهة التي يعملون لديها».


تعليمات
وبالتوازي مع صدور مراسيم رئاسية بالعفو عن «الفارين» من الجيش وغير الملتحقين بالخدمة العسكرية وتشديد إجراءات مغادرة الشباب وتسير دوريات في الشوارع لسحبهم من دون تدريب كامل إلى جبهات القتال، صدرت تعليمات إلى وزارة الأوقاف والمؤسسات الحكومية والجيش وشركات الهاتف النقال ووسائل الإعلام والإعلان للحض على الانضمام إلى القوة الجديدة. وفي مذكرة خطية، دعت وزارة الأوقاف أئمة المساجد إلى «التحدث على المنابر وحض المواطنين على الالتحاق بالفيلق الخامس وعرض ميزات ذلك» بينها «تسوية وضع المتخلفين عن الخدمة الاحتياطية وتسوية أوضاع الفارين وموظفي الدولة المتخلفين عن أعمالهم بحيث يتقاضي الشخص مئة ألف ليرة شهرياً» (الدولار الأميركي يساوي ٥٠٠ ليرة). وبين المذكرات، وثيقة من «عميد المعهد العالي للفنون الجميلة» جيانا عيد دعت فيها العاملين إلى «تسجيل أسمائهم لدى مدير الشؤون الإدارية والقانونية».

وحض محافظ اللاذقية مؤسسات الحكومة في اللاذقية على إلزام الموظفين وخصوصاً النازحين (سبعة ملايين نازح داخل البلاد) بـ «الالتحاق في معسكر طلائع البعث في الرمل الجنوبي» ما شمل الأشخاص بين ١٨ و٥٠ سنة. وأضاف في تعميم: «في حال عدم الالتحاق ينهى تكليف الموظفين». وطلبت مديرية التربية «تشجيع» الأساتذة ممن هم تحت سن 42 سنة على الانضمام إلى «الفيلق الخامس» و «ضرورة اقتياد المدرسين النازحين عنوة إلى الفيلق خلال مدة 48 ساعة»، علماً أن تقديرات تشير إلى وجود ١.٥ مليون نازح في طرطوس واللاذقية جاؤوا من حلب وإدلب وحمص. وترددت أنباء عن اختبار خطة لإعادة لاجئين من دول الجوار إلى سورية (حوالى خمسة ملايين) شرط موافقتهم على القتال ضمن هذا «الفيلق».

كما اجتمع المدراء العامون في دمشق مع موظفيهم لشرح مميزات الانضمام إلى هذه القوة بينها «الحفاظ على نصف الراتب الشهري وكسب راتب شهري يصل إلى ٣٠٠ دولار».

وتسلّم السوريون رسائل نصية على هواتفهم المحمولة بينها «كن واحداً من صانعي الانتصار» و «انضم للفيلق الخامس اقتحام» و «ندعوكم للانتساب إلى الفيلق الخامس اقتحام والمشاركة في صناعة الانتصار»، فيما تبلّغ رجال أعمال جدد بضرورة تمويل هذه القوة شرطاً لحصولهم على امتيازات مالية جديدة.

وإضافة إلى بعض أنباء العشائر شرق البلاد، تراهن موسكو المنخرطة عبر ضباط قاعدة حميميم في «مصالحات» على دمج مقاتلين معارضين جرت «تسوية أوضاعهم» في القوة الجديدة بحيث «يقاتلون رفاق السلاح السابقين خصوصاً عناصر جبهة النصرة وداعش».

ولوحظ أن بين عناصر مسودة الاتفاق الذي عرض لتسوية أوضاع ثلاث بلدات جنوب دمشق، تشكيل قوة لقتال «النصرة» و «داعش»، الأمر الذي حصل سلفاً في مناطق أخرى بينها التل شمال شرقي العاصمة. وباعتبار أن آلافاً ممن لم يوقعوا «التسويات» نقلوا مع أسرهم إلى محافظة إدلب، قد تشهد المرحلة المقبلة مواجهات مباشرة «بين رفاق السلاح السابقين»... معارك بين عناصر «الفيلق الخامس» ورافضي «التسويات»، خصوصاً في جبهات إدلب التي تريد دمشق استعادتها بـ «أي كلفة».



«جيش الشرق»
ربط خبراء التغييرات الأخيرة في الجيش السوري بالتشكيل الجديد وقيادته المرتقبة واستعجال موسكو توسيع قاعدة طرطوس وتحويلها إلى قاعدة مشابهة لحميميم. وذكر خبراء في مؤسسات ونشرات غربية مختصة بينها مركز «ستراتفور» الاستخباراتي أن أحد أسباب تشكيل «الفيلق الخامس» موازنة نفوذ إيران، خصوصاً أن موسكو التي توصلت إلى تفاهمات مع أنقرة إزاء وقف النار في بعض مناطق سورية، ستقدم معظم الدعم بما في ذلك الأسلحة والتدريب وراتباً شهرياً يصل إلى ٥٨٠ دولاراً لعناصر «فيلقها». لكن مؤرخين سوريين يشبهون هذه القوة بـ «جيش الشرق» الذي شكلته فرنسا بعد انتدابها على سورية في ١٩٢٠. وقال أحدهم: «بعد فكرة تقسيم سورية إلى دويلات، استقطبت فرنسا الأقليات في سورية وبعض مقاتلي دول مستعمرة مثل السنغال في تشكيل جيش الشرق لقمع الحركات الوطنية السورية بما فيها ثورة ١٩٢٥-١٩٢٧، بحيث كان قادة هذا الجيش من الفرنسيين وعناصره من الفقراء والمهمشين في سورية».

وزاد: «الإقبال على جيش الشرق كان أكثر نجاحاً في الساحل السوري حيث كان الناس مهمشين عبر التاريخ، وحيث وفر جيش الشرق السلطة والنفوذ ما شكل أساساً في بداية العقيدة العسكرية عند أبناء الساحل المضطهدين، الأمر الذي ظهر لاحقاً في التاريخ السوري» في تسلم السلطة في دمشق. وبعد الاستقلال في نيسان (أبريل) ١٩٤٦، أصبح «جيش الشرق» نواة للجيش السوري وسط مساعي «نخبة دمشق» لتهميش هذا الجيش ما كان أحد أسباب النكبة في ١٩٤٨ وإن كان بعض أعضائه مثل حسني الزعيم وأديب الشيشكلي وراء انقلابات عسكرية وعبدالحميد السراج وراء تأسيس «الدولة الأمنية» مع الرئيس جمال عبدالناصر.

وارتفع عدد أفراد «جيش الشرق» من ١٣ ألفاً في ١٩٢٠ إلى أكثر من مئة ألف لـ «الحفاظ على السلم» بعد قمع الثورة السورية الكبرى في ١٩٢٧. وهما هدفان يشبهان ما ترمي إليه روسيا من تشكيل «الفيلق الخامس» بعد سنة على تدخلها العسكري المباشر من بوابة الساحل السوري، إضافة إلى تنظيم السلاح الخارج عن «سلطة الدولة»، بحسب مؤرخ سوري. وتساءل: «هل يعكس اعتراف موسكو بفصائل إسلامية وقبولها شريكاً في وقف النار والحل السياسي، نية روسية بالاعتماد على الغالبية بالتعاون مع تركيا؟».

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٧
سوريا.. أرض الثكالى

لا يملك السوريون من قرار حياتهم شيئاً حين كانوا أحياء، يقادون إلى الموت بشتى أنواع القتل وصنوف العذاب كما تقود الوحوش الجائعة فريستها، تتنافس العائلات الثكالى في سرد قصص المآسي التي تمر عليها في هذا الوقت العصيب، لكل منها قصة تكمد في جوفها وتزيد النار لهيب الأسى المفجع، فيقبض القلب قهرا وينبض قهرا، وينسى ذاك الطفل المفجوع كلمة الأم ليكون «الألم» أقرب للواقع من الاسم نفسه، وينافس الرجل منهم «أيوب» في صبره على فقدان أهله وأطفاله، وتبكي الأم أطفالا وشبابا سهرت الليالي وطوت منها السنون حتى كبروا أمام أعينها ليخطفهم الموت في لحظة واحدة، وتبقى الذكرى الحزينة جمرا يكوي في الفؤاد.

هو شعور يلازم عشرات الآلاف من العائلات السورية، ممن تعيش هذا الأسى الذي لا يوصف، أطفال يتامى وأمهات ثكالى ورجال أوهن المصاب عزائمهم، في ظل حرب ظالمة لم تترك للابتسامة مكانا ولا للمستقبل أحلاما، وحولت سوريا الى ارض للثكالى.

دخل الحزن كل منزل دون استئذان من أحد وأصاب أعماق النفوس حتى بدت وجوه السوريين متعبة مرهقة، القبس التقت بعض الثكالى الذين عاشوا مرارة فقدان الأحبة،  رأينا في وجوه من فقدوا احبتهم هموما تكاد الجبال تعجز عن حملها، وفي نظرات عيونهم قصص تحكي تفاصيل معاناتهم قبل أن يرووها لنا، فكانوا شهودا على كارثة تحدث أمام أنظار العالم اللامبالي، وضحية تخاذل الجميع عن نصرتهم وإيجاد طريق الخلاص لهم، وتركهم هذا العالم لوحدهم تحت رحمة سوء العذاب وشلال الدماء الذي يجري.

«قتلوا حياتي» بهذه الكلمات بدأ أبو محمد حديثه للقبس، هو أب لأربعة قتلى وأخ لثلاثة وعمٌّ لخمسة قتلى، جميعهم قتلوا على يد قوات النظام والميليشيات المساندة له.

يقول أبو محمد فارقني كل فلذات كبدي وريحانة فؤادي محمد ١٩ سنة ومحمود ١٧ سنة وأحمد ١٤ سنة وصغيرهم نور ٦سنوات، قتلهم النظام جميعهم في يوم واحد، حرمني من نور عيوني ومهجة قلبي وأغلى ما عندي بلحظة واحدة لقد قتل الدنيا في عيوني.

وأردف: أبكي على من؟ على أبنائي جميعهم أم على إخوتي وأبناء إخوتي، أم أبكي حيّاً كاملاً لم يبق فيه أحد، وبيت لم أعد أسمع فيه كلمة بابا بعد اليوم.

واستطرد وصلت لمرحلة الجنون أو ربما تجاوزتها، فأنا نفسي لا أعلم كيف سأقضي هذا العمر من بعدهم، لا شيء عندي أنتظره إلا الموت، أتوق إليه من كل قلبي كي أرتاح من هذه النار التي تتأجج في داخلي ويزداد لهيبها كلما نظرت حولي ولا أجدهم.

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٧
بقي للأسد 4 سنوات

ضمن مشروع التفاوض على الحل السياسي لإنهاء الحرب في سوريا، يصر الروس والإيرانيون على بقاء بشار الأسد رئيسًا، متعهدين بأنه فقط لما تبقى من فترة حكمه الحالية «احترامًا للدستور»، مع تشكيل حكومة تمثل فيها القوى المعارضة، ووعود بصلاحيات مستقلة للأقاليم والمحافظات.

ومن يسمع هذا العرض المغري سيقول إن كان هذا هو الشرط للسلام فمرحبًا به، وبالفعل لا يبدو بقاء الأسد مشكلة لو أن هناك من يَضمن تنفيذ التعهد.

لكن توجد علتان فيه؛ الأولى أن الرئيس ربح الانتخابات ولا أحد يعرف كيف، خصوصًا أنها نفذت وسط الحرب الرهيبة في منتصف عام 2014، فكيف سيتم إخراجه عندما يستتب له الحكم بالكامل وتنزع أسلحة المعارضة؟

والعلة الثانية أن موعد نهاية رئاسة الأسد بعيدة جدًا، 2021، أي ستمر أربع سنوات طويلة أكثر من كافية لتتم فيها تصفية كل القوى المعارضة وشبه المعارضة.

الاقتراح الروسي للبقاء المؤقت، هو في الواقع حكم مؤبد، وعلى المعارضة أن تدرك أنها إن قبلت به عليها التخلي تمامًا عن كل شيء والقبول بالعودة لما قبل انتفاضة عام 2011، وألا تحلم أبدًا بشيء مما كانت تطالب به، وأن كل ما توعد به من حكومة مختلطة، وضمانات دستورية، وقوانين مستقلة للمحافظات لن تكون لها قيمة لاحقًا.

ولو أن الوعود بضمانات دولية صادقة، مع أنه يستحيل تصديقها، بأن السنوات المقبلة ستكون مرحلة تصالح وتصحيح وانتقال في الحكم، أتوقع أن تقبل بها القوى المعارضة المعتدلة، لأن الهدف لم يكن تدمير البلد والدولة، بل التغيير السلمي. فقد بدأت الانتفاضة سلمية، واستمرت عدة أشهر تعارض فقط بالمظاهرات واليافطات والأغاني، كانت دعواتها للانتقال السلمي مختلفة عن انتفاضتي تونس وليبيا وحتى مصر.

أما الحديث عن احترام الدستور، الذي لم يحترم أصلاً من قبل الذين صاغوه، والدعوة لإكمال الفترة الرئاسية، فإنها مجرد حيلة تفاوضية هدفها أن تسهل على المعارضة التراجع، وحفظ ماء الوجه، والزعم مستقبلاً أنها حصلت على تنازلات رئيسية. السوريون يعرفون جيدًا أن القبول ببقاء النظام أربع سنوات أخرى يعني أن المعارضة باعتهم، وتم التخلي عن كل الوعود التي قدمت لهم، وأكثر من نصف مليون سوري تمت التضحية بهم، وملايين شردوا إلى غير رجعة إلى بيوتهم.

وهذا سيعني إنهاء المعارضة المعتدلة وتعزيز المعارضة المتطرفة، التي ترفض المفاوضات، وهي في الحقيقة لا تقل سوءًا عن النظام. المسؤولية على المعارضة كبيرة في تحمل نتائج ما تفاوض عليه اليوم وما ستوقع عليه لاحقًا. لن يصدق أحد أنها خدعت، لأنه سبق وطرح حل الانتخابات، التي أجريت في وسط الدمار وكسب فيها الرئيس بنحو 89 في المائة ومعظم القتل والدمار جرى بعد تلك الانتخابات التي أعلن أن أكثر من عشرة ملايين مواطن أدلوا بأصواتهم فيها، ونحن نعرف أنه يستحيل حينها على مليونين أن يكونوا قد شاركوا فيها، والخديعة ستتكرر.

أمام شرط بقاء النظام لإنهاء الحرب، سيُصبِح من الأهون على السوريين القبول بتقسيم البلاد، ومنح الرئيس دولة يضمن فيها أغلبية الأصوات من طائفته، دون الحاجة إلى تزويرها، ويعيش كل فريق في دولته سعيدًا من دون حرب ومن دون فرض نظام عليه. إنما حتى مشروع التقسيم السيئ هذا مرفوض من تركيا وإيران والعراق، لأنها تخشى من تبعاته عليها.

اليوم يتفاوضون على سوريا، وهي مثل جرة مكسورة، يريدون إعادتها إلى ما كانت عليه في الماضي بعد كل هذا القتل والدمار الرهيب.

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٧
الشرق الأوسط تحت الوصاية الروسية

بينما يستعد دونالد ترامب لتولي مقاليد السلطة في البيت الأبيض، يُجهّز نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه، لقفزةٍ جديدةٍ على ملفات الشرق الأوسط وقضاياه، بدخول قوي على خط القضية الفلسطينية، لتضيف موسكو صفحةً إضافية إلى تاريخها الجديد في هذه المنطقة. بعد أن انتهت بالفعل من تسطير صفحة حافلة في سورية، بدأتها عسكريةً خالصة، وها هي الآن تطعّمها بالدبلوماسية والمبادرات السياسية. قبل أسبوعين، حاولت إدارة أوباما تفخيخ الطريق أمام ترامب بمواقف مفاجئة بشأن قضايا الشرق الأوسط، بما فيها الأخطر والأصعب، القضية الفلسطينية. وليست موسكو بعيدة عن تلك المناورات الأميركية بين رئيس مغادر وآخر قادم، فالسياسة الروسية، منذ سنوات، لا تترك شاردةً أو واردةً إلا وتحاول الاستفادة منها، خصوصاً بتعظيم المصالح الروسية، وبالتالي، توسيع دورها إقليمياً وعالمياً. ولما كانت الولايات المتحدة قد شرعت، منذ أكثر من خمس سنوات، في الخروج من المنطقة، والالتفات شرقاً نحو الصين وأقاصي آسيا، فلم يكن على موسكو حرج في الاندفاع نحو الشرق الأوسط، وملء فراغ كبير ستتركه واشنطن.

منذ أعلن الرئيس أوباما في 2010 ذلك التوجه الاستراتيجي الأميركي الجديد، والتحركات الروسية في هذا الإطار تمضي في أكثر من اتجاه. ولم تظهر نتائج تلك التحركات سريعاً، بسبب موجة الربيع العربي، وما تبعها من تصدّع في البنية التقليدية للنظام الإقليمي للمنطقة، غير أن تعرّض نظام بشار الأسد لخطر الانهيار قبل عامين كان سبباً كافياً لأن تعلن موسكو العودة الصريحة والقوية إلى المنطقة من البوابة السورية الكبيرة.

لذا، يخطئ من يتصوّر أن رئاسة ترامب ستعني عودة أميركا القوية إلى الشرق الأوسط، وأن أوباما المتردّد الليِّن سيسلم الشرق الأوسط إلى رئيسٍ جمهوريٍّ قوي يسترد لواشنطن هيبتها وهيمنتها على الشرق الأوسط، فشعبوية ترامب وأسلوبه الأهوج لا يعنيان، بالمرة، أن واشنطن ستنغمس مُجدّداً في مستنقعات الشرق الأوسط، بل على العكس، سيكون ترامب سعيداً، وهو يتابع اضطلاع موسكو بمهام الدولة "الراعية" وأدوارها، بما يعنيه ذلك من أعباء ومكاسب. ويراهن ترامب، في ذلك، على ما يسميه ذكاء بوتين ورجاحة عقله. ما سيسمح لواشنطن بالتفرّغ لإعادة بناء قوتها الاقتصادية، وتخوض التنافس العالمي في وجهه المعاصر الاقتصادي مع العملاق الصيني. أما الشرق الأوسط فستكتفي واشنطن إزاءه بتقديم القليل، وبالمقابل الذي تحدّده، مع الاحتفاظ بالأساسيات الثابتة، وفي مقدمها أمن إسرائيل، وهو أصلاً لم يعد مهدّداً، ويحظى بالتزام وتوافق أميركي روسي، بل وإقليمي عربي أيضاً.

لذا، لم تكن مصادفةً أن تعلن موسكو، قبل أيام من تولي ترامب، دعوة الفلسطينيين إلى حوار وطني، يضم مختلف الفصائل، مع التحضير، في الوقت نفسه، لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، وعقد لقاء بين أبو مازن ونتنياهو. فالانتقال الروسي إلى هذا الملف المحوري في المنطقة ليس إلا تتويجاً لعملية تسليم الشرق الأوسط وتسلمه من واشنطن إلى موسكو. والمقصود هنا الشرق الأوسط الكبير الذي يمتد إلى أفغانستان، فقد فتحت موسكو خطوط اتصال مع حركة طالبان. وبتوليها الملف الفلسطيني الإسرائيلي، فهذا يعني أن موسكو صارت الراعي الرسمي الجديد للشرق الأوسط لعقد مقبل على الأقل. ما يعني أيضاً أن ملفات إقليمية أخرى ستدخل تحت الرعاية الروسية، تبدأ بليبيا واليمن، ولن تنتهي عند تنسيق التحالفات وموازين القوى الإقليمية.

من غير المعلوم إلى أي مدى سيستمر الشرق الأوسط تحت الوصاية الروسية، لكن المؤكد أن الرهانات العربية على واشنطن أثبتت فشلها مراراً. ويحتاج العرب إلى تجنب تكرار الفشل مع موسكو، لكنهم قبل ذلك في حاجة إلى الاعتراف بأن العصر الأميركي قد انتهى، وأن حقبةً روسية بدأت بالفعل.

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٧
زيارة نيابية فرنسية إلى الأسد

التقى أمس النائب الفرنسي اليميني تييري مارياني بشار الأسد في دمشق بعد أن زار حلب الشرقية. السيد مارياني الذي قام بهذه الزيارة بحجة انه نائب يبحث عن الحقيقة، هكذا برر إلى إذاعة RTL زيارته، لم يدخل سورية من دون تأشيرة وإذن من النظام السوري. فذهب باحثاً عن حقيقة مزورة من نظام قصف وقتل وهجر وأفرغ المدينة على يد حلفائه الروس والإيرانيين. وها هو النائب الفرنسي الطامح إلى منصب وزاري أو دور إذا فاز فرنسوا فيون في انتخابات الرئاسة يعود إلى مرشحه للرئاسة برواية النظام السوري.

لكن السؤال المطروح على مارياني وربما على فيون إذا كان مصراً على ما قال خلال حملته للانتخابات التمهيدية لحزب الجمهوريين: ألا يتذكّر حقيقة وعود الأسد للرئيس ساركوزي عندما دعاه مرتين إلى فرنسا في زيارة رسمية؟ آنذاك كانت فلسفة ساركوزي، وفيون كان رئيس حكومته، (وكان مرياني نائباً مقرباً من ساركوزي من دون الحصول منه على اي منصب) أن دعوة الأسد إلى باريس ستجعله يقتنع بأن من الأفضل أن يترك لبنان مستقلاً في أمن وسلامة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وكل شهداء لبنان الذين ساهموا في ثورة الأرز. فكانت نتيجة التقارب الفرنسية السورية، مثلما حدث مع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، أن الأسد عمل عبر «حزب الله» على قلب حكومة سعد الحريري في حينه ومنعه من عودته الى المنصب. حتى في آخر اتصال بين الأسد وساركوزي في عهد رئاسته، علّق الأخير قائلاً للأسد الذي أكد لساركوزي أن سعد الحريري لن يترأس حكومة لبنان مجدداً «اعتقدتُ بأن لبنان بلد مستقل». ثم انقطعت العلاقة بين فرنسا وسورية بعد شن الأسد حرباً على شعبه.

وينبغي تذكير مارياني وفيون اللذين قد يظنان أنهما أذكى من الرؤساء السابقين فرنسوا ميتران وجاك شيراك وساركوزي بأن الثلاثة حاولوا إقناع النظام السوري مع الأب والابن بتغيير نهجه وفشلوا. وعلى سبيل تذكير السيد مارياني أن في عهد ميتران والأسد الأب قام الرئيس الفرنسي الراحل بزيارة إلى حافظ الأسد ما أدى إلى استقالة وزير الخارجية الفرنسي آنذاك كلود شيسون الذي أقر بأن النظام السوري قتل السفير الفرنسي السابق في لبنان لوي دولامار. وزيارة ميتران إلى دمشق باءت بالفشل والذل للجانب الفرنسي.

وشيراك حاول الكثير مع الأسد الابن واستقبله بإيعاز من صديقه الشهيد رفيق الحريري معتقداً بأن ذلك قد ينفع لبنان. النتيجة كانت اغتيال الحريري ثم شهداء لبنان الذين ساهموا في ثورة الأزر قبل مرحلة انتقال الأسد إلى الحرب على شعبه التي دمّرت سورية وأدخلت القوات الروسية والإيرانية الباقية فوق سورية المدمرة.

ألم يعرف مارياني الباحث عن حقيقة الأسد ونظامه أن القيادات العربية كلها في بداية الحرب وأثناء تظاهرات درعا نصحت الأسد بالتجاوب مع متطلبات شعبه. وأمير قطر الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني زار بشار الأسد وأوصاه بالقيام بإصلاحات وتم الاتفاق عليها لتفادي تظاهرات شعبه. وغداة نصيحة الأمير ألقى الأسد خطاباً تقليدياً ليس فيه أي إشارة إلى إصلاحات أو تجاوب مع متطلبات شعبه للحرية. وفي السياق نفسه كان الملك عبدالله بن عبد العزيز أوصاه بالتجاوب المسالم مع متطلبات شعبه، فجاء الرد عبر مقتل الولد حمزة الخطيب (عمره ١٣ سنة) في أيار (مايو) ٢٠١١ على قوى النظام السوري لأن خطيئة الولد أنه كان بين المتظاهرين.

هذه الأحداث نوردها لتذكير النواب الفرنسيين ورئيس الحكومة السابق فرانسوا فيون أن حماية مسيحيي الشرق وأمنهم وسلامتهم لن تمر عبر بلد مدمّر ومنقسم ومهجّر في أنحاء العالم في سبيل بقاء الأسد على رأس بلده. إن التحاور والتفاوض معه عقيم لأنه في حال من النكران الدائم، فهو يعتقد بأنه انتصر، في حين أن بلده محتل من روسيا وإيران الدولتين اللتين لن تعيدا إعمار بلد خرّبتاه.

اقرأ المزيد
١٠ يناير ٢٠١٧
تفاهم روسي - أميركي - تركي يكبح إيران؟

رسائل كثيرة تتوالى يومياً من قادة الحلف الثلاثي في سورية. مواقف متبادلة من أعلى القمة في كل من موسكو وطهران وأنقرة. بعضها ودي وبعضها الآخر يحمل في طياته صراعاً خفياً. وثمة أوساط في المعارضة السورية تراهن على صدام مقبل بين روسيا وإيران. أو بالأحرى تأمل بقيام حلف ثلاثي بديل تحل فيه الولايات المتحدة محل الجمهورية الإسلامية. وترى إلى مثل هذا التطور خطوة تعوضها الكثير من الخسائر التي منيت بها بعد استرجاع النظام مدينة حلب. المواقف التي يعلنها أهل الحلف القائم لا تشي بأنهم على سكة واحدة، أقله في النظر إلى مستقبل الأزمة السورية وسبل تسويتها. يكفي أن طرفاً، ومعه النظام، لا يزال يعتقد بأن الحسم العسكري هو الحل الوحيد. ويصر على مواصلة هذا النهج. فيما طرفان آخران ينشطان لإطلاق مسار سياسي يبدأ من آستانة لينتقل إلى أيدي الأمم المتحدة مجدداً في جنيف. لكن تعويل المراهنين على صدام حتمي بين بعض الأطراف الثلاثة، أو على انفراط عقدهم، قد لا يكون في محله. فهؤلاء يدركون خطر مثل هذه المجازفة الكبرى، لأن أحداً منهم لن يخرج منها منتصراً، فيما فصائل مقاتلة لا تزال على سلاحها، شمال سورية وجنوبها. وفيما قوى سياسية تنتظر تولي السيد دونالد ترامب مهماته، ليساهم في تقويض بعض دعائم هذا الحلف لعلها تستعيد ما خسرت من دور في الميدانين السياسي والعسكري.

الرئيس فلاديمير بوتين أمر بسحب قطعاته البحرية من المتوسط. رسالة واضحة أنه لم يعد معنياً بمزيد من القتال. لم يعد بحاجة إلى مزيد من العمليات الكبرى. حقق ما يريد. «نصره» في حلب أعاد إلى روسيا صورتها كقوة دولية. وكسب مزيداً من الشعبية في الداخل ساهم في رفعها تحسن أسعار النفط والاتفاقات التي توصل إليها مع «أوبك» وشركاء آخرين من خارجها. رسخ أقدام بلاده في الشرق الأوسط. باتت لاعباً رئيسياً ترفدها شبكة من العلاقات والتحالفات، من مصر إلى تركيا. وضمن «شرعية» دائمة لقاعدتيه في حميميم وطرطوس. وأعاد إلى المؤسسة العسكرية السورية بعض الثقة بالنفس، مثلما أعاد هيكلة أركانها وقطعاتها. وهو منكب على تأسيس «الفيلق الخامس» للملمة عناصر ميليشياوية وضبطها في إطار عسكري منظم. لكنه يعي جيداً أن له شركاء آخرين في هذا «النصر» أبرزهم طهران وأنقرة، فضلاً عن الذين صموا آذانهم وأشاحوا نظرهم عما كان يحدث في العاصمة الاقتصادية السورية. وهو يراهن منذ اللقاء الثلاثي في موسكو بين وزراء الخارجية الروسي والإيراني والتركي وحتى الاستعداد لاجتماع آستانة، على بناء حد معقول من التوازن في علاقته بهذين الطرفين الضروريين لوقف النار أولاً ولإطلاق العملية السياسية ثانياً. لكن الواقع لا يعكس هذه الصورة.

الواضح أن الرئيس بوتين عزز تفاهمه مع تركيا أثناء معركة حلب ثم في ضمانهما وقف النار. وهو يعول على دورها في إقناع المعارضة السياسية والمسلحة بالمشاركة في المسار السياسي. لكن هذا التفاهم الثنائي عكس تضارباً بين موسكو وإيران يتعمق أكثر وأكثر. الأخيرة انتقدت موافقة روسيا على القرار الأخير لمجلس الأمن الخاص بحلب. وكانت عارضت التفاهم الروسي - التركي على خروج المقاتلين من عاصمة الشمال السوري إلى أن شمل بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين. وعبر «الحرس» وحلفاؤه عن اعتراضهم على دعوة فصائل عسكرية معارضة إلى العاصمة الكازاخية، فضلاً عن دعوة مفتوحة إلى قوى أخرى بينها السعودية وقطر. وهو ما تحرص عليه روسيا حرصها على عدم وصمها بالوقوف في وجه السنة عموماً في الإقليم. علماً أن دعوة الفصائل المقاتلة إلى آستانة بدعم تركي يشكل اعترافاً صريحاً بهذه الفصائل من جانب جميع المشاركين وفي مقدمهم النظام وإيران. لذلك يواصل هذان الطرفان خرق وقف النار. ويصعدان خطابهما بوجه تركيا، مرة بدعوتها إلى سحب قواتها من الشمال السوري ومرة بالتهديد بحملة لاستعادة إدلب وريفها.

والواقع أن الهوة واسعة بين أجندات «الحلف الثلاثي». موسكو لا تشعر بأنها حققت القسم الأكبر من استراتيجية تدخلها في بلاد الشام فحسب. بل تستعجل الخروج وبيدها إنجاز كبير يتيح لها استثماره في السياسة، سواء مع الولايات المتحدة أولاً ثم مع تركيا وأوروبا ومع دول الخليج أيضاً بإصرارها على المسار السياسي اليوم. أي أنها ليست في وارد مواصلة حرب ستطول لتحقيق نصر عسكري ناجز. وليست مستعدة للمجازفة والغرق في مستنقع مشابه لما حل بالسوفيات في أفغانستان، أو حتى لما حل بالأميركيين في العراق. وقد حقق لها التفاهم مع أنقرة خروجاً للمقاتلين من حلب وحفظ بعض ما يمكن أن يحافظ عليه وسط الحملة التدميرية التي قادتها الميليشيات. وهو التفاهم نفسه الذي سيوفر عليها الانسحاب التدريجي من المستنقع السوري. إنها تعول على قدرة تركيا في ضبط الفصائل المعارضة بعدما بات القسم الأكبر منها تحت رحمة القوات التركية ورعايتها في الشمال والشمال الغربي لبلاد الشام. ويشكل هؤلاء المقاتلون قوة عسكرية كفيلة بتعديل ميزان القوى مع الميليشيات التي ترعاها إيران. لذلك تنادي هذه بخروج القوات التركية من سورية لأنها لم تدخل بناء على طلب حكومة دمشق! وهي رسالة جوابية على مطالبة أنقرة بوجوب خروج «حزب الله» وغيره من الميليشيات الشيعية الوافدة. وتصر طهران على مواصلة القتال، كما هي الحال في اليمن، حتى تثبت أقدامها في «العواصم العربية الأربع». وهي تشعر بأن استراتيجيتها لا تزال تواجه تهديداً مشتركاً، في شبه الجزيرة من جانب «أهل الحزم»، وفي المشرق العربي من جانب شريكيها في الحلف. خصوصاً أن روسيا تجهد الآن لاستيعاب آلاف المقاتلين من الميليشيات في الفيلق الجديد. وهي خطوة تهدف إلى انتزاع هذه الورقة من يد «الحرس الثوري» قبل أن يحولها جيشاً رديفاً يخدم أهداف الجمهورية الإسلامية ويعطل أي تسوية سياسية. أو يكون هو الحاكم الفعلي في أي تركيبة سياسية تكون ثمرة صفقة هنا أو هناك.

يبدو واضحاً من مواقف إيران التعطيلية في سورية أنها تلتزم في اللقاءات الثلاثية شيئاً وتنفذ على الأرض سياسة مختلفة تدفع بالنظام ورئيسه إلى أحضانها بعيداً من موسكو. كأنها لا تعترف بفضل تدخل روسيا الذي أتاح أسطولها الجوي والبحري سهولة تحقيق ما تحقق من «إنجازات»! بخلاف تركيا التي توحي لقاءاتها مع أطياف المعارضة أنها واثقة من سعي الكرملين إلى تسوية سياسية. وتحاول إقناع «الهيئة العليا للمفاوضات» بأن آستانة ليست بديلاً من جنيف، خصوصاً في غياب الأميركيين وغيرهم أيضاً، بل هي مقدمة لها. لذلك كانت آخر رسائلها الإصرار على تمثيل المعارضة الحقيقية. ولذلك جاءت تصريحات الفصائل المدعوة إلى العاصمة الكازاخية أنها على تنسيق مع الهيئة. وعلى رغم ذلك لا تستخف روسيا ولا تركيا بنفوذ الجمهورية الإسلامية في دمشق. قد لا يقل أهمية عن نفوذ موسكو. فهي فضلاً عن مساهمتها الميدانية الواسعة بالمقاتلين، قدمت دعماً مالياً واسعاً إلى النظام المتوجس من الأجندة الروسية. ويرى مصلحته في الانحياز إليها ما دام أنها تصر على بقائه في المدى المنظور ضماناً وحيداً لاستكمال بناء استراتيجيتها.

ما يبدل في ميزان النفوذ لمصلحة موسكو في سورية ليس الصدام المباشر مع طهران. فالرهان على ذلك ليس في محله. ما يحقق للمعارضة بعضاً من آمالها هو تفاهم محتمل بين الإدارة الأميركية المقبلة والكرملين. فلا يخفى أن أجواء الوجوه الجديدة في إدارة الرئيس ترامب معادية لإيران، وتنذر بصراع مقبل معها. وهي لن تكون مرتاحة إلى أي صفقة بين الكرملين والبيت الأبيض. ما يعزز قبضة روسيا في سورية، ويرجح كفتها في سورية، التفاهم على آلية لتنفيذ القرار 2254 تصدر بقرار عن مجلس الأمن تسمح بإطلاق المرحلة الانتقالية بتشكيل حكومة مشتركة تعد لدستور جديد يحمل تغييرات حقيقية سياسية وعسكرية، وتهيئ لانتخابات عامة ورئاسية. وأي تسوية تستهدف إعادة إنتاج النظام نفسه بقادته وأدواته ستكون تسوية تجميلية موقتة... ولن توفر مناخاً مقنعاً لعشرات آلاف المقاتلين في جبهتي الشمال والجنوب بإلقاء السلاح والانضمام إلى المؤسسة العسكرية. والإصرار على مواصلة الحل العسكري بلا مدد روسي لن يؤدي إلى الحسم الناجز. لن يتحقق ذلك في ظل المعطيات القائمة والتفاهم بين تركيا وروسيا. كان الأميركيون وغيرهم يطمئنون أهل الخليج والغاضبين من تدخل إيران إلى أن هذه لا يمكن أن يكون لها في بلاد الشام ما لها في بلاد الرافدين، نظراً إلى التركيبة الديموغرافية في البلدين الجارين. وهو ما دفعها إلى الاستنجاد بالقوة الروسية خريف العام 2015. وتبقى هذه القوة حاجتها الملحة إذا أرادت لنفوذها وحضورها أن يترسخا... إلا إذا كانت قادرة والنظام على فرض «سورية المفيدة»!

اقرأ المزيد
٩ يناير ٢٠١٧
حلب تحاصر إيران

يبدو جلياً أن إيران لا تنظر بارتياح إلى التطورات الأخيرة في سورية، وأن وقف إطلاق النار قبل عشرة أيام لم يرق لملالي إيران وقادة الحرس الثوري الذين يشعرون بأن نفوذهم في سورية يتضاءل لمصلحة تحالف بين روسيا وتركيا، وتقاربٍ في وجهات النظر الروسية - التركية حول المسارات المستقبلية للأزمة السورية بعد أن غيرت تركيا سلوكها، وهو ما يتعارض مع ما خطط له الإيرانيون منذ تدخلهم العسكري المبكر في الصراع، وهو تحويل سورية إلى منطقة نفوذ إيراني صرف على النحو الذي طُبِّق في العراق، وإعطاء الصراع السوري بعداً طائفياً خالصاً على رغم أنه لم يكن كذلك في بداياته، وكان تدخل «حزب الله» اللبناني عسكرياً جزءاً من هذا المخطط.

وعبّرت إيران عن غضبها من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2328 الذي قدمته روسيا، الذي ضمن حماية للمدنيين من العنف، إدراكاً من طهران لحقيقة أن الأمور تسير لغير مصلحتها. ويعد وصف علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، القرار بأنه يمهّد لمزيد من التوتر في سورية و»يُنقذ الإرهابيين»، أول إخراج للخلافات الروسية- الإيرانية إلى العلن، بعد أن تمت تنحيتها جانباً لفترة طويلة. وتوالت مواقف روسية بعد انتهاء معركة حلب، لتؤكد أن المدينة لن تُترك للنظام السوري أو لميليشيات إيران و «حزب الله» اللبناني لتفعل بها ما تشاء، فيما كانت طهران تأمل أن يُلقى من حلب خطاب دعائي لـ «النصر الإلهي» يؤكد هيمنة إيران على مستقبل سورية، وينسب الانتصار الذي تحقق في حلب إلى الميليشيات الإيرانية حصراً. وبدلاً من أن تحاصر إيران حلب، كما كان الوضع من قبل، أصبحت حلب الآن هي من يحاصر إيران ويدفعها إلى الزاوية.

إيران ترى مصلحتها في استمرار التصعيد العسكري ومواصلة المعارك إلى حين إتمام خطة تغيير التركيبة الديموغرافية، عبر مواصلة إبرام الاتفاقات حول خروج المسلحين وعائلاتهم من مدن ومناطق معينة، بفعل الضغط العسكري والحصار الخانق، إلى إدلب أو غيرها ليحل محلهم سكان من الشيعة، وصولاً إلى تفريغ المنطقة الواقعة بين دمشق والحدود اللبنانية من السنة على نحو تام.

من أجل ذلك، فإن اختلاق الأسباب والذرائع من أجل مواصلة العمليات العسكرية هدف لإيران و «حزب الله» اللبناني، وكذلك للنظام السوري الذي يشعر بضعف موقفه أيضاً، وهذا ما يفسر محاولات إشعال الموقف وخرق اتفاق وقف إطلاق النار. وبدا التقارب الروسي - التركي على حساب إيران في تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الذي طالب إيران بالضغط على «الميليشيات الشيعية والنظام السوري» لوقف إطلاق النار، موضحاً أن جهوداً تجرى لعقوبات روسية- تركية ستُفرض على منتهكي الاتفاق. وكما هو مُتوقع، جاء الرد على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عصبياً ومتشنِّجاً وكاشفاً عن الغضب المكبوت، ولم يزد عن اتهام الأتراك بـ «تعقيد الظروف وزيادة المشكلات في طريق الحل السياسي للأزمة».

على رغم أن إيران وروسيا كانتا تخوضان الحرب في سورية في خندق واحد، فإن اختلاف الأهداف كان يجعل لحظة افتراق المصالح حتمية، وحانت هذه اللحظة الآن. وما يُدركه الإيرانيون تماماً، أن روسيا هي صاحبة الدور الأهم في تغيير موازين القوة لمصلحة النظام، إذ حشدت جهودها العسكرية والسياسية والديبلوماسية خلال العامين الأخيرين من أجل تحويل مسار الحرب التي شهدتها سورية، ونجحت في ذلك. ولم تُنقذ روسيا النظام السوري فحسب، بل إنها أنقذت إيران وذراعها «حزب الله» وجنبتهما هزيمة كانت تبدو وشيكة، إذ كانت المعارضة السورية قريبة جداً من إسقاط النظام لولا أن جاء التدخل الروسي القوي ليغير المعادلة تغييراً كلياً.

تسعى روسيا من تدخلها في سورية إلى تعظيم نفوذها واستعادة جزء من صورة القوة العظمى القادرة على فرض مصالحها بالقوة، وبناء أسس لنفوذها في المنطقة بعد أن كادت تغادرها تماماً. واقتربت روسيا من تحقيق هذه الأهداف، فهي ذات كلمة مسموعة لدى النظام السوري، ويمكنها التفاهم مع تركيا صاحبة النفوذ على قطاعات مهمة من الميليشيات التي تقاتل النظام، كما أن كثيراً من فصائل المعارضة السورية ليس لديها مانع من التعامل مع روسيا وإبرام الاتفاقات معها، فيما ترفض تماماً أي تعامل مع إيران. ولذا فإن روسيا ستُنجز مهمة وترحل، بعد أن تحصل على ما تشاء من قواعد وتسهيلات عسكرية واتفاقات تضمن لها النفوذ الذي تسعى إليه.

وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى إيران التي لم تدخل سورية لتخرج منها، بل دخلت لتبقى. ومشروع إيران في سورية هو إقامة نظام طائفي تابع لطهران يتلقى منها الأوامر ويعمل لمصلحة تحقيق أهدافها الإقليمية والدولية. وسورية في التصور الإيراني جزء من الهلال الشيعي الذي يضمن لها أن تكمل اختراقها للدول العربية وتمد سطوتها ونفوذها بشكل متصل ليبلغ البحر الأبيض المتوسط. ومساحة السيطرة الممتدة جغرافياً واستراتيجياً ستتيح تحقيق اختراقات أسرع في دول ومناطق عربية أخرى، وتدعم محاولات طهران من أجل زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى في دول الخليج العربي، وتشكيل طوق حول دول الخليج العربية من خلال تكثيف الدعم للميليشيات الحوثية في اليمن، وتشجيعها على مواصلة اعتداءاتها على الشرعية ومد أمد الحرب ما أمكن.

تختلف أهداف روسيا وإيران كذلك في ما يخص طبيعة العلاقات مع دول الخليج العربي والعالم العربي بشكل عام. وتتطلع روسيا إلى علاقات سياسية واقتصادية جيدة مع دول الخليج العربي، أما إيران فهي تغذي حال العداء مع محيطها العربي بمزيد من التدخلات والتحرشات والإساءات، وتفتعل المشكلات التي تقف بالمنطقة دائماً على حافة التوتر والمواجهة. ومن المعروف أن جزءاً من أوراق حل الأزمة السورية تمتلكه دول خليجية، ودور هذه الدول ضروري للوصول إلى تفاهمات واتفاقات بين النظام وفصائل كبرى ومؤثرة في المعارضة السورية، وتستطيع روسيا أن تكون وسيطاً يحظى بدرجة من القبول، في حين أن وجود إيران يمكن أن يعقد أي جهود على هذا الطريق.

من جهة ثانية، فإن ترتيب الساحة لمقدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يتحدث كثيرون عن علاقة جيدة تربطه بالروس، يقتضي تحجيم الدور الإيراني في سورية، فالرئيس الأميركي الجديد ينوي وقف سياسة سلفه باراك أوباما التي سمحت لإيران بالتمدُّد وتحقيق أهدافها من دون أن تجني الولايات المتحدة الأميركية شيئاً، وسيتبع سياسة أكثر تشدداً تجاه إيران على مستويات عدة. ولن يكون من السهل ضمان تعاون الولايات المتحدة الأميركية في الوصول إلى حلول للأزمة السورية إذا كان لإيران حضور مؤثر فيها، على العكس من تركيا التي يمكن أن تكون عاملاً مساعداً في هذا الشأن.

الدور الإيراني في سورية، وهو دور تراه طهران محورياً، يوشك أن يدخل مرحلة أفول، على رغم العدد الهائل للقتلى من الحرس الثوري و «حزب الله» والميليشيات التي اجتلبتها إيران من مناطق عدة. والمخطط الإيراني للهيمنة على سورية على وشك التهاوي، وزمن التغاضي الأميركي عن التمدد الإيراني أو تأييده ضمنياً انتهى مع رحيل أوباما، وكل ذلك سيعود بإيران إلى موقع المحاصر. ومثل هذا الموقع سيضعف إيران، لكنه في الوقت نفسه سيجعلها أكثر تخبطاً وشراسة وإقداماً على خطوات متشنجة وعنيفة، وهذا ما يجب أن نكون مستعدين له في دول الخليج العربي.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١٣ أغسطس ٢٠٢٥
ازدواجية الصراخ والصمت: استهداف مسجد السويداء لم يُغضب منتقدي مشهد الإعدام في المستشفى
أحمد ابازيد
● مقالات رأي
٣١ يوليو ٢٠٢٥
تغير موازين القوى في سوريا: ما بعد الأسد وبداية مرحلة السيادة الوطنية
ربيع الشاطر
● مقالات رأي
١٨ يوليو ٢٠٢٥
دعوة لتصحيح مسار الانتقال السياسي في سوريا عبر تعزيز الجبهة الداخلية
فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان
● مقالات رأي
٣٠ يونيو ٢٠٢٥
أبناء بلا وطن: متى تعترف سوريا بحق الأم في نقل الجنسية..؟
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
محاسبة مجرمي سوريا ودرس من فرانكفورت
فضل عبد الغني
● مقالات رأي
٢٥ يونيو ٢٠٢٥
استهداف دور العبادة في الحرب السورية: الأثر العميق في الذاكرة والوجدان
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
١٧ يونيو ٢٠٢٥
فادي صقر وإفلات المجرمين من العقاب في سوريا
فضل عبد الغني