في لقاءٍ جَمَعَهُ بأهالي جوبر أول أيام الثورة السورية، قال بشار الأسد رداً على سؤالٍ عن عدم محاسبة العميد عاطف نجيب (ابن خالته) الذي سَحَبَ أظافر أطفال درعا مرتكبي جرم الكتابة على جدارِ مدرسةٍ، إن سورية دولة مؤسسات، والسلطة لا تتدخّل في عمل القضاء، وطالما أن أحداً ممن سُحبت أظافره لم يتقدّم بشكوى ضدّه، فكيف يمكن للقضاء اتخاذ إجراءٍ بحقه؟
وفي لقاءٍ قبل أيام جمعه بوسائل إعلام فرنسية، قال بشار إن كل شيء مطروح للنقاش في مفاوضات الآستانة إلا مصيره لأنه منتخَب شعبياً ودستورياً وقانونياً... بشار باقٍ لأن سورية في عهده هي دولة مؤسسات ونظام ديمقراطي، وسورية في زمن الثورة دولة فوضى وديكتاتورية تَجْنَحُ إلى الطغيان في مواجهة الحريات والتحضّر.
الطفل حمزة الخطيب مثلاً، ابن الأعوام الـ 13 الذي استهوتْه حركة أطفال درعا وتَضامَن معهم على طريقته هاتفاً في بداية الثورة لإصلاح النظام ومطالباً بمزيد من الحريات (هكذا كان سقف المَطالِب)، كان بمنطقِ النظام وحلفائه مشروع ثائرٍ قد يكبر و"يطغى" عليه الجنوح في رفْض تَسلُّم حافظ بشار الأسد مثلاً السلطة خلفاً لوالده، وهذا الطغيان مرفوضٌ في عقيدة السيد والعبد، ومالك المزرعة ومُزارعيها، ولذلك أُقصي بأبشع الطرق وأعيد إلى أهله جثة بلا أعضاء. أكد النظام فعلته ولم ينفها، كي يتّعظ الأطفال "الطغاة" مما حصل ويعرفوا مصيرهم طالما أن العالم الحرّ يدعم الديمقراطيين في كل ممارساتهم ضد الطغاة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى غياث مطر، فهذا الشاب رفض استجداء السلطة للمتظاهرين بحمْل السلاح في الأشهر الأولى من الثورة (راجِعوا تصريحات فاروق الشرع) وأصرّ على حمْل الورود والمياه وتوزيعها على الجنود. "طغى" جنوح غياث إلى السلمية على أدائه وأعطى صورة مغايرة تماماً عن النظام، فووجه بالقتل والتشويه وسرقة الأعضاء. هنا النظام لا يرحم الطغاة ويحصد باضطراره إلى إزالتهم تصفيق العالم الحرّ... الديمقراطي.
إبراهيم القاشوش "طغتْ" روحه الفنية الساخرة على قدراته التعبيرية، فأَنشد داعياً الرئيس إلى الرحيل. وهو في عُرف الأسد طغيانٌ ما بعده طغيان، والتاريخ لا يرحم المستكين للطغاة. ولذلك أمَرَ بقطْع حنجرته ورميه في نهر العاصي كي يجرف معه العظة والدروس إلى كل عاصٍ في القرى المجاورة. ولم يخرج صوتٌ أجنبي يستنكر إلا المذيعة باربرا وولترز التي سألتْ بشار عنه، فكان ردّه مفحماً كالعادة: لا أعرفه، إنه شخص غير مشهور.
لكن المعارض الكردي البارز مشعل تمو كان مشهوراً ومحبوباً من كل السوريين لأنه رفض مبكراً لعبة النظام بتفكيك المناطق والتكتلات واللعب على الغرائز العصبية والقومية وأطلق شعاره "يداً بيد لنتحرّر من السجن الكبير". هو أيضاً "طغتْ" روحه الوحْدوية الوطنية على الشعارات التافهة التي أطلقها متحمّسون بسطاء أو منتقمون أو مندسّو النظام، فكان لابدّ من إزالة طغيانه لمصلحة التفكك واللعب بورقة القوميات... والغرب الديمقراطي يصمتْ كي لا يلبس القميص الكردي الموزَّع بين الجغرافيا والمصالح.
أما أمّ الكبائر فكانت انشقاق حسين هرموش من الجيش رافضاً قتْل السوريين المتظاهرين سلمياً. "طغى" الشعور الوطني الإنساني لدى الرجل على خوفه من المؤسسة التي كانت مَصْنَع الخوف. خرجَ عارفاً أنه اشترى الآخرة وباع الدنيا الغارقة في قذارةِ صاحب المَصْنَع وشركائه. سلّمه الأمن التركي إلى النظام بعدما كان الأخير سحَقَ العشرات من أفراد أسرته الذين مارسوا فعل الطغيان اللا إرادي كونهم أهله وأقرباءه.
توسّعتْ خريطة الطغاة بعد ذلك. الصمت على حمزة وغياث وإبراهيم ومشعل وحسين وغيرهم الكثير، أَنْجَبَ مجازر الغوطة وكرم الزيتون وداريا ودوما والحولة والقبير وبابا عمرو وبانياس والبيضا وحماة وحلب وتفتناز وبنش ومعرة النعمان... أما "الطغاة" الناجون من ديمقراطية الأسد، فأكملتْ بحور الهلاك وحيتانها مهمّة التخلّص منهم.
أَنْجَبَتْ حرب الأسد وحلفائه على "الطغاة" أيضاً أبناء غير شرعيين للثورة السورية، وقد يكشف انجلاء غبار الموت لاحقاً عن الحبل السري الرابط للتنظيمات المتطرّفة والمرتبط بهم. عن الرحم الذي تكوّنوا فيه. عن ظلمات السجون التي أُخرجوا منها والتسهيلات الشرعية التي مُنحت لهم لاستقطاب الآلاف الذين أكملوا المهمّة وطهّروا المناطق المحررة ممّن بقي من "الطغاة".
اختفتْ أسماء المدن والمناطق وتَقدّمتْ أسماء المجازر. رسَمَ الأسد وحلفاؤه سورية أخرى بمدنٍ وقرى أخرى وسكان آخرين حتى تَجاوز عدد "الطغاة" الذين سقطوا المليون بين قتيلٍ وجريح، والذين هاجروا الخمسة ملايين، والعالم الحرّ يريد أن يتدخّل لكن بعض دوله تفضّل فعْل ذلك العام 2021 موعد انتهاء فترة رئاسة الأسد "المنتخَب دستورياً"، وبعضه الآخر ما زال حتى الآن ينتظر طفلاً من درعا سُحبت أظافره كي يتقدّم ويرفع دعوى قضائية ضدّ عاطف نجيب... حتى تأخذ العدالة في دولة القانون والمؤسسات مجراها.
تركت المآلات الكارثية التي وصلت إليها المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، أثرها البالغ في أكثر من اتجاه، طارحةً أسئلةً عديدة يمكن أن تبدأ من تساؤلات السوريين حول ماهية المشروع الوطني الذي خرجوا من أجله، في ظل الصراع العسكري الذي تصدّر المشهد واقعاً وتفاوضاً؟ وما هي الأخطاء التي أثبت الواقع تفاقمها، في ظل إداراتها المتعدّدة؟ وكيف بدّدت السنوات الست رهانات الكيانات المعارضة الخاطئة، لتجد نفسها أمام استحقاق المصارحة والاعتراف، وربما المطالبة الشعبية بتنحّي الشخصيات المهيمنة في هذه المؤسسات عن العمل السياسي؟
في هذا المناخ السياسي المتخبط، ظهرت وثيقة على شكل نداءٍ، أصدرته مجموعة من المعارضين السوريين، تضمن مراجعة نقدية لأداء المعارضة وخطاباتها السياسية والإعلامية، ومصارحة صادمة حول الرهانات التي ثبت خطؤها وضررها على السوريين وثورتهم.
وبشكل موجز، بدأت هذه الوثيقة بتمهيدٍ عرضت فيه للمبادئ الأساسية التي انطلقت من أجلها الثورة السورية، والمتمثلة بإنهاء نظام الاستبداد، ومن أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية والعدالة والدستور، واستعادة الدولة، فهذا هو معنى الثورة. ثم تحدّثت عن التعقيدات التي اتسمت بها الثورة السورية، والمداخلات الخارجية التي أثرت عليها، سلباً، والأهوال غير المسبوقة التي تعرّض لها السوريون، والتي اعتبرت أن النظام هو المتسبّب الرئيس فيها. وأكدت الوثيقة أن النظام ما كان له أن يفعل كل ما فعله، لولا تساهل النظام الدولي، وسكوت الدول الكبرى أو تلاعباتها، وخصوصاً الولايات المتحدة، وبعض الدول الإقليمية والعربية التي حرصت على تخريب الثورة، وحرفها عن أهدافها، خشيةً من تأثيراتها في محيطها، في المشرق العربي، وعلى إسرائيل ذاتها. والفكرة الأساسية التي طرحتها الوثيقة في مقدمتها أن الثورة السورية، وعلى الرغم من أنها لم تستطع تحقيق أهدافها، إلا أنها لم تنهزم، ولم تستسلم، بسبب روح الحرية التي أطلقتها في عقول معظم السوريين وقلوبهم، وأن الذي انهزم هو الأوهام والمراهنات التي انبنت عليها.
ضمن هذه الرهانات، بحسب الوثيقة، التعويل على الخارج، وطغيان العسكرة على حساب المظاهرات الشعبية، وتصدّر الخطابات الطائفية والدينية، ودخول المنظمات المتطرّفة والإرهابية والتكفيرية على خط الصراع الدائر في سورية.
أما بالنسبة للمعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، فأخذت عليها الوثيقة أنها "مفتّتة، وأنها تشتغل بمعزلٍ عن حواضنها المجتمعية، ومن دون أية توسّطات أو شبكات متبادلة، كما تتمثل بضعف إدراكاتها لمكانتها ودورها وانضباطها للدور المرسوم لها، من الفاعلين الدوليين والإقليميين، وعجزها عن تطوير أحوالها، بتوسيع هيئاتها، على قواعد مؤسّسية وتمثيلية وديمقراطية، وقواعد تنظيمية سليمة".
من حيث البدائل، حاولت الوثيقة طرح مجموعة أفكار، منها: "استعادة ثورتنا خطاباتها أو مقاصدها الأساسية التي انطلقت من أجلها، بتأكيد طابعها ثورةً وطنية ديمقراطية... من أجل التحرّر من نظام الاستبداد والفساد، وإقامة دولة مؤسسات وقانون ومواطنين أحرار ومتساوين في دولةٍ مدنية، تنتهج النظام الديمقراطي، وتوفر العدالة الاجتماعية في الحكم، وفي العلاقة بين سائر مكونات المجتمع والدولة". و"الاشتغال على بناء كيان سياسي جمعي جبهوي للسوريين، تعترف الأطراف المشكلة له ببعضها، بمشتركاتها واختلافاتها، وتجتمع على الهدف الأساسي للثورة، بغضّ النظر عن الخلفيات الفكرية، وبعيداً عن العصبيات الأيديولوجية أو الهوياتية أو الدينية". و"بلورة تيار وطني ديمقراطي في الثورة السورية"، عبر "خطوات مدروسة ومتدرّجة" مع تثمين "كل المبادرات والتصورات التي تشتغل في هذا الاتجاه، بعقليةٍ منفتحة، بعيداً عن الاستئثار والاحتكار، وعن ادّعاءات المركز والأطراف، أو فوق وتحت، أو النخبة والقواعد". وبالنسبة لأشكال الكفاح، اقترحت الوثيقة ضرورة إعادة تنظيم الشعب، وبناء كياناته السياسية والمدنية، لإطلاق موجةٍ جديدة من الكفاح الشعبي، وبحسب الإمكانات، بما يقلل من أكلاف الصراع، ويحقق أفضل الإنجازات، ولو على المدى الطويل. وأكّدت الوثيقة أهمية بذل الجهود لإنشاء كياناتٍ أو ممثليات شعبية في الداخل والخارج، عبر تنظيم مؤتمراتٍ، ينبثق منها ممثلون على أساس الكفاءة والنزاهة والروح الكفاحية وبوسائل الانتخابات، حيث أمكن ذلك. وبخصوص المسألة القومية، وخصوصاً الكردية، انحازت الوثيقة إلى تبني منهجٍ ينبثق من قيم الحرية والمساواة والعدالة في الثورة السورية، وأن حل المسألتين، الكردية والقومية، لبقية المكونات حلاً عادلاً، في هذه المرحلة، يأتي ضمن الثورة الوطنية الديمقراطية. وضمن ذلك مثلاً الاعتراف للكرد بحقوق المواطنة المتساوية كسوريين، وبحقوقهم الجمعية والقومية، كشعب، في إطار الوطن السوري. وبخصوص العلاقة مع الخارج، أكدت الوثيقة على "توسيع معسكر الأصدقاء، ووعي المعطيات المحيطة بها دولياً وإقليمياً وعربياً، لإيجاد مقاربةٍ سياسيةٍ بين أهدافها والقيم العالمية، قيم الحرية والمساواة والمواطنة والديمقراطية والعدالة"... وتأكيد حق شعبنا "المشروع في استعادة الجولان السورية المحتلة، ومساندة حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، علماً أن أحد أهم أسباب تعقد المسألة السورية ناجمٌ عن وجود إسرائيل التي ترى في النظام بمثابة حام لأمنها، فضلاً عن كونها كياناً استعمارياً واستيطانياً وعنصرياً، يتناقض مع ثورة الحرية والكرامة والمواطنة، ومع قيم العصر، فالحرية لا تتجزأ".
لكن، كما أي نص موضوع، لا يمكن تجاهل بعض الملاحظات النقدية حوله، منها مثلا استرساله بشرح مسهب عن تقييم المرحلة السابقة، ونقد رهاناتها وأوهامها، في حين ترك باب الحلول التي يمكن من خلالها معالجة الأخطاء، مختصرة، كأن واضعي الوثيقة ينتظرون، أو يعدون بوثيقة ثانية مكملة، في مرحلةٍ لاحقة، لتقديم تصورهم للمهام المقبلة.
وفي ما يتعلق بالمسألة الكردية، كان يفترض بالوثيقة مخاطبة المكوّنات الكردية للتوافق على تصور معين لحل المسألة الكردية، وإنهاء الخلافات الكردية الكردية، بما يضمن وحدة سورية، وحقوق الأكراد، أفراداً وجماعة قومية. أيضاً، ثمة سؤال يمكن طرحه هنا، فما الذي تعنيه الأسماء الموقعة، والتي يقارب عددها الأربعمئة، ضمت نخبةً كبيرةً من المثقفين والسياسيين والنشطاء، إذا لم يكن لدى واضعي الوثيقة تصوّرا محدّداً وعملياً، لبلورة تحرّكهم، أو لتقديم أنفسهم في كيانٍ سياسي، يمكن أن يسهم بتشكيل واقع معارضاتي جديد، يلبي تصور هذه المجموعة، والتي كنتُ ممن وقّع عليها، لصراحتها وشفافيتها، واتساع صدور من كتبوها في تحمل عبء الاعتراف الذي يكاد يرتفع إلى منزلة الاعتذار؟
تبذل موسكو قصارى جهدها وتكثف التنسيق مع أنقرة بهدف التئام مؤتمر أستانة المخصص للتفاوض حول النزاع السوري، في موعده المبدئي في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، أو خلال الأسبوع الأخير منه على أبعد تقدير.
هذا السباق مع الوقت يتزامن مع تمركز إدارة دونالد ترامب وعشية دعوة ستيفان دي ميستورا الافتراضية لمؤتمر جنيف 4 في فبراير القادم. والواضح أنه في منعطف ما بعد حلب تسعى روسيا لإثبات قدرتها الريادية والأحادية في قيادة العملية السياسية في سوريا، وأنه بإمكان التنسيق مع تركيا (ضمن ترويكا إعلان موسكو مع إيران بالطبع) أن يكون أكثر فعالية من إدارة العراب سيرجي لافروف والمايسترو جون كيري للمسار السوري بين 2012 و2016. يفترض هذا الرهان قدرة على التحكم بالورقة السورية عسكريا وسياسيا، وهذا ما لا تملكه موسكو لوحدها ولا توفره لها الترويكا. ولذا ستكون محطة أستانة اختبارا للأداء الدبلوماسي الروسي بعد إنجازات “الاختراق الاستراتيجي” في السنوات الأخيرة على حساب الدور الأميركي.
مزج الرئيس الروسي فلاديمير بـوتين بين “القوة الصلبة” و“القوة الناعمة” في إدارته للحيز الأخير من معركة حلب. قبل انتهاء المعركة رسميا كان بوتين يعلن من طوكيو التـوافق مع تركيا على عقد مفاوضات في أستـانة، وعلى ذمة عدة مصادر “منعت موسكو الرئيس السوري بشار الأسد من إلقاء خطاب النصر في حلب”. وبعد ذلك تيسر تجاوز تناقضات الأضداد بين روسيا وتركيا وإيران، وحياكة إعلان الترويكا في موسكو من أجل فتح الطريق نحو أستانة.
إبان “الوقت الأميركي الضائع” وغياب الأطراف العربية والأوروبية عن دائرة الفعل، لم تكتف الدبلوماسية الروسية بغطاء الترويكا، بل طلبت تدويل الهدنة بقرار من مجلس الأمن الدولي ونجحت نسبيا لأن المجلس اكتفى بالترحيب وليس بالدعم، وأصر على وضع محطة أستانة تحت سقف مرجعية جنيف وإشراف الأمم المتحدة.
طغى الاستعصاء على الحراك الدبلوماسي بخصوص الملف السوري وفشلت مؤتمرات جنيف ومبادرة فيينا وغيرها، بسبب تفاقم الصراع الداخلي والاستقطاب الإقليمي والدولي في “اللعبة الكبرى”. ومن أبرز أسباب الفشل الغموض غير البناء في وثيقة جنيف 1 (يونيو من العام 2012) لناحية ربط تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بالإجماع، وهذا ما سمح عمليا بتعطيل أي حل. وبعد تدخل روسيا الكثيف في آخر سبتمبر 2015، صدر القرار الأممي 2254 (ديسمبر 2015) الذي جرى فيه التوافق على خارطة طريق لتطبيق جنيف يعتمد القراءة الروسية، ويدعو لإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة على أن يتم التحول السياسي بقيادة سورية. وإذا وضعنا جانبا رفض النظام السوري لأي تسوية سياسية لأنه كان يعتبرها التمهيد لنهايته، وربط الحراك الثوري بالقرار الخارجي أو استخدام ورقة الإرهاب لمنع التغيير، فإن الأدهى تمثل بعدم نفاد وظيفة النزاع السوري الجيوسياسية المتمثلة باستكمال تهديم وتفكيك سوريا وضرب الوزن العربي وتركيب الشرق الأوسط الجديد وفق هذه المتغيرات.
ومن هنا يبدو التساؤل مشروعا إذا كان مؤتمر أستانة سيقدم جديدا وهل نضجت ظروف الحل على الطريقة الروسية ويرتكز على إعادة تأهيل النظام وإدخال بعض التجميل عليه.
اللافت هذه المرة أنه بالرغم من غياب الآلية الواضحة لمراقبة وقف إطلاق النار، وعدم رفع الحصار وعدم إدخال المساعدات استنادا إلى أقوال الأمم المتحدة، فقد شهد الوضع- على خلاف المرات السابقة- احتراما نسبيا للهدنة باستثناء منطقة وادي بردى، وهذا يدلل على قدرة روسيا وتركيا على التأثير الميداني وحماية الاتفاق “الهش” حسب اعتراف الرئيس بوتين نفسه. وفي هذا الإطار، قبل عشرة أيام من موعد أستانة الافتراضي، أقدمت أنقرة وموسكو على خطوة إضافية في التقارب بينهما مع إقرارهما مذكرة مشتركة لضمان سلامة الطلعات الجوية خلال العمليات العسكرية في الأجواء السورية.
على الصعيد العملي، للمرة الأولى منذ بداية الحرب في سوريا، تقتضي خطة مباحثات أستانة أن تلتقي وفود عسكرية تمثل النظام والمجموعات المعارضة المسلحة الموقعة على اتفاق وقف إطلاق النار، وتكمن الأهمية القصوى لهذا التطور، حسب التصور الروسي، في مشاركة الفصائل الفاعلة على أرض الواقع. للوهلة الأولى، تسجل المعارضة السورية مكسبا لأن موسكو التي كانت تنحاز للرأي الأسدي القائل إن كل معارض إرهابي، اعترفت بفصائل مثل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” (كانت تطالب بوضعها على لائحة الإرهاب) وذلك ضمن التنسيق مع أنقرة.
بيد أن هذه التوليفة يمكن أن تطيح بشرعية تمثيل المعارضة حسب وثيقة جنيف والقرارات الدولية، حيث أن استبعاد الهيئة العليا للمفاوضات لصالح الممثلين العسكريين، يمكن أن يعقد لاحقا مسألة تمثيل المعارضة في المحطات التالية للعملية السياسية. بيد أن تجاوز مطبات الفيتو التركي على تمثيل الاتحاد الديمقراطي الكردي، والتصور الروسي لتغيير شكل وفد المعارضة السياسية عبر الإصرار على التوازي بين ما يسمى منصات، أدى إلى التوافق على مثل هذه التركيبة. وعلى ضوء الخلل في ميزان القوى والغلبة الـروسية وإذا نظرنا إلى النصف الملآن من الكأس، يمكن الاكتفاء بانتظار تثبيت الهدنة وخلق منـاخ ثقة كمحصلة لمبـاحثات أستانة في حال التئامها وعدم تعثرها في اللحظة الأخيرة.
كثرت التسريبات في الأيام الأخيرة حول رفع السقف السياسي والآمال المعلقة على مؤتمر أستـانة، ووصل الأمر بالبعض لضمان التسليم ببقاء بشار الأسد إلى الأبد أو حتى إلى انتخـابات 2021، وطـالعنا أسمـاء مجالس عسكرية وحكومات مؤقتة وتواريخ محددة للانتقال السياسي. وفي كل ذلك مبـالغة كبيرة لأن التفـاهم غير متـوفر بين روسيـا وتركيا وإيـران على هـذه المخـارج، ولأن المتـاعب المنتظرة لمـوسكو ستكون مع حليفها الإيـراني الذي يرفض التسليم بدورها الريادي، ويرفض عمليا الحل على الطريقة الروسية. وفي ما يتعدى هذه الإشكـالات بين الداعين للقاء أستـانة، برز إصرار أنقرة على مشـاركة واشنطن وعدم غيابها عن محطة أستانة، وهذا يعني أن بدء الكلام الحقيقي في تصورات الحل السياسي المرحلي سينتظـر الـربيع القـادم أي بدء شروع إدارة ترامب عملها بشكل فعلي.
في الخلاصة، إذا تيسر لقطار العملية السياسية في سوريا أن يصل إلى محطة أستانة، ستدور المفاوضات حول تفاهمات
الغارة الجويّة التي شنتها امس إسرائيل على مطار المزّة العسكري في دمشق تندرج مثل الكثير من الغارات المماثلة خلال أعوام خلت عقب اندلاع الحريق السوري بعد العام 2011 ضمن توصيف ما يسمّيه إعلام النظام السوري "دعم المجموعات الإرهابية". بينما تؤكد معطيات متعددة المصدر انها استهدفت شحنات اسلحة مرسلة الى "حزب الله". طبعا المرسل هو إيران. وآخر الغارات قبل الغارة الجديدة كانت في 30 تشرين الثاني الماضي واستهدفت الطريق الرئيسي بين دمشق والحدود اللبنانية.
بالطبع، لا أحد يجهل ان الجسر الجوي العسكري الذي يصل طهران بالعاصمة السورية هو الانشط لدعم رئيس النظام السوري بشار الاسد. ولم ينل هذا الجسر أي أذى على يد إسرائيل أو سواها بدليل فاعليته خلال معارك سوريا على اختلافها وآخرها في حلب. ما يعني أن غارات إسرائيل تتحرّك فقط إذا ما اتجهت حمولة الجسر الايراني نحو لبنان. وهنا يبقى السؤال الدائم عما تريده الجمهورية الاسلامية من وراء تعزيز قدرات "حزب الله" على الساحة اللبنانية فوق تلك القدرات التي راكمها الحزب في لبنان على امتداد عقود؟
في معلومات صحافية ان الحزب أعاد بعد معركة حلب التي أحرز فيها الحلف الذي تقوده موسكو إنتصارا ساحقا، بضعة آلاف من عناصره وسط تكهنات بان الامر يتصل بتعزيز وجود الحزب على الجبهات بين لبنان وسوريا من جهة، وبينهما وبين إسرائيل من جهة أخرى، ما يعيد توجيه الانظار الى حدود لبنان الجنوبية. وتأتي هذه التكهنات بعد تراجع المواجهات الواسعة في سوريا، ما سمح لروسيا بأن تعلن عن خفض وجودها العسكري قبل أيام من مؤتمر أستانا السوري في 23 من الشهر الجاري. فهل هناك ما يدعم هذه التكهنات التي تناقض واقعا مستمرا منذ العام 2006 حيث وقعت أطول الحروب بين إسرائيل والحزب وانتهت الى القرار الدولي الرقم 1701؟
ليس في المشهد الدولي الذي يتكوّن حاليا ما يعزّز اتجاهات الهدوء وتاليا السلام في الشرق الاوسط. وتبدو قراءة طهران للمرحلة المقبلة في واشنطن بعد دخول الرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب بعد أيام الى البيت الابيض أشبه بالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال. وهذا ما ظهر في اختصار الاعلام الايراني شهادة وزير الدفاع الاميركي الجديد الجنرال ماتيس في الكونغرس بعبارة "على الولايات المتحدة الايفاء بالتزامها تجاه الاتفاق النووي مع إيران رغم ثغراته"، واختصار شهادة المدير الجديد لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية مايك بومبيو بعبارة أنه سيغيّر موقفه السابق المعارض للإتفاق النووي مع إيران. أما ما قاله ماتيس حول وجوب التطرّق الى انتهاكات إيران خصوصا في "برنامجها للصواريخ الباليستية"، وما قاله بومبيو عن أن "سوريا دولة فاشلة" وأن إيران "دولة قيادية في رعاية الارهاب"، فلم يسمع به إعلام إيران.
ما جرى في مطار المزّة أول الغيث في مرحلة جديدة من "الحوار" بين تل أبيب وطهران.
منذ انتهت معركة حلب بدأت روسيا بمحاولة استثمار نتيجة هذه الحرب، عبر تحويلها إلى مردود سياسي من خلال الاجتماع الثلاثي مع كل من تركيا وإيران، ودعوتها إلى مؤتمر حوار بين النظام والمعارضة (بما فيها المعارضة المسلحة) في مدينة آستانة، بمشاركة تركيا وإيران. ومنذ ذلك الوقت، تجري ترتيبات ولقاءات وحوارات كثيرة بين المدعوين إلى المؤتمر تمهيداً له، لتصدر تباعاً من كل طرف تأويلات مختلفة للقاء آستانة، ودوره، والنتائج المرجوة منه، بينما تأمل الجهة المبادرة (روسيا) بأن يكون الخطوة الأولى نحو حل سياسي يساهم في تكريسها قوة عالمية، وتثبيت نفوذها في سورية.
ما هو ملاحظ بهذا الوضع أن صاحب المبادرة (روسيا) لم يعلن عن نقاط الحوار، أو المسائل التي ستُناقش في هذا اللقاء. وليس من الواضح إن كانت روسيا لم تفعل لأنها لم تضع الباقين في انتظار استخلاصها الأنسب من الحوارات الجارية، أم لأنها لا تريد أن تترك للأطراف مجالاً للمناورة قبل اللقاء. فليس واضحاً إن كان اللقاء تثبيتاً للهدنة (التي لم تصمد حتى الآن، وما زالت الأطراف المدعومة من روسيا تمعن في خرقها ليل نهار) ووضع آلية لمراقبتها، أو أنه سيتطرق الى مجمل القضية ويضع أجندة للعملية السياسية اللاحقة. كذلك لم يُعلن، حتى الآن، عن الأطراف التي يمكن أن تشارك في هذا اللقاء، حيث ما زال هناك غموض كبير حول الأطراف المحلية والإقليمية والدولية التي ستُدعى، وتكثر التصريحات الروسية التي تتمنى، أو تقترح، أو تؤكد، مشاركة الأمم المتحدة وأميركا والسعودية ومصر وقطر وغيرها، من دون أن يُصرح، حتى الآن، عن توجيه دعوة رسمية الى أي طرف.
وهو ما يبعث على الاعتقاد بأن لقاء آستانة لقاء الضعفاء الذين يحاولون الاستقواء بآستانة لتحسين مواقعهم، أكثر من كونه يهدف إلى وضع المسألة السورية على مسار الحل. وبالتالي، الاعتقاد بأنه لن يكون هناك أي تطور على صعيد الوضع السوري مع هذا اللقاء إن حصل.
فروسيا الضعيفة التي غرقت بالحرب في سورية أساساً لتحسين وضعها الدولي، تحاول الإمساك بهذا اللقاء كورقة قوة تجذب إليها اهتمام أميركا وأوروبا لإعادة الاعتبار إليها كلاعب دولي كبير، وعلى أمل بدء محادثات جادة معها حول الأوضاع في العالم، خصوصاً الوضع في أوكرانيا، ودول أوروبا الشرقية، وعلى أمل رفع العقوبات عنها. لكن الغرب ما زال يتجاهلها، ويمدد العقوبات، ويتمدد عسكرياً في شرق أوروبا، ويرفض الدخول في حوار سياسي معها حول أوكرانيا وشرق أوروبا ما لم تنصَع للمطالب الغربية بالانسحاب من القرم وأوكرانيا. وهو قلل من أهمية ما تفعل حين لجأت الى مجلس الأمن لأخذ شرعية دولية لاتفاق الهدنة، حيث صدر القرار الأممي بعدم تبني الهدنة من قبله وإنما اكتفى القرار بأخذ العلم بها، أي أنه لم يعط الشرعية الدولية لاتفاق الهدنة التي فرضتها روسيا. لذلك فروسيا في حاجة الى هذا اللقاء، على أمل أن تحسّن وضعها مقابل الغرب، أو، في الحد الأدنى، أن تظهر قوتها على الأطراف الإقليمية وتحسّن وضعها الإقليمي.
أما تركيا، فخذلتها أميركا وأوروبا وتركتاها وحيدة تواجه روسيا وإيران، ووضعها الداخلي يتّجه الى الهشاشة بعد الانقلاب العسكري الفاشل وتراجع الليرة وازدياد نفوذ الأكراد في منطقة الشريط الحدودي في سورية، وازدياد الهجمات الإرهابية على أراضيها، أكان من حزب العمال الكردستاني أو من «الدولة الإسلامية». وتجد تركيا في هذا اللقاء ما يرجع إليها دورها القوي المؤثر ويجنبها مزيداً من الخسائر عبر الاستقواء بالأطراف الإقليمية تجاه الغرب وأميركا.
وتترقب إيران ما ستأتي به الإدارة الأميركية الجديدة تجاهها، وتجاه روسيا، والمنطقة. فلقاء آستانة فرصة لتبقى محمية مترقبة ما هو آتٍ، وتحديداً أن ما صدر عن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يوحي بأن إدارته ستحاول أن لا تواجه تناقضات المصالح بينها وبين روسيا في الملف السوري، بل أن تسايرها وتنخرط معها عبر الاعتماد عليها.
وتبحث المعارضة السورية بشقّيها السياسي والعسكري الضعيف، والذي لم يجد حقيقة من يمد له يد المساعدة الكافية، بخاصة بعد خسارة حلب وموجة التمدد العسكري للنظام في ريف دمشق عبر الحسم العسكري أو ما يسمى المصالحات، عن أي مكان يمكن أن يقدم ضمانات حقيقية لوقف القتل والدمار في سورية، مع الفوز بشرعية ما.
والنظام السوري في حاجة الى هذا اللقاء ليبقى ضمن اللعبة ويحفظ موطئ قدم تحسباً لما هو مقبل. فهو لا يعرف بالضبط أين تتجه به المقادير، ومن سيمسك بدفة سفينته في النهاية، أكانت روسيا التي يمكن أن تفاوض عليه وتبيعه لمصالحها الكبرى مع أميركا وأوروبا مقابل مصالحها في أوكرانيا وشرق أوروبا، أو إيران التي يمكن في النهاية أن تخسر الحرب كلها وتنحسر إلى داخلها وتتركه وحيداً بعد أن يفشل مشروعها في التمدد (تحديدا إذا اجتمع ضد مشروعها كل من أميركا وروسيا والغرب وتركيا والخليج وفق ما تنبئ به سياسة الإدارة الأميركية الجديدة).
ختاماً، يبقى الكثير من الأسئلة معلقاً مثل: هل يمكن روسيا وإيران وتركيا، مع اختلاف مصالح كل منها في ما خص سورية، فيما هي جزء من المشكلة، وتقاتل على الأرض، أن تكون جزءاً من الحل؟ ومن سيرعى هذا الحل ويضمنه؟
لقاء آستانة إن تم هو لقاء الضعفاء الذين لا يملكون الآن سوى الاستقواء بلقائهم غير المبني على أسس متينة، ما يرجّح أن يكون حوار طرشان. وللأسف، ذلك كله تقطيع للوقت على حساب دم السوريين ومعاناتهم، وعلى حساب تدمير سورية.
المكان مكتظ جداً ، و المساحة أقل من أن تحدد ، أما الوقت فهو يسير على دمائنا ، و الساعة تتحرك على الدرجات الأخيرة من أنفاسنا قبل أن تصعد روحنا ... حلمي بأن أشتم "ريحة" أمي .. هو حلمه ضم ابنه ... هذا يتسائل كيف باتت ابنته ... ذلك يفكر ماذا حل بأبيه .. على بعد آلاف الكيلو مترات .. تتناثر صور هياكل لا اسم عليها و لا وضوح لمعالمها ... رقم موضوع على الجبين ... ستحتاج لسنين لفك طلاسم هذه الأرقام .. و عشرات السنين لمحي هذه الوجوه من أرشيف الذاكرة ... ولن تمحى . من المفروض أن تسير مع التيار و تنقل صور الأجساد التي أنهكها الجوع و ووأدها الحصار المانع لكل شيء ... لكن في الوقت ذاته مطالبين بالتأكيد على حق من لاصوت له و لاصورة ... من لا اسم له و لا هوية ... إنما هو عبارة عن رقم يلصق على الجبين و يوضع في قائمة "مهترئة" الأوراق ، داخل أدراج العفن . في أقبية منتشرة في كل منطقة يوجد بها نظام الاستبداد ، يوجد مئات ، آلاف ، عشرات الألوف ، يأنون و يهمهمون .. يبتهلون ... يتابعون مراحل الموت البطيء ... و يرمقون لذة القتل البربري لدى السجان الذي دُرب و تفوق في الدورات و بات متمرس و خبير كيف يقتلك بلا حتى أن يتغير حجم أو كمية الهواء الخارج من صدره ... مئات الآلاف خلف القضبان ، و من جهة آخرى أضعافهم يقفون خارج تلك القضبان جسداً و أرواحهم مع من هم بالداخل ... و الأصعب هو أن أياً من الطرفين لا يعرف شيء عن الآخر .. و كل ما هنالك أن "الهواء يخرج و يدخل لأجسادهم .. دون طعم أو لون ... يشوون بلهيب انتظار المجهول". تجري حاليا الاستعدادات للدخول بجولة جديدة من الفماوضات عبر “الاستانة برعاية تركية - روسية ، و في أجندتها البحث عن طريق للحل السياسي ، و الأيام تقترب ، و الساعات تمضي على الأطراف التي تتحضر ، تُحضر الأسماء و الحقائب ، لكن هذه الساعات تمر على أرواح "المعتقلين" الذين يجتهدون و يخرج منهم الفدائيون و يضحون بأجسادهم لتحمل لنا أرواحهم رسائل لمن بقي فيه بعض الحياة ، بأن #خروجي_قبل_تفاوضكم
انهار عملياً وقف إطلاق النار الذي أعلن في سورية في أواخر كانون الأول (ديسمبر) الماضي 2016. وهذا ليس مثيراً للدهشة. فلم يصمد أي وقفٍ لإطلاق النار في سورية حتى الآن لوقت كاف لتمهيد الطريق لإجراء محادثات سلام ذات معنى. وهذا ليس لأن المعارضة السورية لم تأخذ عمليات وقف إطلاق النار على محمل الجد، ولكن لأن نظام بشار الأسد وأنصاره أعادوا تعريف عمليات وقف إطلاق النار. في سورية، أصبحت هذه العمليات أداة أخرى من أدوات الحرب. إنها أدوات للوصول إلى مكاسب عسكرية وإعلان مواقف سياسية بالإضافة إلى ألعاب القوة بين الأعداء والحلفاء على السواء.
إن النظر إلى سلسلة عمليات وقف إطلاق النار في سورية خلال السنة الماضية يكشف نمطاً. حيث تمت الموافقة على أول وقف لإطلاق النار في شباط (فبراير) 2016 من الولايات المتحدة وروسيا، وأعلنت «وقف الأعمال العدائية» واعتمدت الاتفاقية سريعاً من الأمم المتحدة. ولكن الاتفاقية استبعدت تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة»، واستخدمت روسيا استبعاد هذين التنظيمين لتبرير حملاتها الجوية المستمرة في سورية، قائلة إنها تستهدف مجموعات إرهابية. وواصلت «قوات سورية الديموقراطية» أيضاً سيطرتها على المدن التي كان يسيطر عليها الثوار قرب الحدود التركية، ما أدى بتركيا إلى قصف مواقع «القوات الديموقراطية» في مدينة أعزاز على الحدود السورية. وفي الوقت نفسه، استمر الجيش السوري بتنفيذ هجمات على المناطق التي يسيطر عليها الثوار في محافظة حلب. استمرار هذه النشاطات العسكرية شكل ضغطاً على ممثلي المعارضة السورية الذين كانوا قد وافقوا على المشاركة في محادثات السلام فقط في حال وقف القصف العشوائي ضد المدنيين، والسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار، وانتهاء عمليات حصار المدنيين. لم يتم تنفيذ أي من هذه الشروط الثلاثة في شكل كامل، ما أدى إلى تعليق المحادثات.
جرت المحاولة الثانية لوقف إطلاق النار في ايلول (سبتمبر) 2016 وشهدت سيناريو المحاولة الأولى ذاته، ما أدى إلى انهيار سريع للاتفاقية الأميركية - الروسية، بخاصة بعد ضربة جوية أميركية كانت تستهدف تنظيم «داعش» ولكنها، بدلاً من ذلك، قتلت 60 من الجنود السوريين. وبالتالي أعلنت الحكومة السورية انتهاء وقف إطلاق النار رسمياً.
على أرض الواقع، لا تختلف عملية وقف إطلاق النار الأخيرة كثيراً عن غيرها. حيث أنه على رغم إعلان النظام السوري الالتزام ببنود الاتفاق، فقد استمر مع أنصاره في استهداف مناطق الثوار. وأدى هذا بمجموعات الثوار إلى الإعلان في يوم 2 الشهر الجاري تجميد مشاركتها في الأعمال التحضيرية لمحادثات السلام.
إن ما يكشفه النمط أعلاه هو أن النظام السوري وأنصاره حوّلوا عمليات وقف إطلاق النار من أدوات سلام إلى أدوات حرب. واستخدم النظام السوري اليوم وقف إطلاق النار كفرصة للمضي قدماً نحو دمشق، كما كان قد استخدمه من قبل في شباط 2016 لتعزيز حملته في حلب، حين استفاد النظام من وقف نشاط «الجيش السوري الحر» لإجراء تحركات تكتيكية لقواته والتخطيط للحصار والهجمات. وإذا أخذنا ما حدث في حلب كدليل، فمن المرجح أن عملية وقف إطلاق النار الحالية تهدف إلى تمهيد الطريق للنظام لاستعادة منطقة أخرى من مجموعات الثوار.
استخدمت روسيا أيضاً عمليات وقف إطلاق النار لأغراض مماثلة. حيث كانت تصف في شكل انتقائي المجموعات بأنها إرهابية أو غير إرهابية وفقاً لأهداف روسيا الإستراتيجية العسكرية. على سبيل المثال، أصبح «جيش الإسلام»، الذي تم وصفه سابقاً من روسيا مجموعة إرهابية، الآن جزءاً من اتفاقية روسيا لوقف إطلاق النار. ومن ناحية أخرى، تم استبعاد جبهة «فتح الشام» (جبهة «النصرة» سابقاً)، ما قدم لروسيا ذريعة لقصف إدلب، معقل الثوار، بحجة مكافحة الإرهاب.
أصبحت عملية وقف إطلاق النار أيضاً وسيلة لإعلان مواقف سياسية. بينما كان تمّ إعلان أول عمليتين لوقف إطلاق النار في عام 2016 من الولايات المتحدة وروسيا، فقد قادت روسيا وتركيا العملية الأخيرة. ويمكن اعتبار ذلك بمثابة تصريح من روسيا حول الدور الهامشي الذي أصبحت تلعبه الولايات المتحدة في الصراع السوري، وأهمية الدور الذي تقوم به روسيا نفسها. ولكن إذعان تركيا، في الوقت نفسه، يشير إلى تحوّل كبير في موقفها. حيث أنه بعد الشروع في محاولة إسقاط النظام السوري، دفع الضغط الروسي على تركيا، المقترن بالدعم الفاتر من الغرب، إلى تغيير موقفها عملياً ليتقارب مع الموقف الروسي تجاه ما يحدث في سورية، ويبدو أنها تخلت عن أولوية تغيير النظام.
ولكن عمليات وقف إطلاق النار أيضاً وسيلة للعب ألعاب القوة، ليس فقط بين الخصوم ولكن بين الحلفاء أيضاً. أثناء وقف إطلاق النار الأخير، لم يلتزم النظام السوري تعليمات روسيا بالسماح للمساعدات الإنسانية بالوصول الى بعض مناطق الثوار. في عملية وقف إطلاق النار الحالية، يتقدم النظام باتجاه الغوطة الشرقية، وهي منطقة يسيطر عليها «جيش الإسلام» الذي يفترض أنه جزء من اتفاق وقف إطلاق النار. وفي حين أن من غير المعروف حتى الآن ما إذا كان القتال في الغوطة الشرقية مدفوعاً من النظام من دون موافقة روسيا أم هو جزء من تكتيك «الشرطي الجيد والشرطي السيء» بين روسيا والنظام، فقد أصبح من الواضح من سلسلة الإجراءات على أرض الواقع في عملية وقف إطلاق النار هذه والعمليات السابقة أن كلاً من روسيا والنظام السوري أصبح رهينة للآخر. إن روسيا غير قادرة على تسيير الحكومة السورية في شكل كامل، في حين أن الحكومة السورية غير قادرة على تحقيق كامل أهدافها من دون مساندة روسيا.
كل ما يعنيه هذا هو أن عمليات وقف إطلاق النار في سوريا يجب ألاّ تؤخذ على معناها الظاهري. على رغم أن روسيا كانت المحرك الرئيس خلف وقف إطلاق النار الأخير، قائلة إن نجاحه سوف يمهد الطريق أمام محادثات السلام في آستانة، فإن سلوكها وسلوك النظام على أرض الواقع لا يختلفان عن سيناريوات عمليات وقف إطلاق النار السابقة، حيث أنهما ببساطة لم يكونا جادّين تجاه مفاوضات السلام. ومع المكسب الذي عاد على النظام ومؤيديه في حلب، فقد أصبح أقل إقناعاً أنهم سيوقفون اتباع إستراتيجية مماثلة تجاه مناطق أخرى يسيطر عليها الثوار.
بمعنى آخر، أصبحت عمليات وقف إطلاق النار أداة حرب أخرى، ويبدو أن النظام وروسيا يسعيان من خلالها إلى إنهاء الصراع السوري بوسائل عسكرية، وليس سياسية. ولكن حتى إذا حققا ذلك، فإن الفصل التالي في الصراع سيتم تحديده وفقاً لكيفية إدارة النظام وأنصاره لتضارب مصالحهم.
تدرك طهران أن موسكو في عجلة من أمرها لتثبيت وقف إطلاق النار في سورية وتعميمه في غالبية المناطق واستثناء «داعش» و «النصرة» منه. وتدرك طهران أنّ موسكو تريد ذلك كي لا تتأخر محادثات آستانة عن موعدها، بُعيد تسلّم دونالد ترامب مهماته الرئاسية بالفعل، ذلك أنّ تعثرها سيؤثر في محادثات جنيف التي لا يفصلها الكثير من الوقت عن لقاء آستانة، الذي يُراد له، وفق الضامن الروسي، أن يكون «حلقة مكمّلة لمسار جنيف»، ويهدف إلى «جمع وتوحيد الأطراف التي تمتلك سيطرة على الأرض».
إيران و «حزب الله» أفشلا في السابق الاتفاق المبدئي لإجلاء المدنيين في حلب، وفرضا شروطاً بخصوص الفوعة وكفريا، وهما منعا قبل أيام الجانب الروسي من دخول وادي بردى لوقف إطلاق النار هناك وثبيت الهدنة، فضلاً عن أن طهران رفضت أن تكون «ضامناً ثالثاً» في اللقاء المهم الذي جمعها مع أنقرة وموسكو نهاية العام الماضي.
موسكو تعي قدرة طهران على التأثير، وعلى الشغب أيضاً، وتعي أنّ القوة الجوية، على رغم أرجحية مفعولها حتى الآن، غير كافية وحدها من دون حضور إيران وميليشياتها على الأرض. لذلك، فإنّ روسيا تتجه لبذل جهود أكبر على صعيد صوغ توازنات دقيقة لمنع إيران من إفساد رغبة الكرملين في قيادة جهد باتجاه التسوية في سورية يُوضَع على طاولة ترامب، كي يقدّم له الدعم والتأييد.
ترغب طهران في فرض شروط على الهدن وعلى المصالحات المحلية التي تتم برعاية موسكو، وتعلم الأولى أن التفاهم الروسي - التركي قضمٌ من النفوذ الإيراني في سورية، ومن المؤكد أن طهران يزعجها أن تكون «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» وفصائل إسلامية خمسة أخرى، على الأقل، حاضرة في محادثات آستانة وبوصفها شريكاً في وقف إطلاق النار، ومن المؤكد أيضاً أنه يزعجها سماع أنباء مثل اتفاق 9 فصائل بارزة (ليس من بينها «جبهة النصرة») على تشكيل «مجلس قيادة تحرير سورية» من أجل تنظيم العمل العسكري والسياسي في مواجهة الحكم السوري وداعميه، بخاصة أنها ورقة تركية لا تلقى، على ما يبدو، معارضة موسكو التي يهمها التركيز على الإجماع على محاربة «داعش» و «النصرة»، وجمعُ من يقبل من الفصائل الأخرى بوقف إطلاق النار في «آستانة» و «جنيف».
ليس المقصود مما سبق استعادة سجال طويل لم يثمر شيئاً لمصلحة المعارضة السورية حول تباين رؤى طهران وموسكو في سورية، كما ليس المقصود الخلوص إلى أن ثمة تقارباً روسياً - تركياً على حساب إيران، وإنما القول أنّ ثمة بعض الاستياء الإيراني من الخطوات الروسية، سيفرض على الكرملين عقد تسويات معقدة وصعبة لتقليص التباينات والشكوك بين أنقرة وطهران، ولا شك في أن موسكو تستفيد من لعب هذا الدور للظهور بمظهر القوة العظمى التي تملك القدرة على التعاطي مع أطراف متناقضة في المحيط الإقليمي (تتجاوز أنقرة وطهران لتمتد إلى إسرائيل ومصر والأردن والسعودية وقطر)، إلى جانب استفادتها بالظهور بصورة مختلفة عن صورة الدولة العظمى التي وقفت ضد سُنّة المنطقة.
هامش تحرك طهران في سورية بعيداً من موسكو يتسع، في ظل غياب التأثير العربي في المشهد السوري، وفي ظل معرفتها بأن موسكو مثلها حريصة على «سورية الأسد» وأنها شريكتها في «الحسم العسكري الذي دمر سورية»، وسيتسع الهامش مع رغبة إيران و «حزب الله» في فرض شروط على الأرض تُضعف المعارضة المقبولة روسياً، لكنّ الهامش يضيق مع تحسن موقع أنقرة وتوحّد شركائها وانضباطهم وابتعادهم من «النصرة»، وهو يضيق أيضاً مع ما يبدو من «جدية» روسية في إحداث اختراق ما على جبهة المفاوضات السياسية يلقى دعم صديق بوتين الجديد في البيت الأبيض.
استطاعت روسيا، خلال فترة البطة العرجاء للإدارة الأميركية التي تمر بها في أثناء الانتخابات الرئاسية وما بعدها، تحقيق وقائع جديدة على الأرض في الصراع السوري، وتمثل ذلك في إخراج المعارضة السورية والسكان من شرق حلب. وتعتقد روسيا أنها في الطريق إلى تكريس هذه الوقائع، باتفاق سياسي بين النظام السوري وقوى المعارضة. بذلك تكرس نفسها لاعباً مركزياً وأساسياً في الصراع القائم في سورية يستطيع التحكم في مساره.
هل هذه الصورة حقيقية، وهل هي معطى ثابت وقابل للدوام في الصراع الممتد منذ ما يقارب الست سنوات في سورية؟ تبدو اللحظة السورية، هذه الأيام، لحظةً روسية بامتياز، فقد استطاعت روسيا جمع طرفين مؤثرين وفاعلين في الساحة السياسية السورية على تناقض موقفيهما واصطفافهما على جبهتي الصراع في سورية إلى جانبها، وهما إيران وتركيا، وتوقيع الدول الثلاث اتفاقاً نصّ على "تأكيد احترام سيادة واستقلال ووحدة الأراضي السورية كدولة ديمقراطية علمانية، متعدّدة الأعراق والأديان". كما جاء فيه أن الدول الثلاث على قناعةٍ بأنه لا وجود لحل عسكري للأزمة في سورية. تبعت ذلك دعوة روسية إلى مفاوضاتٍ بين أطراف الصراع في سورية في أستانا عاصمة كازاخستان، لتتوّج هذه الوقائع التي ظهرت بوصفها انتصارا للنظام بدعم روسي حاسم.
لا يمكن استكمال المسار الروسي، والوصول إلى تسويةٍ للصراع في سورية، كما يعتقد الروس، لأسبابٍ كثيرة، وإن ظهر الروس بمظهر القادرين على إنجاز هدنةٍ مؤقتة، لأنهم قادرون على لجم عدوانية النظام، ليس لأنهم يملكون نفوذاً على النظام فحسب، بل ولأنهم شركاء في هذه الوحشية، حيث القوات الروسية تشكل الغطاء الجوي لمليشيات النظام والمليشيات الإيرانية التي باتت العصب الأساسي للمقاتلين في خندق النظام في كل الأراضي السورية.
السبب الأول لعدم صلاحية الروس لإنجاز اتفاق مصالحة أو سلام في سورية، هي أنهم ليسوا طرفاً محايداً، يقف على مسافةٍ من كل الأطراف المتصارعة، بحيث يكون قادراً على لعب دور الوسيط بينها، فروسيا دخلت الصراع في سورية من باب الوقوف مع طرفٍ ضد طرف آخر. وروسيا التي باتت تشكل جزءاً أساسياً من مكونات الصراع في سورية، وتصطف إلى جانب النظام، وتقوم بتغطيةٍ جويةٍ شديدة العدوانية، وحمت النظام سياسياً في مجلس الأمن، من خلال تكرار استخدامها حق النقض (الفيتو) ضد قراراتٍ تدينه، لا تصلح أن تكون الطرف الذي ينجز التسوية، لأنها ببساطة ستكون تصفيةً للصراع في سورية، والانتصار لطرف على آخر.
السبب الثاني أن روسيا تريد الاستفراد بالتسوية وفرض شروطها، وأي طرفٍ لا يتوافق مع هذه الشروط غير مدعوٍ للمشاركة في مفاوضات أستانا، فإيران وتركيا ليسا الطرفين الفاعلين الوحيدين في الصراع السوري. وهناك دول إقليمية أخرى لها تأثيرها على الصراع، لكنها غير مدعوة للمشاركة، إلا إذا استجابت للشروط الروسية في حل الصراع المنحاز لصالح النظام. والمملكة السعودية بوصفها طرفاً فاعلاً في الصراع على رأس هذه الأطراف غير المدعوة، وقد قالت موسكو إنها مستعدة لضم كل من الأردن والسعودية ومصر للمفاوضات، وظهر التصريح الروسي كأنهم يريدون هذه الأطراف شاهد زور على ما تريد تكريسه، وليس دعوةً جديةً للمشاركة في مفاوضاتٍ لحل الصراع.
السبب الثالث والأهم، تعتقد روسيا أنها يمكن أن تكرّس وقائع جديدة على الأرض في سورية بتجاهل الإدارة الأميركية التي تكون عادة، في فترة الانتخابات والرئاسية وما بعدها، في فترة انتقالية بين رئيسين من حزبين مختلفين، إدارة مشلولة ريثما يحل الرئيس الجديد مكان المنتهية ولايته. وإذا اعتقد الروس أن هذا الشلل سيبقى بعد استلام الإدارة الأميركية الجديدة، سيبنون وهماً سرعان ما سوف يتبدد. فلا يمكن حتى لإدارة دونالد ترامب التي عبرت عن تقارب مع روسيا في الموضوع السوري أن توافق على استبعادها من أي حل في سورية. وليس متوقعاً أن إدارة دونالد ترامب، على الرغم من كل الملاحظات التي تقال عنها، ستتعامل مع الصراع من منطق التاجر، لأن التنازل في هذه المنطقة عن الدور الأميركي في إنجاز الحل سيكرّس سابقةً يمكن تكرارها في بحر الصين، أو في شرق أوروبا. وبالتأكيد، لن تسمح الولايات المتحدة بهذا الأمر. والحل الذي لم تستطع أن تنجزه الإدارة الأميركية بالدعوة المشتركة مع روسيا إلى مفاوضات جنيف الأولى والثانية، لن تسمح باستبعادها وتحقيق اتفاق مصالحةٍ بتجاهلها، فالولايات المتحدة، على الرغم من كل المواقف المتخاذلة من إدارة الرئيس باراك أوباما، طرفٌ رئيسيٌّ ومؤثر في الصراع في سورية، ولا يمكن إنجاز أي اتفاق سوري ـ سوري بعيدا عنها، وعن حلفائها في المنطقة.
السبب الأخير، أن روسيا تتعامل مع طرفي الصراع في سورية كطرفين متساويين في المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع، وتتناسى مسؤولية حليفها الداخلي عن الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري، وتحاول أن تصوّر الأوضاع صراعاً بين طرفين قابلاً للتسوية، وليس صراعاً ارتكب النظام فيه جرائم حرب بحق شعبه دفاعاً عن سلطته الاستبدادية، فجوهر الحل الروسي يقوم على المحافظة على بنية النظام الأساسية، وتطعيمه ببعض المعارضة، والحفاظ على بشار الأسد في موقعه، على الرغم من مسؤوليته المباشرة عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري. وهي تريد إعادة تسويق النظام دولياً، بوصفه يمثل الشرعية، كما ادّعى النظام طوال الصراع، وكما برّرت روسيا مشاركتها في الصراع، بوصفها تلقت دعوةً من السلطة الشرعية في سورية. في الوقت الذي تحوّل النظام، خلال سنوات الصراع، إلى مليشيات طائفية فجة وحاقدة، ومستوردة من دول أخرى بتمويل وإشراف إيرانيين.
التسوية التي تريدها روسيا في سورية هي تكريس واقع إجرامي، يتجاوز حقيقة الصراع الذي انفجر ودفع السوريون ثمنه، صراع شعبٍ يريد حريته في مواجهة نظام مستبد ومجرم ووحشي، وهذا النظام الذي اختبر الشعب السوري ست سنوات دمويته من المستحيل أن يعود هذا الشعب ويقبل التسليم بسلطته، بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحقه.
لذلك، ما تحاول روسيا تكريسه بعد الإنجاز الذي تعتقد أنها حققته في حلب، هو "طبخة بحص" ليس إلا، وإعادة احتلال شرق حلب من النظام بدعم روسي، وما يعتبر إنجازا للنظام وحلفائه ليس معركة فاصلة، يمكن الاستناد إليها لكسر إرادة الطرف الآخر بالقتال. لذلك، تحاول روسيا أن تبني حلاً على وهم الانتصار. لكن الأسابيع المقبلة ستكشف السراب الذي يراه الروس في طريقٍ ليس له وجود أصلاً.
كل إعلام النظم، وحتى الإعلام الغربي، يكرّر لازمة هي: كسورية وليبيا، مشيراً إلى أن على الشعوب أن تقبل بما تفرضه النظم من نهبٍ عليها، ومن سحق، أفضل من أن تعاني ما تعانيه كل من سورية وليبيا. على الشعوب أن تقبل كل السياسات الاقتصادية التي يفرضها صندوق النقد الدولي، وكل النهب الذي تقوم به الطبقة المسيطرة، والتي تتحكّم في الدولة. هذا هو ملخص الخطاب المعمم، من كل الرأسماليات المركزية والطرفية، وهي "مضطرة" إلى زيادة النهب، وبالتالي، إغراق الشعوب بالفقر الأشدّ من الشديد، الذي يؤدي إلى الموت جوعاً.
يعني ذلك أن الرأسماليات مصمّمة على زيادة النهب، ولا تستطيع التراجع عن ذلك، أو حتى التخفيف منه، فقد لاحظنا أنه على الرغم من أن الثورات عبّرت عن انحدار الوضع المعيشي للشعوب، نتيجة هذه السياسة الاقتصادية، إلا أن النظم استمرت في السياسات نفسها التي أوصلت إلى ذلك، وبخطواتٍ أشدّ حدّة. لهذا، تميل إلى تخويف الشعوب، سواء بإظهار القوة وتشديد العنف، أو عبر خطابٍ تخويفي عنوانه: سورية وليبيا. لكن، يمكن أن نسأل: لماذا حدث ذلك في سورية وليبيا؟ هل هو خطأ تمرُّد الشعوب، أو نتيجة وضع تاريخي فرضته النظم ذاتها، وصنعته هي بالذات؟
دمّرت النظم السياسة والتعليم، وأفقرت الشعوب، وبنت وجودها على أساس سياسة ليبرالية متوحشة اتسمت بالنهب الشامل. وحينما ثارت هذه الشعوب واجهتها بكل وحشية، لأن عليها أن تقبل كل هذا النهب، من دون أن تعترض أو تحتج. وكانت هذه الوحشية هي ما فتح على كل التدخلات الخارجية، سواء لأن الرأسماليات تريد تدمير الثورة قبل أن تصل إليها، أو لأنها تريد حصةً من خلال السيطرة. تتعلق المسألة، إذن، بالنظم ذاتها، بميلها إلى الإفقار الشديد للشعوب، وميلها إلى سحق هذه الشعوب حينما تثور.
بالتالي، ما معنى التخويف بسورية وليبيا؟ إنه يعني ضمن السياسة التي تتبعها النظم (التي تستخدم خطاب التخويف) أن على الشعوب أن تقبل الموت جوعاً، بدل أن تموت قتلاً. هكذا بالضبط. فالشعوب لم تَثُرْ "بمزاجها"، وهي أصلاً لا تميل لا إلى الثورة ولا إلى مخالفة النظم. لكن تثور، وبكل جرأة، حينما ينحدر وضعها إلى حالةٍ من الهاوية، حيث تعجز عن العيش، هكذا بالضبط تعجز عن العيش. وسبب ذلك هو نهب الطبقة المسيطرة وسطوة نظمها. بالتالي، ما قيمة التخويف هنا؟ وما قيمة الميل إلى السيطرة الشديدة، وممارسة القمع والضبط والاعتقال؟ لا شيء، بالضبط لأن ذلك كله يؤثر فقط في أشخاصٍ يخشون ما يخسرونه. لهذا، يبرّرون القبول بالأمر الواقع، ويكرّرون خطاب النظم، ويخوّفون بـ "سورية وليبيا". لكنه لا يؤثر في منْ يقف على حافة الموت جوعاً، حيث يتصرّف "غريزياً"، ومن ثم لا يعود يحسب لما يمكن أن يحدث معه، لأن ما يمكن أن يحدث معه هو حادث معه. التخويف من الموت قتلاً لا يخيف من يقف على حافة الموت جوعاً. الموت واحدٌ بغض النظر عن طريقة حدوثه، هكذا بالضبط.
في الواقع، تعمم الرأسماليات خطاب الخوف من الثورة، وهي تدفع الشعوب إلى الثورة. ولهذا، ليس من أثر لخطابها إلا للفئات التي هي ليست في وضع كارثي، بل إنها تعيش. ولهذا، يبدو خطاب التخويف هذا وكأنه خطاب لـ "الذات"، أي للنظم نفسها التي تريد أن تطمئن على أن استمرار نهبها والتوحّش في النهب لن يفضي إلى الثورة. هو مراوغة ذاتية لتبرير الإمعان في النهب، والقناعة بأنها قادرةٌ على ذلك، بعد أن أخافت الشعوب. وبالتالي، هو خطاب يدلّ على رُعب النظم وخوفها من الثورة، وبالتالي، حاجتها لما يُطمئنها بأن المجزرة الوحشية التي حصلت في سورية، والحرب الدموية التي تجري في ليبيا، كفيلتان بأن تمنعا الثورة ضدها.
لكن، وصل الوضع إلى لحظةٍ بات التخويف فيها بلا جدوى، فالموت يحيط بالشعوب، ولا حلّ أمامها سوى الثورة. هذه حالةٌ غريزيةٌ لا يوقفها العقل، بل يجب أن يُنجحها العقل.
هناك ثغرات في خريطة الطريق الروسية لتجميد الصراع في سورية، أو لإنهائه، ومن الواضح أن موسكو بالغت في تقدير رضوخ نظام بشار الأسد وإيران وميليشياتها لإرادتها، أو أنها قللت من شأن خرقهم وقف إطلاق النار أملاً في تعويضهم ما اعتبروه «خسارة» في النهاية التي رسمتها لمعركة حلب بالتفاهم مع تركيا. وتمثّلت تلك «الخسارة» أولاً في أن ميليشيات الأسد وقاسم سليماني حُرمت من تسجيل مزيد من الفظائع، إذ لم تكن تريد خروجاً منظّماً للمقاتلين والمدنيين بل قتل العدد الأكبر منهم، توكيداً لإخلاء دموي نهائي لا عودة بعده، بل لا تفكير ولا حتى مجرد الحلم بالعودة. وتمثّلت «الخسارة» أيضاً في أن ميليشيات الأسد وسليماني كانت تخطط للبدء فوراً بمقدمات معركة إدلب بالتزامن مع استكمال ما بدأته في وادي بردى والغوطة.
بدت تركيا منقذةً لمقاتلي المعارضة وأهلهم من مذبحة معلنة مسبقاً وربما من هزيمة محققة، بل حتى منقذة لروسيا من الغرق في جريمة حرب كبرى ارتكبتها لتوّها ولن تقودها إلا إلى جرائم أخرى، أي إلى لا مكان، وفقاً لما خططته إيران التي لا تزال غاضبة من «اختراق» استطاعته تركيا بعدما كانت أيقنت أنها استُبعدت من المعادلة أو على الأقل أُضعفت. لكن روسيا وتركيا احتاجتا إلى التفاهم والتقارب واستثمرتا فيه، وفي الوقت ذاته أكثر الموفدون الروس من التردّد إلى طهران أخيراً لشرح رؤية موسكو وسعيها إلى هدنة جدّية، ثم إلى مفاوضات عسكرية سورية - سورية في آستانة ربما تتوصّل إلى رفع إشكالات صعبة من أمام مفاوضات سياسية يمكن استئنافها عندئذ في جنيف بإشراف الأمم المتحدة، لكن بجدول أعمال مخفّف يقرّه عسكريو النظام والمعارضة.
لم تتصوّر طهران يوماً تواجه فيه سيناريو كهذا يرمي إلى إنهاء الحرب من دون أن تكون هي التي ترسم تلك النهاية وتحدّدها. وحين كرّر كثرٌ من ساستها وعسسها أن إيران هي مَن سيقرّر مستقبل سورية لم يكن مستغرباً أن يتجاهلوا حليفهم الأسد، بل كان مستهجناً أن يتجاوزوا حليفهم الروسي الذي لهجوا طويلاً بأنهم هم مَن جاؤوا به ليقاتل في معركتهم ضد «المؤامرة الكونية» إياها وضد «المشروع الإرهابي التكفيري». ها هم مضطرّون الآن للعودة إلى الواقع، أولاً لأن روسيا كدولة كبرى تتدخّل أو تنسحب تبعاً لمصلحتها لكنها بالتأكيد لم تأتِ لخوض حرب بلا نهاية ولا يمكن أن تفرض وقفاً لإطلاق النار من دون أفق سياسي، وثانياً لأن «النصر» في حلب لم يمنع الأزمة السورية من العودة إلى حقيقتها، التي أنكرها النظام والإيرانيون والروس، كصراع بين حكم مستبد ومعارضة شعبية كان يمكن أن يبقى في إطار داخلي سلمي لولا جموح العدوانية الأسدية - الإيرانية والعبث بالإرهاب ومجموعاته، فضلاً عن تعمّد التهجير المنهجي للعب بالتركيبة الديموغرافية.
لم يتغيّر الروس بعد، وليس مؤكّداً أنهم يحاولون، لكن التغييرات التي طرأت خارجياً وتلك التي أجروها على المشهد السوري أصبحت كافية للانتقال إلى المرحلة التالية التي كانوا يتحدثون عنها منذ خريف 2015. صحيح أنهم لا يتّصفون بالشفافية ولا يكترثون للمبدئية والأخلاقيات السياسية، ونادراً ما يصرّحون بحقيقة تفكيرهم، إلا أنهم عبّروا أكثر من مرّة طوال سنة ونيّف من تدخلهم عن أهداف محدّدة. وكان أول تلك الأهداف إعادة تنظيم الجيش السوري والعمل معه في شكل رئيسي واعتباره عماد الدولة التي رفضوا إسقاط النظام تجنّباً لسقوطها، وقد أذهلهم مدى التراجع الذي أصاب هذا الجيش والتشرذم الذي حوّل كثيراً من ضباطه «أمراء حرب» يتزعّمون ميليشيات تتموّل بالتهريب وفرض الإتاوات والنهب و «التعفيش»، بل شغلهم أيضاً حجم الاعتماد على إيران التي همّشت الجيش واشتغلت كثيراً على تأسيس ميليشيات إلى جانب تلك التي استوردتها، لكن الروس عملوا ويعملون على ترميم المؤسسة العسكرية وإعادة الاعتبار إلى ضباطها حتى إن التعيينات والترقيات والمهمات التي تعلنها رئاسة الأركان صارت تأتي من قاعدة حميميم بعد مراجعة موسكو. وفي الشهور الأخيرة فرض الروس على النظام والإيرانيين ضرورة استيعاب الميليشيات المحلية جميعاً فوُزّعوها بعد تصنيفها على الفيلقين الرابع والخامس المستحدثَين تحت إمرة قيادة الجيش. وتجدّد أخيراً ما كان تردّد في بدايات التدخّل عن عزم الروس على استعادة العسكريين المنشقّين وتخطيطهم لضمّ مقاتلي فصائل المعارضة من غير العسكريين السابقين إلى أحد الفيلقين الجديدَين. ولا شك في أن هذا التوجّه يسحب ورقة مهمة من أيدي الإيرانيين، إذ يضع حدّاً للنهج الميليشيوي الذي اعتبروه إنجازهم الأساسي في سورية.
أما الهدف الآخر فكان البحث عن صيغة لحل سياسي، وقد حاولت روسيا بلورتها ثنائياً مع الولايات المتحدة، ثم توسّعت الطاولة لتضمّ دولاً ومنظمات معنية بلغت نحو عشرين في لقاءات فيينا. لكن موسكو لم تربط بين المسارين العسكري والسياسي، بل تركت كلاً منهما يتقدّم بوتيرته، إلا أنها ربطتهما في كل المراحل بمساوماتها مع واشنطن في شأن الملفات الأخرى (أوكرانيا، الناتو، منظومة الدفاع الأوروبي...)، وحتى عندما أصدر مجلس الأمن القرار 2254 أواخر كانون الأول (ديسمبر) 2015، وفيه كل التعديلات والشروط الروسية كان واضحاً أن موسكو ليست مقتنعة بأن ظروف الحل قد نضجت، لأن الأطراف المناوئة لنظام الأسد ظلّت تُخضع التفاوض لمعادلة ميدانية غير محسومة.
لم يذهب الروس إلى معركة حلب إلا بعدما أيقنوا بأن شيئاً لم يعد ممكناً انتزاعه من إدارة باراك أوباما التي اقتربت من نهايتها، لكنهم استمالوا تركيا الأطلسية التي باتت تتساءل عن مبرر وجود قاعدة إنجرليك على أرضها بعدما استطاع الروس تهدئة هواجسها كلياً أو جزئياً وإثبات أنهم ليسوا بصدد اللعب بالورقة الكردية ضدّها، كما كرّسوا شراكتها الفعلية في محاربة الإرهاب ثم في إدارة مرحلة ما بعد حلب. وبذلك تعتقد موسكو أنها شقّت الطريق إلى حلٍّ ما في سورية بعدما اطمأنّت إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة لن تبحث عن «شراكة» في هذا البلد ولن تخوض صراعاً على أوكرانيا بمعايير إدارة أوباما والاتحاد الأوروبي.
لكن، هل الحل الذي تتصوّره روسيا، عسكرياً وسياسياً، يمكن أن يتحقّق؟ على رغم فظاظتها المعهودة فإنها - حتى الآن - لم تعامل فصائل المعارضة كفريق مهزوم عليه الرضوخ لشروط مذلّة، حتى إنها بدت فجأة متفهّمة الدوافع القتالية لتلك الفصائل، بل راهنت عليها لإنجاح الهدنة الشاملة ومفاوضات آستانة. غير أن التنسيق الأسدي - الإيراني لهذَين الاستحقاقَين (خلال زيارة وليد المعلم وعلي مملوك طهران) أبدى التمنّع المتوقّع عن تسهيل السيناريو الروسي سواء بالاعتماد على «حزب الله» لخرق وقف النار في وادي بردى أو بإعلان الأسد أن هذه المنطقة لا يشملها وقف النار، مدعياً أن لـ «تنظيمي داعش والنصرة» وجوداً فيها وهذا غير صحيح، وأن المقاتلين هناك عطّلوا منشأة عين الفيجة التي تروي دمشق رغم أن طيران النظام قصفها مراراً وتسبّب بتعطيلها لتعزيز ذريعة الهجوم على الوادي ومواصلة الأعمال العدائية.
لا بدّ أن موسكو مدركة أن «حليفيها» في دمشق وطهران ذهبا إلى حد قطع المياه عن العاصمة لتخريب اتفاق وقف إطلاق النار، وبالتالي لإفساد لقاء آستانة أو تعطيله. أي أنهما بصدد فرض أمر واقع ميداني لاختبار ردّ موسكو، فإمّا أن تغضّ النظر عن اندفاعهم للسيطرة على وادي بردى ما يعني أيضاً المجازفة بقبول منطق مواصلة الحرب في الغوطة، وإمّا أن تجمّد اندفاعها إلى إنهاء الصراع لأن ظروفه لا تناسب الأسد الذي كرر السعي إلى «استعادة السيطرة الكاملة» في سياق إبدائه الاستعداد لـ «التفاوض على كل شيء» (باستثناء البحث في مصيره) في آستانة، بل إن هذه الظروف لا تخدم الإيرانيين الذين بات مؤكّداً أنهم لا يريدون أي حلّ وصولاً غير «الحل العسكري» الشامل. والمؤكّد أن استثناء وادي بردى والغوطة من الهدنة قد يحول دون ذهاب فصائل إلى التفاوض، علماً أن «شيطان» التفاصيل من شأنه أن يعرقل أي توافق في آستانة، فمطالب المعارضة العسكرية لهدنة حقيقية وشاملة هي ذاتها مطالب المعارضة السياسية.
الحل السياسي للصراع العسكري في سورية حاجة ضرورية لمنع الانهيار الكامل للمجتمع السوري، وزعزعة استقرار دول الجوار. وهو ضروري قبل ذلك لوقف حمام الدم المستمر منذ خمس سنوات. نظرياً تدعم جميع الأطراف المتصارعة، باستثناء «داعش» و «فتح الشام»، مشروع الحل السياسي منذ سنوات. القوتان العالميتان الأكثر تأثيراً في الحالة السورية، روسيا والولايات المتحدة، تدعمان أيضاً الوصول إلى حل سياسي ووضعتا في جنيف عام 2013 ثم في فيينا عام 2015 خريطة طريق للوصول إليه.
كذلك دعمت المعارضة السورية ورقتي جنيف وفيينا وشاركت في مفاوضات جنيف عام 2014، التي أفشلها النظام برفضه قبول تشكيل هيئة الحكم الانتقالية التي نص عليها بيان جنيف وجميع القرارات الأممية التالية له. روسيا لم تمارس أي ضغوط على نظام الأسد للالتزام بوثيقة جنيف، بل عملت على حمايته من أي إدانة أممية في مجلس الأمن، ثم وضعت ثقلها العسكري خلفه خلال السنة الماضية. اليوم تدفع روسيا باتجاه الحل السياسي وتدعو المعارضة المسلحة في الشمال، ومعارضين سوريين تنتقيهم من دون تشاور مع قوى المعارضة الرئيسية، للمشاركة في مؤتمر آستانة.
أعتقد شخصياً بأهمية الحل السياسي للصراع العسكري في سورية وبضرورة التفاوض للوصول إليه، وكنت في مقدم الداعين للمشاركة في مؤتمر جنيف، وشاركت في الوفد الأول الذي مثل الثورة السورية. ولكني أجد نفسي اليوم في المعسكر الرافض للتحرك الروسي تحت غطاء الحل السياسي، وأرى أهمية التعامل بحذر شديد مع مؤتمر آستانة والتصور الروسي لتفاصيل هذا الحل، لأني أعتقد أن روسيا تسعى إلى تفريغ وثيقة جنيف والقرارات الدولية المرتبطة بها من بنودها التي تمنح السوريين الفرصة الحقيقية للدخول في عملية انتقال سياسي لا يمكن لسورية أن تستعيد عافيتها ما لم تقم بها. وفي ما يلي جملة الحيثيات التي تدفعني إلى التشكيك في المسار الروسي الذي يمر عبر مؤتمر آستانة.
أولاً: ألزمت القيادة الروسية، بالتفاهم مع تركيا، الفصائل المقاتلة في الشمال بالمشاركة في مؤتمر آستانة بعد موافقتها على وقف شامل لإطلاق النار وقبولها التمييز بين معارضة متشددة لا تخضع لشرط وقف إطلاق النار، ومعارضة معتدلة تعترف روسيا بها.
ثانياً: تمت المفاوضات التي أنتجت مشروع آستانة بين روسيا وتركيا في شكل أساسي، وبالتالي فإن الأتراك هم المفاوض الحقيقي. ويصب سعي الأتراك إلى وقف شامل للقتال في مصلحة الثورة التي استطاع النظام بحنكة ودهاء عسكرتها. وهذا سيتحقق من دون الحاجة الى مشاركة المعارضة السياسية في مؤتمر آستانة، لأن التعويل هنا هو على التفاهمات مع المقاتلين وعلى المصالحات المحلية. المعارضة السياسية تستطيع المساهمة من خلال دعم مواقف المجالس المحلية في المناطق المحررة، والتنسيق بينها.
ثالثاً: تتحكم روسيا بدعوة السياسيين، وهي ستختار الخلطة المناسبة لتوليد المعارضة التي تحقق لها أهدافها. وانسحاب أفراد دعوا بأسمائهم لن يؤثر في المسار العام للمشروع الروسي، ولكنه سيضعف المعارضة أكثر مما ساهمت الدول خلال السنوات الماضية في إضعافها.
رابعاً: عدم مشاركة قوى المعارضة السياسية الرئيسية سيحول بين الروس وخرق الإجماع الحالي حول جنيف، وسيفرض بيان جنيف مرة أخرى كما حدث بعد مؤتمري موسكو وآستانة السابقين.
خامساً: خرقت روسيا وقف إطلاق النار في وادي بردى، وتسعى إلى الحسم العسكري ووضع سكان هذه المنطقة تحت خيارين: إما الاستسلام الكامل للنظام أو تحويل الوادي إلى قطعة من الجحيم، بالطريقة نفسها التي تعاملت بها مع مدن وقرى الشمال السوري.
تدل حيثيات التحركات الروسية، بما فيها التحركات العسكرية على جبهات الصراع داخل البلاد، على أن موسكو تسعى إلى تحويل مؤتمر آستانة إلى منصة لاستسلام المعارضة وقبولها العمل تحت القيادة الراهنة للنظام الذي أدى الى الكارثة السورية، مع تغييرات طفيفة لا تولد تغييراً مهماً في بنيته. هذا يعني أن المعارضة في حال قبولها المشروع الروسي ستصبح شريكة للنظام في كل المآسي المستقبلية التي ستنجم عن استمراره في الحكم. فالنظام سيمنع، كما فعل عبر تاريخه الطويل، قيام أي تغيير حقيقي. وطبيعة النظام واعتماده المتزايد على قوى طائفية محلية واقليمية للاحتفاظ بالسلطة، سيؤديان إلى تدهور كبير في الواقع الاجتماعي والسياسي بدلاً من تحقيق التطور الإيجابي الذي يطلبه ويستحقه السوريون الأحرار.
إن المعارضة السياسية التي تمثل روح الثورة الراغبة في إنهاء الواقع السوري المرير تتحمل مسؤولية وطنية وأخلاقية وتاريخية تحتم عليها الابتعاد عن أي حل سياسي يكرس سلطة نظام الأسد، ويكرس بالتالي واقع الاستبداد والفساد. كما أن احتفاظ القيادات السياسية للمعارضة بموقفها الأخلاقي في رفض الاستبداد والفساد سيبقي على الشعلة التي حملتها ثورة الحرية والكرامة، والأهداف التي قامت من أجلها حية وقّادة يحملها الشباب الواعي من أبناء سورية الأبية ويسعون لتحقيقها عندما يحين الوقت وتتضافر عوامل نجاح التغيير الضروري والقادم بحول الله. المؤرخون يسمون الثورة التي قامت عام 1936 ضد المستعمر الفرنسي بالثورة السورية الكبرى. وهي ثورة انتهت بعد ثلاث سنوات من اندلاعها من دون تحقيق أهدافها ولكنها كانت الخطوة الضرورية التي أدت إلى حصول سورية على الاستقلال عام 1946.
طبعاً هذه ليست دعوة إلى السكينة السياسية ضمن ظروف تتحكم فيها إرادات دولية ودول اقليمية، وتخضع فيها الفصائل الثورية المسلحة لتأثير تلك الدول. بل هي دعوة إلى التحرك بحذر وإدراك حدود القدرة الذاتية وعدم الانجرار خلف تحركات دولية لا يمتلك فيها السوريون فرصاً كثيرة لتحقيق الأهداف التي انتفضوا دفاعاً عنها.
أعلم أن المعارضة منهكة ولكن النظام منهك أيضاً. والقبول بمواقف تلغي السنوات الخمس ونتائجها السياسية على النظام خطأ استراتيجي قاتل. أسوأ ما يمكن أن يقوم به السياسيون اليوم هو التخلي عن ورقة جنيف والقرارات الدولية الداعمة لها تحت ضغط الظرف الراهن. أعلم أن السياق ضاغط والوضع سيئ، ولكني لا أرى أي مخرج للسوريين وعودة للاستقرار خارج إطار عملية انتقالية حقيقية.